ﰡ
وكانت تسمَّى: سورةَ النِّعَمِ؛ بسببِ ما عَدَّدَ اللهُ فيها من نِعَمِه على عبادِه، وهي مكيةٌ، إلَّا من قولِه تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ﴾ إلى آخرها، نزلَ بالمدينةِ، وآيُها مئةٌ وثمانٍ وعشرونَ آيةً، وحروفُها سبعةُ آلافٍ وسبعُ مئةٍ وسبعةُ أحرفٍ، وكَلِمُها ألفٌ وثماني مئة وإحدى وأربعونَ كلمةً.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١)﴾.[١] ﴿أَتَى﴾ قَرُبَ ﴿أَمْرُ اللَّهِ﴾ أي: عذابُه، وذلك أنَّ الكفارَ كانوا يستعجلونه استهزاءً، فنزل: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾، فوثبَ النبيُّ - ﷺ - قائِمًا، وحَذَّرَ الناسَ مِنْ قيامِ الساعةِ، فنزل: ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ (١) لا تطلُبوا الأمرَ قبلَ حينهِ، فاطمأَنُّوا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (أَتىَ) بالإمالة، واختلِفَ عن ابنِ ذكوانَ (٢)، ولما نزلَتْ هذهِ الآيةُ، قالَ - ﷺ -: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٥، ٤٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٧٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٦٦٧).
﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى﴾ تَبَرَّأَ وتعاظَمَ ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ بهِ من آلهتِهم. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تشرِكُونَ) بالخطاب، والباقونَ: بالغيب (٢).
...
﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)﴾.
[٢] ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ﴾ قراءة العامةِ: بضمِّ الياءِ وكسرِ الزاي (الْمَلاَئِكَةَ) نصبٌ، وهم في تشديدِ الزايِ على أصولهم المتقدمةِ في البقرةِ، فيخَفِّفُها منهم ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ورُويسٌ عن يعقوبَ. وقرأ روحٌ عن يعقوبَ (تنَزَّلُ) بالتاءِ مفتوحةً، وفتح الزاي مشددةً، ورفعِ الملائكة (٣)؛ كالمتفقِ عليهِ في سورةِ القدرِ.
﴿بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ﴾ أي: بما يحيي القلوبَ الميتةَ بالجهلِ من وحيهِ.
﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ هم الأنبياءُ عليهم السلام، وتقدَّم في سورةِ
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٢١)، و"الكشف" لمكي (١/ ٥١٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٦٦٧).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٧٠)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٦٠٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٦٨).
﴿أَنْ أَنْذِرُوا﴾ خَوِّفوا المشركينَ وعَرِّفُوهُمْ ﴿أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ خافونِ. قرأ يعقوبُ: (فَاتَّقُونِي) بإثباتِ الياءِ، والباقونَ: بحذفِها (١).
...
﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)﴾.
[٣] ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ بالواجبِ اللائقِ.
﴿تَعَالَى﴾ ارتفعَ.
﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ واختلافُ القراء في (يُشْرِكُونَ) كالحرفِ المتقدِّمِ.
...
﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)﴾.
[٤] ونزلَ في منكري البعثِ: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ أي: ماءِ الرجلِ.
﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ﴾ مُجادِلٌ للخصومِ ﴿مُبِينٌ﴾ للحجَّةِ بعدَ ما كانَ ميِّتًا جَمادًا.
...
﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥)﴾.
[٥] ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا﴾ يعني: الإبلَ والبقرَ والغنمَ ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ ما استُدْفِئ به من الثيابِ والأخبيةِ المستعملةِ من أوبارِها.
﴿وَمَنَافِعُ﴾ بالنسلِ والركوبِ والحملِ وغيرِها.
﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ يعني: لُحومَها.
...
﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦)﴾.
[٦] ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ زينةٌ ﴿حِينَ تُرِيحُونَ﴾ أي: الإبلَ، تردُّونها إلى المُراح، بضمِّ الميم، وهو المبيتُ والمأوى أيضًا.
﴿وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ تُرْسِلونها غُدْوَةٌ إلى المراعي، وقَدَّمَ الإراحةَ على التسريح؛ لأنها في المراح أحسنُ خُلُقًا منها في المسرحِ، وأكثرُ لبنًا، وأعجبُ إلى صاحبِها.
...
[٧] ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ﴾ أحمالَكم.
﴿إِلَى بَلَدٍ﴾ هي مكةُ، أو جميعُ البلادِ.
﴿لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ﴾ واصلينَ إليه لو لم تُخْلَقِ الإبلُ فَرَضًا.
﴿إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ﴾ بجهدِها. قرأ أبو جعفرٍ: (بِشَقِّ) بفتح الشينِ، والباقون: بكسرِها، وهما لغتان، مثلُ: رِطْلٍ ورَطْلٍ (١).
﴿إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ بخلقِه. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وابنُ كثيرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (رَؤُوفٌ) بالإشباعِ على وزنِ فَعولٍ حيثُ وقعَ (٢).
﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨)﴾.
[٨] ﴿وَالْخَيْلَ﴾ أي: وخلقَ الخيلَ، وهي اسمُ جنس لا واحدَ لهُ من لفظِه؛ كالإبلِ، والنساءِ ﴿وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ أي: وجعلَها زينةً لكم معَ المنافع التي فيها.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٦٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٧٧ - ٢٧٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٧٠).
﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي: إن مخلوقاتِ اللهِ من الحيوان وغيرِه لا يُحيط بعلمِها بَشَرٌ، بل ما يخفى عليه أكثرُ مما يعلمُه.
...
﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)﴾.
[٩] ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ يعني: بيانُ الطريقِ الحقِّ لكم، والقَصْدُ: الطريقُ المستقيمُ.
﴿وَمِنْهَا﴾ أي: ومن السبيلِ؛ لأنها تُذَكَّر وتؤنَّثُ ﴿جَائِرٌ﴾ أي: عادلٌ
(٢) في "ت": "على الاتفاق".
﴿وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ﴾ إلى صلاحِكم ﴿أَجْمَعِينَ﴾ ولم يَضِلَّ أحدٌ.
...
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ﴾ تشربونَهُ.
﴿وَمِنْهُ﴾ أي: ينبتُ بسببِهِ.
﴿شَجَرٌ فِيهِ﴾ في النباتِ.
﴿تُسِيمُونَ﴾ تَرْعَوْن دوابَّكم؛ من سامَتِ الماشيةُ: رَعَتْ.
...
﴿يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)﴾.
[١١] ﴿يُنْبِتُ﴾ اللهُ ﴿لَكُمْ بِهِ﴾ يعني: الماء. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (نُنْبِتُ) بنونِ العَظَمة، والباقون: بالياء (١).
﴿الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ وبعضِ كلِّها إن لم ينبتْ في الأرضِ كلَّ ما يمكنُ من الثمار.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في الصنعةِ، فيستدلُّون بها على صانعِها.
[١٢] ﴿وَسَخَّرَ﴾ ذلَّل.
﴿لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ﴾ مُذَلَّلاتٌ.
﴿بِأَمْرِهِ﴾ بإذنِه. قرأ ابنُ عامرٍ: (وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، والنُّجُومُ، مُسَخَّرَاتٌ) برفعِ الأسماءِ الأربعة على الابتداءِ، فـ (الشمسُ) مبتدأ، (والقمرُ والنجومُ) عطفٌ عليه، والخبرُ (مسخراتٌ بأمرِه)، وافقه حفصٌ عن عاصمٍ في الحرفينِ الأخيرينِ، وهما (والنجومُ مسخراتٌ)، فرفعَهما على الابتداءِ والخبرِ، وقرأ الباقون: بنصبِ الأربعةِ وكسرِ تاءِ (مُسَخَّراتٍ) عطفًا على (النهارَ) (١).
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ قالَ في الآيةِ قَبْلُ: (لآيَةً)؛ لأنَّ شيئًا واحدًا منها يعمُّ تلكَ الأربعةَ، وهو النباتُ، وقالَ في هذه الآيةِ: (لآيَاتٍ)، لأنَّ كلَّ واحدٍ مما ذُكر آيةٌ في نفسِه، لا يشركُ معَ الآخرِ؛ فالليلُ لانتفاعِ البشرِ بالسكون فيه، والنهارُ للسَّعْيِ في المعاشِ وغيرِه، والشمسُ والقمرُ منافعُهما أكثرُ من أن تُحْصى، والنجومُ هداياتٌ.
...
﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَمَا ذَرَأَ﴾ خَلَقَ ﴿لَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ من الأشجارِ والدوابِّ
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ يعتبرونَ.
...
﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ﴾ العذبَ والمِلْحَ.
﴿لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا﴾ يعني: السمكَ، وُصِفَ بالطَّراوةِ لتسارُعِ الفسادِ إليه، فَيُسارَعُ إلى أكلِه طريًّا.
﴿وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ﴾ أي: من الملح، عطفٌ على (لِتَأْكُلُوا).
﴿حِلْيَةً﴾ زينةً ﴿تَلْبَسُونَهَا﴾ وهي اللؤلؤُ والمرجانُ، فدلَّ على أنهما من الحليِّ.
﴿وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ﴾ فواعلَ من مَخَرَتِ السفينةُ: إذا جَرَتْ فشقَّتِ الماءَ بصدرِها.
﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ بركوبِها للتجارةِ.
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ اللهَ لتوالي نعمِه عليكم.
...
﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾ ثوابتَ؛ يعني: جبالًا.
﴿وَأَنْهَارًا﴾ منصوبٌ بفعلٍ مضمَرٍ تقديرُه: وجعلَ فيها أنهارًا.
﴿وَسُبُلًا﴾ طُرُقًا ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ تعتبرونَ وتَرْشُدونَ.
...
﴿وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿وَعَلَامَاتٍ﴾ هي معالمُ الطرقِ، وكُلُّ ما يُستدَلُّ به.
﴿وَبِالنَّجْمِ﴾ عامٌّ في كلِّ نَجْم.
﴿هُمْ﴾ أي: قريشٌ ﴿يَهْتَدُونَ﴾ إلى القبلةِ، أو في السيرِ؛ لأنهم كانوا كثيري الأسفارِ للتجارةِ، مشهورينَ بالاهتداءِ في مسايرِهم بالنجومِ.
...
﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ﴾ أي: اللهُ ﴿كَمَنْ لَا يَخْلُقُ﴾ أي: الأصنامُ، تلخيصُه: اللهُ الخالقُ خيرٌ أم آلهتكم العَجَزَةُ؟ ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ فَتَتَّعِظونَ وتُؤْمنون. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (تَذْكُرُونَ) بالتخفيف حيثُ وقعَ.
...
﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ لا تَضْبِطوا عَدَّها.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ﴾ لتقصيرِكم في أداءِ شكرِها ﴿رَحِيمٌ﴾ بكم حيثُ لم يقطَعْها لتفريطِكم بالتقصيرِ.
[١٩] ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ من عقائدكم وأعمالكم.
...
﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠)﴾.
[٢٠] و ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ يعني: الأصنامَ التي تعبدونَها من دونه. قرأ عاصمٌ، ويعقوبُ: (يَدْعُونَ) بالغيبِ، والباقونَ: بالخطابِ (١).
﴿لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا﴾ لعجزِهم ﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ لأنهم يُتَّخَذون من الحجارةِ وغيرِها.
...
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿أَمْوَاتٌ﴾ يعني: الأصنامَ ﴿غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ أي: لا يعقبُ موتَها حياةٌ.
﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي: الأمواتُ ﴿أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ متى يُحشرونَ.
...
﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢)﴾.
[٢٢] ثم نفى ألوهيةَ الأصنامِ، وعَرَّفَهم الإلهَ حقيقةً فقالَ: ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ لا يُشارَكُ.
﴿وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ متعظِّمونَ عن الإيمانِ.
...
﴿لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿لَا جَرَمَ﴾ حَقًّا ﴿أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ فيجازِيهِم.
قرأ حمزةُ: (لاَ جَرَمَ) بالمدِّ بحيثُ لا يبلغُ الإشباعَ.
﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾ عامٌّ في الكافرينَ والمؤمنين، في الحديثِ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ" (١)، وفيه: أَنَّهُ مَنْ سَجَدَ للهِ سَجْدَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ بَرِئ مِنَ الْكِبْرِ.
...
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ أي: لكفارِ مكةَ.
﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا﴾ استهزاءً.
﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ أباطيلُهم.
...
﴿كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وإنما ذَكَرَ الكمالَ؛ لأنَّ البلايا التي تلحَقُهم في الدنيا، وما يفعلونَ من الحسناتِ، لا تُكَفِّرُ عنهم شيئًا.
﴿وَمِنْ أَوْزَارِ﴾ أي: ذنوبِ ﴿الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ بغيرِ حُجَّةٍ، فيصدُّونَهم عن الإيمانِ ﴿أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ بِئْسَ شيئًا تحمَّلُوا.
...
﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وهم نمرودُ بنُ كنعانَ، بنى الصرحَ ببابلَ ليصعدَ إلى السماء، وتقدَّمَ ذكرُ القصةِ مستوفىً في آخرِ سورةِ إبراهيمَ، فهبتْ ريحٌ فألقتْ رأسَهُ في البحر، وخرَّ عليهم الباقي وهم تحتَهُ، فذلك قولُه تعالى:
﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ﴾ أي: قصدَ خرابَ بنائِهم.
﴿مِنَ الْقَوَاعِدِ﴾ من أساسِهِ ﴿فَخَرَّ﴾ سَقَطَ ﴿عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ يعني: أَعْلَى البيوتِ من فوقِهم.
﴿وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بمجيئهِ.
***
[٢٧] ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ﴾ اللهُ ﴿وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ﴾ بزعمِكم. قرأ البزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: (شُرَكَايَ) بياءٍ مفتوحةٍ بغيرِ همزٍ ولا مَدٍّ، قال الكواشيُّ: لأنَّ الأصلَ تركُ المدِّ؛ لأن المدَّ إنما يكونُ بزيادةِ حرفٍ ليسَ من أصلِ الكلمةِ، فرجعَ إلى الأصلِ معَ صحةِ القراءة وتواترِها، فلا تأثيرَ لطعنِ الطاعنِ فيها، والباقون: بفتحِ الياءِ والمدِّ بلا همزٍ؛ لأن الأشهرَ في (فَعيل) أن يُجمع على (فُعَلاء)؛ كشهيدٍ وشهداءَ (١).
﴿الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ﴾ تخاصِمُون في شأنِهم. قرأ نافعٌ: (تشُاقُّونِ) بكسر النونِ على الإضافةِ، أصلُه: تشُاقُّونَنِي، فحُذِفَ أحدُ النونينِ والياء، وتُركتِ الكسرةُ تدلُّ عليها. وقرأ الباقون: بفتح النونِ إخبارٌ عن غيرِ مضافٍ (٢)، تلخيصُه: ليحضُرْ من تزعمونَ، وليدفَعْ عنكم العذابَ.
﴿قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ أي: النبوةَ.
﴿إِنَّ الْخِزْيَ﴾ الهوانَ ﴿الْيَوْمَ وَالسُّوءَ﴾ العذابَ.
﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ وفائدةُ قولهم إظهارُ الشماتةِ وزيادةُ الإهانةِ.
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٧١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٧)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٦١١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٧٦).
[٢٨] ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ يقبضُ أرواحَهم ملكُ الموتِ وأعوانُه.
قرأ حمزةُ، وخلفٌ في هذا الحرفِ وفي الآتي: (يَتَوَفَّاهُمْ) بالياءِ على التذكيرِ، والباقونَ: بالتاء على التأنيث (١) ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ بالكفرِ. قرأ أبو عمرٍو (الْمَلاَئِكَة ظَّالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بإدغامِ التاءِ في الظاء (٢).
﴿فَأَلْقَوُا السَّلَمَ﴾ أي: استسلَموا وانقادوا حينَ عاينوا الموتَ، وقالوا:
﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾ شِرْكٍ، فتُجيبهم الملائكةُ: ﴿بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فهو يُجازيكم عليه، قالَ عكرمةُ: المعنيُّ بذلك مَنْ قُتِلَ من (٣) الكفارِ ببدرٍ.
...
﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ عن الإيمانِ.
...
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٧٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٧٧).
(٣) "من" ساقطة من "ت".
[٣٠] وكانَ أحياءُ العربِ يبعثونَ أيامَ الموسمِ مَنْ يأتيهِمْ بخبرِ النبيِّ - ﷺ -، فإذا جاءَ، سأل الذين قعدوا على الطريقِ عنه، فيقولون: ساحرٌ، وكاهنٌ، وشاعرٌ، وكذابٌ، ومجنونٌ، ويأمرونَه بالانصرافِ، ويقولون: لا تَلْقَهُ خيرٌ لكَ، فيدخلونَ مكةَ ويسألونَ أصحابَ النبيِّ - ﷺ -، فيخبرونَ بصدقِهِ، وأَنه نبيٌّ مبعوثٌ، فذلكَ قولُه تعالى: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ يعني: المؤمنين (١) ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا﴾ أنزلَ ﴿خَيْرًا﴾ ثم ابتدأَ فقال: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ وَحَّدُوا ﴿فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ كرامةٌ من الله، وهي تضعيفُ الأجرِ إلى العشرِ ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ أي: ولَثوابُهم في الآخرةِ خيرٌ منها ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ الجنةُ.
...
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١)﴾.
[٣١] ثم فَسَّرَها ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ﴾ من أنواعِ المشتَهَياتِ ﴿كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ﴾:
...
﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)﴾.
﴿يَقُولُونَ﴾ لهم عندَ الموتِ: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمُ﴾ ويقولونَ لهم في الآخرةِ: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي: بما كانَ من أعمالِكم.
...
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ ما ينتظرُ الكفارُ ﴿إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ لقبضِ أرواحِهم. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يَأْتِيهِمُ) بالياءِ مُذَكَّرًا، والباقون: بالتاءِ مؤنثًا (١).
﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ وعيدٌ يتضَمَّنُ قيامَ الساعةِ وعذابَ الدنيا.
﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثلَ ذلكَ الفعلِ من الشركِ والتكذيبِ.
﴿فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ فَعُوقبوا.
﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ بتدميرِهم ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ أي: آذَوْا أنفسَهم، وظلموها بنفسِ فعلهم، وإن كانوا لم يقصِدوا ظُلْمَها.
...
[٣٤] ﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾ جزاءُ سيئاتِ عملِهم الخبيثِ ﴿وَحَاقَ﴾ نزلَ.
﴿بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ والحَيْقُ لا يُستعملُ إلا بالشرِّ.
...
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ يعني البَحيرةَ والسائبةَ والوصيلَة والحاميَ، فلولا أنَّ اللهَ رَضِيَها لنا، لَغَيَّرَ ذلكَ، وهدانا إلى غيرِها، قالوا ذلكَ بغيًا واستهزاءً لَمَّا نزلَ قولُه تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [التكوير: ٢٩].
﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ فأشركوا وكَذَّبوا الرسُلَ.
﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ الموضِّحُ للحقِّ، وليس إليهم الهدايةُ.
...
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦)﴾.
﴿وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ وهو كلُّ معبودٍ من (٢) دونِ الله.
﴿فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ﴾ وَفَّقَهم للإيمانِ ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾ ثَبَتَتْ بالسابقةِ حتى ماتَ على كفرِه.
﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ يا معشرَ قريشٍ.
﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ أي: عاقبةُ أمرِهم لعلَّكم تعتبرونَ.
...
﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ﴾ يا محمدُ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾ قرأ الكوفيون: بفتحِ الياءِ وكسرِ الدالِ؛ أي: لا يهدي اللهُ من أَضلَّهُ، وقرأ الباقون: بضمِّ الياءِ وفتحِ الدال، يعني: من أضلَّه اللهُ فلا هاديَ له (٣).
﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ بدفعِ العذابِ عنهم.
...
(٢) "من" ساقطة من "ت".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٧٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٧)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٦١٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٧٩).
[٣٨] ونزل فيمَنْ حلفَ أن اللهَ لا يبعثُ الموتى ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾ (١) قال الله تعالى: ﴿بَلَى﴾ يبعثُه.
﴿وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾ مَصْدَران.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ وأكثرُ الناسِ في هذه الآية: الكفارُ المكذِّبونَ بالبعثِ من القبور.
...
﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ المعنى: يبعثُ اللهُ جميعَ الخلائقِ يومَ القيامةِ ليبينَ لهم الحقَّ من الباطلِ المختلَف فيهما.
﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ﴾ في إنكارِ البعثِ.
...
﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ لا يتعاظَمُنا شيء. قرأ ابن عامرٍ، والكسائيُّ: (فَيَكُوَن) بنصبِ النونِ، والباقونَ:
...
﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)﴾.
[٤١] ونزل في شأنِ النبيِّ - ﷺ - والصحابةِ حيثُ أُخرِجوا من مكةَ ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ﴾ أي: في طلبِ رضاهُ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ من أهلِ مكةَ.
﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ فأنزلَهم المدينةَ، وأطعَمَهُمُ الغنيمةَ، فهذا الثوابُ في الدنيا، وكان عُمَرُ إذا أعطى الرجلَ من المهاجرينَ عطاءً يقولُ: "خُذْ، هذا ما وعدَ اللهُ لكَ في الدنيا حسنة، وما ادخر لكَ في الآخرةِ أفضلُ، ثم تلا هذهِ الآيةَ" (٢). قرأ أبو جعفرٍ: (لَنُبَوِّيَنَّهُمْ) بفتحِ الياءِ بغيرِ همزٍ، والباقون: بالهمزِ.
﴿وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ الضميرُ للكفارِ؛ أي: لو علموا أن المؤمنين مُكْرَمون عند اللهِ، لآمنوا.
...
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي" (ص: ١٥٩)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٦١٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٨٠).
[٤٢] ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على الشدائدِ من أذى الكفارِ ومفارقةِ الوطنِ.
﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ مُفَوِّضينَ الأمرَ إليه.
...
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣)﴾.
[٤٣] ونزلَ لما قالَتْ قريشٌ: إنَّ اللهَ أعظمُ من أن يكونَ رسولُه بشرًا، فهلَّا بعثَ إلينا مَلَكًا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ (١) أي: أهلَ الكتبِ المتقدمةِ. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (نُوحِي) بالنونِ وكسرِ الحاءِ على لفظِ الجمعِ، وقرأ الباقون: بالياءِ وفتح الحاءِ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه (٢)، وقرأ ابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَسَلُوا) بالنقلِ، والباقون: بالهمزِ (٣).
﴿إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ وفي الآية دليلٌ على أنه تعالى لم يرسلِ امرأةً ولاَ مَلَكًا للدعوةِ العَّامةِ.
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٧٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٨١).
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٤١٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٧٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٨١).
[٤٤] وقوله: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ متعلقٌ بفعلٍ مضمَرٍ تقديرُه: أرسلناهم بالبيناتِ.
﴿وَالزُّبُرِ﴾ الكتبِ.
﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾ القرآنَ.
﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ من الشرائعِ والأحكامِ.
﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ يتأمَّلونَ الحقائقَ.
...
﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ﴾ أي: عملوا المُنْكَراتِ السيئاتِ، وهم كفارُ مكةَ ﴿أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ﴾ كما خسف بقارونَ.
﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ كما فعل بقومِ لوطٍ.
...
﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ﴾ أي: متقلِّبينَ في متاجِرهم ومسائِرهم.
﴿فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ بفائِتينَ.
***
[٤٧] ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾ تنَقُّصٍ؛ أي: يأخذَهم بنقصِ أموالِهم وآجالِهم حتى يَهْلِكوا جميعًا ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ حيثُ أمهلَكُم. وتقدَّمَ اختلافُ القراء في (لَرؤُوفٌ).
...
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ استفهامُ إنكارٍ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تَرَوا) بالخطابِ، وقرأ الباقون: بالغيبِ خبرًا عن الذين يمكرونَ السيئات (١)، وهو اختيارُ الأئمةِ.
﴿إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ من جسمٍ قائمٍ له ظِلٌّ ﴿يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ﴾ ترجعُ من جانبٍ إلى جانبٍ. قرأ أبو عمروٍ، ويعقوبُ: (تتفَيَّؤُا): بالتاءِ على التأنيث، والباقون: بالياء على التذكير (٢).
﴿عَنِ الْيَمِينِ﴾ بمعنى الأَيمان، يوضِّحُه أن قابلَه بجمعٍ فقالَ:
﴿وَالشَّمَائِلِ﴾ جمعُ شِمال، فهي في أولِ النهارِ على حالٍ، ثم تنقصُ ثم تعودَ في آخرِ النهارِ إلى حالٍ أخرى، فاليمينُ أولَ النهارِ، والشمائلُ آخرَهُ،
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٧٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٧)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٦١٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٠٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٨٢).
﴿سُجَّدًا لِلَّهِ﴾ فميلانُها ودورانُها سجودُها لله تعالى.
﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ صاغرون أذلاء.
...
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ يستسلِمُ، وأخبرَ بـ (ما)؛ لأنها أعمُّ من (مَنْ)، وقوله: ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ بيانٌ لِما في السمواتِ والأرضِ، والمرادُ: كلُّ نفسٍ دَبَّتْ على وجهِ الأرض، عَقَلَتْ أو لم تعقِلْ.
﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ خصَّهم بالذكرِ، وهم من جملةِ ما في السمواتِ؛ لرفعِ شأنِهم، أو لخروجِهم من جملةِ الموصوفينَ بِالدَّبيبِ؛ لأن لهم أجنحة كما قال تعالى: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ﴾ [فاطر: ١]، وكانَ الطيرانُ أغلبَ عليهم من الدَّبيبِ.
﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ لا يَتَعَظَّمون.
...
﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ أي: غالبًا قاهرًا لهم؛ كقوله ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠] فلا يعجِزُه شيءٌ، ولا يغلِبُه أحدٌ، أو يخافونَ أن يأتيَهُم العذابُ من فوقِهم إن عَصَوه.
...
﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ ذُكَرَ العددُ معَ أنَّ المعدودَ يدلُّ عليهِ؛ دلالةً على أنَّ مساقَ النهي إيماءٌ بأن الاثنينيةَ تنُافي الأُلوهيةَ كما في ذكرِ الواحدِ في قولهِ:
﴿إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ للدلالةِ على أن المقصودَ إثباتُ الوحدانيةِ دونَ الإلهيةِ، أو للتنبيهِ على أن الوحدةَ من لوازم الإلهيةِ.
﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ نقلَ من الغيبةِ إلى التكلمِ مبالغةً في الترهيبِ، وتصريحًا بالمقصودِ، كأنه قالَ: فأنا ذلكَ الإلهُ الواحدُ، فإيايَ فارهبونِ لا غيرُ. قرأ يعقوب: (فَارْهَبُونِي) بإثباتِ الياءِ، والباقون: بحذفها (١).
...
﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ خَلْقًا ومُلْكًا.
﴿وَلَهُ الدِّينُ﴾ الطاعةُ والإخلاصُ.
...
﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿وَمَا بِكُمْ﴾ أي: وأيُّ شيءٍ اتصلَ بكم ﴿مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ لا يأتي بها أحد سواه.
﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ﴾ القحطُ والمرضُ ﴿فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ تَتَضَرَّعونَ.
...
﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ﴾ وهمُ الكفارُ.
﴿بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ بعبادةِ غيرِه.
...
﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿لِيَكْفُرُوا﴾ وهذهِ اللامُ تُسَمَّى: لامَ العاقبةِ؛ أي: حاصلُ أمرِهم هو كفرُهم ﴿بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ من نعمةِ الكشفِ.
﴿فَتَمَتَّعُوا﴾ عِيشوا في اللذَّةِ، وهو أمرُ تهديدٍ.
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عاقبةَ أمرِكُم، أغلظُ الوعيدِ.
...
﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ﴾ أي: الأصنامِ ﴿نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ من
...
﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ﴾ وهم خزاعةُ وكِنانُة، قالوا (١): الملائكةُ بناتُ اللهِ ﴿سُبْحَانَهُ﴾ هو مُنَزَّهٌ عن الولدِ والوالدِ.
﴿وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ﴾ أي: ويجعلونَ لأنفسِهم ما يتمنَّوْنَ، وهم البنونَ.
...
﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ﴾ أي: صارَ.
﴿وَجْهُهُ مُسْوَدًّا﴾ أي: مُتَغَيِّرًا.
﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ مملوءٌ غيظًا، فهو يَكْظِمُهُ؛ أي: يُمْسِكُه ولا يُظْهِره.
...
﴿يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿يَتَوَارَى﴾ يَسْتَخْفي ﴿مِنَ الْقَوْمِ﴾ حياءً.
﴿مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ﴾ من البناتِ، ثم يتردَّدُ فيما يصنعُ بولدِه.
﴿أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ حيثُ وَأَدوا البناتِ خوفَ الفقرِ والعارِ، وحيثُ نسبوا إلى اللهِ تعالى ما هو مستقبَحٌ عندَهم.
...
﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)﴾.
[٦٠] ﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ يعني: لهؤلاءِ الذين يصفونَ للهِ البناتِ ﴿مَثَلُ﴾ أي: صفةُ ﴿السَّوْءِ﴾ وهو كفرُهم، ووأدُ البناتِ مع احتياجِهم إليهنَّ طلبَ النكاحِ.
﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ الصفةُ العليا، وهي التوحيدُ والغنى عن جميعِ خلقه.
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ المنفرِدُ بكمالِ القدرةِ والحكمةِ.
...
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ﴾ فيعاجِلُهم بالعقوبةِ على كفرِهم ومعَاصيهم.
﴿مَا تَرَكَ عَلَيْهَا﴾ أي: الأرضِ ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ مَنْ يَدِبُّ أصلًا بشؤمِ ظلمِهم، فهلاكُ الدوابِّ بآجالِها، وهلاكُ الناسِ عقوبةً.
﴿وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ﴾ يُمْهِلُهم بحلمِه ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ سَمَّاهُ لأعمارِهم.
...
﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾ من البناتِ، والمشاركةِ، والاستخفافِ بالرسلِ، وأراذِلِ الأموالِ.
﴿وَتَصِفُ﴾ أي: تقولُ ﴿أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى﴾ يعني: الذكورَ من الأولاد، وهو قولُ مجاهدٍ وقَتادةَ، قالَ ابنُ عطية: وهو الأسبقُ من معنى الآية، وقالت فرقة: يريدُ: الجنةَ في المعاد إن كان محمدٌ صادقًا في البعثِ (٢)، ويؤيدُ هذا قولُه:
﴿لَا جَرَمَ﴾ أي: حَقًّا ﴿أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾ في الآخرةِ ﴿وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ﴾ قرأ نافعٌ بكسرِ الراءِ وتخفيفِها؛ من الإفراطِ في المعاصي، وقرأ أبو جعفرٍ بكسرِ الراءِ
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" (٣/ ٤٠٣). وانظر: "تفسير الطبري" (١٤/ ١٢٧)، و"تفسير القرطبي" (١٠/ ١٢٠)، و"تفسير ابن كثير" (٢/ ٥٧٥)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٥/ ١٤١).
...
﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ كما أرسَلْناك إلى هذهِ الأمةِ.
﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ الخبيثةَ.
﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ﴾ ناصرُهم ﴿الْيَوْمَ﴾ أي: يومَ القيامةِ، والألفُ واللامُ فيه للعهدِ؛ أي: هو وليُّهم في اليومِ المشهودِ، وهو وقتُ الحاجة، وهو عاجزٌ عن نصرِ نفسهِ، فكيف ينصرُ غيره؟! وهذهِ حكايةُ حالٍ آتيةٍ؛ أي: في حالِ كونِهم مُعَذَّبين في النارِ.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ قرأ أبو عمرٍو (فَهُو ولِيُّهُمْ) بإدغامِ الواوِ في الواو (٢).
...
﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)﴾.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٧١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٨٦).
﴿الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ من الدينِ والأحكامِ.
﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ وعطف بالهدى والرحمة على موضع قولِه: (لِتُبيِّنَ)؛ لأن محلَّه النصبُ، ومجازُ الكلامِ: وما أنزلنا عليكَ الكتابَ إلا بيانًا للناس، وهدًى ورحمةً للمؤمنينَ.
...
﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ يعني: المطرَ ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ بالنبات ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ يُبْسِها.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ سماعَ تَدَبُّرٍ وإنصافٍ.
...
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً﴾ لعظةً ﴿نُسْقِيكُمْ﴾ قرأ أبو جعفرٍ: (تَسْقِيكُمْ) بالتاء مفتوحةً، والباقون: بالنونِ، وفتحَها نافعٌ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ، وأبو بكرٍ، وضمَّها الباقون (١).
﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ﴾ هو ما في الكرشِ من السّرجينِ.
﴿وَدَمٍ﴾ المعروفِ، وذلك أن الكرشَ إذا طحنَتِ العلفَ، صارَ أسفلُه فرثًا، وأوسطُه ﴿لَبَنًا خَالِصًا﴾ لا يشوبُه شيءٌ، وأعلاه دمًا، وبينها حاجزٌ من قدرةِ اللهِ تعالى، لا يختلطُ أحدُها بالآخرِ بلونٍ ولا طعمٍ ولا رائحةٍ، معَ شدةِ الاتصال، والكبدُ مسلَّطَةٌ عليها، تقسمِهُا بقدرةِ اللهِ تعالى، فَتُجري الدمَ في العروقِ، واللبنَ في الضَّرْع، ويبقى الفرثُ في الكرشِ، فسبحانَ القادرِ على ما يشاءُ.
﴿سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾ سَهْلًا لا يغصُّ بهِ شاربُهُ. قرأ ابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: (لِلشَّارِبِينَ) بالإمالة، بخلافٍ عنه (١)، فيه دليلٌ لمن يقولُ بطهارةِ مَنِيِّ الآدمِيِّ، وإن جرى مجرى البولِ؛ لأنه لا يمتنعُ خروجُه طاهرًا وإن جرى مجرى البول، كما لا يمتنعُ خروجُ اللبنِ من بينِ الفرثِ والدمِ طاهرًا، وهو مذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ، وقالَ أبو حنيفةَ ومالكٌ: هو نجسٌ إلَّا أن أبا حنيفة عندَه إِنْ كانَ رَطْبًا غُسِلَ، وإن كان يابِسًا فُرِكَ، وعندَ مالكٍ يُغْسَلُ رَطَبًا ويابِسًا.
...
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٦٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٨٨).
[٦٧] ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ﴾ فالكنايةُ في (مِنْهُ) عائدة إلى (ما) محذوفةٍ (١)؛ أي: ما تتَّخِذون منه ﴿سَكَرًا﴾ أي: خَمْرًا، ثم نُسِخَتْ بقوله: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: ٩٠]؛ لأنَّ النحلَ مكيةٌ، والمائدةَ مدنيةٌ ﴿وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ الرُّطَبَ والتمرَ والعنبَ والزبيبَ.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ بالتأمُّل في الآياتِ.
...
﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ أَلْهَمَها، وهو مُذَكَّر، وربما (٢) أُنِّثَ حملًا على المعنى.
﴿أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾ تأوينَ إليها.
﴿وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ يَبْنُون لكِ من الأماكن. قرأ ابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (يَعْرُشُونَ) بضمِّ الراء، والباقون: بكسرها (٣).
...
(٢) في "ت": "مذكور بما".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٧٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٨٨)، والقراءة بخلاف عن عاصم.
[٦٩] ﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ حُلْوِها وحامِضها ومُرِّها وغيرِ ذلكَ.
﴿فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ﴾ أي: الطرق التي يطلب فيها الرعي. قرأ أبو عمرِو: (سُبُل ربِّكِ) بإدغامِ اللامِ في الراء (١) ﴿ذُلُلًا﴾ منقادةً بالتسخيرِ.
﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا﴾ أفواهِها ﴿شَرَابٌ﴾ هو العسلُ ينزلُ من السماء، فينبتُ في أماكنَ، فيأتي النحلُ فيشربُه، ثم يأتي الخليةَ فيلقيه في الشمعِ المهيأ له، لا كما يتوهَّمُ بعضُ الناسِ أنه من فضلاتِ الغذاءِ، وأنه يستحيلُ في المعدةِ عسلًا.
﴿مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾ من أبيضَ وأسودَ وأحمرَ، وغيرِ ذلكَ.
﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ أي: في العسلِ، قاله الجمهورُ، وقيل: في القرآنِ، قال البغويُّ: والأولُ أولى (٢)، ولا يقتضي العمومَ في كل علَّةٍ وفي كلِّ إنسانٍ، بل هو خبرٌ عن أنه يَشْفي كما يَشْفي غيرُه من الأدويةِ في بعضٍ، ورُويَ عن النبيِّ - ﷺ - أنه قال: "عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ: العَسَلِ وَالْقُرْآنِ" (٣).
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فيعتبرونَ.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٦٢٣).
(٣) رواه ابن ماجه (٣٤٥٢)، كتاب: الطب، باب: العسل، والحاكم في "المستدرك" (٧٤٣٥)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٩/ ٣٤٤)، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-. قال البيهقي: رفعه غير صحيح، والصحيح موقوف؛ رواه وكيع عن سفيان موقوفًا.
[٧٠] ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ﴾ صِبيانًا أو شُبَّانًا أو كُهولًا ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ الهَرَمِ ﴿لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ﴾ عَلِمَهُ في حالِ شَبيبتِه.
﴿شَيْئًا﴾ أي: إذا علمَ شيئًا اعتراهُ النسيانُ، فيصيرُ بعدَ العلمِ ناسيًا.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ قرر تعالى علمَه وقدرتَه التي لا تتبدَّلُ ولا تدخلُها الحوادثُ، ولا تتغيرُ.
...
﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ﴾ بسطَ على واحدٍ، وضَيَّقَ على آخرَ.
﴿فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ (١) المعنى: لا يعتقد الموالي أنهم يَرُدُّون شيئًا من الرزقِ على عبيدِهم، وإنما أنا الرادُّ عليهم فهم في الرزق سواء.
﴿أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ بالإشراكِ به. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ، ورويسٌ عن يعقوبَ: (تَجْحَدُونَ) بالخطابِ؛ لقوله: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ
...
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ من جنسِكم، والمرادُ حواءُ؛ لأنها خُلقت من قصيراءِ آدمَ ﴿أَزْوَاجًا﴾ نساءً.
﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ أعوانًا وخَدمًا، جمعُ حافدٍ، وهو المعينُ المسرعُ في الطاعةِ، غريبًا كانَ أو قريبًا. قرأ أبو عمروٍ، ورويسٌ: (جَعَل لكُمْ) بإدغامِ اللامِ في اللامِ كُلَّ ما في هذهِ السورةِ (٢).
﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ الحلالاتِ، ثم وَبَّخهم بقوله: ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ﴾ أي: الأصنامِ، وما يُفضي إلى الشرك ﴿يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ﴾ القرآنِ.
﴿هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ (بِنِعْمَتِ) رُسِمَتْ بالتاءِ، وكذلك في الموضعين بعدَها، وهما: (نِعْمَتَ اللهِ) وقفَ عليها بالهاءِ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمروٍ، والكسائيُّ، ويعقوبُ.
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٠٢)، (٢/ ٣٠٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٧٩)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٨٩).
[٧٣] ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ﴾ يعني: المطرَ ﴿وَالْأَرْضِ﴾ يعني: النباتَ ﴿شَيْئًا﴾ بدلٌ من ﴿رِزْقًا﴾ أي: لا يملكونَ من الرزقِ شيئًا قليلًا ولا كثيرًا، ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ ذلكَ لعجزِهم.
...
﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧٤)﴾.
[٧٤] ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ لا تُسَوُّوه بخلقِه.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾ أَنْ لا شبهَ.
﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك.
...
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٧٥)﴾.
[٧٥] ثم ضربَ اللهُ مثلًا للمؤمنِ والكافرِ، فقالَ تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا﴾ بدلٌ من (مَثَلًا) ﴿مَمْلُوكًا﴾ ليخرجَ منهُ الحر؛ لأن الخلقَ عبيدُ الله ﴿لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ ليخرجَ عنهُ المكاتَبَ.
﴿وَمَنْ رَزَقْنَاهُ﴾ أي: حُرًّا رزقناه ﴿مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ﴾ يعني: جماعةَ الأحرارِ والعبيدِ، وهذا مثلٌ
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أي: الثناءُ له، لا يستحقُّه غيرهُ.
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾ يعني: الكفارَ ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ فيضيفون نعمَه إلى غيرهِ.
...
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)﴾.
[٧٦] ثم ضربَ مثلًا للأصنام فقالَ: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ﴾ أخرسُ.
﴿لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ﴾ عِيالٌ وثِقْلٌ ﴿عَلَى مَوْلَاهُ﴾ مَنْ يلِي أمرَه.
﴿أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ﴾ يُرْسِلْهُ ﴿لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾ لأنه لا يَفْهَمُ، ولا يُفْهَمُ عنه، هذا مثلُ الأصنامِ لا تسمعُ ولا تنطقُ، وهي كَلٌّ على عابدِها، تحتاج إلى حملِها ووضعِها وخدمتِها.
﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ وهو اللهُ سبحانه قادرٌ متكلمٌ يأمرُ بالتوحيدِ.
﴿وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ يعني: يدلُّكم على صراطٍ مستقيمٍ.
***
[٧٧] ولما سُئل رسولُ الله - ﷺ - عن الساعة، نزل: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (١) أي: ما غاب عن العباد.
﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ﴾ أي: أمرُ مجيئِها.
﴿إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ وهو النظرُ بسرعةٍ.
﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ لأنها كائنةٌ لا محالةَ، وكل ما هو آتٍ قريب ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
...
﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨)﴾.
[٧٨] ثم دلَّ على قدرته فقالَ: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ قرأ حمزةُ: (إِمِّهَاتِكُمْ) بكسرِ الهمزةِ والميمِ في الوصلِ، والكسائيُّ يكسرُ الهمزةَ في الوصلِ ويفتحُ الميمَ، والباقون: يضمُّونَ الهمزةَ ويفتحون الميمَ في الحالين، والابتداء للجميع بضمِّ الهمزةِ وفتح الميم.
﴿لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ جُهَّالًا ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ المعنى: أوجدَكم ضُلَّالًا ورزقَكم الفهمَ والعلمَ.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نِعَمَ اللهِ.
[٧٩] ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾ قال ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، ويعقوبُ، وخلفٌ: (تَرَوا) بالخطابِ على أنه خطابُ العامةِ، والباقون: بالغيب؛ لقوله: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (١).
﴿إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ﴾ مُذَلَّلاتٍ للطيرانِ.
﴿فِي جَوِّ السَّمَاءِ﴾ والجوُّ: مسافةُ ما بينَ السماءِ والأرضِ، وقيل: المتباعدُ من الأرضِ.
﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ﴾ في الهواءِ.
﴿إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ لأنهم هم المنتفعونَ بها.
...
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾ هو ما يُسْكَنُ إليه، ويُنْقَطَعُ فيه.
﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا﴾ قِبابًا وأَخْبِيَةً مُتَّخَذَةً من أَدمَ. وتقدَّمَ اختلافُ القراء في كسرِ الباء من (بِيُوتًا) في سورة البقرة.
﴿وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ﴾ في بلدِكم لا تثقلُ عليكم في الحالتين.
﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا﴾ أي: الضأنِ ﴿وَأَوْبَارِهَا﴾ الإبلِ ﴿وَأَشْعَارِهَا﴾ المَعْزِ.
قرأ أبو عمروٍ، والكسائيُّ من روايةِ الدوريِّ (وَأَوْبِارهَا وَأَشْعَارِهَا) بالإمالة، واختلِفَ عن ابنِ ذكوانَ، ورُوي عن ورشٍ، وحمزةَ بالإمالةِ بينَ بينَ، وقرأهما الباقون: بالفتح (٢) ﴿أَثَاثًا﴾.
متاعَ البيتِ ﴿وَمَتَاعًا﴾ أي: شيئًا يُنتفَعُ به ﴿إِلَى حِينٍ﴾ إلى الموتِ.
...
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١)﴾.
[٨١] ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا﴾ جمعُ ظُلَّةِ وهو ما يُستَظلُّ به.
﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا﴾ وهو ما يُسْتكنُّ به (٣) من كهوفِ الجبالِ.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٧١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٧ - ٢٨٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٩٢).
(٣) "به" ساقطة من "ت".
﴿تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ ولم يذكرِ البردَ؛ لدلالتهِ عليه؛ لأنه نقيضُه.
﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾ أي: الدروعَ والجواشنَ تدفعُ عنكم ألمَ الحرب والطعنِ والضربِ.
﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ تُخْلِصون لله.
...
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٨٢)﴾.
[٨٢] ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أعرضوا، فلا يلحقُكَ في ذلك عَتَبٌ.
﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ وقد بَلَّغْتَ.
...
﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (٨٣)﴾.
[٨٣] ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ التي عَدَّدَها عليهم.
﴿ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾ بعبادةِ غيرِ اللهِ، وقيل: يعرفون نعمةَ اللهِ على محمدٍ - ﷺ - بالنبوةِ، ثم يُنكرونها بتكذيبهِ.
﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ أي: جميعُهم، والكفر: الجحود.
...
﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤)﴾.
[٨٤] ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ أي: نبيًّا شهد لهم وعليهم.
﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ يُطْلَبُ منهم العتبى.
...
﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥)﴾.
[٨٥] ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أي: كفروا ﴿الْعَذَابَ﴾ يعني: جهنمَ.
﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ﴾ العذابُ ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ يُمْهَلون.
...
﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ يومَ القيامةِ ﴿شُرَكَاءَهُمْ﴾ أوثانَهم التي دَعَوْها شركاءَ. وتقدَّمَ اختلافُ القراء في (رَأَى الذين) في سورةِ الأنعامِ.
﴿قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ﴾ أربابًا، ونعبدُهم، كأنُّهم أرادوا بذلك تذنيبَ المعبودينَ، وإدخالَهم في المعصيةِ.
﴿فَأَلْقَوْا﴾ يعني: الأوثانَ.
﴿إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ﴾ أي: أجابوهم بقدرةِ اللهِ تعالى.
﴿إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ ما كُنَّا ندعوكم إلى عبادتِنا فكأنهم كذَّبوهم في التذنيبِ لهم.
***
[٨٧] ﴿وَأَلْقَوْا﴾ يعني: المشركينَ.
﴿إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ استسلموا، وانقادوا لحكمِه بعدَ استكبارِهِمْ في الدنيا.
﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾ ضاعَ وبَطَلَ.
﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ من أن الآلهةَ تشفعُ لهم.
...
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)﴾.
[٨٨] ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ بمنعِ الناسِ عن الإسلام.
﴿زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ المُعَدِّ لهم منَ النارِ، رُويَ أن اللهَ يُسلِّطُ عليهم حياتٍ لها أنيابٌ كالنخلِ، وعقاربَ كالبِغالِ الدُّهْمِ، ونحوَ ذلك.
﴿بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ﴾ في الدنيا بالكفرِ.
...
﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)﴾.
[٨٩] ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ﴾ يعني: نبيًّا ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ فإنَّ كلَّ نبيٍّ بُعِثَ إلى الأُمَمِ منها.
﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يا محمدُ ﴿شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ الذين بُعِثْتَ إليهم.
﴿لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ يُحتاجُ إليه، وما كانَ فيه مُجْمَلًا، فأنتَ تُفَصله لهم.
﴿وَهُدًى﴾ من الضلالةِ ﴿وَرَحْمَةً﴾ للجميعِ، وإنما حِرمانُ المحرومِ من تفريطِهِ.
﴿وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ بالجنةِ.
...
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)﴾.
[٩٠] ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ بالتوحيدِ والإنصافِ ﴿وَالْإِحْسَانِ﴾ هو أداءُ الفرائضِ ﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ صلةِ الرَّحِمِ.
﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ﴾ الزنا والمعاصي ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾ الشِّرْكِ، وما لا يُعرفُ في شريعةٍ ولا سُنَّةٍ ﴿وَالْبَغْيِ﴾ الظلمِ والتجبُّرِ على الناسِ.
﴿يَعِظُكُمْ﴾ بالأمرِ والنهيِ.
﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ تتَّعظونَ، رُويَ أن الوليدَ بنَ المغيرةِ لما سمعَ هذه الآيةَ من النبيِّ - ﷺ - قال: واللهِ إنَّ لهُ لحلاوةً، وإنَّ عليهِ لطلاوةً، وإنَّ أسفلَهُ لَمُغِدقٌ، وإن أعلاهُ لَمثْمِرٌ، وما يقولُ هذا بَشَرٌ (١).
...
﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١)﴾.
﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ توثيقِها بذكرِ اللهِ، فتحنثوا فيها.
﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ أي: شاهدًا ورقيبًا.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ من نقضِ العهدِ والوفاءِ.
...
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢)﴾.
[٩٢] ثم ضربَ لنقضِ العهدِ مثلًا؛ تبشيعًا له، وتحذيرًا منه، فقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا﴾ التي غزلَتْهُ من صوفٍ وغيرِه.
﴿مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ إحكامٍ وبَرْمٍ، فجعلَتْه ﴿أَنْكَاثًا﴾ حالٌ، جمع نكثٍ، وهو ما يُنْكَثُ فتلُه؛ أي: يُنقَضُ، والمرادُ به: تشبيهُ الناقضِ بمن هذا شأنُه، ورُويَ أنَّ امرأةً من قريشٍ يقالُ لها: ريطَةُ بنتُ سعدِ بنِ تيم كانَتْ حمقاءَ، وكانَتْ هي وجواريها يَغْزِلْنَ من أولِ النهار إلى الظهرِ، ثم ينقضْنَ ما غزلْنَ (١).
﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ أي: دَغَلًا وخِيانَةً بينكم بسببِ.
﴿مِنْ أُمَّةٍ﴾ من الجماعة التي حالفتموها، وهذا نهيٌ لمن يحالفُ قومًا، فإنْ وجدَ أيسرَ منهم وأكثرَ ذهبَ إليهم، وتركَ مَنْ (١) حالفَ.
﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ﴾ أي: يختبرُكم.
﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ في الدنيا؛ من نقضِ العهودِ وغيرِها.
...
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)﴾.
[٩٣] ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ على ملَّةِ الإسلامِ ﴿وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ بخذلانِهِ عَدْلًا ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ بتوفيقِهِ فَضْلًا.
﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وهذا سؤالُ توبيخٍ، ليس ثَمَّ سؤالُ تَفَهُّم.
...
﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٩٤)﴾.
[٩٤] ثم كررَ النهيَ تأكيدًا وإنذارًا فقال: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ فتغرُّونَ بها الناسَ فيسكنونَ إلى إيمانِكم، ويأمنون، ثم تنقضونها ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ﴾ أي: قدمُكم.
﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾ العقوبةَ في الدنيا ﴿بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ بصدودِكم عن الوفاءِ إذا نقضْتُم، استنَّ بكم غيرُكم.
﴿وَلَكُمْ﴾ في الآخرةِ ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
...
﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥)﴾.
[٩٥] ونزلَ فيمَنْ نقضَ العهدَ لينالَ شيئًا من حُطامِ الدنيا: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا﴾ عَرَضًا ﴿قَلِيلًا﴾ من الدنيا ﴿إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من الثوابِ.
﴿هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من المال ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فضلَ ما بينَ العِوَضَيْنِ.
...
﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)﴾.
[٩٦] ﴿مَا عِنْدَكُمْ﴾ من حُطامِ الدنيا ﴿يَنْفَدُ﴾ يفنى (١).
﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ دائمٌ. رويَ عن قنبلٍ، ويعقوبَ: الوقفُ بالياءِ على (بَاقِي) و (مُفْتَرِي) (٢).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٧٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ١٣٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٩٥).
﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على الوفاءِ في السراءِ والضراءِ.
﴿أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من الطاعاتِ دونَ سواها، ويغفرُ سيئاتِهم بفضلِه، قالَ - ﷺ -: "مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ، أَضرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ، أَضرَّ بِدُنْيَاهُ، فآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى ما يَفْنَى" (٢).
...
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)﴾.
[٩٧] ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ﴾ في الدنيا ﴿حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ هي الرزقُ الحلالُ.
﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وهذا وعدٌ بنعيمِ الآخرةِ. واتفقَ القراءُ على النونِ في (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) لأجلِ (فَلَنُحْيِيَنَّهُ) قبلَه.
...
(٢) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٤/ ٤١٢)، وعبد بن حميد في "مسنده" (٥٦٨)، وابن حبان في "صحيحه" (٧٠٩)، والحاكم في "المستدرك" (٧٨٥٣)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (٤١٨)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٦٣٠٨)، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.
[٩٨] ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ﴾ أي: إذا أردتَ أن تقرأَ ﴿الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ تقدَّمَ الكلامُ في أولِ التفسيرِ على الاستعاذةِ وتفسيرِها ومذاهبِ الأئمةِ والقراءِ فيها مستوفىً في فصلِ الاستعاذةِ.
...
﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩)﴾.
[٩٩] ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ﴾ تسلُّط.
﴿عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ فإنَّهم لا يُطيعون أوامرَه، ولا يَقبلون وساوسَهُ إلا فيما يحتقرون على نُدورٍ وغَفْلَةٍ.
...
﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠)﴾.
[١٠٠] ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ يُطيعونه.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ﴾ أي: باللهِ ﴿مُشْرِكُونَ﴾ وقيل: الكنايةُ راجعةٌ على الشيطان؛ أي: والذينَ هم بسببهِ مشركونَ بالله.
...
﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)﴾.
[١٠١] ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾ أي: نَسَخْنا آيةً بآيةٍ مصلحةً للعبادِ.
﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ﴾ يا محمدُ ﴿مُفْتَرٍ﴾ مُخْتَلِقٌ ذلكَ من تلقاءِ نفسِك.
وتقدَّم ما رُوي عن قنبلٍ ويعقوبَ في (مُفْتَرٍ) عندَ (بَاقٍ).
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ حكمةَ الأحكامِ وبيان الناسخِ من المنسوخ، وعَبَّرَ بالأكثرِ مراعاةً لما كانَ عند قليلٍ منهم من توقُّفٍ وقلةِ مبالغةٍ في التكذيبِ والظنِّ.
...
﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)﴾.
[١٠٢] ﴿قُلْ﴾ رَدًّا عليهم: ﴿نَزَّلَهُ﴾ أي القرآنَ ﴿رُوحُ الْقُدُسِ﴾ هو جبريلُ عليه السلام. قرأ ابنُ كثير: (الْقُدْسِ) بإسكانِ الدالِ، والباقونَ: بضمِّها (٢).
﴿مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ بالصدقِ ﴿لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالناسخِ، ويعلمون صدقَ ذلكَ.
﴿وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ المنقادينَ لحكمِه.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٧٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٩٦).
[١٠٣] قال ابنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما: كانَ رسولُ الله - ﷺ - يعلِّمُ قَيْنًا بمكةَ اسمُه بلعامُ وكان نصرانيًّا أعجميَّ اللسانِ، فكانَ المشركون يرونَ رسولَ اللهِ - ﷺ - يدخلُ عليه ويخرجُ، فقالوا: إنما يعلِّمُه بلعامُ، فنزل تكذيبًا لهم وتهديدًا: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ (١) آدميٌّ، ثم أبطلَ قولَهم بقوله:
﴿لِسَانُ﴾ أي: لغةُ ﴿الَّذِي يُلْحِدُونَ﴾ يميلون ألسنتَهم ﴿إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ﴾ هو الذي لا يُفْصِحُ، وإن كانَ عربيًّا، والأعجميُّ: المنسوبُ إلى العجمِ وإنْ كانَ فَصيحًا، والأعرابيُّ: البدويُّ، والعربيُّ: منسوبٌ إلى العربِ وإنْ لم يكنْ فصيحًا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يَلْحَدُونَ) بفتح الياء والحاء من لَحَدَ، والباقون: بضمِّ الياءِ وكسرِ الحاءِ من أَلْحَدَ (٢).
﴿وَهَذَا﴾ أي: القرآن هو ﴿لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ فصيحٌ، المعنى: لسانُ الذي يُشيرونَ إليه أنه يعلِّمُ محمدًا - ﷺ - فيه عُجْمَةٌ، والقرآنُ ذو بيانٍ وفصاحةٍ، فكيفَ يصدرُ عن أعجميٍّ؟!
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٧٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٨٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٩٦).
[١٠٤] ثم تهدَّدَهم بقولهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ لا يصدِّقون أنها من عندِ الله.
﴿لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾ لا يرشدُهم ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرةِ.
...
﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٠٥)﴾.
[١٠٥] ثم أخبرَ تعالى أنَّ الكفارَ هم المفترونَ فقالَ: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ﴾ إشارةٌ إلى قريشٍ ﴿هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ على الحقيقةِ، لأن تكذيبَ الآياتِ والطعنَ فيها بهذهِ الخرافاتِ أعظمُ الكذبِ.
...
﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٦)﴾.
[١٠٦] رُوِيَ أنَّ عمارَ بنَ ياسرٍ سَبَّ النبيَّ - ﷺ - عندَ المشرِكينَ مُكْرَهًا، فقالَ المسلمونَ: قد كفرَ عمارٌ، فقالَ - ﷺ -: "كَلَّا، إِنَّ عَمَّارًا قَدْ مُلِئ إِيمانًا مِنْ قَرْنِهِ إِلىَ قَدَمِهِ، وَاخْتَلَطَ الإِيمَانُ بِلَحْمِهِ وَدَمِه"، فأتى عمارٌ رسولَ الله - ﷺ - فقال: نلتُ منكَ يا رسولَ الله، قالَ: "كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ؟ " قال: مطمئنًا،
﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ لم تتغيرْ عقيدتهُ، لا يدخلُ في هذا الحكمِ.
﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ أي: طابَ بهِ نفسًا.
﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ إذ لا أعظمَ من جرمِهِ.
واتفقَ الأئمةُ على أنَّ من أُكرِهَ على كلمةِ الكفر، يجوزُ له أن يقولَ بلسانه، وإذا قالَ غيرَ معتقدٍ بقلبِه، لا يكفرُ، وإن أَبى حتى يُقتل كانَ أفضلَ.
واختلفوا في طلاقِ المُكْرَهِ، فأجازه أبو حنيفةَ، وأبطَلَهُ الثلاثةُ، وأما المكره بحقٍّ، فهو مكلَّفٌ بالاتفاق.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (١٠٧)﴾.
[١٠٧] ﴿ذَلِكَ﴾ الوعيدُ ﴿بِأَنَّهُمُ﴾ الضميرُ لمن شرحَ بالكفرِ صدرًا.
﴿اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ﴾ بسببِ أنهم آثَروها عليها.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ لا يعصمُهم عن الزَّيْغِ.
[١٠٨] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ فصرَفَهم عن طريقِ الهدى، وسَدَّ طرقَ هذهِ الحواسِّ حتى لا ينتفعَ بها في اعتبارٍ ولا تأملٍ.
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ عما يراد بهم.
...
﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٠٩)﴾.
[١٠٩] ﴿لَا جَرَمَ﴾ تقدَّمَ تفسيرهُ ومذهبُ حمزةَ فيه.
﴿أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ المغبونون.
...
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)﴾.
[١١٠] ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا﴾ قرأ ابنُ عامرٍ: (فَتَنُوا) بفتحِ الفاءِ والتاءِ، يعني: مَنْ أسلمَ من المشركينَ الذين فَتَنوا المسلمينَ. وقرأ الباقون: بضمِّ الفاءِ وكسرِ التاء (١)، يعني: الذين فُتِنوا: عُذِّبوا ومُنِعوا من الإسلامِ، فَتَنَهم المشركون.
﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا﴾ أي: الفتنةِ والغفلةِ.
﴿لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قيل: نزلَتْ في عبدِ الله بنِ أبي سَرْحِ حينَ ارتدَّ، ثم أسلمَ وحَسُنَ إسلامُه.
...
﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١١١)﴾.
[١١١] ﴿يَوْمَ تَأْتِي﴾ المعنى: لغفورٌ رحيمٌ يوم تأتي ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ أي: ذو نَفْسٍ ﴿تُجَادِلُ﴾ تُحاجُّ.
﴿عَنْ نَفْسِهَا﴾ فالنفسُ الأولى هي المعروفةُ، والثانيةُ بمعنى الذاتِ؛ كما تقولُ: نفسُ الشيءِ وعينُه؛ أي: ذاتُه، المعنى: يومَ يأتي كلُّ إنسانٍ يُجادِلُ عن ذاتِه، لا فكرهَ له بغيرِه.
﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ﴾ جزاءَ.
﴿مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ لا ينقصون أجورَهم.
...
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢)﴾.
[١١٢] ثم ضربَ مثلًا بمن أنعمَ عليه فلم يَشْكُرْ، وأبطرَتْه النعمةُ فكفرَ، فقال: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً﴾ هي مكةُ ﴿كَانَتْ آمِنَةً﴾ لا يُهاجُ أهلُها،
﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا﴾ واسعًا ﴿مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ يُحْمَلُ إليها من البَرِّ والبحرِ.
﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾ جمعُ نعمةٍ، رُويَ أن أهلَها كانوا يستنجون بالخبزِ.
﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ﴾ أي: أهلَها ﴿لِبَاسَ الْجُوعِ﴾ أي: ابتلاهم به حتى أكلوا الجِيَفَ والكلابَ الميتةَ، حتى كانَ أحدُهم ينظرُ إلى السماءِ فيرى شبهَ الدخانِ من الجوع.
﴿وَالْخَوْفِ﴾ بِشَنِّ الغاراتِ عليهم من بُعوثِ النبيِّ - ﷺ - وسراياه التي كانت تُطيفُ بهم.
﴿بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ ولما كانَ الخوفُ يَتَغَشَّاهم من كلِّ جانبٍ تغشِّيَ الثوبِ للَّابسِ، استعارَ اللباسَ له، فكأنَّ اللباسَ قد صارَ جوعًا وخوفًا؛ كأنه قال: فأذاقَهم الله (١) ما يتغشَّاهم من الجوعِ والخوفِ.
...
﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١١٣)﴾.
[١١٣] ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ﴾ يعني: أهلَ مكةَ.
﴿رَسُولٌ مِنْهُمْ﴾ يعني: محمدًا - ﷺ -.
﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ في حالِ ظلمِهم.
[١١٤] ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ أَمَرَهم بأكلِ ما أحلَّ اللهُ لهم، وشكرِ ما أنعمَ عليهم بعدَما زجرَهم على الكفرِ، وهَدَّدَهم عليه بما ذكرَ من التمثيلِ والعذابِ الذي حلَّ بهم؛ صَدًّا لهم عن صنيعِ الجاهليةِ.
﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ تُطيعونَ.
...
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥)﴾.
[١١٥] ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تقدَّمَ تفسيرُ نظيرِها، ومذاهبُ القراءِ فيها، واختلافُ الأئمةِ في حكمِها في سورةِ البقرة.
...
﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (١١٦)﴾.
[١١٦] ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ﴾ أي: تنعَتُ ﴿أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ إشارة إلى ما تقدَّمَ من السائبةِ والوصيلةِ والحامِ، المعنى: لا تُحِلُّوا حرامًا، ولا تحرِّموا حلالًا؛ لتفتروا على اللهِ الكذبَ فتقولوا: إن الله أمرنا بها.
...
﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١٧)﴾.
[١١٧] ﴿مَتَاعٌ﴾ أي: بقاؤهم فيها متاعٌ.
﴿قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرةِ.
...
﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨)﴾.
[١١٨] ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ وهو ما ذُكر في سورةِ الأنعامِ، وهو كل ذي ظُفُرٍ ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾ بالتحريمِ.
﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بالمعاصي.
...
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)﴾.
[١١٩] ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ أي: بسببِها.
﴿ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾ والإصلاحُ: الاستقامةُ على التوبةِ.
﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا﴾ أي: بعدَ التوبةِ.
﴿لَغَفُورٌ﴾ لذلك السوءِ ﴿رَحِيمٌ﴾ يُثيب على الإنابةِ.
***
[١٢٠] ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ قرأ هشامٌ عن ابنِ عامرٍ: (إبراهام) بالألفِ في هذا الحرف والآتي (١).
﴿كَانَ﴾ وَحْدَهُ ﴿أُمَّةً﴾ من الأممِ؛ لكمالِه في جميعِ صفاتِ الخير ﴿قَانِتًا﴾ مُطيعًا.
﴿لِلَّهِ حَنِيفًا﴾ مائِلًا عن الباطلِ.
﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ كما زعموا؛ فإن قريشًا كانوا يزعمونَ أنهم (٢) على مِلَّتِهِ.
...
﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١)﴾
[١٢١] ﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ﴾ رُوي أنه كانَ لا يأكلُ إلَّا مع ضيفٍ، فجاءه فوجٌ من الملائكةِ في زِيِّ البشر، فقدَّم لهم الطعامَ، فخيلوا إليه أنَّ بهم جُذامًا، فقالَ: الآنَ وجبتْ مؤاكَلَتُكُمْ شكرًا لله على أنْ عافاني وابتلاكم.
﴿اجْتَبَاهُ﴾ اختارَهُ للنبوةِ ﴿وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ دينِ الإسلام.
...
﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢)﴾.
[١٢٢] ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ هي التنويهُ بذكرِه حتى ليسَ من أهلِ
(٢) "أنهم" ساقطة من "ت".
...
﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)﴾.
[١٢٣] ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ يا محمدُ.
﴿أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ بلْ كان قدوةً للموحِّدين.
...
﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)﴾.
[١٢٤] ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ﴾ تقدَّمَ تفسيرُه، وحكمُ طلبِ القاضي لليهوديِّ في يوم السبتِ في سورةِ البقرةِ، ونُبِّهَ عليه في الأعراف؛ أي: جُعِلَ تعظيمُه والتخلِّي فيه للعبادةِ.
﴿عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ أي: على نبيِّهم، وهم اليهودُ، أمرهم موسى عليه السلام أن يتفرغوا للعبادةِ يومَ الجمعة، فأبوا وقالوا: نريدُ يومَ السبت؛ لأنه تعالى فرغَ فيه من خلقِ السمواتِ والأرضِ، فألزمَهم اللهُ السبتَ، وشَدَّدَ الأمرَ عليهم، وقيل: معناه: إنما جُعِلَ وبالُ السبتِ، وهو المسخُ، على المختلفين فيه بتحليلِ الصيدِ تارةً، وتحريمه أُخرى، وتقدَّمَ ذكرُ القصةِ في سورةِ البقرةِ.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ بالمجازاةِ على الاختلاف بما يستحقُّه كلُّ فريقٍ.
[١٢٥] ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ أي: الإسلام. قرأ أبو عمرٍو: (سَبِيل ربِّكَ) بإدغام اللامِ في الراءِ (١).
﴿بِالْحِكْمَةِ﴾ بالمقالةِ المحكمةِ ﴿وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ التلطُّفِ من غيرِ تعنيفٍ، قالَ - ﷺ -: "أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولهِمْ" (٢).
﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ بالرفقِ واللينِ ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ وهو المجازي لهم، وهذا منسوخٌ بآيةِ السيف.
...
﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦)﴾.
[١٢٦] ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ لما مَثَّلَ المشركون بحمزةَ رضي الله عنه يومَ أُحُدٍ، قال النبيُّ - ﷺ -: "وَاللهِ لئن أَظْفَرَنِي اللهُ بِهِمْ لأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ"، فنزلت، وهو إشارةٌ إلى وجوب التقاصُصِ على السَّواءِ.
﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ﴾ على تركِ القِصاصِ ﴿لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ معناهُ:
(٢) رواه الديلمي في "مسند الفردوس" (١٦١١)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
وسنده ضعيف جدًّا، كما نقل العجلوني في "كشف الخفاء" (١/ ٢٢٦) عن السخاوي والسيوطي وغيرهما.
...
﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧)﴾.
[١٢٧] ثم صَرَّحَ بالأمرِ بالصبرِ، فقال لنبيه - ﷺ -: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ أي: بمعونتِهِ وتثبيتِهِ ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ إنْ لم يؤمنوا.
﴿وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ: (ضِيقٍ) بكسر الضادِ؛ أي: شِدَّة، وقرأ الباقون: بالفتحِ؛ أي: غَمٍّ (٢).
...
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)﴾.
[١٢٨] ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ المعاصيَ.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ في العملِ، والله أعلم.
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٧٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٩)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٦٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٠٠ - ٣٠١).