تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ "، ثُمَّ قَرَأَ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [١٩ ٣٩]، وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ " انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.
وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ بَعْدَ ذِكْرِهِ ذَبْحَ الْمَوْتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ " إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ " أَيْ: ذُبِحَ الْمَوْتُ، وَفِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ أُخَرَ غَيْرُ هَذَا تَرَكْنَاهَا لِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ، مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا: أَنَّهُ يُمِيتُ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ السَّاكِنِينَ بِالْأَرْضِ، وَيَبْقَى هُوَ جَلَّ وَعَلَا لِأَنَّهُ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [٥٥ ٢٦ - ٢٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [١٥ ٢٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا، أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ
«مُحَمَّدًا» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الْمُنَزَّلُ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ
«إِبْرَاهِيمَ» عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَتْلُو عَلَى النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ نَبَأَهُ مَعَ قَوْمِهِ وَدَعْوَتَهُ لَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ هُنَا مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ الْآيَةَ [١٩ ٤٢]، أَوْضَحَهُ فِي سُورَةِ
«الشُّعَرَاءِ» فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ [٢٦ ٦٩ - ٧٠].
فَقَوْلُهُ هُنَا: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، وَزَادَ فِي
«الشُّعَرَاءِ» أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ لِأَبِيهِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ قَالَهُ أَيْضًا لِسَائِرِ قَوْمِهِ، وَكَرَّرَ
423
تَعَالَى الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِهَذَا النَّهْيِ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [٦ ٧٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [٢٦ ٧٠ - ٧٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [٢١ ٥١ - ٥٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [٤٣ ٢٦ - ٢٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [٣٧ ٨٣ - ٨٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ الْآيَةَ [٦٠ ٤٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ، الظَّرْفُ الَّذِي هُوَ
«إِذْ» بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ
«إِبْرَاهِيمَ» فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ الْآيَةَ [١٩ ١٦]، وَقَدْ قَدَّمَنَا هُنَاكَ إِنْكَارَ بَعْضِهِمْ لِهَذَا الْإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [١٩ ٤١]، مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ عَلَى الْإِعْرَابِ الْمَذْكُورِ، وَالصِّدِّيقُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الصِّدْقِ، لِشِدَّةِ صِدْقِ إِبْرَاهِيمَ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ رَبِّهِ وَصِدْقِ لَهْجَتِهِ، كَمَا شَهِدَ اللَّهُ لَهُ بِصِدْقِ مُعَامَلَتِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [٥٣ ٣٧]، وَقَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [٢ ١٢٤].
وَمِنْ صِدْقِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ رَبَّهُ: رِضَاهُ بِأَنْ يَذْبَحَ وَلَدَهُ، وَشُرُوعُهُ بِالْفِعْلِ فِي ذَلِكَ طَاعَةً لِرَبِّهِ، مَعَ أَنَّ الْوَلَدَ فِلْذَةٌ مِنَ الْكَبِدِ.
424
لَكِنَّمَا أَوْلَادُنَا بَيْنَنَا أَكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ
قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا الْآيَةَ [٣٧ ١٠٣ - ١٠٥].
وَمِنْ صِدْقِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ رَبِّهِ: صَبْرُهُ عَلَى الْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [٢١ ٦٨]، وَقَالَ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ الْآيَةَ [٢٩ ٢٤].
وَذَكَرَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ فِي قِصَّتِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا رَمَوْهُ إِلَى النَّارِ لَقِيَهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ: هَلْ لَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، وَأَمَّا إِلَى اللَّهِ فَنَعَمْ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ لَا تَسْأَلُهُ؟ فَقَالَ: عِلْمُهُ بِحَالِي كَافٍ عَنْ سُؤَالِي.
وَمِنْ صِدْقِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ رَبَّهُ: صَبْرُهُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ فِرَارًا بِدِينِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [٢٩ ٢٦]، وَقَدْ هَاجَرَ مِنْ سَوَادِ الْعِرَاقِ إِلَى دِمَشْقَ: وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِنَهْيِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَبَيَانِ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، بَلْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَسَرَهَا وَجَعَلَهَا جُذَاذًا وَتَرَكَ الْكَبِيرَ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَلَمَّا سَأَلُوهُ هَلْ هُوَ الَّذِي كَسَرَهَا قَالَ لَهُمْ: إِنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ كَبِيرُ الْأَصْنَامِ، وَأَمَرَهُمْ بِسُؤَالِ الْأَصْنَامِ إِنْ كَانَتْ تَنْطِقُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [٢١ ٥٧ - ٦٧]، وَقَالَ تَعَالَى: فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [٣٧ ٩٢]، فَقَوْلُهُ: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ، أَيْ: مَالَ إِلَى الْأَصْنَامِ يَضْرِبُهَا ضَرْبًا بِيَمِينِهِ حَتَّى جَعَلَهَا جُذَاذًا، أَيْ: قِطَعًا مُتَكَسِّرَةً مِنْ قَوْلِهِمْ: جَذَّهُ: إِذَا قَطَعَهُ وَكَسَرَهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا، أَيْ: كَثِيرُ الصِّدْقِ، يُعْرَفُ
425
مِنْهُ أَنَّ الْكَذِبَاتِ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ كُلَّهَا فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الصِّدْقِ لَا مِنَ الْكَذِبِ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِهَذَا فِي سُورَةِ
«الْأَنْبِيَاءِ» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ، التَّاءُ فِيهِ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، فَالْأَصْلُ: يَا أَبِي كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَفِي النِّدَا «أَبَتِ أُمَّتِ» عَرِّضْ وَاكْسِرْ أَوِ افْتَحْ وَمِنَ الْيَاءِ التَّا عِوَضْ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لِمَ تَعْبُدُ أَصْلُهُ
«مَا» الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ
«اللَّامُ» فَحُذِفَ أَلِفُهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَمَا فِي الِاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ لَا تَجُوزُ بِالْقِيَاسِ، وَلِذَا يُوقَفُ عَلَى
«لِمَ» بِسُكُونِ الْمِيمِ لَا بِهَاءِ السَّكْتِ كَمَا فِي الْبَيْتِ، وَمَعْنَى عِبَادَتِهِ لِلشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ طَاعَتُهُ لِلشَّيْطَانِ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، فَذَلِكَ الشِّرْكُ شِرْكُ طَاعَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [٣٦ ٦٠ - ٦١]، كَمَا تَقَدَّمَ هَذَا الْمَبْحَثُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ
«الْإِسْرَاءِ» وَغَيْرِهَا.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُعَذَّبِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ، لِقَوْلِهِ هُنَا: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [١٩ ٤٥]، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ الْآيَةَ [٤ ٧٦]، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الْآيَةَ [٣ ١٧٥]، أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ [٧ ٣٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُزَيِّنُ لَهُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ فَيَتَّبِعُهُ فِي ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا فَلَا وَلِيَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الشَّيْطَانُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [١٦ ٦٣]، وَمَنْ كَانَ لَا وَلِيَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا الشَّيْطَانُ، تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُ يَنْفَعُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [١٩ ٤٣]،
426
يَعْنِي مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْوَحْيِ وَمَا أَلْهَمَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [٢١ ٥١]، وَمُحَاجَّةُ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ كَمَا ذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا أَثْنَى اللَّهُ بِهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا حُجَّةُ اللَّهِ آتَاهَا نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ الْآيَةَ [٦ ٨٣]، وَقَالَ تَعَالَى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي الْآيَةَ [٦ ٨٠]، وَكَوْنُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَارِدَةً فِي مُحَاجَّتِهِ لَهُمُ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ
«الْأَنْعَامِ» لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ أَصْلَ الْمُحَاجَّةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ
«الْأَنْعَامِ» وَفِي غَيْرِهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا
بَيِّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لِمَّا نَصَحَ أَبَاهُ النَّصِيحَةَ الْمَذْكُورَةَ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الرِّفْقِ وَاللِّينِ، وَإِيضَاحِ الْحَقِّ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ عِبَادَةِ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَمِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَوِلَايَةِ الشَّيْطَانِ - خَاطَبَهُ هَذَا الْخِطَابَ الْعَنِيفَ، وَسَمَّاهُ بِاسْمِهِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ
«يَا بُنَيَّ» فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ لَهُ
«يَا أَبَتِ» وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَاغِبٌ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، أَيْ: مُعْرِضٌ عَنْهَا لَا يُرِيدُهَا ; لِأَنَّهُ لَا يَعْبُدُ إِلَّا ال لَّهَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَهَدَّدَهُ بِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَمَّا يَقُولُهُ لَهُ لَيَرْجُمَنَّهُ) قِيَلَ بِالْحِجَارَةِ وَقِيلَ بِاللِّسَانِ شَتْمًا (وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِهَجْرِهِ مَلِيًّا أَيْ: زَمَانًا طَوِيلًا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَابَلَ أَيْضًا جَوَابَهُ الْعَنِيفَ بِغَايَةِ الرِّفْقِ وَاللِّينِ فِي قَوْلِهِ: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي الْآيَةَ [١٩ ٤٧]، وَخِطَابُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ الْجَاهِلِ بِقَوْلِهِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ قَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ خِطَابُ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْجُهَّالِ إِذَا خَاطَبُوهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [٢٥ ٦٣]، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [٢٨ ٥٥]، وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى هُنَا مِنْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أَقْنَعَ أَبَاهُ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، قَابَلَهُ أَبُوهُ بِالْعُنْفِ وَالشِّدَّةِ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ هُوَ عَادَةُ الْكُفَّارِ الْمُتَعَصِّبِينَ لِأَصْنَامِهِمْ، كُلَّمَا أُفْحِمُوا بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ لَجَئُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ الْقُوَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا قَالَ لَهُ الْكُفَّارُ عَنْ أَصْنَامِهِمْ:
427
لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ [٢١ ٦٥]، قَالَ: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [٢١ ٦٧]، فَلَمَّا أَفْحَمَهُمْ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ لَجَئُوا إِلَى الْقُوَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [٢١ ٦٨]، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ الْآيَةَ [٢٩ ٢٤]، وَقَوْلُهُ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ لَمَّا أَفْحَمَهُمْ بِالْحُجَّةِ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ الْآيَةَ [٢٧ ٥٦]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، يَعْنِي: لَا يَنَالُكَ مِنِّي أَذًى وَلَا مَكْرُوهٌ، بَلْ سَتَسْلَمُ مِنِّي فَلَا أُوذِيكَ، وَقَوْلُهُ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، وَعْدٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِاسْتِغْفَارِهِ لَهُ، وَقَدْ وَفَّى بِذَلِكَ الْوَعْدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ [١٩ ٤٧]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [١٤ ٤١].
وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمَّا بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَلَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [٩ ١١٤]، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ [٩ ١١٤]، وَالْمَوْعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ هُنَا: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي الْآيَةَ [١٩ ٤٧]، وَلَمَّا اقْتَدَى الْمُؤْمِنُونَ بِإِبْرَاهِيمَ فَاسْتَغْفَرُوا لِمَوْتَاهُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَغْفَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [٩ ١١٣]، ثُمَّ قَالَ: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ الْآيَةَ [٩ ١١٤]، وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ
«الْمُمْتَحِنَةِ» أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْمُشْرِكِينَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْأُسْوَةِ بِإِبْرَاهِيمَ، وَالْأُسْوَةُ الِاقْتِدَاءُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ - إِلَى قَوْلِهِ - إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [٦٠ ٤]، أَيْ: فَلَا أُسْوَةَ لَكُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا نَدِمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ حِينَ قَالَ فِيهِمْ: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ [٩ ١١٣]، بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ مَنْعَ ذَلِكَ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [٩ ١١٥].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي، يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ
«رَاغِبٌ» خَبَرًا
428
مُقَدَّمًا، وَ
«أَنْتَ» مُبْتَدَأً مُؤَخَّرًا، وَأَنْ يَكُونَ
«أَرَاغِبٌ» مُبْتَدَأً، وَ
«أَنْتَ» فَاعِلٌ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْإِعْرَابُ الْأَخِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْخَبَرِ التَّأْخِيرُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، الْوَجْهُ الثَّانِي هُوَ أَلَّا يَكُونَ فُصِلَ بَيْنَ الْعَامِلِ الَّذِي هُوَ
«أَرَاغِبٌ» ، وَبَيْنَ مَعْمُولِهِ الَّذِي هُوَ
«عَنْ آلِهَتِي» بِمَا لَيْسَ بِمَعْمُولٍ لِلْعَامِلِ ; لِأَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ هُوَ عَامِلًا فِي الْمُبْتَدَأِ، بِخِلَافِ كَوْنِ
«أَنْتَ» فَاعِلًا، فَإِنَّهُ مَعْمُولُ
«أَرَاغِبٌ» فَلَمْ يُفْصَلْ بَيْنَ
«أَرَاغِبٌ» وَبَيْنَ
«عَنْ آلِهَتِي» بِأَجْنَبِيٍّ، وَإِنَّمَا فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِمَعْمُولِ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ فَاعِلُهُ السَّادُّ مَسَدَّ خَبَرِهِ، وَالرَّغْبَةُ عَنِ الشَّيْءِ: تَرْكُهُ عَمْدًا لِلزُّهْدِ فِيهِ وَعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ
«النِّسَاءِ» الْفَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِمْ: رَغِبَ عَنْهُ، وَقَوْلِهِمْ: رَغِبَ فِيهِ. فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ الْآيَةَ [٤ ١٢٧]، وَالتَّحْقِيقُ فِي قَوْلِهِ
«مَلِيًّا» أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الزَّمَنُ الطَّوِيلُ وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهَلٍ:
فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الْجِبَالِ لِمَوْتِهِ وَبَكَتْ عَلَيْهِ الْمُرَمَّلَاتُ مَلِيًّا
وَأَصْلُهُ وَاوِيُّ اللَّامِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمِلَاوَةِ وَهِيَ مُدَّةُ الْعَيْشِ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ الْمَلَوَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ:
أَلَا يَا دِيَارَ الْحَيِّ بِالسَّبُعَانِ أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالْبِلَى الْمَلَوَانِ
وَقَوْلُ الْآخَرِ: نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِمٌ مَلَوَاهُمَا عَلَى كُلِّ حَالِ الْمَرْءِ يَخْتَلِفَانِ
وَقِيلَ: الْمَلَوَانِ فِي بَيْتِ ابْنِ مُقْبِلٍ: طَرَفَا النَّهَارِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا، أَيْ: لَطِيفًا بِي، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَيَّ، وَجُمْلَةُ: وَاهْجُرْنِي عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الْإِنْشَائِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ إِنْ سَفَحْتُهَا فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
فَجُمْلَةُ
«وَإِنَّ شِفَائِي» خَبَرِيَّةٌ، وَجُمْلَةُ
«وَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ» ... إِلَخْ إِنْشَائِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُ الْآخَرِ أَيْضًا: تُنَاغِي غَزَالًا عِنْدَ بَابِ ابْنِ عَامِرٍ وَكَحِّلْ مَآقِيَكَ الْحِسَانَ بِإِثْمِدِ
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ عَنْ سِيبَوَيْهَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: فَإِنْ
429
قُلْتَ: عَلَامَ عَطَفَ وَاهْجُرْنِي؟ قُلْتُ عَلَى مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ
«لَأَرْجُمَنَّكَ» أَيْ: فَاحْذَرْنِي وَاهْجُرْنِي ; لِأَنَّ لَأَرْجُمَنَّكَ تَهْدِيدٌ وَتَقْرِيعٌ. اهـ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ
«مُخْلَصًا» قِرَاءَتَيْنِ سَبْعِيَّتَيْنِ: قَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ اللَّامِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَصَهُ وَاصْطَفَاهُ: وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي الْآيَةَ [٧ ١٤٤]، وَمِمَّا يُمَاثِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [٣٨ ٤٦]، فَالَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ هُمُ الْمُخْلَصُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ
«مُخْلِصًا» بِكَسْرِ اللَّامِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [٩٨ ٥]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي الْآيَةَ [٣٩ ١٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَنَادَيْنَا مُوسَى مِنْ نَاحِيَةِ الْجَبَلِ، وَيَعْنِي بِالْأَيْمَنِ يَمِينَ مُوسَى ; لِأَنَّ الْجَبَلَ لَا يَمِينَ لَهُ وَلَا شِمَالَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: قَامَ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ وَعَنْ شِمَالِهَا، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ جَاءَتْ مُبَيَّنَةً فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا قَضَى الْأَجَلَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ صِهْرِهِ، وَسَارَ بِأَهْلِهِ رَاجِعًا مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ آنَسَ مِنْ جَانِبٍ الطُّورِ نَارًا، فَذَهَبَ إِلَى تِلْكَ النَّارِ لِيَجِدَ عِنْدَهَا مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلِيَأْتِيَ بِجَذْوَةٍ مِنْهَا لِيُوقِدَ بِهَا النَّارَ لِأَهْلِهِ لِيَصْطَلُوا بِهَا، فَنَادَاهُ اللَّهُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَشَفَّعَهُ فِي أَخِيهِ هَارُونَ فَأَرْسَلَهُ مَعَهُ، وَأَرَاهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُعْجِزَةَ الْعَصَا وَالْيَدِ لِيَسْتَأْنِسَ بِذَلِكَ قَبْلَ حُضُورِهِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ ; لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْعَصَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى صَارَتْ ثُعْبَانًا وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ، فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَمَا انْقَلَبَتْ ثُعْبَانًا لَمَّا طَالَبَهُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بِآيَةٍ، لَكَانَ ذَلِكَ غَيْرَ لَائِقٍ، وَلِأَجْلِ هَذَا مُرِّنَ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ لِيَكُونَ مُسْتَأْنِسًا غَيْرَ خَائِفٍ مِنْهَا حِينَ تَصِيرُ ثُعْبَانًا مُبِينًا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " طه ": وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [٢٠ ٨ - ١٣]،
430
وَقَوْلُهُ: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [١٩ ٥٢]، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي " طه ": فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.
وَقَوْلُهُ: بِقَبَسٍ، أَيْ: شِهَابٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي " النَّمْلِ ": أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [٢٠ ٧]، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْجَذْوَةِ فِي قَوْلِهِ: أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ [٢٨ ٢٩]، وَقَوْلُهُ: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [٢٠ ١٠]، أَيْ: مَنْ يَهْدِينِي إِلَى الطَّرِيقِ وَيَدُلُّنِي عَلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا ضَلُّوا الطَّرِيقَ، وَالزَّمَنُ زَمَنُ بَرْدٍ، وَقَوْلُهُ: آنَسْتُ نَارًا [٢٠ ١٠]، أَيْ: أَبْصَرْتُهَا، وَقَوْلُهُ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [٢٠ ١٢]، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لِأَنَّهُمَا كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ ذَكِيٍّ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ كَعْبٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي أَيُّوبَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ، وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَا يَصِحُّ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ لِلْعُلَمَاءِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ - أَيْ نَزْعِهِمَا مِنْ قَدَمَيْهِ - لِيُعَلِّمَهُ التَّوَاضُعَ لِرَبِّهِ حِينَ نَادَاهُ، فَإِنَّ نِدَاءَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، يَسْتَوْجِبُ مِنَ الْعَبْدِ كَمَالَ التَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أُمِرَ بِخَلْعِهِمَا احْتِرَامًا لِلْبُقْعَةِ، يَدُلُّ لَهُ أَنَّهُ أَتْبَعَ أَمْرَهُ بِخَلْعِهِمَا بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى [٢٠ ١٢]، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي) مِسْكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ (: أَنَّ " إِنَّ " مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ " طُوًى ": أَنَّهُ اسْمٌ لِلْوَادِي، فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْوَادِي أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ، أَيْ: اصْطَفَيْتُكَ بِرِسَالَتِي، كَقَوْلِهِ: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [٧ ١٤٤]، وَمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى النَّارِ، أَنَّ الْمُصْطَلِينَ بِالنَّارِ يَسْتَعْلُونَ الْمَكَانَ الْقَرِيبَ مِنْهَا، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الْأَعْشَى:
تُشَبُّ لِمَقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهَا وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلَّقُ
قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النَّمْلِ ": وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [٢٧ ٦ - ٩]، فَقَوْلُهُ فِي " النَّمْلِ ": فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ [٢٧ ٨]،
431
هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي " مَرْيَمَ ": وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [١٩ ٥٢]، وَقَوْلِهِ فِي " طه ": فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى [٢٠ ١١]، وَقَوْلُهُ: سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ [٢٧ ٧]، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي " طه ": أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [٢٠ ١٠]، أَيْ: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى الطَّرِيقِ فَيُخْبِرُنِي عَنْهَا فَآتِيكُمْ بِخَبَرِهِ عَنْهَا، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْقَصَصِ ": فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ الْآيَةَ [٢٨ ٢٩ - ٣٠].
فَالنِّدَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي " مَرْيَمَ "، وَطه، وَالنَّمْلِ " وَقَدْ بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَدَلَّتِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي رَأَى فِيهَا النَّارَ عَنْ يَمِينِ الْجَبَلِ الَّذِي هُوَ الطُّورُ، وَفِي يَمِينِ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ الَّذِي هُوَ طُوًى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ طُوًى اسْمٌ لَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ ابْنِ جَرِيرٍ: أَنَّ الْمُرَادَ يَمِينُ مُوسَى ; لِأَنَّ الْجَبَلَ وَمِثْلَهُ الْوَادِيَ لَا يَمِينَ لَهُ وَلَا شِمَالَ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ [٢٨ ٣٠]، أَيْ: مِنْ جَانِبِ الْوَادِي مِمَّا يَلِي الْجَبَلَ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ [٢٨ ٤٤]، فَهَذَا مِمَّا يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مُوسَى قَصَدَ النَّارَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَالْجَبَلُ الْغَرْبِيُّ عَنْ يَمِينِهِ. انْتَهَى مِنْهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ الْآيَةَ [١٩ ٥٢]، وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا الْآيَةَ [٢٨ ٤٦].
وَالنِّدَاءُ الْمَذْكُورُ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ نِدَاءُ اللَّهِ لَهُ، فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ أَسْمَعَهُ نَبِيَّهُ مُوسَى، وَلَا يُعْقَلُ أَنَّهُ كَلَامٌ مَخْلُوقٌ، وَلَا كَلَامٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي مَخْلُوقٍ كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ الْمَلَاحِدَةِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ غَيْرُ اللَّهِ: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [٢٧ ٩]، وَلَا أَنْ يَقُولَ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [٢٠ ١٤]، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ قَالَهُ مَخْلُوقٌ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [٧٩ ٢٤]، عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَذْكُرَهُ اللَّهُ فِي مَعْرِضِ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ.
فَقَوْلُهُ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [٢٠ ١٤]، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [٢٧ ٩]، صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ صَرَاحَةً لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِدِينِ الْإِسْلَامِ.
432
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [٢٨ ٣٠]، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: " مِنْ " الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ: أَتَاهُ النِّدَاءُ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي مِنْ قِبَلِ الشَّجَرَةِ، وَمِنَ الشَّجَرَةِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي بَدَلُ اشْتِمَالٍ ; لِأَنَّ الشَّجَرَةَ كَانَتْ نَابِتَةً عَلَى الشَّاطِئِ، كَقَوْلِهِ: لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ [٤٣ ٣٣].
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ الْآيَةَ،: قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَكَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ، وَأَسْمَعَهُ كَلَامَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ عَلَى مَا شَاءَ. انْتَهَى مِنْهُ، وَشَاطِئُ الْوَادِي جَانِبُهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى " الْأَيْمَنِ " فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ، وَقَوْلِهِ: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [١٩ ٥٢]، مِنَ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْبِلَادَ بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ النَّارَ الَّتِي رَآهَا مُوسَى " نُورٌ " وَهُوَ يَظُنُّهَا نَارًا، وَفِي قِصَّتِهِ أَنَّهُ رَأَى النَّارَ تَشْتَعِلُ فِيهَا وَهِيَ لَا تَزْدَادُ إِلَّا خُضْرَةً وَحُسْنًا، قِيلَ هِيَ شَجَرَةُ عَوْسَجٍ، وَقِيلَ شَجَرَةُ عَلِيقٍ، وَقِيلَ شَجَرَةُ عُنَّابٍ، وَقِيلَ سَمُرَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النَّمْلِ ": فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا [٢٧ ٨]، اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِـ مَنْ فِي النَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ " النَّمْلِ " فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ قَالُوا: بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ أَيْ: تَقَدَّسَ اللَّهُ وَتَعَالَى، وَقَالُوا: كَانَ نُورُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الشَّجَرَةِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ - أَوِ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ".
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَقَ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ فِي النَّارِ الَّتِي فِي الشَّجَرَةِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهَا نَارٌ أَوْ نُورٌ، سُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ بِـ مَنْ فِي النَّارِ سُلْطَانُهُ وَقُدْرَتُهُ، لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ صَرْفَ كِتَابِ اللَّهِ عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ
433
إِلَيْهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَيَّانَ فِي " الْبَحْرِ الْمُحِيطِ ": قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ: أَرَادَ بِمَنْ فِي النَّارِ: ذَاتَهُ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِعِبَارَاتٍ شَنِيعَةٍ مَرْدُودَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ ذُكِرَ أُوِّلَ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ: بُورِكَ مَنْ قُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي النَّارِ. انْتَهَى، أَنَّهُ أَصَابَ فِي تَنْزِيهِهِ لِلَّهِ عَنْ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ، وَلَمْ يُصِبْ فِيمَا ذَكَرَ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَعْنَى بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ، أَيْ: بُورِكَتِ النَّارُ لِأَنَّهَا نُورٌ، وَبُعْدُهُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ أَيْ: بُورِكَتِ الشَّجَرَةُ الَّتِي تَتَّقِدُ فِيهَا النَّارُ، وَبُعْدُهُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَيْضًا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، وَإِطْلَاقُ لَفْظَةِ " مَنْ " عَلَى الشَّجَرَةِ وَعَلَى مَا فِي النَّارِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ كَمَا تَرَى.
وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ إِلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي النَّارِ الَّتِي هِيَ نُورٌ مَلَائِكَةً وَحَوْلَهَا مَلَائِكَةٌ وَمُوسَى، وَأَنَّ مَعْنَى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ، أَيْ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ فِي ذَلِكَ النُّورِ، وَمَنْ حَوْلَهَا، أَيْ: وَبُورِكَ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ حَوْلَهَا، وَبُورِكَ مُوسَى لِأَنَّهُ حَوْلَهَا مَعَهُمْ، وَمِمَّنْ يُرْوَى عَنْهُ هَذَا: السُّدِّيُّ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ) فِي الْكَشَّافِ (: وَمَعْنَى أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا، بُورِكَ مَنْ فِي مَكَانِ النَّارِ وَمَنْ حَوْلَ مَكَانِهَا، وَمَكَانُهَا الْبُقْعَةُ الَّتِي حَصَلَتْ فِيهَا، وَهِيَ الْبُقْعَةُ الْمُبَارَكَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ [٢٨ ٣٠]، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ " أَنْ تَبَارَكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا "، وَعَنْهُ " بُورِكَتِ النَّارُ ".
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ، وَهَذَا تَحِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى، وَتَكْرِمَةٌ لَهُ كَمَا حَيَّا إِبْرَاهِيمَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ حِينَ دَخَلُوا إِلَيْهِ قَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَقَوْلُهُ: مَنْ فِي النَّارِ نَائِبُ فَاعِلِ " بُورِكَ " وَالْعَرَبُ تَقُولُ: بَارَكَكَ اللَّهُ، وَبَارَكَ فِيكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَبَارَكَ لَكَ، فَهِيَ أَرْبَعُ لُغَاتٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَبُورِكْتَ مَوْلُودًا وَبُورِكْتَ نَاشِئًا وَبُورِكْتَ عِنْدَ الشَّيْبِ إِذْ أَنْتَ أَشْيَبُ
وَقَالَ أَبُو طَالِبِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَرْثِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ:
434
لَيْتَ شِعْرِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْ رٍو وَلَيْتَ يَقُولُهَا الْمَحْزُونُ بُورِكَ الْمَيِّتُ الْغَرِيبُ كَمَا بُو رِكَ نَضْرُ الرَّيْحَانِ وَالزَّيْتُونُ
وَقَالَ آخَرُ: فَبُورِكَ فِي بَنِيكَ وَفِي بَنِيهِمْ إِذَا ذُكِرُوا وَنَحْنُ لَكَ الْفِدَاءُ
وَالْآيَاتُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ أَرَاهُ آيَةَ الْيَدِ وَالْعَصَا لِيَتَمَرَّنَ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ حُضُورِهِ عِنْدَ فِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ، وَأَنَّهُ وَلَّى مُدْبِرًا خَوْفًا مِنْهَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لَمَّا صَارَتْ ثُعْبَانًا جَاءَتْ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ " طه ": قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى [٢٠ ١٩ - ٢٢]، فَقَوْلُهُ: وَلَا تَخَفْ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَزِعَ مِنْهَا لَمَّا صَارَتْ ثُعْبَانًا مُبِينًا، كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي " النَّمْلِ وَالْقَصَصِ ".
وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ " طه " هَذِهِ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [٢٠ ٢٢]، أَيْ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، وَفِيهِ مَا يُسَمِّيهِ الْبَلَاغِيُّونَ احْتِرَاسًا، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النَّمْلِ ": يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [٢٧ ٩ - ١٢]، وَقَوْلِهِ فِي " الْقَصَصِ ": وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [٢٨ ٣١ - ٣٢]، وَالْبُرْهَانَانِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ، هُمَا الْيَدُ وَالْعَصَا، فَلَمَّا تَمَرَّنَ مُوسَى عَلَى الْبُرْهَانَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ هُوَ وَأَخُوهُ إِلَى فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ طَالَبُوهُ بِآيَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فَجَاءَهُمْ بِالْبُرْهَانَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلَمْ يَخَفْ مِنَ الثُّعْبَانِ الَّذِي صَارَتِ الْعَصَا إِيَّاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [٢٦ ٣٠ - ٣٣]، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي " النَّمْلِ، وَالْقَصَصِ ": وَلَمْ يُعَقِّبْ، أَيْ: لَمْ يَرْجِعْ مِنْ فِرَارِهِ مِنْهَا، يُقَالُ: عَقَّبَ الْفَارِسُ إِذَا كَرَّ بَعْدَ الْفِرَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
435
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [٢٦ ١٠ - ١٦]، فَهَذِهِ الْآيَاتِ تُبَيِّنُ أَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ أَخَاهُ، فَأَجَابَ رَبُّهُ جَلَّ وَعَلَا سُؤَالَهُ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْهِبَةَ فِي قَوْلِهِ: وَوَهَبْنَا، هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ وَاقِعَةٌ عَلَى رِسَالَتِهِ لَا عَلَى نَفْسِ هَارُونَ ; لِأَنَّ هَارُونَ أَكْبَرُ مِنْ مُوسَى، كَمَا قَالَهُ أَهْلُ التَّارِيخِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ) جَدَّهُ إِسْمَاعِيلَ (، وَأَثْنَى عَلَيْهِ - أَعْنِي إِسْمَاعِيلَ - بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَمِمَّا يُبَيِّنُ مِنَ الْقُرْآنِ شِدَّةَ صِدْقِهِ فِي وَعْدِهِ: أَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ بِصَبْرِهِ لَهُ عَلَى ذَبْحِهِ ثُمَّ وَفَّى بِهَذَا الْوَعْدِ، وَمَنْ وَفَّى بِوَعْدِهِ فِي تَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِلذَّبْحِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى عَظِيمِ صِدْقِهِ فِي وَعْدِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَهَذَا وَعْدُهُ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى وَفَاءَهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ الْآيَةَ [٣٧ ١٠٣]، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى دَلَالَةً وَاضِحَةً لَا لَبْسَ فِيهَا، وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي سُورَةِ
«الصَّافَّاتِ» ، وَثَنَاؤُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى نَبِيِّهِ إِسْمَاعِيلَ بِصِدْقِ الْوَعْدِ يُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ خِطَابِهِ أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ إِخْلَافَ الْوَعْدِ مَذْمُومٌ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ قَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [٩ ٧٧]، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [٦١ ٢ - ٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ:
«آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ [١٩ ٥٥]، قَدْ بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَى جَدِّهِ إِسْمَاعِيلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا الْآيَةَ [٢٠ ١٣٢]، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ امْتَثَلَ
437
هَذَا الْأَمْرَ، وَكَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا الْآيَةَ [٦٦ ٦]، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمْرُهُمْ أَهْلِيهِمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
مَسْأَلَةٌ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ مُطْلَقًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَلْزَمُ مُطْلَقًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ أَدْخَلَهُ بِالْوَعْدِ فِي وَرْطَةٍ لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَمِثَالُهُ مَا لَوْ قَالَ لَهُ: تَزَوَّجْ، فَقَالَ لَهُ: لَيْسَ عِنْدِي مَا أَصْدُقُ بِهِ الزَّوْجَةَ، فَقَالَ: تَزَوَّجْ وَالْتَزِمْ لَهَا الصَّدَاقَ وَأَنَا أَدْفَعُهُ عَنْكَ، فَتَزَوَّجَ عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَدْخَلَهُ بِوَعْدِهِ فِي وَرْطَةِ الْتِزَامِ الصَّدَاقِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ يَلْزَمُهُ، بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ دَلَّتْ بِظَوَاهِرِ عُمُومِهَا عَلَى ذَلِكَ وَبِأَحَادِيثَ، فَالْآيَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [١٧ ٣٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الْآيَةَ [٥ ١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا الْآيَةَ [١٦ ٩١]، وَقَوْلِهِ هُنَا: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ الْآيَةَ [١٩ ٥٤]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْأَحَادِيثُ كَحَدِيثِ
«الْعِدَةُ دَيْنٌ» فَجَعْلُهَا دَيْنًا دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِهَا، قَالَ صَاحِبُ كَشْفِ الْخَفَاءِ وَمُزِيلِ الْإِلْبَاسِ عَمَّا اشْتُهِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ:
«الْعِدَةُ دَيْنٌ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْقُضَاعِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظٍ: قَالَ: لَا يَعِدْ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ ثُمَّ لَا يُنْجِزْ لَهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:» الْعِدَةُ دَيْنٌ
«وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِذَا وَعَدَ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ فَلْيُنْجِزْ لَهُ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ» عَطِيَّةً
«وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مَوْقُوفًا، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: الْعِدَةُ دَيْنٌ، وَيْلٌ لِمَنْ وَعَدَ ثُمَّ أَخْلَفَ، وَيْلٌ لَهُ.» ثَلَاثًا، وَرَوَاهُ الْقُضَاعِيُّ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ فَقَطْ، وَالدَّيْلَمِيُّ أَيْضًا بِلَفْظِ:
«الْوَاعِدُ بِالْعِدَةِ مِثْلُ الدَّيْنِ أَوْ أَشَدُّ» أَيْ: وَعْدُ الْوَاعِدِ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ
«عِدَةُ الْمُؤْمِنِ دَيْنٌ، وَعِدَةُ الْمُؤْمِنِ كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ» ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ قُبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ اللَّيْثِيِّ مَرْفُوعًا:
«الْعِدَةُ عَطِيَّةٌ» .
وَلِلْخَرَائِطِيِّ فِي الْمَكَارِمِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا: أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ، فَقَالَتْ: عِدْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ الْعِدَةَ عَطِيَّةٌ» ، وَهُوَ فِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُدَ، وَكَذَا فِي الصَّمْتِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«الْعِدَةُ عَطِيَّةٌ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَقَالَ:
«مَا عِنْدِي مَا أُعْطِيكَ» قَالَ: فِي الْمَقَاصِدِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ وَطُرُقِهِ: وَقَدْ أَفْرَدْتُهُ مَعَ
438
مَا يُلَائِمُهُ بِجُزْءٍ. انْتَهَى مِنْهُ، وَقَدْ عَلَّمَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ عِنْدَ الدَّيْلَمِيِّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ بِالضَّعْفِ.
وَقَالَ شَارِحُهُ الْمُنَاوِيُّ: وَفِيهِ دَارِمُ بْنُ قَبِيصَةَ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: لَا يُعْرَفُ. اهـ. وَلَكِنْ قَدْ مَرَّ لَكَ أَنَّ طُرُقَهُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ عَلِيٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا قَدَّمْنَا رِوَايَتَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقُبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ الْكِنَانِيِّ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْمَبْحَثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، دَالَّةٌ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوَعْدَ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَنْ وَعَدَ رَجُلًا بِمَالٍ إِذَا أَفْلَسَ الْوَاعِدُ لَا يُضْرَبُ لِلْمَوْعُودِ بِالْوَعْدِ مَعَ الْغُرَمَاءِ، وَلَا يَكُونُ مِثْلَ دُيُونِهِمُ اللَّازِمَةِ بِغَيْرِ الْوَعْدِ، حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَفِيهِ مُنَاقَشَةٌ، وَحُجَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ إِدْخَالِهِ إِيَّاهُ فِي وَرْطَةٍ بِالْوَعْدِ فَيَلْزَمُ، وَبَيْنَ عَدَمِ إِدْخَالِهِ إِيَّاهُ فِيهَا فَلَا يَلْزَمُ، أَنَّهُ إِذَا أَدْخَلَهُ فِي وَرْطَةٍ بِالْوَعْدِ ثُمَّ رَجَعَ فِي الْوَعْدِ وَتَرَكَهُ فِي الْوَرْطَةِ الَّتِي أَدْخَلَهُ فِيهَا، فَقَدْ أَضَرَّ بِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَضُرَّ بِأَخِيهِ، لِلْحَدِيثِ
«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ مَالِكٌ: إِذَا سَأَلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَنْ يَهَبَ لَهُ الْهِبَةَ، فَيَقُولُ لَهُ نَعَمْ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ أَلَّا يَفْعَلَ، فَمَا أَرَى يَلْزَمُهُ، قَالَ مَالِكٌ: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهُ فَقَالَ نَعَمْ، وَثَمَّ رِجَالٌ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ فَمَا أَحَرَاهُ أَنْ يَلْزَمَهُ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ اثْنَانِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْعِدَةَ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا شَيْءٌ ; لِأَنَّهَا مَنَافِعُ لَمْ يَقْبِضْهَا فِي الْعَارِيَةِ لِأَنَّهَا طَارِئَةٌ، وَفِي غَيْرِ الْعَارِيَةِ هِيَ أَشْخَاصٌ وَأَعْيَانٌ مَوْهُوبَةٌ لَمْ تُقْبَضْ فَلِصَاحِبِهَا الرُّجُوعُ فِيهَا، وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ [١٩ ٥٤]، وَقَضَى ابْنُ أَشْوَعَ بِالْوَعْدِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَرَأَيْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشْوَعَ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَكَلَامُ الْبُخَارِيِّ الَّذِي ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْضَهُ، هُوَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ
«الشَّهَادَاتِ» : بَابُ مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ، وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ، وَقَضَى ابْنُ أَشْوَعَ بِالْوَعْدِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سُمْرَةَ وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ، قَالَ وَعَدَنِي فَوَفَّى لِي، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَرَأَيْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشْوَعَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا
439
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ.
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ أَبَا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَيْنٌ، أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنَا، قَالَ جَابِرٌ: فَقَلْتُ وَعَدَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِيَنِي هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، فَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ جَابِرٌ: فَعَدَّ فِي يَدِي خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَمِائَةٍ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: قَالَ: سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ فَأَسْأَلَهُ، فَقَدِمْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِذَا قَالَ فَعَلَ. انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَوْلُهُ فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ الْمَذْكُورِ
«وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ» يَعْنِي الْأَمْرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ، وَوَجْهُ احْتِجَاجِهِ بِآيَةِ: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ، أَنَّ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِصِدْقِ الْوَعْدِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ إِخْلَافَهُ مَذْمُومٌ فَاعِلُهُ، فَلَا يَجُوزُ، وَابْنُ الْأَشْوَعِ الْمَذْكُورُ هُوَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَشَوْعَ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ، كَانَ قَاضِيَ الْكُوفَةِ فِي زَمَانِ إِمَارَةِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ عَلَى الْعِرَاقِ، وَقَدْ وَقَعَ بَيَانُ رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي تَفْسِيرِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَهُوَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ رَآهُ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشْوَعَ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي
«الْفَتْحِ» ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجُّ بِهِ فِي الْقَوْلِ بِوُجُوبِ إِنْجَازِ الْوَعْدِ، وَصِهْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَثْنَى عَلَيْهِ بِوَفَائِهِ لَهُ بِالْوَعْدِ هُوَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ زَوْجُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، وَقَدْ وَعَدَهُ بِرَدِّ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ إِلَيْهِ، وَرَدَّهَا إِلَيْهِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الصِّهْرَ الْمَذْكُورَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى الْوَفَاءِ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ.
الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ صَحِيحٍ
440
مَشْهُورٍ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ:
«فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ» فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّدْقُ وَالْعَفَافُ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ صِفَةُ نَبِيٍّ وَالِاقْتِدَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاجِبٌ.
الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آيَةِ الْمُنَافِقِ، وَمَحِلُّ الدَّلِيلِ مِنْهُ قَوْلُهُ
«وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» فَكَوْنُ إِخْلَافِ الْوَعْدِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّسِمَ بِسِمَاتِ الْمُنَافِقِينَ.
الثَّالِثُ: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّتِهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَيْنٌ أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ... الْحَدِيثَ، فَجَعَلَ الْعِدَةَ كَالدَّيْنِ، وَأَنْجَزَ لِجَابِرٍ مَا وَعَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَالِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ.
الرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَيِّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ قَضَى أَطْيَبَهُمَا وَأَكْثَرَهُمَا، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ فَعَلَ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الِاقْتِدَاءُ بِالرُّسُلِ، وَأَنْ يَفْعَلُوا إِذَا قَالُوا، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مُنَاقَشَاتٌ مِنَ الْمُخَالِفِينَ.
وَمِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [٦١ ٣] ; لِأَنَّ الْمَقْتَ الْكَبِيرَ مِنَ اللَّهِ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالْقَوْلِ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ الشَّدِيدِ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي
«الْفَتْحِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى تَرْجَمَةِ الْبَابِ الْمَذْكُورَةِ: قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنْجَازُ الْوَعْدِ مَأْمُورٌ بِهِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمَوْعُودَ لَا يُضَارَبُ بِمَا وُعِدَ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ. اهـ.
وَنَقْلُ الْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ الْخِلَافَ مَشْهُورٌ لَكِنَّ الْقَائِلَ بِهِ قَلِيلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَجَلُّ مَنْ قَالَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْعَزِيزِ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْحَافِظِ فِي الْفَتْحِ، وَقَالَ أَيْضًا: وَخَرَّجَ بَعْضُهُمُ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْهِبَةِ، هَلْ تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ أَوْ قَبْلَهُ.
فَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ إِخْلَافَ الْوَعْدِ لَا يَجُوزُ، لِكَوْنِهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَلِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ، وَظَاهِرُ عُمُومِهِ يَشْمَلُ إِخْلَافَ الْوَعْدِ، وَلَكِنَّ الْوَاعِدَ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ إِنْجَازِ الْوَعْدِ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ وَلَا يُلْزَمُ بِهِ جَبْرًا، بَلْ يُؤْمَرُ بِهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ ; لِأَنَّهُ وَعْدٌ بِمَعْرُوفٍ مَحْضٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
441
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي
«الْأَنْعَامِ» : وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [٦ ٨٧]، كَمَا قَالَ فِي صِفَةِ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ
«مَرْيَمَ» : وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا [١٩ ٥٨].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ الْمَذْكُورِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ رَبِّهِمْ بَكَوْا وَسَجَدُوا، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ لَا خُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [١٧ ١٠٧ - ١٠٩]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [٥ ٨٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [٨ ٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [٣٩ ٢٣]، فَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا آيَاتِ رَبِّهِمْ تُتْلَى تَأَثَّرُوا تَأَثُّرًا عَظِيمًا، يَحْصُلُ مِنْهُ لِبَعْضِهِمُ الْبُكَاءُ وَالسُّجُودُ، وَلِبَعْضِهِمْ قُشَعْرِيرَةُ الْجِلْدِ وَلِينُ الْقُلُوبِ وَالْجُلُودِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَبُكِيًّا، جَمْعُ بَاكٍ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ
«مَرْيَمَ» فَسَجَدَ وَقَالَ: هَذَا السُّجُودُ، فَأَيْنَ الْبُكِيُّ؟ يُرِيدُ الْبُكَاءَ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ عَزَائِمَ السُّجُودِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا.
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ
«مِنْ بَعْدِهِمْ» رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ الْآيَةَ [١٩ ٥٨]، أَيْ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ خَلْفٌ، أَيْ: أَوْلَادُ سُوءٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ
«الْأَعْرَافِ» قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْخَلْفُ بِسُكُونِ اللَّامِ: الْأَوْلَادُ، الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَالْخَلَفُ بِفَتْحِ اللَّامِ: الْبَدَلُ، وَلَدًا كَانَ أَوْ غَرِيبًا، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْخَلَفُ بِالْفَتْحِ: الصَّالِحُ، وَبِالسُّكُونِ: الطَّالِحُ، قَالَ لَبِيدٌ:
443
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ
وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّدِيءِ مِنَ الْكَلَامِ: خَلْفٌ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ السَّائِرُ
«سَكَتَ أَلْفًا وَنَطَقَ خَلْفًا» ، فَخَلْفٌ فِي الذَّمِّ بِالْإِسْكَانِ، وَخَلَفٌ بِالْفَتْحِ فِي الْمَدْحِ، هَذَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ الْمَشْهُورُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفِ عُدُولُهُ» وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ، قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
لَنَا الْقَدَمُ الْأُولَى إِلَيْكَ وَخَلْفُنَا لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ
وَقَالَ آخَرُ: إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ أَغْلَقَ عَنَّا بَابَهُ ثُمَّ حَلَفْ لَا يُدْخِلُ الْبَوَّابُ إِلَّا مَنْ عَرَفْ عَبْدًا إِذَا مَا نَاءَ بِالْحِمْلِ وَقَفْ
وَيُرْوَى: خَضَفْ، أَيْ: رَدَمَ. انْتَهَى مِنْهُ، وَالرُّدَامُ: الضُّرَاطُ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ هَذَا الْخَلْفَ السَّيِّئَ الَّذِي خَلَفَ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ الْكِرَامِ كَانَ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْقَبِيحَةِ: أَنَّهُمْ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ، وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِإِضَاعَتِهِمُ الصَّلَاةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِإِضَاعَتِهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَمِمَّنْ يُرْوَى عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ، وَمُجَاهِدٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِضَاعَتُهَا الْإِخْلَالُ بِشُرُوطِهَا، وَمِمَّنِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِإِضَاعَتِهَا جَحْدُ وُجُوبِهَا، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ وَمَا قَبْلَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَقِيلَ: إِضَاعَتُهَا: إِقَامَتُهَا فِي غَيْرِ الْجَمَاعَاتِ، وَقِيلَ: إِضَاعَتُهَا: تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ وَالِاشْتِغَالُ بِالصَّنَائِعِ وَالْأَسْبَابِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَدْخُلُ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ تَأْخِيرَهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَعَدَمَ إِقَامَتِهَا فِي الْجَمَاعَةِ، وَالْإِخْلَالَ بِشُرُوطِهَا، وَجَحْدَ وُجُوبِهَا، وَتَعْطِيلَ الْمَسَاجِدِ مِنْهَا كُلُّ ذَلِكَ إِضَاعَةٌ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَنْوَاعُ الْإِضَاعَةِ تَتَفَاوَتُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي الْخَلْفِ الْمَذْكُورِينَ مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٍ، وَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَيُرْوَى عَنِ السُّدِّيِّ، وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتُونَ عِنْدَ ذَهَابِ الصَّالِحِينَ مِنْهَا، يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْأَزِقَّةِ زِنًى، وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أَهْلُ الْغَرْبِ، وَفِيهِمْ
444
أَقْوَالٌ أُخَرُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَكَوْنُهُمْ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِوَجِيهٍ عِنْدِي ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ [١٩ ٥٩]، صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَلَا يُمْكِنُ صَرْفُهَا إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ كَمَا تَرَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ خَلَفُوا أَنْبِيَاءَهُمْ وَصَالِحِيهِمْ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، فَأَضَاعُوا الصَّلَاةَ، وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَكُلُّ خَلْفٍ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ يَدْخُلُونَ فِي الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَامٌّ فِي اتِّبَاعِ كُلِّ مُشْتَهًى يَشْغَلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ بَنَى الْمُشَيَّدَ، وَرَكِبَ الْمَنْظُورَ، وَلَبِسَ الْمَشْهُورَ فَهُوَ مِمَّنِ اتَّبَعَ الشَّهَوَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْغَيَّ عَلَى كُلِّ شَرٍّ، وَالرَّشَادَ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ، قَالَ الْمُرَقَّشُ الْأَصْغَرُ:
فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا
فَقَوْلُهُ:
«وَمَنْ يَغْوِ» يَعْنِي وَمَنْ يَقَعْ فِي شَرٍّ، وَالْإِطْلَاقُ الْمَشْهُورُ هُوَ أَنَّ الْغَيَّ الضَّلَالُ، وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ
«غَيًّا» فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، مِنْهَا أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ جَزَاءَ غَيٍّ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ جَزَاءَ ضَلَالِهِمْ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: الزَّجَّاجُ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَلْقَ أَثَامًا [٢٥ ٦٨]، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَعْنَاهُ يَلْقَ مُجَازَاةَ آثَامِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيُشْبِهُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [٤ ١٠]، وَقَوْلُهُ: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [٢ ١٧٤]، فَأَطْلَقَ النَّارَ عَلَى مَا أَكَلُوا فِي بُطُونِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ الْحَرَامِ لِأَنَّهَا جَزَاؤُهُ، كَمَا أَطْلَقَ الْغَيَّ وَالْأَثَامَ عَلَى الْعَذَابِ لِأَنَّهُ جَزَاؤُهُمَا، وَمِنْهَا أَنَّ الْغَيَّ فِي الْآيَةِ الْخُسْرَانُ وَالْحُصُولُ فِي الْوَرَطَاتِ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَيْضًا
«غَيًّا» أَيْ: شَرًّا أَوْ ضَلَالًا أَوْ خَيْبَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ
«غَيًّا» فِي الْآيَةِ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَيْحٍ ; لِأَنَّهُ يَسِيلُ فِيهِ قَيْحُ أَهْلِ النَّارِ وَصَدِيدُهُمْ، وَهُوَ بَعِيدُ الْقَعْرِ خَبِيثُ الطَّعْمِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَشَفِيِّ بْنِ مَاتِعٍ.
445
وَجَاءَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ بِمُقْتَضَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«إِنَّ غَيًّا وَادٍ فِي جِنِّهِمْ» كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ غَيًّا، وَأَثَامًا: نَهْرَانِ فِي أَسْفَلِ جَهَنَّمَ، يَسِيلُ فِيهِمَا صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثَ أَبِي أُمَامَةَ صُدَيِّ بْنِ عَجْلَانَ الْبَاهِلِيِّ الَّذِي أَشَرْنَا لَهُ آنِفًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، أَيْ: ضَلَالًا فِي الْآخِرَةِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، وَمَدَارُ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ: أَنَّ أُولَئِكَ الْخَلْفُ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ سَوْفَ يَلْقَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابًا عَظِيمًا.
فَإِذَا عَرَفْتَ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَعَّدَ فِيهَا مَنْ أَضَاعَ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعَ الشَّهَوَاتِ بِالْغَيِّ الَّذِي هُوَ الشَّرُّ الْعَظِيمُ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ فِي ذَمِّ الَّذِينَ يُضَيِّعُونَ الصَّلَاةَ وَلَا يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا وَتَهْدِيدِهِمْ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [١٠٧ ٤ - ٧]، وَقَوْلِهِ فِي ذَمِّ الْمُنَافِقِينَ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [٤ ١٤٢]، وَقَوْلِهِ فِيهِمْ أَيْضًا: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [٩ ٥٤]، وَأَشَارَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ إِلَى ذَمِّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَتَهْدِيدِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [٤٧ ١٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [١٥ ٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [٧٧ ٤٦ - ٤٧]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْخَلَفَ الطَّيِّبِينَ لَا يُضَيِّعُونَ الصَّلَاةَ، وَلَا يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [٢٣ ١ - ١٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَكَقَوْلِهِ:
446
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [٧٩ ٤٠ - ٤١]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ الْجَاحِدَ لِوُجُوبِهَا، كَافِرٌ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ كُفْرًا مَا لَمْ يَتُبْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَرْكَ مَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ كَالْوُضُوءِ وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ كَتَرْكِهَا، وَجَحْدَ وَجُوبِهِ كَجَحْدِ وَجُوبِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَارِكِ صَلَاةٍ عَمْدًا تَهَاوُنًا وَتَكَاسُلًا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِوُجُوبِهَا، هَلْ هُوَ كَافِرٌ أَوْ مُسْلِمٌ، وَهَلْ يُقْتَلُ كُفْرًا أَوْ حَدًّا أَوْ لَا يُقْتَلُ؟ فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ فَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ كُفْرًا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا: الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَمَنْصُورٌ الْفَقِيهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ الْآيَةَ [٩ ١١]، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الْآيَةِ: أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ إِخْوَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنِ انْتَفَتْ عَنْهُمْ أُخُوَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ الْآيَةَ [٤٩ ١٠]، وَمِنْهَا حَدِيثُ جَابِرٍ الثَّابِتُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقَيْنِ، لَفْظُ الْمَتْنِ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ» ، وَلَفْظُ الْمَتْنِ فِي الْأُخْرَى: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» انْتَهَى مِنْهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ كَافِرٌ ; لِأَنَّ عَطْفَ الشِّرْكِ عَلَى الْكُفْرِ فِيهِ تَأْكِيدٌ قَوِيٌّ لِكَوْنِهِ كَافِرًا، وَمِنْهَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ، وَحَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْآتِيَيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَى قِتَالِ الْأُمَرَاءِ إِذَا لَمْ يُصَلُّوا، وَهُمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَعَ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَلَّا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، قَالَ:
«إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ» ، فَدَلَّ مَجْمُوعُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ كُفْرٌ بِوَاحٌ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ فِي سُورَةِ
«الْبَقَرَةِ» ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْعَهْدُ الَّذِي
447
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي) نَيْلِ الْأَوْطَارِ (فِي هَذَا الْحَدِيثِ: صَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْعِرَاقِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ) الْمُهَذَّبِ (: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، لَا تُعْرَفُ لَهُ عِلَّةٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَقَدِ احْتَجَّا جَمِيعًا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَاحْتَجَّ مُسْلِمٌ بِالْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا جَمِيعًا، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ الْفَقِيهُ بِبُخَارَى، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ أُنَيْفٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى تَصْحِيحِهِ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْمَذْكُورِ، وَقَالَ فِي أَثَرِ ابْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ: لَمْ يُتَكَلَّمْ عَلَيْهِ وَإِسْنَادُهُ صَالِحٌ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ الْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
«لَمْ يُتَكَلَّمْ عَلَيْهِ» سَهْوٌ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِ عَلَى حَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْمَذْكُورِ آنِفًا، حَيْثُ قَالَ: وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا جَمِيعًا، يَعْنِي أَثَرَ ابْنِ شَقِيقٍ الْمَذْكُورِ كَمَا تَرَى، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ التَّابِعِيِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى جَلَالَتِهِ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. انْتَهَى مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَلَامِهِ هَذَا الِاتِّفَاقَ عَلَى جَلَالَةِ ابْنِ شَقِيقٍ الْمَذْكُورِ مَعَ أَنَّ فِيهِ نَصْبًا، وَقَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى: وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. اهـ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ رِوَايَةَ الْحَاكِمِ فِيهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَرِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ لَيْسَ فِيهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ، وَأَثَرُ ابْنِ شَقِيقٍ الْمَذْكُورَانِ فِيهِمَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا تَهَاوُنًا كُفْرٌ، وَلَوْ أَقَرَّ تَارِكُهَا بِوُجُوبِهَا، وَبِذَلِكَ يَعْتَضِدُ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمَذْكُورُ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ كُفْرٌ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ
448
خَلَفٍ» اهـ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوْضَحُ دَلَالَةٍ عَلَى كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ انْتِفَاءَ النُّورِ وَالْبُرْهَانِ وَالنَّجَاةِ، وَالْكَيْنُونَةَ مَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى الْكُفْرِ كَمَا تَرَى، وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِي) مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ (فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَرِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ. اهـ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، مِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ، وَذَكَرَ طَرَفًا مِنْهَا الْهَيْثَمِيُّ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ.
وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا تَهَاوُنًا وَتَكَاسُلًا إِذَا كَانَ مُعْتَرِفًا بِوُجُوبِهَا غَيْرُ كَافِرٍ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا - كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ - لَا كُفْرًا، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ لِلْأَكْثَرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ بَلْ يُفَسَّقُ وَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلْنَاهُ حَدًّا كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَلَكِنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ. اهـ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَهُمَا عَدَمُ كُفْرِهِ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ، وَهَذِهِ أَدِلَّتُهُمْ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا، أَمَّا أَدِلَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ:
فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [٩ ٥]، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ اشْتَرَطَ فِي تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ إِقَامَتَهُمُ الصَّلَاةَ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الشَّرْطِ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُقِيمُوهَا لَمْ يُخَلَّ سَبِيلُهُمْ وَهُوَ كَذَلِكَ.
) وِمِنْهَا (مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا» اهـ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا تُعْصَمُ دِمَاؤُهُمْ وَلَا أَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ كَمَا تَرَى.
وَمِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ بِالْيَمَنِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَهَبِيَّةٍ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ:
«وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ» ؟ ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: «لَا، لَعَلَّهُ أَنْ
449
يَكُونَ يُصَلِّي» فَقَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
«لَا» يَعْنِي لَا تَقْتُلْهُ، وَتَعْلِيلُهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ
«لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي» فِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُصَلِّ يُقْتَلْ، وَهُوَ كَذَلِكَ.
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ:
«لَا مَا صَلَّوْا» هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَ
«مَا» فِي قَوْلِهِ
«مَا صَلَّوْا» مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ: لَا تُقَاتِلُوهُمْ مُدَّةَ كَوْنِهِمْ يُصَلُّونَ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُصَلُّوا قُوتِلُوا، وَهُوَ كَذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ:
«إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» ، فَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ هَذَا وَنَحْوُ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْآتِي يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ، وَبِضَمِيمَةِ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ إِلَى ذَلِكَ يَظْهَرُ الدَّلِيلُ عَلَى الْكُفْرِ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ:
«إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا.» الْحَدِيثَ، وَأَشَارَ فِي حَدِيثٍ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ: إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ تَرَكُوا الصَّلَاةَ قُوتِلُوا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَرْكَهَا مِنَ الْكُفْرِ الْبَوَاحِ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ أَهْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَحَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ: قَالَ:
«خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ قَالَ:
«لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ.» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى قِتَالِهِمْ إِذَا لَمْ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ كَمَا تَرَى.
وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ يُسَارُّهُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَجَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
«أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ؟ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ، قَالَ:
«أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» ؟ قَالَ: بَلَى وَلَا شَهَادَةَ لَهُ، قَالَ:
«أَلَيْسَ يُصَلِّي» ؟ قَالَ: بَلَى وَلَا صَلَاةَ لَهُ، قَالَ: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي
450
اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ» اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ: عَنْهُمْ.
هَذَا هُوَ خُلَاصَةُ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ مَنْ قَالَ بِقَتْلِهِ يَقُولُونَ إِنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُضْرَبُ بِالْخَشَبِ حَتَّى يَمُوتَ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يُنْخَسُ بِحَدِيدَةٍ أَوْ يُضْرَبُ بِخَشَبَةٍ، وَيُقَالُ لَهُ: صَلِّ وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ، وَلَا يَزَالُ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ أَوْ يَمُوتَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِتَابَتِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُسْتَتَابُ ; لِأَنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا وَالْحُدُودُ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الضَّرُورِيِّ إِلَّا قَدْرُ رَكْعَةٍ وَلَمْ يُصَلِّ قُتِلَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ، وَقِيلَ: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَضِيقَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ الْمَتْرُوكَةِ مَعَ الْأُولَى، وَالْأُخْرَى: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَضِيقَ وَقْتُ الرَّابِعَةِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ، وَأَنَّهُ يُسْتَتَابُ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ إِذَا تَابَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ فِي الْحَالِ، وَلَا يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ يَمْتَنِعُ مِنَ الصَّلَاةِ لِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنَ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ مَا يَسَعُ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا أَدِلَّةُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى عَدَمِ كُفْرِهِ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [٤ ١١٦]، وَمِنْهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمُخَدَّجِيَّ سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُ: إِنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ، فَقَالَ الْمُخَدَّجِيُّ: فَرُحْتُ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَاعْتَرَضْتُ لَهُ وَهُوَ رَائِحٌ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ، فَقَالَ عُبَادَةُ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» . انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ، إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ، وَالْمَتْنُ كَلَفْظِ الْمُوَطَّأِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ: أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنُ كَاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ
451
شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ عَنِ الْمُخَدَّجِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ...» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِمَعْنَاهُ قَرِيبًا مِنْ لَفْظِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ رِجَالَ هَذِهِ الْأَسَانِيدِ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ إِلَّا الْمُخَدَّجِيَّ الْمَذْكُورَ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَبِتَوْثِيقِهِ تَعْلَمُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ يَعْتَضِدُ بِهَا أَيْضًا، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ الْوَاسِطِيُّ، ثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ هَارُونَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ: زَعَمَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ، فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ، أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ.» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ بِمَعْنَاهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ الْمَذْكُورُ قِيلَ إِنَّهُ صَحَابِيٌّ مَدَنِيٌّ، وَقِيلَ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ الْمُرَادِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ، وَهُوَ ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَرِوَايَةُ الصُّنَابِحِيِّ الْمَذْكُورِ إِمَّا رِوَايَةُ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ ثِقَةٍ، وَبِهَا تَعْتَضِدُ رِوَايَةُ الْمُخَدَّجِيِّ الْمَذْكُورِ، وَرِجَالُ سَنَدِ أَبِي دَاوُدَ هَذَا غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ ثِقَاتٌ، مَعْرُوفُونَ لَا مَطْعَنَ فِيهِمْ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ صِحَّةَ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمَذْكُورِ.
وَقَالَ الزُّرْقَانِيُّ) فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ (: وَفِيهِ يَعْنِي حَدِيثَ عُبَادَةَ الْمَذْكُورَ أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ لَا يَكْفُرُ وَلَا يَتَحَتَّمُ عَذَابُهُ، بَلْ هُوَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَادَةَ بِنَحْوِهِ فِي أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَالَ الْعَلَامَةُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي) نَيْلِ الْأَوْطَارِ (: وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَمِنْ حَدِيثٍ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الصُّنَابِحِيِّ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ) فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ (بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتَ الْمَذْكُورَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ، لَمْ يُخْتَلَفْ عَنْ مَالِكٍ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَعَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمُخَدَّجِيَّ الْمَذْكُورَ فِي سَنَدِهِ مَجْهُولٌ؟ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّ
452
صِحَّتَهُ مِنْ قَبِيلِ الشَّوَاهِدِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَإِنَّهَا تُصَيِّرُهُ صَحِيحًا، وَالثَّانِيَةُ هِيَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ تَوْثِيقِ ابْنِ حِبَّانَ الْمُخَدَّجِيَّ الْمَذْكُورَ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ الْمَذْكُورُ فِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِكُفْرٍ ; لِأَنَّ كَوْنَهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ، دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْكُفْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [٤ ١١٦].
وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ الْمُقِرَّ بِوُجُوبِهَا غَيْرُ كَافِرٍ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ، فَإِنْ أَتَمَّهَا وَإِلَّا قِيلَ انْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتِ الْفَرِيضَةُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ يُفْعَلُ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ الْمَفْرُوضَةِ مِثْلُ ذَلِكَ» اهـ.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي) نَيْلِ الْأَوْطَارِ (: الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ: طَرِيقَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ بِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ مُتَّصِلَةٌ بِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَكُلُّهَا لَا مَطْعَنَ فِيهَا، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ هُوَ وَلَا الْمُنْذِرِيُّ بِمَا يُوجِبُ ضَعْفَهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقٍ إِسْنَادُهَا جَيِّدٌ وَرِجَالُهَا رِجَالُ الصَّحِيحِ كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ وَصَحَّحَهَا ابْنُ الْقَطَّانِ، وَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْحَاكِمُ) فِي الْمُسْتَدْرَكِ (وَقَالَ: هَذَا صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَفِي الْبَابِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ) فِي الْمُسْتَدْرَكِ (وَقَالَ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى عَدَمِ كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ أَنَّ نُقْصَانَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَإِتْمَامَهَا مِنَ النَّوَافِلِ يَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهِ تَرْكَ بَعْضِهَا عَمْدًا، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ عُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا تَرَى.
وَقَالَ الْمَجْدُ) فِي الْمُنْتَقَى (بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَدِلَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَا عَلَى عَدَمِ كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ الْمُقِرِّ بِوُجُوبِهَا، مَا نَصُّهُ: وَيُعَضِّدُ هَذَا الْمَذْهَبَ عُمُومَاتٌ، وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ شَهِدَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ:
«يَا مُعَاذُ» ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
453
إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ:
«إِذًا يَتَّكِلُوا» فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا، أَيْ: خَوْفًا مِنَ الْإِثْمِ بِتَرْكِ الْخَبَرِ بِهِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
«أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابُهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا تَكَاسُلًا وَتَهَاوُنًا مَعَ إِقْرَارِهِ بِوُجُوبِهَا لَا يُقْتَلُ وَلَا يُكَفَّرُ، بَلْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ وَاحْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ كُفْرِهِ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا آنِفًا لِأَهْلِ الْقَوْلِ الثَّانِي، وَاحْتَجُّوا لِعَدَمِ قَتْلِهِ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ
«الْمَائِدَةِ» وَغَيْرِهَا:
«لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ» ، قَالُوا: هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، صَرَّحَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ دَمُ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا تَرْكَ الصَّلَاةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَتْلِ، قَالُوا: وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْتُمْ عَلَى قَتْلِهِ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِمَفَاهِيمِهَا أَعْنِي مَفَاهِيمَ الْمُخَالَفَةِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا بِمَنْطُوقِهِ وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ، مَعَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ الْمَفْهُومَ الْمَعْرُوفَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَعْتَرِفُ بِدَلَالَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى قَتْلِهِ ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِمَفْهُومِ مُخَالَفَتِهَا، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْطُوقِهِ، وَمِنْهَا قِيَاسُهُمْ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَى تَرْكِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ مَثَلًا، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُقْتَلْ تَارِكُهَا، فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ.
أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّهُ كَافِرٌ وَأَنَّهُ يُقْتَلُ، فَقَدْ أَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ عَامٌّ يُخَصَّصُ بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، وَعَنْ قِيَاسِهِ عَلَى تَارِكِ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ بِأَنَّهُ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قَتْلِهِ، وَعَنِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الْكُفْرِ بِأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ عَامٌّ يُخَصَّصُ بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى كُفْرِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ كَحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، فَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ
454
عَلَى كُفْرِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهَا أَصَحُّ مِنْهُ ; لِأَنَّ بَعْضَهَا فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِكُفْرِهِ وَشِرْكِهِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، مَعَ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَرَدَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ غَيْرُ كَافِرٍ أَدِلَّةَ مُخَالِفِيهِمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْكُفْرَ الْمُخْرِجَ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَاحْتَجُّوا لِهَذَا بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ يُصَرِّحُ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكُفْرِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ الْخُرُوجَ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ الْمَجْدُ) فِي الْمُنْتَقَى (: وَقَدْ حَمَلُوا أَحَادِيثَ التَّكْفِيرِ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ، أَوْ عَلَى مَعْنًى قَدْ قَارَبَ الْكُفْرَ وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أُرِيدَ بِهَا ذَلِكَ، فَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَحْلِفُ:
«وَأَبِي» فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ:
«مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مُدْمِنُ الْخَمْرِ إِنْ مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ» انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَأَمْثَالُهُ فِي السُّنَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ تَسْمِيَةُ الرِّيَاءِ شِرْكًا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«رَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
«بِكُفْرِهِنَّ» قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ:
«يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَخْرَجَ فِيهَا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، وَقَدْ أَطْلَقَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَ الْكُفْرِ عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا اسْتَفْسَرُوهُ عَنْ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ غَيْرُ الْكُفْرِ الْمُخْرِجِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ.
هَذَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَأَدِلَّتِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُوبِهَا، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَدِلَّةً عِنْدِي: قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَافِرٌ، وَأَجْرَى الْأَقْوَالَ عَلَى مُقْتَضَى الصِّنَاعَةِ الْأُصُولِيَّةِ وَعُلُومِ الْحَدِيثِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: إِنَّهُ كُفْرٌ غَيْرُ مُخْرِجٍ عَنِ الْمِلَّةِ لِوُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ إِذَا أَمْكَنَ، وَإِذَا حُمِلَ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ الْمَذْكُورَانِ فِي الْأَحَادِيثِ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي لَا يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ حَصَلَ بِذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ ; لِأَنَّ
455
إِعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ) فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ (بَعْدَ أَنْ سَاقَ أَدِلَّةَ مَنْ قَالُوا إِنَّهُ غَيْرُ كَافِرٍ، مَا نَصُّهُ: وَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ يُوَرِّثُونَ تَارِكَ الصَّلَاةِ وَيُوَرَّثُونَ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يُغْفَرْ لَهُ وَلَمْ يَرِثْ وَلَمْ يُورَثْ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ كَفَّرَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَبُرَيْدَةَ، وَرِوَايَةِ ابْنِ شَقِيقٍ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ شَارَكَ الْكَافِرَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيِّنٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ نُصُوصِ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ أَوْ نَامَ عَنْهَا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةٌ صَحِيحَةٌ:
) مِنْهَا (مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» .
) وِمِنْهَا (مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا:
«إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [٢٠ ١٤].
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:» مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [٢٠ ١٤].
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْمَهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ:
«إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ نَوْمِهِمْ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرَ، قَالَ: ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ.
وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَرَيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ عَرَّسْنَا فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى أَيْقَظَنَا حَرُّ الشَّمْسِ، فَجَعَلَ
456
الرَّجُلُ مِنَّا يَقُومُ دَهِشًا إِلَى طَهُورِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّيْنَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نُعِيدُهَا فِي وَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ؟ فَقَالَ:
«أَيَنْهَاكُمْ رَبُّكُمْ تَعَالَى عَنِ الرِّبَا وَيَقْبَلُهُ مِنْكُمْ» ؟ اهـ، وَأَصْلُ حَدِيثِ عِمْرَانَ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِمَا ذِكْرُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَلَا قَوْلُهُ: فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُعِيدُهَا إِلَى آخِرِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَضَاءَ النَّائِمِ وَالنَّاسِي لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَا وَأَمْثَالُهَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ الصَّلَوَاتِ الْفَوَائِتِ عَلَى الصَّلَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا» فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ. اهـ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعَصْرَ قَضَاءً بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَدَّمَهَا عَلَى الْمَغْرِبِ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي تَقْدِيمِ الْفَائِتَةِ عَلَى الْحَاضِرَةِ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُجَرَّدَةَ مِنْ قَرِينَةِ الْوُجُوبِ وَغَيْرِهِ تُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ، لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ بِالتَّأَسِّي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلِلِاحْتِيَاطِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ.
وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا خَلَعَ نَعْلَهُ فِي الصَّلَاةِ فَخَلَعَ أَصْحَابُهُ نِعَالَهُمْ تَأَسِّيًا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَهُ أَنَّ بِبَاطِنِهَا أَذًى، وَسَأَلَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَ خَلَعُوا نِعَالَهُمْ؟ وَأَجَابُوا بِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ خَلَعَ نَعْلَهُ - وَهُوَ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ مِنْ قَرَائِنِ الْوُجُوبِ وَغَيْرِهِ - أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى لُزُومِ التَّأَسِّي بِهِ فِي أَفْعَالِهِ الْمُجَرَّدَةِ مِنَ الْقَرَائِنِ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِالْإِرْسَالِ فَقَدْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ وَصْلَهُ.
وَالْأَدِلَّةُ الْكَثِيرَةُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ التَّأَسِّي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ شَاهِدَةٌ لَهُ، وَإِلَى كَوْنِ أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُجَرَّدَةِ مِنَ الْقَرَائِنِ تُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ أَشَارَ فِي
«مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي كِتَابِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ:
وَكُلُّ مَا الصِّفَةُ فِيهِ تُجْهَلْ فَلِلْوُجُوبِ فِي الْأَصَحِّ يُجْعَلْ
457
وَفِي حَمْلِهِ عَلَى الْوُجُوبِ مُنَاقَشَاتٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْأُصُولِ، انْظُرْهَا فِي) نَشْرِ الْبُنُودِ (وَغَيْرِهِ.
وَيُعْتَضَدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ فِعْلَهُ الْمُجَرَّدَ الَّذِي هُوَ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ الْفَائِتَةِ عَلَى الْمَغْرِبِ الْحَاضِرَةِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي) فَتْحِ الْبَارِي (فِي اسْتِدْلَالِ الْبُخَارِيِّ عَلَى تَقْدِيمِ الْأُولَى مِنَ الْفَوَائِتِ فَالْأُولَى بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: وَلَا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِمَنْ يَقُولُ بِتَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ، إِلَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُجَرَّدَةَ لِلْوُجُوبِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُسْتَدَلَّ لَهُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ:
«صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَقَدِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَشْيَاءَ غَيْرِ هَذَا. انْتَهَى مِنْهُ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُجَرَّدَةَ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْمَرَاقِي فِي الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَلِكَ عُمُومُ حَدِيثِ:
«صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» يَقْتَضِي ذَلِكَ أَيْضًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً فِي وَقْتِ حَاضِرَةٍ ضَيِّقٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُقَدِّمُ الْفَائِتَةَ وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ أَوْ لَا؟ إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْفَائِتَةَ وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ، هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجُلِّ أَصْحَابِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَبْدَأَ بِالْحَاضِرَةِ مُحَافَظَةً عَلَى الْوَقْتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِي تَقْدِيمِ مَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، قَالَ عِيَاضٌ: وَمَحِلُّ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ تَكْثُرِ الصَّلَوَاتُ الْفَوَائِتُ، فَأَمَّا إِذَا كَثُرَتْ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْحَاضِرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقَلِيلِ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ صَلَاةُ يَوْمٍ، وَقِيلَ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
أَمَّا تَرْتِيبُ الْفَوَائِتِ فِي أَنْفُسِهَا فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِهِ مَعَ الذِّكْرِ لَا مَعَ النِّسْيَانِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهَا بَلْ يُنْدَبُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ طَاوُسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُدَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ مُطْلَقًا، قَلَّتِ الْفَوَائِتُ أَمْ كَثُرَتْ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَزُفَرُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ نَسِيَ الْفَوَائِتَ صَحَّتِ الصَّلَوَاتُ الَّتِي صَلَّى بَعْدَهَا، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَوْ
458
ذَكَرَ فَائِتَةً وَهُوَ فِي حَاضِرَةٍ تَمَّمَ الَّتِي هُوَ فِيهَا ثُمَّ قَضَى الْفَائِتَةَ، ثُمَّ يَجِبُ إِعَادَةُ الْحَاضِرَةِ، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا إِلَّا وَهُوَ مَعَ الْإِمَامِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَلْيُعِدِ الصَّلَاةَ الَّتِي نَسِيَ، ثُمَّ لِيُعِدَ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا مَعَ الْإِمَامِ» ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي) شَرْحِ الْمُهَذَّبِ (وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، ضَعَّفَهُ مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْحَمَّالُ) بِالْحَاءِ (الْحَافِظُ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي وُجُوبُ تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ فِي أَنْفُسِهَا الْأُولَى فَالْأُولَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَغَلَنَا الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِي الْقِتَالِ مَا نَزَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [٣٣ ٢٥]، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَقَامَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ فَصَلَّاهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا لِوَقْتِهَا، ثُمَّ أَقَامَ الْعَصْرَ فَصَلَّاهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَذَّنَ لِلْمَغْرِبِ فَصَلَّاهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا. اهـ.
فَهَذَا الْإِسْنَادُ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ، فَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ هُوَ أَبُو حَفْصٍ الْفَلَّاسُ وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَيَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ وَجَلَالَتُهُ مَعْرُوفَةٌ، وَكَذَلِكَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ جَلَالَتُهُ مَعْرُوفَةٌ، وَسَعِيدُ بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ثِقَةٌ، فَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ الْفَوَائِتَ فِي الْقَضَاءِ: الْأُولَى فَالْأُولَى.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَفْعَالَهُ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْقَرَائِنِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَعْتَضِدُ بِحَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيَرْثِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ:
«صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي) نَيْلِ الْأَوْطَارِ (: وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ الْيَعْمُرِيِّ: إِنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنِ الْمُزَنِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ جَلِيلٌ. اهـ.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا هَنَّادٌ عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ
459
الْخَنْدَقِ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ. اهـ.
أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ: أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ الْمَكِّيَّ حَدَّثَهُمْ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا فِي غَزْوَةٍ فَحَبَسَنَا الْمُشْرِكُونَ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا فَأَقَامَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ فَصَلَّيْنَا، وَأَقَامَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ فَصَلَّيْنَا، وَأَقَامَ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَصَلَّيْنَا، وَأَقَامَ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ فَصَلَّيْنَا، ثُمَّ طَافَ عَلَيْنَا فَقَالَ:
«مَا عَلَى الْأَرْضِ عِصَابَةٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرُكُمْ» اهـ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي) نَيْلِ الْأَوْطَارِ (: إِنَّ إِسْنَادَهُ لَا بَأْسَ بِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِسْنَادَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ضَعْفٍ ; لِأَنَّ رَاوِيَهِ عَنْهُ ابْنُهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَرِوَايَتُهُ عَنْهُ مُرْسَلَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمُرْسَلَ يَعْتَضِدُ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي قَدَّمْنَا آنِفًا أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَمَنْ يَحْتَجُّ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْمُرْسَلِ يَحْتَجُّ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَعْتَضِدْ بِغَيْرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يُعَارِضُهُمَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ كَوْنِهِمْ شَغَلُوهُمْ عَنِ الْعَصْرِ وَحْدَهَا ; لِأَنَّ مَا فِيهِمَا زِيَادَةٌ، وَزِيَادَةُ الْعُدُولِ مَقْبُولَةٌ) وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ (وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ تَقْدِيمِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ خِلَافُ التَّحْقِيقِ.
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ وَأَصْحَابَهُمْ وَجَمَاهِيرَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا قَضَاهَا وَحْدَهَا وَلَا تَلْزَمُهُ زِيَادَةُ صَلَاةٍ أُخْرَى، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ:) بَابُ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا وَلَا يُعِيدُ إِلَّا تِلْكَ الصَّلَاةَ (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُعِدْ إِلَّا تِلْكَ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» ، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [٢٠ ١٤]، قَالَ مُوسَى: قَالَ هَمَّامٌ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدَ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [٢٠ ١٤]، وَقَالَ هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ،
460
حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ اهـ.
وَقَالَ فِي) فَتْحِ الْبَارِي (فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَتَرْجَمَتِهِ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُنَيِّرِ: صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ بِإِثْبَاتِ هَذَا الْحُكْمِ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، إِذِ الْوَاجِبُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ لَا أَكْثَرُ، فَمَنْ قَضَى الْفَائِتَةَ كَمَّلَ الْعَدَدَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلِكَوْنِهِ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْخِطَابِ، لِقَوْلِ الشَّارِعِ
«فَلْيُصَلِّهَا» وَلَمْ يَذْكُرْ زِيَادَةً، وَقَالَ أَيْضًا:
«لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» فَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذَا الْحَصْرِ أَنْ لَا يَجِبَ غَيْرُ إِعَادَتِهَا، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ مَنْ ذَكَرَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى صَلَاةً أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّهُ يُصَلِّي الَّتِي ذَكَرَ، ثُمَّ يُصَلِّي الَّتِي كَانَ صَلَّاهَا مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ. انْتَهَى مِنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ نَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى ضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ مَا نَصُّهُ: ثُمَّ قَالَ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا» اهـ.
فَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَإِذَا كَانَ الْغَدُ... إِلَخْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي الْفَائِتَةَ مَرَّتَيْنِ: الْأُولَى عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَالثَّانِيَةَ: عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ؟ فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا» فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فَقَضَاهَا لَا يَتَغَيَّرُ وَقْتُهَا وَيَتَحَوَّلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بَلْ يَبْقَى كَمَا كَانَ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ صَلَّى صَلَاةَ الْغَدِ فِي وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ وَلَا يَتَحَوَّلُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْضِي الْفَائِتَةَ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً فِي الْحَالِ، وَمَرَّةً فِي الْغَدِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا قَدَّمْنَاهُ، فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، وَاخْتَارَ الْمُحَقِّقُونَ مَا ذَكَرْتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنْهُ، وَهَذَا الَّذِي فَسَّرَ بِهِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا صَوَابُهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَكِنْ جَاءَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ النُّوَّمِ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَذْكُورَةِ مَا نَصُّهُ:
«فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ صَلَاةَ الْغَدِ مِنْ غَدٍ صَالِحًا فَلْيَقْضِ مَعَهَا مِثْلَهَا» اهـ، وَهَذَا اللَّفْظُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَقْضِي الْفَائِتَةَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرَ بِهِ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ لَفْظَ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ.
وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَجْوِبَةٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي (فَتْحِ الْبَارِي) بَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةِ مَا نَصُّهُ: قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمَ أَحَدًا قَالَ بِظَاهِرِهِ وُجُوبًا، قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِيهِ لِلِاسْتِحْبَابِ لِيَحُوزَ فَضِيلَةَ الْوَقْتِ فِي الْقَضَاءِ. انْتَهَى، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ أَيْضًا، بَلْ عَدُّوا الْحَدِيثَ غَلَطًا مِنْ رَاوِيهِ، حَكَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ
461
النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَقْضِيهَا لِوَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الرِّبَا وَيَأْخُذُهُ مِنْكُمْ» . انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الْفَتْحِ، وَحَدِيثُ عِمْرَانَ الْمَذْكُورُ قَدْ قَدَّمْنَاهُ وَذَكَرْنَا مَنْ أَخْرَجَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا تَكَاسُلًا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا وَهُوَ مُعْتَرِفٌ بِوُجُوبِهَا، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَقَدْ قَدَّمْنَا خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي كُفْرِهِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يَجْرِي عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمُرْتَدِّ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْكَافِرَ تَارَةً يَكُونُ كَافِرًا أَصْلِيًّا لَمْ يَسْبِقْ عَلَيْهِ إِسْلَامٌ، وَتَارَةً يَكُونُ كَافِرًا بِالرِّدَّةِ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْلِمًا.
أَمَّا الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [٨ ٣٨]، وَقَدْ أَسْلَمَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِقَضَاءِ شَيْءٍ فَائِتٍ فِي كُفْرِهِ.
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ مَعْرُوفٌ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ، وَلَا فِي زَمَنِ إِسْلَامِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ جَمِيعَ عَمَلِهِ وَتَجْعَلُهُ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَبْطَلَتْهَا رِدَّتُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهَا إِذَا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الْآيَةَ [٣٩ ٦٥]، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [٥ ٥]، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ وَزَمَنِ إِسْلَامِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تُبْطِلْهَا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْآيَةَ [٢ ٢١٧]، فَجَعَلَ الْمَوْتَ عَلَى الْكُفْرِ شَرْطًا فِي حُبُوطِ الْعَمَلِ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَبِالثَّانِي قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَجْرَى عَلَى الْأُصُولِ، لِوُجُوبِ
462
حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ كَمَا هُنَا.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ غَيْرُ كَافِرٍ فَقَدِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، هَلْ هُوَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِقَضَائِهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ بِالْقَضَاءِ أَوْ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَلَا بُدَّ لِلْقَضَاءِ مِنْ أَمْرٍ جَدِيدٍ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وِفَاقًا لِجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ الْمُوَقَّتَةِ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِقَضَائِهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَاعِدَةٍ هِيَ قَوْلُهُمْ: الْأَمْرُ بِالْمُرَكَّبِ أَمْرٌ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ بَعْضُ الْأَجْزَاءِ لَزِمَ فِعْلُ بَعْضِهَا الَّذِي لَمْ يَتَعَذَّرْ، فَالْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ الْمُوَقَّتَةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَمْرٌ بِمُرَكَّبٍ مِنْ شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: فِعْلُ الْعِبَادَةِ، وَالثَّانِي: كَوْنُهَا مُقْتَرِنَةً بِالْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لَهَا، فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الِاقْتِرَانُ بِالْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَبَقِيَ الْآخَرُ غَيْرَ مُتَعَذِّرٍ وَهُوَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ، فَيَلْزَمُ مِنَ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فِعْلُ الْجُزْءِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُرَكَّبِ أَمْرٌ بِأَجْزَائِهِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ صَدَّرَ بِهِ ابْنُ قَدَامَةَ فِي) رَوْضَةِ النَّاظِرِ (وَعَزَاهُ هُوَ وَالْغَزَالِيُّ فِي) الْمُسْتَصْفَى (إِلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِقَضَائِهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَاعِدَةٍ، وَهِيَ) أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِبَادَةِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ غَيْرِهِ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِ دُونَهَا فَائِدَةٌ (، قَالُوا: فَتَخْصِيصُهُ الصَّلَوَاتِ بِأَوْقَاتِهَا الْمُعَيَّنَةِ، وَالصَّوْمَ بِرَمَضَانَ مَثَلُهُ كَتَخْصِيصِ الْحَجِّ بِعَرَفَاتٍ، وَالزَّكَاةِ بِالْمَسَاكِينِ وَالصَّلَاةِ بِالْقِبْلَةِ، وَالْقَتْلِ بِالْكَافِرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْأَمْرَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءَ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - اخْتَلَفُوا فِي إِعَادَةِ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ عَمْدًا عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ تَارِكَهَا غَيْرُ كَافِرٍ، فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى وُجُوبِ إِعَادَتِهَا، قَالُوا: نَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْقَضَاءَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَمْرٍ جَدِيدٍ، وَلَكِنَّ الصَّلَاةَ الْمَتْرُوكَةَ عَمْدًا جَاءَتْ عَلَى قَضَائِهَا أَدِلَّةٌ، مِنْهَا: قِيَاسُ الْعَامِدِ عَلَى النَّاسِي وَالنَّائِمِ الْمَنْصُوصِ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا، قَالُوا: فَإِذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّاسِي فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِدِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُجَامِعَ فِي نَهَارِ
463
رَمَضَانَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا مَعَ الْكَفَّارَةِ، أَيْ: بَدَلَ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْسَدَهُ بِالْجِمَاعِ عَمْدًا، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ نَحْوَهُ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ.
وَمِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى التَّارِكِ عَمْدًا عُمُومُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ
«الْإِسْرَاءِ» الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» ، فَقَوْلُهُ:
«دَيْنُ اللَّهِ» اسْمُ جِنْسٍ مُضَافٌ إِلَى مَعْرِفَةٍ فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ دَيْنٍ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ الْآيَةَ [١٤ ٣٤]، فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَتْرُوكَةَ عَمْدًا دَيْنُ اللَّهِ فِي ذِمَّةِ تَارِكِهَا، فَدَلَّ عُمُومُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تُقْضَى، وَلَا مُعَارِضَ لِهَذَا الْعُمُومِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَيْسَ عَلَى التَّارِكِ لِلصَّلَاةِ عَمْدًا قَضَاءٌ ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ وَلَمْ يَأْتِ أَمْرٌ جَدِيدٌ بِقَضَاءِ التَّارِكِ عَمْدًا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا ابْنُ حَزْمٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَالْأَمْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءْ بَلْ هُوَ بِالْأَمْرِ الْجَدِيدِ جَاءْ لِأَنَّهُ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنِ يَجِي لِمَا عَلَيْهِ مِنْ نَفْعٍ بُنِي وَخَالَفَ الرَّازِيُّ إِذِ الْمُرَكَّبْ لِكُلِّ جُزْءٍ حُكْمُهُ يَنْسَحِبْ
تَنْبِيهٌ
سَبَبُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا تَجَاذَبَهَا أَصْلَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَنَظَرَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْأَمْرُ بِالْمُرَكَّبِ أَمْرٌ بِأَجْزَائِهِ، وَإِلَيْهِ نَظَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ.
وَالثَّانِي: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَخْتَصُّ بِالْوَقْتِ الْمَذْكُورِ، وَإِلَيْهِ نَظَرَ الْجُمْهُورُ، وَمِثْلُ هَذَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا لِلِاخْتِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ كَمَا أَشَارَ لَهُ الشَّيْخُ مَيَّارَةُ فِي التَّكْمِيلِ، بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ يَكُنْ فِي الْفَرْعِ تَقْرِيرَانِ بِالْمَنْعِ وَالْجَوَازِ فَالْقَوْلَانِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ وَعَدَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ جَنَّاتِ عَدْنٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ وَعْدَهُ مَأْتِيٌّ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَأْتُونَهُ وَيَنَالُونَ مَا وُعِدُوا بِهِ ; لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَا يُخْلِفُ
464
الْمِيعَادَ، وَأَشَارَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ الْآيَةَ [٣٠ ٦]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [١٣ ٣١]، وَقَوْلِهِ: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ الْآيَةَ [٣ ١٩٣ - ١٩٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا [١٧ ١٠٧ - ١٠٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا [٧٣ ١٧ - ١٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا [٢٥ ١٥ - ١٦]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلِهِ: مَأْتِيًّا، اسْمُ مَفْعُولِ
«أَتَاهُ» : إِذَا جَاءَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتُونَ مَا وُعِدُوا بِهِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَأْتِيًّا، صِيغَةُ مَفْعُولٍ أُرِيدَ بِهَا الْفَاعِلُ، أَيْ: كَانَ وَعْدُهُ آتِيًا، إِذْ لَا دَاعِيَ لِهَذَا مَعَ وُضُوحِ ظَاهِرِ الْآيَةِ.
تَنْبِيهٌ
مَثَّلَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدَلِ، وَهُوَ بَدَلُ الْكُلِّ مِنَ الْبَعْضِ، قَالُوا: جَنَّاتِ عَدْنٍ [١٩ ٦١]، بَدَلٌ مِنَ الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [١٩ ٦٠]، بَدَلُ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ.
قَالُوا: وَمِنْ أَمْثِلَةِ بَدَلِ الْكُلِّ مِنَ الْبَعْضِ قَوْلُهُ:
رَحِمَ اللَّهُ أَعْظُمًا دَفَنُوهَا بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ
فَـ
«طَلْحَةُ» بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ
«أَعْظُمًا» بَدَلُ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ، وَعَلَيْهِ فَأَقْسَامُ الْبَدَلِ سِتَّةٌ: بَدَلُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَبَدَلُ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، وَبَدَلُ الْكُلِّ مِنَ الْبَعْضِ، وَبَدَلُ الِاشْتِمَالِ، وَبَدَلُ الْبَدَاءِ، وَبَدَلُ الْغَلَطِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا يَتَعَيَّنُ عِنْدِي فِي الْآيَةِ وَالْبَيْتِ كَوْنُ الْبَدَلِ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ ; لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ لِلْجِنْسِ، وَإِذَا كَانَ لِلْجِنْسِ جَازَ أَنْ يُرَادَ بِهَا جَمِيعُ الْجَنَّاتِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: جَنَّاتِ عَدْنٍ، بَدَلًا مِنَ الْجَنَّةَ بَدَلَ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ
465
بِالْأَوَّلِ الْجَمْعُ كَمَا تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ، وَالْأَعْظُمُ فِي الْبَيْتِ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّخْصِ،
«فَطَلْحَةُ» بَدَلٌ مِنْهُ، بَدَلُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْفِنُوا الْأَعْظُمَ وَحْدَهَا، بَلْ دَفَنُوا الشَّخْصَ الْمَذْكُورَ جَمِيعَهُ، أَعْظُمَهُ وَغَيْرَهَا مِنْ بَدَنِهِ، وَعَبَّرَ هُوَ عَنْهُ بِالْأَعْظُمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَدْخَلَهُمْ رَبُّهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا [١٩ ٦٢]، أَيْ: فِي الْجَنَّاتِ الْمَذْكُورَةِ لَغْوًا، أَيْ: كَلَامًا تَافِهًا سَاقِطًا كَمَا يُسْمَعُ فِي الدُّنْيَا، وَاللَّغْوُ: هُوَ فُضُولُ الْكَلَامِ، وَمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ فُحْشُ الْكَلَامِ وَبَاطِلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ، وَقِيلَ الْعَجَّاجِ:
وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ
كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ
«الْمَائِدَةِ» .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا سَلَامًا، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ يَسْمَعُونَ فِيهَا سَلَامًا، لِأَنَّهُمْ يُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ الْآيَةَ [١٤ ٢٣]، وَقَوْلُهُ: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ الْآيَةَ [١٣ ٢٣ - ٢٤]، كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُنَا جَاءَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ فِي
«الْوَاقِعَةِ» : لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [٥٦ ٢٥ - ٢٦]، وَقَدْ جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ الْآيَةَ [٤ ١٥٧] : وَقَوْلِهِ: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [٩٢ ١٩ - ٢٠]، وَقَوْلِهِ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [٤٤ ٥٦]، وَكَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ الْآيَةَ [٤ ٢٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَكُلُّ الِاسْتِثْنَاءَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُنْقَطِعَةٌ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ:
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إِلَّا الْأَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا وَالنُّؤْيَ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ
فَالْأَوَارِيُّ الَّتِي هِيَ مَرَابِطُ الْخَيْلِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ
«الْأَحَدِ» .
وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
466
وَبِنْتِ كَرِيمٍ قَدْ نَكَحْنَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا خَاطِبٌ إِلَّا السِّنَانَ وَعَامِلَهْ
وَقَوْلُ جِرَانِ الْعَوْدِ: وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ
«فَالسِّنَانُ» لَيْسَ مِنْ جِنْسِ
«الْخَاطِبِ» وَ
«الْيَعَافِيرُ وَالْعِيسُ» لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ جِنْسِ
«الْأَنِيسِ» .
وَقَوْلُ ضِرَارِ بْنِ الْأَزْوَرِ: أُجَاهِدُ إِذْ كَانَ الْجِهَادُ غَنِيمَةً وَلَلَّهُ بِالْعَبْدِ الْمُجَاهِدِ أَعْلَمْ عَشِيَّةً لَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا وَلَا النَّبْلُ إِلَّا الْمَشْرِقِيَّ الْمُصَمِّمْ
وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا تَعَلْمُ صِحَّةَ وُقُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ كَمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأُصُولِيِّينَ خِلَافًا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِخْرَاجُ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ، وَغَيْرُ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي اللَّفْظِ أَصْلًا حَتَّى يَخْرُجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ.
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ يَحْصُلُ بِأَمْرَيْنِ يَتَحَقَّقُ بِوُجُودِهِمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَإِنِ اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَهُوَ مُنْقَطِعٌ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا حِمَارًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى بِنَقِيضِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَقِيضَ الْإِثْبَاتِ النَّفْيُ كَالْعَكْسِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتًا، وَمِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيًا، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى لَيْسَ نَقِيضَ الْحُكْمِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [٤٤ ٥٦]، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، مَعَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [٤ ٢٩]، وَإِنَّمَا كَانَ مُنْقَطِعًا فِي الْآيَتَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَى الْمُسْتَثْنَى بِنَقِيضِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَنَقِيضُ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا، هُوَ: يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ، وَهَذَا النَّقِيضُ الَّذِي هُوَ ذَوْقُ الْمَوْتِ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يُحْكَمْ بِهِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى بَلْ حُكِمَ بِالذَّوْقِ فِي الدُّنْيَا، وَنَقِيضُ
467
لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ كُلُوهَا بِالْبَاطِلِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ فِي الْمُسْتَثْنَى.
فَتَحَصَّلَ أَنَّ انْقِطَاعَ الِاسْتِثْنَاءِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا بِالْحُكْمِ عَلَى غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ أَخَوَيْكَ إِلَّا ثَوْبًا، الثَّانِي: بِالْحُكْمِ بِغَيْرِ النَّقِيضِ، نَحْوُ: رَأَيْتُ أَخَوَيْكَ إِلَّا زَيْدًا لَمْ يُسَافِرْ.
التَّنْبِيهُ الثَّانِي
اعْلَمْ أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ بَعْضُ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ، فَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ لِآخَرَ فَقَالَ لَهُ: عَلَيَّ أَلْفُ دِينَارٍ إِلَّا ثَوْبًا، فَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ يَكُونُ قَوْلُهُ
«إِلَّا ثَوْبًا» لَغْوًا وَتَلْزَمُهُ الْأَلْفُ كَامِلَةً، وَعَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ لَا يُلْغَى قَوْلُهُ
«إِلَّا ثَوْبًا» وَتَسْقُطُ قِيمَةُ الثَّوْبِ مِنَ الْأَلْفِ، وَالَّذِينَ قَالُوا تَسْقُطُ قِيمَتُهُ اخْتَلَفُوا فِي تَوْجِيهِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَجَازٌ، وَأَنَّهُ أَطْلَقَ الثَّوْبَ وَأَرَادَ قِيمَتَهُ، وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهِ إِضْمَارًا، أَيْ: حَذْفَ مُضَافٍ، يَعْنِي: إِلَّا قِيمَةَ ثَوْبٍ، فَمَنْ قَالَ يُقَدَّمُ الْمَجَازُ عَلَى الْإِضْمَارِ قَالَ
«إِلَّا ثَوْبًا» مَجَازٌ، أَطْلَقَ الثَّوْبَ وَأَرَادَ الْقِيمَةَ، كَإِطْلَاقِ الدَّمِ عَلَى الدِّيَةِ، وَمَنْ قَالَ يُقَدَّمُ الْإِضْمَارُ عَلَى الْمَجَازِ قَالَ
«إِلَّا ثَوْبًا» ، أَيْ: إِلَّا قِيمَةَ ثَوْبٍ، وَاعْتَمَدَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ تَقْدِيمَ الْمَجَازِ عَلَى الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ:
وَبَعْدَ تَخْصِيصٍ مَجَازٌ يَلِي الْإِضْمَارُ فَالنَّقْلُ عَلَى الْمُعَوَّلِ
وَمَعْنَى الْبَيْتِ: أَنَّ الْمُقَدَّمَ عِنْدَهُمُ التَّخْصِيصُ، ثُمَّ الْمَجَازُ، ثُمَّ الْإِضْمَارُ، ثُمَّ النَّقْلُ، مِثَالُ تَقْدِيمِ التَّخْصِيصِ عَلَى الْمَجَازِ إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [٩ ٥]، يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ كَالذِّمِّيِّينَ وَالْمُعَاهِدِينَ أَخْرَجَهُمْ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَحْتَمِلُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ أَنَّهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ، أَطْلَقَ فِيهِ الْكُلَّ وَأَرَادَ الْبَعْضَ، فَيُقَدَّمُ التَّخْصِيصُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّفْظَ يَبْقَى حَقِيقَةً فِي مَا لَمْ يُخْرِجْهُ الْمُخَصِّصُ، وَالْحَقِيقَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَجَازِ.
الثَّانِي أَنَّ اللَّفْظَ يَبْقَى مُسْتَصْحَبًا فِي الْأَفْرَادِ الْبَاقِيَةِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى قَرِينَةٍ، وَمِثَالُ تَقْدِيمِ الْمَجَازِ عَلَى الْإِضْمَارِ عِنْدَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، قَوْلُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا: أَنْتَ أَبِي، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ، مِنْ إِطْلَاقِ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ، أَيْ: أَنْتَ عَتِيقٌ ; لِأَنَّ الْأُبُوَّةَ يَلْزَمُهَا الْعِتْقُ، وَيَحْتَمِلُ الْإِضْمَارَ، أَيْ: أَنْتَ مِثْلُ أَبِي فِي الشَّفَقَةِ وَالتَّعْظِيمِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يُعْتَقُ، وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُعْتَقُ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي
468
نَحْنُ بِصَدَدِهَا، وَمِثَالُ تَقْدِيمِ الْإِضْمَارِ عَلَى النَّقْلِ عِنْدَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَرَّمَ الرِّبَا [٢ ٢٧٥]، يَحْتَمِلُ الْإِضْمَارَ، أَيْ: أَخْذُ الرِّبَا وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ مَثَلًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ حُذِفَ الدِّرْهَمُ الزَّائِدُ لَصَحَّ الْبَيْعُ فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمِ، وَيَحْتَمِلُ نَقْلَ الرِّبَا إِلَى مَعْنَى الْعَقْدِ، فَيَمْتَنِعُ عَقْدُ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَلَوْ حُذِفَ الزَّائِدُ فَلَا بُدَّ مِنْ عَقْدٍ جَدِيدٍ مُطْلَقًا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرُوهُمَا فِي:
«لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِينَارٍ إِلَّا ثَوْبًا» ، وَهُمَا الْإِضْمَارُ وَالنَّقْلُ يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى كَوْنِهِ مُتَّصِلًا ; لِأَنَّ قِيمَةَ الثَّوْبِ مِنْ جِنْسِ الْأَلْفِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْقِيمَةَ مُضْمَرَةٌ، أَوْ قُلْنَا إِنَّهَا مُعَبَّرٌ عَنْهَا بِلَفْظِ الثَّوْبِ.
التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ
اعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ ; لِأَنَّ الَّذِينَ مَنَعُوهُ لَمْ يَمْنَعُوهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ ; لِأَنَّ أَدَاةَ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ بِمَعْنَى
«لَكِنْ» فَهُوَ إِلَى الِاسْتِدْرَاكِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَبَعْضُ الْقَائِلِينَ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ يَقُولُ: إِنَّ الثَّوْبَ فِي الْمِثَالِ الْمُتَقَدِّمِ لَغْوٌ، وَيُعَدُّ نَدَمًا مِنَ الْمُقِرِّ بِالْأَلْفِ، وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ، قِيلَ إِنَّهَا نِسْبَةُ تَوَاطُؤٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، وَإِلَى مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَّصِلِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ، بِقَوْلِهِ:
وَالْحُكْمُ بِالنَّقِيضِ لِلْحُكْمِ حَصَلْ لِمَا عَلَيْهِ الْحُكْمُ قَبْلُ مُتَّصِلْ وَغَيْرُهُ مُنْقَطِعٌ وَرَجَّحَا جَوَازَهُ وَهُوَ مَجَازٌ أَوْضَحَا فَلْتُنْمِ ثَوَابًا بَعْدَ أَلْفِ دِرْهَمِ لِلْحَذْفِ وَالْمَجَازِ أَوْ لِلنَّدَمِ وَقِيلَ بِالْحَذْفِ لَدَى الْإِقْرَارِ وَالْعَقْدُ مَعْنَى الْوَاوِ فِيهِ جَارِ بِشَرِكَةٍ وَبِالتَّوَاطِي قَالَ بَعْضٌ وَأَوْجَبَ فِيهِ الِاتِّصَالَا
وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا [١٩ ٦٢]، مُنْقَطِعٌ، هُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَبِيلِ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، كَقَوْلِ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
469
وَقَوْلِ الْآخَرِ: فَمًا يَكُ فِيَّ مِنْ عَيْبٍ فَإِنِّي جَبَانُ الْكَلْبِ مَهْزُولُ الْفَصِيلِ
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا الْآيَةَ [٧ ١٢٦]، وَقَوْلِهِ: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [٩ ٧٤]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ
«بَرَاءَةَ» .
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فِيهِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ ذِكْرِ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، مَعَ أَنَّ الْجَنَّةَ ضِيَاءٌ دَائِمٌ وَلَا لَيْلَ فِيهَا، وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَجْوِبَةٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ قَدْرُ ذَلِكَ مِنَ الزَّمَنِ، كَقَوْلِهِ: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [٣٤ ١٢]، أَيْ: قَدْرُ شَهْرٍ، وَرُوِيَ مَعْنَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِمَا.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ فِي زَمَنِهَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَجَدَ غَدَاءً وَعَشَاءً فَذَلِكَ النَّاعِمُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُرَغِّبَةً لَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ عَنِ الدَّوَامِ بِالْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، وَالْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: أَنَا عِنْدَ فُلَانٍ صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَبُكْرَةً وَعَشِيًّا، يُرِيدُ الدَّيْمُومَةَ وَلَا يَقْصِدُ الْوَقْتَيْنِ الْمَعْلُومَيْنِ.
الْجَوَابُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْبُكْرَةُ هِيَ الْوَقْتَ الَّذِي قَبْلَ اشْتِغَالِهِمْ بِلَذَّاتِهِمْ، وَالْعَشِيُّ: هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ لَذَّاتِهِمْ ; لِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُهَا فَتَرَاتُ انْتِقَالٍ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَهَذَا يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ.
الْجَوَابُ الْخَامِسُ: هُوَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي) نَوَادِرِ الْأُصُولِ (مِنْ حَدِيثِ أَبَانٍ عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ، قَالَا: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ لَيْلٍ؟ قَالَ:
«وَمَا يُهَيِّجُكَ عَلَى هَذَا» ؟ قَالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَذْكُرُ: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فَقُلْتُ: اللَّيْلُ بَيْنَ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَيْسَ هُنَاكَ لَيْلٌ، إِنَّمَا هُوَ ضَوْءٌ وَنُورٌ، يَرِدُ الْغُدُوُّ عَلَى الرَّوَاحِ وَالرَّوَاحُ عَلَى الْغُدُوِّ، تَأْتِيهِمْ طُرَفُ الْهَدَايَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ الَّتِي كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ» . انْتَهَى
470
بِوَاسِطَةِ نَقْلِ صَاحِبِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَالْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ هَذَا: وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ لِمَعْنَى الْآيَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ) التَّذْكِرَةِ (، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، وَإِنَّمَا هُمْ فِي نُورٍ أَبَدًا، إِنَّمَا يَعْرِفُونَ مِقْدَارَ اللَّيْلِ مِنَ النَّهَارِ بِإِرْخَاءِ الْحُجُبِ، وَإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ، وَيَعْرِفُونَ مِقْدَارَ النَّهَارِ بِرَفْعِ الْحُجُبِ، وَفَتْحِ الْأَبْوَابِ، ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا. انْتَهَى مِنْهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ الْأَخِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعٌ إِلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. ٥٠
قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا، الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ [١٩ ٦٣]، إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ الْآيَةَ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُورِثُ الْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ جَنَّتَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ - إِلَى قَوْلِهِ - أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [٢٣ ١ - ١١]، وَقَوْلِهِ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الْآيَاتِ [٣ ١٣٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا الْآيَةَ [٣٩ ٧١]، وَقَوْلِهِ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٧ ٤٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَعْنَى إِيرَاثِهِمُ الْجَنَّةَ: الْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ بِالْخُلُودِ فِيهَا فِي أَكْمَلِ نَعِيمٍ وَسُرُورٍ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي) الْكَشَّافِ (: نُورِثُ أَيْ: نُبْقِي عَلَيْهِ الْجَنَّةَ كَمَا نُبْقِي عَلَى الْوَارِثِ مَالَ الْمَوْرُوثِ، وَلِأَنَّ الْأَتْقِيَاءَ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدِ انْقَضَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَثَمَرَتُهَا بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْجَنَّةُ، فَإِذَا أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ فَقَدْ أَوْرَثَهُمْ مِنْ تَقْوَاهُمْ كَمَا يُورِثُ الْوَارِثُ الْمَالَ مِنَ الْمُتَوَفَّى، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى إِيرَاثِهِمُ الْجَنَّةَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لِكُلِّ نَفْسٍ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلًا فِي النَّارِ، فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ; أَرَاهُمْ مَنَازِلَهُمْ فِي النَّارِ لَوْ كَفَرُوا وَعَصَوُا اللَّهَ لِيَزْدَادَ سُرُورُهُمْ وَغِبْطَتُهُمْ ; وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ الْآيَةَ [٧ ٤٣]، وَكَذَلِكَ يَرَى أَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ لَوْ آمَنُوا وَاتَّقَوُا اللَّهَ لِتَزْدَادَ نَدَامَتُهُمْ وَحَسْرَتُهُمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ:
لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ مَنَازِلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي النَّارِ لِأَهْلِ النَّارِ، وَمَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَرِثُونَ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِيرَاثِ الْمَذْكُورِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ يَدُلُّ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلًا فِي النَّارِ، إِلَّا أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَيْهِ غَيْرُ صَوَابٍ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرِثُونَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمُ الْمُعَدَّةَ لَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ، كَمَا قَدْ قَالَ تَعَالَى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٧ ٤٣]، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا مَا أُورِثُوا مِنْ مَنَازِلِ أَهْلِ النَّارِ وَالْوَاقِعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا تَرَى، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
«كُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ، هَدَانِي فَيَكُونُ لَهُ أَشْكْرَ، وَكُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي، فَيَكُونُ عَلَيْهِ حَسْرَةً» اهـ، وَعَلَّمَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَامَةَ الصِّحَّةِ، وَقَالَ شَارِحُهُ الْمُنَاوِيُّ: قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ رِجَالُ أَحْمَدَ رِجَالُ الصَّحِيحِ. اهـ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وَجَدَ عِظَامًا بَالِيَةً فَفَتَّتَهَا بِيَدِهِ وَقَالَ: زَعَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّا نُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، وَذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَقِيلَ: فِي أَبِي جَهْلٍ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَقَدْ أَسْنَدَ تَعَالَى هَذَا الْقَوْلَ لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ صَادِرٌ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ ; لِأَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْمُوعِ، مَعَ أَنَّ فَاعِلَهُ بَعْضُهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ، وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [٢ ١٩١]، مِنَ الْقَتْلِ فِي الْفِعْلَيْنِ، أَيْ: فَإِنْ قَتَلُوا بَعْضَكُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ بَعْضُكُمُ الْآخَرُ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَمِنْ أَظْهَرِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وَقَدْ ضَرَبُوا بِهِ نَبَا بِيَدَيْ وَرْقَاءَ عَنْ رَأْسِ خَالِدِ
472
فَقَدْ أَسْنَدَ الضَّرْبَ إِلَى بَنِي عَبْسٍ، مَعَ أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ الضَّارِبَ الَّذِي بِيَدِهِ السَّيْفُ هُوَ وَرْقَاءُ وَهُوَ ابْنُ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ الْعَبْسِيُّ، وَخَالِدٌ هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ الْكِلَابِيُّ، وَقِصَّةُ قَتْلِهِ لِزُهَيْرٍ الْمَذْكُورِ مَشْهُورَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ الْكَافِرَ يَقُولُ مُنْكِرًا الْبَعْثَ: أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا زَعْمًا مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مَقَالَتَهُ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، يَعْنِي: أَيَقُولُ الْإِنْسَانُ مَقَالَتَهُ هَذِهِ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَلَا يَذْكُرُ أَنَّا أَوْجَدْنَاهُ الْإِيجَادَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، بَلْ كَانَ عَدَمًا فَأَوْجَدْنَاهُ، وَإِيجَادُنَا لَهُ الْمَرَّةَ الْأُولَى دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى إِيجَادِهِ بِالْبَعْثِ مَرَّةً أُخْرَى.
وَهَذَا الْبُرْهَانُ الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُنَا قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنَّحْلِ وَغَيْرِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [٣٦ ٧٨ - ٧٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [٥٠ ١٥]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ [٥٦ ٦٢]، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ الْآيَةَ [٣٠ ٢٧]، وَقَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [١٧ ٥١]، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [٢٢ ٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [٢١ ١٠٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَرْوِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ:
«يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، وَآذَانِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤْذِيَنِي، أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي ; وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ آخِرِهِ، وَأَمَّا أَذَاهُ إِيَّايَ، فَقَوْلُهُ إِنَّ لِي وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ» ، فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ إِذَا، فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ جَزَاءُ الشَّرْطِ ; وَتَقْدِيرُهُ: أَأُخْرَجُ حَيًّا إِذَا مَا مِتُّ؟ أَيْ: حِينَ يَتَمَكَّنُ فِيَّ الْمَوْتُ وَالْهَلَاكُ أُخْرَجُ حَيًّا، يَعْنِي لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا تَقُولُ بِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِـ أُخْرَجُ، الْمَذْكُورِ فِي
473
قَوْلِهِ: لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، عَلَى الْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ، مِنْ أَنَّ الْعَامِلَ فِي
«إِذَا» هُوَ جَزَاؤُهَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ لَامَ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ: لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، مَانِعَةٌ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: الْيَوْمَ لَزَيْدٌ قَائِمٌ ; تَعْنِي لَزَيْدٌ قَائِمٌ الْيَوْمَ، وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ حَرْفَ التَّنْفِيسِ الَّذِي هُوَ سَوْفَ مَانِعٌ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهُ فِيمَا قَبْلَهُ أَيْضًا، حَتَّى إِنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ:
«أَئِذَا مَا مِتُّ سَأُخْرَجُ حَيًّا» بِدُونِ اللَّامِ يَمْتَنِعُ نَصْبُ
«إِذَا» بِـ
«أُخْرَجُ» الْمَذْكُورَةِ ; فَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ حَرْفَ التَّنْفِيسِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَدَلِيلُهُ وُجُودُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ; كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَلَمَّا رَأَتْهُ أُمُّنَا هَانَ وَجْدُهَا وَقَالَتْ أَبُونَا هَكَذَا سَوْفَ يَفْعَلُ
فَقَوْلُهُ
«هَكَذَا» مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ
«يَفْعَلُ» كَمَا أَوْضَحَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَعَلَيْهِ فَعَلَى قِرَاءَةِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ فَقَوْلُهُ:
«إِذَا» مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ:
«أُخْرَجُ» لِعَدَمِ وُجُودِ اللَّامِ فِيهَا وَعَدَمِ مَنْعِ حَرْفِ التَّنْفِيسِ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهُ فِيمَا قَبْلَهُ.
تَنْبِيهٌ
فَإِنْ قُلْتَ: لَامُ الِابْتِدَاءِ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُضَارِعِ تُعْطِي مَعْنَى الْحَالِ، فَكَيْفَ جَامَعَتْ حَرْفَ التَّنْفِيسِ الدَّالَّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّامَ هُنَا جُرِّدَتْ مِنْ مَعْنَى الْحَالِ، وَأُخْلِصَتْ لِمَعْنَى التَّوْكِيدِ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ جَامَعَتْ حَرْفَ الِاسْتِقْبَالِ كَمَا بَيَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ، وَتَعَقَّبَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ بِأَنَّ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ مَنْ يَمْنَعُ أَنَّ اللَّامَ الْمَذْكُورَةَ تُعْطِي مَعْنَى الْحَالِ، وَعَلَى قَوْلِهِ يَسْقُطُ الْإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، لَمَّا أَقَامَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا الْبُرْهَانَ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [١٩ ٦٧]، أَقْسَمَ جَلَّ وَعَلَا بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ يَحْشُرُهُمْ - أَيِ: الْكَافِرِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ - وَغَيْرَهُمْ مِنَ النَّاسِ، وَيَحْشُرُ مَعَهُمُ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ كَانُوا يُضِلُّونَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ يُحْضِرُهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَشَارَ إِلَيْهِمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، أَمَّا حَشْرُهُ لَهُمْ وَلِشَيَاطِينِهِمْ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [٣٧ ٢٢ - ٢٣]،
عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَاتِ، وَقَوْلِهِ:
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ [٤٣ ٣٨].
وَأَمَّا إِحْضَارُهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، فَقَدْ أَشَارَ لَهُ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٤٥ ٢٨]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: جِثِيًّا، جَمْعُ جَاثٍ، وَالْجَاثِي: اسْمُ فَاعِلِ: جَثَا يَجْثُو جُثُوًّا، وَجَثَى يَجْثِي جِثِيًّا: إِذَا جَلَسَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ أَوْ قَامَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، وَالْعَادَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا فِي مَوْقِفِ ضَنْكٍ وَأَمْرٍ شَدِيدٍ، جَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:
فَمَنْ لِلْحُمَاةِ وَمَنْ لِلْكُمَاةِ إِذَا مَا الْكُمَاةُ جَثَوْا لِلرُّكَبْ إِذَا قِيلَ مَاتَ أَبُو مَالِكٍ فَتَى الْمُكْرَمَاتِ قَرِيعُ الْعَرَبْ وَكَوْنُ مَعْنَى قَوْلِهِ: جِثِيًّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً الْآيَةَ [٤٥ ٢٨]، أَنَّهُ جِثِيُّهُمْ عَلَى رُكَبِهِمْ هُوَ الظَّاهِرُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَهُوَ الْإِطْلَاقُ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ ; وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ:
هُمْ تَرَكُوا سَرَاتَهُمْ جِثِيًّا وَهُمْ دُونَ السَّرَاةِ مُقَرَّنِينَا
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: جِثِيًّا، أَنَّ مَعْنَاهُ: جَمَاعَاتٍ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ جِثِيًّا، أَيْ: جَمْعًا جَمْعًا، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمْعُ
«جُثْوَةٍ» مُثَلَّثَةُ الْجِيمِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمَجْمُوعَةُ وَالتُّرَابُ الْمَجْمُوعُ، فَأَهْلُ الْخَمْرِ يَحْضُرُونَ حَوْلَ جَهَنَّمَ عَلَى حِدَةٍ، وَأَهْلُ الزِّنَى عَلَى حِدَةٍ ; وَأَهْلُ السَّرِقَةِ عَلَى حِدَةٍ. ; وَهَكَذَا، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ
هَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَكِنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ
«فُعْلَةً» كَجُثْوَةٍ، لَمْ يُعْهَدْ جَمْعُهَا عَلَى فُعُولٍ كَجُثِيٍّ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ جِثِيًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ إِتْبَاعًا لِلْكَسْرَةِ بَعْدَهُ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ:
«جُثِيًّا» بِضَمِّ الْجِيمِ عَلَى الْأَصْلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا.
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَنَنْزِعَنَّ [١٩ ٦٩]، أَيْ: لَنَسْتَخْرِجَنَّ
475
مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ، أَيْ: مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ، وَأَصْلُ الشِّيعَةِ فِعْلَةٌ كَفِرْقَةٍ، وَهِيَ الطَّائِفَةُ الَّتِي شَاعَتْ غَيْرَهَا، أَيْ: تَبِعَتْهُ فِي هُدًى أَوْ ضَلَالٍ ; تَقُولُ الْعَرَبُ: شَاعَهُ شِيَاعًا: إِذَا تَبِعَهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا، أَيْ: لَنَسْتَخْرِجَنَّ وَلَنُمَيِّزَنَّ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ أَعَصَاهُمْ فَأَعْصَاهُمْ، وَأَعْتَاهُمْ فَأَعْتَاهُمْ، فَيُبْدَأُ بِتَعْذِيبِهِ وَإِدْخَالِهِ النَّارَ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْكُفْرِ، وَالْإِضْلَالِ وَالضَّلَالِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الرُّؤَسَاءَ الْقَادَةَ فِي الْكُفْرِ يُعَذَّبُونَ قَبْلَ غَيْرِهِمْ وَيُشَدَّدُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ لِضَلَالِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ.
وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى هَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [١٦ ٨٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [٢٩ ١٣]، وَقَوْلِهِ: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [١٦ ٢٥]، وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ فِي أُمَمِ النَّارِ أُولَى وَأُخْرَى، فَالْأُولَى: الَّتِي يُبْدَأُ بِعَذَابِهَا وَبِدُخُولِهَا النَّارَ، وَالْأُخْرَى الَّتِي تَدْخُلُ بَعْدَهَا عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [٧ ٣٨ - ٣٩].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا [١٩ ٧٠]، يَعْنِي: أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُمْ أَنْ يَصْلَى النَّارَ، وَمَنْ هُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الرُّؤَسَاءَ وَالْمَرْءُوسِينَ كُلَّهُمْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ الْآيَةَ، وَالصِّلِيُّ: مَصْدَرُ صَلِيَ النَّارَ - كَرَضِيَ - يَصْلَاهَا صِلِيًّا) بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ (إِذَا قَاسَى أَلَمَهَا، وَبَاشَرَ حَرَّهَا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِ رَفْعِ
«أَيُّ» مَعَ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ ; لِأَنَّهُ مَفْعُولُ لَنَنْزِعَنَّ، فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وَمَنْ تَبِعَهُ إِلَى أَنَّ لَفْظَةَ
«أَيُّ» مَوْصُولَةٌ، وَأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضَّمِّ إِذَا كَانَتْ مُضَافَةً وَصَدْرُ صِلَتِهَا ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ كَمَا هُنَا، وَعَقَدَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
476
أَيٌّ كَمَا وَأُعْرِبَتْ مَا لَمْ تُضَفْ وَصَدْرُ وَصْلِهَا ضَمِيرٌ انْحَذَفْ
وَبَعْضُهُمْ أَعْرَبَ مُطْلَقًا.......... إِلَخْ.
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ سِيبَوَيْهَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُ غَسَّانَ بْنِ وَعْلَةَ:
إِذَا مَا لَقِيتَ بَنِي مَالِكٍ فَسَلِّمْ عَلَى أَيُّهُمْ أَفْضَلُ
وَالرِّوَايَةِ بِضَمِّ
«أَيُّهُمْ» ، وَخَالَفَ الْخَلِيلُ وَيُونُسُ وَغَيْرُهُمَا سِيبَوَيْهِ فِي
«أَيُّ» الْمَذْكُورَةِ، فَقَالَ الْخَلِيلُ: إِنَّهَا فِي الْآيَةِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مَحْكِيَّةٌ بِقَوْلٍ مُقَدَّرٍ وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ أَيُّهُمْ أَشَدُّ ; وَأَنْشَدَ الْخَلِيلُ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَلَقَدْ أَبِيتُ مِنَ الْفَتَاةِ بِمَنْزِلٍ فَأَبِيتُ لَا حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومُ
أَيْ: فَأَبِيتُ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: لَا هُوَ حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومٌ.
وَأَمَّا يُونُسُ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْضًا ; لَكِنَّهُ حَكَمَ بِتَعْلِيقِ الْفِعْلِ قَبْلَهَا بِالِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ عِنْدَهُ لَا يَخْتَصُّ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَاحْتَجَّ لِسِيبَوَيْهَ عَلَى الْخَلِيلِ وَيُونُسَ وَمَنْ تَبِعَهُمَا بِبَيْتِ غَسَّانَ بْنِ وَعْلَةَ الْمَذْكُورِ آنِفًا ; لِأَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ بِضَمِّ
«أَيُّهُمْ» ، مَعَ أَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ، لَا يُضْمَرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَعْمُولِهَا قَوْلٌ وَلَا تَعَلُّقٌ عَلَى الْأَصْوَبِ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ، وَمِمَّا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ النَّحْوِيِّينَ غَلَّطُوا سِيبَوَيْهَ فِي قَوْلِهِ هَذَا فِي
«أَيُّ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عِتِيًّا بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَصِلِيًّا بِكَسْرِ الصَّادِ لِلْإِتْبَاعِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ فِيهِمَا عَلَى الْأَصْلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِوُرُودِ النَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُرُودِ الدُّخُولُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَصْرِفُ أَذَاهَا عَنْ عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ عِنْدَ ذَلِكَ الدُّخُولِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِوُرُودِ النَّارِ الْمَذْكُورِ: الْجَوَازُ عَلَى الصِّرَاطِ ; لِأَنَّهُ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ.
477
الثَّالِثُ: أَنَّ الْوُرُودَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْإِشْرَافُ عَلَيْهَا وَالْقُرْبُ مِنْهَا.
الرَّابِعُ: أَنَّ حَظَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ الْوُرُودِ هُوَ حُرُّ الْحُمَّى فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَحَدِ الْمَعَانِي الدَّاخِلَةِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ بِكَوْنِهِ هُوَ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ، فَغَلَبَتُهُ فِيهِ دَلِيلٌ اسْتِقْرَائِيٌّ عَلَى عَدَمِ خُرُوجِهِ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَمْثِلَةً لِذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتَدَلَّ عَلَى الْمُرَادِ بِوُرُودِ النَّارِ فِي الْآيَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَإِيضَاحُهُ أَنَّ وُرُودَ النَّارِ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَالْمُرَادُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا الدُّخُولُ، فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ
«الْوُرُودَ فِي الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ هُوَ الدُّخُولُ» ؛ لِدَلَالَةِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [١١ ٩٨]، قَالَ: فَهَذَا وُرُودُ دُخُولٍ، وَكَقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [٢١ ٩٩]، فَهُوَ وُرُودُ دُخُولٍ أَيْضًا، وَكَقَوْلِهِ: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [١٩ ٨٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [٢١ ٦٨]، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ فِي
«أَنَّ الْوُرُودَ الدُّخُولُ» .
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوُرُودَ: الْإِشْرَافُ وَالْمُقَارَبَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ الْآيَةَ [٢٨ ٢٣]، قَالَ: فَهَذَا وُرُودُ مُقَارَبَةٍ وَإِشْرَافٍ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ الْآيَةَ [١٢ ١١]، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي مُعَلَّقَتِهِ:
فَلَمَّا وَرَدْنَ الْمَاءَ زُرْقًا جِمَامُهُ وَضَعْنَ عِصِيَّ الْحَاضِرِ الْمُتَخَيِّمِ
قَالُوا: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: وَرَدَتِ الْقَافِلَةُ الْبَلَدَ، وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْهُ وَلَكِنْ قَرُبَتْ مِنْهُ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوُرُودَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا لَيْسَ نَفْسَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ [٢١ ١٠١ - ١٠٢]، قَالُوا: إِبْعَادُهُمْ عَنْهَا الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِمْ فِيهَا ; فَالْوُرُودُ غَيْرُ الدُّخُولِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ وُرُودَ النَّارِ فِي الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: حَرُّ الْحُمَّى فِي دَارِ
478
الدُّنْيَا بِحَدِيثِ
«الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ ابْنَتَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ عُمَرَ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْوُرُودَ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ الدُّخُولُ أَدِلَّةٌ، الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ وُرُودِ النَّارِ مَعْنَاهُ دُخُولُهَا غَيْرَ مَحِلِّ النِّزَاعِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَحِلَّ النِّزَاعِ كَذَلِكَ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ.
الدَّلِيلُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَ جَمِيعَ النَّاسِ بِأَنَّهُمْ سَيَرِدُونَ النَّارَ بَرُّهُمْ وَفَاجِرُهُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [١٩ ٧٠ - ٧١]، بَيَّنَ مَصِيرَهُمْ وَمَآلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْوُرُودِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا [١٩ ٧٢]، أَيْ: نَتْرُكُ الظَّالِمِينَ فِيهَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وُرُودَهُمْ لَهَا دُخُولُهُمْ فِيهَا، إِذْ لَوْ لَمْ يَدْخُلُوهَا لَمْ يَقُلْ: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا بَلْ يَقُولُ: وَنُدْخِلُ الظَّالِمِينَ، وَهَذَا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ وَقَعُوا فِيمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ هَلَكَةٌ، وَلِذَا عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا قَوْلَهُ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا.
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ فَقَالَ بَعْضُنَا: لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ وَأَهْوَى بِأُصْبُعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: صُمَّتَا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَيَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا» اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي) الْكَافِي الشَّافْ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافْ (فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكُنَى، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ فِي بَابِ النَّارِ، وَالْحَكِيمُ فِي النَّوَادِرِ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ غَالِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ فَسَأَلْنَا جَابِرًا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ أَتَمَّ مِنَ اللَّفْظِ
479
الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَخَالَفَهُمْ كُلَّهُمُ الْحَاكِمُ فَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ: عَنْ سُمَيَّةَ الْأَزْدِيَّةِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شَيْبَةَ. بَدَلَ أَبِي سُمَيَّةَ عَنْ جَابِرٍ. اهـ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا غَالِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ الْبُرْسَانِيِّ، عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ، قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ فَقَالَ بَعْضُنَا: لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ: إِنَّا اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ فَقَالَ: يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: غَرِيبٌ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِسْنَادَ الْمَذْكُورَ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّ طَبَقَتَهُ الْأُولَى: سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ إِمَامٌ حَافِظٌ مَشْهُورٌ، وَطَبَقَتَهُ الثَّانِيَةَ: أَبُو صَالِحٍ أَوْ أَبُو سَلَمَةَ غَالِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْعَتَكِيُّ الْجَهْضَمِيُّ الْخُرَاسَانِيُّ أَصْلُهُ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَطَبَقَتَهُ الثَّالِثَةَ: كَثِيرُ بْنُ زِيَادٍ أَبُو سَهْلٍ الْبُرْسَانِيُّ بَصْرِيٌّ نَزَلَ بَلْخَ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَطَبَقَتَهُ الرَّابِعَةَ: أَبُو سُمَيَّةَ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ. وَبِتَوْثِيقِ أَبِي سُمَيَّةَ الْمَذْكُورِ تَتَّضِحُ صِحَّةُ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ رِجَالِ هَذَا الْإِسْنَادِ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ، مَعَ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ يَعْتَضِدُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَبِالْآيَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَآثَارٍ جَاءَتْ عَنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَكَرَهُ هُوَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، وَذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ وُرُودُ دُخُولٍ، وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوُرُودَ فِي الْآيَةِ الدُّخُولُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [٢١ ١٠١]، بِأَنَّهُمْ مُبْعَدُونَ عَنْ عَذَابِهَا وَأَلَمِهَا، فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ وَرُودَهُمْ إِيَّاهَا مِنْ غَيْرِ شُعُورِهِمْ بِأَلَمٍ وَلَا حَرٍّ مِنْهَا، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا
«دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَأَجَابُوا عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ
«الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» ، بِالْقَوْلِ بِمُوجِبِهِ، قَالُوا: الْحَدِيثُ حَقٌّ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِمَحِلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْكَلَامَ فِي النَّارِ فِي الْآخِرَةِ وَلَيْسَ فِي حَرَارَةٍ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا إِلَى أَنْ قَالَ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [١٩ ٦٨ - ٧٠]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا كَمَا تَرَى.
وَالْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: جِثِيًّا، كَمَا قَدَّمْنَا فِي قَوْلِهِ:
480
ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ نُنَجِّي، قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ بِإِسْكَانِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا) دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ (أَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ وُرُودَ النَّارِ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمُرُورُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ النَّاسَ تَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ وَهُوَ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَأَنَّ الْحَسَنَ وَقَتَادَةَ رُوِيَ عَنْهُمَا نَحْوُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا:
«أَنَّهُمْ يَرِدُونَهَا جَمِيعًا وَيَصْدُرُونَ عَنْهَا بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ» ، وَعَنْهُ أَيْضًا تَفْسِيرُ الْوُرُودِ بِالْوُقُوفِ عَلَيْهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، يَعْنِي أَنَّ وُرُودَهُمُ النَّارَ الْمَذْكُورَ كَانَ حَتْمًا عَلَى رَبِّكَ مَقْضِيًّا، أَيْ: أَمْرًا وَاجِبًا مَفْعُولًا لَا مَحَالَةَ، وَالْحَتْمُ: الْوَاجِبُ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ:
عِبَادُكَ يُخْطِئُونَ وَأَنْتَ رَبٌّ بِكَفَّيْكَ الْمَنَايَا وَالْحُتُومُ
فَقَوْلُهُ:
«وَالْحُتُومُ» : جَمْعُ حَتْمٍ، يَعْنِي الْأُمُورَ الْوَاجِبَةَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا، وَمَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: حَتْمًا مَقْضِيًّا قَسَمًا وَاجِبًا، كَمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ - لَا يَظْهَرُ كُلَّ الظُّهُورِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي الْآيَةِ قَسَمًا، بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا اهـ. وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالُوا، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) ح (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِ مَالِكٍ، وَبِمَعْنَى حَدِيثِهِ إِلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ
«فَيَلِجَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» اهـ.
قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْقَسَمِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا،
481
وَالَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ قَسَمٌ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ الْقَسَمِ مِنَ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، أَيْ: وَاللَّهِ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْقَسَمِ قَبْلَهُ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْقَسَمِ قَسَمٌ، وَالْمَعْنَى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ وَرَبِّكَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَسَمُ الْمَذْكُورُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا أَيْ: قَسَمًا وَاجِبًا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَسَمِ مَا دَلَّ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ مِنَ السِّيَاقِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، تَذْيِيلٌ وَتَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ فِي تَأْكِيدِ الْإِخْبَارِ، بَلْ هَذَا أَبْلَغُ لِلْحَصْرِ فِي الْآيَةِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ فِيهَا قَسَمٌ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِأَدَاةٍ مِنْ أَدَوَاتِ الْقَسَمِ، وَلَا قَرِينَةٍ وَاضِحَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْقَسَمِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَطْفُهَا عَلَى الْقَسَمِ، وَالْحُكْمُ بِتَقْدِيرِ قَسَمٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ دُونَ قَرِينَةٍ ظَاهِرَةٍ فِيهِ، زِيَادَةٌ عَلَى مَعْنَى كَلَامِ اللَّهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لَا يَتَعَيَّنُ مِنْهُ أَنَّ فِي الْآيَةَ قَسَمًا ; لِأَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ التَّعْبِيرَ بِتَحِلَّةِ الْقَسَمِ عَنِ الْقِلَّةِ الشَّدِيدَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَسَمٌ أَصْلًا، يَقُولُونَ: مَا فَعَلْتُ كَذَا إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، يَعْنُونَ إِلَّا فِعْلًا قَلِيلًا جِدًّا قَدْرَ مَا يُحَلِّلُ بِهِ الْحَالِفُ قَسَمَهُ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ فِي وَصْفِ نَاقَتِهِ:
تَخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لَاصِقَةٌ ذَوَابِلٌ مَسُّهُنَّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ
يَعْنِي: أَنَّ قَوَائِمَ نَاقَتِهِ لَا تَمَسُّ الْأَرْضَ لِشِدَّةِ خِفَّتِهَا إِلَّا قَدْرَ تَحْلِيلِ الْقَسَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَمِينَ مِنْ نَاقَتِهِ أَنَّهَا تَمَسُّ الْأَرْضَ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ الْمَسُّ تَحْلِيلًا لَهَا كَمَا تَرَى، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«إِلَّا تَحِلَّةَ» ، أَيْ: لَا يَلِجُ النَّارَ إِلَّا وُلُوجًا قَلِيلًا جِدًّا لَا أَلَمَ فِيهِ وَلَا حَرَّ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَرْفُوعِ، وَأَقْرَبُ أَقْوَالِ مَنْ قَالُوا: إِنَّ فِي الْآيَةِ قَسَمًا، قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ; لِأَنَّ الْجُمَلَ الْمَذْكُورَةَ بَعْدَهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ، وَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ وَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ لِدَلَالَةِ قَرِينَةِ لَامِ الْقَسَمِ فِي الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْعَطْفِ أَيْضًا، وَمُحْتَمِلٌ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
482
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: خَيْرٌ مَقَامًا [١٩ ٧٣]، قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَقَوْلُهُ: وَرِئْيًا، قَرَأَهُ قَالُونُ وَابْنُ ذَكْوَانَ
«وَرِيًّا» بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُخَفَّفَةٌ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَانُوا إِذَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي حَالِ كَوْنِهَا بَيِّنَاتٍ، أَيْ مُرَتَّلَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَاضِحَاتِ الْمَعَانِي بَيِّنَاتِ الْمَقَاصِدِ، إِمَّا مُحْكَمَاتٌ جَاءَتْ وَاضِحَةً، أَوْ مُتَشَابِهَاتٌ قَدْ تَبِعَهَا الْبَيَانُ بِالْمُحْكَمَاتِ، أَوْ تَبْيِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، أَوْ ظَاهِرَاتُ الْإِعْجَازِ تُحُدِّيَ بِهَا فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى مُعَارَضَتِهَا، أَوْ حُجَجًا وَبَرَاهِينَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: بَيِّنَاتٍ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ ; لِأَنَّ آيَاتِ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا [٣٥ ٣١]، أَيْ: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ فِي حَالِ كَوْنِهَا مُتَّصِفَةً بِمَا ذَكَرْنَا عَارَضُوهَا وَاحْتَجُّوا عَلَى بُطْلَانِهَا، وَأَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ لَا مَعَ مَنْ يَتْلُوهَا بِشُبْهَةٍ سَاقِطَةٍ لَا يَحْتَجُّ بِهَا إِلَّا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ، وَمَضْمُونُ شُبْهَتِهِمُ الْمَذْكُورَةِ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُمْ: نَحْنُ أَوْفَرُ مِنْكُمْ حَظًّا فِي الدُّنْيَا، فَنَحْنُ أَحْسَنُ مِنْكُمْ مَنَازِلَ، وَأَحْسَنُ مِنْكُمْ مَتَاعًا، وَأَحْسَنُ مِنْكُمْ مَنْظَرًا، فَلَوْلَا أَنَّنَا أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْكُمْ لَمَا آثَرَنَا عَلَيْكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَعْطَانَا مِنْ نَعِيمِهَا وَزِينَتِهَا مَا لَمْ يُعْطِكُمْ.
فَقَوْلُهُ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا [١٩ ٧٣]، أَيْ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ أَيُّنَا خَيْرٌ مَقَامًا، وَالْمُقَامُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ مَحِلُّ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ الْمَنَازِلُ وَالْأَمْكِنَةُ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْمَقَامُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ - مَكَانُ الْقِيَامِ وَهُوَ مَوْضِعُ قِيَامِهِمْ وَهُوَ مَسَاكِنُهُمْ وَمَنَازِلُهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ مَوْضِعُ الْقِيَامِ بِالْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ.
وَقَوْلُهُ: وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، أَيْ: مَجْلِسًا وَمُجْتَمَعًا، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، لِيَحْمِلُوا بِهِ ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي تَقَشُّفٍ وَرَثَاثَةِ هَيْئَةٍ عَلَى أَنْ يَقُولُوا أَنْتُمْ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا مِنَّا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا خِلَافَ أَنَّ
483
مَقْصُودَهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُمْ - أَيْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ - خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ دَلِيلُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّهُمْ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا فِي التَّلْخِيصِ وَشُرُوحِهِ مِنْ أَنَّ السُّؤَالَ بِـ
«أَيُّ» فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا سُؤَالٌ بِهَا عَمَّا يُمَيِّزُ أَحَدَ الْمُشْتَرِكِينَ فِي أَمْرٍ يَعُمُّهُمَا كَالْعَادَةِ فِي أَيِّ غَلَطٍ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ بِغَيْرِ مَعْنَاهَا الصَّحِيحِ، وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاسْتِدْلَالُهُمْ هَذَا بِحَظِّهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى حَظِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ مَا أَعْطَاهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِمَكَانَتِهِمْ عِنْدَهُ، وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِذَلِكَ - لِسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ، ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [٤٦ ١١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [٦ ٥٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [٣٤ ٣٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [٢٣ ٥٥ - ٥٦]، وَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [١٩ ٧٧]، وَقَوْلِهِ: قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [١٨ ٣٥ - ٣٦]، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [٤١ ٥٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ يَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُعْطِهِمْ نَصِيبًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا لِرِضَاهُ عَنْهُمْ، وَمَكَانَتِهِمْ عِنْدَهُ، وَأَنَّ الْأَمْرَ فِي الْآخِرَةِ سَيَكُونُ كَذَلِكَ.
وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى دَعْوَاهُمْ هَذِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا [١٩ ٧٤]، وَالْمَعْنَى: أَهْلَكْنَا قُرُونًا كَثِيرَةً، أَيْ أُمَمًا كَانَتْ قَبْلَهُمْ وَهُمْ أَكْثَرُ نَصِيبًا فِي الدُّنْيَا مِنْهُمْ، فَمَا مَنَعَهُمْ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا مِنْ إِهْلَاكِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لَمَّا عَصَوْا وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، فَلَوْ كَانَ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ فِي الدُّنْيَا يَدُلُّ عَلَى رِضَا اللَّهِ وَالْمَكَانَةِ عِنْدَهُ لَمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، الَّذِينَ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا مِنْكُمْ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَمْ هِيَ الْخَبَرِيَّةُ، وَمَعْنَاهَا الْإِخْبَارُ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ، وَهِيَ فِي مَحِلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِـ
«أَهْلَكْنَا» أَيْ: أَهْلَكْنَا كَثِيرًا، وَمِنْ مُبَيِّنَةٌ
484
لِـ وَكَمْ وَكُلُّ أَهْلِ عَصْرٍ قَرْنٌ لِمَنْ بَعْدَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَتَقَدَّمُونَهُمْ، قِيلَ: سُمُّوا قَرْنًا لِاقْتِرَانِهِمْ فِي الْوُجُودِ، وَالْأَثَاثُ: مَتَاعُ الْبَيْتِ، وَقِيلَ هُوَ الْجَدِيدُ مِنَ الْفُرُشِ، وَغَيْرُ الْجَدِيدِ مِنْهَا يُسَمَّى
«الْخُرْثِيَّ» بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ، وَأَنْشَدَ لِهَذَا التَّفْصِيلِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الطُّوسِيُّ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
تَقَادَمَ الْعَهْدُ مِنْ أُمِّ الْوَلِيدِ بِنَا دَهْرًا وَصَارَ أَثَاثُ الْبَيْتِ خُرْثِيًّا
وَالْإِطْلَاقُ الْمَشْهُورُ فِي الْعَرَبِيَّةِ هُوَ إِطْلَاقُ الْأَثَاثِ عَلَى مَتَاعِ الْبَيْتِ مُطْلَقًا، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا وَاحِدَ لَهُ، وَيُطْلَقُ الْأَثَاثُ عَلَى الْمَالِ أَجْمَعَ: الْإِبِلِ، وَالْغَنَمِ، وَالْعَبِيدِ، وَالْمَتَاعِ، وَالْوَاحِدُ أَثَاثَةٌ، وَتَأَثَّثَ فُلَانٌ: إِذَا أَصَابَ رِيَاشًا، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ، وَقَوْلُهُ: وَرِئْيًا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مَهْمُوزًا، أَيْ: أَحْسَنُ مَنْظَرًا وَهَيْئَةً، وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ: رَأَى، الْبَصَرِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِي تَرَاهُ الْعَيْنُ مِنْ هَيْئَتِهِمُ الْحَسَنَةِ وَمَتَاعِهِمُ الْحَسَنِ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِمُحَمَّدِ بْنِ نُمَيْرٍ الثَّقَفِيِّ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلَهُ:
أَشَاقَتْكَ الظَّعَائِنُ يَوْمَ بَانُوا بِذِي الرِّئْيِ الْجَمِيلِ مِنَ الْأَثَاثِ
وَعَلَى قِرَاءَةِ قَالُونَ وَابْنِ ذَكْوَانَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، إِلَّا أَنَّ الْهَمْزَةَ أُبْدِلَتْ يَاءً فَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا هَمْزَ عَلَى قِرَاءَتِهِمَا أَصْلًا، بَلْ عَلَيْهَا فَهُوَ مِنَ الرِّيِّ الَّذِي هُوَ النِّعْمَةُ وَالتَّرَفُّهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ رَيَّانٌ مِنَ النَّعِيمِ، وَهِيَ رَيًّا مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى: أَحْسَنُ نِعْمَةً وَتَرَفُّهًا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ عِنْدِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَالْآيَاتُ الَّتِي أَبْطَلَ اللَّهُ بِهَا دَعْوَاهُمْ هَذِهِ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [٣ ١٧٨]، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [٣٤ ٣٧]، وَقَوْلِهِ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [٦٨ ٤٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [٦ ٤٤]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُ الْكُفَّارِ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا،
485
الظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّ وَجْهَ ذِكْرِهِمْ لِلْمَقَامِ وَالنَّدِيِّ: أَنَّ الْمَقَامَ هُوَ مَحِلُّ السُّكْنَى الْخَاصُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَالنَّدِيَّ مَحِلُّ اجْتِمَاعِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْكُفَّارِ أَحْسَنَ مِنْ نَظِيرِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ نَصِيبَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَوْفَرُ مِنْ نَصِيبِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَوْمَانِ يَوْمُ مُقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ وَيَوْمُ سَيْرٍ إِلَى الْأَعْدَاءِ تَأْوِيبِ
وَالْمَقَامَاتُ: جَمْعُ مَقَامَةٍ بِمَعْنَى الْمَقَامِ، وَالْأَنْدِيَةُ: جَمْعُ نَادٍ بِمَعْنَى النَّدِيِّ، وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَوْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [٢٩ ٢٩]، فَالنَّادِي وَالنَّدِيُّ يُطْلَقَانِ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَعَلَى الْقَوْمِ الْجَالِسِينَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْلِسُ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْمِ الْجَالِسِينَ، وَمِنْ إِطْلَاقِ النَّدِيِّ عَلَى الْمَكَانِ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
وَمَا قَامَ مِنَّا قَائِمٌ فِي نَدِيِّنَا فَيَنْطِقَ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَعْرَفُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَأَحْسَنُ نَدِيًّا.
وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْقَوْمِ قَوْلُهُ: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [٩٦ ١٧ - ١٨]، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمَجْلِسِ عَلَى الْقَوْمِ الْجَالِسِينَ فِيهِ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
لَهُمْ مَجْلِسٌ صُهْبُ السِّبَالِ أَذِلَّةٌ سَوَاسِيَةٌ أَحْرَارُهَا وَعَبِيدُهَا
وَالْجُمْلَةُ فِي قَوْلِهِ: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ فِي مَحِلِّ نَصْبِ صِفَةٍ لِقَوْلِهِ:
«كَمْ» أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ تَرَكْتَ لَفْظَةَ
«هُمْ» لَمْ يَكُنْ لَكَ بُدٌّ مِنْ نَصْبِ أَحْسَنُ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ. اهـ. وَتَابَعَ الزَّمَخْشَرِيَّ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَتَعَقَّبَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ بِأَنَّ بَعْضَ عُلَمَاءَ النَّحْوِ نَصُّوا عَلَى أَنَّ
«كَمْ» سَوَاءٌ كَانَتِ اسْتِفْهَامِيَّةً أَوْ خَبَرِيَّةً لَا تُوصَفُ وَلَا يُوصَفُ بِهَا، قَالَ: وَعَلَى هَذَا يَكُونُ هُمْ أَحْسَنُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ قَرْنٍ وَجُمِعَ نَعْتُ الْقَرْنِ اعْتِبَارًا لِمَعْنَى الْقَرْنِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدِي لَا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا، تَلْزَمُهَا
«مِنْ» لِتَجَرُّدِهَا مِنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْرِيفِ، إِلَّا أَنَّهَا مَحْذُوفَةٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرَئْيًا مِنْهُمْ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ صِلْهُ أَبَدَا تَقْدِيرًا أَوْ لَفْظًا بِمَنْ إِنْ جُرِّدَا فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا؟ الْآيَةُ [١٩ ٧٣]، فَالْجَوَابٌ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ
486
الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ الْآيَةَ [١٩ ٦٦]، وَقَوْلِهِ: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا.
فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَكِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ كَدُعَاءِ الْمُبَاهَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِيضَاحُ مَعْنَاهُ: قُلْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ، وَأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ مَقَامًا وَأَحْسَنُ مِنْكُمْ نَدِيًّا: مَنْ كَانَ مِنَّا وَمِنْكُمْ فِي الضَّلَالَةِ - أَيِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ - فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا، أَيْ: فَأَمْهَلَهُ الرَّحْمَنُ إِمْهَالًا فِيمَا هُوَ فِيهِ حَتَّى يَسْتَدْرِجَهُ بِالْإِمْهَالِ وَيَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَرْجِعَ عَنْهُ، بَلْ يَسْتَمِرَّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَرَى مَا يُوعِدُهُ اللَّهُ، وَهُوَ: إِمَّا عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، كَقَوْلِهِ: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [٩ ١٤]، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ إِنْ مَاتُوا وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ، وَعَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ فَصِيغَةُ الطَّلَبِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ عَلَى بَابِهَا، وَعَلَيْهِ فَهِيَ لَامُ الدُّعَاءِ بِالْإِمْهَالِ فِي الضَّلَالِ عَلَى الضَّالِّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، حَتَّى يَرَى مَا يُوعِدُهُ مِنَ الشَّرِّ وَهُوَ عَلَى أَقْبَحِ حَالٍ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ صِيغَةِ الطَّلَبِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [٣ ٦١] ; لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ يَكُونُ فِي كِلْتَا الْآيَتَيْنِ دُعَاءً بِالشَّرِّ عَلَى الضَّالِّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٢ ٩٤]، فِي
«الْبَقَرَةِ وَالْجُمُعَةِ» عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّمَنِّي الدُّعَاءُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكَاذِبِينَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ صِيغَةَ الطَّلَبِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ، يُرَادُ بِهَا الْإِخْبَارُ عَنْ سُنَّةِ اللَّهِ فِي الضَّالِّينَ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَجْرَى الْعَادَةَ بِأَنَّهُ يُمْهِلُ الضَّالَّ وَيُمْلِي لَهُ فَيَسْتَدْرِجُهُ
487
بِذَلِكَ حَتَّى يَرَى مَا يُوعِدُهُ، وَهُوَ فِي غَفْلَةٍ وَكُفْرٍ وَضَلَالٍ.
وَتَشْهَدُ لِهَذَا الْوَجْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا الْآيَةَ [٣ ١٧٨]، وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً الْآيَةَ [٦ ٤٤]، كَمَا قَدَّمْنَا قَرِيبًا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: فِي حَرْفِ أُبَيٍّ:
«قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَإِنَّهُ يَزِيدُهُ اللَّهُ ضَلَالَةً» اهـ. قَالَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ جِنْسِ التَّفْسِيرِ لَا مِنْ جِنْسِ الْقِرَاءَةِ، فَإِنْ قِيلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: مَا النُّكْتَةُ فِي إِطْلَاقِ صِيغَةِ الطَّلَبِ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ أَجَابَ فِي كَشَّافِهِ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا، أَيْ: مَدَّ لَهُ الرَّحْمَنُ، يَعْنِي أَمْهَلَهُ وَأَمْلَى لَهُ فِي الْعُمْرِ، فَأُخْرِجَ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ إِيذَانًا بِوُجُوبِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَا مَحَالَةَ، كَالْمَأْمُورِ بِهِ الْمُمْتَثَلِ لِتَنْقَطِعَ مَعَاذِيرُ الضَّالِّ، وَيُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [٣٥ ٣٧]. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ، أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَمَا يَلِيهِ، وَالْمَعْنَى: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَى مَا يُوعَدُ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ يَظُنُّ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ حَتَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الَّتِي تُحْكَى بَعْدَهَا الْجُمَلُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَجِيءِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ بَعْدَهَا.
وَقَوْلُهُ: مَا يُوعَدُونَ لَفْظَةُ مَا، مَفْعُولٌ بِهِ لِـ مَا، وَقَوْلُهُ: إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ، بَدَلٌ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ الَّذِي هُوَ
«مَا» وَلَفْظَةُ مَنْ مِنْ قَوْلِهِ: فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ مَوْصُولَةٌ فِي مَحِلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِـ
«يَعْلَمُونَ» وَعَلَيْهِ فَعَلِمَ هُنَا عِرْفَانِيَّةٌ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَنْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَالْفِعْلُ الْقَلْبِيُّ الَّذِي هُوَ يَعْلَمُونَ مُعَلَّقٌ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَهَذَا أَظْهَرُ عِنْدِي.
وَقَوْلُهُ: شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا، فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ: خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ; لِأَنَّ مَقَامَهُمْ هُوَ مَكَانُهُمْ وَمَسْكَنُهُمْ، وَالنَّدِيُّ: الْمَجْلِسُ الْجَامِعُ لِوُجُوهِ قَوْمِهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ، وَالْجُنْدُ هُمُ الْأَنْصَارُ وَالْأَعْوَانُ، فَالْمُقَابَلَةُ الْمَذْكُورَةُ ظَاهِرَةٌ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى إِطْلَاقِ شَرٌّ مَكَانًا، وَالْمُرَادُ اتِّصَافُ الشَّخْصِ بِالشَّرِّ
488
لَا الْمَكَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا [١٢ ٧٢]، فَتَفْضِيلُ الْمَكَانِ فِي الشَّرِّ هَاهُنَا الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَفْضِيلُهُ إِخْوَتَهُ فِي الشَّرِّ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا نَسَبُوا إِلَيْهِ مِنْ شَرِّ السَّرِقَةِ لَا نَفْسَ الْمَكَانِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ الْمَكَانُ الْمَعْنَوِيُّ، أَيْ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مَقَامًا، وَنَدِيًّا، وَأَثَاثًا، وَمَكَانًا، وَجُنْدًا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَالْفَاعِلُ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بِأَفْعَلَا مُفَضِّلًا كَـ
«أَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلَا»
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا.
قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [١٩ ٧٦]، دَلِيلٌ عَلَى رُجْحَانِ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ زَادَهُ اللَّهُ ضَلَالَةً، وَمَنِ اهْتَدَى زَادَهُ اللَّهُ هُدًى، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ فِي الضَّلَالِ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [٦١ ٥]، وَقَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [٤ ١٥٥]، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [٦٣ ٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [٦ ١١٠]، كَمَا قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَالَ فِي الْهُدَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [٤٧ ١٧]، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [٤٨ ٤]، وَقَالَ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا الْآيَةَ [٢٩ ٦٩]، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [١٧ ٨٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى الْآيَةَ [٤١ ٤٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [٩ ١٢٤ - ١٢٥]، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَقَوْلُهُ: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا [١٩ ٧٦]، تَقَدَّمَ
489
إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ
«الْكَهْفِ» .
فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ لَفْظَةَ خَيْرٌ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا، صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ هُوَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، قَالَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا، يَعْنِي: خَيْرٌ جَزَاءً مِنْ جَزَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَخَيْرٌ مَرَدًّا، يَعْنِي مَرْجِعًا مِنْ مَرْجِعِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ تَقْتَضِي مُشَارَكَةَ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ، وَالْخَيْرِيَّةُ مَنْفِيَّةٌ بَتَاتًا عَنْ جَزَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَعَنْ مَرَدِّهِمْ، فَلَمْ يُشَارِكُوا فِي ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُفَضَّلُوا عَلَيْهِمْ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي كَشَّافِهِ حَاوَلَ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ كَأَنَّهُ قِيلَ ثَوَابُهُمُ النَّارُ، وَالْجَنَّةُ خَيْرٌ مِنْهَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ بِشْرِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ:
غَضِبَتْ تَمِيمٌ أَنْ تُقَتَّلَ عَامِرٌ يَوْمَ النِّسَارِ، فَأُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ
فَقَوْلُهُ:
«أُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ» يَعْنِي أُرْضُوا بِالسَّيْفِ، أَيْ: لَا رِضًا لَهُمْ عِنْدَنَا إِلَّا السَّيْفُ لِقَتْلِهِمْ بِهِ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ:
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
أَيْ لَا تَحِيَّةَ بَيْنَهُمْ إِلَّا الضَّرْبُ الْوَجِيعُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ: شَجعاءَ جِرَّتُها الذَميلُ تَلوكُهُ أُصُلًا إِذا راحَ المَطِيُّ غِراثَا
يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ النَّاقَةَ لَا جِرَّةَ لَهَا تُخْرِجُهَا مِنْ كَرِشِهَا فَتَمْضُغُهَا إِلَّا السَّيْرُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْمُرَادُ: لَا ثَوَابَ لَهُمْ إِلَّا النَّارُ، وَبِاعْتِبَارِ جَعْلِهَا ثَوَابًا بِهَذَا الْمَعْنَى فُضِّلَ عَلَيْهَا ثَوَابُ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ جَوَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ مَعَ إِيضَاحِنَا لَهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَيَظْهَرُ لِي فِي الْآيَةِ جَوَابٌ آخَرُ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ دَلَّا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ مُجَازًى بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا بَرَّ وَالِدَيْهِ وَنَفَّسَ عَنِ الْمَكْرُوبِ، وَقَرَى الضَّيْفَ، وَوَصَلَ الرَّحِمَ مَثَلًا يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَدَّمْنَا دَلَالَةَ الْآيَاتِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثَ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَثَوَابُهُ هَذَا الرَّاجِعُ إِلَيْهِ مِنْ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا، هُوَ الَّذِي فَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
490
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا، أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:
«جِئْتُ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ أَتَقَاضَاهُ حَقًّا لِي عِنْدَهُ، فَقَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: لَا، حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ، قَالَ: وَإِنِّي لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّ لِي هُنَاكَ مَالًا فَأَقْضِيكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا» ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا الِاسْتِهْزَاءُ بِالدِّينِ وَبِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ يُؤْتَى مَالًا وَوَلَدًا قِيَاسًا مِنْهُ لِلْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، كَمَا بَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [٤١ ٥٠]، وَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ الْآيَةَ [٢٣ ٥٥ - ٥٦]، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [٣٤ ٣٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:
«وَوُلْدًا» بِضَمِّ الْوَاوِ الثَّانِيَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ مَعًا، وَهُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ كَالْعُرْبِ وَالْعَرَبِ، وَالْعُدْمِ وَالْعَدَمِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ الْوُلْدَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ كَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ:
وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرًا قَدْ ثَمَّرُوا مَالًا وَوُلْدَا
وَقَوْلُ رُؤْبَةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَزِيزِ فَرْدَا لَمْ يَتَّخِذْ مِنْ وُلْدِ شَيْءٍ وُلْدَا
وَزَعَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ الْوَلَدَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ مُفْرَدٌ، وَأَنَّ الْوُلْدَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ جَمْعٌ لَهُ، كَأَسَدٍ بِالْفَتْحِ يُجْمَعُ عَلَى أُسْدٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّةِ هَذَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
«الْوُلْدَ» بِالضَّمِّ لَيْسَ بِجَمْعٍ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ وُلْدَ حِمَارِ
لِأَنَّ
«الْوُلْدَ» فِي هَذَا الْبَيْتِ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَهُوَ مُفْرَدٌ قَطْعًا كَمَا تَرَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا.
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رَدَّ عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ
491
قَوْلَهُ: إِنَّهُ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَالًا وَوَلَدًا، بِالدَّلِيلِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ بِالتَّقْسِيمِ وَالتَّرْدِيدِ، وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَعِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ بِالشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ.
وَضَابِطُ هَذَا الدَّلِيلِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْحَصْرِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّقْسِيمِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ، وَبِالشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ.
وَالثَّانِي: هُوَ اخْتِيَارُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَحْصُورَةِ، وَإِبْطَالُ مَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْهَا وَإِبْقَاءُ مَا هُوَ صَحِيحٌ مِنْهَا كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ
«بِالسَّبْرِ» ، وَعِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ
«بِالتَّرْدِيدِ» ، وَعِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ، بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ، وَالتَّقْسِيمُ الصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَحْصُرُ أَوْصَافَ الْمَحِلِّ فِي ثَلَاثَةٍ، وَالسَّبْرُ الصَّحِيحُ يُبْطِلُ اثْنَيْنِ مِنْهَا وَيُصَحِّحُ الثَّالِثَ، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ إِلْقَامُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ الْحَجَرَ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَالًا وَوَلَدًا.
أَمَّا وَجْهُ حَصْرِ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فِي ثَلَاثَةٍ فَهُوَ أَنَّا نَقُولُ: قَوْلُكَ أَنَّكَ تُؤْتَى مَالًا وَوَلَدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَخْلُو مُسْتَنَدُكَ فِيهِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ اطَّلَعْتَ عَلَى الْغَيْبِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ إِيتَاءَكَ الْمَالَ وَالْوَلَدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّا كَتَبَهُ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أُعْطَاكَ عَهْدًا بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِنْ أَعْطَاكَ عَهْدًا لَنْ يُخْلِفَهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ قُلْتَ ذَلِكَ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ عَهْدٍ وَلَا اطِّلَاعِ غَيْبٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلِينَ فِي قَوْلِهِ: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [١٩ ٧٨]، مُبْطِلًا لَهُمَا بِأَدَاةِ الْإِنْكَارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كِلَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْعَاصَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَطَّلِعِ الْغَيْبَ، وَلَمْ يَتَّخِذْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، فَتَعَيَّنَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْقِسْمِ الَّذِي هُوَ الْوَاقِعُ بِحَرْفِ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَلَّا، أَيْ: لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَمْ يَطَّلِعِ الْغَيْبَ، وَلَمْ يَتَّخِذْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، بَلْ قَالَ ذَلِكَ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا حَاصِلًا لَمْ يَسْتَوْجِبِ الرَّدْعَ عَنْ مَقَالَتِهِ كَمَا تَرَى، وَهَذَا الدَّلِيلُ الَّذِي أَبْطَلَ بِهِ دَعْوَى ابْنِ وَائِلٍ هَذِهِ هُوَ الَّذِي أَبْطَلَ بِهِ بِعَيْنِهِ دَعْوَى الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً فِي سُورَةِ
«الْبَقَرَةِ» ، وَصَرَّحَ فِي ذَلِكَ بِالْقِسْمِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ كَذِبًا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ.
492
وَحُذِفَ فِي
«الْبَقَرَةِ» قِسْمُ اطِّلَاعِ الْغَيْبِ الْمَذْكُورُ فِي
«مَرْيَمَ» لِدَلَالَةِ ذِكْرِهِ فِي
«مَرْيَمَ» عَلَى قَصْدِهِ فِي
«الْبَقَرَةِ» كَمَا أَنَّ كَذِبَهُمُ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ فِي
«الْبَقَرَةِ» لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي
«مَرْيَمَ» لِأَنَّ مَا فِي
«الْبَقَرَةِ» يُبَيِّنُ مَا فِي
«مَرْيَمَ» لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يُبَيِّنُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [٢ ٨٠]، فَالْأَوْصَافُ هُنَا هِيَ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي
«مَرْيَمَ» كَمَا أَوْضَحْنَا، وَمَا حُذِفَ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ فِي
«مَرْيَمَ» فَاتِّخَاذُ الْعَهْدِ ذَكَرَهُ فِي
«الْبَقَرَةِ وَمَرْيَمَ» مَعًا وَالْكَذِبُ فِي ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ صَرَّحَ بِهِ فِي
«الْبَقَرَةِ» بِقَوْلِهِ: أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [٢ ٨٠]، وَأَشَارَ لَهُ فِي
«مَرْيَمَ» بِحَرْفِ الزَّجْرِ الَّذِي هُوَ كَلَّا، وَاطِّلَاعُ الْغَيْبِ صَرَّحَ بِهِ فِي
«مَرْيَمَ» وَحَذَفَهُ فِي
«الْبَقَرَةِ» لِدَلَالَةِ مَا فِي
«مَرْيَمَ» عَلَى الْمَقْصُودِ فِي
«الْبَقَرَةِ» كَمَا أَوْضَحْنَا.
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ الَّذِي هُوَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ تَكَرَّرَ وُرُودُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآنَ مِثَالَيْنِ لِذَلِكَ أَحَدُهُمَا فِي
«الْبَقَرَةِ» وَالثَّانِي فِي
«مَرْيَمَ» كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا، وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ فِي كَلَامِهِ عَلَى جَدَلِ الْقُرْآنِ مِثَالًا وَاحِدًا لِلسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَمَضْمُونُ الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِاخْتِصَارٍ، هُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ الْآيَتَيْنِ [٦ ١٤٣]، فَكَأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِلَّذِينِ حَرَّمُوا بَعْضَ الْإِنَاثِ كَالْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ دُونَ بَعْضِهَا، وَحَرَّمُوا بَعْضَ الذُّكُورِ كَالْحَامِي دُونَ بَعْضِهَا: لَا يَخْلُو تَحْرِيمُكُمْ لِبَعْضِ مَا ذُكِرَ دُونَ بَعْضِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ مَعْقُولَةٍ أَوْ تَعَبُّدِيًّا، وَعَلَى أَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِعِلَّةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنَ الْإِنَاثِ الْأُنُوثَةَ، وَمِنَ الذُّكُورِ الذُّكُورَةَ، أَوْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهِمَا مَعًا التَّخَلُّقَ فِي الرَّحِمِ، وَاشْتِمَالَهَا عَلَيْهِمَا، هَذِهِ هِيَ الْأَقْسَامُ الَّتِي يُمْكِنُ ادِّعَاءُ إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهَا، ثُمَّ بَعْدَ حَصْرِ الْأَوْصَافِ بِهَذَا التَّقْسِيمِ نَرْجِعُ إِلَى سَبْرِ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ: اخْتِبَارُهَا لِيَتَمَيَّزَ الصَّحِيحُ مِنَ الْبَاطِلِ فَنَجِدُهَا كُلَّهَا بَاطِلَةً بِالسَّبْرِ الصَّحِيحِ ; لِأَنَّ كَوْنَ الْعِلَّةِ الذُّكُورَةَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ ذَكَرٍ وَأَنْتُمْ تُحِلُّونَ بَعْضَ الذُّكُورِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ التَّعْلِيلِ بِالذُّكُورَةِ لِقَادِحِ النَّقْضِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الِاطِّرَادِ، وَكَوْنُ الْعِلَّةِ الْأُنُوثَةَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ أُنْثَى كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلَهُ، وَكَوْنُ الْعِلَّةِ اشْتِمَالَ الرَّحِمِ عَلَيْهِمَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ
493
الْجَمِيعِ، وَإِلَى هَذَا الْإِبْطَالِ أَشَارَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ [٦ ١٤٤]، أَيْ: فَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ الذُّكُورَةَ لَحَرُمَ كُلُّ ذَكَرٍ، وَلَوْ كَانَتِ الْأُنُوثَةَ لَحَرُمَتْ كُلُّ أُنْثَى، وَلَوْ كَانَتِ اشْتِمَالَ الرَّحِمِ عَلَيْهِمَا لَحَرُمَ الْجَمِيعُ، وَكَوْنُ ذَلِكَ تَعَبُّدِيًّا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ وَصَّاكُمْ بِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، إِذْ لَمْ يَأْتِكُمْ مِنْهُ رَسُولٌ بِذَلِكَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ أَيْضًا، وَأَشَارَ تَعَالَى إِلَى بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا [٦ ١٤٤]، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مِنْ أَشْنَعِ الظُّلْمِ، وَأَنَّهُ كَذِبٌ مُفْتَرًى وَإِضْلَالٌ، بِقَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [٦ ١٤٤]، ثُمَّ أَكَّدَ عَدَمَ التَّحْرِيمِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [٦ ١٤٥].
وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِبْطَالَ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ كَمَا أَوْضَحْنَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [٥٢ ٣٥]، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا يَخْلُو الْأَمْرُ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثِ حَالَاتٍ بِالتَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ، الْأُولَى: أَنْ يَكُونُوا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَيْ: بِدُونِ خَالِقٍ أَصْلًا، الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونُوا خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُمْ خَالِقٌ غَيْرُ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بَاطِلَانِ، وَبُطْلَانُهُمَا ضَرُورِيٌّ كَمَا تَرَى، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ لِوُضُوحِهِ، وَالثَّالِثُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، أَنَّهُ هُوَ جَلَّ وَعَلَا خَالِقُهُمُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا الدَّلِيلَ فِي غَرَضٍ لَيْسَ هُوَ غَرَضَ الْآخَرِ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ، إِلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ عِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ أَعَمُّ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
اعْلَمْ أَنَّ مَقْصُودَ الْجَدَلِيِّينَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ وَالْبَاطِلِ مِنْ أَوْصَافِ مَحِلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ عِنْدَكُمْ يَتَرَكَّبُ مِنْ أَمْرَيْنِ، الْأَوَّلُ: حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ، وَالثَّانِي: إِبْطَالُ الْبَاطِلِ مِنْهَا وَتَصْحِيحُ الصَّحِيحِ مُطْلَقًا، وَقَدْ تَكُونُ بَاطِلَةً كُلُّهَا فَيَتَحَقَّقُ بُطْلَانُ الْحُكْمِ الْمُسْتَنِدِ إِلَيْهَا، كَآيَةِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ [٦ ١٤٤] الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا بَاطِلًا وَبَعْضُهَا
494
صَحِيحًا، كَآيَةِ
«مَرْيَمَ وَالْبَقَرَةِ وَالطُّورِ» الَّتِي قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا الدَّلِيلِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَهَذَا الدَّلِيلُ أَعَمُّ نَفْعًا، وَأَكْثَرُ فَائِدَةً عَلَى طَرِيقِ الْجَدَلِيِّينَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْمَنْطِقِيِّينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
اعْلَمْ: أَنَّ السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ يُسْتَعْمَلُ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطُ عِلَّةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِمَسْلَكِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَضَابِطُ هَذَا الْمَسْلَكِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَمْرَانِ، الْأَوَّلُ: هُوَ حَصْرُ أَوْصَافِ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْحَصْرِ الَّتِي سَنَذْكُرُ بَعْضَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالثَّانِي: إِبْطَالُ مَا لَيْسَ صَالِحًا لِلْعِلَّةِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْإِبْطَالِ الَّتِي سَنَذْكُرُ أَيْضًا بَعْضَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَمْرًا ثَالِثًا وَهُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ مُعَلَّلٌ فِي الْجُمْلَةِ لَا تَعَبُّدِيٌّ، وَالْجُمْهُورُ لَا يَشْتَرِطُونَ هَذَا الْأَخِيرَ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ يَتَرَكَّبُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَمْرَيْنِ، الْأَوَّلُ: حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ، وَالثَّانِي: إِبْطَالُ مَا لَيْسَ صَالِحًا لِلْعِلَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْحَصْرُ وَالْإِبْطَالُ مَعًا قَطْعِيَّيْنِ فَهُوَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَإِنْ كَانَا ظَنِّيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا ظَنِّيًّا فَهُوَ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ، وَمِثَالُ مَا كَانَ الْحَصْرُ وَالْإِبْطَالُ فِيهِ قَطْعِيَّيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [٥٢ ٣٥] ; لِأَنَّ حَصْرَ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ قَطْعِيٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ إِمَّا أَنْ يُخْلَقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَوْ يَخْلُقُوا أَنْفُسَهُمْ أَوْ يَخْلُقْهُمْ خَالِقٌ غَيْرُ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا رَابِعَ أَلْبَتَّةَ، وَإِبْطَالُ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قَطْعِيٌّ لَا شَكَّ فِيهِ: فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الثَّالِثَ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَقَدْ حُذِفَ فِي الْآيَةِ لِظُهُورِهِ، فَدَلَالَةُ هَذَا السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ قَطْعِيَّةٌ لَا شَكَّ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْمِثَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلْقَطْعِيِّ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ عِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ دُونَ الْأُصُولِيِّينَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ التَّمْثِيلُ لِلْقَطْعِيِّ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ وَلَوْ بِمَعْنَاهُ الْأَعَمِّ، وَالْقَطْعِيُّ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ، وَأَمَّا الظَّنِّيُّ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ لِاخْتِلَافِ ظُنُونِ الْمُجْتَهِدِينَ عِنْدَ نَظَرِهِمْ فِي الْمَسَائِلِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الرِّبَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ كَالتُّفَّاحِ وَنَحْوِهِ، وَالنَّوْرَةِ وَنَحْوِهَا بِسَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي إِبْطَالِ مَا لَيْسَ بِصَالِحٍ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: هَذَا وَصْفٌ يَصِحُّ إِبْطَالُهُ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: هُوَ لَيْسَ بِصَالِحٍ فَيَلْزَمُ إِبْطَالُهُ كَقَوْلِهِمْ مَثَلًا فِي حَصْرِ أَوْصَافِ الْبُرِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ مَثَلًا الْمُحَرَّمُ فِيهِ الرِّبَا إِذَا أُرِيدَ قِيَاسُ الذُّرَةِ عَلَيْهِ مَثَلًا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ الْكَيْلُ أَوِ الطَّعْمُ أَوْ الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ أَوْ هُمَا وَغَلَبَةُ الْعَيْشِ بِهِ أَوِ الْمَالِيَّةُ وَالْمِلْكِيَّةُ. فَيَقُولُ الْمَالِكِيُّ: غَيْرُ الِاقْتِيَاتِ وَالِادِّخَارِ بَاطِلٌ، وَيَدَّعِي أَنَّ دَلِيلَ بُطْلَانِهِ عَدَمُ الِاطِّرَادِ الَّذِي هُوَ النَّقْضُ، وَيَقُولُ
495
الْحَنَفِيُّ وَالْحَنْبَلِيُّ: غَيْرُ الْكَيْلِ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ بَاطِلٌ، وَالْكَيْلُ: هُوَ الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ كَحَدِيثِ حَيَّانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَفِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ السِّتَّةِ الَّتِي يُمْنَعُ فِيهَا الرِّبَا: وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ، وَبِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ. كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الرِّبَا.
وَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: غَيْرُ الطَّعْمِ بَاطِلٌ، وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ الطَّعْمُ، وَيَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ
«الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» الْحَدِيثَ. كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ أَيْضًا فِي الْبَقَرَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقِيَاسِ الَّذِي يَخْتَلِفُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْعِلَّةِ فِيهِ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِمُرَكَّبِ الْأَصْلِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ يَكُنْ لِعِلَّتَيْنِ اخْتَلَفَا تَرَكَّبَ الْأَصْلُ لَدَى مَنْ سَلَفَا
وَأَشَارَ إِلَى مُرَكَّبِ الْوَصْفِ بِقَوْلِهِ:
مُرَكَّبُ الْوَصْفِ إِذَا الْخَصْمُ مَنَعْ وُجُودُ ذَا الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ الْمُتَّبَعْ وَالْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ بِنَوْعَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا تَنْهَضُ الْحُجَّةُ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ، وَإِلَى كَوْنِ رَدِّهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَصْمِ الْمُخَالِفِ هُوَ الْمُخْتَارُ، أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَرَدُّهُ انْتَفَى وَقِيلَ يُقْبَلْ وَفِي التَّقَدُّمِ خِلَافٌ يُنْقَلْ وَالضَّمِيرُ
فِي قَوْلِهِ:
«وَرَدُّهُ» رَاجِعٌ إِلَى الْمُرَكَّبِ بِنَوْعَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَلَا تَنْهَضُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ الطَّعْمُ، عَلَى الْحَنَفِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ الْقَائِلَيْنِ إِنَّهَا الْكَيْلُ كَالْعَكْسِ، وَهَكَذَا، أَمَّا فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ وَمُقَلِّدِيهِ فَظَنُّهُ الْمَذْكُورُ حُجَّةٌ نَاهِضَةٌ لَهُ وَلِمُقَلِّدِيهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِحَصْرِ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ طُرُقًا، مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْحَصْرُ عَقْلِيًّا كَمَا قَدَّمْنَا فِي آيَةِ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [٥٢ ٣٥]، وَكَقَوْلِكَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَالِمًا بِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ: كَمَا يَأْتِي إِيضَاحُهُ، فَأَوْصَافُ الْمَحِلِّ مَحْصُورَةٌ فِي الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ - إِذْ لَا ثَالِثَ أَلْبَتَّةَ - أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهَا أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ إِجْمَاعٌ، وَمَثَّلَ لَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ بِإِجْبَارِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، فَإِنَّ عِلَّةَ الْإِجْبَارِ إِمَّا الْجَهْلُ بِالْمَصَالِحِ، وَإِمَّا الْبَكَارَةُ. فَإِنْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَيْنَ دَلِيلُ حَصْرِ الْأَوْصَافِ فِي الْأَمْرَيْنِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ التَّعْلِيلِ بِغَيْرِهِمَا، فَلَوِ ادَّعَى
496
الْمُسْتَدِلُّ حَصْرَ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَيْنَ دَلِيلُ الْحَصْرِ؟ فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ: بَحَثْتُ بَحْثًا تَامًّا عَنْ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ مَا ذَكَرْتُ، أَوْ قَالَ: الْأَصْلُ عَدَمُ غَيْرِ مَا ذَكَرْتَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا يَكْفِيهِ فِي إِثْبَاتِ الْحَصْرِ، فَإِنْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَنَا أَعْلَمُ وَصْفًا زَائِدًا لَمْ تَذْكُرْهُ، قِيلَ لَهُ: بَيِّنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهُ سَقَطَ اعْتِرَاضُهُ، وَإِنَ بَيَّنَ وَصْفًا زَائِدًا عَلَى الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُسْتَدِلُّ بَطَلَ حَصْرُ الْمُسْتَدِلِّ بِمُجَرَّدِ إِبْدَاءِ الْمُعْتَرِضِ الْوَصْفَ الزَّائِدَ، إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْعَلِيَّةِ فَيَكُونُ إِذًا وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَكْفِيهِ قَوْلُهُ: بَحَثْتُ فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ هَذَا - خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَأَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى هَذَا الْمَسْلَكِ مِنْ مَسَالِكَ الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ:
وَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ قِسْمٌ رَابِعْ أَنْ يَحْصُرَ الْأَوْصَافَ فِيهِ جَامِعْ وَيَبْطُلُ الَّذِي لَهَا لَا يَصْلُحْ فَمَا بَقِي تَعْيِينُهُ مُتَّضِحْ مُعْتَرِضُ الْحَصْرِ فِي دَفْعِهِ يَرِدْ بَحَثْتُ ثُمَّ بَعْدَ بَحْثِي لَمْ أَجِدْ أَوِ انْفِقَادُ مَا سِوَاهَا الْأَصْلُ وَلَيْسَ فِي الْحَصْرِ لِظَنٍّ حَظْلُ وَهُوَ قَطْعِيٌّ إِذَا مَا نُمِّيَا لِلْقِطْعِ وَالظَّنِّيِّ سِوَاهُ وُعِّيَا حُجِّيَّةُ الظَّنِّيِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ فِي حَقِّ نَاظِرٍ وَفِي الْمُنَاظِرِ إِنْ يُبْدِ وَصْفًا زَائِدًا مُعْتَرِضْ وَفَّى بِهِ دُونَ الْبَيَانِ الْغَرَضْ وَقَطْعُ ذِي السَّبْرِ إِذَا مُنْحَتِمْ وَالْأَمْرُ فِي إِبْطَالِهِ مُنْبَهِمْ
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ
«فِي حَقِّ نَاظِرٍ وَفِي الْمُنَاظِرِ» مَحِلُّهُ مَا لَمْ يَدَّعِ الْمُنَاظِرُ عِلَّةً غَيْرَ عِلَّتِهِ، وَإِنِ ادَّعَاهَا فَلَا تَكُونُ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا، وَكَمَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا
«وَرَدُّهُ انْتَفَى...» إِلَخْ.
وَإِذَا حَصَلَ حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فَإِبْطَالُ غَيْرِ الصَّالِحِ مِنْهَا لَهُ طُرُقٌ مَعْرُوفَةٌ:
مِنْهَا: بَيَانُ أَنَّ الْوَصْفَ طَرْدِيٌّ مَحْضٌ، إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُصُوصِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِي ثُبُوتِهِ أَوْ نَفْيِهِ، كَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَابِ الْعِتْقِ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ; لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ طَرْدِيَّيْنِ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ كَالْإِرْثِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، فَإِنَّ الذَّكَرَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ كَالْأُنْثَى، وَيُعْرَفُ كَوْنُ الْوَصْفِ طَرْدِيًّا - أَيْ: لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّعْلِيلِ أَصْلًا - بِاسْتِقْرَاءِ مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَمَصَادِرِهِ، إِمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا فِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ دُونَ بَعْضِهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا.
497
وَمِثَالُ إِبْطَالِ الطَّرْدِيِّ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فِي الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أَعْرَابِيٌّ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ جَاءَ يَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَضْرِبُ صَدْرَهُ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ الْمِثَالَ لَا يُعْتَرَضُ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيَانُ الْقَاعِدَةِ، وَيَكْفِي فِيهِ الْفَرْضُ وَمُطْلَقُ الِاحْتِمَالِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَالشَّأْنُ لَا يَعْتَرِضُ الْمِثَالَ إِذْ قَدْ كَفَى الْغَرَضَ وَالِاحْتِمَالَ
فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ أَعْرَابِيًّا، وَكَوْنَهُ جَاءَ يَضْرِبُ صَدْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ مِنْ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَهِيَ أَوْصَافٌ يَجِبُ إِبْطَالُهَا وَعَدَمُ تَعْلِيلِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِهَا ; لِأَنَّهَا أَوْصَافٌ طَرْدِيَّةٌ لَا تَحْصُلُ مِنْ إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهَا فَائِدَةٌ أَصْلًا، فَالْأَعْرَابِيُّ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَمَنْ جَاءَ فِي سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَمَنْ جَاءَ يَضْرِبُ صَدْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ أَيْضًا، وَمِثَالُ الْإِبْطَالِ بِكَوْنِ الْوَصْفِ طَرْدِيًّا فِي الْبَابِ الَّذِي فِيهِ النِّزَاعُ دُونَ غَيْرِهِ، حَدِيثُ
«مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ...» الْحَدِيثَ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ
«الْإِسْرَاءِ وَالْكَهْفِ» فَلَفْظُ الْعَبْدِ الذَّكَرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ، فَمَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي أَمَةٍ فَكَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ عُرِفَ مِنِ اسْتِقْرَاءِ الشَّرْعِ أَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِتْقِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ لَا تُنَاطُ بِهِمَا أَحْكَامُ الْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَتِ الذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ غَيْرَ طَرْدِيَّيْنِ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ كَالْمِيرَاثِ وَالشَّهَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْوَصْفُ الطَّرْدِيُّ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ: هُوَ مَا عُلِمَ مِنَ الشَّرْعِ إِلْغَاؤُهُ وَعَدَمُ اعْتِبَارِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهِ مَصْلَحَةٌ أَصْلًا فَهُوَ خَالٍ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، وَمِنْ طُرُقِ الْإِبْطَالِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَصْرِ أَلَّا تَظْهَرَ لِلْوَصْفِ مُنَاسَبَةٌ، وَالْمُنَاسَبَةُ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ: هِيَ كَوْنُ إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَصْلَحَةٌ فَعَدَمُ الْمُنَاسَبَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ طُرُقِ إِبْطَالِهِ فِي مَسْلَكِ السَّبْرِ، وَإِنْ كَانَ عَدَمُ ظُهُورِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْوَصْفِ لَا يُبْطِلُهُ فِي بَعْضِ الْمَسَالِكِ - غَيْرِ السَّبْرِ - كَالْإِيمَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ وَالدَّوَرَانِ، فَالْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ:
الْأَوَّلُ: أَنْ تَظْهَرَ الْمُنَاسَبَةُ، وَظُهُورُهَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي مَسْلَكِ السَّبْرِ وَمَسْلَكِ الْمُنَاسَبَةِ وَالْإِخَالَةِ.
الثَّانِي: أَلَّا تَظْهَرَ الْمُنَاسَبَةُ وَلَا عَدَمُهَا، وَهَذَا يَكْفِي فِي الدَّوَرَانِ وَالْإِيمَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ.
498
الثَّالِثُ: أَنْ يَظْهَرَ عَدَمُ الْمُنَاسَبَةِ، فَيَكُونَ الْوَصْفُ طَرْدِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
وَمِنْ طُرُقِ الْإِبْطَالِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَصْرِ كَوْنُ الْوَصْفِ مُلْغًى وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَيَكُونُ الْإِلْغَاءُ بِاسْتِقْلَالِ الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقَى بِالْحُكْمِ دُونَهُ فِي صُورَةٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا، حَكَاهُ الْفِهْرَيُّ، وَمِثَالُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْكَيْلَ وَالِاقْتِيَاتَ وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوْصَافٌ مُلْغَاةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي مِلْءِ كَفٍّ مِنَ الْبُرِّ ; لِأَنَّهُ لَا يُكَالُ وَلَا يُقَاتُ لِقِلَّتِهِ، فَعِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهِ الطَّعْمُ لِاسْتِقْلَالِ عِلَّةِ الطَّعْمِ بِالْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَوْصَافِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَالْقَصْدُ مُطْلَقُ التَّمْثِيلِ، لَا مُنَاقَشَةُ الْأَمْثِلَةِ.
وَمِنْ طُرُقِ الْإِبْطَالِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَصْرِ كَوْنُ الْوَصْفِ الَّذِي أَبْقَاهُ الْمُسْتَدِلُّ مُتَعَدِّيًا مِنْ مَحِلِّ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْوَصْفُ الَّذِي يُرِيدُ الْمُعْتَرِضُ إِبْقَاءَهُ قَاصِرٌ عَلَى مَحِلِّ الْحُكْمِ، قَالَ صَاحِبُ) الضِّيَاءِ اللَّامِعِ (: وَذَلِكَ يُشْبِهُ تَعَارُضَ الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَالْقَاصِرَةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمِثَالُهُ: اخْتِلَافُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي عِلَّةِ الْكَفَّارَةِ فِي الْإِفْطَارِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ خُصُوصُ الْجِمَاعِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ رَمَضَانَ، فَكَوْنُ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ بِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ الْجِمَاعَ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّعَدِّي عَنْ مَحِلِّ الْحُكْمَ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَا تَكُونُ كَفَّارَةٌ إِلَّا فِي الْجِمَاعِ خَاصَّةً، وَكَوْنُهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ رَمَضَانَ يَقْضِي التَّعَدِّي فِي مَحِلِّ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ، فَتَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِجَامِعِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ رَمَضَانَ فِي الْجَمِيعِ مِنْ جِمَاعٍ وَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، فَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْوَصْفُ بِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا عَلَى الْآخَرِ لِقُصُورِهِ عَلَى حَمْلِ الْحُكْمِ وَقَصْدُنَا التَّمْثِيلُ لَا مُنَاقَشَةُ الْأَمْثِلَةِ، وَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا أَنْ يَأْتِيَ مَنْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ الْجِمَاعُ، بِمُرَجِّحَاتٍ أُخَرَ لِعِلَّتِهِ، وَأَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى طُرُقِ الْإِبْطَالِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ:
أَبْطِلْ لِمَا طَرْدًا يُرَى وَيُبْطَلُ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لَهُ الْمُنْخَزِلُ كَذَلِكَ بِالْإِلْغَا وَإِنْ قَدْ نَاسَبَا وَيَتَعَدَّى وَصْفُهُ الَّذِي اجْتَبَى
هَذَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي الْمَقْصُودِ عِنْدَهُمْ بِهَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي هُوَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
اعْلَمْ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ يُخَالِفُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ، فَالتَّقْسِيمُ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي بَيْنَهَا تَنَافٍ
499
وَتَنَافُرٌ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ بِالشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ، وَمَقْصُودُهُمْ مِنْ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمُتَنَافِيَةِ هُوَ أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِوُجُودِ بَعْضِهَا عَلَى عَدَمِ بَعْضِهَا، وَبِعَدَمِهِ عَلَى وُجُودِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ) بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ (وَحَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَهُمْ هُوَ
«لَكِنَّ» وَالتَّنَافِي الْمَذْكُورُ بَيْنَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ يَحْصُرُهُ الْعَقْلُ فِي ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مَعًا، أَوِ الْوُجُودِ فَقَطْ، أَوِ الْعَدَمِ فَقَطْ، وَلَا رَابِعَ أَلْبَتَّةَ.
فَإِنْ كَانَ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مَعًا، فَهِيَ عِنْدَهُمُ الشَّرْطِيَّةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْحَقِيقِيَّةِ، وَهِيَ مَانِعَةُ الْجَمِيعِ وَالْخُلُوِّ مَعًا، وَلَا تَتَرَكَّبُ إِلَّا مِنَ النَّقِيضَيْنِ، أَوْ مِنَ الشَّيْءِ وَمُسَاوِي نَقِيضَيْهِ، وَضَابِطُهَا أَنَّ طَرَفَيْهَا لَا يَجْتَمِعَانِ مَعًا وَلَا يَرْتَفِعَانِ مَعًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا وَعَدَمِ الْآخَرِ، وَعَدَمُ اجْتِمَاعِهِمَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْوُجُودِ، وَعَدَمُ ارْتِفَاعِهِمَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْعَدَمِ، وَضُرُوبُهَا الْأَرْبَعَةُ مُنْتِجَةٌ، كَمَا لَوْ قُلْتَ: الْعَدَدُ إِمَّا زَوْجٌ وَإِمَّا فَرْدٌ، فَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ زَوْجٌ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ فَرْدٍ، وَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ فَرْدٌ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ زَوْجٍ، وَلَوْ قُلْتَ: وَلَكِنَّهُ غَيْرُ زَوْجٍ أَنْتَجَ فَهُوَ فَرْدٌ، وَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ فَرْدٍ أَنْتَجَ فَهُوَ زَوْجٌ، وَضَابِطُ قِيَاسِهَا أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِعَدَمِ النَّقِيضِ أَوْ مُسَاوِيهِ عَلَى وُجُودِ النَّقِيضِ، أَوْ مُسَاوِيهِ كَعَكْسِهِ.
وَإِنْ كَانَ التَّنَافُرُ وَالْعِنَادُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا فِي الْوُجُودِ فَقَطْ فَهِيَ مَانِعَةُ الْجَمْعِ الْمُجَوِّزَةُ لِلْخُلُوِّ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهَا حَصْرُ الْأَوْصَافِ، وَلَا تَتَرَكَّبُ إِلَّا مِنْ قَضِيَّةٍ وَأَخَصُّ مِنْ نَقِيضِهَا، وَضَابِطُهَا: أَنَّ طَرَفَيْهَا لَا يَجْتَمِعَانِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْوُجُودِ، وَلَا مَانِعَ مِنِ ارْتِفَاعِهِمَا لِعَدَمِ الْعِنَادِ وَالْمُنَافَرَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْعَدَمِ، وَمَانِعَةُ الْجَمْعِ الْمَذْكُورَةُ يَنْتُجُ مِنْ قِيَاسِهَا ضَرْبَانِ، وَيَعْقُمُ مِنْهُ ضَرْبَانِ، وَمِثَالُهَا قَوْلُكَ: الْجِسْمُ إِمَّا أَبْيَضُ، وَإِمَّا أَسْوَدُ، فَإِنَّ اسْتِثْنَاءَ عَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ يُنْتِجُ نَقِيضَ الْآخَرِ، بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ نَقِيضِ أَحَدِهِمَا فَلَا يُنْتِجُ شَيْئًا، فَلَوْ قُلْتَ: الْجِسْمُ إِمَّا أَبْيَضُ وَإِمَّا أَسْوَدُ لَكِنَّهُ أَبْيَضُ، أَنْتَجَ: فَهُوَ غَيْرُ أَسْوَدَ، وَإِنْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ أَسْوَدُ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ أَبْيَضَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ فَلَا يُنْتِجُ كَوْنَهُ أَسْوَدَ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْأَبْيَضِ صَادِقٌ بِالْأَسْوَدِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ أَسْوَدَ، فَلَا يُنْتِجُ كَوْنَهُ أَبْيَضَ لِصِدْقِ غَيْرِ الْأَسْوَدِ بِالْأَبْيَضِ وَغَيْرِهِ، فَلَا مَانِعَ مِنِ انْتِفَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَكَوْنِ جِسْمٍ غَيْرَ أَبْيَضَ وَغَيْرَ أَسْوَدَ ; لِأَنَّ مَانِعَةَ الْجَمِيعِ تُجَوِّزُ الْخُلُوَّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ بِأَنْ يَكُونَا مَعْدُومَيْنِ مَعًا، وَإِنَّمَا جَازَ فِيهَا الْخُلُوُّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَعًا لِوَاحِدٍ مِنْ سَبَبَيْنِ.
500
الْأَوَّلُ: وُجُودُ وَاسِطَةٍ أُخْرَى غَيْرَ طَرَفَيِ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَقَوْلُنَا فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ: الْجِسْمُ إِمَّا أَبْيَضُ، وَإِمَّا أَسْوَدُ يَجُوزُ فِيهِ الْخُلُوُّ عَنِ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ لِوُجُودِ وَاسِطَةٍ أُخْرَى مِنَ الْأَلْوَانِ غَيْرِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ مَثَلًا، فَالْجِسْمُ الْأَحْمَرُ مَثَلًا غَيْرُ أَبْيَضَ وَلَا أَسْوَدَ.
السَّبَبُ الثَّانِي: ارْتِفَاعُ الْمَحِلِّ، كَقَوْلِكَ: الْجِسْمُ إِمَّا مُتَحَرِّكٌ، وَإِمَّا سَاكِنٌ، فَإِنَّهُ إِنِ انْعَدَمَ بَعْضُ الْأَجْسَامِ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً وَرَجَعَ إِلَى الْعَدَمِ بَعْدَ الْوُجُودِ فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ كُلٌّ مِنْ طَرَفَيِ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَا يُقَالُ لِلْمَعْدُومِ: هُوَ سَاكِنٌ وَلَا مُتَحَرِّكٌ ; لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [١٩ ٩]، وَقَوْلُهُ: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [١٩ ٦٧].
وَإِنْ كَانَ الْعِنَادُ وَالْمُنَافَرَةُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا فِي الْعَدَمِ فَقَطْ فَهِيَ مَانِعَةُ الْخُلُوِّ الْمُجَوِّزَةُ لِلْجَمْعِ، وَهِيَ عَكْسُ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلَهَا تَصَوُّرًا وَإِنْتَاجًا، وَلَا تَتَرَكَّبُ إِلَّا مِنْ قَضِيَّةٍ وَأَعَمَّ مِنْ نَقِيضِهَا، وَضَابِطُهَا أَنَّ طَرَفَيْهَا لَا يَرْتَفِعَانِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْعَدَمِ، وَلَا مَانِعَ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا لِعَدَمِ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُودِ، وَمِثَالُهَا: الْجِسْمُ إِمَّا غَيْرُ أَبْيَضَ، وَإِمَّا غَيْرُ أَسْوَدَ، فَإِنَّ هَذَا الْمِثَالَ قَدْ يَجْتَمِعُ فِيهِ الطَّرَفَانِ فَلَا مَانِعَ مِنْ وُجُودِ جِسْمٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ وَغَيْرُ أَسْوَدَ، كَالْأَحْمَرِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ وَغَيْرُ أَسْوَدَ، وَلَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ وُجُودُ جِسْمٍ خَالٍ مِنْ طَرَفَيْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي مَثَّلْنَا بِهَا، فَيَكُونُ خَالِيًا مِنْ كَوْنِهِ غَيْرَ أَبْيَضَ وَغَيْرَ أَسْوَدَ ; لِأَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ غَيْرَ أَبْيَضَ أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَبْيَضُ ; لِأَنَّ نَفْيَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَإِذَا أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَبْيَضُ اسْتَحَالَ ارْتِفَاعُ الطَّرَفِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ غَيْرُ أَسْوَدَ ; لِأَنَّ الْأَبْيَضَ مَوْصُوفٌ ضَرُورَةً بِأَنَّهُ غَيْرُ أَسْوَدَ، وَهَكَذَا فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، لِأَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ غَيْرَ أَسْوَدَ أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَسْوَدُ، وَإِذَا أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَسْوَدُ لَزِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ، وَهُوَ عَيْنُ الْآخَرِ مِنْ طَرَفَيِ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقِيَاسُ هَذِهِ يَنْتُجُ مِنْهُ الضَّرْبَانِ الْعَقِيمَانِ فِي قِيَاسِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَيَعْقُمُ مِنْهُ الضَّرْبَانِ الْمُنْتِجَانِ فِي قِيَاسِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ نَقِيضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فِي قِيَاسِ هَذِهِ الْأَخِيرَةِ يُنْتِجُ عَيْنَ الْآخَرِ، وَأَنَّ اسْتِثْنَاءَ عَيْنِ الْوَاحِدِ مِنْهُمَا لَا يُنْتِجُ شَيْئًا.
فَقَوْلُنَا فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ: الْجِسْمُ إِمَّا غَيْرُ أَبْيَضَ وَإِمَّا غَيْرُ أَسْوَدَ، لَوْ قُلْتَ فِيهِ: لَكِنَّهُ أَبْيَضُ، أَنْتَجَ، فَهُوَ غَيْرُ أَسْوَدَ، وَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ أَسْوَدُ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ أَبْيَضَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ، فَلَا يُنْتِجُ نَفْيَ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَلَا وُجُودَهُ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْأَبْيَضِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَدَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ أَسْوَدَ بَلْ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ
501
أَسْوَدَ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ نَفْيُ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَلَا إِثْبَاتُهُ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْأَسْوَدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَبْيَضَ وَغَيْرَ أَبْيَضَ لِكَوْنِهِ أَحْمَرَ مَثَلًا.
هَذِهِ خُلَاصَةٌ مُوجَزَةٌ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي نَظَرِ الْمَنْطِقِيِّينَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
اعْلَمْ أَنَّ لِهَذَا الدَّلِيلِ آثَارًا تَارِيخِيَّةً، وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْضَهَا.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ الْعَظِيمَ جَاءَ فِي التَّارِيخِ أَنَّهُ أَوَّلُ سَبَبٍ لِضَعْفِ الْمِحْنَةِ الْعُظْمَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي عَقَائِدِهِمْ بِالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّ مِحْنَةَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ نَشَأَتْ فِي أَيَّامِ الْمَأْمُونِ، وَاسْتَفْحَلَتْ جِدًّا فِي أَيَّامِ الْمُعْتَصِمِ، وَاسْتَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْوَاثِقِ، وَهِيَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ التَّارِيخِ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ وَقَدَمٍ.
وَمَعْلُومٌ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ قَتْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْأَفَاضِلِ وَتَعْذِيبِهِمْ، وَاضْطِرَارِ بَعْضِهِمْ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ بِالْقَوْلِ خَوْفًا.
وَمَعْلُومٌ مَا وَقَعَ فِيهَا لِسَيِّدِ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَنِهِ
«الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ» - تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، وَجَزَاهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ خَيْرًا - مِنَ الضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ أَيَّامَ الْمُعْتَصِمِ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ أَوَّلَ مَصْدَرٍ تَارِيخِيٍّ لِضِعْفِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ وَكَبْحِ جِمَاحِهَا هُوَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَرْجَمَةِ
«أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ» : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَاسِي، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ شُعَيْبٍ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَمِعْتُ طَاهِرَ بْنَ خَلَفٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْوَاثِقِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ يَقُولُ: كَانَ أَبِي إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا أَحْضَرَنَا ذَلِكَ الْمَجْلِسَ، فَأُتِيَ بِشَيْخٍ مَخْضُوبٍ مُقَيَّدٍ فَقَالَ أَبِي: ائْذَنُوا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ) يَعْنِي ابْنَ أَبِي دُؤَادَ (قَالَ: فَأُدْخِلَ الشَّيْخُ وَالْوَاثِقُ فِي مُصَلَّاهُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ: لَا سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِئْسَ مَا أَدَّبَكَ مُؤَدِّبُكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [٤ ٨٦]، وَاللَّهِ مَا حَيَّيْتَنِي بِهَا وَلَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا، فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الرَّجُلُ مُتَكَلِّمٌ، فَقَالَ لَهُ: كَلِّمْهُ، فَقَالَ: يَا شَيْخُ، مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ الشَّيْخُ: لَمْ تَنْصِفْنِي - يَعْنِي وَلِيَ السُّؤَالُ - فَقَالَ لَهُ: سَلْ: فَقَالَ
502
لَهُ الشَّيْخُ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ عَلِمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، أَمْ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمُوهُ؟ فَقَالَ: شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمُوهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَبُو بَكْرٍ، وَلَا عُمَرُ، وَلَا عُثْمَانُ، وَلَا عَلِيٌّ، وَلَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، عَلِمْتَهُ أَنْتَ؟ ! قَالَ: فَخَجِلَ، فَقَالَ: أَقِلْنِي وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ عَلِمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوهُ؟ فَقَالَ: عَلِمُوهُ وَلَمْ يَدْعُوا النَّاسَ إِلَيْهِ، قَالَ: أَفَلَا وَسِعَكَ مَا وَسِعَهُمْ؟ ! قَالَ: ثُمَّ قَامَ أَبِي فَدَخَلَ مَجْلِسَ الْخَلْوَةِ وَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ وَوَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْهُ النَّبِيُّ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانَ وَلَا عَلِيٌّ وَلَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، عَلِمْتَهُ أَنْتَ؟ سُبْحَانَ اللَّهِ، شَيْءٌ عَلِمَهُ النَّبِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَلَمْ يَدْعُوا النَّاسَ إِلَيْهِ أَفَلَا وَسِعَكَ مَا وَسِعَهُمْ؟ ثُمَّ دَعَا عَمَّارًا الْحَاجِبَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ الْقُيُودَ وَيُعْطِيَهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَيَأْذَنَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ، وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ، وَلَمْ يَمْتَحِنْ بَعْدَ ذَلِكَ أَحَدًا. انْتَهَى مِنْهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَارِيخِهِ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ، وَلِمَا انْتَهَى مِنْ سِيَاقِهَا قَالَ: ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ بَعْضُ مَنْ لَا يُعْرَفُ. اهـ.
وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ بِمَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ: مِنْ أَنَّ الْوَاثِقَ تَابَ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ: قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ اسْتَوْلَى عَلَى الْوَاثِقِ وَحَمَلَهُ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي الْمِحْنَةِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ: قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّ الْوَاثِقَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ، أَنْبَأَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْمُهْتَدِي: أَنَّ الْوَاثِقَ مَاتَ وَقَدْ تَابَ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهَذِهِ الْقِصَّةُ لَمْ تَزَلْ مَشْهُورَةً عِنْدَ الْعُلَمَاءِ صَحِيحَةَ الِاحْتِجَاجِ، فِيهَا إِلْقَامُ الْخَصْمِ الْحَجَرَ.
وَحَاصِلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي أَلْقَمَ بِهَا هَذَا الشَّيْخُ - الَّذِي كَانَ مُكَبَّلًا بِالْقُيُودِ يُرَادُ قَتْلُهُ - أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ حَجَرًا، هُوَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ الَّذِي هُوَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ. فَكَانَ الشَّيْخُ الْمَذْكُورُ يَقُولُ لِابْنِ أَبِي دُؤَادٍ: مَقَالَتُكَ هَذِهِ الَّتِي تَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهَا لَا تَخْلُو بِالتَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ عَالِمِينَ بِهَا أَوْ غَيْرَ
503
عَالَمِينَ بِهَا وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، فَلَا قِسْمٌ ثَالِثٌ أَلْبَتَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ بِالسَّبْرِ الصَّحِيحِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَبَيَّنَ أَنَّ السَّبْرَ الصَّحِيحَ يُظْهِرُ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ لَيْسَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ.
أَمَّا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَالِمًا بِهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَتَرَكُوا النَّاسَ وَلَمْ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، فَدَعْوَةُ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ إِلَيْهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنْ عَدَمِ الدَّعْوَةِ لَهَا، وَكَانَ يَسَعُهُ مَا وَسِعَهُمْ.
وَأَمَّا عَلَى كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ غَيْرَ عَالِمِينَ بِهَا، فَلَا يُمْكِنُ لِابْنِ أَبِي دُؤَادٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهَا، فَظَهَرَ ضَلَالُهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ الْوَاثِقِ، وَتَرَكَ الْوَاثِقُ لِذَلِكَ امْتِحَانَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَكَانَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ أَوَّلَ مَصْدَرٍ تَارِيخِيٍّ لِضَعْفِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَزَالَهَا اللَّهُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى يَدِ الْمُتَوَكِّلِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي هَذَا مَنْقَبَةٌ تَارِيخِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِهَذَا الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ.
وَمِنْ آثَارِ هَذَا الدَّلِيلِ التَّارِيخِيَّةِ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ، مِنْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هَمَّامٍ السَّلُولِيَّ وَشَى بِهِ وَاشٍ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَأَدْخَلَ ابْنُ زِيَادٍ الْوَاشِيَ فِي مَحِلٍّ قَرِيبٍ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ نَادَى ابْنَ هَمَّامٍ السَّلُولِيَّ وَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ فِيَّ كَذَا وَكَذَا؟ ! فَقَالَ السَّلُولِيُّ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ وَاللَّهِ مَا قُلْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ ابْنُ زِيَادٍ الْوَاشِيَ، وَقَالَ: هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّكَ قُلْتَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ ابْنُ هَمَّامٍ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ مُخَاطِبًا لِلْوَاشِي:
وَأَنْتَ امْرُؤٌ إِمَّا ائْتَمَنْتُكَ خَالِيًا فَخُنْتَ وَإِمَّا قُلْتَ قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ فَأَنْتَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا بِمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْخِيَانَةِ وَالْإِثْمِ
فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: صَدَقْتَ. وَطَرَدَ الْوَاشِيَ.
وَحَاصِلُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الَّذَيْنِ طَرَدَ بِهِمَا ابْنُ زِيَادٍ الْوَاشِيَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلسَّلُولِيِّ بِسُوءٍ بِسَبَبِهِمَا، هُوَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ الْمَذْكُورُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: لَا يَخْلُو قَوْلُكَ هَذَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ أَكُونَ ائْتَمَنْتُكَ عَلَى سِرٍّ فَأَفْشَيْتَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قُلْتَهُ عَلَيَّ كَذِبًا، ثُمَّ رَجَعَ بِالسَّبْرِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاشِيَ مُرْتَكِبٌ مَا لَا يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ ائْتَمَنَهُ عَلَى سِرٍّ فَأَفْشَاهُ فَهُوَ خَائِنٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَالَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَذِبًا وَافْتِرَاءً فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
اعْلَمْ: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ التَّارِيخِيَّ الْعَظِيمَ يُوضِّحُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ مَوْقِفَ الْمُسْلِمِينَ
504
الطَّبِيعِيَّ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ، وَبِذَلِكَ الْإِيضَاحِ التَّامِّ يَتَمَيَّزُ النَّافِعُ مِنَ الضَّارِّ، وَالْحَسَنُ مِنَ الْقَبِيحِ، وَالْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ الْقَطْعِيَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَضَارَةَ الْغَرْبِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى نَافِعٍ وَضَارٍّ: أَمَّا النَّافِعُ مِنْهَا فَهُوَ مِنَ النَّاحِيَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَتَقَدُّمُهَا فِي جَمِيعِ الْمَيَادِينِ الْمَادِّيَّةِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ أُبَيِّنَهُ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْمَنَافِعِ لِلْإِنْسَانِ أَعْظَمُ مِمَّا كَانَ يَدْخُلُ تَحْتَ التَّصَوُّرِ، فَقَدْ خَدَمَتِ الْإِنْسَانَ خِدْمَاتٍ هَائِلَةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَسَدٌ حَيَوَانِيٌّ، وَأَمَّا الضَّارُّ مِنْهَا فَهُوَ إِهْمَالُهَا بِالْكُلِّيَّةِ لِلنَّاحِيَةِ الَّتِي هِيَ رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ، وَلَا خَيْرَ أَلْبَتَّةَ فِي الدُّنْيَا بِدُونِهَا، وَهِيَ التَّرْبِيَةُ الرُّوحِيَّةُ لِلْإِنْسَانِ وَتَهْذِيبُ أَخْلَاقِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنُورِ الْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي يُوَضِّحُ لِلْإِنْسَانِ طَرِيقَ السَّعَادَةِ، وَيَرْسُمُ لَهُ الْخُطَطَ الْحَكِيمَةَ فِي كُلِّ مَيَادِينِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَجْعَلُهُ عَلَى صِلَةٍ بِرَبِّهِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ.
فَالْحَضَارَةُ الْغَرْبِيَّةُ غَنِيَّةٌ بِأَنْوَاعِ الْمَنَافِعِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُولَى، مُفْلِسَةٌ إِفْلَاسًا كُلِّيًّا مِنَ النَّاحِيَةِ الثَّانِيَةِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ طُغْيَانَ الْمَادَّةِ عَلَى الرُّوحِ يُهَدِّدُ الْعَالَمَ أَجْمَعَ بِخَطَرٍ دَاهِمٍ، وَهَلَاكٍ مُسْتَأْصِلٍ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ الْآنَ، وَحَلُّ مُشْكِلَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ إِلَّا بِالِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِ الْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي هُوَ تَشْرِيعُ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ; لِأَنَّ مَنْ أَطْغَتْهُ الْمَادَّةُ حَتَّى تَمَرَّدَ عَلَى خَالِقِهِ وَرَازِقِهِ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا.
وَالتَّقْسِيمُ الصَّحِيحُ يَحْصُرُ أَوْصَافَ الْمَحِلِّ الَّذِي هُوَ الْمَوْقِفُ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ لَا خَامِسَ لَهَا، حَصْرًا عَقْلِيًّا لَا شَكَّ فِيهِ:
الْأَوَّلُ: تَرْكُ الْحَضَارَةِ الْمَذْكُورَةِ نَافِعِهَا وَضَارِّهَا.
الثَّانِي: أَخْذُهَا كُلِّهَا ضَارِّهَا وَنَافِعِهَا.
الثَّالِثُ: أَخْذُ ضَارِّهَا وَتَرْكُ نَافِعِهَا.
الرَّابِعُ: أَخْذُ نَافِعِهَا وَتَرْكُ ضَارِّهَا.
فَنَرْجِعُ بِالسَّبْرِ الصَّحِيحِ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، فَنَجِدُ ثَلَاثَةً مِنْهَا بَاطِلَةً بِلَا شَكٍّ، وَوَاحِدًا صَحِيحًا بِلَا شَكٍّ.
أَمَّا الثَّلَاثَةُ الْبَاطِلَةُ: فَالْأَوَّلُ مِنْهَا تَرْكُهَا كُلِّهَا، وَوَجْهُ بُطْلَانِهِ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ عَدَمَ الِاشْتِغَالِ بِالتَّقَدُّمِ الْمَادِّيِّ يُؤَدِّي إِلَى الضَّعْفِ الدَّائِمِ، وَالتَّوَاكُلِ وَالتَّكَاسُلِ، وَيُخَالِفُ الْأَمْرَ السَّمَاوِيَّ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ الْآيَةَ [١٨ ٦٠].
لَا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنَ الْأَذَى حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ
505
الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْأَقْسَامِ الْبَاطِلَةِ أَخْذُهَا ; لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الِانْحِطَاطِ الْخُلُقِيِّ وَضَيَاعِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمُثُلِ الْعُلْيَا لِلْإِنْسَانِيَّةِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ أُبَيِّنَهُ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا فِيهَا مِنَ التَّمَرُّدِ عَلَى نِظَامِ السَّمَاءِ، وَعَدَمِ طَاعَةِ خَالِقِ هَذَا الْكَوْنِ جَلَّ وَعَلَا: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [١٠ ٥٩]، أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [٤٢ ٢١]، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْبَاطِلَةِ هُوَ أَخْذُ الضَّارِّ وَتَرْكُ النَّافِعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَهُ أَقَلُّ تَمْيِيزٍ، فَتَعَيَّنَتْ صِحَّةُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ بِالتَّقْسِيمِ وَالسَّبْرِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ أَخْذُ النَّافِعِ وَتَرْكُ الضَّارِّ.
وَهَكَذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ، فَقَدِ انْتَفَعَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ خُطَّةٌ عَسْكَرِيَّةٌ كَانَتْ لِلْفُرْسِ، أَخْبَرَهُ بِهَا سَلْمَانُ فَأَخَذَ بِهَا، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهَا لِلْكُفَّارِ، وَقَدْ هَمَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَمْنَعَ وَطْءَ النِّسَاءِ الْمَرَاضِعِ خَوْفًا عَلَى أَوْلَادِهِنَّ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْغِيلَةَ - وَهِيَ وَطْءُ الْمُرْضِعِ - تُضْعِفُ وَلَدَهَا وَتَضُرُّهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَوَارِسُ لَمْ يُغَالُوا فِي رَضَاعٍ فَتَنْبُو فِي أَكُفِّهِمُ السُّيُوفُ
فَأَخْبَرَتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارِسُ وَالرُّومُ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ، فَأَخَذَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ تِلْكَ الْخُطَّةَ الطِّبِّيَّةَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهَا مِنَ الْكُفَّارِ.
وَقَدِ انْتَفَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَالَةِ ابْنِ الْأُرَيْقِطِ الدُّؤَلِيِّ لَهُ فِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ عَلَى الطَّرِيقِ، مَعَ أَنَّهُ كَافِرٌ.
فَاتَّضَحَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الْمَوْقِفَ الطَّبِيعِيَّ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ هُوَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي تَحْصِيلِ مَا أَنْتَجَتْهُ مِنَ النَّوَاحِي الْمَادِّيَّةِ، وَيَحْذَرُوا مِمَّا جَنَتْهُ مِنَ التَّمَرُّدِ عَلَى خَالِقِ الْكَوْنِ جَلَّ وَعَلَا فَتَصْلُحَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَالْمُؤْسِفُ أَنَّ أَغْلَبَهُمْ يَعْكِسُونَ الْقَضِيَّةَ، فَيَأْخُذُونَ مِنْهَا الِانْحِطَاطَ الْخُلُقِيَّ، وَالِانْسِلَاخَ مِنَ الدِّينِ، وَالتَّبَاعُدَ مِنْ طَاعَةِ خَالِقِ الْكَوْنِ، وَلَا يَحْصُلُونَ عَلَى نَتِيجَةٍ مِمَّا فِيهَا مِنَ النَّفْعِ الْمَادِّيِّ، فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
وَمَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالْإِفْلَاسَ بِالرَّجُلِ وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا نَافِعًا فِي كَوْنِ الدِّينِ لَا يُنَافِي التَّقَدُّمَ الْمَادِّيَّ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [١٧ ٩]، فَأَغْنَى ذَلِكَ
506
عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَقَدْ عُرِفَ فِي تَارِيخِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْعَوْنَ فِي التَّقَدُّمِ فِي جَمِيعِ الْمَيَادِينِ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى طَاعَةِ خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَلَّ وَعَلَا.
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْعَهْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [١٩ ٧٨]، أَنَّ الْمَعْنَى: أَمْ أَعْطَاهُ اللَّهُ عَهْدًا أَنَّهُ سَيَفْعَلُ لَهُ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ
«الْبَقَرَةِ» : قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ [٢ ٨٠]، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: الْعَهْدُ الْمَذْكُورُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقِيلَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ سَيَكْتُبُ مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْكَافِرُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ، مِنْ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْتَى مَالًا وَوَلَدًا مَعَ كُفْرِهِ بِاللَّهِ، وَأَنَّهُ يَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا [١٩ ٧٩] أَيْ: نَزِيدُهُ عَذَابًا فَوْقَ عَذَابٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا أَيْ: نُطَوِّلُ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَسْتَأْهِلُهُ، وَنُعَذِّبُهُ بِالنَّوْعِ الَّذِي يُعَذَّبُ بِهِ الْمُسْتَهْزِئُونَ، أَوْ نَزِيدُهُ مِنَ الْعَذَابِ وَنُضَاعِفُ لَهُ مِنَ الْمَدَدِ، يُقَالُ: مَدَّهُ وَأَمَدَّهُ، بِمَعْنًى، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
«وَنُمِدُّ لَهُ» ، بِالضَّمِّ.
وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْمَصْدَرِ، وَذَلِكَ مِنْ فَرْطِ غَضَبِ اللَّهِ، نَعُوذُ بِهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِمَا يَسْتَوْجِبُ غَضَبَهُ. اهـ.
وَأَصْلُ الْمَدَدِ لُغَةً: الزِّيَادَةُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَكَابِرِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [١٦ ٨٨]، وَقَوْلُهُ فِي الْأَتْبَاعِ وَالْمَتْبُوعِينَ: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [٧ ٣٨].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [١٩ ٨٠]، أَيْ: مَا يَقُولُ إِنَّهُ يُؤْتَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ، أَيْ: نَسْلُبُهُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا مَا أَعْطَيْنَاهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ بِإِهْلَاكِنَا إِيَّاهُ، وَقِيلَ: نَحْرِمُهُ مَا تَمَنَّاهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ فِي الْآخِرَةِ، وَنَجْعَلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَدُلُّ لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [١٩ ٤٠]، وَقَوْلُهُ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [١٥ ٢٣]، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي
507
هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَيَأْتِينَا فَرْدًا، أَيْ: مُنْفَرِدًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ وَلَا خَدَمَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [٦ ٩٤]، وَقَالَ تَعَالَى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [١٩ ٩٥] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَبَّرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِحَرْفِ التَّنْفِيسِ الدَّالِّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ فِي قَوْلِهِ: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ مَعَ أَنَّ مَا يَقُولُهُ الْكَافِرُ يُكْتَبُ بِلَا تَأْخِيرٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [٥٠ ١٨].
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي كَشَّافِهِ تَعَرَّضَ لِلْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِمَا نَصُّهُ:.
قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: سَنُظْهِرُ لَهُ وَنُعْلِمُهُ أَنَا كَتَبْنَا قَوْلَهُ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ زَائِدِ بْنِ صَعْصَعَةَ الْفَقْعَسِيِّ:
إِذْ مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بِهَا بُدًّا
أَيْ: تَبَيَّنَ وَعُلِمَ بِالِانْتِسَابِ أَنِّي لَسْتُ بِابْنِ لَئِيمَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتَوَعِّدَ يَقُولُ لِلْجَانِي: سَوْفَ أَنْتَقِمُ مِنْكَ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالِانْتِصَارِ وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِ الزَّمَانُ وَاسْتَأْخَرَ، فَجَرَّدَهَا هُنَا لِمَعْنَى الْوَعِيدِ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، إِلَّا أَنَّا زِدْنَا اسْمَ قَائِلِ الْبَيْتِ وَتَكْمِلَتَهُ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ يَكْتُبُ مَا يَقُولُ هَذَا الْكَافِرُ، ذَكَرَ نَحْوَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [١٠ ٢١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [٤٣ ٨٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٤٥ ٢٩] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [٤٣ ١٩] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [٣ ١٨١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [٨٢ ٩ - ١١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [١٨ ٤٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [١٧ ١٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [١٩ ٧٢]، اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أَيْ مَعْبُودَاتٍ مِنْ أَصْنَامٍ وَغَيْرِهَا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، أَيْ: أَنْصَارًا وَشُفَعَاءَ يُنْقِذُونَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، كَمَا أَوْضَحَ تَعَالَى مُرَادَهُمْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [٣٩ ٣]، فَتَقْرِيبُهُمْ إِيَّاهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى فِي زَعْمِهِمْ هُوَ عِزُّهُمُ الَّذِي أَمَّلُوهُ بِهِمْ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ الْآيَةَ [١٠ ١٨]، فَالشَّفَاعَةُ عِنْدَ اللَّهِ عِزٌّ لَهُمْ بِهِمْ يَزْعُمُونَهُ كَذِبًا وَافْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [١٠ ١٨].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَلَّا، زَجْرٌ وَرَدْعٌ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الظَّنِّ الْفَاسِدِ الْبَاطِلِ، أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَا تَكُونُ الْمَعْبُودَاتُ الَّتِي عَبَدْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِزًّا لَكُمْ، بَلْ تَكُونُ بِعَكْسِ ذَلِكَ، فَتَكُونُ عَلَيْكُمْ ضِدًّا، أَيْ: أَعْوَانًا عَلَيْكُمْ فِي خُصُومَتِكُمْ وَتَكْذِيبِكُمْ وَالتَّبَرُّؤِ مِنْكُمْ، وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ تَدُورُ حَوْلَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ضِدًّا أَيْ: أَعْوَانًا، وَقَوْلِ الضَّحَّاكِ: ضِدًّا، أَيْ: أَعْدَاءً، وَقَوْلِ قَتَادَةَ: ضِدًّا، أَيْ: قُرَنَاءُ فِي النَّارِ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَقَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ: ضِدًّا يَجِيئُهُمْ مِنْهُمْ خِلَافُ مَا أَمَّلُوهُ فَيَئُولُ بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، ضِدِّ مَا أَمَّلُوهُ مِنَ الْعِزِّ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [٤٦ ٥ - ٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [٣٥ ١٣ - ١٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: سَيَكْفُرُونَ فِيهِ وَجْهَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَكِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، إِلَّا أَنَّ لِأَحَدِهِمَا قَرِينَةً تُرَجِّحُهُ عَلَى الْآخَرِ.
509
الْأَوَّلُ: أَنَّ وَاوَ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: سَيَكْفُرُونَ، رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَمَّا الْعَاقِلُ مِنْهَا فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْعَاقِلِ فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ لَهُ إِدْرَاكًا يُخَاطِبُ بِهِ مَنْ عَبَدَهُ وَيَكْفُرُ بِهِ بِعِبَادَتِهِ إِيَّاهُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [٢٨ ٦٣]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ [١٦ ٨٦]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ [١٠ ٢٨ - ٢٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
الْوَجْه الثَّانِي: أَنَّ الْعَابِدِينَ هُمُ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ شُرَكَاءَهُمْ وَيُنْكِرُونَهَا وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [٦ ٢٣]، وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا الْآيَةَ [٤٠ ٧٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْقَرِينَةُ الْمُرَجِّحَةُ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَيَكُونُونَ، رَاجِعٌ لِلْمَعْبُودَاتِ، وَعَلَيْهِ فَرُجُوعُ الضَّمِيرِ فِي يَكْفُرُونَ لِلْمَعْبُودَاتِ أَظْهَرُ ; لِانْسِجَامِ الضَّمَائِرِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ.
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَمِيرُ يَكْفُرُونَ لِلْعَابِدِينَ، وَضَمِيرُ يَكُونُونَ لِلْمَعْبُودِينَ، وَتَفْرِيقُ الضَّمَائِرِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ كَلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا بَعْدَهَا لَا بِمَا قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْمَعْنَى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ، أَيْ: حَقًّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ - مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ مِنْهُ وَأَرْجَحُ، وَقَائِلُهُ أَكْثَرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي قَوْلِهِ: كَلَّا قِرَاءَاتٌ شَاذَّةٌ تَرَكْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا لِشُذُوذِهَا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، أَفْرَدَ فِيهِ الْعِزَّ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجَمْعُ ; لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرْ فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرْ وَالْإِخْبَارُ بِالْمَصْدَرِ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ النَّعْتِ بِهِ، وَقَوْلُهُ: ضِدًّا مُفْرَدًا أَيْضًا أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ
510
الزَّمَخْشَرِيُّ: الضِّدُّ: الْعَوْنُ، وُحِّدَ تَوْحِيدَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، «هُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» لِاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ لِفَرْطِ تَضَامُنِهِمْ وَتَوَافُقِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا.
قَوْلُهُ: أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ الْآيَةَ [١٩ ٨٣]، أَيْ: سَلَّطْنَاهُمْ عَلَيْهِمْ وَقَيَّضْنَاهُمْ لَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ الْآيَةَ، أَيْ: خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَلَمْ نَعْصِمْهُمْ مِنْ شَرِّهِمْ، يُقَالُ: أَرْسَلْتُ الْبَعِيرَ، أَيْ: خَلَّيْتُهُ.
وَقَوْلُهُ: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا: الْأَزُّ وَالْهَزُّ وَالِاسْتِفْزَازُ بِمَعْنًى، وَمَعْنَاهَا التَّهْيِيجُ وَشِدَّةُ الْإِزْعَاجِ، فَقَوْلُهُ: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا، أَيْ: تُهَيِّجُهُمْ وَتُزْعِجُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي.
وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْآيَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا: كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا، أَيْ: تُغْرِيهِمْ إِغْرَاءً "، وَكَقَوْلِ مُجَاهِدٍ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا، أَيْ: تُشْلِيهِمْ إِشْلَاءً، وَكَقَوْلِ قَتَادَةَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أَيْ: تُزْعِجُهُمْ إِزْعَاجًا.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ سَلَّطَ الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَقَيَّضَهُمْ لَهُمْ يُضِلُّونَهُمْ عَنِ الْحَقِّ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ الْآيَةَ [٤١ ٢٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ الْآيَةَ [٤٣ ٣٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ الْآيَةَ [٦ ١٢٨] وَقَوْلِهِ: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [٧ ٢٠٢]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا.
قَوْلُهُ: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ [١٩ ٨٤]، أَيْ: لَا تَسْتَعْجِلْ وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ حَدَّدَ لَهُ أَجَلًا مُعَيَّنًا مَعْدُودًا، فَإِذَا انْتَهَى ذَلِكَ الْأَجَلُ جَاءَهُمُ الْعَذَابُ، فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا، أَيْ: نَعُدُّ الْأَعْوَامَ وَالشُّهُورَ وَالْأَيَّامَ الَّتِي دُونَ وَقْتِ هَلَاكِهِمْ، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: عَجِلْتُ عَلَيْهِ بِكَذَا: إِذَا اسْتَعْجَلْتُهُ مِنْهُ.
وَمِمَّا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ هَلَاكَ الْكُفَّارِ حُدِّدَ لَهُ أَجْلٌ مَعْدُودٌ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [٤٦ ٣٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ الْآيَةَ [٢٩ ٥٣] وَقَوْلِهِ: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [١١ ١٠٤] وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ [١١ ٨] وَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [١٤ ٤٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [٣١ ٢٤]، وَقَوْلِهِ: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ الْآيَةَ [٢ ١٢٦]، وَقَوْلِهِ: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [٨٦ ١٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ الْكَرِيمَةَ فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَأَشَارَ إِلَى ابْنِ السَّمَّاكِ أَنْ يَعِظَهُ، فَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الْأَنْفَاسُ بِالْعَدَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَدَدْ، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَنْفَدْ.
وَالْأَظْهَرُ فِي الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْعَدَّ الْمَذْكُورَ عَدُّ الْأَعْوَامِ وَالْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ مِنَ الْأَجَلِ الْمُحَدَّدِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ عَدُّ أَنْفَاسِهِمْ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ السَّمَّاكِ فِي مَوْعِظَتِهِ لِلْمَأْمُونِ الَّتِي ذَكَرْنَا إِنْ صَحَّ ذَلِكَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
«أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا بَكَى، وَقَالَ: آخِرُ الْعَدَدِ خُرُوجُ نَفْسِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ: فِرَاقُ أَهْلِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ: دُخُولُ قَبْرِكَ» .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أَيْ: نَعُدُّ أَعْمَالَهُمْ لِنُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا، وَالظَّاهِرُ هُوَ مَا قَدَّمْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَّقُونَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ يُحْشَرُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ وَفْدًا، وَالْوَفْدُ عَلَى التَّحْقِيقِ: جَمْعُ وَافِدٍ كَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ، وَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ، وَقَدَّمْنَا فِي سُورَةِ
«النَّحْلِ» أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْفِعْلَ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ مِنْ صِيَغِ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ لِلْفَاعِلِ وَصْفًا، وَبَيَّنَّا شَوَاهِدَ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ أَغْفَلَهُ الصَّرْفِيُّونَ، وَالْوَافِدُ: مَنْ يَأْتِي إِلَى الْمَلِكِ مَثَلًا إِلَى أَمْرٍ لَهُ شَأْنٌ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَفْدًا [١٩ ٨٥]، أَيْ: رُكْبَانًا، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: هُمْ رُكْبَانٌ عَلَى نَجَائِبَ مِنْ نُورٍ مِنْ مَرَاكِبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ:
512
يُحْشَرُونَ رُكْبَانًا عَلَى صُوَرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ فِي الدُّنْيَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَطِيبِ الرَّائِحَةِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ خَالِدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ عَنِ ابْنِ مَرْزُوقٍ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، قَالَ: يَسْتَقْبِلُ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ أَحْسَنُ صُورَةٍ رَآهَا وَأَطْيَبُهَا رِيحًا، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ طَيَّبَ رِيحَكَ، وَحَسَّنَ وَجْهَكَ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، وَهَكَذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا حَسَنَ الْعَمَلِ طَيِّبَهُ، فَطَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا فَهَلُمَّ ارْكَبْنِي، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، قَالَ: رُكْبَانًا
«، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ» يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، قَالَ: عَلَى الْإِبِلِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَلَى النَّجَائِبِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَلَى الْإِبِلِ النُّوقِ، وَقَالَ قَتَادَةُ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا قَالَ: إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا النُّعْمَانُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، قَالَ: وَاللَّهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشُرُونَ، وَلَا يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَلَكِنْ بِنُوقٍ لَمْ يَرَ الْخَلَائِقُ مِثْلَهَا، عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبُوا أَبْوَابَ الْجَنَّةِ! ! وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَدَنِيِّ بِهِ، وَزَادَ
«عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَزِمَّتُهَا الزَّبَرْجَدُ.» وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا مَرْفُوعًا عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النَّهْدِيُّ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَجَلِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْبَصْرِيَّ يَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، فَقَالَ: مَا أَظُنُّ الْوَفْدَ إِلَّا الرَّكْبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ يُسْتَقْبَلُونَ - أَوْ: يُؤْتَوْنَ - بِنُوقٍ بِيضٍ لَهَا أَجْنِحَةٌ وَعَلَيْهَا رَحَائِلُ الذَّهَبِ، شِراكُ نِعَالِهِمْ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، كُلُّ خُطْوَةٍ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ، فَيَنْتَهُونَ إِلَى شَجَرَةٍ يَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا عَيْنَانِ فَيَشْرَبُونَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَتَغْسِلُ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ دَنَسٍ، وَيَغْتَسِلُونَ مِنَ الْأُخْرَى فَلَا تَشْعَثُ أَبْشَارُهُمْ وَلَا أَشْعَارُهُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ فَيَنْتَهُونَ - أَوْ: فَيَأْتُونَ - بَابَ الْجَنَّةِ فَإِذَا حَلْقَةٌ مِنْ يَاقُوتٍ
513
حَمْرَاءَ عَلَى صَفَائِحِ الذَّهَبِ، فَيَضْرِبُونَ بِالْحَلْقَةِ عَلَى الصَّفْحَةِ فَيُسْمَعُ لَهَا طَنِينٌ يَا عَلِيُّ، فَيَبْلُغُ كُلَّ حَوْرَاءَ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ أَقْبَلَ فَتَبْعَثُ قَيِّمَهَا لِيَفْتَحَ لَهُ فَإِذَا رَآهُ خَرَّ لَهُ) قَالَ سَلَمَةُ: أَرَاهُ قَالَ سَاجِدًا (فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَإِنَّمَا أَنَا قَيِّمُكَ وُكِّلْتُ بِأَمْرِكَ، فَيَتْبَعُهُ وَيَقْفُو أَثَرَهُ فَتَسْتَخِفُّ الْحَوْرَاءَ الْعَجَلَةُ فَتَخْرُجُ مِنْ خِيَامِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ حَتَّى تَعْتَنِقَهُ.» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ، وَفِي آخِرِ السِّيَاقِ: هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَرْفُوعًا، وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصِّحَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.
وَرُكُوبُهُمُ الْمَذْكُورُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمَحْشَرِ إِلَى الْجَنَّةِ، أَمَّا مِنَ الْقَبْرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ مُشَاةً، بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَجَزَمَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [١٩ ٨٦]، السَّوْقُ مَعْرُوفٌ، وَالْمُجْرِمُونَ: جَمْعُ تَصْحِيحٍ لِلْمُجْرِمِ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلِ الْإِجْرَامِ، وَالْإِجْرَامُ: ارْتِكَابُ الْجَرِيمَةِ، وَهِيَ الذَّنْبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ بِهِ النَّكَالَ وَالْعَذَابَ، وَلَمْ يَأْتِ الْإِجْرَامُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مِنْ
«أَجْرَمَ» الرُّبَاعِيِّ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، وَيَجُوزُ إِتْيَانُهُ فِي اللُّغَةِ بِصِيغَةِ الثُّلَاثِيِّ فَتَقُولُ: جَرَمَ يَجْرِمُ كَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَالْفَاعِلُ مِنْهُ جَارِمٌ، وَالْمَفْعُولُ مَجْرُومٌ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ الْبَرَّاقَةِ النَّهْمِيِّ:
وَنَنْصُرُ مَوْلَانَا وَنَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا النَّاسِ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وِرْدًا، أَيْ: عِطَاشًا، وَأَصْلُ الْوِرْدِ: الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَاءِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعَطَشِ أُطْلِقَ هُنَا اسْمُ الْوِرْدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْعِطَاشِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَطَشِ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْوِرْدِ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْمَاءِ قَوْلُ الرَّاجِزِ يُخَاطِبُ نَاقَتَهُ:
رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطَاةٍ صَمَّا كُدْرِيَّةٍ أَعْجَبَهَا بَرْدُ الْمَا
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعَامِلِ النَّاصِبِ لِقَوْلِهِ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ، فَقِيلَ مَنْصُوبٌ بِـ يَمْلِكُونَ بَعْدَهُ، أَيْ: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِـ
«اذْكُرْ» أَوِ احْذَرْ، مُقَدَّرًا، وَفِيهِ أَقْوَالٌ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَهَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ
«الزُّمَرِ» :
514
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [٣٩ ٧١ - ٧٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [١٩ ٨٧].
قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَكُونَ فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ أَوْ أَوْجُهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ كُلُّهَا حَقٌّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، فَإِنَّا نَذْكُرُ الْجَمِيعَ وَأَدِلَّتَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُجْرِمِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ أَيْ: لَا يَمْلِكُ الْمُجْرِمُونَ الشَّفَاعَةَ، أَيْ: لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِمْ شَافِعٌ يُخَلِّصُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوْلِ وَالْعَذَابِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ مِنَ التَّفْسِيرِ تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [٧٤ ٤٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [٢٦ ١٠٠ - ١٠١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ الْآيَةَ [٤٠ ١٨] وَقَوْلِهِ: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [٢١ ٢٨] مَعَ قَوْلِهِ: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [٣٩ ٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ يُفْهَمُ مِنْهُ بِالْأَحْرَى أَنَّ الْمُجْرِمِينَ لَا يَشْفَعُونَ فِي غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِمْ غَيْرُهُمْ لِكُفْرِهِمْ فَشَفَاعَتُهُمْ فِي غَيْرِهِمْ مَمْنُوعَةٌ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَعَلَى كَوْنِ الْوَاوِ فِي لَا يَمْلِكُونَ رَاجِعَةً إِلَى الْمُجْرِمِينَ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ وَ
«مَنِ» فِي مَحِلِّ نَصْبٍ، وَالْمَعْنَى: لَكِنْ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ، أَيْ: بِتَمْلِيكِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَإِذْنِهِ لَهُمْ فَيَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ بِمَا ذَكَرْنَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِهِ الْمَشْفُوعُ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [٢ ٢٥٥] وَقَالَ: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [٢١ ٢٨] وَقَالَ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [٥٣ ٢٦].
515
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى
«الْمُتَّقِينَ» ،
«وَالْمُجْرِمِينَ» جَمِيعًا الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا، وَعَلَيْهِ فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [١٩ ٨٧] مُتَّصِلٌ، وَمَنِ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فِي
«لَا يَمْلِكُونَ» ، أَيْ: لَا يَمْلِكُ مِنْ جَمِيعِهِمْ أَحَدٌ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْعَهْدُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ، أَيْ: إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ يَشْفَعُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [٢٠ ١٠٩]، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا تَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ، وَأَنَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ يَمْلِكُهَا بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ [٤٣ ٨٦]، أَيْ: لَكِنْ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ يَشْفَعُ بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ الْآيَةَ [٣٠ ١٢ - ١٣] وَقَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ الْآيَةَ [١٠ ١٨]، وَالْأَحَادِيثُ فِي الشَّفَاعَةِ وَأَنْوَاعِهَا كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي إِعْرَابِ جُمْلَةِ لَا يَمْلِكُونَ وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهَا حَالِيَّةٌ، أَيْ: نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ، أَوْ: نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ مِنْهُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، وَالثَّانِي أَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْإِخْبَارِ، حَكَاهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَمِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَهْدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ الْآيَةَ [١٩ ٥٩].
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَهْدُ الْمَذْكُورُ: هُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي، فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُبَاعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ وَتُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ،
516
فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوَفِّينِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا طَابَعًا وَوَضَعَهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الَّذِينَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ؟ فَيَقُومُ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ. انْتَهَى، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ قَوْلُهُ: فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ... إِلَخْ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ أَيْضًا: أَنَّ الْحَكِيمَ التِّرْمِذِيَّ أَخْرَجَ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْفُوعَ لَا يَصِحُّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْعَهْدَ فِي الْآيَةِ يَشْمَلُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَامْتِثَالَ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابَ نَهْيِهِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَهْدَ فِي الْآيَةِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: عَهِدَ الْأَمِيرُ إِلَى فُلَانٍ بِكَذَا، أَيْ: أَمَرَهُ بِهِ، أَيْ: لَا يَشْفَعُ إِلَّا مَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالشَّفَاعَةِ، فَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ صَحِيحًا فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى صِحَّتِهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [٢ ٢٥٥]، وَقَوْلِهِ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [٥٣ ٢٦]، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [٣٤ ٢٣]، وَقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ الْآيَةَ [٢٠ ١٠٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا الْآيَاتِ [٢ ١١٦]، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا وَعَلَى الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا الْآيَةَ.
قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يُذْكَرَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظٌ عَامٌّ ثُمَّ يُصَرَّحُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِدُخُولِ بَعْضِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً لِذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرَ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ وُدًّا، أَيْ مَحَبَّةً فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِدُخُولِ نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْعُمُومِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي الْآيَةَ [٢٠ ٣٩]، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ،
ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبَغضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ» اهـ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ إِنَّمَا يَسَّرَ هَذَا الْقُرْآنَ بِلِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْكَرِيمِ، لِيُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وَيُنْذِرَ بِهِ الْخُصُومَ الْأَلِدَّاءَ، وَهُمُ الْكَفَرَةُ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، أَمَّا مَا ذَكَرَ فِيهَا مِنْ تَيْسِيرِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَقَدْ أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ
«الْقَمَرِ» مُكَرِّرًا لِذَلِكَ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [٥٤ ٣٢]، وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ
«الدُّخَانِ» : فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [٤٤ ٥٨]، وَأَمَّا مَا ذَكَرَ فِيهَا مِنْ كَوْنِهِ بِلِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْكَرِيمِ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [٢٦ ١٩٢ - ١٩٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [١٢ ١ - ٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [٤٣ ١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [١٦ ١٠٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ الْآيَةَ، قَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ
«الْكَهْفِ» وَغَيْرِهَا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ: لُدًّا أَنَّهُ جَمْعُ الْأَلَدِّ، وَهُوَ شَدِيدُ الْخُصُومَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [٢ ٢٠٤]، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَبِيتُ نَجِيًّا لِلْهُمُومِ كَأَنَّنِي أُخَاصِمُ أَقْوَامًا ذَوِي جَدَلٍ لُدَّا
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [الْآيَةَ ٩٨].
«وَكَمْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ الْخَبَرِيَّةُ، وَهِيَ فِي مَحِلِّ نَصْبٍ ; لِأَنَّهَا مَفْعُولُ أَهْلَكْنَا، وَمِنْ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِـ
«كَمْ» كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَقَوْلُهُ: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ، أَيْ: هَلْ تَرَى أَحَدًا مِنْهُمْ، أَوْ تَشْعُرُ بِهِ، أَوْ تَجِدُهُ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا، أَيْ: صَوْتًا، وَأَصْلُ الرِّكْزِ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَمِنْهُ رَكَّزَ
518
الرُّمْحَ: إِذَا غَيَّبَ طَرَفَهُ وَأَخْفَاهُ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهُ الرِّكَازُ: وَهُوَ دَفْنٌ جَاهِلِيٌّ مُغَيَّبٌ بِالدَّفْنِ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الرِّكْزِ عَلَى الصَّوْتِ قَوْلُ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
فَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الْأَنِيسِ فَرَاعَهَا عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ وَالْأَنِيسُ سَقَامُهَا
وَقَوْلُ طَرَفَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوَجُّسِ لِلسُّرَى لِرِكْزٍ خَفِيٍّ أَوْ لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ
وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: إِذَا تَوَجَّسَ رِكْزًا مُقْفِرٌ نَدُسٌ بِنَبْأةِ الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعِهِ كَذِبُ
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ، وَالْمَعْنَى: أَهْلَكْنَا كَثِيرًا مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَمَا تَرَى مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا تَسْمَعُ لَهُمْ صَوْتًا، وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ عَدَمِ رُؤْيَةِ أَشْخَاصِهِمْ، وَعَدَمِ سَمَاعِ أَصْوَاتِهِمْ ذَكَرَ بَعْضَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي عَادٍ: فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [٦٩ ٨]، وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [٤٦ ٢٥]، وَقَوْلِهِ: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [٢٢ ٤٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ طه
519
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net
-
© 2024