تفسير سورة البقرة

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)﴾
.
أسباب النزول
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات من قوله: ﴿الم﴾ إلى قوله: ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ أقوالا.
أحدهما: أنّها نزلت في مؤمني أهل الكتاب دون غيرهم، وهو قول ابن عباس وجماعة.
والثاني: نزلت في جميع المؤمنين، قاله مجاهد. اه. من «البحر».
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الم﴾: الله أعلم بمراده بذلك، فأرجح الأقوال في هذه الأحرف التي ابتدىء بها كثير من السور سواء كانت أحاديّة: كـ ﴿ق﴾ و ﴿ص﴾ و ﴿ن﴾، أو ثنائية: كـ ﴿طس﴾ و ﴿يس﴾، أو ثلاثية: كـ ﴿الم﴾ و ﴿الر﴾ و ﴿طسم﴾، أو رباعية: كـ ﴿المص﴾ و ﴿المر﴾ أو خماسيّة: كـ ﴿كهيعص﴾: أنّه من المتشابه الذي اختصّ الله سبحانه وتعالى بعلمه، وعلى هذا فلا محلّ لها من الإعراب؛ لأنّ الإعراب فرع عن إدراك المعنى، فلا يحكم عليها بإعراب، ولا بناء، ولا تركيب مع عامل.
والحاصل: أنّ مجموع الأحرف المنزلة في أوائل السور: أربعة عشر حرفا، وهي نصف حروف الهجاء، وقد تفرّقت في تسع وعشرين سورة، المبدوء بالألف
101
واللام منها: ثلاثة عشر، وبالحاء والميم سبعة، وبالطاء أربعة، وبالكاف واحدة، وبالياء واحدة، وبالصاد واحدة، وبالنون واحدة. وبعض هذه الحروف المبدوء بها أحاديّ، وبعضها ثنائي، وبعضها ثلاثي، وبعضها رباعيّ، وبعضها خماسيّ، ولا تزيد عليه.
وعبارة «الروح» هنا: واعلموا أنّهم تكلّموا في شأن هذه الفواتح الكريمة، وما أريد بها. فقيل: إنّها من العلوم المستورة، والأسرار المحجوبة؛ أي: من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وهي سرّ القرآن، فنحن نؤمن بظاهرها، ونكل العلم فيها إلى الله تعالى، وفائدة ذكرها: طلب الإيمان بها، والإشارة إلى أنّ القرآن إنّما نزل للإعجاز. وقيل: كلّ حرف منها مفتاح اسم من أسمائه تعالى، فالألف: مفتاح اسم الجلالة، واللام: مفتاح اسم اللطيف، والميم: مفتاح اسم المجيد، كما أنّ قوله تعالى: ﴿الر﴾ أنا الله أرى، و ﴿كهيعص﴾ أنا الله الكريم الهادي الحكيم العليم الصادق، وكذا قوله تعالى: ﴿ق﴾ إشارة إلى أنّه القادر، و ﴿ن﴾ إشارة إلى أنّه النور الناصر، فهي حروف مقطعة كلّ منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى، والاكتفاء ببعض الكلمة معهود في العربية، كما قال الشاعر:
قلت لها قفي فقالت ق
أراد قالت: وقفت وقال زهير:
بالخير خيرات وإن شرّا فا ولا أريد الشّرّ إلّا أن تا
أراد وإن شرّا فشرّ، وأراد إلّا أن تشا. وقيل: إنّ هذه الحروف ذكرت في أوائل بعض السور؛ لتدل على أنّ القرآن مؤلّف من الحروف التي هي: أب ت ث، فجاء بعضها مقطعا، وبعضها مؤلّفا؛ ليكون إيقاظا لمن تحدّى بالقرآن، وتنبيها لهم على أنّه منتظم من عين ما ينظّمون منه كلامهم، فلولا أنّه خارج عن طوق البشر نازل من عند خلّاق القوى والقدر؛ لأتوا بمثله. هذا ما جنح إليه أهل التحقيق.
وقال الشيخ الأكبر - رحمه الله تعالى في «تفسيره»: وأمّا الحروف المجهولة التي أنزلها الله تعالى في أوائل السور، فسبب ذلك؛ من أجل لغو العرب عند
102
نزول القرآن، فأنزلها سبحانه حكمة منه حتى تتوفّر دواعيهم، لما أنزل الله تعالى إذا سمعوا مثل هذا الذي ما عهدوه، والنفوس من طبعها أن تميل إلى كلّ أمر غريب غير معتاد، فينصتون عن اللغو، ويقبلون عليها، ويصغون إليها، فيحصل المقصود فيما يسمعونه مما يأتي بعد هذه الحروف النازلة من عند الله تعالى، وتتوفّر دواعيهم للنظر في الأمر المناسب بين حروف الهجاء التي جاء بها مقطعة، وبين ما يجاورها من الكلم، وأبهم الأمر عليهم من عدم اطلاعهم عليها. فردّ الله سبحانه بذلك شرّا كبيرا من عنادهم، وعتوّهم، ولغوهم كان يظهر منهم؛ فذاك رحمة للمؤمنين، وحكمة منه سبحانه وتعالى. انتهى.
وقال المراغي: ﴿الم﴾ هي وأمثالها من الحروف المقطعة، نحو: ﴿المص﴾ و ﴿الر﴾ حروف للتنبيه كألا، ويا، ونحوهما مما وضع؛ لإيقاظ السامع إلى ما يلقى بعدها، فهنا جاءت؛ للفت نظر المخاطب إلى وصف القرآن الكريم، والإشارة إلى إعجازه، وإقامة الحجة على أهل الكتاب، إلى نحو ذلك مما جاء في أثناء السورة.
وتقرأ مقطعة بذكر أسمائها ساكنة الأواخر، فيقال: ألف لام ميم، كما يقال في أسماء الأعداد: واحد اثنان ثلاثة. انتهى. وعلى هذا القول: فلا محلّ لها من الإعراب، كالقول الأوّل الراجح. وقيل: إنّها أسماء للسور التي ابتدئت بها. وقيل: أسماء للقرآن. وقيل: أسماء لله تعالى. وقيل: كل حرف منها مفتاح اسم من أسمائه تعالى، كما مرّ؛ أي: إنّ كلّ حرف منها اسم مدلوله حرف من حروف المباني، وذلك الحرف جزء من اسم من أسماء الله تعالى، فألف: اسم مدلوله اه من الله، واللام، اسم مدلوله له من لطيف، والميم: اسم مدلوله مه من مجيد. وقيل: كلّ حرف منها يشير إلى نعمة من نعم الله تعالى. وقيل: إلى ملك. وقيل: إلى نبيّ. وقيل: الألف تشير إلى آلاء الله، واللام تشير إلى لطف الله، والميم تشير إلى ملك الله. وعلى هذه الأقوال فلها محلّ من الإعراب، فقيل: الرفع، وقيل: النصب، وقيل: الجرّ. فالرفع على أحد وجهين: إما بكونها مبتدأ خبرها ما بعدها، وإما بكونها خبرا لمحذوف، كما سيأتي بيانه. والنصب على
103
أحد وجهين أيضا: إمّا بإضمار فعل لائق تقديره: اقرؤا ﴿الم﴾، وإما بإسقاط حرف القسم، كقوله:
إذا ما الخبز تأدمه بلحم فذاك أمانة الله الثريد
يريد: وأمانة الله، وكذلك هذه الحروف أقسم الله تعالى بها. والجرّ من وجه واحد، وهو أنّها مقسم بها حذف حرف القسم وبقي عمله، كقولهم: الله لأفعلنّ. أجاز ذلك الزمخشري، وأبو البقاء، وهذا ضعيف؛ لأنّ ذلك من خصائص الجلالة المعظّمة لا يشركها فيه غيرها.
فتلخّص مما تقدّم: أنّ في ﴿الم﴾ ونحوها ستة أوجه، وهي: أنّها لا محلّ لها من الإعراب، أو لها محلّ وهو الرفع بالابتداء، أو على الخبر، والنصب بإضمار فعل، أو حذف حرف القسم، والجرّ بإضمار حرف القسم.
٢ - وأما قوله: ﴿ذلِكَ الْكِتابُ﴾ فيجوز في ذلك أن يكون مبتدأ ثانيا، والكتاب خبره، والجملة خبر ﴿الم﴾، وأغني عن الرابط باسم الإشارة، ويجوز أن يكون ﴿الم﴾ مبتدأ، و ﴿ذلِكَ﴾ خبره، و ﴿الْكِتابُ﴾ صفة لذلك، أو بدل منه، أو عطف بيان، و ﴿لا رَيْبَ﴾ فِيهِ خبر للمبتدأ الثاني، وهو وخبره خبر عن الأول، ويجوز أن يكون ﴿الم﴾ خبر مبتدأ مضمر تقديره: هذه ألم، فتكون جملة مستقلّة بنفسها، ويكون ﴿ذلِكَ﴾ مبتدأ و ﴿الْكِتابُ﴾ خبره، ويجوز أن يكون صفة له، أو بدلا، أو بيانا، و ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ هو الخبر عن ذلك، أو يكون ﴿الْكِتابُ﴾ خبرا لذلك، و ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ خبر ثان.
تنبيه: ثمّ اعلم أنّ المتشابه كالمحكم من جهة أجر التلاوة؛ لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: «من قرأ حرفا من كتاب الله، فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ﴿الم﴾ حرف، بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، ففي ألم تسع حسنات».
فائدة هذا الربع من هذه السورة ينقسم أربعة أقسام:
قسم يتعلّق بالمؤمنين ظاهرا وباطنا، وهو الآيات الأربع الأول إلى
104
﴿الْمُفْلِحُونَ﴾.
وقسم يتعلّق بالكافرين كذلك، وهو الآيتان بعد ذلك.
وقسم يتعلّق بالمؤمنين ظاهرا لا باطنا، وهو ثلاث عشر آية من قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ إلى قوله: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ﴾.
وقسم يتعلق بالفرق الثلاثة، وهو من قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إلى آخر الربع. اهـ. شيخنا.
فعلى القول الأول: الراجح الذي جرى عليه السلف: أنّ ﴿الم﴾ مهمل لا يحكم عليه بإعراب، ولا بناء، وقوله: ﴿ذلِكَ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿الْكِتابُ﴾ بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان له، أو صفة له، وجملة ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ خبر المبتدأ. والمعنى؛ أي: (١) هذا القرآن المنزل عليك يا محمّد لا ريب، ولا شكّ، ولا تهمة، في أنّه منزل من عند الله تعالى لمن تدبّر فيه وتأمّل، وتذكّر لما اشتمل عليه من الإعجاز الباهر. وأشار إليه بإشارة البعيد؛ تنزيلا لبعد المرتبة منزلة البعد الحسّيّ.
فإن قلت: إنّ الريب فيه موجود عند بعض الناس كالكفار، فكيف نفي الريب عنه؟
قلت: المعنى لا ريب به عند المؤمنين، كما أشرنا إليه في الحلّ.
وعلى القول: بأنّ ﴿الم﴾ اسم للقرآن، فهو؛ أي لفظ ﴿الم﴾: مبتدأ و ﴿ذلِكَ﴾ خبره إشارة إلى الكتاب، و ﴿الْكِتابُ﴾: صفة لاسم الإشارة، والمعنى: ﴿الم﴾ هو ذلك الكتاب الكامل الموعود إنزاله في الكتب المتقدمة حال كونه لا ريب ولا شكّ في إنزاله من عند الله تعالى، وإنّما أشار بذلك إلى ما ليس ببعيد؛
(١) عمدة التفاسير.
105
لأنّ الكتاب من حيث كونه موعودا في حكم البعيد.
قالوا: لمّا أنزل الله تعالى على موسى التوراة، وهي: ألف سورة كل سورة ألف آية. قال موسى عليه السلام: يا ربّ ومن يطيق قراءة هذا الكتاب وحفظه؟ فقال تعالى: إنّي أنزل كتابا أعظم من هذا، قال: على من يا ربّ؟ قال: على خاتم النبيين، قال: وكيف تقرؤه أمته، ولهم أعمار قصيرة؟ قال: إنّي أيسره عليهم حتى يقرأه صبيانهم، قال: يا ربّ وكيف تفعل؟ قال: إنّي أنزلت من السماء إلى الأرض مئة وثلاثة كتب: خمسين على شيث، وثلاثين على إدريس، وعشرين على إبراهيم، والتوراة عليك، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، وذكرت الكائنات في هذه الكتب، فأذكر جميع معاني هذه الكتب في كتاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأجمع ذلك كلّه في مائة وأربع عشرة سورة، وأجعل هذه السور في ثلاثين جزءا، والأجزاء في سبعة أسباع؛ يعني: في سبع آيات (الفاتحة)، ثمّ أجعل معانيها في سبعة أحرف، وهي ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾، ثمّ ذلك كلّه في الألف من ﴿الم﴾ ثمّ افتتح سورة (البقرة) فأقول ﴿الم﴾. ولمّا وعد الله ذلك في التوراة، وأنزله على محمد صلّى الله عليه وسلّم جحدت اليهود لعنهم الله تعالى أن يكون هذا ذلك، فقال تعالى: ذلك الكتاب، كما في تفسير «التيسير». وقد مرّ لك: أنّ في هذه الآية أوجه أخر من الإعراب، وسيأتي تطبيق بعضها في مبحث الإعراب.
والكتاب: (١) اسم بمعنى المكتوب، وهو النقوش والرقوم الدالّة على المعاني، والمراد به هنا: الكتاب المعروف المعهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي وعده الله تعالى به؛ لتأييد رسالته، وكفل به هداية طلّاب الحقّ، وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في معاشهم ومعادهم.
وفي التعبير به: إيماء إلى أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤمر بكتابة شيء سواه، وعدم كتابة القرآن كلّه بالفعل حين الإشارة إليه لا يمنع الإشارة، ألا ترى أنّ من
(١) المراغي.
106
المستفيض الشائع في التخاطب: أن يقول إنسان لآخر: هلّم أمل عليك كتابا، والكتاب لم يوجد بعد.
﴿لا رَيْبَ﴾: كائن ﴿فِيهِ﴾، فقوله: (١) ﴿رَيْبَ﴾: اسم لا، و ﴿فِيهِ﴾: خبرها، وهو في الأصل: من رابني الشيء، إذا حصل فيك الريبة، وهي قلق النفس واضطرابها، سمّي به الشكّ؛ لأنّه يقلق النفس، ويزيل الطمأنينة، قال الشاعر:
ليس في الحقّ يا أميّة ريب إنّما الرّيب ما يقول الكذوب
وفي الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». فإنّ الشكّ ريبة، والصدق طمأنينة. ومنه: ريب الزمان لنوائبه. وفي «التيسير»: الريب: شكّ فيه خوف، وهو أخصّ من الشكّ، فكلّ ريب شكّ، وليس كلّ شكّ ريبا. والشكّ: هو التردّد بين النقيضين، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاكّ. ولم يقدم الظرف على الريب؛ لئلّا يذهب الفهم إلى أنّ هناك كتابا آخر فيه الريب لا فيه.
فإن قلت: الكفّار شكّوا فيه فلم يقرّوا بكتاب الله تعالى، والمبتدعون من أهل القبلة شكّوا في معاني متشابهه، فأوّلوها وضلّوا بها، والعلماء شكّوا في وجوهه، فلم يقطعوا القول على وجه منها، والعوامّ شكّوا فيه فلم يفهموا معانيه، فما معنى نفي الريب عنه؟.
فالجواب: إنّ هذا إنما هو نفي الريب عن الكتاب لا عن الناس، والكتاب موصوف بأنّه لا يتمكّن فيه ريب، فهو حقّ صدق معلوم ومفهوم شكّ فيه الناس، أو لم يشكّوا، كالصدق صدق في نفسه وإن وصفه الناس بالكذب، والكذب كذب وإن وصفه الناس بالصدق، فكذا الكتاب ليس مما يلحقه ريب، أو يتمكن فيه عيب، ويجوز أن يكون خبرا في معنى الأمر، ومعناه: لا ترتابوا، كقوله تعالى: ﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ﴾ المعنى: لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا، كما في «الوسيط» و «العيون».
(١) روح البيان.
107
والمعنى (١): أنّ هذا الكتاب لا يعتريه ريب في كونه من عند الله، ولا في هدايته وإرشاده، ولا في أسلوبه وبلاغته، فلا يستطيع أحد أن يأتي بكلام يقرب منه بلاغة وفصاحة. وإلى هذا أشار بقوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾. وارتياب كثير من الناس فيه؛ إنّما نشأ عن جهل بحقيقته، أو عن عمى بصيرتهم، أو عن التعنّت عنادا، واستكبارا، واتباعا للهوى، أو تقليدا لسواهم.
والهاء (٢) المتصلة بفي من ﴿فِيهِ﴾: ضمير غائب مذكر مفرد، وقد يوصل بياء، وهي قراءة ابن كثير، وحكم هذه الهاء بالنسبة إلى الحركة، والإسكان، والاختلاس، والإشباع في كتب النحو. والوقف (٣) على ﴿فِيهِ﴾ هو المشهور، وقد روي عن نافع، وعاصم، الوقف على ﴿لا رَيْبَ﴾. قال في «الكشاف»: ولا بد للواقف من أن ينوي خبرا، ونظيره قوله تعالى: ﴿قالُوا لا ضَيْرَ﴾، وقول العرب: لا بأس. وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز، والتقدير: لا ريب فيه. فيه هدى.
﴿هُدىً﴾؛ أي: هو رشد وبيان ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: (٤) للضالّين المشارفين التقوى الصائرين إليها. ومثله حديث «من قتل قتيلا فله سلبه»، وقال أبو السعود في «الإرشاد» ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: للمتصفين بالتقوى حالا، أو مآلا. وتخصيص الهدى بهم؛ لما أنّهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بآثاره، وإن كان ذلك شاملا لكلّ ناظر من مؤمن وكافر. والهداية: عبارة عن الدلالة. وقيل: دلالة بلطف.
وقيل: هو هاد لا ريب في هدايته للمتقين. قال في «التيسير»: وكذلك يقال في كلّ من انتفع بشيء دون غيره: إنه لك على الخصوص؛ أي: المنتفع به وحدك.
وليس في كون بعض الناس لم يهتدوا به ما يخرجه من أن يكون هدى، فالشمس
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
108
شمس وإن لم يرها الضرير، والعسل عسل وإن لم يجد طعمه الممرور، والمسك مسك وإن لم يدرك طيبه المأنوف. فالخيبة كلّ الخيبة؛ لمن عطش، والبحر زاخر، وبقي في الظلمة والبدر زاهر، وخبث والطيب حاضر، والحسرة كل الحسرة؛ لمن عصى وفسق، والقرآن ناه آمر، وفارق الرغبة والرهبة، والوعد متواتر والوعيد متظاهر، ولذلك قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ﴾.
والمتقين: جمع متّق، والمتقي: اسم فاعل من باب الافتعال من الوقاية، وهي فرط الصيانة، قال البغوي: هو مأخوذ من الاتقاء، وأصله: الحاجز بين الشيئين، ومنه يقال: اتقى بترسه؛ أي: جعله حاجزا بين نفسه وبين من يقصده. وفي الحديث: كنّا إذا احمرّ البأس، اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ أي: إذا اشتد الحرب جعلناه حاجزا بيننا وبين العدوّ، فكأنّ المتقي يجعل امتثال أمر الله، والاجتناب عمّا نهاه حاجزا بينه وبين العذاب. والتقوى في عرف الشرع (١): عبارة عن كمال التوقّي عمّا ضرّه في الآخرة، وله ثلاث مراتب:
الأولى: التوقّي عن العذاب المخلّد؛ بالتبرّي من الكفر، وعليه قوله تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى﴾.
والثانية: التجنّب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وهو المتعارف بالتقوى في الشرع، وهو المعني بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾.
والثالثة: أن يتنزّه عما يشغل سرّه عن الحقّ عز وجلّ، ويتبتل إليه بكليته، وهو التقوى الحقيقية المأمور بها في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ﴾. وأقصى مراتب هذا النوع من التقوى: ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حيث جمعوا رياستي النبوة والولاية، وما عاقهم التعلّق بعالم الأشباح، عن العروج إلى عالم الأرواح، ولم تصدّهم الملابسة بمصالح الخلق، عن الاستغراق في شؤون الحقّ؛ لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيّدة
(١) روح البيان.
109
بالقوة القدسية، وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين، فهداية العامّ بالإسلام، وهداية الخاص بالإيقان والإحسان، وهداية الأخصّ بكشف الحجب ومشاهدة العيان.
وفي «التأويلات النجمية»: المتقون هم الذين أوفوا بعهد الله من بعد ميثاقه، ووصلوا به ما أمر الله أن يوصل به من مأمورات الشرع ظاهرا وباطنا، يدلّ على هذا قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾.
والعقاب الذي يتّقى منه ضربان (١): دنيوي وأخروي، وكلّ منهما يتّقى باتقاء أسبابه، فعقاب الدنيا يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله في الخليقة، وعدم مخالفة النظم التي وضعها في الكون، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال مثلا، يتوقّف على معرفة نظم الحرب، وفنونها، وآلاتها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ﴾، كما يتوقّف على القوة المعنوية: من اجتماع الكلمة، واتحاد الأمة، والصبر والثبات، والتوكل على الله، واحتساب الأجر عنده، وعقاب الآخرة يتقى: بالإيمان الخالص، والتوحيد، والعمل الصالح، واجتناب ما يضادّ ذلك من الشرك، واجتناب المعاصي والآثام التي تضرّ المرء، أو تضرّ المجتمع.
والمتقون في هذه الآية: هم الذين سمت نفوسهم، فأصابت ضربا من الهداية، واستعدادا لتلقي نور الحقّ، والسعي في مرضاة الله بقدر ما يصل إليه إدراكهم، ويبلغ إليه اجتهادهم. وقد كان من هؤلاء ناس في الجاهلية كرهوا عبادة الأصنام، وأدركوا أنّ خالق الكون لا يرضى بعبادتها، كذلك كان من أهل الكتاب ناس يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين.
ومن المعلوم: أنّ في قوله: ﴿هُدىً﴾ مجازا عقليًّا؛ لما فيه من إسناد الشيء إلى سببه؛ أي: هو هاد، أو مجازا بالحذف؛ أي: ذو هدى، أو مبالغة
(١) المراغي.
110
فيه حتى جعل نفس الهدى على حدّ: زيد عدل.
والمعنى؛ أي: هذا الكتاب هاد ومرشد للمؤمنين المتصفين بالتقوى من سخط الله تعالى، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
٣ - ثم وصف المتقين بقوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي يصدّقون ويوقنون ﴿بِالْغَيْبِ﴾ أي: بالشيء الغائب عنهم مما لم تدركه عقولهم، ولم تعرفه حواسّهم مما أخبرهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو القرآن من اليوم الآخر وأحواله من البعث، والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار، وغير ذلك من أهواله.
والإيمان: تصديق جازم يقترن بإذعان النفس واستسلامها، وأمارته: العمل بما يقتضيه الإيمان، وهو يختلف باختلاف مراتب المؤمنين في اليقين. والغيب: ما غاب عنهم علمه، كذات الله سبحانه، وملائكته، ، والدار الآخرة وما فيها من البعث، والنشور، والحساب، والمجازاة. والإيمان بالغيب: هو اعتقاد وجود موجود وراء المحسّسات، متى أرشد إليه الدليل، أو الوجدان السليم. ومن يعتقد بهذا يسهل عليه التصديق بوجود خالق للسموات والأرض، منزه عن المادّة وتوابعها، وإذا وصف له الرسول العوالم التي استأثر الله وانفرد بعلمها، كعالم الملائكة، أو وصف له اليوم الآخر، لم يصعب عليه التصديق به بعد أن يستيقن صدق النبي الذي جاء به، أمّا من لا يعرف إلّا ما يدركه الحسّ، فإنه يصعب إقناعه، وقلّما تجد الدعوة إلى الحق من نفسه سبيلا.
وقوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ إمّا (١) موصول بالمتقين، ومحلّه الجرّ على أنّه صفة مقيّدة له، إن فسّرت التقوى بترك المعاصي فقط، مرتّبة عليه ترتيب التحلية على التخلية، أو موضحة إن فسرت التقوى بما هو المتعارف شرعا، والمتبادر عرفا من فعل الطاعات، وترك المعصيات معا؛ لأنّها حينئذ تكون تفصيلا لما انطوى عليه اسم الموصول إجمالا، وصفة مادحة للموصوفين بالتقوى المفسّرة بما مرّ من فعل الطاعات، وترك السيئات. وتخصيص ما ذكر من
(١) الفتوحات.
111
الخصال الثلاث بالذكر؛ لإظهار شرفها، وإنافتها على سائر ما انطوى تحت اسم التقوى من الحسنات. أو محلّه النصب على المدح بتقدير: أمدح، أو الرفع عليه بتقدير: هم. وإمّا مفصول عنه مرفوع بالابتداء، خبره الجملة المصدّرة باسم الإشارة، كما سيأتي بيانه، فالوقف على المتقين حينئذ وقف تامّ؛ لأنّه وقف على مستقلّ، وما بعده أيضا مستقل، وأما على الوجوه الأول، فالوقف حسن غير تامّ؛ لتعلّق ما بعده به وتبعيته له. اه. «أبو السعود».
وقرأ الجمهور (١): ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ بالهمزة ساكنة بعد الياء، وهي فاء الكلمة، وحذف همزة أفعل حيث وقع ذلك ورش والسوسي وأبو جعفر وقفا ووصلا، وحمزة وقفا فقط وهذه القراءات كلها في المتواتر، وقرأ رزين - شاذا - بتحريك الهمزة، مثل: ﴿يُؤَخِّرَكُمْ﴾، ووجه قراءته أنه حذف الهمزة التي هي فاء الكلمة؛ لسكونها، وأقرّ همزة أفعل؛ لتحركها، وتقدمها، واعتلالها في الماضي والأمر. اهـ. من «البحر».
وقوله: ﴿بِالْغَيْبِ﴾: الغيب هنا مصدر بمعنى اسم الفاعل، كما مرّت الإشارة إليه، قال أبو السعود: والغيب: إما مصدر وصف به الغائب مبالغة، كالشهادة في قوله تعالى: ﴿عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ﴾؛ أي: ما غاب عن الحسّ والعقل غيبة كاملة بحيث لا يدرك بواحد منهما ابتداء بطريق البداهة، وهو قسمان:
قسم: لا دليل عليه، وهو المراد من قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ﴾.
وقسم: قامت عليه البراهين كالصانع وصفاته، والنبوات وما يتعلق بها من الأحكام، والشرائع، واليوم الآخر، وأحواله من البعث والنشر، والحساب والجزاء، وهو المراد ههنا. فالباء: صلة للإيمان إما بتضمينه معنى الاعتراف، أو بجعله مجازا عن الوثوق، وهو واقع موقع المفعول به. وإمّا مصدر على حاله كالغيبة، فالباء: متعلّقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل، كما في قوله تعالى:
(١) البحر المحيط.
112
﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾؛ أي: يؤمنون ملتبسين بالغيبة إما عن المؤمن به؛ أي: غائبين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، غير مشاهدين لما معه من شواهد النبوة، وإما عن الناس؛ أي: غائبين عن المؤمنين لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم. وقيل: المراد بالغيب القلب؛ لأنّه مستور، والمعنى: يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فالباء حينئذ للآلة. وترك ذكر المؤمن به على التقادير الثلاثة؛ إيماء للقصد إلى إحداث نفس الفعل، كما في قولهم: فلان يعطي ويمنع؛ أي: يفعلون الإيمان، وإما للاكتفاء بما سيجيء، فإنّ الكتب الإلهية ناطقة بتفاصيل ما يجب الإيمان به.
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾؛ أي: يؤدّونها بحقوقها الظاهرية من الشروط، والأركان، والسنن، وترك المفسدات، والمكروهات، والباطنية، كالخشوع، وحضور القلب، والإخلاص. والصلاة في هذه الآية: اسم جنس، أريد بها الصلوات الخمس، كما في «الروح». وإقامتها: عبارة عن تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع في شيء من فرائضها، وسننها، وآدابها خلل، من أقام العود إذا قوّمه وعدّله. وقيل: عبارة عن المواظبة عليها من قولهم: قامت السوق إذا نفقت. وقيل: عبارة عن التشمير لأدائها من غير فتور ولا توان، من قولهم: قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه وتجاد، وضدّه قعد عن الأمر وتقاعد.
واعلم: أنّ الصلاة في اللغة: الدعاء، كما قال تعالى: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾، ودعاء المعبود بالقول، أو بالفعل، أو بكليهما، يشعر العابد بالحاجة إليه؛ استدرارا للنعمة، أو دفعا للنقمة، والصلاة على النحو الذي شرعه الإسلام، من أفضل ما يعبّر عن الشعور بعظمة المعبود وشديد الحاجة إليه، لو أقيمت على وجهها، أمّا إذا خلت عن الخشوع، فإنّها تكون صلاة لا روح لها، وإن كانت قد وجدت صورتها، وهي الكيفيات المخصوصة، ولا يقال للمصّلي حينئذ: أنّه امتثل أمر ربه، فأقام الصلاة؛ لأنّ الإقامة مأخوذة من أقام العود، إذا سواه وأزال اعوجاجه، فلا بد فيها من حضور القلب في جميع أجزائها، واستشعار الخشية
113
ومراقبة الخالق، كأنّك تنظر إليه، كما ورد في الحديث: «أعبد الله كأنّك تراه، فإنّ لم تكن تراه فإنه يراك».
ولما للصلاة من خطر في تهذيب النفوس والسمو بها إلى الملكوت الأعلى، أبان الله سبحانه عظيم آثارها بقوله: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، وجعلها النبي صلّى الله عليه وسلّم عماد الدين، فقال: «الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام». وقد أمر الله سبحانه بإقامتها بقوله سبحانه: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾، والمحافظة عليها، وإدامتها بقوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ﴾، وبأدائها في أوقاتها بقوله: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾، وبأدائها جماعة بقوله: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، وبالخشوع فيها بقوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ﴾.
﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ﴾ أي: ومن بعض ما أعطيناهم، وملّكناهم من الأموال؛ لأنّ المراد بالرزق هنا: الملك، وليس المراد به الرزق الحقيقي، إذ لا يمكن تعديه لغيره. وفي قوله: ﴿وَمِمَّا﴾ حذف نون من التبعيضية لفظا وخطّا؛ لإدغامها في ما الموصولة. ﴿يُنْفِقُونَ﴾: ويصرفون إنفاقا واجبا، كالزكاة، والنفقة على الوالدين والعيال، أو مندوبا، كالتوسعة على العيال، ومواساة الأقارب والفقراء، فالإنفاق هنا شامل للواجب والمندوب، كما اختاره ابن جرير. وروي عن ابن عباس: أنّ المراد بها: زكاة الأموال. والرزق في اللغة: العطاء، وفي العرف: ما ينتفع به الحيوان، وهو يتناول الحلال والحرام عند أهل السنة، كما قال أحمد بن رسلان:
يرزق من شاء ومن شا أحرما والرزق ما ينفع ولو محرّما
ولكنّ (١) القرينة ههنا تخصصه بالحلال؛ لأنّ المقام مقام المدح. وتقديم المفعول للاهتمام به، وللمحافظة على رؤوس الآي. وإدخال من التبعيضية عليه؛ للكفّ عن الإسراف المنهيّ عنه. وصيغة الجمع في رزقنا مع أنّه تعالى واحد لا
(١) روح البيان.
114
شريك له؛ لأنّه خطاب الملوك، والله تعالى مالك الملك، وملك الملوك، والمعهود من كلام الملوك أربعة أوجه: الإخبار على لفظ الواحد، نحو: فعلت كذا، وعلى لفظ الجمع، نحو: فعلنا كذا، وعلى ما لم يسم فاعله، نحو: رسم كذا، وإضافة الفعل إلى اسمه على وجه المغايبة، نحو: أمركم سلطانكم بكذا، والقرآن نزل بلغة العرب، فجمع الله فيه هذه الوجوه كلّها فيما أخبر به عن نفسه، فقال تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ على صيغة الواحد، وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ على صيغة الجمع، وقال فيما لم يسمّ فاعله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ وأمثاله، وقال في المغايبة: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ وأمثاله، كذا في «التيسير».
والإنفاق والإنفاد أخوان، خلا أنّ في الثاني معنى الإذهاب بالكلية دون الأول، والمراد بهذا الإنفاق: الصرف إلى سبيل الخير فرضا كان أو نفلا. ومن فسّره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه، أو خصصه بها لاقترانه بما هي شقيقتها وأختها، وهي الصلاة.
واعلم: أنّه سبحانه ذكر في الآية الإيمان، وهو بالقلب، ثمّ الصلاة وهي بالبدن، ثمّ الإنفاق وهو بالمال، وهو مجموع كل العبادات. ففي الإيمان النجاة، وفي الصلاة المناجاة، وفي الإنفاق الدرجات، وفي الإيمان البشارة، وفي الصلاة الكفارة، وفي الإنفاق الطهارة، وفي الإيمان العزة، وفي الصلاة القربة، وفي الإنفاق الزيادة.

فصل في مسائل تتعلق بالصلاة


المسألة الأولى: واعلم أنّ الناس بالنسبة إلى الصلاة على أربع طباق:
الأولى: طبقة لم يقبلوها، ورأسهم أبو جهل لعنه الله، وفي حقّه قال تعالى: ﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى﴾، وذكر مصيرهم بقوله: ﴿ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ إلى قوله: ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾.
والثانية: طبقة قبلوها ولم يؤدوها، وهم أهل الكتاب، وذكرهم الله تعالى
115
بقوله: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ وهم أهل الكتاب ﴿أَضاعُوا الصَّلاةَ﴾، وذكر مصيرهم ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾.
والثالثة: طبقة قبلوها وأدّوا بعضا منها، ولم يؤدُّوا بعضا آخر متكاسلين، وهم المنافقون، وذكرهم الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى﴾.
والرابعة: طبقة قبلوها، وهم يراعونها في أوقاتها بشرائطها، ورأسهم المصطفى صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾، وأصحابه كذلك، وذكرهم الله تعالى بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ﴾، وذكر مصيرهم بقوله: ﴿أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ﴾.
المسألة الثانية: روي (١) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (بعث الله النبي صلّى الله عليه وسلّم بشهادة أن لا إله إلّا الله، فلمّا صدّق زاد الصلاة، فلمّا صدّق زاد الزكاة، فلمّا صدّق زاد الصيام، فلمّا صدّق زاد الحج، ثمّ الجهاد، ثمّ أكمل لهم الدين).
وقال مقاتل: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي بمكة ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشاء، فلمّا عرج به إلى السماء أمر بالصلوات الخمس، كما في «روضة الأخيار».
وإنما فرضت الصلاة ليلة المعراج؛ لأنّ المعراج أفضل الأوقات، وأشرف الحالات، وأعزّ المناجات، والصلاة بعد الإيمان أفضل الطاعات، وفي التعبّد أحسن الهيئات، ففرض أفضل العبادات في أفضل الأوقات، وهو وصول العبد إلى ربّه، وقربه منه.
المسألة الثالثة: في ذكر بعض الحكم. وأمّا الحكمة في فرضيتها؛ فلأنّه صلّى الله عليه وسلّم لمّا أسري به شاهد ملكوت السموات بأسرها وعبادات سكّانها من الملائكة، فاستكثرها صلّى الله عليه وسلّم غبطة، وطلب ذلك لأمّته، فجمع الله له في الصلوات الخمس
(١) روح البيان.
116
عبادات الملائكة كلّها؛ لأنّ منهم من هو قائم، ومنهم من هو راكع، ومنهم من هو ساجد، وحامد، ومسبّح، ومكبّر، إلى غير ذلك. فأعطى الله سبحانه أجور عبادات أهل السموات لأمّته إذا أقاموا بالصلوات الخمس، هكذا قالوا، والله أعلم.
والحكمة في كونها خمس صلوات: أنها كانت متفرّقة في الأمم السالفة، فجمعها سبحانه لنبيّه وأمّته؛ لأنّه صلّى الله عليه وسلّم مجمع الفضائل كلّها دنيا وأخرى، وأمته من بين الأمم كذلك، فقد قيل: أوّل من صلّى الفجر آدم، والظهر إبراهيم، والعصر يونس، والمغرب عيسى، والعشاء موسى. فهذا سرّ القرار على خمس صلوات.
وقيل: صلّى آدم الصلوات الخمس كلّها، ثمّ تفرقت بعده بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأوّل من صلّى الوتر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج، ولذلك قال:
«زادني ربّي صلاة»؛ أي: الوتر على الخمس، أو صلاة الليل، فافهم.
قيل (١): وأول من بادر إلى السجود جبريل - عليه السلام - ولذلك كان رفيق الأنبياء وخادمهم، وأوّل من قال: سبحان الله جبريل، والحمد لله آدم، ولا إله إلّا الله نوح، والله أكبر إبراهيم، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر ذلك كلّه في «كشف الكنوز وحلّ الرموز»، وهكذا قالوا ولكن لا أصل له.
٤ - وقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ معطوف على الموصول الأول، وهو نوع آخر للمتقين، فإنها أنزلت فيمن كان آمن بعيسى وأدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم: كعبد الله بن سلام، وعمّار بن ياسر، وسلمان الفارسي، والنجاشي وغيرهم. وأما النوع الأول: فهم الذين آمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مشركي العرب؛ لأنّهم لم يرسل إليهم غيره صلّى الله عليه وسلّم.
فنزلت الآية الأولى إلى قوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ فيهم. روى ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّ المراد بالمؤمنين هنا: من آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن من أهل الكتاب، وبالمؤمنين فيما قبلها من آمنوا من مشركي العرب.
(١) روح البيان.
117
أي: والذين يصدّقون ﴿بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ يا محمد، وهو القرآن الذي يتلى، والوحي الذي لا يتلى. وهو ما بيّنه النبي صلّى الله عليه وسلّم من أعداد الركعات، ونصب الزكوات، وحدود الجنايات. قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، وقال أيضا: ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى﴾. والتعبير عن إنزاله بالماضي مع كون بعضه مترقبا حينئذ؛ لتغليب المحقّق على المقدّر، أو لتنزيل ما في شرف الوقوع لتحقّقه منزلة الواقع، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى﴾ مع أنّ الجنّ ما كانوا سمعوا الكتاب جميعا، ولا كان الجميع إذ ذاك نازلا. وفي «الكواشي»: لأنّ القرآن شيء واحد في الحكم، ولأنّ المؤمن ببعضه مؤمن بكلّه. انتهى. والإنزال هنا (١): بمعنى الوحي، وسمّي إنزالا، وهو نقل الشيء من العلو إلى السفل، ولا يكون إلّا في الأجسام؛ لما في جانب الألوهية من علوّ الخالق على المخلوق، أو لإنزال جبريل له على النبي صلّى الله عليه وسلّم لتبليغه للخلق، كما قال في آية أخرى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾؛ يعني: أنّ الإنزال نقل الشيء من أعلى إلى أسفل، وهو إنّما يلحق المعاني بواسطة لحوقه الذوات الحاملة لها، فنزول ما عدا الصحف من الكتب الإلهيّة إلى الرسل عليهم السلام والله أعلم: بأن يتلقّاها الملك من جنابه تعالى تلقّيا روحانيا، أو يحفظها من اللوح المحفوظ، فينزل بها إلى الرسل، فيلقيها عليهم.
﴿وَ﴾ يؤمنون بـ ﴿ما أُنْزِلَ﴾ من الكتب السالفة من التوراة، والإنجيل، والزبور، وغيرها على الرسل الذين أرسلوا ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ إيمانًا إجماليًّا لا تفصيليًّا، والإيمان بالكل جملة فرض عين، وبالقرآن تفصيلا من حيث إنّا متعبّدون بتفاصيله فرض كفاية، فإنّ في وجوبه على الكلّ عينا حرجا بيّنا، وإخلالا بأمر المعاش.
قال في «التيسير»: (٢) الإيمان بكلّ الكتب مع تنافي أحكامها على وجهين:
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
118
أحدهما: التصديق أنّ كلّها من عند الله تعالى.
والثاني: الإيمان بما لم ينسخ من أحكامها.
﴿وَبِالْآخِرَةِ﴾ تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول، وهو في المعدودات اسم للفرد اللاحق، وهي صفة الدار بدليل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾، وهي من الصفات الغالبة، وكذا الدنيا، وسمّيت الدنيا دنيا لدنوها؛ أي: قربها من الآخرة، أو لدناءتها وخسّتها، وسمّيت الآخرة آخرة؛ لتأخّرها، وكونها بعد الدنيا. ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾؛ أي: يعتقدون اعتقادا جازما، وتقديم الجار والمجرور على الفعل؛ لرعاية الفاصلة، أو لإفادة الحصر، وأتى بالجملة الاسمية للاهتمام به؛ لأنّه أعلى من الإنفاق. والإيقان: إتقان العلم بالشيء بنفي الشكّ، والشبهة عنه نظرا واستدلالا، ولذلك لا يسمّى علمه تعالى يقينا، وكذا العلوم الضرورية. وفيه ردّ على من أنكر الآخرة ممن لا يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقرأ الجمهور ﴿بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ مبنيا للمفعول. وقرأهما النخعيّ، وأبو حيوة، ويزيد بن قطيب مبنيا للفاعل، وقرىء شاذّا ﴿بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ بتشديد اللام، ووجه ذلك: أنه أسكن لام ﴿أُنْزِلَ﴾ ثم حذف همزة (إلى)، ونقل كسرتها إلى لام «أنزل»، فالتقى المثلان من كلمتين، فأدغم، والإدغام جائز. وقرأ الجمهور ﴿يُوقِنُونَ﴾ بواو ساكنة بعد الياء، وهي مبدلة من ياء؛ لأنّه من أيقن. وقرأ أبو حية النّمريّ بهمزة ساكنة بدل الواو.
ومعنى الآية: أي (١) والذين يصدقون بما أنزل إليك من القرآن والوحي، أنه من عند الله تعالى، ويصدقون بما أنزل على الرسل من قبلك من سائر الكتب السماوية، أنها من عند الله سبحانه وتعالى، لا يفرقون بين كتب الله ولا بين رسله. وقال ابن عباس: أي: يصدقون بما جئت به من الله تعالى، وبما جاء به من قبلك من الرسل، لا يفرقون بينهم ولا يجحدون بما جاءؤوا به من ربهم،
وبمجيء الدار الآخرة التي تتلو الدنيا مع ما فيها من البعث، والحشر والحساب،
(١) العمدة.
119
والميزان، والجزاء، والجنة والنار. هم يوقنون؛ أي: (١) يعلمون علما قطعيا مزيحا لما كان عليه أهل الكتاب من الشكوك والأوهام التي من جملتها: زعمهم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، وأنّ النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، واختلافهم في أن نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا؟ وهل هو دائم أو لا؟ فقال فرقة منهم: يجري حالهم في التلذذ بالمطاعم، والمشارب، والمناكح على حسب مجراها في الدنيا، وقال آخرون: إنّ ذلك إنّما احتيج إليه في هذه الدار من أجل نماء الأجسام، ولمكان التوالد والتناسل، وأهل الجنة مستغنون عنه، فلا يتلذذون إلا بالنسيم، والأرواح العبقة، والسماع اللذيذ، والفرح والسرور. وفي بناء ﴿يُوقِنُونَ﴾ على الضمير تعريض بمن عداهم من أهل الكتاب، وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، فإنّ اعتقادهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة، فضلا من الوصول إلى مرتبة اليقين. فدل التقديم على التخصيص، بأن إيقان من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، مقصور على الآخرة الحقيقية لا يتجاوز إلا ما أثبته الكفار بالإقرار من أهل الكتاب.
واليقين (٢): هو التصديق الجازم الذي لا شبهة فيه ولا تردد، ويعرف اليقين بالله واليوم الآخر بآثاره في الأعمال، فمن يشهد الزور، أو يشرب الخمر، أو يأكل حقوق الناس يكن إيمانه بهما خيالا يلوح في الذهن لا إيمانا يقوم على اليقين، إذ لم يظهر آثاره في الجوارح واللسان، وهو لا يكون إيمانا حقّا إلّا إذا كان مالكا لزمام النفس مصرّفا لها في أعمالها.
والإيمان على الوجه الصحيح يحصل من أحد طريقين:
١ - البحث والتأمّل فيما يحتاج إلى ذلك، كالعلم بوجود الله سبحانه ورسالة الرسل.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
120
٢ - خبر الرسول بعد أن تقوم الدلائل على صدقه فيما يبلغ عن ربه، أو خبر من سمع منه بطريق لا تحتمل ريبا ولا شكّا، وهي طريق التواتر، كالعلم بأخبار الآخرة وأحوالها، والعالم العلوي وأوصافه. وعلينا أن نقف عند ذلك، فلا نزيد فيه شيئا، ولا نخلطه بغيره مما جاء عن طريق أهل الكتاب، أو عن بعض السلف بدون تمحيص ولا تثبّت من صحته، وقد دوّنه المفسرون في كتبهم، وجعلوه من صلب الدين، وهو ليس منه في شيء.
قال أبو الليث - رحمه الله تعالى - في «تفسيره»: اليقين على ثلاثة أوجه: يقين عيان، ويقين دلالة، ويقين خبر. فأما يقين العيان: فهو أنّه إذا رأى شيئا زال الشك عنه في ذلك الشيء. وأما يقين الدلالة: فهو أن يرى الرجل دخانا ارتفع من موضع يعلم باليقين أن هناك نارا وإن لم يرها. وأما يقين الخبر: فهو أنّ الرجل يعلم باليقين أنّ في الدنيا مدينة يقال لها: بغداد وإن لم ينته إليها.
فههنا يقين خبر ويقين دلالة؛ لأنّ الآخرة حقّ، ولأنّ الخبر يصير معاينة عند الرؤية. انتهى. ويقال: علم اليقين ظاهر الشريعة،
وعين اليقين الإخلاص فيها، وحقّ اليقين المشاهدة فيها، ثمّ ثمرة اليقين بالآخرة الاستعداد لها. فقد قيل:
عشرة من المغرورين: من أيقن أنّ الله خالقه ولا يعبده، ومن أيقن أنّ الله رازقه ولا يطمئن به، ومن أيقن أن الدنيا زائلة ويعتمد عليها، ومن أيقن أنّ الورثة أعداؤه ويجمع لهم، ومن أيقن أنّ الموت آت فلا يستعدّ له، ومن أيقن أنّ القبر منزله فلا يعمره، ومن أيقن أنّ الديّان يحاسبه فلا يصحح حجته، ومن أيقن أنّ الصراط ممرّه فلا يخفف ثقله، ومن أيقن أنّ النار دار الفجّار فلا يهرب منها، ومن أيقن أنّ الجنّة دار الأبرار فلا يعمل لها، كما في «التيسير».
قال ذو النون المصريّ: اليقين داع إلى قصر الأمل، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد، والزهد يورث الحكمة، والحكمة تورث النظر في العواقب. اه.
٥ - وجملة قوله: ﴿أُولئِكَ﴾ في محل (١) الرفع، إن جعل أحد الموصولين
(١) روح البيان.
121
مفصولا عن المتقين على أنّها خبر له، وكأنّه لما قيل: ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾ قيل: ما بالهم خصّوا بذلك؟ فأجيب بقوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ إلى آخر الآيات. وإلّا فاستئناف لا محلّ لها، فكأنّه ينتجه الأحكام السابقة، والصفات المتقدمة.
وأولاء: جمع، لا واحد له من لفظه، مبني على الكسر، وكافه للخطاب كالكاف في ﴿ذلِكَ﴾؛ أي: المذكورون قبله، وهم المتقون الموصوفون بالإيمان بالغيب وسائر الأوصاف المذكورة بعده. وفيه دلالة على أنّهم متميّزون بذلك أكمل تميّز، منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البعد؛ للإشعار بعلوّ درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل.
وهو مبتدأ، وقوله عزّ وجل: ﴿عَلى هُدىً﴾ خبره، وما فيه من الإبهام المفهوم من التنكير؛ لكمال تفخيمه، كأنّه قيل: على هدى؛ أي: هدى لا يبلغ كنهه ولا يقادر قدره، كما تقول: لو أبصرت فلانا لأبصرت رجلا. وإيراد كلمة الاستعلاء؛ لتمثيل حالهم في ملابستهم بالهدى، وتمسكهم به، واستقرارهم عليه بحال من يقبل الشيء، ويستولي عليه. يعني: شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه بحيث يتصرف فيه كيفما يريد؛ وذلك إنما يحصل باستفراغ الفكر، وإدامة النظر فيما نصب من الحجج، والمواظبة على محاسبة النفس في العمل. يعني: أكرمهم الله تعالى في الدنيا، حيث هداهم، وبيّن لهم طريق الفلاح قبل الموت.
﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ متعلق بمحذوف وقع صفة له، مبيّنة لفخامته الإضافية إثر بيان فخامته الذاتيّة، مؤكّدة لها؛ أي: على هدى كائن من ربهم سبحانه، وهو شامل لجميع أنواع هدايته تعالى وفنون توفيقه. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم؛ لغاية تفخيم الموصوف، والمضاف إليهم وتشريفهما.
ثمّ في هذه الآية (١) ذكر الهدى للموصوفين بكل هذه الصفات، وفي قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا﴾ إلى قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ
(١) روح البيان.
122
فَقَدِ اهْتَدَوْا} ذكر لهم الهداية بالإقرار والاعتقاد بدون سائر الطاعات؛ بيانا لشرف الإيمان، وجلالة قدره، وعلو أمره، فإنّه إذا قوي لم يبطله نفس المخالفات، بل هو الذي يغلب، فيردّ إلى التوبة بعد التمادي في البطالات، وكما هدي اليوم إلى الإيمان يهدى غدا إلى الجنان. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ﴾. وذلك، أن المطيعين يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، وهم على مراكب طاعاتهم، والملائكة تتلقاهم. قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْدًا﴾، وتتلقّاهم الملائكة، وتبقى العصاة منفردين منقطعين في متاهات القيامة، ليس لهم نور الطاعات، ولا في حقهم استقبال الملائكة، فلا يهتدون السبيل، ولا يهديهم دليل.
وقرأ ابن هرمز ﴿من ربهم﴾ بضمّ الهاء، وكذلك سائر هاءات جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء، ذكره في «البحر».
فإن قلت: لم ذكر هدى هنا مع قوله أولا: ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾؟
قلت: لأنّه ذكر هنا مع هدى فاعله بخلافه ثمّ. ذكره في فتح الرحمن. ﴿وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ تكرير ﴿أُولئِكَ﴾ (١)؛ للدلالة على أنّ كلّ واحد من الحكمين مستبدّ في تميّزهم به عن غيرهم، فكيف بهما، وتوسيط العطف بينهما؛ تنبيه على تغايرهما في الحقيقة لاختلاف مفهوم الجملتين ههنا، بخلاف قوله: ﴿أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ﴾ فإنّ التسجيل بالغفلة، والتشبيه بالبهائم شيء واحد، فكانت الجملة الثانية مقررة للأولى، فلا تناسب الفصل.
وفائدة الفصل بين المبتدأ والخبر بالضمير: الدلالة على أنّ ما بعده خبر لا صفة، وأنّ المسند ثابت للمسند إليه دون غيره، فصفة الفلاح مقصورة عليهم، لا تتجاوز إلى من عداهم من اليهود والنصارى، ولا يلزم من هذا أن لا يكون ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ صفة أخرى غير الفلاح، فالقصر قصر الصفة على الموصوف لا العكس، حتى يلزم ذلك. أو ﴿هُمُ﴾ مبتدأ، و ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ خبره والجملة خبر
(١) روح البيان.
123
﴿أُولئِكَ﴾. والمفلح بالحاء والجيم: هو الفائز بالبغية بعد سعي في الحصول عليها، واجتهاد في إدراكها، كأنه انفتحت له وجوه الظفر، ولم تستغلق عليه من الفلح، وهو الشقّ والقطع، ومنه سمّي الزارع فلاحا؛ لأنّه يشقّ الأرض. وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين، نحو: فلق، وفلذ، وفلى يدلّ على الشق والفتح. والمشار إليه بأولئك في الموضعين واحد، وهم المؤمنون من غير أهل الكتاب، والمؤمنون منهم.
تنبيه (١): تأمّل كيف نبّه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد من وجوه شتّى: بناء الكلام على اسم الإشارة؛ للتعليل مع الإيجاز، وتكريره، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل لإظهار قدرهم، والترغيب في اقتفاء أثرهم. وقد تشبثت الوعيدية بهذه الآية في خلود الفساق من أهل القبلة في العذاب، وردّ بأن المراد بالمفلحون: الكاملون في فلاحهم، ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم، لا عدم الفلاح لهم رأسا، كما في «تفسير البيضاوي».
وحاصل الفلاح يرجع إلى ثلاثة أشياء (٢): أحدها: الظفر على النفس فلم يتابعوا هواها، والدنيا فلم يطغوا بزخارفها، والشيطان فلم يفتنوا بوساوسه، وقرناء السوء فلم يبتلوا بمكروهاتهم.
والمعنى: أولئك الموصوفون بالصفات المذكورة، كائنون على هدى ورشاد كائن من ربّهم، ومعبودهم، ومالكهم، وأولئك المذكورون هم المفلحون؛ أي: الفائزون في الدنيا وفي الآخرة بالجنّة، والناجون من النار، والمقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة. وقال ابن كثير: ﴿وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ أي (٣): المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم، وإيمانهم بالله، وكتبه، ورسله من الفوز
(١) البيضاوي.
(٢) روح البيان.
(٣) ابن كثير.
124
بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعدّ الله لأعدائه من العقاب. انتهى.
فائدة: ويستفاد من هذه الآيات (١): أنّ الهداية الموصلة إلى الفلاح الأبديّ لا تحصل إلا لمن اتصف بالتقوى، وآمن بالغيب الذي أخبر به محمد صلّى الله عليه وسلّم وأقام الصلاة المفروضة، وأنفق في الواجبات مما رزقه الله تعالى، وآمن بالكتاب الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى الرسل قبله عليهم الصلاة والسلام، وأيقن مجيء الدار الآخرة.
الإعراب
﴿الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾.
﴿الم﴾ كلمة أريد لفظها لا معناها؛ لأنها اسم للسورة، في محلّ الرفع خبر لمبتدأ محذوف جوازا، تقديره: هذه ﴿الم﴾، أي: هذه السورة مسمّاة بلفظ ﴿الم﴾ مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها وضعيا. أو مبتدأ خبره محذوف، تقديره: ألم هذا محلّه. وقد تقدم بسط الكلام في معناه وإعرابه في مبحث التفسير، فراجعه.
والجملة الإسمية مستأنفة استئنافا نحويا، لا محلّ لها من الإعراب.
وعبارة «عمدة التفاسير» هنا: قوله: ﴿الم﴾ تقدم لك أنّ الأرجح فيه القول: بأنّه مما انفرد الله سبحانه وتعالى بعلم المراد منه، وعلى هذا القول فلا يوصف بإعراب، ولا بناء؛ لأنّ الإعراب فرع عن إدراك المعنى، ومعناه لم يعلم لنا. وعلى القول: بأنّه اسم لهذه السورة مثلا، ففيه ثلاثة أوجه من الإعراب:
الأول: الرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف.
والثاني: النصب على أنّه مفعول به لفعل محذوف وجوبا؛ لشبهه بالمثل، تقديره: اقرؤوا ﴿الم﴾ اقرؤوا فعل وفاعل، ﴿الم﴾ في محل النصب مفعول به،
(١) العمدة.
125
مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها استعماليا بواسطة شبهه بأسماء الأصوات، والجملة الفعلية مستأنفة.
والثالث: الجرّ على أنّه مقسم به حذف منه حرف القسم. اه. وقال العكبري: هذه الحروف المقطعة كل واحدة منها اسم، فألف: اسم يعبّر به عن مثل الألف الذي في (قال)، ولام: اسم يعبّر به عن مثل اللام الذي في (قال)، وكذلك ما أشبهها.
والدليل على أنّها أسماء: أنّ كلّا منها يدلّ على معنى في نفسه، وهي مبنية؛ لأنّك لا تريد أن تخبر عنها بشيء، وإنما يحكي بها ألفاظ الحروف التي جعلت أسماء لها، فهي كالأصوات، نحو: غاق في حكاية صوت الغراب. انتهى.
﴿ذلِكَ﴾ ذا: اسم إشارة يشار به للمفرد المذكر البعيد تنزيلا للبعد المعنوي منزلة البعد الحسي، في محلّ الرفع مبتدأ، مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها معنويا، واللام: لبعد المشار إليه، أو لمبالغة البعد، والكاف: حرف دالّ على الخطاب. ﴿الْكِتابُ﴾ بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان منه، مرفوع بالضمة الظاهرة. ﴿لا﴾ نافية لحكم الخبر عن جنس الاسم، تعمل عمل إنّ، ﴿رَيْبَ﴾ في محل النصب، اسمها مبني على الفتح؛ لشبهه بالحرف شبها معنويا لتضمّنه معنى من الاستغراقية، ﴿فِيهِ﴾ جار ومجرور، متعلّق بمحذوف وجوبا؛ لوقوعه خبرا للا، تقديره: لا ريب موجود فيه، وجملة لا من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر المبتدأ، تقديره: هذا الكتاب الذي يقرؤه محمد صلّى الله عليه وسلّم مخبر عنه بعدم وجود ريب فيه، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة استئنافا نحويا، لا محل لها من الإعراب. ﴿هُدىً﴾ خبر ثان للمبتدأ، ففيه الإخبار بالمفرد بعد الإخبار بالجملة، فهو جائز فصيح، والخبر مرفوع بالمبتدأ، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الألف المحذوفة، للتخلص من التقاء الساكنين، منع من ظهورها التعذّر؛ لأنّه اسم مقصور، مثل: فتى، وصح الإخبار به مع كونه اسم معنى؛ لأنّه في تأويل هاد، ويجوز أن يكون ﴿ذلِكَ﴾ مبتدأ، ﴿الْكِتابُ﴾ خبر أول له؛ لأنه قصد به الإخبار بأنه الكتاب المقدّس المستحق لهذا الاسم، وجملة ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ خبر ثان له، أو حال من الكتاب، و ﴿هُدىً﴾ خبر ثالث له، ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ جار ومجرور، وعلامة جره الياء؛ لأنّه من جمع المذكر السالم، وهو جمع متّق
126
أصله: متقيين بياءين، الأولى لام الكلمة، والثانية علامة الجمع، فاستثقلت الكسرة على لام الكلمة، وهي الياء الأولى، فحذفت الضمة فالتقى ساكنان، وهما الياءان، فحذفت إحداهما، وهي الأولى، فصار متقين، كما سيأتي بسط الكلام فيه في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى. الجار والمجرور متعلّق بهدى؛ لأنّه مصدر، ويجوز أن تجعله صفة لهدى.
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول لجمع المذكر في محل الجر صفة للمتقين، مبني على الفتح، أو على الياء على الخلاف المذكور في محلّه؛ لشبهه بالحرف شبها افتقاريا، ويجوز فيه القطع إلى الرفع، أو النصب. ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل، مرفوع بثبات النون، والواو ضمير لجماعة الذكور الغائبين، في محلّ الرفع. ﴿بِالْغَيْبِ﴾ جار ومجرور، متعلّق بيؤمنون، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد الواو في يؤمنون، وهو أعني الموصول جامد مؤول بمشتق مأخوذ من الصلة، تقديره: هدى للمتقين المؤمنين بالغيب، أو مأخوذ من ضدّ معنى الموصول، تقديره: للمتقين المعلوم إيمانهم بالغيب. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ فعل وفاعل، ومفعول به، معطوف على يؤمنون على كونه صلة الموصول. ﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ﴾ الواو عاطفة. ﴿مِمَّا﴾ من حرف جرّ مبني بسكون على النون المدغمة في ميم ما. ﴿ما﴾ اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل الجر بمن، مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها افتقاريا، الجار والمجرور متعلّق بينفقون المذكور بعده، قدّم عليه اهتماما بشأن المنفق، أو لرعاية الفاصلة. ﴿رَزَقْناهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ومما رزقناهم إياه، وهو المفعول الثاني لرزقناهم، وفي «الجمل»: أنّ العائد محذوف، فيقدّر متصلا أو منفصلا على حدّ قول ابن مالك:
وصل أو افصل هاء سلنيه
﴿يُنْفِقُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ على كونها صلة الموصول والعائد إلى الموصول الواو في ﴿يُنْفِقُونَ﴾.
127
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ الواو عاطفة. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول للجمع المذكر في محل الجر، معطوف على الموصول الأوّل، على كونه صفة للمتقين. ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿بِما﴾ الباء حرف جرّ. ﴿ما﴾ اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محلّ الجر بالباء، والجار والمجرور متعلّق بيؤمنون. ﴿أُنْزِلَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، مبني على الفتح، ونائب فاعله ضمير يعود على ما، والجملة صلة لما، أو صفة لها. ﴿إِلَيْكَ﴾ جار ومجرور متعلّق بأنزل. ﴿وَما﴾ الواو عاطفة. ما في محلّ الجر معطوفة على ما الأولى. ﴿أُنْزِلَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعل مستتر فيه، والجملة صلة لما، أو صفة لها. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ جار ومجرور متعلّق بأنزل. ﴿وَبِالْآخِرَةِ﴾ الواو عاطفة. ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ جار ومجرور متعلّق بيوقنون الآتي، قدّم عليه اهتماما بشأن الآخرة، أو لرعاية الفاصلة. ﴿هُمْ﴾ الهاء ضمير لجماعة الذكور الغائبين في محل الرفع مبتدأ، مبني على الضمّ؛ لشبهه بالحرف شبها وضعيا، والميم حرف دالّ على الجمع. ﴿يُوقِنُونَ﴾ فعل مضارع مرفوع بثبات النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والتقدير: وهم موقنون بالآخرة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ على كونها صلة الموصول، ففيه عطف الجملة الإسمية على الفعلية، وهو جائز.
﴿أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)﴾.
﴿أُولئِكَ﴾ اسم إشارة يشار به للجمع المطلق، في محلّ الرفع مبتدأ، مبني على الكسر؛ لشبهه بالحرف شبها معنويا، الكاف حرف دال على الخطاب مبني على الفتح. ﴿عَلى هُدىً﴾ جار ومجرور متعلّق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: كائنون على هدى، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافا بيانيّا، لا محلّ لها من الإعراب. ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ جار ومجرور متعلّق بمحذوف صفة لهدى، تقديره: على هدى كائن من ربّهم. ﴿وَأُولئِكَ﴾ الواو عاطفة. ﴿أُولئِكَ﴾ مبتدأ. ﴿هُمُ﴾ ضمير
128
فصل، حرف لا محلّ له من الإعراب. ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ خبر المبتدأ، مرفوع بالواو، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ويصحّ أن يعرب ﴿أُولئِكَ﴾ مبتدأ أول.
﴿وهُمُ﴾ ضمير لجماعة الذكور الغائبين، في محلّ الرفع مبتدأ ثان ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول معطوفة على الجملة التي قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿الم﴾ هي وأمثالها من الحروف المقطعة، نحو: ﴿المص﴾ و ﴿المر﴾ وغيرها، أسماء مدلولها حروف المعجم، ولذلك نطق بها نطق حروف المعجم، وهي موقوفة الآخر، لا يقال: إنّها معربة؛ لأنّها لم يدخل عليها عامل فتعرب، ولا يقال: إنها مبنية؛ لعدم سبب البناء، لكن أسماء حروف المعجم قابلة لتركيب العوامل عليها فتعرب، فتقول: هذه ألف حسنة، ونظير سرد هذه الأسماء موقوفة أسماء العدد إذا عدوا يقولون: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة. وقد اختلف العلماء في المراد بها، كما مرّ بسطه.
﴿ذلِكَ الْكِتابُ﴾ الكتاب يطلق على معان كثيرة، منها: العقد المعروف بين العبد وسيّده على مال منجّم، كما في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ﴾، وعلى الفرض، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾ وقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ﴾ وقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾، وعلى الحكم قاله الجوهري، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لأقضينّ بينكما بكتاب الله، كتاب الله القصاص»، وعلى القدر، كما في قوله:
يا ابنة عمّي كتاب الله أخرجني عنكم وهل أمنعنّ الله ما فعلا
أي: قدر الله سبحانه، وعلى مصدر كتبت، تقول: كتبت كتابا وكتبا، ومنه: ﴿كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ وعلى المكتوب، كالحساب بمعنى المحسوب، ومنه قول الشاعر:
129
ومنه ما هنا.
﴿لا رَيْبَ﴾ الريب: الشكّ بتهمة، وللريب في اللغة ثلاثة معان.
أحدها: الشكّ، وهو المراد هنا.
وثانيها: التهمة، كما في قول جميل:
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة أتتك من الحجّاج يتلى كتابها
بثينة قالت يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب
وثالثها: الحاجة، كما قال الشاعر:
قضينا من تهامة كلّ ريب وخيبر ثمّ أجمعنا السّيوفا
﴿هُدىً﴾؛ أي: رشاد وبيان، فهو مصدر من هداه، كالسّرى والبكى. اه. «أبو السعود». ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ جمع متّق، وأصله: متّقيين بياءين، الأولى لام الكلمة، والثانية علامة الجمع، فاستثقلت الكسرة على لام الكلمة، وهي الياء الأولى فحذفت، فالتقى ساكنان فحذفت إحداهما، هي الأولى، فقيل: للمتقين.
ومتّق: اسم فاعل من الوقاية؛ أي: المتخذ له وقاية من النار. اه. «جمل».
وأصل هذه الكلمة: موتقيين بوزن مفتعلين؛ لأنّ أصل المادّة من الوقاية، وفعلها:
وقى لفيف مفروق، واتقى منه وزنه افتعل، وأصل اتقى أو تقي تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ثمّ أبدلت الواو - فاء الكلمة - تاء، وأدغمت في تاء الافتعال على حدّ قول ابن مالك في باب التصريف:
ذو اللّين فا تا في افتعال أبدلا وشذّ في ذي الهمز نحو ائتكلا
وعليه فاسم الفاعل موتقي بوزن مفتعل، أبدلت الواو تاء وأدغمت في تاء الافتعال، كما تقدّم قريبا، ثم أعلّ إعلال قاض بحذف يائه، وأصل التقوى: وقيا، أبدلت الواو تاء، كما أبدلت الياء واوا فقيل: تقوى بعد أن كانت وقيا، كما قال ابن مالك في «الخلاصة»:
من لام فعلى اسما أتى الواو بدل ياء كتقوى غالبا جا ذا البدل
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ يؤمنون على وزن يفعلون بضمّ حرف المضارعة
130
مضارع آمن الرباعي، أصله: أأمن بوزن أفعل، فكرهوا اجتماع الهمزتين في كلمة، فقلبوا الثانية ألفا.
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ مضارع أقام الرباعيّ، وفيه حذف همزة أفعل، إذ القياس إثباتها، وفيه إعلال بالتسكين والقلب، فأصله: يقومون، نقلت حركة الواو إلى الساكن الصحيح قبلها، فسكنت الواو إثر كسرة فقلبت ياء حرف مدّ، فوزنه يفعلون. وفي «الجمل»: أصله: يؤقومون، حذفت همزة أفعل؛ لوقوعها بعد حرف المضارعة، فصار يقومون بوزن يكرمون، فاستثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى القاف، ثمّ قلبت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها. اه. «سمين». الصلاة أصله: صلوة، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ففيه إعلال بالقلب. وقيل: من الوصلة؛ لأنها وصلة بين العبد وبين ربّه، وعليه فأصلها وصلة، قلبت الواو قلبا مكانيا فصار صلوة، ثمّ يقال: تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا.
﴿يُنْفِقُونَ﴾ فيه حذف همزة أفعل من المضارع، إذ القياس: يؤنفقون. ﴿وَبِالْآخِرَةِ﴾ الآخرة مؤنث الآخر، كما أنّ الدنيا مؤنث الأدنى، ثمّ صارا علمين للدارين. ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾ أصله: ييقنون بياءين؛ لأنّ المادة من اليقين، وفيه همزة أفعل؛ لأنّه من مضارع أيقن، وفيه إعلال بالقلب حيث قلبت الياء الثانية الساكنة واوا؛ لسكونها إثر ضمّة، فجعلت حرف مدّ، وهذا على حدّ قول ابن مالك:
ووجب إبدال واو بعد ضمّ من ألف ويأكموقن بذاله اعترف
﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ جمع مفلح، أصله: مؤفلح بوزن مفعل، ففيه حذف همزة أفلح الرباعي من اسم الفاعل، أصله: المؤفلحون.
البلاغة
وقد تضمّنت هذه الآيات الكريمة ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: حسن الافتتاح في قوله: ﴿الم﴾ حيث افتتح بما فيه غموض ودقة؛
131
لتنبيه السامع على النظر، والفكر، والاستنباط.
ومنها: الإتيان باسم إشارة البعيد في قوله: ﴿ذلِكَ﴾ إشارة إلى بعد منزلته ورتبته.
ومنها: التعريف بالألف واللام في قوله: ﴿الْكِتابُ﴾ تفخيما لشأنه، وتعظيما لقدره.
ومنها: معدول الخطاب في قوله: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾، حيث عبّر فيه بصيغة الخبر مرادا به الأمر؛ أي: لا ترتابوا فيه.
ومنها: تقديم الريب على الجار والمجرور في هذه الجملة؛ لأنّه أولى بالذكر أوّلا استعددا لصورته حتى تتجسّد أمام السامع.
ومنها: المجاز العقليّ في قوله: ﴿هُدىً﴾ لما فيه من الإسناد إلى السبب، حيث أسند الهداية إلى الكتاب والهادي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: الصائرين إلى التقوى، علاقته اعتبار ما يؤول إليه.
ومنها: الإيجاز في ذكر المتقين؛ لأنّ الوقاية اسم جامع لكلّ ما تجب الوقاية منه.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ لكونهم المنتفعين به.
ومنها: إطلاق المصدر، وإرادة اسم الفاعل في قوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾؛ لأنّه بمعنى الغائب مبالغة فيه.
ومنها: تقديم ﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ﴾ على ﴿يُنْفِقُونَ﴾ اهتماما بشأن المنفق به، أو لرعاية الفاصلة.
ومنها: التعبير بضمير جماعة المتكلمين في قوله: ﴿رَزَقْناهُمْ﴾ مع كون الله واحدا لا شريك له؛ جريا على عادة خطاب الملوك في التعبير عن أنفسهم بصيغة الجمع، كما مرّ في مبحث التفسير.
132
ومنها: التكرار في قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ ﴿يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾، وفي قوله: ﴿الَّذِينَ وَالَّذِينَ﴾ إن كان الموصوف واحدا، فهو تكرار اللفظ والمعنى، وإن كان مختلفا كان من تكرار اللفظ دون المعنى.
ومنها: تكرار ﴿أُولئِكَ﴾؛ للدلالة على أنّ كلّ واحد من الحكمين مستبدّ في تميّزهم به من غيرهم، فكيف بهما؟.
ومنها: توسيط العاطف بينهما؛ تنبيها على تغايرهما في الحقيقة.
ومنها: الفصل بين المبتدأ والخبر في قوله: ﴿وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ للدلالة على أنّ ما بعده خبر لا صفة، وأنّ المسند ثابت للمسند إليه دون غيره. وفي هذه الجملة أيضا: قصر الصفة على الموصوف؛ لأنّ صفة الفلاح مقصورة عليهم لا تتجاوز إلى من عداهم من اليهود والنصارى، وفي هذه الجملة أيضا: تأكيد المظهر بالمضمر.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿عَلى هُدىً﴾؛ تشبيها لحال المتقين بحال من اعتلى صهوة جواده، فحذف المشبه فاستعيرت كلمة على: الدالّة على الاستعلاء؛ لبيان أنّ شيئا تفوّق واستعلى على ما بعدها حقيقة، نحو: زيد على السطح، أو حكما، نحو: عليه دين، فالدّين للزومه وتحمّله، كأنّه ركب عليه وتحمّله. والدّقّة: أنّ الاستعارة بالحرف، ويقال في تقريرها: شبّه مطلق ارتباط بين هدى ومهدى بمطلق ارتباط بين مستعل ومستعل عليه؛ بجامع التمكن في كلّ منهما، فسرى التشبيه من الكليات إلى الجزئيات، ثمّ استعيرت على وهي من جزئيات المشبه به لجزئيّ من جزئيات المشبه على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الحذف، وهو في مواضع: فمنها: قوله هذه: ﴿الم﴾ على قول من يقدر ذلك، وقوله: ﴿هُدىً﴾ أي: هو هدى، فحذف المبتدأ، وقوله: ﴿يُنْفِقُونَ﴾؛ أي: المال. ﴿بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾؛ أي: من القرآن. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾؛ أي: من قبل إرسالك، أو قبل الإنزال إليك. ﴿وَبِالْآخِرَةِ﴾؛ أي: بجزاء الآخرة.
133
ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: ﴿بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ مع كون بعضه مترقبا حينئذ؛ لتغليب المحقّق على المترقّب نزوله، أو لتنزيل ما في شرف الوقوع لتحقّقه منزلة الواقع.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿عَلى هُدىً﴾؛ للدلالة على كمال تفخيمه، كأنّه قيل: على هدى أي هدى لا يقادر قدره.
ومنها: التعرّض لعنوان الربوبية في قوله: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾؛ للدلالة على تفخيم الموصوف، وشرف المضاف إليهم.
ومنها: حسن التقسيم، وهو فنّ من فنون البلاغة، وهو استيعاب المتكلم جميع أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه، بحيث لا يغادر منه شيئا، فقد استوعبت هذه الآيات جميع الأوصاف المحمودة، والعبادات التي يعكف عليها المؤمنون؛ لأنّ العبادات كلّها تنحصر في نوعين: بدنيّة ومالية، ولا بدّ من استيفائهما لتكون العبادات كلّها مستوفاة.
فائدة مستجادة: وقد ورد في فضل هذه الآيات الشريفة أحاديث (١):
منها: ما أخرجه عبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» والحاكم والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال: «كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فجاء أعرابيّ، فقال: يا نبي الله! إنّ لي أخا وبه وجع، فقال: «وما وجعه؟» قال: به لمم، قال: فأتني به، فوضعه بين يديه فعوّذه النبي صلّى الله عليه وسلّم بفاتحة الكتاب، وأربع آيات من أوّل سورة البقرة وهاتين الآيتين: وإلهكم إله واحد، وآية الكرسي، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة، وآية من آل عمران ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾، وآية من الأعراف ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ﴾ وآخر سورة المؤمنين ﴿فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾، وآية من سورة الجنّ ﴿وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا﴾ وعشر آيات من أول الصافات، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر، ﴿وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ والمعوذتين. فقام الرجل كأنّه لم يشتك قطّ،
(١) الشوكاني.
134
وأخرج نحوه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» من طريق عبد الرحمن بن أبي يعلى، عن رجل، عن أبيّ مثله.
وأخرج الدارميّ، وابن الضريس عن ابن مسعود قال: (من قرأ أربع آيات من أوّل سورة البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعد آية الكرسي، وثلاثا من آخر (سورة البقرة) لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله، ولا تقرأ على مجنون إلّا أفاق. وأخرج الدارميّ، وابن المنذر، والطبراني عنه قال: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة، لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح؛ أربع من أوّلها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث خواتمها: أوّلها ﴿لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ﴾. وأخرج سعيد بن منصور، والدارمي والبيهقي عن المغيرة بن سبيع وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود بنحوه. وأخرج الطبراني، والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة، وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة.
وقد ورد في ذلك غير هذا.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
135
قال الله سبحانه جلّ وعلا:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)﴾.
المناسبة
مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا (١) بيّن حال المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وبما أنزل إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما أنزل من قبله، وبيّن ما آل إليه أمرهم من الهداية والفلاح، أعقب هذا بشرح طائفة ثانية، وهم الكفرة الفجرة، وأبان أنّه قد بلغ من أمرهم في الغواية والضلال أن لا يجدي فيهم الإنذار والتبشير، وأن لا تؤثّر فيهم العظة والتذكير، فهم عن الصراط السوي ناكبون، وعن الحق معرضون. فالإنذار وعدمه سيّان، فماذا ينفع النور مهما سطع، والضوء مهما ارتفع؟ مع من أغمض عينيه حتى لا يراه بغضا له وعداوة لمن دعا إليه، لأنّ الجهل أفسد وجدانه، وأصبح لا يميّز بين نور وظلمة، ولا بين نافع وضارّ.
وقد جرت عادة الله في مثل هؤلاء الذين مرنوا على الكفر أن يختم على قلوبهم، فلا يبقي فيها استعدادا لغير الكفر، ويختم على سمعهم، فلا يسمعون إلّا أصواتا لا ينفذ منها إلى القلب شيء ينتفع به، ويجعل على أبصارهم غشاوة، إذ هم لم ينظروا إلى ما في الكون من آيات وعبر، ولم يبصروا ما به يتقون الخطر، فكأنّهم لا يبصرون شيئا، وكأنّه قد ضرب على أبصارهم بغشاوة.
وقد حكم الله سبحانه عليهم بالعذاب الأليم في العقبى، وفقد العزّ والسلطان في الدنيا، كما قال سبحانه: ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾.
(١) المراغي.
136
أسباب النزول
روي: أنّ هاتين الآيتين نزلتا في من علم الله عدم إيمانه من الكفار، إما مطلقا، وإما في طائفة مخصوصة، كأبي جهل، وأبي لهب، وغيرهما من كفار مكة. والحكمة في إخبار الله سبحانه نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بذلك؛ إراحة قلبه من تعلّقه بإيمانهم، فلا يشغل بهدايتهم ولا تأليفهم. قال أبو حيان: وذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين أقوالا:
أحدها: أنّها نزلت في يهود كانوا حول المدينة، قاله ابن عباس، وكان يسميهم.
الثاني: نزلت في قادة الأحزاب من مشركي قريش، قاله أبو العالية.
الثالث: في أبي جهل، وخمسة من أهل بيته، قاله الضحاك.
الرابع: في أصحاب القليب، وهم: أبو جهل، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
الخامس: في مشركي العرب قريش، وغيرها.
السادس: في المنافقين.
والحكمة في عدم الدعاء منه عليهم مع علمه بأنّه يستحيل إيمانهم، أنّه يرجو الإيمان من ذرّيتهم.
التفسير وأوجه القراءة
٦ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجحدوا، وأنكروا بآيات الله، وكذبوا برسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصرّوا، وداموا على ذلك. ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ أي: مستو عندهم في عدم الإفادة، إنذارك وتخويفك يا محمد إياهم من عذاب الله على كفرهم، وعدم إنذارك إيّاهم. فهم ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ أي: لا يصدّقون بما جئتهم به من التوحيد، فلا تطمع في إيمانهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ لأنّه قد سبق في علمنا عدم إيمانهم بك. وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم على تكذيب قومه له.
137
لمّا ذكر سبحانه خاصّة عباده، وخالصة أوليائه بصفاتهم التي أهّلتهم للهدى والفلاح، أعقبهم بأضدادهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى، ولا يغني عنهم الآيات والنذر. وتعريف الموصول: إمّا للعهد، والمراد به: ناس بأعيانهم، كأبي لهب، وأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وأحبار اليهود، أو للجنس متناولا كلّ من صمّم على كفره تصميما لا يرعوي بعده وغيرهم، فخصّ منهم غير المصرّين بما أسند إليه.
والكفر لغة: الستر والتغطية، ومنه سمي الليل كافرا، لأنّه يستر الأشياء بظلمته. قال الشاعر:
في ليلة كفر النجوم غمامها
أي: سترها. وشرعا: إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلّى الله عليه وسلّم به.
واعلم: أنّ الكفر على أربعة أضرب (١):
كفر إنكار: وهو أن لا يعرف الله سبحانه أصلا، ككفر فرعون، حيث قال: ﴿ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي﴾.
وكفر جحود: وهو أن يعرف الله بقلبه، ولا يقرّ بلسانه، ككفر إبليس اللعين.
وكفر عناد: وهو أن يعرف الله بقلبه، ويقرّ بلسانه، ولا يدين به، ككفر أمية ابن أبي الصلت، وأبي طالب، حيث قال في شعر له:
ولقد علمت بأنّ دين محمد من خير أديان البريّة دينا
لولا الملامة أو حذار مسبّة لو جدتّني سمحا بذاك مبينا
وكفر نفاق: وهو أن يقرّ بلسانه، ولا يعتقد صحة ذلك بقلبه، فجميع هذه الأنواع كفر.
(١) الخازن.
138
وحاصله (١): أنّ من جحد الله سبحانه، أو أنكر وحدانيته، أو أنكر شيئا مما أنزله على رسوله، أو أنكر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو نبوة أحد من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهو كافر، فإن مات على ذلك فهو في النار خالدا فيها، ولا يغفر الله سبحانه له.
والمراد بالذين كفروا هنا: من علم الله سبحانه أنّ الكفر قد رسخ في قلوبهم حتى أصبحوا غير مستعدّين للإيمان بجحودهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبما جاء به بعد أن بلغتهم رسالته بلاغا صحيحا، وعرضت عليهم الدلائل على صحتها للنظر والبحث، فأعرضوا عنها عنادا واستهزاء. وسبب كفرهم: إما عناد للحق بعد معرفته، وقد كان من هذا الصنف جماعة من المشركين واليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، كأبي جهل وأضرابه، وأحبار اليهود، ككعب بن الأشرف وإما إعراض عن معرفته، واستكبار عن النظر فيه.
والمعرضون عن الحقّ يوجدون في كلّ زمان ومكان، وهؤلاء إذا طاف بهم طائف الحقّ لوّوا رؤوسهم، واستكبروا، وهم معرضون، وفيهم يقول تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾.
﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي (٢): مستو عند هؤلاء الكفرة، وهو اسم مصدر بمعنى الاستواء، وصف به كما يوصف بالمصادر مبالغة، كما في قوله تعالى: ﴿تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ﴾. وارتفاعه على أنّه خبر إنّ، وقوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ يا محمد ﴿أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ مرتفع على الفاعلية بسواء؛ لأنّ الهمزة وأم مجرّدتان عن معنى الاستفهام؛ لتحقيق معنى الاستواء بين مدخوليهما، كما جرّد الأمر والنهي عن معنييهما؛ لتحقيق معنى الاستواء في قوله عزّ وجلّ: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ كأنّه قيل: إنّ الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه، كقولك: إن
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
139
زيدا مختصم أخوه وابن عمّه. وقيل: ﴿سَواءٌ﴾ خبر مقدم للمصدر المنسبك من الجملة التي بعده من غير سابك لإصلاح المعنى، وخبر إنّ جملة قوله: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ الآتية، وجملة ﴿سَواءٌ﴾ معترضة بين اسم إنّ وخبرها. وصحّ على هذا القول الابتداء بالفعل والإخبار عنه بسواء؛ هجرا لجانب اللفظ إلى جانب المعنى، كأنّه قيل: إنذارك إياهم وعدمه سواء، كقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، أي: سماعك به خير من رؤيته.
وأصل الإنذار: الإعلام بأمر مخوف، وكلّ منذر معلم، وليس كلّ معلم منذرا، كما في «تفسير أبي الليث»، والمراد ههنا: التخويف من عذاب الله وعقابه على المعاصي، وإنّما اقتصر على الإنذار دون التبشير؛ لمّا أنّهم ليسوا بأهل للبشارة أصلا؛ ولأنّ الإنذار أوقع في القلوب، وأشدّ تأثيرا في النفوس، فإنّ دفع المضار أهمّ من جلب المنافع، فحيث لم يتأثّروا به فلأن لا يرفعوا للبشارة رأسا أولى.
فإن قلت: لم حذف الواو هنا، وأثبت في (يس) حيث قال فيها: ﴿وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾؟
قلت: لأنّ (ما) هنا جملة هي خبر عن اسم إنّ، و (ما) هناك جملة عطفت على أخرى، فبينهما فرق. وإنما لم يقل: (سواء عليك)، كما قال لعبدة الأوثان: ﴿سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ﴾، لأنّ إنذارك، وترك إنذارك ليسا سواء في حقّك؛ لأنّك تثاب على الإنذار وإن لم يؤمنوا، وأمّا في حقّهم فهما سواء في عدم الإفادة؛ لأنّهم لا يؤمنون في الحالين، وهو نظير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإنّه يثاب به الآمر وإن لم يمتثل المأمور. وكان هؤلاء القوم، كقوم هود عليه السلام حيث قالوا له: ﴿سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ﴾.
وقوله: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ جملة مستقلّة على الوجه الأول، مؤكدة لما قبلها، مبيّنة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء، فلا محلّ لها من الإعراب، أي: موضحة لتساوي الإنذار وعدمه في حقّهم لا في حقّه صلّى الله عليه وسلّم، ولا في حقّ الدّعاة إلى دينه، إذ هم يدعون كلّ كافر إلى الدين الحقّ، لا فرق بين المستعدّ للإيمان وغير
140
المستعد. أو حال مؤكدة، أو بدل منه، أو خبر إن، والجملة قبلها اعتراض بما هو علّة الحكم.
ثّم هذا تيئيس للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتفريغ لقلبه، حيث أخبره عن هؤلاء بما أخبر به نوحا عليه السلام في الانتهاء، فإنّه قال تعالى لنوح عليه السلام بعد طول الزمان، ومقاساة الشدائد والأحزان: ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾، فدعا بهلاكهم بعد ذلك، وكذلك سائر الأنبياء.
وفي الآية الكريمة: إخبار بالغيب على ما هو به، إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات الباهرة. وفي الآية: إثبات فعل العبادة، فإنّه قال: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾، وفيه إثبات الاختيار، ونفي الإكراه، والإخبار، فإنّه لم يقل: لا يستطيعون، بل قال: لا يؤمنون.
فإن قلت (١): حين علم الله أنهم لا يؤمنون، فلم أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بدعائهم؟
قلت: فائدة الإنذار بعد العلم: بأنّه لا ينجع إلزام الحجة، كما أنّ الله تعالى بعث موسى إلى فرعون ليدعوه إلى الإيمان، وعلم أنّه لا يؤمن، قال تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾، وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ﴾.
فإن قلت: قد أخبر الله رسوله أنّهم لا يؤمنون، فهلّا أهلكهم كما أهلك قوم نوح عليه السلام، بعدما أخبره أنّهم لا يؤمنون؟
قلت: لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان رحمة للعالمين، كما ورد به الكتاب، فقد قال تعالى: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.
والآية (٢) مما احتّج به من جوّز تكليف ما لا يطاق، فإنّه سبحانه وتعالى
(١) روح البيان.
(٢) البيضاوي.
141
أخبر عنهم بأنّهم لا يؤمنون، وأمرهم بالإيمان، فلو آمنوا انقلب خبره كذبا، وشمل إيمانهم الإيمان بأنّهم لا يؤمنون، فيجتمع الضدّان، والحقّ أنّ التكليف بالممتنع لذاته وإن جاز عقلا من حيث إنّ الأحكام لا تستدعي غرضا سيّما الامتثال، لكنه غير واقع للاستقراء والإخبار بوقوع الشيء، أو عدمه لا ينفي القدرة عليه، كإخباره سبحانه عمّا يفعله هو أو العبد باختياره، فلا يلزم جواز تكليف ما لا يطاق.
وقال صاحب اللوامح (١): قرأ الجحدريّ ﴿سَواءٌ﴾ بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز، فيجوز أنّه أخلص الواو، ويجوز أنّه جعل الهمزة بين بين، وهو أن يكون بين الهمزة والواو، وفي كلا الوجهين لا بدّ من دخول النقص فيما قبل الهمزة المليّنة من المدّ. انتهى.
فعلى هذا: يكون ﴿سَواءٌ﴾ ليس لامه ياء، بل واوا، فيكون من باب قواء.
وعن الخليل: ﴿سوء عليهم﴾ بضمّ السين مع واو بعدها مكان الألف، مثل ﴿دائرة السوء﴾ على قراءة من ضمّ السين، وفي ذلك عدول عن معنى المساواة إلى معنى القبح والسّبّ، ولا يكون على هذه القراءة له تعلّق إعراب بالجملة بعدها، بل يبقى قوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ إخبارا بانتفاء إيمانهم على تقدير إنذارك، وعدم إنذارك، وأمّا سواء الواقع في الاستثناء في قولهم: (قاموا سواك) بمعنى: قاموا غيرك، فهو موافق لهذا في اللفظ مخالف في المعنى، فهو من باب المشترك، وله أحكام ذكرت في باب الاستثناء.
وقوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ فيه خمس قراءات سبعيّة (٢):
الأولى: تحقيق الهمزتين مع إدخال ألف؛ أي: مدّ طبيعيّ بينهما.
والثانية: تحقيق بلا إدخال ألف بينهما.
(١) البحر المحيط.
(٢) صاوي بتصرف.
142
والثالثة: تسهيل الثانية، وهو أن تكون بين الهمزة والهاء مع إدخال ألف بين المسّهلة والأخرى.
والرابعة: تسهيل الثانية بلا إدخال ألف بين المسّهلة والأخرى.
والخامسة: إبدال الثانية ألفا؛ أي: مدّا لازما، وقدره سّت حركات خلافا للبيضاوي، حيث قال: إنّ قراءة الإبدال لحن؛ لوجهين:
الأوّل: أنّ الهمزة المتحركة لا تبدل ألفا.
والثاني: أن فيه التقاء الساكنين على غير حدّه.
وردّ عليه ملّا علي القاري: بأنّ القراءة متواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن أنكرها كفر، فيستدلّ بها لا لها. وأما قوله: إنّ الهمزة المتحركة لا تبدل ألفا في القلب القياسيّ، وأمّا السماعّي كما في سأل، ومنسأته، فلا لحن فيه؛ لأنّه يقتصر فيه على السماع. وقوله: فيه التقاء الساكنين على غير حدّه نقول: سهّله طول المدّ والسماع اه. صاوي بتصرف، وسيأتي بسطه في مبحث القراءة.
وفي «الجمل»: قال الجعبريّ (١): وجه الإبدال المبالغة في التخفيف، إذ في التسهيل قسط همز. قال قطرب: هي قرشيّة وليست قياسيّة، لكنها كثرت حتى اطّردت، وأما تعليلهم بأنّه يؤدّي إلى جمع الساكنين على غيره، فمدفوع بأنّ من يقلبها ألفا يشبع الألف إشباعا زائدا على مقدار الألف بحيث يصير المدّ لازما، فيكون فاصلا بين الساكنين، ويقوم قيام الحركة، كما في ﴿مَحْيايَ﴾ بإسكان الياء لنافع وصلا، ويسمّي هذا حاجزا. وقد أجمع القراء وأهل العربية على إبدال الهمزة المتحركة الثانية في نحو: الآن، ثم اعلم أنّ موافقة العربية؛ إنما هي شرط لصحة القراءة، إذا كانت بطريق الآحاد، وأما إذا ثبتت متواترة فيستشهد بها لا لها، وإنّما ذكرنا ما ذكر؛ تفهيما للقاعدة، وتتميما للفائدة اه.
٧ - ثمّ بيّن سبب تركهم الإيمان، فقال: ﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، وقفّل
(١) الفتوحات.
143
﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ وطبع عليها، وطمس (١) نور بصيرتهم بحيث لا تعي خبرا ولا تفهمه، فلا يدخل فيها نور، ولا يشرق فيها إيمان. وذلك أنّ القلوب إذا كثرت عليها الذنوب طمست نور البصيرة فيها، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص. والمراد بالختم هنا: عدم وصول الحقّ إلى قلوبهم، وعدم نفوذه واستقراره فيها. وهذه الجملة مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما سبق من الحكم، وهو عدم إيمانهم.
وأصل الختم (٢): التغطية، وحقيقته: الاستيثاق من الشيء؛ لكي لا يخرج منه ما حصل فيه، ولا يدخله ما خرج منه. ومنه: ختم الكتاب ولا ختم في الحقيقة، وإنما المراد به: أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرّنهم على استحباب الكفر والمعاصي، واستقباح الإيمان والطاعات، بسبب غيّهم، وانهماكهم في التقليد، وإعراضهم عن النظر الصحيح، فتجعل قلوبهم بحيث لا يؤثر فيها الإنذار، ولا ينفذ إليها الحقّ أصلا. وسمّى هذه الهيئة: ختما على سبيل الاستعارة، فالمراد بالقلب هنا: محلّ القوة العاقلة من الفؤاد. وقد يطلق ويراد به: المعرفة والعقل، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ﴾. والمراد (٣) بالقلب هنا: جسم لطيف قائم بالقلب اللحمانيّ، الصنوبري الشكل، قيام العرض بمحله، أو قيام الحرارة بالفحم، وهذا القلب: هو الذي يحصل به الإدراك، وترتسم فيه العلوم والمعارف، وهو العقل، بخلاف القلب الذي بمعنى اللحمة الصنوبرية الشكل، فإنّها للبهائم والأموات.
﴿وَ﴾ ختم الله ﴿عَلى سَمْعِهِمْ﴾ وآذانهم؛ أي: أصمّ مواضع سمعهم، فجعلها بحيث تعاف استماع الحقّ، ولا تصغي إلى خير، ولا تعيه، ولا تقبله. والختم عقوبة لهم على سوء اختيارهم، وميلهم إلى الباطل، وإيثارهم إياه. والسمع هو: إدراك القوة السامعة، وقد يطلق عليها وعلى العضو الحامل لها،
(١) عمدة التفاسير.
(٢) روح البيان.
(٣) العمدة.
144
وهو المراد هنا؛ لأنّه أشدّ مناسبة للختم، وهو المختوم عليه أصالة.
والمعنى: أصمّ مواضع سمعهم، فلا يسمعون الحقّ، ولا ينتفعون به: لأنّها تمّجه، وتنبو عن الإصغاء إليه. وقرىء شاذا ﴿وعلى أسماءهم﴾، كما سيأتي في مبحث القراءة.
وإنّما أفرده وجمع صاحبيه؛ لأنّه مصدر، والمصدر لا يثنى ولا يجمع.
وقيل: أفرده لوحدة المسموع، وهو الصوت، كذا في «الجمل». وفي «الروح»: وفي توحيد السمع وجوه (١):
أحدها: أنّه في الأصل مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع؛ لصلاحيتها للواحد والاثنين والجماعة.
فإن قلت: فلم جمع الأبصار والواحد بصر، وهو كالسمع؟
قلنا: إنّه اسم للعين، فكان اسما لا مصدرا فجمع لذلك.
وثانيها: أنّ فيه إضمارا، أي: على مواضع سمعهم وحواسّه، كقوله تعالى: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾ أي: أهلها. وثبت هذا الإضمار بدلالة أنّ السمع فعل، ولا يختم على الفعل، وإنّما يختم على محله.
وثالثها: أنّه أراد سمع كلّ واحد منهم، والإضافة إلى الجمع تغنى عن الجمع، وفي التوحيد أمن اللبس، كما في قول الشاعر:
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا فإنّ زمانكم زمن خميص
أي: في أنصاف بطونكم، إذا البطن لا يشترك فيه.
ورابعها: قول سيبويه: أنّه توسّط بين جمعين، فدلّ على أنّه جمع معنى وإن توّحد لفظا، كما في قوله: ﴿يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ﴾، دلّ على الأنوار ذكر الظلمات.
(١) روح البيان.
145
وتقديم ختم قلوبهم؛ للإيذان بأنّها الأصل في عدم الإيمان، وتقديم حال السمع على حال أبصارهم؛ للاشتراك بينه وبين قلوبهم في تلك الحال. قالوا: السمع أفضل من البصر؛ لأنّه تعالى حيث ذكرهما، قدّم السمع على البصر، ولأنّ السمع شرط النبوة، ولذلك ما بعث الله تعالى رسولا أصمّ، ولأنّ السمع وسيلة إلى استكمال العقل بالمعارف إلى تتلقّف من أصحابها.
وقوله: ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ معطوف على قوله: ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾، فالوقف عليه تامّ، وما بعده جملة اسمية. وقوله: ﴿وَعَلى أَبْصارِهِمْ﴾ خبر مقدم، جمع بصر، وهو إدراك العين، وقد يطلق مجازا على القوة الباصرة وعلى العضوين، وهو المراد ههنا؛ لأنّه أشدّ مناسبة للتغطية. ﴿غِشاوَةٌ﴾ مبتدأ مؤخر، أي: غطاء عظيم، وساتر جسيم، فلا يبصرون الحقّ، وفي الحقيقة لا تغشية، وإنّما المراد بها: إحداث حالة
تجعل أبصارهم بسبب كفرهم لا تجتلي الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق، كما تجتليها أعين المستبصرين، وتصير كأنّها غطّي عليها، وحيل بينها وبين الإبصار. ومعنى التنكير: أنّ على أبصارهم ضربا من الغشاوة خارجا مما يتعارفه الناس، وهي غشاوة التعامي عن الآيات.
ولما اشترك السمع والقلب في الإدراك من جميع الجوانب، جعل ما يمنعهما من خاصّ فعلهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات، وإدراك الأبصار لما كان مما اختصّ بجهة المقابلة، جعل المانع لها من فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة.
وإنّما خصّ سبحانه وتعالى هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر؛ لأنّها طرق للعلم، فالقلب محلّ العلم، وطريقه: إما السماع، وإما الرؤية. اه. كرخي. وقال في «التيسير»: إنّما ذكر في الآية القلوب، والسمع، والأبصار؛ لأنّ الخطاب كان باستعمال هذه الثلاثة في الحقّ، كما قال تعالى: ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ﴿أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿أَفَلا تَسْمَعُونَ﴾ اهـ.
﴿وَلَهُمْ﴾ أي: ولهؤلاء الكفار المذكورين في الآخرة ﴿عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ أي: عذاب شديد دائم لا ينقطع بسبب كفرهم وتكذيبهم بآيات الله تعالى. والعذاب
146
كالنكال وزنا ومعنى، وهو إيصال الآلام إلى الحيوان على وجه الهوان، فإيلام الأطفال والبهائم ليس بعذاب. يقال: أعذب عن الشيء، إذا أمسك عنه، وسمّي العذاب عذابا، لأنّه يمنع عن الجناية إذا تأمّل العاقل فيها، ومنه الماء العذب، لما أنّه يقمع العطش، أي: يكسره ويردعه بخلاف الملح فإنّه يزيده. وقيل: إنمّا سمّي به؛ لأنّه جزاء ما استعذبه المرء بطبعه؛ أي: استطابه، ولذلك قال تعالى:
﴿فَذُوقُوا عَذابِي﴾، وإنما يذاق الطيب على معنى: أنّه جزاء ما استطابه واستحلاه بهواه في الدنيا. والعظيم (١): نقيض الحقير، والكبير: نقيض الصغير، فكان العظيم فوق الكبير، كما أنّ الحقير دون الصغير. قال في «التيسير»: ﴿عَظِيمٌ﴾ أي: كبير، أو كثير، أو دائم، وهو التعذيب بالنار أبدا، ثمّ عظمه بأهواله، وبشدة أحواله، وكثرة سلاسله وأغلاله. فتكون هذه الآية وعيدا وبيانا لما يستحقّونه في الآخرة. وقيل: هو القتل والأسر في الدنيا، والتحريق بالنار في العقبى.
ومعنى التوصيف بالعظيم: أنّه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه، ومعنى التنكير: أنّ لهم من الآلام نوعا عظيما لا يعلم كنهه إلّا الله سبحانه وتعالى، فعلى العاقل أنّ يجتنب عمّا يؤدّي إلى العذاب الأليم، والعقاب العظيم، وهو الإصرار على الذنوب، والإكباب على اقتراف الخطيئات والعيوب. وأمّهات الخطايا ثلاث: الحرص، والحسد، والكبر. فحصل من هؤلاء سّت خصال، فصارت جملتها تسعا: الشبع، والنوم، والراحة، وحّب المال، وحبّ الجاه، وحبّ الرياسة. فحّب المال والرياسة من أعظم ما يجرّ صاحبه إلى الكفر والهلاك.
وظاهر قوله تعالى (٢): ﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾ أنّه إخبار من الله تعالى بختمه، وحمله بعضهم على أنّه دعاء عليهم، وكنى بالختم على القلوب عن كونها لا تقبل شيئا من الحقّ ولا تعيه؛ لإعراضها عنه، فاستعار الشيء المحسوس للشيء المعقول،
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
147
أو مثّل القلب بالوعاء الذي ختم عليه؛ صونا لما فيه، ومنعا لغيره من الدخول إليه. والأول مجاز بالاستعارة، والثاني مجاز بالتمثيل. وتكرير حرف الجرّ في قوله: ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ يدلّ على أنّ الختم ختمان، أو على التوكيد إن كان الختم واحدا، فيكون أدلّ على شدّة الختم.
وقرأ ابن أبي عبلة (١): ﴿وعلى أسماعهم﴾، فطابق في الجمع بين القلوب، والأسماع، والأبصار. وقرأ الجمهور ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ على التوحيد، إمّا لكونه مصدرا في الأصل، فلمح فيه الأصل، وإمّا اكتفاء بالمفرد عن الجمع؛ لأنّ ما قبله وما بعده يدلّ على أنّه أريد به الجمع. وقرأ الكوفيون، وابن ذكوان وروح، عن يعقوب وخلف العاشر قوله: أَأَنْذَرْتَهُمْ بتحقيق الهمزتين، وهو الأصل. وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلبا للتخفيف؛ فقرأ قالون عن نافع وأبو عمرو وأبو جعفر بتسهيل الهمزة الثانية بينها وبين الألف مع إدخال ألف بينهما، وقرأ ابن كثير ورويس عن يعقوب بتسهيل الهمزة الثانية من غير إدخال ألف بينهما، ولهشام وجهان: الأول: تحقيق الهمزتين مع إدخال ألف بينهما وهي قراءة ابن عباس، وابن أبي إسحاق، والثاني: التسهيل مع إدخال الألف. ولورش عن نافع أيضا وجهان: الأول: كابن كثير ورويس، والثاني: إبدال الثانية ألفا مع المد المشبع فيلتقي ساكنان على غير حدهما وقد أنكر هذه القراءة الزمخشري، وزعم أنّ ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين، وقد مرّ لنا ذكر الوجهين مع الرد عليهما، فراجعه. وما قاله الزمخشري هو مذهب البصريين. وقد أجاز الكوفيون الجمع بين الساكنين على غير الحد الذي أجازه البصريون. وقراءة ورش صحيحة النقل، لا تدفع باختيار المذاهب، ولكن عادة هذا الرجل إساءة الأدب على أهل الأداء ونقلة القرآن. وقرأ الزهري، وابن محيصن ﴿أنذرتهم﴾ بهمزة واحدة حذفا الهمزة الأولى؛ لدلالة المعنى عليها، ولأجل ثبوت ما عادلها، وهو ﴿أَمْ﴾ وقرأ أبيّ أيضا (٢): بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
148
الساكنة قبلها، والمفعول الثاني لأنذر محذوف؛ لدلالة المعنى عليه، والتقدير: أأنذرتهم العذاب على كفرهم أم لم تنذرهموه. وقد قرىء ﴿أَبْصارِهِمْ﴾ بالإمالة، وهي جائزة، لأنّه قد غلبت الراء المكسورة حرف الاستعلاء، إذ لولاها لما جازت الإمالة، وهذا بتمامه مذكور في كتب النحو.
وقرأ الجمهور ﴿غشاوة﴾ بكسر الغين ورفع التاء، وكانت هذه الجملة ابتدائية؛ ليشمل الكلام الإسنادين: إسناد الجملة الفعلية، وإسناد الجملة الابتدائية. فيكون ذلك آكد؛ لأنّ الفعلية تدلّ على التجدّد والحدوث، والاسمية تدلّ على الثبوت والدوام، وكان تقديم الفعلية أولى، لدلالتها على أنّ ذلك قد وقع وفرغ منه. قال الفرّاء (١): أما قريش وعامّة العرب، فيكسرون الغين من ﴿غشاوة﴾، وعكل يضمّون الغين، وبعض العرب يفتحها، وأظنّها لربيعة. وروى الفضل عن عاصم ﴿غشاوة﴾ بالنصب على تقدير: جعل على أبصارهم غشاوة، أو على (٢) عطف ﴿أَبْصارِهِمْ﴾ على ما قبله، ونصب ﴿غِشاوَةٌ﴾ على حذف حرف الجر؛ أي: بغشاوة، وهو ضعيف. قال أبو علي: وقراءة الرفع أولى؛ لأنّ النصب على تقدير: وجعل على أبصارهم غشاوة، يكون الكلام عليه من باب: علفتها تبنا وماء باردا. ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار. وقرأ الحسن باختلاف عنه، وزيد بن عليّ ﴿غشاوة﴾ بضمّ الغين ورفع التاء، وأصحاب عبد الله بالفتح والنصب وسكون الشين، وعبيد بن عمير كذلك، إلّا أنّه رفع التاء. وقرأ ﴿بعضهم﴾ غشاوة بالكسر والرفع. وقرأ بعضهم ﴿غشاوة﴾ بالفتح والرفع والنصب، وهي قراءة أبي حيوة، والأعمش. قال الثوري: وكان أصحاب عبد الله يقرؤونها ﴿غشية﴾ بفتح الغين والياء والرفع، وقال يعقوب ﴿غشاوة﴾ بالضمّ لغة، ولم يؤثرها عن أحد من القراء. وقرأ بعضهم ﴿عشاوة﴾ بالعين المهملة المكسورة والرفع، من العشي، وهو شبه العمى في العين. وقال بعض المفسرين: وأصوب هذه القراءات المقروء بها: ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة.
(١) زاد المير.
(٢) البحر المحيط.
149
وحاصل معنى الآية: أنّ الله سبحانه وتعالى (١) ضرب مثلا لحال قلوب أولئك القوم، وقد تمكّن الكفر فيها حتى امتنع أن يصل إليها شيء من الأمور الدينية النافعة لها في معاشها ومعادها، وحيل بينها وبينه، بحال بيوت معدّة؛ لحلول ما يأتي إليها مما فيه مصالح مهمّة للناس، لكنّه منع ذلك بالختم عليها، وحيل بينها وبين ما أعدت لأجله. فقد حدث في كلّ منهما امتناع دخول شيء بسبب مانع قويّ، وكذلك حدث مثل هذا في الأسماع، فلا تسمع آيات الله المنزلة سماع تأمّل وتدبّر، وجعل على الأبصار غشاوة، فلا تدرك آيات الله المبصرة في الآفاق والأنفس الدالّة على الإيمان، ومن ثمّ لا يرجى تغيير حالهم، ولا أن يدخل في قلوبهم الإيمان.
الإعراب
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦)﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب وتوكيد. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول للجمع المذكر، في محل النصب اسمها، مبنيّ على الفتح. ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، والألف تكتب؛ للفرق بين واو الضمير وبين واو جزء الكلمة في غير الرسم العثماني، وفرقا بين المتطرّفة والمتوّسطة في الرسم العثماني. والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿سَواءٌ﴾ خبر مقدم، أو خبر إنّ. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ جار ومجرور، متعلّق بسواء؛ لأنّه اسم مصدر لاستوى الخماسّي. ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ الهمزة في أصلها للاستفهام، ولكن سحبت معناها الأصلي، فجعلت للتسوية؛ لوقوعها بعد سواء. ﴿أَنْذَرْتَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف؛ لدلالة المقام عليه؛ أي: أنذرتهم العذاب، والجملة من الفعل والفاعل في تأويل مصدر من غير سابك؛ لإصلاح المعنى، مرفوع على كونه مبتدأ مؤخّرا لسواء، والتقدير: إنّ الذين كفروا إنذارك إياهم وعدم إنذارك إياهم سيّان عندهم. والجملة من المبتدأ المؤخّر وخبره المقدم في محلّ الرفع خبر إنّ، وجملة إنّ مستأنفة، أو في تأويل مصدر مرفوع
(١) المراغي.
150
على كونه فاعلا لسواء، الذي أجري مجرى المصادر في عمله عمل الفعل، والتقدير: إنّ الذين كفروا مستو عندهم إنذارك إياهم وعدمه. ويجوز أن يكون سَواءٌ مبتدأ، سوّغ الابتداء بالنكرة عمله في الجار والمجرور، والمصدر المنسبك مما بعدها خبرها، وجملة ﴿سَواءٌ﴾ معترضة، لا محلّ لها من الإعراب، لاعتراضها بين اسم إنّ وخبرها، وهو جملة قوله: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ الآتية، وفي «الصاوي»:
وعلى ما ذكرنا هنا فقولهم: الفعل لا بدّ له من سابك قاعدة أغلبية.
وقيل: السابك هنا الهمزة؛ لأنّ بعض النحاة جعل السابك للفعل ستة، وعدّ منها هذه الهمزة، كما ذكره الفاسيّ في «حاشيته على الألفيّة». ﴿أَمْ﴾ عاطفة متصلة؛ لوقوعها بعد همزة التسوية. ﴿لَمْ﴾ حرف نفي وجزم. ﴿تُنْذِرْهُمْ﴾ فعل مضارع ومفعول أول وفاعل مستتر مجزوم بلم، والثاني محذوف، تقديره: العذاب.
والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾، على كونها في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، أو على الفاعلية، أو على الخبرية لسواء، والتقدير: إنّ الذين كفروا، إنذراك إياهم العذاب، وعدم إنذارك إياهم سواء في عدم الإفادة لهم. ﴿لا﴾ نافية. ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنّ، أو خبر بعد خبر لها، أو في محل النصب حال من ضمير عليهم، أو مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما قبلها، لا محلّ لها من الإعراب، والتقدير: على كونها خبرا؛ لأنّ إنّ الذين كفروا عادمون الإيمان بك، لما سبق في علمي من كفرهم فلا تأس عليهم، وإنذراك إياهم وعدمه سواء عليهم، لا ينتفعون به. وجملة إنّ مستأنفة استئنافا نحويا، لا محل لها من الإعراب.
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)﴾.
﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة؛ لتعليل عدم إيمانهم.
﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ جار ومجرور، متعلّق بختم. ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور قبله. وَعَلى أَبْصارِهِمْ الواو عاطفة. ﴿عَلى أَبْصارِهِمْ﴾ جار ومجرور متعلّق بمحذوف خبر مقدم. ﴿غِشاوَةٌ﴾ مبتدأ مؤخّر والجملة معطوفة على جملة ﴿خَتَمَ﴾ عطف اسمية على فعلية، كما مرّ. ﴿وَلَهُمْ﴾
151
الواو عاطفة ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلّق بمحذوف خبر مقدم. ﴿عَذابٌ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿عَظِيمٌ﴾ صفة لعذاب، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ختم أيضا على كونها مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما قبلها.

فصل في هاء الضمير


نحو: (عليهم، وعليه، وفيه، وفيهم). وإنّما أفردناه بالفصل؛ لكثرة تكرّره في القرآن، والأصل في هذه الهاء الضمّ؛ لأنّها تضمّ بعد الفتحة والضمة والسكون، نحو: (أنّه، وله، وجاء غلامه، ويسمعه، ومنه). وإنما يجوز كسرها بعد الياء، نحو: (عليهم وأيديهم)، وبعد الكسر، نحو: (به وبداره). وضمّها في الموضعين جائز، لأنّه في الأصل كما قرأ به حفص بعد الياء في قوله تعالى: ﴿وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ﴾.
وإنّما كسرت في الموضعين؛ لتجانس ما قبلها من الياء والكسرة، وبكلّ من الضمّ والكسر قد قرىء. انتهى من «العكبري».
فوائد:
١ - همزة التسوية هي الواقعة بين سواء وبعد ما أبالي، وما أدري، وليت شعري. وضابطها: أنّها الهمزة التي تدخل على جملة يصحّ حلول المصدر محلّها، كما رأيت.
٢ - أم: لها حالان:
أ - متصلة وهي منحصرة في نوعين؛ وذلك لأنّها: إما أن تتقدم عليها همزة التسوية، كما في الآية، أو همزة يطلب بها وبأم التعيين، نحو: أزيد في الدار أم عمرو، وسمّيت متصلة؛ لأنّ ما قبلها وما بعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر، وتسمّى أيضا
معادلة؛ لمعادلتها الهمزة في النوع الأول، إذ كلتاهما تفيد التسوية.
ب - منقطعة: وهي المسبوقة بالخبر المحض، نحو: قوله تعالى: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ﴾. وسمّيت منقطعة؛
152
لانقطاع ما بعدها عمّا قبلها، فكلّ منهما كلام مستقل لا ارتباط له بالآخر.
التصريف ومفردات اللغة
﴿سَواءٌ﴾ فيه إعلال بالإبدال، فأصله: سواي، أبدلت الياء همزة؛ لتطرفها إثر ألف زائدة، وهو اسم مصدر بمعنى الاستواء، أجري مجرى المصادر، فلذلك لا يثنّى ولا يجمع. قالوا: هما وهم سواء، فإذا أرادوا لفظ المثنى قالوا: سيّان، وإن شئت قلت سواءان، وفي الجمع: هم أسواء، وأيضا على غير القياس: هم سواسي وسواسية؛ أي: هما متساويان وهم متساوون. والسّواء: العدل الوسط بين حديثين يقال: ضرب سواءه، أي: وسطه، وجئته في سواء النهار؛ أي: في منتصفه. وإذا كانت سواء بعد همزة التسوية، فلا بدّ من (أم) اسمين كانت الكلمتان أم فعلين. وإذا كان بعدها فعلان بغير همزة التسوية، عطف الثاني بأو، نحو: سواء عليّ قمت أو قعدت، وإذا كان بعدها مصدران عطف الثاني بالواو أو بأو، نحو سواء عليّ قيامك وقعودك، وقيامك أو قعودك.
وقوله: ﴿أأنذرتهم﴾ قراءة ورش بإبدال همزة التعدية حرف مدّ مجانسا لحركة همزة الاستفهام المفتوحة في رواية عنه، وعليه يكون في الكلمة إبدال حرف بحرف، وذلك نوع من التصريف، كما هو معروف، وقس على هذا اللفظ كلّ ما شابهه مما اجتمعت فيه همزتان: إحداهما للاستفهام والثانية للتعدية.
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ والختم الكتم، سمّي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه؛ لأنّه ختم له، وبلوغ آخره، ومنه ختم القرآن. ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ جمع قلب، وهو الفؤاد، سمّي قلبا؛ لتقلّبه في الأمور، ولتصرّفه في الأعضاء، كما قال بعضهم:
وما سمّي الإنسان إلّا لنسيه وما القلب إلّا أنّه يتقلّب
وفي «تفسير الشيخ»: القلب: قطعة لحم مشكّل بالشكل الصنوبري معلّق بالوتين مقلوبا، والوتين: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه، ويقال: الأبهر.
وفي «تفسير الكواشي» القلب: قطعة سوداء في الفؤاد، وزعم بعضهم: أنّه الشكل
153
الصنوبري المعلّق بالوتين مقلوبا. وفي «تعريفات السيّد»: القلب لطيفة ربّانية، لها بالقلب الجسماني الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر تعلّق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، والمراد بالقلب في الآية: محلّ القوة العاقلة من الفؤاد، كما مرّ. ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ والسمع: هو إدراك القوة السامعة، وقد يطلق عليها وعلى العضو الحامل لها وهو المراد ههنا، كما مرّ. ﴿وَعَلى أَبْصارِهِمْ﴾ جمع بصر، وهو إدراك العين وقد يطلق مجازا على القوة الباصرة. ﴿غِشاوَةٌ﴾ وهو فعالة من غشاه، أو غشيه إذا غطّاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء، كالعصابة والعمامة. ويجوز في الغين الكسر، والضمّ والفتح. ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ﴾ والعذاب: العقوبة. يقال: أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، وسمّي العذاب عذابا، لأنّه يمنع من الجناية إذا تأمّل فيها العاقل. ﴿عَظِيمٌ﴾ أي: قوي شديد، ومنه: العظم. والعذاب: إيصال الألم إلى الحيّ هوانا وذلّا، كما مرّ. والعظيم:
ضدّ الحقير، وفعيل له معان كثيرة، يكون اسما وصفة، والاسم: إما مفرد أو جمع، والمفرد: إما اسم معنى أو اسم عين، نحو: قميص، وظريف، وصهيل، وكليب جمع كلّب، ويكون اسم فاعل من فعل المضموم، نحو: عظيم من عظم، ومبالغة في فاعل، نحو:
عليم في عالم، وبمعنى مفعول، كجريح بمعنى مجروح، ومفعل، كسميع بمعنى مسمع، ومفاعل، كجليس بمعنى مجالس، ومفتعل، كبديع بمعنى مبتدع، ومنفعل، كسعير بمعنى منسعر، وفعل، كعجيب بمعنى عجب، وفعال، كصحيح بمعنى صحاح، وبمعنى الفاعل والمفعول، كصريخ بمعنى صارخ أو مصروخ، وبمعنى الواحد والجمع، نحو: خليط، وجمع فاعل، كغريب جمع غارب. اه. «سمين».
البلاغة
وقد تضمنت هاتان الآيتان الكريمتان ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الخطاب العام: اللفظ الخاص المعنى في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إذا أريد بهم أشخاص معيّنون.
154
ومنها: الاستفهام الذي يراد به: تقرير المعنى في النفس؛ أي: تقرير أنّ الإنذار وعدمه سواء عندهم في قوله: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ الخ.
ومنها: مجاز بالاستعارة في قوله: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾، لأنّ حقيقة الختم: وضع محسوس على محسوس يحدث بينهما رقم، يكون علامة للخاتم. والختم هنا معنويّ، فإنّ القلب لما لم يقبل الحق مع ظهوره، استعير له اسم المختوم عليه على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. وقيل: في إسناد الختم إلى القلوب استعارة تمثيلية، فقد شبّهت قلوبهم في نبوّها عن الحقّ، وعدم الإصغاء إليه بحال قلوب ختم الله عليها، وهي قلوب البهائم، وهو تشبيه معقول بمحسوس، أو هو مجاز عقليّ، وهو باب واسع عند العرب. يقولون: سال بهم الوادي؛ إذا هلكوا، وطارت بفلان العنقاء؛ إذا طالت غيبته.
ومنها: توحيد السمع لوحدة المسموع، وهو الصوت دون القلوب والأبصار؛ لتنوع المدركات والمرئيّات.
ومنها: تنكير ﴿غِشاوَةٌ﴾ في قوله: ﴿وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ﴾ إشارة (١) إلى أنّ على أبصارهم ضربا من الغشاوة خارجا مما يتعارفه الناس، وهي غشاوة التعامي عن الآيات الكونية.
ومنها: تنكير ﴿عَذابٌ﴾ في قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ إشارة إلى أنّه نوع منه مجهول الكمّ والكيف.
ومنها: وصفه بعظيم؛ لدفع الإيهام بقلّته وندرته، وللإشارة إلى أنّ لهم من الآلام نوعا عظيما، لا يعلم كنهه إلّا الله عزّ وجلّ.
ومنها: الحذف، وهو في مواضع (٢).
منها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: إنّ القوم الذين كفروا بالله وبك، وبما
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
155
جئت به.
ومنها: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ أي: بالله، وبما أخبرتهم به عن الله.
ومنها: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ أي: فلا تعي. ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ أي: فلا تصغي.
ومنها: ﴿وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ﴾ على قراءة من نصب، أي: وجعل على أبصارهم غشاوة، فلا يبصرون سبيل الهدى.
ومنها: وَ ﴿لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ أي: لهم يوم القيامة عذاب عظيم دائم، ويجوز أن يكون التقدير: ولهم عذاب عظيم في الدنيا بالقتل والأسر، أو بالإذلال ووضع الجزية، وفي الآخرة بالخلود في نار جهنم.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
156
قال الله سبحانه جلّ وعلا:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا (١) ذكر أوّلا من أخلص دينه لله، ووافق سرّه علنه، وفعله قوله، ثمّ ثنّى بذكر من محّضوا الكفر ظاهرا وباطنا. ثلّث هنا بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة؛ لأنّهم ضموا إلى الكفر استهزاء، وخداعا، وتمويها، وتدليا، وفيهم نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾، وقوله: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ﴾.
وقد وصف الله سبحانه حال الذين كفروا في آيتين، وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية. نعى عليهم فيها خبثهم، ومكرهم، وفضحهم، واستجهلهم،
(١) المراغي.
157
واستهزأ بهم، وتهكّم بفعلهم، ودعاهم صمّا بكما عميا، وضرب لهم شنيع الأمثال.
فنعى عليهم خبثهم في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، ونعى عليهم مكرهم في قوله: ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾، وفضحهم في قوله: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ وفي قوله: ﴿وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، وفي قوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾، واستجهلهم في قوله: ﴿وَما يَشْعُرُونَ﴾ وفي قوله: ﴿وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ﴾ وفي قوله: ﴿وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ﴾، وتهكّم بفعلهم في قوله: ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى﴾، ودعاهم صمّا بكما عميا في قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ (١٨)، وضرب لهم شنيع الأمثال في قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا...﴾ إلخ، وفي قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾.
وعبارة أبي حيان هنا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (١) من الكتاب هدى لهم، وهم المتقون الذين جمعوا أوصاف الإيمان من خلوص الاعتقاد، وأوصاف الإسلام من الأفعال البدنية والمالية، وذكر ما آل أمرهم إليه في الدنيا من الهدى، وفي الآخرة من الفلاح. ثمّ أعقب ذلك بمقابلهم من الكفار الذين ختم عليهم بعدم الإيمان، وختم لهم بما يؤولون إليه من العذاب في النيران، وبقي قسم ثالث: أظهروا الإسلام مقالا، وأبطنوا الكفر اعتقادا، وهم المنافقون. أخذ يذكر شيئا من أحوالهم، فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾.
الخ.
قوله تعالى: ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر في الآيات السابقة مقالتهم الكاذبة، وخداعاتهم العاطلة، وأمراضهم المعضلة، عدّد (٢) في هذه الآيات الثلاث بعض شناعاتهم المترتّبة على كفرهم ونفاقهم. ففصّل بعض خبائثهم وجناياتهم، وذكر
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
158
بعض هفواتهم. ثمّ أظهر فسادها، وأبان بطلانها، فحكى ما أسداه المؤمنون إليهم من النصائح حين طلبوا منهم ترك الرذائل التي تؤدّي إلى الفتنة والفساد، والتمسك بأهداب الفضائل، واتباع ذوي الأحلام الراجحة والعقول الناضجة. ثمّ ما أجابوا به، مما دلّ على عظيم جهلهم، وتماديهم في سفههم وغفلتهم.
قوله تعالى: ﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها. أنّه سبحانه وتعالى لمّا ذكر فيما قبلها بعض خبائثهم وجناياتهم، وبعض هفواتهم، ذكر (١) هنا حال جماعة من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل، قد بلغ من دعارتهم، وتمردهم في النفاق وفساد الأخلاق أن كانوا يظهرون بوجهين، ويتكلّمون بلسانين، فإذا لقوا المؤمنين قالوا: آمنا بما أنتم به مؤمنون، وإذا خلوا إلى شياطينهم دعاة الفتنة والإفساد الذين يصدّون عن سبيل الحقّ. قالوا لهم: إنّما نقول ذلك لهم استهزاء بهم، وقد فضح الله بهتانهم، وأوعدهم شديد العقاب على استهزائهم، وزادهم حيرة في أمورهم. ثمّ ذكر أنّهم قد اختاروا الضلالة على الهدى، إذ هم أهملوا العقل في فهم الكتاب بعد أن تمكنت منهم التقاليد والعادات، وتحكمت فيهم البدع، فخسروا في تجارتهم، وما كانوا مهتدين فيها؛ لأنّهم باعوا ما وهبهم الله تعالى من النور والهدى، بضلالات البدع والأهواء.
قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أنّ الله سبحانه لما ذكر فيما قبلهما بعض أحوال المنافقين الذين يظهرون بوجهين، ويتكلّمون بلسانين، أراد أن يضرب لهم الأمثال؛ لأنّ نهج القرآن الكريم، كنهج لغات العرب في أساليبها، فقال: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا...﴾ إلخ. فضرب الأمثال التي تجلي المعاني أتمّ جلاء، وتحدث في النفوس من الأثر، ما لا يقدر قدره ولا يسبر غوره؛ لما فيها من إبراز المعقولات الخفية في معرض المحسوسات الجليّة، وإظهار ما ينكر في لباس ما يعرف ويشهر. وعلى هذا السنن ضرب الله سبحانه مثل المنافقين، فمثّل حالهم حينما
(١) المراغي.
159
أسلموا أوّلا، ودخل نور الإيمان في قلوبهم، ثمّ داخلهم الشكّ فيه، فكفروا به، إذ لم يدركوا فضائله، ولم يفقهوا محاسنه، وصاروا لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية، ولا يدركون وسيلة من وسائل النجاة، وقد أضاء ذلك النور قلوب من حولهم من المؤمنين المخلصين. بحال جماعة أوقدوا نارا؛ لينتفعوا بها في جلب خير، أو دفع ضرّ، فلمّا أضاءت ما حولهم من الأشياء والأماكن جاءها عارض خفيّ، أو أمر سماوي، كمطر شديد، أو ريح عاصف، جرفها وبدّدها فأصبحوا في ظلام دامس، لا يتسنّى لهم الإبصار بحال.
ثمّ جعلهم مرّة أخرى كالصمّ البكم العمي الذين فقدوا هذه المشاعر والحواسّ، إذ هم حين لم ينتفعوا بآثارها فكأنّهم فقدوها، فما فائدة السمع إلّا الإصاخة إلى نصح الناصح وهدى الواعظ، وما منفعة اللسان إلّا الاسترشاد بالقول، وطلب الدليل والبرهان؛ لتتجلّى المعقولات وتتضح المشكلات، وما مزية البصر إلّا النظر والاعتبار؛ لزيادة الهدى والاستبصار، فمن لم يستعملها في شيء من ذلك فكأنّه فقدها، وأنّى لمثله أن يخرج من ضلالة أو يرجع إلى هدى.
ثمّ أراد سبحانه أن ينتقل إلى أسلوب آخر من الأمثال، فقال: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
فضرب (١) سبحانه في هذه الآيات مثلا آخر، يشرح به حال المنافقين، ويبيّن فظاعة أعمالهم وسوء أفعالهم؛ زيادة في التنكيل بهم وهتكا لأستارهم، إذ كانوا فتنة للبشر، ومرضا في الأمم، فجعل حالهم، وقد أتتهم تلك الإرشادات الإلهية النازلة من السماء، فأصابهم القلق والاضطراب، واعترضتهم ظلمات الشبه والتقاليد، والخوف من ذمّ الجماهير عند العمل بما يخالف آراءهم، ثمّ استبان لهم أثناء ذلك قبس من النور يلمع في أنفسهم حين يدعوهم الداعي، وتلوح لهم الآيات البيّنة والحجج القيّمة، فيعزمون على اتباع الحقّ، وتسير أفكارهم في نوره بعض الخطى، ولكن لا يلبثون أن تعود إليهم عتمة التقليد وظلمة الشبهات، فتقيد
(١) المراغي.
160
الفكر وإن لم توقف سيره، بل تعود به إلى الحيرة، كحال قوم في إحدى الفلوات، نزل بهم بعد ظلام الليل صيّب من السماء فيه رعود قاصفة، وبروق لامعة، وصواعق متساقطة، فتولّاهم الدهش والرعب، فهووا بأصابعهم إلى آذانهم كلّما قصف هزيم الرعد؛ ليسدّوا منافذ السمع لما يحذرونه من الموت الزؤام، ويخافونه من نزول الحمام، ولكن هل ينجي حذر من قدر؟ تعددت الأسباب والموت واحد! بلى إنّ الله قدير أن يذهب الأسماع والأبصار التي كانت وسيلة الدهش والخوف، ولكن لحكمة غاب عنّا سرّها، ومصلحة لا تعرف كنهها، لم يشأ ذلك وهو الحكيم الخبير.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ الآيات، نزلت (١) هذه الآيات في المنافقين: عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ومعتّب بن قثير، وجدّ بن قيس، وأصحابهم. وذلك أنّهم أظهروا كلمة الإسلام؛ ليسلموا بها من النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وأسرّوا الكفر
واعتقدوه، وأكثرهم من اليهود.
قوله تعالى: ﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا...﴾ الآية، سبب نزوله: ما أخرجه الواحدي، والثعلبيّ من طريق محمد بن مروان السدّي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (نزلت (٢) هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وذلك أنّهم خرجوا ذات يوم، فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عبد الله بن أبيّ: أنظروا كيف أردّ عنكم هؤلاء السفهاء، فذهب فأخذ بيد أبي بكر، فقال: مرحبا بالصّدّيق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثمّ أخذ بيد عمر، فقال: مرحبا بسيّد بني عديّ بن كعب، الفاروق القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثمّ أخذ بيد عليّ، فقال: مرحبا بابن عمّ رسول الله وختنه سيد بني
(١) الخازن.
(٢) لباب النقول.
161
هاشم ما خلا رسول الله. ثمّ افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فأثنوا عليه خيرا. فرجع المسلمون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبروه بذلك، فنزلت هذه الآية). ولكن هذا الإسناد واه جدا، فإنّ السدي الصغير كذّاب، وكذا الكلبي، وأبو صالح ضعيف.
قوله تعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ...﴾ الآية، سبب نزوله: ما أخرجه (١) ابن جرير من طريق السدي الكبير، عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباس وعن مرّة، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة قالوا: (كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد، وصواعق، وبرق، كلّما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما؛ من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما، فتقتلهما.
وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا، فأتيا مكانهما يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا، فنضع أيدينا في يده، فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده، وحسن إسلامهما). فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعلوا أصابعهم في آذانهم؛ فرقا من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء فيقتلوا، كما كان كذلك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما.
﴿كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾؛ أي: فإذا كثرت أموالهم وولدهم، وأصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيها، وقالوا حينئذ: إنّ دين محمد صدق، واستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهما البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا، وكانوا إذا هلكت أموالهم وأولادهم، وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل محمد، وارتدّوا كفارا، كما قال ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
وفي «الصاوي»: والمراد من المنافقين هنا: بعض سكان البوادي؛ وبعض
(١) لباب النقول.
162
أهل المدينة في زمنه صلّى الله عليه وسلّم. وخير ما فسّرته بالوارد، قال تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ...﴾ الآية. وأخّرهم عن المؤمنين والكافرين ظاهرا وباطنا؛ إشارة إلى أنّهم أسوأ حالا من الكفار.
التفسير وأوجه القراءة
٨ - ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾؛ أي: وبعض (١) الناس يقولون بألسنتهم: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾؛ أي: صدّقنا بوحدانية الله تعالى. ﴿وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي: صدّقنا بمجيء اليوم الآخر بما فيه من البعث، والحشر والجزاء، وبجميع ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم من الآيات البينات. وفي تكرير الباء؛ ادّعاء الإيمان بكلّ واحد على الأصالة والاستحكام، ذكره البيضاوي. وفي «العمدة»: وأعاد الجار؛ لإفادة تأكيد دعواهم الإيمان بكلّ ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم. فردّ الله سبحانه عليهم بأبلغ ردّ بقوله: ﴿وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ حيث أتى بالجملة الاسمية، وزاد الجار في الخبر. أي: يقولون ذلك والحال أنّهم غير مصدّقين بما ذكر؛ لأنّهم يقولون ذلك قولا لسانيّا دون اعتقاد، وكلاما خداعيا دون تصديق. والمراد باليوم الآخر: يوم القيامة، سمّي بذلك؛ لأنّه يأتي بعد الدنيا، وهو آخر الأيام المحدودة المعدودة، وما بعده فلا حدّ له ولا آخر.
قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ لمّا افتتح الله سبحانه وتعالى (٢) كتابه بشرح حاله، وساق لبيانه ذكر الذين أخلصوا دينهم لله، وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، وثنّى بأضدادهم الذين محّضوا الكفر ظاهرا، وباطنا. ثلّث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلا للتقسيم، وهم أي المنافقون أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله؛ لأنّهم موّهوا الكفر، وخلطوا به خداعا واستهزاء، ولذلك طوّل في بيان خبثهم.
(١) العمدة.
(٢) روح البيان.
163
قال الفاشانيّ: الاقتصار في وصف الكفار المصرّين المطبوع على قلوبهم على آيتين، والإطناب في وصف المنافقين في ثلاث عشرة آية للإضراب عن أولئك صفحا، إذ لا ينجع فيهم الكلام، ولا يجدي عليهم الخطاب. وأمّا المنافقون فقد ينجع فيهم التوبيخ والتعيير، وعسى أن يرتدعوا بالتشنيع عليهم، وتفظيع شأنهم وسيرتهم، وتهجير عادتهم، وخبث نيتهم وسريرتهم، وينتهوا بقبح صورة حالهم، وتفضيحهم بالتمثيل بهم وبطريقتهم فتلين قلوبهم، وتنقاد نفوسهم، وتزّكّى بواطنهم، وتضمحل رذائلهم، فيرجعون عما هم عليه، ويصيرون من المستثنى في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (١٤٦)﴾.
والنّاس (١): اسم جمع للناسي، سمّي به؛ لأنّه عهد إليه فنسي. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾، ولذلك جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ أي: نسّاء للنعم، ذكّار للمحن. وقيل: سمي به؛ لظهوره من آنس؛ أي: أبصر؛ لأنّهم ظاهرون مبصرون، ولذلك سمّوا بشرا، كما سمّي الجنّ جنا؛ لاجتنانهم؛ أي: استتارهم عن أعين الناس. وقيل: هو من الأنس الذي هو ضدّ الوحشة؛ لأنّهم يستأنسون بأمثالهم، أو يستأنس أرواحهم بأبدانهم، وأبدانهم بأرواحهم. واللام فيه للجنس. ﴿ومِنَ﴾ في قوله: ﴿مَنْ يَقُولُ﴾ نكرة موصوفة، إذ لا عهد، فكأنّه قال: ومن الناس ناس يقولون؛ أي: يقرّون باللسان. والقول: هو التلفظ بما يفيد، ويأتي بمعنى المقول. وللمعنى المحصور في النفس المعبّر عنه باللفظ وللرأي، وللمذهب مجازا. ووحّد الضمير في ﴿يَقُولُ﴾ باعتبار لفظ ﴿مِنَ﴾، وجمعه في قوله: ﴿آمَنَّا﴾، وقوله: ﴿وَما هُمْ﴾ باعتبار معناها؛ لأنّ كلمة ﴿مِنَ﴾ تصلح للواحد والجمع، أو اللام فيه للعهد، والمعهود: هم الذين كفروا. ﴿ومِنَ﴾ موصولة مراد بها: عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه، ونظراؤه من المنافقين، حيث أظهروا كلمة الإسلام؛ ليسلموا من
(١) روح البيان.
164
النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، واعتقدوا خلافها، وأكثرهم من اليهود، كما مرّ. فإنّهم من حيث إنهم صمّموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم.
واختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس، فإنّ الأجناس إنما تتنوّع بزيادات يختلف فيها أبعاضها. فعلى هذا تكون الآية تقسيما للقسم الثاني.
﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ أي: صدّقنا بالله. ﴿وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وهو من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى؛ أي: الوقت الدائم الذي هو آخر الأوقات المنقضية، والمراد به: البعث، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار؛ لأنّه آخر الأيام المحدودة، إذ لا حدّ وراءه، وسمّي بالآخر؛ لتأخّره عن الدنيا.
وتخصيصهم للإيمان بهما بالذكر له؛ ادّعاء أنّهم قد حازوا الإيمان من قطريه، وأحاطوا به من جانبيه، وإيذان بأنّهم منافقون فيما يظنّون فيه، فكيف بما يقصدون به النفاق؛ لأنّ القوم كانوا يهودا، وكانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا كلا إيمان؛ لاعتقادهم التشبيه، واتخاذ الولد، وأنّ الجنة لا يدخلها غيرهم، وأنّ النار لن تمسهم إلّا أياما معدودة، وغيرها، ويرون المؤمنين أنّهم آمنوا مثل إيمانهم. وحكاية الله سبحانه عبارتهم؛ لبيان كمال خبثهم، فإنّ ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق، وعقيدتهم عقيدتهم الأولى، لم يكن ذلك إيمانا، فكيف وهم يقولونه تمويها على المسلمين واستهزاء بهم، فكان خبثا إلى خبث، وكفرا إلى كفر.
﴿وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي: وما هم (١) بداخلين في عداد المؤمنين الصادقين، الذين يشعرون بعظيم سلطان الله، ويعلمون أنّه مطلع على سرّهم ونجواهم، إذ كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات ظنا منهم أنّ ذلك يرضي ربّهم، ثمّ هم بعد ذلك منغمسون في الشرور والمآثم من كذب، وغشّ، وخيانة، وطمع إلى نحو ذلك مما حكاه الكتاب الكريم عنهم، ونقله الرواة أجمعون.
(١) المراغي.
165
و ﴿ما﴾ نافية (١) بمعنى ليس، ولهذا عقّب بالباء؛ أي: ليسوا بمصدّقين؛ لأنّهم يضمرون خلاف ما يظهرون بل هم منافقون. وفي الحكم عليهم بأنّهم ليسوا بمؤمنين، نفي ما ادّعوه على سبيل البت والقطع؛ لأنّه نفي أصل الإيمان منهم بإدخال الباء في خبر ﴿ما﴾، ولذا لم يقل: وما هم من المؤمنين، فإنّ الأول أبلغ من الثاني.
دلّت الآية: على أنّ الدعوى مردودة، إذا لم يقم عليها دلائل الصحة. قال بعضهم: من تحلّى بغير ما فيه فضح الامتحان ما يدّعيه، فإنّ من مدح نفسه ذمّ، ومن ذمّ نفسه مدح، قال فرعون عليه لعنة الله: ﴿وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ فقيل فيه: ﴿وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾، وقال يونس - عليه السلام -: ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فقيل له: ﴿فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾.
٩ - وقوله: ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ﴾ جملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: ما لهم يقولون ذلك وهم غير مؤمنين؟ فقيل: يخادعون الله الخ. أي: يخدعون الله سبحانه وتعالى، وإنما أخرج على زنة فاعل؛ للمبالغة، فليست المفاعلة على بابها، وخداعهم مع الله ليس على ظاهره؛ لأنّه لا تخفى عليه خافية؛ ولأنّهم لم يقصدوا خديعته بل المراد إما مخادعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم فيكون الكلام على حذف مضاف، كقوله: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾؛ أي: يخادعون رسول الله ويغرّونه بما أظهروا من الإسلام، أو على أنّ معاملة الرسول معاملة الله، من حيث إنه خليفته في أرضه، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده. ففيه رفع درجة النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث جعل خداعه خداعه.
والخدع على ما ذكرنا من جانب المنافقين لله وللمؤمنين، والتعبير بصيغة المخادعة؛ للدلالة على المبالغة في حصول الفعل، وهو الخدع، أو للدلالة على حصوله مرّة بعد أخرى، كما يقال: مارست الشيء وزاولته، إذ هم كانوا مداومين على الخدع، إذ أعمالهم الظاهرة لا تصدّقها بواطنهم، وهذا لا يكون إلّا من
(١) روح البيان.
166
مخادع، لا من تائب خاشع والخدع: أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه؛ لتحول بينه وبين ما يريد. وقيل: الخدع: أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه؛ ليوقعه فيه من حيث لا يحتسب، أو يوهمه المساعدة على ما يريد هو به؛ ليغترّ بذلك، فيتجوّز منه بسهولة من قولهم: ضبّ خادع وخدع، وهو الذي إذا أمرّ الحارش يده على باب جحره يوهمه الإقبال عليه، فيخرج من بابه الآخر.
وكلا المعنيين مناسب للمقام، فإنّهم كانوا يريدون بما صنعوا أن يطلعوا على أسرار المؤمنين، فيحملوها إلى أعدائهم، وأن يدفعوا عن أنفسهم ما يصيب بسائر الكفرة من القتل، والأسر، والنهب، وأن ينالوا به نظم مصالح الدنيا جميعا، كأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإعطاء. وإما لأنّ صورة صنعهم مع الله من إظهار الإيمان واستبطان الكفر، وصنع الله معهم من إجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده تعالى أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار استدراجا لهم، وامتثال الرسول والمؤمنين أمر الله تعالى في إخفاء حالهم، وإجراء حكم الإسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنع المخادعين، فتكون المخادعة بين الاثنين، فتكون المفاعلة على بابها.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ معطوف على الجلالة؛ أي: ويريدون بذلك القول: أن يخدعوا الذين آمنوا، ويغروهم بإظهار الإيمان، وإخفاء الكفر للاطلاع على أسرارهم، وإذاعتها إلى أعدائهم من المشركين واليهود، ودفع الأذى عن أنفسهم.
وجملة قوله: ﴿وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ حال من فاعل ﴿يَخْدَعُونَ﴾؛ أي: يخادعون الله والمؤمنين بذلك القول، والحال أنّهم ما يضرّون بخداعهم ومكرهم في الحقيقة إلّا أنفسهم؛ لأنّ وبال خداعهم وعقوبته راجع إليهم، قال تعالى: ﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾، فيفتضحون في الدنيا بإطلاع الله نبيه على ما أبطنوه، وأمره بإخراجهم من المسجد. ونزل فيهم: ﴿وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ الآيات، ويعاقبون في الآخرة بالعذاب الدائم المؤبّد في الدرك الأسفل من النار.
أي: فدائرة فعلهم مقصورة عليهم. ومن راعى صيغة المفاعلة قال: وما يعاملون تلك المعاملة الشبيهة بمعاملة المخادعين إلّا بأنفسهم؛ لأنّ ضررها لا يحيق إلّا
167
بهم، ووبال خداعهم راجع إليهم. والمراد بأنفسهم هنا: ذواتهم لا سائر المعاني التي تدخل في مسمى النفس، كالروح، والدم، والقلب.
وجملة قوله: ﴿وَما يَشْعُرُونَ﴾ حال من ضمير ﴿ما يَخْدَعُونَ﴾؛ أي: يقتصرون على خدع أنفسهم والحال أنّهم ما يحسّون وما يعلمون ذلك. أي: أنّ ضرر خدعهم ووباله عليهم؛ لتمادي غفلتهم وتكامل حماقتهم، ولو علموا ذلك ما فعلوا الخداع، بل أخلصوا في إيمانهم.
والخدع، وكذا الخديعة، والحيلة، والمكر: هو ما يتوصّل به إلى المقصود بطريق خفيّ، كما ذكره القسطلاني في كتاب الحيل من «صحيح البخاري».
والشعور: إدراك الشيء من وجه يدقّ ويخفى، مشتق من الشعر لدقّته. وقيل: (١) هو الإدراك بالحاسّة، مشتق من الشعار، وهو ثوب يلي الجسد، ومنه: مشاعر الإنسان؛ أي: حواسه الخمس التي يشعر بها. اه. «سمين». وسميت مشاعره حواس؛ لكون كلّ حاسة منها محلّا للشعور والعظة.
والمعنى: أنّ لحوق ذلك لهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حسّ له. ثمّ في هذه الآية (٢) نفي العلم عنهم، وفي قوله: ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ إثبات العلم لهم، فبينهما معارضة، فما وجه الجمع بينهما؟ قلت: الجمع بينهما بأن يقال: إنّهم علموا به حقيقة، ولكن لم يعملوا بما علموا، فكأنّهم لم يعلموا، وهو كقوله عز وجلّ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾، فكانوا ناطقين سامعين ناظرين حقيقة، لكن لم ينتفعوا بذلك، فكانوا كأنّهم صّم بكم عمي، فذو الآلة إذا لم ينتفع بها، فهو وعادم الآلة سواء، والعالم الذي لا يعمل بعلمه، فهو والجاهل سواء، والغني الذي لا ينتفع بماله، فهو والفقير سواء. فإثبات العلم للكفار إلزام الحجة، وذكر الجهل إثبات المنقصة، بخلاف المؤمنين فإنّ إثبات العلم لهم إثبات الكرامة، وذكر الجهل تلقين عذر المعصية. فعلى المؤمن أن
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
168
يتحلّى بالعلم والعمل، ويجتنب عن الخطاء، والزلل، والبطالة، ويطيع ربّه خالصا لوجهه الكريم، ويعبده بقلب سليم.
وفي الحديث: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء، يقول الله تعالى يوم يجازي العباد بأعمالهم»: (اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون لهم في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم خيرا). وإنّما يقال لهم ذلك: لأنّ عملهم في الدنيا كان على وجه الخداع، فيعاملون في الآخرة على وجه الخداع، كذا في «تنبيه الغافلين».
وأخرج (١) أحمد بن منيع في «مسنده» بسند ضعيف، عن رجل من الصحابة: «أنّ قائلا من المسلمين قال: يا رسول الله ما النجاة غدا؟ قال: «لا تخادع الله»، قال: وكيف نخادع الله؟ قال: «أن تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره، فاتقوا الرياء، فإنّه الشرك بالله، فإنّ المرائي ينادى يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء»: يا كافر، يا فاجر، يا خاسر، يا غادر ضلّ عملك، وبطل أجرك فلا خلاق لك اليوم عند الله، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع، وقرأ آيات من القرآن ﴿فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا﴾ الآية، ﴿وإِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ﴾ الآية. وأخرج ابن جرير، عن ابن وهب قال: سألت ابن زيد عن قوله: ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾؟ قال: هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا، أنّهم مؤمنون بما أظهروه.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو (٢): ﴿يُخادِعُونَ﴾ بالألف في الموضعين، وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وابن عامر في الثاني ﴿يَخْدَعُونَ﴾ بلا ألف.
والمراد بمخادعتهم أنفسهم: أنّهم يمنّونها الأماني الباطلة، وهي كذلك تمنّيهم.
والحاصل: أنّه قد نفى (٣) الشعور عنهم في مخادعتهم؛ لأنّهم لم يحاسبوا
(١) الشوكاني.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
169
أنفسهم على أقوالهم، ولم يراقبوه في أفعالهم، ولم يفكّروا فيما يرضيه، بل جروا في ريائهم على ما ألفوا وتعودوا، فهم يعملون عمل المخادعين، وما يشعرون، فإذا عرض لهم زاجر من الدين يحول بينهم وبين ما يشتهون، وجدوا لهم من المعاذير ما يسهّل أمره، إمّا بأمل في المغفرة، أو تحريف في أوامر الكتاب، لما رسخ في نفوسهم من عقائد الزيغ التي يسمّونها إيمانا، وهم في الحقيقة مخدوعون، وعن الصراط السويّ ناكبون.
والمشاهد: أنّ الإنسان إذا همّ بعمل وناجى، وجد كأنّ في قلبه خصمين مختصمين:
أحدهما: يميل به إلى اللذة، ويسير به في طريق الضلال والغواية.
وثانيهما: يأمره بالسير في الطريق القويم، وينهاه عن اتباع النفس والهوى.
ولقد جاء في كلامهم عن المتردّد: (فلان يشاور نفسه) ولا يترجّح عنده جانب الشرّ إلّا إذا خدع نفسه، وصرفها عن الحقّ، وزيّن لها اتباع الباطل. وإنّما يكون ذلك بعد مشاورة ومذاكرة، تجول في الخاطر، وتهجس في النفس، ربّما لا يلتفت إليها الإنسان، ولا يشعر بما يجول بين جنبيه.
١٠ - ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: في قلوب هؤلاء المنافقين وعقولهم، فالمراد بالقلوب هنا: العقول، وهو تعبير معروف عند العرب. ﴿مَرَضٌ﴾؛ أي: مرض معنوي الذي هو الشكّ، والكفر، والنفاق. والمرض: حقيقة فيما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال اللائق، ويوجب الخلل في أفاعيله، ويؤدّي إلى الموت. ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخلّ بكمالها: كالجهل، وسوء العقيدة، والحسد، والضغينة، وحبّ المعاصي، وغير ذلك من فنون الكفر المؤدي إلى الهلاك الروحاني؛ لأنّها مانعة عن نيل الفضائل، أو مؤدّية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية، والآية الكريمة تحتملها، فإنّ قلوبهم كانت متألّمة تحرّقا على ما فات عنهم من الرياسة، وحسدا على ما يرون من ثبات أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم واستعلاء شأنه يوما فيوما.
﴿فَزادَهُمُ اللَّهُ﴾ على مرضهم الأول ﴿مَرَضًا﴾ آخر بما أنزله من القرآن؛ لأنّ
170
نزول القرآن يزيد الكافر والمنافق مرضا بمعنى: كفرا وشكّا، فينشأ عنه المرض الحسّيّ، كما يزيد المؤمن إيمانا فينشأ عنه البهجة والسرور. قال تعالى: ﴿وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيمانًا...﴾ الآيات، ويحتمل بما أنزله في حقّهم من فضيحتهم خصوصا بسورة التوبة، فإنّها تسمّى الفاضحة.
والمعنى: فزاد الله غمّهم بما زاد في إعلاء أمره ورفع قدره، وأنّ نفوسهم كانت مؤوفة بالكفر، وسوء الاعتقاد، ومعاداة النبي صلّى الله عليه وسلّم ونحوها، فزاد الله ذلك بأن طبع على قلوبهم؛ لعلمه تعالى بأنّه لا يؤثّر فيها التذكير والإنذار، وبازدياد التكاليف الشرعية، وتكرير الوحي، وتضاعف النصر؛ لأنّهم كلما ازداد التكاليف بنزول الوحي يزدادون كفرا، وقد كان يشقّ عليهم التكلم بالشهادة، فكيف وقد لحقتهم الزيادات، وهي وظائف الطاعات، ثمّ العقوبة على الجنايات، فازدادوا بذلك اضطرابا على اضطراب، وارتيابا على ارتياب، ويزدادون بذلك في الآخرة عذابا على عذاب. قال تعالى: ﴿زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ﴾، والمؤمنون لهم في الدنيا ما قال: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً﴾، وفي العقبى ما قال: ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾.
قال القطب العلّامة: أمراض القلب: إمّا متعلّقة بالدين، وهو سوء الاعتقاد والكفر، أو بالأخلاق، وهي إما رذائل فعليّة، كالغلّ والحسد، وإما رذائل انفعاليّة، كالضعف والجبن. فحمل المرض أوّلا على الكفر، ثمّ على الهيئات الفعلية، ثمّ على الهيئات الانفعالية. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: ﴿فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ دعاء عليهم.
فإن قلت: (١) فكيف يحمل على الدعاء، والدعاء للعاجز عرفا، والله تعالى منزّه عن العجز؟
قلت: هذا تعليم من الله لعباده أنّه يجوز الدعاء على المنافقين، والطرد لهم؛ لأنّهم شرّ خلق الله؛ لأنّه أعد لهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار، وهذا كقوله تعالى: ﴿قاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾.
(١) روح البيان.
171
وعبارة المراغي هنا: وقد وجد (١) هذا المرض عند هؤلاء المنافقين حين كانوا في فترة من الرسل، فلم يكن لهم حظّ من قراءة كتب الدين إلّا تلاوتها، ولا من أعماله إلّا إقامة صورها، من غير أن تنفذ أسرارها إلى قلوبهم، فتهذب النفوس، وتسمو بها إلى فضائل الأخلاق، والتفقّه في الدين.
﴿فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ بعد أن جاء النذير البشير، ومعه البرهان القاطع، والنور الساطع وأبوا أن يتبعوه، وزاد تمسكّهم بما كانوا عليه، فكان ذلك النور عمى في أعينهم ومرضا في قلوبهم، وتحرّقت قلوبهم حسرة على ما فاتهم من الرياسة، وحسدا على ما يرونه من ثبات أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعلوّ شأنه يوما بيوم.
انتهى.
﴿وَلَهُمْ﴾؛ أي: ولهؤلاء المنافقين في الآخرة ﴿عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ يصل ألمه إلى القلوب، وهو بمعنى: المؤلم بفتح اللام على أنّه اسم مفعول من الإيلام. يقال: ألم يألم فهو أليم بمعنى: مؤلم، كسميع بمعنى: مسمع. وصف به للمبالغة، وهو في الحقيقة صفة المعذّب بفتح الذال المعجمة، كما أنّ الجدّ للجادّ في قولهم: جدّ جدّه. وجه المبالغة: إفادة أنّ الألم بلغ الغاية حتى سرى من المعذّب بفتح الذال إلى العذاب المتعلّق به.
أي: ولهم عذاب موجع ﴿بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ بالتخفيف (٢)؛ أي: بسبب كذبهم في قولهم: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، وقرىء بالتشديد؛ أي: بسبب تكذيبهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به في السرّ. والكذب: هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، كقولك: الجهل نافع والعلم ضارّ، وهو قبيح كلّه.
و (الباء) (٣) فيه للسببية، أو للمقابلة، ﴿وما﴾ مصدرية، داخلة في الحقيقة على ﴿يَكْذِبُونَ﴾ وكلمة ﴿كانُوا﴾ مقحمة؛ لإفادة دوام كذبهم وتجدده؛ أي: بسبب
(١) المراغي.
(٢) العمدة.
(٣) روح البيان.
172
كذبهم المتجدّد المستمر الذي هو قولهم: ﴿آمَنَّا...﴾ إلخ. وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته، وتخييل أنّ العذاب الأليم لا حق بهم من أجل كذبهم نظرا إلى ظاهر العبارة المتخيّلة، لانفراده بالسببية مع إحاطة علم السامع بأنّ لحوق العذاب بهم من جهات شتّى، وأنّ الاقتصار عليه للإشعار بنهاية قبحه والتنفير عنه. وأمّا ما روي: أنّ إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات، فالمراد به: التعريض، لكن لمّا شابه الكذب في صورته سمّي به، وهي قوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، وقوله: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾، وقوله: (هذه أختي) كما هو مذكور في محلّه.
وحاصل معنى الآية: أنّ الله سبحانه جعل (١) العذاب جزاء الكذب دون سائر موجباته الأخرى، كالكفر وغيره من أعمال السوء؛ للتحذير منه، وبيان فظاعته، وعظم جرمه؛ وللأشعار بأنّ الكفر من محتوياته، وإليه ينتهي في حدوده وغاياته، ومن ثم حذر منه القرآن أتمّ التحذير. فما فشا في أمة إلّا كثرت فيها الجرائم، وشاعت فيها الرذائل، فهو مصدر كل رذيلة ومنشأ كلّ كبيرة. وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنّه قال: «إياكم والكذب، فإنّه مجانب للإيمان»؛ يعني: أنّ الإيمان في جانب والكذب في جانب آخر منه، مقابل له، وهذا كناية عن كمال البعد بينهما.
وفي الحديث (٢): «ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار». كلّ الكذب مكتوب كذبا لا محالة، إلّا أن يكذب الرجل في الحرب، فإنّ الحرب خدعة، أو يكون بين رجلين شحناء، فيصلح بينهما، أو يحدث امرأته ليرضيها، مثل أن يقول: (لا أحد أحبّ إليّ منك)، وكذا من جانب المرأة. فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، وفي معناها: ما أدّاها إذا ارتبط بمقصود صحيح له، أو لغيره، لكن هذا في حقّ الغير، وأمّا في حقّ نفسه، فالصدق أولى وإن لزم الضرر.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
173
واعلم: أنّ المراد بالكذب في الحقيقة: الكذب في العبوديّة والقيام بحقوق الربوبيّة، كما للمنافقين ومن يحذو حذوهم، ولا يصح الاقتداء بأرباب الكذب مطلقا، ولا يعتمد عليهم، فإنّهم يجرّون إلى الهلاك، والفراق عن مالك الأملاك.
وأمال حمزة (١) ﴿فَزادَهُمُ﴾، ووافقه ابن ذكوان، وأجمع القراء على فتح الراء في قوله: ﴿مَرَضٌ﴾، إلّا ما رواه الأصمعيّ، عن أبي عمرو: أنّه قرأ بإسكان الراء. وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي ﴿يكذبون﴾ بالتخفيف. وقرأ الحرميان: نافع، وابن كثير، والعربيان: أبو عمرو، وابن عامر بالتشديد.
وقد سئل (٢) القرطبيّ وغيره من المفسرين، عن حكمة كفّه صلّى الله عليه وسلّم عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم؟ فذكروا أجوبة عن ذلك.
منها: ما ثبت في «الصحيحين»: أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر - رضي الله عنه -: «أكره أن يتحدّث العرب أنّ محمدا يقتل أصحابه».
ومنها: ما قال مالك: (إنّما كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المنافقين؛ ليبيّن لأمّته أنّ الحاكم لا يحكم بعلمه).
ومنها: ما قاله بعضهم: أنّه إنما لم يقتلهم؛ لأنّه كان لا يخاف من شرّهم مع وجوده صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم، يتلو عليهم آيات الله بينات. فأمّا بعده: فيقتلون إذا أظهروا النفاق، وعلمه المسلمون. انتهى.
١١ - ثمّ (٣) شرع في بيان قبائحهم وأحوالهم الشنيعة، وفي الحقيقة: هو تفصيل للمخادعة الحاصلة منهم، فقال: ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ﴾؛ أي: وإذا قال المسلمون لهؤلاء المنافقين: ﴿لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: لا تسعوا في الأرض بالإفساد بالكفر، وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وإفشاء أسرار المؤمنين إلى
(١) البحر المحيط.
(٢) ابن كثير.
(٣) العمدة.
174
الكفار، وإغرائهم عليهم، وغير ذلك.
وإسناد (١) قِيلَ إلى ﴿لا تُفْسِدُوا﴾ إسناد له إلى لفظه، كأنّه قيل: وإذا قيل لهم: هذا اللفظ، كقولك: ألّف ضرب من ثلاثة أحرف. والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته، وكونه منتفعا به، وضدّه: الصلاح، وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة. وكلاهما يعمّان كلّ ضارّ ونافع، والفساد في الأرض: تهييج الحروب والفتن المستتبعة؛ لزوال الاستقامة عن أحوال العباد، واختلال أمر المعاش والمعاد. والمراد بما نهوا عنه: ما يؤدي إلى ذلك من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار، وإغرائهم عليهم، وغير ذلك من فنون الشرور. فلمّا كان ذلك من صنيعهم مؤدّيا إلى الفساد. قيل: ﴿لا تُفْسِدُوا﴾، كما يقال للرجل: لا تقتل نفسك بيدك، ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم على ما هذه عاقبته.
وكانت الأرض قبل البعثة يعلن فيها بالمعاصي، فلمّا بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ارتفع الفساد، وصلحت الأرض، فإذا أعلنوا بالمعاصي، فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، كما في «تفسير أبي الليث».
﴿قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ جواب لإذا، وردّ للناصح على سبيل المبالغة؛ أي: نحن مقصورون على الإصلاح المحض؛ أي: ليس شأننا الإفساد أبدا، بل نحن محصورون في الإصلاح، لا نخرج عنه إلى غيره، فهو من حصر المبتدأ في الخبر.
والمعنى (٢): أنّه لا يصح مخاطبتنا بذلك، فإنّ شأننا ليس إلّا الإصلاح، وإنّ حالنا متمّحضة عن شوائب الإفساد، وإنّما قالوا ذلك؛ لأنّهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح، لما في قلوبهم من المرض، كما قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾. فأنكروا كون ذلك فسادا، وادّعوا كونه إصلاحا محضا. وهو من قصر الموصوف على الصفة، مثل: إنّما زيد منطلق.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
175
قال ابن التمجيد (١): إنّ المسلمين لمّا قالوا لهم: لا تفسدوا في الأرض، توهّموا أنّ المسلمين أرادوا بذلك أنّهم يخلطون الإفساد بالإصلاح، فأجابوا بأنّهم مقصورون على الإصلاح، لا يتجاوزون منه إلى صفة الإفساد، فيلزم منه عدم الخلط. فهو من باب قصر الإفراد، حيث توهّموا أنّ المؤمنين اعتقدوا الشركة.
فأجابهم الله تعالى بعد ذلك بما يدلّ على القصر القلبيّ، وهو قوله تعالى: ﴿أَلا﴾ أيّها المؤمنون انتبهوا، واعلموا ﴿إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ فإنّهم لمّا أثبتوا لأنفسهم إحدى الصفتين، ونفوا الأخرى، واعتقدوا ذلك، قلب الله اعتقادهم هذا بأن أثبت لهم ما نفوه، ونفى عنهم ما أثبتوا.
والمعنى: هم مقصورون على إفساد أنفسهم بالكفر، والناس بالتعويق عن الإيمان، لا يتخطّون منه إلى صفة الإصلاح، من باب قصر الشيء على الحكم، فهم لا يعدون صفة الفساد والإفساد، ولا يلزم منه أن لا يكون غيرهم مفسدين.
ثمّ استدرك بقوله: ﴿وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ﴾ أنّهم مفسدون، للإيذان بأنّ كونهم مفسدين من الأمور المحسوسة، لكن لا حسّ لهم حتى يدركوه. قال الشيخ في «تفسيره»: ذكر الشعور بإزاء الفساد أوفق؛ لأنّه كالمحسوس عادة، ثمّ فيه بيان شرف المؤمنين، حيث تولّى جواب المنافقين عما قالوه للمؤمنين.
١٢ - والحاصل: أنّهم أكّدوا ذلك بإنّما المفيدة للحصر، وبالجملة الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار. فردّ الله سبحانه عليهم بجملة مؤكّدة بأربع مؤكّدات: ﴿أَلا﴾ التي للتنبيه و ﴿إن﴾ وضمير الفصل، وتعريف الخبر، حيث قال: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾؛ أي: إنّهم وحدهم هم المفسدون، لا من أوماؤا إليهم من المؤمنين، ولكن لا يعلمون أنّ ما فعلوه فساد؛ لأنّه أصبح غريزة في طباعهم؛ بما تمكّن فيها من الشّبه بتقليدهم أحبارهم الذين أشربت قلوبهم تعظيمهم، والثقة بآرائهم. أو لا يعلمون أنّ الله تعالى يطلع نبيّه صلّى الله عليه وسلّم على فسادهم.
١٣ - ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ﴾ من طرف المسلمين بطريق الأمر بالمعروف، إثر نهيهم عن
(١) روح البيان.
176
المنكر إتماما للنصح وإكمالا للإرشاد، فإنّ كمال الإيمان بمجموع الأمرين: الإعراض عمّا لا ينبغي، وهو المقصود بقوله تعالى: ﴿لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾، والإتيان بما ينبغي، وهو المطلوب بقوله تعالى: ﴿آمِنُوا﴾ حذف المؤمن به؛ لظهوره؛ أي: آمنوا بالله وباليوم الآخر، أو أريد: فعلوا الإيمان.
والمعنى: أي (١) وإذا قال لهؤلاء المنافقين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو بعض أصحابه بطريق الأمر بالمعروف نصيحة لهم: آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وباليوم الآخر إيمانا صادقا، لا يشوبه نفاق ولا رياء. ﴿كَما آمَنَ النَّاسُ﴾؛ أي: كما آمن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخلصوا في إيمانكم وطاعتكم لله. والكاف في محل النصب على أنّه نعت لمصدر مؤكّد محذوف؛ أي: آمنوا إيمانا مماثلا لإيمانهم، فما مصدرية أو كافّة؛ أي: حقّقوا إيمانكم كما تحقق إيمانهم. واللام (٢) في النَّاسُ للجنس، والمراد به:
الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل، أو للعهد، والمراد به: الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن معه، أو من آمن من أهل بلدتهم؛ أي: من أهل ضيعتهم: كابن سلام وأصحابه.
والمعنى: آمنوا إيمانا مقرونا بالإخلاص، متمحّضا من شوائب النفاق، مماثلا لإيمانهم.
﴿قالُوا﴾ مقابلين للأمر بالمعروف بالإنكار المنكر، واصفين للمراجيح الرزان بضد أوصافهم الحسان ﴿أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ الهمزة فيه للإنكار مع الاستهزاء والسخرية، واللام فيه مشار بها إلى الناس الكاملين، أو المعهودين، أو إلى الجنس بأسره، وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد. والسفه: خفّة عقل وسخافة رأي، يورثهما قصور العقل، ويقابله الحلم والأناة. وإنّما نسبوهم إليه مع أنّهم في الغاية القاضية من الرشد، والرزانة، والوقار؛ لكمال انهماك أنفسهم في السفاهة، وتماديهم في الغواية، وكونهم ممن زيّن له سوء عمله، فرآه حسنا،
(١) العمدة.
(٢) روح البيان.
177
فمن حسب الضلال هدى يسمّي الهدى لا محالة ضلالا؛ أو لتحقير شأنهم، فإنّ كثيرا من المؤمنين كانوا فقراء، ومنهم الموالي، كصهيب، وبلال، أو للتجلّد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كون المراد بالناس: عبد الله بن سلام وأمثاله. وقيل: إنّما سفّهوهم؛ لأنّ الصحابة أنفقوا أموالهم في سبيل الله حتى افتقروا، وتحملّوا المشاقّ، فسموهم سفهاء لذلك.
فإن قيل: كيف يصحّ النفاق مع المجاهرة بقوله: ﴿أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾.
قلنا: فيه أقوال:
الأول: إنّ المنافقين لعنهم الله، كانوا يتكلمون بهذا الكلام في أنفسهم دون أن ينطقوا به بألسنتهم، لكن هتك الله أستارهم، وأظهر أسرارهم عقوبة على عداوتهم، وهذا كما أظهر ما أضمره أهل الإخلاص من الكلام الحسن، وإن لم يتكلموا به بالألسن؛ تحقيقا لولايتهم، قال الله تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ إلى أن قال: ﴿إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾، وكان هذا في قلوبهم، فأظهره الله تعالى تشريفا لهم وتشهيرا لحالهم. وهذا قول صاحب «التيسير».
والثاني: أنّ المنافقين كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين، فأخبر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بذلك، هذا قول البغويّ.
والثالث: قول أبي السعود في «الإرشاد» حيث قال: هذا القول وإن صدر عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جوابا عن نصيحتهم، لكن لا يقتضي كونهم مجاهرين لا منافقين، فإنّه ضرب من الكفر أنيق، وفنّ في النفاق عريق؛ لأنّه محتمل للشرّ، كما ذكر في تفسيره، وللخير بأن يحمل على ادّعاء الإيمان، كإيمان الناس، وإنكار ما اهتمّوا به من النفاق على معنى: أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا، ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرون بذلك، قد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير
وعلى الأول: ردّ الله - سبحانه - ذلك عليهم بجملة مؤكّدة بأربع تأكيدات كالسابقة، حيث قال: ﴿أَلا﴾ فانتبهوا أيّها المؤمنون ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إنّ المنافقين
178
القائلين ما ذكر ﴿هُمُ السُّفَهاءُ﴾ لا غيرهم؛ لأنّ من ركب متن الباطل كان حقيقا بالسفه بلا امتراء. ﴿وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ﴾ أنّهم هم السفهاء، ولا يحيطون بما عليهم من داء السفه، والمؤمنون بإيمانهم وإخلاصهم هربوا من السفه، وغبّوا في العلم والحقّ، وهم العلماء في الحقيقة، والمستقيمون على الطريقة.
فائدة: قال أبو حيان: وإذا التقت الهمزتان، أولاهما مضمومة، والثانية مفتوحة، نحو: ﴿السُّفَهاءُ أَلا﴾ ففي ذلك أوجه:
أحدها: تحقيق الهمزتين، وبذلك قرأ الكوفيون، وابن عامر.
والثاني: تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوا، وبذلك قرأ الحرميان، وأبو عمرو.
والثالث: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو، وتحقيق الثانية.
والرابع: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو وإبدال الثانية واوا.
وأجاز قوم وجها.
خامسا: وهو جعل الأولى بين الهمزة والواو وجعل الثانية بين الهمزة والواو، ومنع ذلك بعضهم.
وهذا ردّ (١) ومبالغة في تجهيلهم، فإنّ الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع، أعظم ضلالة، وأتمّ جهالة من المتوقّف المعترف بجهله، فإنّه ربّما يعذر وتنفعه الآيات والنذر. وقال النسفيّ: وإنّما ذكر هنا ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾. وفيما تقدم ﴿لا يَشْعُرُونَ﴾؛ لأنه قد ذكر السفه هنا، وهو جهل، وكان ذكر العلم أحسن طبقا له. انتهى.
وفي «الروح»: واعلم أن قوله تعالى: ﴿وَما يَشْعُرُونَ﴾ في الآية الأولى: نفي
(١) روح البيان.
179
الإحساس عنهم، وفي الثانية: نفي الفطنة؛ لأنّ معرفة الصلاح والفساد يدرك بالفطنة، وفي الآية الثالثة: نفي العلم، وفي نفيها على هذه الوجوه تنبيه لطيف ومعنى دقيق، وذلك: أنّه بيّن في الأولى: أنّ في استعمالهم الخديعة نهاية الجهل الدال على عدم الحسّ، وفي الثانية: أنّهم لا يفطنون تنبيها على أنّ ذلك لازم لهم؛ لأنّ من لا حسّ له لا فطنة له، وفي الثالثة: أنّهم لا يعلمون تنبيها على أنّ ذلك أيضا لازم لهم؛ لأنّ من لا فطنة له لا علم له، فإنّ العلم تابع للعقل، كما حكي: أنّ الله تعالى لمّا خلق آدم عليه السلام أتى إليه جبريل عليه السلام بثلاث تحف: العلم، والحياء، والعقل. فقال: يا آدم اختر من هذه الثلاث ما تريد، فاختار العقل. فأشار جبريل إلى العلم والحياء بالرجوع إلى مقرّهما، فقالا: إنّا كنا في عالم الأرواح مجتمعين، فلا نرضى أن يفترق بعضنا عن بعض في الأشباح أيضا، فنتبع العقل، حيث كان، فقال جبريل عليه السلام: استقرا، فاستقر العقل في الدماغ، والعلم في القلب، والحياء في العين.
فليسارع (١) العاقل إلى تحصيل العلم والمعرفة، حتى يصل إلى توحيد الفعل والصفة. قال الإمام القشيري - رحمه الله تعالى -: للعقل نجوم، وهي للشيطان رجوم، وللعلوم أقمار هي للقلوب أنوار واستبصار، وللمعارف شموس، ولها على أسرار العارفين طلوع، والعلم اللدنّي هو الذي ينفتح في بيت القلب من غير سبب مألوف من الخارج، وللقلب بابان: باب إلى الخارج يأخذ العلم من الحواس، وباب إلى الداخل يأخذ العلم بالإلهام. فمثل القلب، كمثل الحوض الذي يجري فيه أنهار خمسة، فلا يخلو ماؤه عن كدرة ما دام يحصل ماؤه من الأنهار الخمسة، بخلاف ما إذا خرج ماؤه من قعره حيث يكون ماؤه أصفى وأجلى، فكذا القلب إذا حصل له العلم من طريق الحواس الخمس الظاهرة لا يخلو من كدرة، وشكّ، وشبهة، بخلاف ما إذا ظهر من صميم القلب بطريق الفيض الإلهيّ، فإنّه أصفى وأولى. انتهى.
(١) روح البيان.
180
قال الشيخ زين الدين الحافيّ - رحمه الله تعالى -: والعجب ممن دخل في هذه الطريقة المحمدية، وأراد أن يصل إلى الحقيقة اليقينية، وقد حصّل من الاصطلاحات ما يستخرج بها المعاني من كتاب الله، وأحاديث رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ لا يشتغل بذكر الله وبمراقبته، والإعراض عما سواه، لتنصبّ إلى قلبه العلوم اللدنية التي لو عاش ألف سنة في تدريس الاصطلاحات وتصنيفها، لا يشمّ منها رائحة، ولا يشاهد من آثارها وأنوارها لمعة. فالعلم بلا عمل عقيم، والعمل بلا علم سقيم، والعمل بالعلم صراط مستقيم. انتهى.
وعبارة المراغي هنا: (١) ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ﴾ الذين اتبعوا قضيّة العقل، وسلكوا سبيل الرشاد، وكان للإيمان سلطان على نفوسهم، وعليه بنوا تصاريف أعمالهم، كعبد الله بن سلام وأشباهه من أحبارهم. ﴿قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ أرادوا بالسفهاء: أتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم. أمّا المهاجرون منهم: فلأنّهم عادوا قومهم وأقاربهم، وهجروا أوطانهم، وتركوا ديارهم؛ ليتبعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويسيروا على هديه. وأمّا الأنصار: فلأنّهم شاركوا المهاجرين في ديارهم وأموالهم، ولا يستبعد ممن انهمك في السفاهة، وتمادى في الغواية، ومن زيّن له سوء عمله، فرآه حسنا، وظنّ الضلال هدى أن يسمّي الهدى سفها وضلالا، كما مرّ. ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ﴾ وحدهم دون من عرّضوا بهم، ونسبوهم إلى السفه، إذ هم لهم سلف صالح تركوا الاقتداء بهم، واكتفوا بانتظار شفاعتهم، ولم يجروا على هديهم وسنتهم، بخلاف أولئك المؤمنين الذين لا سلف لهم إلّا عابدي أصنام، وقد هداهم الله تعالى، وصارت قلوبهم مطمئنة بالإيمان. ﴿وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ﴾ ما الإيمان وما حقيقته؟ حتى يعلموا أنّ المؤمنين سفهاء.
وقد ختمت هذه الآية بـ ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾، وسابقتها بـ ﴿لا يَشْعُرُونَ﴾؛ لأنّ الإيمان لا يتمّ إلّا بالعلم اليقينيّ، والفائدة المرجوة منه، وهي السعادة في المعاش والمعاد، لا يدركها إلّا من يعلم حقيقته ويدرك كنهه، فهم قد أخطأوا في
(١) المراغي.
181
إدراك مصلحتهم ومصلحة غيرهم.
أمّا نفاقهم وإفسادهم في الأرض فقد بلغ من الوضوح مبلغ الأمور المحسوسة التي تصل إلى الحواس والمشاعر، ولكن لا حسّ لهم حتى يدركوه.
انتهى.
١٤ - ثمّ بيّن سبحانه وتعالى، مصانعتهم ومعاملتهم مع المؤمنين بعد ما بيّن أولا مذهبهم ونفاقهم في الواقع، ونفس الأمر بقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، فلا تكرار بين ما هنا وهناك، فقال: ﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قال صاحب «الروح»: وهذا بيان لمعاملتهم مع المؤمنين والكفار، وما صدّرت به القصة، فمساقه؛ لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم، فليس بتكرير مع ما سبق؛ أي:
وإذا لقي هؤلاء المنافقون، وعاينوا، وصادقوا، واستقبلوا الذين آمنوا بالحقّ، وهم المهاجرون والأنصار ﴿قالُوا﴾؛ أي: قال هؤلاء المنافقون كذبا: ﴿آمَنَّا﴾ كإيمانكم وتصديقكم، كما سبق في سبب النزول: أنّ عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه خرجوا ذات يوم، فاستقبلهم نفر من الصحابة - رضي الله عنهم - الخ.
أي: وإذا رأى هؤلاء المنافقون المؤمنين، واجتمعوا معهم، أظهروا لهم الإيمان والموالاة نفاقا ومصانعة. ﴿وَإِذا خَلَوْا﴾؛ أي: مضوا، أو اجتمعوا على الخلوة. و ﴿إِلى﴾ بمعنى: مع أو انفردوا و ﴿إِلى﴾ بمعنى: الباء، أو بمعنى: مع، تقول: خلوت بفلان، وإليه، إذا انفردت معه. ﴿إِلى شَياطِينِهِمْ﴾؛ أي: إلى أصحابهم المماثلين للشيطان في التمردّ والعناد المظهرين لكفرهم. وإضافة الشياطين إلى ضميرهم للمشاركة في الكفر، أو إلى كبار المنافقين، والقائلون صغارهم، وكلّ عات متمرّد فهو شيطان.
وقال الضحاك: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - المراد بشياطينهم: كهنتهم، وهم في بني قريظة: كعب بن الأشرف، وفي بني أسلم: أبو بردة، وفي جهينة: عبد الدار، وفي بني أسد: عوف بن عامر، وفي الشام: عبد الله بن سوداء. وكانت العرب تعتقد فيهم أنّهم مطّلعون على الغيب، ويعرفون الأسرار، ويداوون المرضى، وليس من كاهن إلّا وعند العرب أنّ معه شيطانا يلقي إليه
كهانته، وسمّوا شياطين؛ لبعدهم عن الحقّ، فإنّ الشّطون هو البعد، كذا في «التيسير».
والمعنى: أي وإذا انفردوا عن المؤمنين، ورجعوا إلى شياطينهم؛ أي: إلى كبرائهم، ورؤسائهم في الضلال والنفاق الذين شابهوا الشياطين في تمردهم وعتوهم، أو إلى كهنتهم. ﴿قالُوا﴾؛ أي: قال هؤلاء المنافقون لرؤسائهم: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾: أي: مصاحبوكم، وموافقوكم على دينكم واعتقادكم لا نفارقكم في حال من الأحوال. وكأنه قيل لهم عند قولهم: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾: فما بالكم توافقون المؤمنين في الإتيان بكلمة الشهادة، وتشهدون مشاهدهم، وتدخلون مساجدهم، وتحجون، وتغزون معهم؟ فقالوا: ﴿إِنَّما نَحْنُ﴾ في إظهار الإيمان عند المؤمنين ﴿مُسْتَهْزِؤُنَ﴾ بهم من غير أن يخطر ببالنا الإيمان حقيقة، فنريهم أنا نوافقهم على دينهم ظاهرا وباطنا، وإنما نكون معهم ظاهرا؛ لنشاركهم في غنائمهم، وننكح بناتهم، ونطّلع على أسرارهم، ونحفظ أموالنا، وأولادنا، ونساءنا من أيديهم.
والاستهزاء: التجهيل للغير، والسخرية به، والاستخفاف به.
والمعنى: إنّا نجهّل محمدا وأصحابه، ونسخر بهم بإظهارنا الإسلام.
وقرىء ﴿مُسْتَهْزِؤُنَ﴾ بتحقيق الهمزة، وهو الأصل، وبقلبها ياء مضمومة؛ لانكسار ما قبلها، ومنهم من يحذف الياء؛ تشبيها بالياء الأصلية في نحو: يرمون، ذكره في «البحر».
١٥ - فردّ الله عليهم بقوله: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ أي: يجازيهم على استهزائهم، أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزىء بهم، أو ينزل الحقارة بهم والهوان الذي هو لازم الاستهزاء والغرض منه، أو يعاملهم معاملة المستهزىء بهم، أمّا في الدنيا: فبإجراء أحكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالإمهال، والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان، وأما في الآخرة: فبما يروى: أنّه يفتح لهم بابا إلى الجنة، وهم في جهنّم، فيسرعون نحوه، فإذا وصلوا إليه سدّ عليهم الباب، وردّوا إلى جهنم. والمؤمنون على الأرائك في الجنة، ينظرون إليهم، فيضحكون لهم كما ضحكوا من المؤمنين في الدنيا، فذلك بمقابلة هذا،
183
ويفعل بهم ذلك مرة بعد مرّة.
قال ابن كثير: وهذا إخبار من الله تعالى أنّه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر عن الجزاء، مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقّوا العقاب عليه. فاللفظ متفق والمعنى مختلف، كقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾؛ لأنّ الأول ظلم والثاني عدل.
﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾؛ أي: يزيدهم، ويقويهم من مدّ الجيش وأمده؛ إذا زاده وقوّاه، لا من المدّ في العمر، فإنّه يعدى باللام كأملي لهم. ويدلّ عليه قراءة ابن كثير وَيَمُدُّهُمْ. ﴿فِي طُغْيانِهِمْ﴾ متعلّق بيمدّهم. والطغيان: مجاوزة الحد في كلّ أمر، والمراد هنا: إفراطهم في العتوّ، وغلّوهم في الكفر. وفي إضافته إليهم إيذان باختصاصه بهم، وتأييد لما أشير إليه من ترتب المدّ على سوء اختيارهم.
والمشهور فتح الياء من ﴿يَمُدُّهُمْ﴾. وقرىء شاذا بضمّها، فقيل: الثلاثي والرباعي بمعنى واحد، ونسبت هذه القراءة إلى ابن محيص، وشبل، وابن كثير، كما مرّ.
حالة كونهم ﴿يَعْمَهُونَ﴾ فيه؛ أي: يتردّدون في الضلالة، متحيّرين عقوبة لهم في الدنيا لاستهزائهم. وهو حال من الضمير المنصوب، أو المجرور، لكون المضاف مصدرا، وهو مرفوع حكما. والعمه في البصيرة، كالعمى في البصر، وهو التحيّر والتردّد بحيث لا يدري أين يتوجّه.
والمعنى: أي يزيدهم بطريق الإمهال والترك في طغيانهم، وضلالتهم، وكفرهم حالة كونهم يعمهون؛ أي: يتردّدون ويتحيّرون في طغيانهم، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا، لأنّ الله طبع قلوبهم، وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون رشدا، ولا يهتدون سبيلا، أو المعنى: يتردّدون في البقاء على الكفر وتركه، والدخول في الإيمان.
والمراد بالعمه: عدم معرفة الحقّ من الباطل، فمنهم: من يظهر له وجه الحقّ، ويكفر عنادا ومنهم: من يشكّ في الحقّ ويقال له: عمي أيضا. فبين العمه والعمى عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في طمس القلب، وينفرد العمى بفقد البصر.
184
١٦ - ﴿أُولئِكَ﴾ المنافقون المتصفون بما ذكر من الصفات الشنيعة، المميّزة لهم عمن عداهم أكمل تميز، بحيث صاروا كأنّهم حضار مشاهدون على ما هم عليه من قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ إلى هنا. والإشارة إليهم باسم إشارة البعيد؛ للإيذان ببعد منزلتهم في الشرّ، وسوء الحال. ومحلّه الرفع على الابتداء، وخبره قوله: ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى﴾ وأصل الاشتراء: بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأشياء، ثمّ استعير للإعراض عمّا في يده محصّلا به غيره، ثمّ اتسع فيه، فاستعمل في الرغبة عن الشيء طمعا في غيره، وهو ههنا عبارة عن معاملتهم السابقة المحكيّة.
وقرأ يحيى بن يعمر ﴿اشتروا الضلالة﴾ بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وقرأ أبو السماك قعنب العدوي بفتحها؛ لخفة الفتحة، وأجاز الكسائي همز الواو. وقرأ الجمهور بضمّ الواو، وأمال حمزة والكسائي وخلف العاشر ﴿الهدى﴾، وهي لغة تميم، وقلله ورش والباقون بالفتح، وهي لغة قريش.
أي: أولئك المنافقون هم الذين اشتروا الضلالة، وأخذوها، واختاروها، وهي الكفر والعدول عن الحقّ، والصواب بدل الهدى، وهو الإيمان والسلوك في الطريق المستقيم، والاستقامة عليه أخذا متّصفا بالرغبة فيها والإعراض عنه؛ أي: اختاروها عليه، واستبدلوها به، وأخذوها مكانه، وجعل الهدى كأنّه في أيديهم لتمكنهم منه، وهو الاستعداد به، فبميلهم إلى الضلالة عطلوه، وتركوه. والباء تدخل على المتروك في باب المعاوضة. وهذا دليل: على أنّ الحكم في البيع ونحوه، يثبت بالتعاطي من غير تكلم بالإيجاب والقبول على ما ذهب إليه الأحناف، فإنّ هؤلاء سمّوا مشترين، بترك الهدى وأخذ الضلال من غير تكلّم بصيغة المبادلة، كما في «التيسير». فيكون دليلا لهم على أنّ من أخذ شيئا من غيره، وترك عليه عوضه برضاه فقد اشتراه وإن لم يتكلم.
﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ أي: (١) ما ربحت صفقتهم في هذه المعاوضة؛ أي:
(١) روح البيان.
185
ما ربحوا في تجارتهم ومعاوضتهم، وهذا ترشيح للمجاز؛ أي: ما ربحوا فيها، فإنّ الربح مسند إلى أرباب التجارة في الحقيقة، فإسناده إلى التجارة نفسها على الاتساع؛ لتلبّسها بالفاعل؛ أو لمشابهتها إياه من حيث إنها سبب الربح والخسران، ودخلت الفاء؛ لتضمّن الكلام معنى الشرط، تقديره: وإذا اشتروا فما ربحوا، كما في «الكواشي». والتجارة: صناعة التجار، وهو التصدّي بالبيع والشراء لتحصيل الربح، والربح: هو الفضل على رأس المال.
﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ إلى طريق التجارة، فإنّ المقصد منها سلامة رأس المال مع حصول الربح، ولئن فات الربح في صفقة، فربّما يتدارك في صفقة أخرى؛ لبقاء الأصل، وأمّا اتلاف الكلّ بالمرة، فليس من باب التجارة قطعا، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين؛ لأنّ رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف، فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم، واختلّ عقلهم، ولم يبق لهم رأس مال يتوسّلون به إلى درك الحق، ونيل الكمال، فبقوا خاسرين آيسين من الربح، فاقدين الأصل نائين عن طريق التجارة بألف منزل.
واعلم: أنّ المهتدي: هو الذي ترك الدنيا والعادة، ثمّ اشتغل بوظائف الطاعة والعبادة، لا من اتبع كلّ ما يهواه، وخلّط هواه بهداه.
فإن قلت (١): مقتضى هذه الآية: أنّ الهدى كان موجودا ثمّ دفعوه، وأخذوا الضلالة.
قلت: الأمر كذلك؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه» الحديث؛ ولأنّهم في العهد يوم ألست بربكم أجابوا بالإيمان جميعا؛ أو لأنّهم لمّا تمكنوا من الإيمان جعلوا كأنّ الهدى بأيديهم، فتركوه، وأخذوا الضلالة. فمثلهم، كمثل من عنده كنز عظيم ينفع في الدنيا والآخرة، فاستبدله بالنار؛ لأنّ الضلالة سبب النار.
وحاصل معنى الآيات: أي (٢) وإذا رأى المنافقون المؤمنين، واجتمعوا بهم
(١) الصاوي.
(٢) المراغي.
186
قالوا كذبا وبهتانا: آمنا كإيمانكم، وصدّقنا كتصديقكم، وإذا انفردوا بأمثالهم من دعاة الفتنة والإفساد قالوا لهم: إنّا على عقيدتكم، وموافقوكم على دينكم، وإنما نظهر لهم الإيمان استهزاء بهم؛ لنشاركهم في الغنائم، ونحفظ أموالنا، وأولادنا، ونساءنا من أيديهم، ونطّلع على أسرارهم ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾؛ أي: الله يجازيهم بالعقاب على استهزائهم، وسمّي هذا الجزاء استهزاء؛ للمشاكلة في اللفظ، كما سمّي جزاء السيئة سيئة، ويزيدهم في عتوهم وكفرهم، ويجعلهم حائرين متردّدين في الضلال؛ عقوبة لهم. ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾؛ أي: هؤلاء هم الذين رغبوا عن الهدى وسلوك الطريق المستقيم، ومالوا إلى الضلال، واشتروه، ولكن لم تكن تجارتهم رابحة إذ أضاعوا رأس المال، وهو ما كان لهم من الفطرة السليمة، والاستعداد لإدراك الحقائق ونيل الكمال،
فأصبحوا خاسرين آيسين من الربح، وإنّ من كانت هذه حالتهم فلا علم لهم بطرق التجارة، فإنّ التاجر إن فاته الربح في صفقة، فربّما تداركه في أخرى ما دام رأس المال موجودا، أما وقد فقد رأس المال فلا سبيل إلى الربح بحال.
١٧ - ولمّا بيّن الله سبحانه وتعالى قبائحهم وعاقبة أمرهم، شرع يضرب أمثالهم، ويبيّن فيها وصفهم وما هم عليه، فقال: ﴿مَثَلُهُمْ...﴾ إلخ، والمثل في الأصل: بمعنى النظير، ثمّ قيل: للقول السائر الممثل بمورده، كما ورد من غير تغيير، ولا يضرب إلّا بما فيه غرابة، ولذلك حوفظ عليه من التغيير، ثمّ استعير لكل حال، أو قصة، أو صفة لها شأن عجيب، وفيها غرابة، كقوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾، وقوله أيضا: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى﴾؛ أي: الوصف الذي له شأن من العظمة والجلال.
وعبارة «الروح»: ولمّا جاء الله بحقيقة حال المنافقين، عقّبها بضرب المثل؛ زيادة في التوضيح والتقرير، فإنّ التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبي، وقمع ثورة الجامح الأبيّ، كيف لا يلطف وهو إبداء للمنكر في صورة المعروف، وإظهار للوحشي في هيئة المألوف، وإراءة للمخيّل محقّقا، وللمعقول محسوسا، وتصوير للمعاني بصورة الأشخاص، ومن
187
ثمّ كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجليّ والغائب بالشاهد، ولأمر مّا أكثر الله سبحانه في كتبه الأمثال والعبر، وفي الإنجيل سورة تسمّى سورة الأمثال، وفي القرآن ألف آية من الأمثال والعبر، وهي في كلام الأنبياء عليهم السلام والعلماء والحكماء كثيرة، لا تحصى، ذكر السيوطي في «الإتقان» من أعظم علم القرآن أمثاله، والناس في غفلة عنه.
والمعنى (١): مثلهم؛ أي: حالهم وصفتهم العجيبة الشأن ﴿كَمَثَلِ الَّذِي﴾؛ أي: كحال الذين من باب وضع مفرد الموصول موضع الجمع منه؛ تخفيفا للكلام؛ لكونه مستطالا بصلته، كقوله: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا﴾، والقرينة ما قبله وما بعده، لكن إنّه وحّد الضمير في قوله: اسْتَوْقَدَ نارًا نظرا إلى صورة اللفظ، وجمع في الأفعال الآتية نظرا إلى المعنى. والاستيقاد: طلب الوقود، والسعي في تحصيله، وهو سطوع النور، وارتفاع لهبها. والنار: جوهر لطيف مضيء محرق حارّ، والنور ضوؤها وضوء كلّ نيّر، وهو نقيض الظلمة؛ أي: كمثل الذي أوقد في مفازة في ليلة مظلمة نارا عظيمة؛ خوفا من السباع وغيرها.
﴿فَلَمَّا أَضاءَتْ﴾ الإضاءة: فرط الإنارة كما يعرب عنه قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾. وقرأ ابن السميقع، وابن أبي عبلة ﴿فلما ضاءت﴾ ثلاثيا فيتخرّج على زيادة ما، أو على أن تكون هي الفاعلة، إما موصولة، أو موصوفة؛ أي: أنارت النار ﴿ما حَوْلَهُ﴾؛ أي: ما حول المستوقد من الأماكن والأشياء على أنّ ﴿ما﴾ مفعول ﴿أَضاءَتْ﴾ إن جعلته متعدّيا و (حول) نصب على الظرفية، وإن جعلته لازما، فهو مسند إلى ﴿ما﴾، والتأنيث؛ لأنّ ما حوله أشياء وأماكن، وأصل الحول: الدّوران، ومنه الحول للعام؛ لأنّه يدور. وجواب ﴿لما﴾ قوله سبحانه ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾؛ أي: أذهبه بالكلية، وأطفأ نارهم التي هي مدار نورهم. وإنّما علّق الإذهاب بالنور دون نفس النار؛ لأنّه المقصود بالاستيقاد. وقرأ اليمانيّ ﴿أذهب الله نورهم﴾، وهذا يدلّ على مرادفة الباء للهمزة في التعدية.
(١) روح البيان.
188
وإسناد الإذهاب إلى الله تعالى (١): إمّا لأنّ الكلّ بخلقه تعالى؛ وإما لأنّ الإنطفاء حصل بسبب خفي، أو أمر سماوي، كريح أو مطر؛ وإما للمبالغة، كما يؤذن به تعدية الفعل بالباء دون الهمزة؛ لما فيها من معنى الاستصحاب والإمساك، يقال: ذهب السلطان بماله إذا أخذه، وما أخذه الله تعالى وأمسكه، فلا مرسل له من بعده، ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى الظاهر إلى النور؛ لأنّ ذهاب الضوء قد يجامع بقاء النور في الجملة، لعدم استلزام عدم القوي، لعدم الضعيف، والمراد إزالته بالكلّية، كما يفصح عنه قوله تعالى: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾ فإنّ الظلمة هي عدم النور، وانطماسه بالمرة، لا سيّما إذا كانت متضاعفة متراكمة متراكبا بعضها فوق بعض، كما يفيده الجمع، والتنكير التفخيميّ، وما بعده من قوله: ﴿لا يُبْصِرُونَ﴾ لا يتحقّق إلّا بعد أن لا يبقى من النور عين ولا أثر. و (ترك) في الأصل بمعنى: طرح وخلّى، وله مفعول واحد، فضمّن معنى التصيير، فجرى مجرى أفعال القلوب؛ أي: صيّرهم ﴿فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾ ما حولهم. فعلى هذا يكون قوله: ﴿فِي ظُلُماتٍ﴾ وقوله: ﴿لا يُبْصِرُونَ﴾ مفعولين لصيّر بعد المفعول الأول على سنن الأخبار المتتابعة للمخبر عنه الواحد، وإن حمل معناه على الأصل يكونان حالين من المفعول، مترادفين، أو متداخلين.
والمعنى (٢): أنّ حالهم العجيبة التي هي اشتراؤهم الضلالة التي هي: عبارة عن ظلمتي الكفر والنفاق، المستتبعين لظلمة سخط الله تعالى، وظلمة يوم القيامة ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ﴾، وظلمة العقاب السرمدي بالهدى الذي هو الفطري النوري، المؤيّد بما شاهدوه من دلائل الحقّ، كحال من استوقد نارا عظيمة حتى كاد ينتفع بها، فأطفأها الله تعالى، وتركه في ظلمات هائلة لا يتسنى فيها الإبصار.
وقرأ الأعمش، والحسن، وأبو السماك ﴿ظلمات﴾ بإسكان اللام على الأصل. وقرأ أشهب العقيليّ بفتح اللام. وقرأ الجمهور بضمّ اللام. وهذه اللّغي
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
189
الثلاث جائزة في جمع فعلة الاسم الصحيح العين غير المضعّف، ولا المعل اللام بالياء.
وفي «التيسير والعيون»: إنّ المنافقين أظهروا كلمة الإيمان، فاستناروا بنورها، واستعزّوا بعزّها، وأمنوا بسببها، فناكحوا المسلمين، ووارثوهم، وقاسموهم الغنائم، وأمنوا على أموالهم وأولادهم، فإذا بلغوا إلى آخر العمر كلّ لسانهم عنها، وبقوا في ظلمة كفرهم أبد الآباد، وعادوا إلى الخوف والظلمة.
وعبارة «العمدة» هنا: ﴿مَثَلُهُمْ﴾؛ أي: صفة هؤلاء المنافقين في نفاقهم وحالهم الشنيعة، كصفة الشخص الذي أوقد نارا ليستدفىء بها، ويستضيء.
﴿فَلَمَّا﴾ اتقدت تلك النار، ﴿وأَضاءَتْ﴾؛ أي: أنارت له ﴿ما حَوْلَهُ﴾ أي: المكان الذي حوله، فأبصر، واستدفأ، وأمن مما يخافه من عدوّ، وسباع، وحيّات، وغير ذلك مما يضرّه، وتمّ له النفع بها، أطفأ الله تلك النار، و ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾؛ أي: أذهب الله، وأعدم نور نارهم وضوءها، ﴿وَتَرَكَهُمْ﴾؛ أي: خلّاهم، وصيّرهم ﴿فِي ظُلُماتٍ﴾ ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة السحاب والريح مع المطر حالة كونهم ﴿لا يُبْصِرُونَ﴾ ما حولهم متحيّرين عن الطريق خائفين.
فكذلك هؤلاء المنافقون أمنوا على أنفسهم، وأولادهم، وأموالهم من القتل والسبي، وانتفعوا بأخذ الغنائم والزكاة، حيث أسلموا بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، فإذا ماتوا فقد ذهب الله بنورهم، فلم يؤمنوا من النار، ولم ينتفعوا بالجنة، وتركهم في ظلمات ثلاث:
ظلمة الكفر، والنفاق، والقبر، والجامع بينهما قلّة الانتفاع، ودفع المضار في كلّ منهما.
١٨ - ﴿صُمٌّ﴾ أي: هم صمّ عن الحقّ، لا يقبلونه، وإذا لم يقبلوا، فكأنّهم لم يسمعوا. والصمم: انسداد خروق المسامع، بحيث لا يكاد يصل إليها هواء يحصل الصوت بتموجه. والصّمّ: جمع أصمّ وهو من انسدّت خروق مسامعه.
وقرأ ابن مسعود، وحفصة أمّ المؤمنين (١): ﴿صمّا بكما عميا﴾ بالنصب على الذمّ
(١) الشوكاني.
في الثلاثة، ويجوز أن ينتصب بقوله: ﴿تَرَكَهُمْ﴾.
﴿بُكْمٌ﴾؛ أي: خرس عن نطق الحقّ، لا يقولونه لمّا أبطنوا خلاف ما أظهروا، فكأنّهم لم ينطقوا. وهو جمع أبكم، والأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل: الأبكم والأخرس كلاهما بمعنى واحد، والبكم: آفة في اللسان يمنع اعتماد الصوت على مخارج الحروف.
﴿عُمْيٌ﴾؛ أي: فاقدوا الأبصار عن النظر الموصل إلى العبرة التي تؤدّيهم إلى الهدى، وفاقدوا البصيرة أيضا؛ لأن من لا بصيرة له كمن لا بصر له. فالعمى هنا مستعمل في عدم البصر والبصيرة جميعا، والعمى: فقدان البصر خلقة كان أم لا. والكلام في كل من الثلاثة على التشبيه البليغ، كما سيأتي. وهذه صفاتهم في الدنيا، ولذلك عوقبوا في الآخرة بجنسها. قال تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾، فلا يسمعون سلام الله، ولا يخاطبون الله، ولا يرونه، والمسلمون كانوا سامعين للحقّ قائلين بالحق، ناظرين إلى الحقّ، فيكرمون يوم القيامة بخطابه، ولقائه، وسلامه.
﴿فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾؛ أي: هم بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة لا يعودون عن الضلالة إلى الهدى الذي تركوه، وضيّعوه، وباعوه. أو لا يرجعون عمّا هم عليه من الغيّ، والضلال، والفساد. والفاء: للدلالة على أنّ اتصافهم بالأحكام السابقة سبب تحيّرهم واحتباسهم. وهذه الآية فذلكة التمثيل ونتيجته، وأفادت أنّهم كانوا يستطيعون الرجوع باستطاعة سلامة الآلات، حيث استحقّوا الذمّ بتركه، وأنّ قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ ليس بنفي الآلات، بل هو نفي تركهم استعمالها.
١٩ - ثمّ ذكر الله سبحانه وتعالى مثلا آخر لهم؛ زيادة في الكشف والإيضاح، فقال: ﴿أَوْ﴾ مثلهم في حيرتهم وترددهم ويصحّ أن تكون ﴿أَوْ﴾ للتنويع، أو للإبهام، أو للشكّ، أو الإباحة، أو التخيير، أو الإضراب، أو بمعنى الواو، وأحسنها الأول. قال الشوكاني عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك؛ لقصد التخيير بين المثلين؛ أي: مثّلوهم بهذا أو هذا، وهي وإن كانت في الأصل
191
للشكّ، فقد توسّع فيها حتى صارت لمجرد التساوي من غير شكّ. وقيل: إنّها بمعنى الواو، قاله الفرّاء، وغيره. انتهى. وقوله: ﴿كَصَيِّبٍ﴾ على حذف مضاف؛ أي: صفتهم وحالهم في تردّدهم وحيرتهم، كصفة وحال أصحاب صيّب؛ أي: مطر يصوب؛ أي: ينزل من السماء، ويقع على الأرض من الصوب، وهو النزول. أصله: صيوب نظير سيّد، كما سيأتي. والكاف مرفوع المحل، معطوف على الكاف الذي في قوله: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾. و ﴿أَوْ﴾ للتخيير والتساوي.
أي: (١) كيفية قصة المنافقين شبيهة بكيفية هاتين القصتين، والقصتان سواء في استقلال كلّ واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعا فكذلك. وقرىء أو كصايب وهو اسم فاعل من صاب يصوب، وصيب أبلغ من صائب،
ذكره في «البحر».
وقوله: ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ متعلّق بصيّب؛ أي: كأصحاب مطر نازل من السماء.
والسماء: سقف الدنيا، وتعريفها للإيذان بأنّ انبعاث الصيّب ليس من أفق واحد، فإنّ كلّ أفق من آفاقها؛ أي: كلّ ما يحيط به كلّ أفق منها سماء على حدة.
والمعنى: أنّه صيّب عامّ نازل من غمام مطبق، آخذ بآفاق السماء. وفيه أنّ السحاب من السماء ينحدر، ومنها يأخذ ماؤه، لا كزعم من يزعم أنّه يأخذه من البحر.
قال الإمام: من الناس من قال: المطر إنما يتحصّل عن ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء، فينعقد هناك من شدّة برد الهواء، ثمّ ينزل مرة أخرى، وأبطل الله ذلك المذهب هنا، بأن بيّن أنّ ذلك الصيب نزل من السماء.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّ تحت العرش بحرا ينزل منه أرزاق الحيوانات، يوحي إليه فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء، حتى ينتهي إلى سماء الدنيا، ويوحي إلى السحاب أن غربله، فيغربله، فليس من قطرة تقطر، إلّا ومعها ملك يضعها موضعها، ولا ينزل من السماء قطرة، إلّا بكيل معلوم، ووزن
(١) روح البيان.
192
معلوم، إلّا ما كان من يوم الطوفان من ماء، فإنّه نزل بلا كيل ولا وزن، كذا في تفسير «التيسير».
قال الشوكاني (١): وفائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه لا يكون إلّا منها:
أنّه لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب. وإطلاق السماء على المطر واقع كثيرا في كلام العرب، ومنه قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
﴿فِيهِ﴾ أي: في ذلك الصيّب ﴿ظُلُماتٌ﴾؛ أي: أنواع من ظلمات، وهي ظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر، وظلمة إظلال ما يلزمه من الغمام المطبق الآخذ بالآفاق مع ظلمة الليل وليس في الآية ما يدلّ على ظلمة الليل،
٢٠ - لكن يمكن أن يؤخذ ظلمة الليل من سياق الآية، حيث قال تعالى بعد هذه الآية: ﴿يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ﴾ وبعده ﴿وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا﴾. فإنّ خطف البرق البصر، إنما يكون غالبا في ظلمة الليل، وكذا وقوف الماشي عن المشي، إنما يكون إذا اشتدت ظلمة الليل، بحيث يحجب الأبصار عن إبصار ما هو أمام الماشي من الطريق وغيره، وظلمة سحمة السحاب وتكاثفه في النهار، لا يوجب وقوف الماشي عن المشي. وجعل (٢) المطر محلّا للظلمات، مع أنّ بعضها لغيره، كظلمة الغمام والليل؛ لما أنّهما جعلتا من توابع ظلمته مبالغة في شدّته، وتهويلا لأمره، وإيذانا بأنّه من الشدة والهول، بحيث تغمر ظلمته ظلمات الليل والغمام.
﴿وَرَعْدٌ﴾ هو صوت قاصف شديد يسمع من السحاب، والصحيح الذي عليه المعوّل: أنّه اسم لصوت الملك الذي يزجر السحاب، لما روى الترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سألت اليهود النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الرعد ما هو؟ قال:
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
193
«ملك من الملائكة بيده مخاريق» جمع مخراق: آلة تزجر الملائكة بها السحاب مثل السوط من نار، «يسوق بها السحاب حيث شاء الله»، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر»، قالت: صدقت. الحديث بطوله، وفي إسناده مقال. فالمراد بالرعد في هذه الآية: صوت ذلك الملك لا عينه، كما في بعض الروايات: من أنّ الرعد: ملك موكل بالسحاب يصرفه إلى حيث يؤمر، وأنّه يجوز الماء في نقرة إبهامه، وأنّه يسبّح الله، فإذا سبّح الله لا يبقى ملك في السماء إلّا رفع صوته بالتسبيح، فعندها ينزل المطر.
قال القرطبيّ: وعلى هذا التفسير أكثر العلماء، والمشهور عند الحكماء: أنّ الرعد يحدث من اصطكاك أجرام السحاب بعضها ببعض، أو من إقلاع بعضها عن بعض عند اضطرابها بسوق الرياح إياها سوقا عنيفا، وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعا للفلاسفة، وجهلة المتكلمين.
﴿وَبَرْقٌ﴾ وهو لمعان يظهر من السحاب إذا تحاكّت أجزاؤه، أو عند ضرب الملك السحاب بالمخاريق عند سوقه، وهي جمع مخراق، كما مرّ آنفا، والمخراق في الأصل: ثوب يلفّ، ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا، وهي هنا: آلة تزجر بها الملائكة السحاب. وكونهما؛ أي: الرعد والبرق في الصيّب مع أنّ مكانهما السحاب، باعتبار كونهما في أعلاه ومنصبّه، وملتبسين في الجملة ووصول أثرهما إليه، فهما فيه.
والضمائر في قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ﴾ للمضاف المحذوف في قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ لأنّ التقدير: أو كأصحاب صيّب، كما مرّ. وهو وإن حذف لفظه وأقيم الصيب مقامه، لكن معناه باق، فيجوز أن يعود عليه الضمير، ولا محلّ لهذه الجملة؛ لكونها مستأنفة استئنافا بيانيا، لأنّه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن الشدة والهول، فكأنّ قائلا قال: كيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون أصابعهم في آذنهم، والمراد: أناملهم، وفيه من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل، كأنّهم يدخلون من شدّة الحيرة أصابعهم كلّها في آذانهم لا أناملها
194
فحسب، كما هو المعتاد. ويجوز (١) أن يكون هذا إيماء إلى كمال حيرتهم، وفرط دهشتهم، وبلوغهم إلى حيث لا يهتدون إلى استعمال الجوارح على النهج المعتاد، وكذا الحال في عدم تعيين الأصبع المعتاد؛ أعني: السبّابة. وقيل: لرعاية الأدب؛ لأنّها فعّالة من السبّ، فكأن اجتنابها أولى بآداب القرآن. ألا ترى أنّهم قد استبشعوها فكنوا عنها بالمسبحة والمهلّلة، وغيرهما، ولم يذكر من أمثال هذه الكنايات؛ لأنّها ألفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد.
وإطلاق الأصبع على بعضها - وهو الأنملة - مجاز مشهور، والعلاقة الجزئية والكلية؛ لأنّ الذي يجعل في الأذن، إنما هو رأس الأصبع لا كلها.
وقوله: ﴿مِنَ الصَّواعِقِ﴾ متعلّق بيجعلون؛ أي: يجعلون من أجل خوف الصواعق المقارنة للرعد. والصواعق (٢): ويقال لها: الصواقع، جمع صاعقة، وهي قطعة نار، تنفصل من مخراق الملك الذي يزجر السحاب عند غضبه على السحاب وشدة ضربه لها، كما روي: إذا اشتدّ غضبه على السحاب طارت من فيه النار، فتضطرب أجرام السحاب، وترتعد. اه. «كرخي».
ويدلّ على ذلك: ما في حديث ابن عباس الذي ذكرنا بعضه قريبا، وبه قال كثير من علماء الشريعة، ومنهم من قال: إنها نار تخرج من فم الملك، وقال الخليل: هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحيانا قطعة نار، تحرق ما أتت عليه. وقال أبو زيد: الصاعقة: نار تسقط من السماء في رعد شديد، وقال بعض المفسرين تبعا للفلاسفة: ومن قال بقولهم: إنّها نار لطيفة
تنقدح من السحاب إذا اصطكّت أجرامها، وسيأتي في (سورة الرعد) إن شاء الله تعالى في تفسير الرعد، والبرق، والصواعق، ماله مزيد فائدة وإيضاح.
وقوله: ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ منصوب (٣) بيجعلون على أنّه مفعول لأجله؛ أي:
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) البروسوي.
195
يجعلونها في آذانها؛ لأجل مخافة الهلاك من سماعها. والموت: فساد بنية الحيوان، أو عرض لا يصحّ معه إحساس معاقب للحياة.
﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ﴾ أصل الإحاطة: الإحداق بالشيء من جميع جهاته، بحيث لا يفوت المحاط به المحيط بوجه من الوجوه؛ أي: والله سبحانه محيط محدق ﴿بِالْكافِرِينَ﴾ بعلمه وقدرته، لا يفوتونه، كما لا يفوت المحاط به المحيط حقيقة، فيحشرهم يوم القيامة، ويعذّبهم، وهذه الجملة اعتراضية منبهة، على أنّ ما صنعوا من سدّ الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئا، فإنّ القدر لا يدافعه الحذر، والحيل لا تردّ بأس الله عز وجلّ. وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير الراجع إلى أصحاب الصيّب؛ الإيذان بأنّ ما دهمهم من الأمور الهائلة المحكية بسبب كفرهم.
وحاصل معنى الآية (١): صفة هؤلاء المنافقين في حيرتهم ودهشتهم، كصفة أصحاب مطر شديد نازل من السماء ﴿فِيهِ ظُلُماتٌ﴾؛ أي: مع ذلك المطر ظلمات متكاثفة مجتمعة من ثلاثة أنواع: ظلمة السحاب، وظلمة المطر، وظلمة الليل.
﴿وَ﴾ معه ﴿رَعْدٌ﴾ قاصف؛ أي: شديد، وهو صوت الملك الموكل بالسحاب، ﴿وَ﴾ معه ﴿بَرْقٌ﴾ خاطف؛ أي: مسرع، وهو لمعان سوطه التي يسوق بها السحاب، وهي من نار ﴿يَجْعَلُونَ﴾؛ أي: يجعل أصحاب الصيّب أصابعهم؛ أي: رؤوس أصابعهم ويضعونها في آذانهم ﴿مِنَ الصَّواعِقِ﴾؛ أي: من أجل شدّة صوت الرعد. ف (أل) في ﴿الصَّواعِقِ﴾ للعهد الذكري؛ لأنّه تقدم ذكرها بعنوان الرعد، فهي عين الرعد السابق، فالتعبير هنا بالصواعق، وهناك بالرعد؛ للتفنّن، ولا يضرّ في العهد الذكري اختلاف العنوان، كما هو مقرر في محلّه، كما في «الجمل». ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾؛ أي: لأجل خوف الموت والهلاك من سماعها. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ﴾؛ أي: محيط بهم بقدرته وعلمه، وهم في قبضته، وتحت إرادته ومشيئته، لا يفوتونه، كما لا يفوت من أحاط به الأعداء من كلّ جانب.
(١) عمدة التفاسير.
196
والمعنى: أي والله مطّلع على أسرارهم، عالم بما في ضمائرهم، قادر على أخذهم أينما كانوا، فما صنعوا من سدّ الآذان بالأصابع لا يغني عنهم من الله شيئا، إذ لا يغني حذر من قدر، فمن لم يمت بالصاعقة مات بغيرها.
وقوله: ﴿يَكادُ الْبَرْقُ﴾ من تمام المثل، وأمّا قوله: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ﴾ فجملة معترضة بين أجزاء المشبّه به، كما مرّ قريبا، جيء بها تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أي: يقرب البرق لشدّته وقوته، وكثرة لمعانه ﴿يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ﴾؛ أي: يختلس أبصار أصحاب الصيّب ويستلبها، ويأخذها بسرعة، ويذهبها من شدّة ضوئه.
وجملة يكاد مستأنفة استئنافا بيانيا، واقعا في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل:
فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: يكاد ذلك البرق يخطف أبصارهم.
وقرأ مجاهد، وعليّ بن الحسين، ويحيى بن زيد (١): ﴿يَخْطَفُ﴾ بسكون الخاء وكسر الطاء. قال ابن مجاهد: وأظنه غلطا، واستدل على ذلك: بأنّ أحدا لم يقرأ ﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ﴾ بالفتح. وقال الزمخشري: الفتح - يعني في المضارع - أفصح. انتهى. والكسر في طاء الماضي لغة قريش، وهي أفصح، وبعض العرب يقول: خطف بفتح الطاء يخطف بالكسر. قال ابن عطيّة: ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن، وأبي رجاء، وذلك وهم. وقرأ علي، وابن مسعود ﴿يختطف﴾. وقرأ أبيّ ﴿يتخطّف﴾، وقرأ الحسن أيضا ﴿يخطّف﴾ بفتح الياء والخاء والطاء المشددة. وقرأ الحسن أيضا، والجحدري، وابن أبي إسحاق ﴿يخطّف﴾ بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة، وأصله: ﴿يختطف﴾، وقرأ الحسن أيضا، وأبو رجاء، وعاصم، والجحدري وقتادة ﴿يخطّف﴾ بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وقرأ أيضا الحسن، والأعمش ﴿يخطّف﴾ بكسر الثلاثة وتشديد الطاء. وقرأ زيد بن علي ﴿يخطّف﴾ بضمّ الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة، من (خطّف) المضعف، وهو تكثير مبالغة لا تعدية. وقرأ بعض أهل المدينة ﴿يخطّف﴾ بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الطاء المكسورة.
(١) البحر المحيط.
197
والتحقيق: أنّه اختلاس لفتحة الخاء لا إسكان؛ لأنّه يؤدّي إلى التقاء الساكنين على غير حدّة، فهذا الحرف قرىء عشر قراءات، واحدة سبعيّة، وهي ﴿يَخْطَفُ﴾ بفتح الياء وسكون الخاء وفتح الطاء، وباقيها شواذّ. ﴿كُلَّما أَضاءَ﴾ ولمع البرق ﴿لَهُمْ﴾ أي: لأصحاب الصيّب. ولفظ (١) ﴿كُلَّما﴾ ظرف زمان، ضمّن معنى الشرط، والعامل فيه جوابه، وهو ﴿مَشَوْا﴾. و ﴿أَضاءَ﴾ متعد؛ أي: كلّما أنار البرق الطريق في الليلة المظلمة، وهو استئناف ثالث، كأنّه قيل: كيف يصنعون في تارتي خفوق البرق وخفيته؟ أيفعلون بأبصارهم ما يفعلون بآذانهم أم لا؟ فقيل: كلّما نوّر البرق لهم ممشى ومسلكا ﴿مَشَوْا فِيهِ﴾؛ أي: في ذلك المسلك؛ أي: في مطرح نوره خطوات يسيرة مع خوف أن يخطف أبصارهم، وإيثار المشي على ما فوقه من السعي والعدو؛ للإشعار بعدم استطاعتهم لهما لكمال دهشتهم.
وهذا تمثيل لشدّة الأمر على المنافقين بشدّته على أهل الصيّب. وفي مصحف ابن مسعود: ﴿مضوا فيه﴾.
﴿وَإِذا أَظْلَمَ﴾ البرق ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: خفي، واستتر، فصار الطريق مظلما ﴿قامُوا﴾؛ أي: وقفوا في أماكنهم، وثبتوا على ما كانوا عليه من الهيئة، متحيّرين، مترصّدين لحظة أخرى عسى يتسنّى لهم الوصول إلى المقصد، أو الالتجاء إلى ملجأ يعصمهم. وقرأ زيد بن قطيب، والضحاك ﴿وَإِذا أَظْلَمَ﴾ مبنيا للمفعول، ذكره في «البحر».
وهذا تصوير (٢) لما هم فيه من غاية التحير والجهل، فإذا صادفوا من البرق لمعة، مع خوفهم أن يخطف أبصارهم انتهزوها فرصة، فيخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي، واستتر، وفتر لمعانه، وفقد: وقفوا عن السّير، وثبتوا في مكانهم؛ خشية التردّي في حفرة، فكذلك المنافقون لمّا آمنوا بألسنتهم مشوا فيما بين المؤمنين؛ لأنّه يقبل إيمانهم اللسانيّ، فلما ماتوا بقوا في ظلمة القبر والعذاب.
(١) روح البيان.
(٢) العمدة.
198
﴿وَلَوْ شاءَ اللَّهُ﴾ مفعوله (١) محذوف، تقديره: أي: ولو أراد الله سبحانه أن يذهب الأسماع التي في الرأس، والأبصار التي في العين، كما ذهب بسمع قلوبهم وأبصارها ﴿لَذَهَبَ﴾؛ أي: لأذهب سبحانه ﴿بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ﴾؛ أي: لأذهب الأسماع بصوت الرعد، والأبصار بنور البرق عقوبة لهم؛ لأنّه لا يعجز عن ذلك؛ أي: لزاد في قصف الرعد، فأصمّهم، وأذهب أسماعهم، ولزاد في ضوء البرق فأعماهم، وأذهب بأبصارهم، لكنّه لم يشأ؛ لحكم ومصالح هو بها عليم.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ شاءه وأراده؛ أي: على كلّ موجود بالإمكان، والله تعالى وإن كان يطلق عليه الشيء، لكنه موجود بالوجوب دون الإمكان، فلا يشكّ العاقل، أنّ المراد من الشيء في أمثال هذا الموضع ما سواه تعالى، فالله تعالى مستثنى في الآية مما يتناوله لفظ الشيء بدلالة العقل، فالمعنى: على كلّ شيء سواه قدير، كما يقال: فلان أمين، على معنى: أمين على من سواه من الناس، ولا يدخل فيه نفسه، وإن كان من جملتهم، كما في «حواشي ابن التمجيد». ﴿قَدِيرٌ﴾؛ أي: فاعل له على قدر ما تقتضيه حكمته لا ناقصا ولا زائدا؛ أي: قادر على إيجاده وإعدامه لا منازع له فيه، ومنه إذهاب أسماعهم وأبصارهم. قال ابن جرير: وإنّما وصف تعالى نفسه بالقدرة على كلّ شيء في هذا الموضع؛ لأنّه حذّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنّه محيط بهم، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قادر. اه.
وقرأ ابن أبي عبلة (٢): ﴿لأذهب بأسماعهم وأبصارهم﴾، فالباء زائدة، التقدير: لأذهب أسماعهم وأبصارهم.
ثمّ اعلم (٣): أنّ هذا التمثيل كشف بعد كشف، وإيضاح بعد إيضاح، أبلغ
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
199
من الأوّل. شبّه الله حال المنافقين في حيرتهم، وما خبطوا فيه من الضلالة، وشدّة الأمر عليهم، وخزيهم، وافتضاحهم بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد، وبرق، وخوف من الصواعق والموت.
هذا إذا كان التمثيل مركبا، وهو الذي يقتضيه جزالة التنزيل، فإنّك تتصوّر في المركّب، الهيئة الحاصلة من تفاوت تلك الصور، وكيفياتها المتضامّة، فيحصل في النفس منه ما لا يحصل من المفردات، كما إذا تصوّرت من مجموع الآية، مكابدة من أدركه الوابل الهطل، مع تكاثف ظلمة الليل وهيئة انتساج السحاب بتتابع القطر، وصوت الرعد الهائل، والبرق الخاطف، والصاعقة المحرقة، ولهم من خوف هذه الشدائد حركات من تحذّر الموت. حصل لك منه أمر عجيب، وخطب هائل، بخلاف ما (١) إذا تكلّفت لواحد واحد مشبّها به.
يعني: إن حمل التمثيل على التشبيه المفرّق، فشبه القرآن، وما فيه من العلوم والمعارف التي هي مدار الحياة الأبدية بالصيّب الذي هو سبب الحياة الأرضية، وما عرض لهم بنزوله من الغموم، والأحزان، وانكساف البال بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد، بالرعد والبرق، وتصاممهم عمّا يقرع أسماعهم من الوعيد، بحال من يهوّله الرعد والبرق، فيخاف صواعقه، فيسد أذنه، ولا خلاص له منها، واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه، أو رفد يحرزونه، بمشيهم في مطرح ضوء البرق، كلما أضاء لهم،
وتحيرهم في أمرهم، حين عنّ لهم مصيبة بوقوفهم إذا أظلم عليهم. فهذه حال المنافقين، قصارى عمرهم الحيرة والدهشة. فعلى العاقل أن يتمسّك بحبل الشرع القويم، والصراط المستقيم، كي يتخلّص من الغوائل والقيود، ومهالك الوجود، وغاية الأمر خفيّة لا يدري بم يختم.
الإعراب
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿وَمِنَ﴾ الواو استئنافية. ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنَ﴾ اسم
(١) البروسوي.
200
موصول بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة بمعنى فريق، في محل الرفع مبتدأ مؤخّر.
﴿يَقُولُ﴾ فعل مضارع وفاعله مستتر، يعود على من، وجملة يقول صلة من الموصولة، لا محلّ لها من الإعراب، إن قلنا: ﴿مِنَ﴾ موصولة، تقديره: والذي يقول آمنا بالله كائن من الناس. أو في محل الرفع صفة لمن، إن قلنا: ﴿مِنَ﴾ نكرة موصوفة، تقديره: وفريق يقول آمنا بالله كائن من الناس. والعائد أو الرابط الضمير المستتر في ﴿يَقُولُ﴾. وردّه (١) أبو السعود فقال: أمّا جعل الظرف خبرا مقدما، كما هو الشائع في الاستعمال، فيأباه جزالة معنى القرآن؛ لأنّ كون القائل: آمنا بالله من الناس ظاهر معلوم، فالإخبار به عار عن الفائدة، والحقّ أن يقال في إعرابه: ﴿مِنَ﴾ اسم بمعنى: بعض في محل الرفع مبتدأ، مبني بسكون مقدر؛ لشبهها بالحرف شبها وضعيا، و ﴿مِنَ﴾ مضاف. ﴿النَّاسِ﴾ مضاف إليه مجرور بها. ﴿مَنْ يَقُولُ﴾ من اسم موصول، أو موصوف في محل الرفع خبر المبتدأ، ولكن المقصود بالإخبار الصلة لا الموصول، والمعنى: وبعض الناس يقول آمنا بالله وباليوم الآخر الخ. والجملة الإسمية على كلا التقديرين مستأنفة استئنافا نحويا، لا محل لها من الإعراب. ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ مقول محكيّ ليقول، لأنّ مرادنا لفظه لا معناه، والمقول منصوب بالقول، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الأخير، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية. وإن شئت قلت: ﴿آمَنَّا﴾ فعل وفاعل، وحدّ الفعل آمن، آمن فعل ماض مبني بفتحة ظاهرة على النون المدغمة في نون نا. ﴿نا﴾ ضمير لجماعة المتكلمين في محل الرفع فاعل. ﴿بِاللَّهِ﴾ جار ومجرور متعلّق بآمنا، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ليقول. ﴿وَبِالْيَوْمِ﴾ جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله.
﴿الْآخِرِ﴾ صفة لليوم. ﴿وَما﴾ الواو حالية. ﴿ما﴾ نافية حجازية، تعمل عمل ليس.
﴿هُمْ﴾ ضمير منفصل لجماعة الغائبين في محل الرفع اسمها. ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾ الباء حرف جرّ زائد للتوكيد؛ لأنّه ليس في القرآن حرف زائد خال عن الفائدة.
﴿مؤمنين﴾ خبر ما الحجازية، منصوب وعلامة نصبة الباء المقدرة، منع من
(١) الصاوي والجمل.
201
ظهورها الياء المجلوبة لحرف جرّ زائد؛ لأنّه من الجمع المذكر السالم، والجملة الإسمية في محل النصب حال من فاعل يقول.
﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ﴾.
﴿يُخادِعُونَ﴾ فعل مضارع مرفوع بثبات النون، والواو فاعل. ﴿اللَّهَ﴾ مفعول به، منصوب بالفتحة، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافا بيانيا؛ لوقوعها في جواب سؤال مقدر، كأنّه قيل: ما الحامل لهم على إظهار الإيمان وإخفاء الكفر؟ فأجاب بقوله: لأنّهم يريدون مخادعة الله سبحانه والمؤمنين. أو بدل من صلة من في قوله: ﴿مَنْ يَقُولُ﴾ بدل اشتمال؛ لأنّ قولهم ذلك مشتمل على الخداع؛ أي: ومن الناس من يقول آمنا بالله ويخادع الله والذين آمنوا. ﴿وَالَّذِينَ﴾ اسم موصول للجمع المذكر في محل النصب معطوف على الجلالة، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول.
﴿وَما﴾ الواو حالية. ﴿ما﴾ نافية. ﴿يَخْدَعُونَ﴾ فعل وفاعل، مرفوع بثبات النون، والجملة في محل النصب حال من فاعل يخادعون؛ أي: يخادعون الله والمؤمنين حال كونهم غير مخادعين إلّا أنفسهم. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ مفعول به، وهو مضاف، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. ﴿وَما﴾ الواو حالية، أو استئنافية، أو عاطفة. ما نافية. ﴿يَشْعُرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل يخدعون؛ أي: وما يخدعون إلّا أنفسهم حالة كونهم غير شاعرين بذلك، أو مستأنفة، أو معطوفة على جملة يخدعون، ومفعول ﴿يَشْعُرُونَ﴾ محذوف للعلم به، تقديره: وما يشعرون أنّ خداعهم راجع إلى أنفسهم، ويسمّى هذا الحذف حذف اختصار. وهو حذف الشيء لدليل.
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾.
﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، خبر مقدم. ﴿مَرَضٌ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، لا محل لها من الإعراب. ﴿فَزادَهُمُ اللَّهُ﴾ الفاء عاطفة. ﴿زادهم الله﴾ فعل ومفعول أول وفاعل. ﴿مَرَضًا﴾ مفعول ثان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ عطف فعلية على اسمية. ويحتمل أن تكون الفاء استئنافية، وتكون جملة ﴿زادهم﴾ جملة دعائية لا
202
محل لها من الإعراب. ﴿وَلَهُمْ﴾ الواو عاطفة، أو استئنافية. ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم.
﴿عَذابٌ﴾ مبتدأ مؤخّر. ﴿أَلِيمٌ﴾ صفة له، والجملة معطوفة على جملة قوله في قلوبهم مرض، أو مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنّه قيل: ما عاقبة خداعهم؟ فقال: عاقبتهم عذاب أليم. ﴿بِما﴾ الباء حرف جرّ وسبب. ﴿ما﴾ مصدرية. ﴿كانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَكْذِبُونَ﴾ في محل النصب خبر كان؛ أي: بما كانوا كاذبين أو مكذبين، وجملة كان صلة (ما) المصدرية، وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالياء؛ أي: بسبب كذبهم أو تكذيبهم، الجار والمجرور متعلّق بالنسبة الكائنة بين المبتدأ والخبر في قوله: ولهم عذاب أليم، أو صفة ثانية لعذاب.
﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢)﴾.
﴿وَإِذا﴾ الواو استئنافية، أو عاطفة. ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه، منصوب بجوابه متعلّق بالجواب الآتي. ﴿قِيلَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلّق بقيل. ﴿لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ نائب فاعل محكي لقيل؛ لأنّ مرادنا لفظه لا معناه، وإن شئت قلت: ﴿لا﴾ ناهية جازمة.
﴿تُفْسِدُوا﴾ فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلّق بتفسدوا، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لقيل، ولكنّها لا تؤول بمفرد؛ لأنّها محكية، وجملة قيل في محل الجرّ مضاف لإذا على كونها فعل شرط لها. ﴿قالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب إذا، لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة، أو معطوفة على جملة يقول الواقعة صلة لمن الموصولة. ﴿إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ مقول محكيّ لقالوا، منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الأخير منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّما﴾ أداة حصر ونفي بمعنى (ما) النافية، وإلّا المثبتة. ﴿نَحْنُ﴾ ضمير لجماعة المتكلمين في محل الرفع مبتدأ. مُصْلِحُونَ خبر مرفوع بالواو، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لقالوا. ﴿أَلا﴾ حرف استفتاح وتنبيه.
﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه. ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل حرف لا محل له من الإعراب، أو
203
حرف عماد. ﴿الْمُفْسِدُونَ﴾ خبر إنّ مرفوع بالواو. أو ﴿هُمُ﴾ مبتدأ. ﴿الْمُفْسِدُونَ﴾ خبره، وجملة المبتدأ مع خبره في محل الرفع خبر إنّ، وجملة إن مستأنفة.
﴿وَلكِنْ﴾ الواو عاطفة. ﴿لكِنْ﴾ حرف استدراك لا عمل لها. ﴿لا﴾ نافية.
﴿يَشْعُرُونَ﴾ فعل وفاعل، مرفوع بثبات النون، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة إنّ.
﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَإِذا﴾ الواو استئنافية، أو عاطفة. ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه، متعلّق بالجواب الآتي. ﴿قِيلَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، مبني على الفتح. ﴿لَهُمْ﴾ متعلّق بقيل. ﴿آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ﴾ نائب فاعل محكي لقيل؛ لأنّ مرادنا لفظه لا معناه، مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الأخير منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، وجملة قيل في محل الجرّ مضاف إليه لإذا على كونه فعل شرط لها. وإن شئت قلت: ﴿آمِنُوا﴾ فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لقيل، ولكنّها لا تؤوّل؛ لأنّها محكية. ﴿كَما﴾ الكاف حرف جرّ وتشبيه.
﴿ما﴾ مصدرية. ﴿آمَنَ النَّاسُ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لما المصدرية، وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: آمنوا إيمانا كائنا، كإيمان الناس في كونه قلبيّا لا لسانيّا. ﴿قالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب إذا، لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة، أو معطوفة على جملة يقول كسابقتها. ﴿أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ مفعول محكي لقالوا، منصوب بفتحة مقدرة. وإن شئت قلت: الهمزة للاستفهام الإنكاري.
نُؤْمِنُ فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر يعود على المنافقين، تقديره:
نحن، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قالوا. ﴿كَما﴾ الكاف حرف جرّ وتشبيه. ﴿آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لما المصدرية، وما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور متعلّق بمحذوف صفة لمصدر
204
محذوف، تقديره: أنؤمن إيمانا كائنا كإيمان السفهاء؛ أي: لا نؤمن. ﴿أَلا﴾ حرف استفتاح وتنبيه. ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه. ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل، أو حرف عماد. ﴿السُّفَهاءُ﴾ خبر إنّ أو ﴿هُمُ﴾ مبتدأ. و ﴿السُّفَهاءُ﴾ خبره، والجملة خبر إنّ، وجملة إنّ مستأنفة. ﴿وَلكِنْ﴾ الواو عاطفة. ﴿لكِنْ﴾ حرف استدراك. ﴿لا﴾ نافية. ﴿يَعْلَمُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة إنّ.
﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ﴾.
﴿وَإِذا﴾ الواو استئنافية أو عاطفة. ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان.
﴿لَقُوا الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلّق بالجواب الآتي، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، وجملة ﴿قالُوا﴾ جواب إذا، لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة، أو معطوفة على جملة يقول كسوابقها. ﴿آمَنَّا﴾ مقول محكيّ لقالوا منصوب بفتحة مقدرة، وإن شئت قلت: ﴿آمَنَّا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول قالوا. ﴿وَإِذا﴾ الواو استئنافية أو عاطفة. ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان متعلّق بالجواب الآتي. ﴿خَلَوْا﴾ فعل وفاعل في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿إِلى شَياطِينِهِمْ﴾ متعلّق بخلوا. ﴿قالُوا﴾ فعل وفاعل، جواب إذا، وجملة إذا مستأنفة، أو معطوفة على جملة يقول كسوابقها.
﴿إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ﴾ مقول محكيّ لقالوا، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿مَعَكُمْ﴾ مع منصوب على الظرفية الاعتبارية بالفتحة الظاهرة.
﴿مع﴾ مضاف، والكاف ضمير المخاطبين في محل الجرّ مضاف إليه، مبني على الضمّ، والميم حرف دالّ على الجمع، والظرف متعلّق بمحذوف خبر إنا، تقديره: إنّا كائنون معكم، وجملة إنا في محلّ النصب مقول قالوا. ﴿إِنَّما﴾ كافّة ومكفوفة. ﴿نَحْنُ﴾ مبتدأ. ﴿مُسْتَهْزِؤُنَ﴾ خبر المبتدأ مرفوع بالواو، والجملة في محل النصب مقول قالوا.
﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.
205
﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿يَسْتَهْزِئُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿بِهِمْ﴾ متعلّق بيستهزىء، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة يستهزىء، على كونها خبر المبتدأ.
﴿فِي طُغْيانِهِمْ﴾ متعلّق بيمدهم. ﴿يَعْمَهُونَ﴾ فعل وفاعل مرفوع بثبات النون، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ضمير يمدهم، أو من ضمير طغيانهم، وجاءت الحال من المضاف إليه؛ لأنّ المضاف مصدر مضاف إلى فاعله.
﴿أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾.
﴿أُولئِكَ﴾ مبتدأ. ﴿الَّذِينَ﴾ خبره، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا. ﴿اشْتَرَوُا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿الضَّلالَةَ﴾ مفعول به. ﴿بِالْهُدى﴾ متعلّق باشتروا. ﴿فَما﴾ الفاء حرف عطف وتعقيب. ﴿ما﴾ نافية.
﴿رَبِحَتْ﴾ فعل ماض، و (التاء) لتأنيث الفاعل. ﴿تِجارَتُهُمْ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على جملة اشتروا. ﴿وَما﴾ الواو عاطفة. ﴿ما﴾ نافية. ﴿كانُوا﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿مُهْتَدِينَ﴾ خبره، والجملة معطوفة على جملة ربحت. ﴿مَثَلُهُمْ﴾ مبتدأ ومضاف إليه. ﴿كَمَثَلِ﴾ جار ومجرور متعلّق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: مثلهم كائن كمثل الذي استوقد نارا، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا. ﴿مثل﴾ مضاف. ﴿الَّذِي﴾ اسم موصول في محل الجرّ مضاف إليه. ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة صلة الموصول، واستعمل ﴿الَّذِي﴾ في موضع الذين، ولذلك قال فيما بعد: ﴿بِنُورِهِمْ﴾. ﴿نارًا﴾ مفعول به. ﴿فَلَمَّا﴾ الفاء حرف عطف وتعقيب. ﴿لما﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿أَضاءَتْ﴾ فعل ماض، والتاء علامة تأنيث الفاعل، وفاعله ضمير مستتر يعود على النار، والجملة فعل شرط للمّا لا محل لها من الإعراب. ﴿ما﴾ اسم موصول بمعنى المكان في محلّ النصب، مفعول به. ﴿حَوْلَهُ﴾ منصوب على الظرفية المكانية. ﴿حول﴾ مضاف، والهاء
206
مضاف إليه، والظرف متعلّق بمحذوف صلة لما، تقديره: ما استقرّ حوله. ﴿ذَهَبَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب لما، وجملة لما من فعل شرطها وجوابها معطوفة على جملة أستوقد، على كونها صلة الموصول. ﴿بِنُورِهِمْ﴾ متعلّق بذهب.
﴿وَتَرَكَهُمْ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، يعود على الله، ومفعول أول؛ لأنّ (ترك) هنا بمعنى صيّر. ﴿فِي ظُلُماتٍ﴾ جار ومجرور متعلّق بترك على كونه مفعولا ثانيا له، تقديره: وصيّرهم كائنين في ظلمات، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ذهب، ﴿لا﴾ نافية. ﴿يُبْصِرُونَ﴾ فعل وفاعل، مرفوع بثبات النون، والجملة في محل النصب حال من ضمير تركهم، أو من الضمير المستكن في الجار والمجرور؛ أعني: في ظلمات، ومفعول يبصرون محذوف، تقديره: ما حولهم، ويحتمل كون (ترك) بمعنى: خلّى وأهمل، فيتعدّى إلى مفعول واحد، وهو الضمير البارز في تركهم وفي ظلمات لا يبصرون حالان من الضمير في تركهم.
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩)﴾.
﴿صُمٌّ﴾ خبر لمبتدأ محذوف جوازا، تقديره: هم صمّ، والجملة مستأنفة.
﴿بُكْمٌ﴾ خبر ثان. ﴿عُمْيٌ﴾ خبر ثالث، وهذه الأخبار وإن تباينت في اللفظ متحدة في المدلول والمعنى؛ لأنّ مآلها إلى عدم قبول الحقّ مع كونهم سمع الآذان، فصحاء الألسن، بصراء الأعين. فليس المراد نفي الحواسّ الظاهرة. وقرىء شاذّا بالنصب على الحال من الضمير في ﴿يبصرون﴾. ﴿فَهُمْ﴾ الفاء حرف عطف وتفريع. ﴿هم﴾ مبتدأ. ﴿لا﴾ نافية. ﴿يَرْجِعُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محلّ الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: (هم صمّ بكم عمي).
﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾ أو حرف عطف وتفصيل؛ أي: إنّ الناظرين في حالهم منهم من يشبّههم بحال المستوقد، ومنهم من يشبّههم بأصحاب صيب.
﴿كَصَيِّبٍ﴾ جار ومجرور معطوف على كمثل، ولا بدّ من تقدير مضاف؛ أي:
كأصحاب صيّب، بدليل قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ﴾ على كونه خبر المبتدأ، تقديره: أو مثلهم كائن كمثل أصحاب صيّب. ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ جار ومجرور متعلق
207
بمحذوف صفة لصيّب، تقديره: نازل من السماء. ﴿فِيهِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم لقوله: ظلمات، و ﴿ظُلُماتٌ﴾ مبتدأ مؤخّر، مرفوع بالضمة الظاهرة، ﴿وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ معطوفان على ظلمات، والتقدير: ظلمات ورعد وبرق كائنات في ذلك الصيّب، والجملة الإسمية في محلّ الجر صفة ثانية لصيّب، تقديره: موصوف بكون ظلمات ورعد وبرق فيه. ﴿يَجْعَلُونَ﴾ فعل وفاعل، مرفوع بثبات النون، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، واقعا في جواب سؤال مقدر، فكأنّه لما ذكر ما يؤذن بالشدة والهول قيل: فكيف حالهم مع ذلك الرعد القاصف؟ فأجاب بقوله: يجعلون... إلخ. ﴿أَصابِعَهُمْ﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿فِي آذانِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلّق بيجعلون على كونه مفعولا ثانيا له. ﴿مِنَ الصَّواعِقِ﴾ جار ومجرور متعلّق بيجعلون. و ﴿مِنَ﴾ سببيّة. ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ مفعول لأجله ليجعلون، وهو مضاف. ﴿الْمَوْتِ﴾ مضاف إليه. ﴿وَاللَّهُ﴾ الواو اعتراضية. ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿مُحِيطٌ﴾ خبره. ﴿بِالْكافِرِينَ﴾ متعلّق بمحيط، والجملة الإسمية جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين جملتين من أجزاء المشبّه به، وهما: يجعلون أصابعهم، ويكاد البرق.
﴿يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿يَكادُ﴾ فعل مضارع من أفعال المقاربة تعمل عمل كان، وفيها لغتان: فعل وفعل، ولذلك يقال فيها عند اتصال ضمير الرفع بماضيه: كدت كبعت، وكدت كقلت. ﴿الْبَرْقُ﴾ اسمها مرفوع. ﴿يَخْطَفُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر فيه جوازا، تقديره: هو، يعود على البرق، وجملة يخطف في محل النصب خبر يكاد، وجملة يكاد مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنّه قيل: ما حالهم مع تلك الصواعق؟ فأجاب بقوله: يكاد البرق، أو معطوفة بعاطف مقدر على يجعلون. ﴿أَبْصارَهُمْ﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿كُلَّما﴾ اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبني على السكون؛ لشبهه بالحرف شبها معنويّا، والظرف متعلق بالجواب، وهو ﴿مَشَوْا﴾ ﴿أَضاءَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، يعود على البرق. ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بأضاء، والجملة الفعلية فعل شرط لكلما، لا محل لها من
208
الإعراب. ﴿مَشَوْا﴾ فعل وفاعل. ﴿فِيهِ﴾ متعلق بمشوا، والجملة الفعلية جواب كلما لا محل لها من الإعراب، وجملة كلما من فعل شرطها وجوابها مستأنفة استئنافا بيانيا لا محل لها من الإعراب، كأنّه قيل: ما يفعلون في حالتي خفوق البرق وخفيته؟ فأجاب بذلك. وهذا أصحّ ما قيل في إعراب كلّما، كما في كتب النحاة، كما بسطناه في تفسيرنا «عمدة التفاسير والمعربين». ﴿وَإِذا﴾ إذا ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه. ﴿أَظْلَمَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا، تقديره: هو، يعود على البرق، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلّق بأظلم. ﴿قامُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا معطوفة على جملة كلما على كونها مستأنفة. ﴿وَلَوْ﴾ الواو استئنافية. لَوْ حرف شرط غير جازم. ﴿شاءَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، ومفعول المشيئة محذوف، تقديره: ذهاب سمعهم وأبصارهم. والجملة الفعلية فعل شرط للو. ﴿لَذَهَبَ﴾ اللام رابطة لجواب لو الشرطية. ﴿ذهب﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، يعود على الله. ﴿بِسَمْعِهِمْ﴾ جار ومجرور متعلّق بذهب. ﴿وَأَبْصارِهِمْ﴾ معطوف على سمعهم، وجملة ذهب جواب لو، لا محل لها من الإعراب، وجملة لو الشرطية مستأنفة استئنافا نحويا لا محل لها من الإعراب. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه. ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلّق بقدير، و ﴿قَدِيرٌ﴾ خبره، وجملة إنّ مستأنفة مسوقة؛ لتعليل ما قبلها. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ الناس اسم جمع، لا واحد له من لفظه، ومادّته عند سيبويه والفرّاء همزة ونون وسين، وحذفت همزته شذوذا، وأصله: أناس، وقد نطق القرآن بهذا الأصل، قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ﴾. وذهب الكسائي إلى أنّ مادّته: نون وواو وسين، مشتق من النوس، وهو الحركة، يقال: ناس ينوس نوسا، والنّوس: تذبذب الشيء في الهواء، ومنه: نوس القرط في الأذن، وسمي أبو نواس بذلك؛ لأنّ ذؤابتين له كانتا تنوسان عند أذنيه، واسمه
209
الحقيقي الحسن بن هانىء. وإنّما أطلنا في هذا البحث؛ لأنّ بعض المعاجم الحديثة خلط في أصله، فأوردوه في مادة أنس، وبعضها أورده في مادة نوس، وأضاعوا بذلك الطالب والمراجع في متاهات لا منافذ منها. اه. درويش.
وقيل: أصله من نسي، فوقع فيه القلب المكاني بتقديم الياء على السين، فصار نيس بوزن فعل، تحركت الياء عندئذ وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا، فقيل: ناس، فدخلت الألف واللام للتعريف، فصار الناس. وعلى هذا سمّوا بذلك لنسيانهم، ووزن الفعل عليه فلع، وعلى القول الأول وزنه فعال، وعلى القول الثاني أجوف واويّ، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا، وقيل غير ذلك.
﴿مَنْ يَقُولُ﴾ أصله: يقول بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى القاف فسكنت الواو، فصارت حرف مدّ. ﴿آمَنَّا﴾ أصله: أأمنّا بوزن أفعلنا، أبدلت الهمزة الثانية حرف مدّ مجانسا لحركة الأولى، وهكذا كلّ همزة ساكنة وقعت فاء للفعل ودخلت عليها همزة مفتوحة، وقوله ﴿الْآخِرِ﴾، الألف فيه مبدلة من همزة ساكنة.
﴿يُخادِعُونَ﴾ الخداع في الأصل: الإخفاء. ومنه سمّي البيت المفرد في المنزل مخدعا تستر أهل صاحب المنزل فيه، ومنه: الأخدعان: وهما العرقان المستبطنان في العنق، وسمّي الدهر خادعا؛ لما يخفي من غوائله.
﴿وَما يَشْعُرُونَ﴾ الشعور؛ إدراك الشيء من وجه يدقّ ويخفى، وهو مشتقّ من الشعر لدقّته، كما مرّ. وقيل: هو الإدراك بالحاسّة، فهو مشتق من الشعار، وهو ثوب يلي الجسد، ومشاعر الإنسان حواسه، وشعر بالأمر من بابي: نصر وكرم: علم به وفطن له، ومنه يسمي الشاعر شاعرا؛ لفطنته ودقّة معرفته. والتحقيق: أنّ الشعور إدراك ما دقّ من حسي وعقلي.
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ المرض مصدر مرض، ويطلق في اللغة على الضعف والفتور، وقالوا المرض في القلب: الفتور عن الحقّ، وفي البدن فتور الأعضاء، وفي العين فتور النظر. ويطلق المرض فيراد به الظلمة، كقوله:
210
﴿فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ وزاد يستعمل لازما ومتعديا لاثنين، ثانيهما غير الأول، كأعطى وكسا، فيجوز حذف مفعوليه وأحدهما اختصارا واقتصارا، فالأول حذف لدليل والثاني حذف بلا دليل، تقول: زاد المال فهو لازم، وزدت زيدا خيرا، ومنه: ﴿وَزِدْناهُمْ هُدىً﴾، ﴿فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ وزدت زيدا ولا تذكر ما زدته، وزدت مالا ولا تذكر من زدته، وألف زاد منقلبة عن ياء لقولهم: يزيد.
اه. «سمين». وأصل زاد زيد بوزن فعل بفتح العين، يفعل بكسرها يائي العين، نظير باع يبيع، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا.
﴿عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ من ألم من باب طرب، فهو أليم، كوجع فهو وجيع؛ أي متألم ومتوجع. ﴿بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ الباء سببية، وما يجوز أن تكون مصدرية؛ أي: بكونهم يكذبون، وهذا على القول: بأن كان لها مصدر، وهو الصحيح عند بعضهم للتصريح به في قول الشاعر:
في ليلة مرضت من كلّ ناحية فما يحسّ بها نجم ولا قمر
ببذل وحلم ساد في قومه الفتى وكونك إيّاه عليك يسير
وقد صرّح بالكون، وعلى هذا فلا حاجة إلى ضمير عائد على ما؛ لأنّها حرف مصدري على الصحيح، خلافا للأخفش وابن السرّاج، في جعل ما المصدرية اسما، ويجوز أن تكون بمعنى الذي، وحينئذ فلا بدّ من تقدير عائد؛ أي: بالذي كانوا يكذبونه، وجاز حذف العائد لاستكمال الشروط وهو كونه متصلا منصوبا بفعل، وليس ثمّ عائد آخر. اه. «سمين». ﴿يكذبون﴾ قرىء بالتخفيف مضارع كذب الثلاثي، وقرىء بالتشديد مضارع كذّب المضعف.
﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ﴾ ﴿قِيلَ﴾ فعل ماض مبني للمجهول واوي العين، أصله: قول استثقلت الكسرة على الواو، والانتقال من ضمّ إلى كسر، فحذفت حركة الفاء التي هي القاف، ونقلت إليها حركة العين التي هي الواو، فسكنت الواو إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ، وهكذا كلّ فعل من هذا النوع معتل العين بني للمجهول. ﴿قالُوا﴾ أصله: قولوا، تحركت الواو وفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار: قالوا.
﴿لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته،
211
ونقيضه: الصلاح. والفساد في الأرض: تهييج الحروب وإثارة الفتن، والإخلال بمعايش الناس. ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ ألا: حرف تنبيه واستفتاح، وليست مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية، بل هي بسيطة، ولكنها لفظ مشترك بين التنبيه والاستفتاح، فتدخل على الجملة اسمية كانت أو فعلية وبين العرض والتحضيض، فتختصّ بالأفعال لفظا أو تقديرا. اه. «سمين». ﴿الْمُفْسِدُونَ﴾ فيه حذف همزة أفعل من اسم الفاعل، كما تقدم في ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ ﴿كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ جمع سفيه، وهو المنسوب إلى السفه، والسفه: خفّة رأي، وسخافة يقتضيها نقصان العقل، ومقابله الحلم، يقال: سفه بكسر الفاء وضمّها.
﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ من اللقاء، وهو المصادفة، يقال: لقيته ولاقيته، إذا صادفته واستقبلته، ومنه: ألقيته إذا طرحته، فإنّك بطرحه جعلته بحيث يلقى. اه. «بيضاوي». وأصل لقوا: لقيوا بوزن شربوا، استثقلت الضمة على الياء، ثمّ نقلت إلى ما قبلها بعد سلب حركته، فالتقى ساكنان، وهما الياء وواو الجماعة، ثمّ حذفت الياء لالتقاء الساكنين، ثمّ ضمّت القاف؛ لمناسبة الواو، فصار لقوا بوزن فعوا بعد أن كان على وزن فعلوا.
﴿وَإِذا خَلَوْا﴾ أصله: خلووا بوزن نصروا، تحركت الواو الأولى التي هي لام الكلمة وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا فالتقى ساكنان وهما الألف وواو الضمير، ثمّ حذفت الألف؛ لبقاء دالّها وهو فتحة اللام، فصار خلوا بوزن فعوا.
﴿إِلى شَياطِينِهِمْ﴾ جمع شيطان، نحو: غرانين في جمع غرنان، حكاه الفراء.
والشيطان فيعال عند البصريّين، فنونه أصلية من شطن؛ إذا بعد، واسم الفاعل شاطن، قال أميّة:
أيّما شاطن عصاه عكاه ثمّ يلقى في السّجن، والأكبال
وعند الكوفيّين وزنه فعلان، فنونه زائدة من شاط يشيط؛ إذا هلك، قال الشاعر:
212
والشيطان: كلّ متمرّد من الجنّ، والإنس، والدوابّ، قاله ابن عباس، وأنثاه: شيطانة، قال الشاعر:
قد تظفر العير في مكنون قائلة وقد تشيط على أرماحنا البطل
هي البازل الكوماء لا شيء غيرها وشيطانة قد جنّ منها جنونها
﴿إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ﴾ اسم فاعل من استهزأ السداسي، والاستهزاء بالشيء: السّخرية منه يقال: هزأت واستهزأت بمعنى، وأصله: الخفّة من الهزء، وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ: مات فجأة، وتهزأ به ناقته؛ أي: تسرع به وتخبّ.
اه. «أبو السعود».
﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ من مدّ الجيش من باب ردّ، وأمده إذا زاده وقواه، ومنه: مددت السراج والأرض؛ إذا أصلحتهما بالزيت والسماد، أصله: يمددهم نقلت حركة الدال الأولى إلى الميم، فسكنت فأدغمت في الدال الثانية.
﴿فِي طُغْيانِهِمْ﴾ الطّغيان: مصدر طغى يطغى طغيانا بضم الطاء، وطغيانا بكسرها ولام طغى. قيل: ياء وقيل: واو. يقال: طغيت وطغوت، وأصل المادّة مجاوزة الحدّ، ومنه: قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ﴾.
﴿يَعْمَهُونَ﴾ من العمه، وهو التردّد والتحيّر، وهو قريب من العمى، إلّا أنّ بينهما عموما وخصوصا مطلقا؛ لأنّ العمى يطلق على ذهاب ضوء العين، وعلى الخطأ في الرأي، والعمه لا يطلق إلّا على الخطأ في الرأي، يقال عمه يعمه من باب طرب عمها وعمهانا، فهو عمه وعامه اه. «سمين».
﴿اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى﴾ الاشتراء، والشراء بمعنى: الاستبدال بالشيء والاعتياض منه، إلّا أنّ الاشتراء يستعمل في الابتياع والبيع، وهو ممّا جاء فيه افتعل بمعنى: الفعل المجرّد، وهو أحد المعاني التي جاء لها افتعل، وأصل اشترى اشتري بوزن افتعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا، ثمّ أسند الفعل إلى واو الجماعة فالتقى ساكنان: الألف وواو الجماعة، فحذفت الألف وبقيت الفتحة دالّة عليها، ثمّ تحركت الواو لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها؛ لأنّ همزة الوصل ساقطة في الدرج، وخصّت بالضمة؛ لأنّها أخت الواو، وأخفّ
213
الحركات عليها. وقرىء بكسرها على أصل التقاء الساكنين وبفتحها؛ لأنّه أخفّ.
﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ الربح: ما يحصل من الزيادة على رأس المال.
والتجارة: هي صناعة التاجر، وهو الذي يتصرّف في المال لطلب النّمو والزيادة.
﴿وَما كانُوا﴾ أصله: كونوا؛ لأنّه أجوف واويّ تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا. ﴿مُهْتَدِينَ﴾ وزنه مفتعين، أصله: مهتديين بياءين: الأولى لام الكلمة، والثانية ياء إعراب الجمع، استثقلت الحركة على الياء، فحذفت فسكنت، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء الأولى لام الكلمة. وهو جمع مهتد، وهو اسم فاعل من اهتدى الخماسي، وافتعل فيه للمطاوعة، يقال: هديته فاهتدى، نحو: سويته فاستوى، وغممته فاغتم، والمطاوعة أحد المعاني التي جاءت لها افتعل، ولا يكون افتعل للمطاوعة، إلّا إذا كان من الفعل المتعدّي.
﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ المثل في أصل كلام العرب بمعنى: المثل، والمثيل، كالشّبه والشّبه والشبيه، وهو النظير، ويجمع المثل، والمثل على أمثال، قال اليزيدي: الأمثال: الأشباه، وأصل المثل؛ الوصف. يقال: هذا مثل كذا؛ أي: وصفه مساو لوصف الآخر بوجه من الوجوه. وأما المثل في قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾ فهو القول السائر الذي فيه غرابة من بعض الوجوه، ولذلك حوفظ على لفظه فلم يغيّر، فيقال لكلّ من فرّط في كل أمر عسر مدركه: (الصيف ضيّعت اللبن) سواء كان المخاطب به مفردا، أو مثنى، أو مجموعا، أو مذكرا، أو مؤنّثا. ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ والاستيقاد بمعنى: الإيقاد واستدعاء ذلك، ووقود النار: ارتفاع لهبها. وَ ﴿النَّارُ﴾: جوهر لطيف مضيء حارّ محرق، والنار مؤنثة، وهي واويّة العين؛ لأنّ تصغيرها نوير، والجمع نور ونيران، وأصل الثاني نوران، قلبت الواو ياء؛ لسكونها إثر كسرة، وعليه فوزنها فعل بفتح العين، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح، وقس على هذا ما ورد من هذا اللفظ.
﴿فَلَمَّا أَضاءَتْ﴾ من الإضاءة، وهو الإشراق، وهو فرط الإنارة، أصله: أضوأ بوزن أفعل من الضوء، نقلت حركة حرف العلة (الواو) إلى الساكن الصحيح قبله (الضاد)، فتحركت الضاد بالفتح، ثم أبدلت الواو ألفا؛ لتحركها في
214
الأصل، وانفتاح ما قبلها الآن، وقس على هذا ما شاكله من الأفعال: كاستجاب، وأصاب، وأناب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ جموع كثرة على وزن فعل، كأحمر وحمر. والصّمّ جمع أصمّ، وهو الذي لا يسمع، يقال: صمّ يصمّ بفتح الصاد فيهما؛ إذا ثقل السمع منه. قيل: أصله السدّ، تقول: صممت القارورة؛ إذا سددتها، والصمم: داء يحصل في الأذن يسد العروق، فيمنع من السمع، وقيل: أصله الصّلابة، قالوا: قناة صمّاء، والأصمّ أصله: أصمم نقلت حركة الميم الأولى إلى الصاد، فسكنت، فأدغمت في الميم الثانية، فوزنه أفعل. ﴿بُكْمٌ﴾ جمع أبكم، والبكم: آفة في اللسان تمنع من الكلام. قاله أبو حاتم، وقيل: الذي يولد أخرس، وقيل: الذي لا يفهم الكلام، ولا يهتدي إلى الصواب، فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان. ﴿عُمْيٌ﴾ جمع أعمى، والعمى: ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات، والفعل منها على وزن فعل بكسر العين، واسم الفاعل على أفعل، وهو قياس الآفات والعاهات. فوزن الكلمات الثلاث بعد الجمع فعل بضمّ الفاء وسكون العين، ووزن مفردها أفعل، ويجمع أفعل قياسا على فعل بضمّ الفاء، فالأوصاف الثلاثة صفات مشبهة، جاءت على هذا الوزن، قال ابن مالك في «الخلاصة»: فعل لنحو أحمر وحمراء.
﴿لا يَرْجِعُونَ﴾ والرجوع إن لم يتعدّ فهو بمعنى العود، وإن تعدّى فبمعنى الإعادة. ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ فيه إعلال بالقلب والإدغام. أصله: صيوب من الصّوب، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما ساكنة، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، فصار صيّب، كما فعل في ميّت وسيّد. قال ابن مالك في باب التصريف:
إن يسكن السّابق من واو ويا واتّصلا ومن عروض عريا
فياء الواو اقلبنّ مدغما وشذّ معطى غير ما قد رسما
﴿مِنَ السَّماءِ﴾ والسماء: كلّ ما علاك فأظلّك، والسماء مؤنّث وقد يذّكر، كما في قول الشاعر:
215
فلو رفع السّماء إليه قوما لحقنا بالسّماء مع السّحاب
وأصل السماء: السماو من السمو، أبدلت فيه الواو همزة لمّا تطرّفت إثر ألف زائدة، وهذا القلب مطرد فيها، وفي الياء المتطرفة أيضا بعد ألف زائدة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مادّة البناء، وقد تقدم عند قوله: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾.
﴿مُحِيطٌ﴾ وزنه: مفعل اسم فاعل من أحاط الرباعيّ، فأصله: محوط واويّ العين، إذ يقال: حاطه يحوطه حوطا وحوّط تحويطا، فالمصدر ظهرت فيه الواو، ولمّا كان أصله محرط، نقلت حركة الواو إلى الحاء، فسكنت الواو إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ.
﴿يَكادُ الْبَرْقُ﴾ أصله: يكود بفتح العين بوزن يفعل؛ لأنّ الصحيح أنّه من باب فعل مكسور العين، نقلت حركة حرف العلّة إلى الساكن الصحيح قبله، ثمّ أبدلت الواو ألفا؛ لتحركها في الأصل، وانفتاح ما قبلها الآن.
﴿كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ أصله: مشيوا بوزن ضربوا، قلبت الياء ألفا؛ لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان: الألف وواو الجماعة، فحذفت الألف. ﴿وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا﴾ أصل قام قوم، بوزن فعل، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح، ثمّ أسند الفعل إلى واو الجماعة، فضمّ آخره. ﴿وَلَوْ شاءَ اللَّهُ﴾ أصله: شيء بوزن فعل بكسر العين، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، دلّ على ذلك كون مضارعه يشاء، وسيأتي بيان تصريف مضارعه إن شاء الله تعالى في محلّه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة، والبيان، والبديع:
فمنها: الإتيان بالجملة الاسمية في قوله: ﴿وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، حيث لم يقل: وما آمنوا المطابق لقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾؛ لإفادة انتفاء الإيمان عنهم في جميع الأزمنة؛ لإفادتها الدوام والاستمرار؛ أي: لم يتصفوا
216
بالإيمان في حال من الأحوال، لا في الماضي، ولا في الحال، ولا في الاستقبال، بخلاف الفعلية الموافقة لدعواهم، فلا تفيد إلّا نفيه في الماضي. اهـ.
«أبو السعود».
ومنها: إعادة الجار في قوله: ﴿وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾؛ لإفادة تأكّد دعواهم الإيمان، بكلّ ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فردّ عليهم المولى بأبلغ ردّ بقوله: ﴿وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، حيث أتى بالجملة الإسمية وزاد الجار في الخبر.
ومنها: المشاركة في قوله: ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ﴾؛ لأنّ المفاعلة تقتضي المشاركة في المعنى، وقد أطلق عليه تعالى مقابلا؛ لما ذكره من خداع المنافقين، كمقابلة المكر بمكرهم، ومن أمثلة هذا الفنّ في الشعر قول بعضهم:
قالوا التمس شيئا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا
ومنها: الاستعارة التمثيلية في الخداع المنسوب إليه تعالى، حيث شبّه حالهم مع ربّهم في إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، بحال رعية تخادع سلطانها، واستعير اسم المشبّه به للمشبّه، بطريق الاستعارة التمثيلية، أو شبه حالهم في معاملتهم مع الله تعالى، بحال المخادع مع صاحبه من حيث القبح، أو من باب المجاز العقلي في النسبة الإيقاعية، حيث أسند الشيء إلى غير من هو له، وأصل التركيب: يخادعون رسول الله، أو من مجاز الحذف، أو من باب التورية، حيث ذكر معاملتهم لله بلفظ الخداع. اه. من «أبي السعود» وغيره. والتورية: أن يكون للكلام معنى قريب وبعيد، فيطلق القريب ويراد البعيد، وهو مطلق الخروج عن الطاعة باطنا، وإن كان العالم لا تخفى عليه خافية اه. «صاوي».
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾، حيث استعير المرض لما ران على قلوبهم، من جهل وسوء عقيدة؛ لأنّ المرض حقيقة في الأجسام.
ومنها: زيادة كان في قوله: ﴿بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾؛ لتأكيد الكلام؛ ولإفادة دوام كذبهم وتجدّده.
217
ومنها: قصر الموصوف على الصفة في قوله: ﴿قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾؛ أي: مقصورون على الإصلاح، نظير قولهم: إنّما زيد منطلق. وقال ابن التمجيد: هذا القصر إفراد؛ لأنّه لما قال المسلمون لهم: لا تفسدوا توهّموا أنّ المسلمين أرادوا بذلك، أنّهم يخلطون الإفساد بالإصلاح، فأجابوهم بأنّهم مقصورون على الإصلاح، لا يتجاوزون عنه إلى صفة الإفساد، فيلزم منه عدم الخلط، فهو من باب قصر الإفراد، حيث توهّموا أنّ المؤمنين اعتقدوا الشركة، فأجابهم الله سبحانه بعد ذلك، بما يدل على القصر القلبي بقوله: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾، فإنّهم لما أثبتوا لأنفسهم إحدى الصفتين، ونفوا الأخرى، واعتقدوا ذلك، قلب الله اعتقادهم هذا، بأن أثبت لهم ما نفوه، ونفى عنهم ما أثبتوا. والمعنى: هم مقصورون على إفساد أنفسهم بالكفر، والناس بالتعويق عن الإيمان، لا يتخطّون منه إلى صفة الإصلاح. اه. «روح».
ومنها: جمع المؤكدات في هذه الجملة؛ لتأكيد الردّ عليهم، حيث أكد بألا، وبأنّ، وبضمير الفصل، وتعريف الخبر مبالغة في الردّ عليهم، لما ادّعوه من قولهم: ﴿إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾؛ لأنّهم أخرجوا الجواب جملة اسمية مؤكّدة بإنما، ليدلّوا بذلك على ثبوت الوصف لهم، فردّ الله عليهم بأبلغ وأوكد مما ادعوه. اه. «سمين». وكذا جملة قوله: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ﴾.
ومنها: المفارقة بين الجمل في قوله: ﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا﴾ وقوله: ﴿وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ﴾. فقد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية، وهي جملة ﴿آمَنَّا﴾، وخاطبوا شياطينهم بالجملة الإسمية، وهي جملة ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾؛ وذلك لأنّ الجملة الإسميّة أثبت من الجملة الفعلية، فإيمانهم قصير المدى لا يعدو تحريك اللسان، أو مدة التقائهم بالمؤمنين وركونهم إلى شياطينهم، دائم الاستمرار والتجدّد، وهو أعلق بنفوسهم وأكثر ارتباطا بما رسخ فيها.
ومنها: المخالفة بين جملة مستهزؤن، وجملة يستهزىء؛ لأنّ هزء الله بهم متجدد وقتا بعد وقت، وحالا بعد حال، يوقعهم في متاهات الحيرة والإرتباك، زيادة في التنكيل بهم.
218
ومنها: المشاكلة في قوله: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾؛ لأنّ الاستهزاء ضرب من العبث واللهو، وهما لا يليقان به سبحانه وتعالى، وهو منزّه عنهما، ولكنه سمّى جزاء الاستهزاء استهزاء، فهي مشاكلة لفظيّة لا أقلّ ولا أكثر. فالمشاكلة: هي الإتفاق في اللفظ دون المعنى.
ومنها: الفصل الواجب في قوله: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾؛ لأنّ في عطفها على شيء من الجمل السابقة مانعا قويّا؛ لأنّها تدخل حينئذ في حيّز مقول المنافقين، والحال: أنّ استهزاء الله بهم وخذلانه إيّاهم ثابتان مستمرّان، سواء خلوا إلى شياطينهم أم لا. فالجملة مستأنفة على كلّ حال، واجبة الفصل عمّا قبلها؛ لأنّها مظنة سؤال ينشأ، فيقال: ما مصير أمرهم؟ ما عقبى حالهم؟. فيستأنف جوابا عن هذا السؤال.
ومنها: الإتيان باسم إشارة البعيد في قوله: ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾ للإيذان ببعد منزلتهم في الشرّ، وسوء الحال.
ومنها: الاستعارة التصريحية الترشيحية في قوله: ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾، حيث استعار الشراء الذي هو بذل الثمن؛ لتحصيل ما يطلب لاختيارهم الضلالة بدل الهدى، ورشّح تلك الاستعارة وقوّاها، بذكر الريح والتجارة، لأنّ الترشيح ذكر ما يلائم المستعار منه الذي هو الشراء هنا.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ حيث أسند الربح إلى التجارة؛ لكونها سببه، وحقّ الإسناد أن يقال: فما ربحوا في تجارتهم.
ومنها: التتميم في قوله: ﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾، وهو أن يأتي المتكلم في آخر كلامه بكلمة أو جملة، تتمّ معنى الكلام السابق، فقوله: ﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ تتميم لما قبله؛ لأنّه أفاد أنّهم ضالّون مخطئون في جميع ما فعلوه من عمل الشراء، وغيره.
ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾ نارًا الخ، وكذلك في قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾. والتشبيه التمثيلي: هو أن يكون وجه
219
الشبه منتزعا من أمور متعدّدة، فقد شبّه في المثال الأول المنافق بالمستوقد للنار، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار. وفي المثال الثاني شبّه الإسلام بالمطر؛ لأنّ القلوب تحيا به، كحياة الأرض بالمطر، وشبّه شبهات الكفّار بالظلمات، وما في القرآن من الوعد والوعيد، بالرعد والبرق، وما يصيب الكفرة من الفتن، والبلايا بالصواعق.
ومنها: المخالفة بين الضميرين، فقد وحّد الضمير في قوله: ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ وفي قوله: ﴿ما حَوْلَهُ﴾ نظرا إلى جانب اللفظ؛ لأنّ المنافقين كلّهم على قول واحد وفعل واحد، وجمع في قوله: ﴿بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ﴾ رعاية للمعنى لكون المقام مقام تقبيح أحوالهم، وبيان صفاتهم وضلالهم، فإثبات الحكم لكلّ فرد منهم واقع.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ فقد شبّههم بالصمّ، والبكم، والعمي، وطوى ذكر المشبّه، وجعله بعضهم من التشبيه البليغ؛ أي: هم كالصمّ البكم العمي في عدم الاستفادة من هذه الحواس، فحذف أداة التشبيه ووجه الشبه، فصار تشبيها بليغا، وهو في كلامهم كثير، كقوله:
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ﴾ حيث أطلق الأصابع، وأراد رؤوسها، فهو من إطلاق الكلّ وإرادة الجزء؛ لأنّ إدخال الأصبع كلّها في الأذن لا يمكن.
ومنها: جمع الأصابع إشارة إلى أنّه لم يرد أصبعا معيّنة؛ لأنّ الحالة حالة دهش وحيرة، فأيّة أصبع اتّفق لهم أن يسدّوا بها آذانهم، فعلوا غير معرّجين على ترتيب معتاد، أو تعيين مفترض.
ومنها: إفراد البرق والرعد، وجمع الصواعق، لكونهما في الأصل مصدرين، والمصادر لا تجمع. يقال: رعدت السماء رعدا وبرقت برقا، فراعى فيهما حكم الأصل، فترك جمعهما وإن أريد معنى الجمع، ولا يخفى أنّ من
220
الألفاظ ما يعذب مفرده ويقبح جمعه، وبالعكس.
ومنها: تعريف السماء في قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾؛ للإيذان بأنّ انبعاث الصيّب ليس من أفق واحد، فإنّ كلّ أفق من آفاقها سماء على حدة، والمعنى: أنّه نازل من غمام مطبق، آخذ بآفاق السماء كلها.
ومنها: التعبير بالأصابع دون الأنامل في قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ﴾ إشارة إلى أنّهم لشدّة حيرتهم ودهشتهم، يدخلون أصابعهم كلّها في إذانهم لا أناملهم فقط، كما هو المعتاد.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ﴾ حيث لم يقل: والله محيط بهم بالضمير الراجع إلى أصحاب الصيّب، إيذانا. بأنّ ما دهمهم من الأمور الهائلة المحكيّة بسبب كفرهم.
ومنها: إيثار المشي في قوله: ﴿مَشَوْا فِيهِ﴾ على ما فوقه من السّعي والعدو؛ للإشعار بعدم استطاعتهم لهما لكمال دهشتهم وحيرتهم.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
فائدة: والحاصل: أنّ الله وصف المنافقين في هذه الآيات، بثمان صفات كلّها قبيحة شنيعة تدلّ على رسوخهم في الضلال، وهي: الكذب، والخداع، والسفه، والاستهزاء، والإفساد في الأرض، والجهل والضلال، والمرض.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
221
قال الله سبحانه جل وعلا:
﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥) إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى (١)، لما ذكر أصناف الخلق، وبيّن أنّ منهم المهتدين والكافرين الذين فقدوا الاستعداد للهداية، والمنافقين المذبذبين بين ذلك.. دعا الناس إلى دين التوحيد الحقّ، وهو عبادة الله وحده عبادة خشوع وإخلاص، حتى كأنّهم ينظرون إليه، ويرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنّه يراهم، فإن
(١) المراغي.
222
فعلوا ذلك أعدّوا أنفسهم للتقوى، وبلغوا الغاية القصوى.
ثمّ عدّد بعض نعمه المتظاهرة عليهم الموجبة للعبادة والشكر، فجعل منها خلقهم أحياء قادرين على العمل والكسب، ثمّ خلق الأرض مستقرّا ومهادا؛ لينتفعوا بخيراتها، ويستخرجوا معادنها ونباتها. ثمّ بنى لهم السماء التي زيّنها بالكواكب، وجعل فيها مصابيح يهتدي بها الساري في الليل المظلم، وأنزل منها الماء، فأخرج به ثمرات مختلفا ألوانها وأشكالها، أفليس في كلّ هذا ما يطوّح بالنظر، ويهدي الفكر إلى أنّ خالق هذا الكون البديع المثال، لا ندّ له ولا نظير، وأنّ ما جعلوه أندادا له لا يقدرون على إيجاد شيء مما خلق، وأنّهم يعلمون ذلك حقّ العلم، فكيف يدعون غير الله من الأصنام والأحجار، ويستشفعون به، ويتوسّلون إليه مع أنّه لا خالق ولا رازق إلّا الله سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أنّ الله سبحانه وتعالى، لمّا ذكر (١) أنّ الناس بالنظر إلى القرآن أقسام ثلاثة: متقون يهتدون بهديه، وجاحدون معاندون معرضون عن سماع حججه وبراهينه، ومذبذبون بين ذلك.. طلب هنا إلى الجاحدين المعاندين في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وفي أنّ القرآن معجزته، أن يتعرّفوا إن كان هو من عند الله كما يدّعي هو أو من عند نفسه كما يدّعون، فيروّزوا أنفسهم، ويحاكموه، لعلّهم يأتون بمثل سورة من أقصر سورة، وهم فرسان البلاغة، وعصرهم أرقى عصور الفصاحة، والكلام ديدنهم، وبه تفاخرهم، وكثير منهم حاز قصب السبق في هذا المضمار، ولم يكن محمد من بينهم، فهو لم يمرّن عليه، ولم يبار أهله، ولم ينافسهم فيه.
فإن عجزوا ولم يستطيعوا ذلك، وهم لا يستطيعون، وإن تظاهر أنصارهم وكثر أشياعهم، بل لو اجتمعت الإنس والجنّ جميعا، فليعلموا أنّ ما جاءهم به، فأعجزهم لم يكن إلّا بوحي سماوي وإمداد إلهيّ، لا يسمو إليه محمد بعقله، ولا
(١) المراغي.
223
يصل بيانه إلى مثل أسلوبه ونظمه. وإذا استبان عجزهم ولزمتهم الحجة فقد صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما ادعى، وكان من ارتاب في صدقه معاندا مكابرا، واستحقّ العقاب، وكان جزاءه النار التي وقودها العصاة الجاحدون، وما عبدوه من أحجار وأصنام، أعدّت لكلّ من جحد الرسل أو استحدث في الدين، ما هو منه براء.
قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى، لمّا ذكر الكافرين، وما أعدّ لهم من العقاب. قفّى على ذلك ببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وما أعدّ لهم من نعيم مقيم في الدار الآخرة، وقد جرت سنّة القرآن أن يقرن الترهيب بالترغيب؛ تنشيطا لاكتساب ما يوجب الزلفى عند الله؛ وتثبيطا عن اقتراف ما يوجب البعد من رضوانه تعالى.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه (١)، لما ذكر الدليل القاطع على أنّ القرآن كلام الله، لا يتطرّق إليه شكّ ولا ريب، وأنّه كتاب معجز، أنزله على خاتم المرسلين، وتحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله. ذكر هنا شبهة أوردها الكفار للقدح فيه، وهي: أنّه جاء في القرآن ذكر النحل، والذباب، والعنكبوت، والنمل، وهذه الأمور لا
يليق ذكرها بكلام الفصحاء، فضلا من كلام ربّ الأرباب. فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة، وردّ عليهم: بأنّ صغر هذه الأشياء لا يقدح في فصاحة القرآن وإعجازه، إذا كان ذكرها مشتملا على حكم بالغة، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي...﴾ إلخ.
قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أنّ الله سبحانه وتعالى، لما (٢) ذكر أولئك الفاسقين الذين ضلوا بالمثل، ووصفهم بالصفات الشنيعة من نقض العهد الموثّق، وقطع ما أمر
(١) عمدة التفاسير والمعربين.
(٢) المراغي.
224
الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، وجّه الخطاب إليهم في هاتين الآيتين.
وجاء به على طريق التوبيخ والتعجيب من صفة كفرهم، بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان الصادّة عن الكفر، وهي النعم المتظاهرة الدالّة على قدرته تعالى، من مبدأ الخلق إلى منتهاه من إحيائهم بعد الإماتة، وتركيب صورهم من الذّرات المتناثرة، والنطف الحقيرة المهينة، وخلق ما في الأرض جميعا لهم؛ ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها على فنون شتّى وطرق مختلفة، وخلق سبع سموات مزيّنة بمصابيح؛ ليهتدوا بها في ظلمات البرّ والبحر.
أفبعد هذا كله يكفرون به، وينكرون عليه أن يبعث فيهم رسولا منهم، يتلو عليهم آياته، ويضرب لهم الأمثال؛ ليهتدوا بها في إيضاح ما أشكل عليهم مما فيه أمر سعادتهم في دينهم ودنياهم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: (١) ما أخرجه ابن جرير عن السدي بأسانيده، لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين، وهما قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ وقوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾، قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ إلى قوله: ﴿الْخاسِرُونَ﴾. وما أخرجه الواحدي من طريق عبد الغني بن سعيد الثقفيّ، عن موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (إنّ الله ذكر آلهة المشركين، فقال: ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا﴾، وذكر كيد الآلهة، فجعله كبيت العنكبوت، فقالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمدّ، أيّ شيء كان يصنع بهذا؟ فأنزل الله هذه الآية). وعبد الغني واه جدّا، وقال عبد الرزاق في «تفسيره»: أخبرنا معمر، عن قتادة: لمّا ذكر الله العنكبوت
(١) لباب النقول.
225
والذباب، قال المشركون ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن قال: لما نزلت ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ﴾ قال المشركون: ما هذا من الأمثال فيضرب؟ أو ما يشبه هذه الأمثال، فأنزل الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا...﴾ الآية. قلت: القول الأول أصحّ إسنادا، وأنسب بما تقدّم أوّل السورة، وذكر المشركين لا يلائم كون الآية مدنية. وما أوردناه عن قتادة والحسن حكاه عنهما الواحديّ بلا إسناد بلفظ (قالت اليهود)، وهو أنسب.
التفسير وأوجه القراءة
٢١ - ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ﴾؛ أي: يا أيّها المكلّفون من الإنس والجنّ ﴿اعْبُدُوا﴾؛ أي: وحّدوا، وأفردوا بالعبادة، والطاعة، والاستغاثة، والدعاء ﴿رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾؛ أي: خالقكم الذي ابتدع خلقكم على غير مثال سابق؛ لأنّه الذي يستحقّ العبادة منكم دون غيره من الأصنام، والأحجار، لأنّ تعليق الحكم بمشتقّ يؤذن بعليّة ما منه الاشتقاق، فكأنّه قال: اعبدوه لخلقه إيّاكم، فإنّه هو الذي يعبد دون غيره.
وهذه الآية (١) مسوقة لإثبات التوحيد، وتحقيق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم - اللذين هما أصل الإيمان. والناس يصلح اسما للمؤمنين، والكافرين، والمنافقين. والنداء فائدته؛ تنبيه الغافلين، أو إحضار الغائبين، وتحريك الساكنين؛ وتعريف الجاهلين، وتفريغ المشغولين، وتوجيه المعرضين، وتهييج المحبّين، وتشويق المريدين.
قال بعضهم: أقبل عليهم بالخطاب جبرا؛ لما في العبادة من الكلفة بلذّة الخطاب؛ أي: يا مؤنس لا تنس أنسك بي قبل الولادة، أو يا ابن النسيان تنبّه، ولا تنس حيث كنت نسيا منسيا، ولم تك شيئا مذكورا، فخلقتك وخمرتك طينا،
(١) روح البيان.
226
ثم نطفة، ثم دما، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما ولحوما وعروقا وجلودا وأعصابا، ثمّ جنينا، ثم طفلا، ثمّ صبيا، ثمّ شابا، ثمّ كهلا، ثمّ شيخا، وأنت فيما بين ذلك تتمرّغ في نعمتي، وتسعى في خدمة غيري، تعبد النفس والهوى، وتبيع الدين بالدنيا، لا تنس من خلقك، وجعلك من لا شيء شيئا مذكورا كريما مشكورا، علّمك، وقوّاك، وأكرمك، وأعطاك ما أعطاك. فهذا خطاب للنفس والبدن. قال في «التيسير»: وإذا كان الإنسان من النسيان، ففيه عتاب وتلقين، أمّا العتاب، فكأنّه يقول: أيّها الناس! قابلتم نعمنا بالكفران، وأوامرنا بالعصيان، وأمّا التلقين للعذر، فكأنّه يقول: أيّها المخالف لنا ناسيا لا عامدا، وساهيا لا قاصدا! اعذرناك لنسيانك، وعفونا عنك لإيمانك.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما (١) -: يا أيّها الناس: خطاب لأهل مكة، ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خطاب لأهل المدينة. وهو هنا خطاب عامّ لسائر المكلّفين؛ لأنّ ذلك أمر أغلبي على أنّ السورة مدنية.
واعلم (٢): أنّ النداء الواقع في القرآن على سبعة مراتب:
الأول: نداء مدح، كقوله: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾.
والثاني: نداء ذمّ، كقوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا﴾، ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
والثالث: نداء تنبيه، كقوله: ﴿يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ﴾، ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ﴾.
والرابع: نداء إضافة، كقوله: ﴿يا عِبادِيَ﴾.
والخامس: نداء نسبة، كقوله: ﴿يا بَنِي آدَمَ﴾، ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ﴾.
والسادس: نداء تسمية، كقوله: ﴿يا داوُدُ﴾، ﴿يا إِبْراهِيمُ﴾.
والسابع: نداء تعنيف، كقوله: ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ﴾.
(١) صاوي.
(٢) الخازن.
227
﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ يقول للكفّار: (١) وحّدوا ربّكم، ويقول للعاصين: أطيعوا ربّكم، ويقول للمنافقين: أخلصوا بالتوحيد معرفة ربّكم، ويقول للمطيعين: اثبتوا على طاعة ربّكم. واللفظ يحتمل لهذه الأوجه كلّها، وهو من جوامع الكلم، كما في «تفسير أبي الليث». والعبادة: استفراغ الطاقة في استكمال الطاعة، واستشعار الخشية في استبعاد المعصية. ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ صفة جرت عنه للتعظيم والتعليل معناه: أطيعوا ربّكم الذي خلقكم، لخلقكم ولم تكونوا شيئا. والخلق: اختراع الشيء على غير مثال سبق. ﴿وَ﴾ خلق ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾؛ أي: من أهل زمن قبل زمانكم من الأمم. فـ ﴿مِنْ﴾ ابتدائية متعلّقة بمحذوف، وفي الوصف به، إيماء إلى سبب وجوب عبادته تعالى، فإنّ خلق أصولهم من موجبات العبادة، كخلق أنفسهم. وفيه دلالة على شمول القدرة، وتنبيه من سنة الغفلة؛ أي: أنّهم كانوا فمضوا، وجاءوا وانقضوا، فلا تنسوا مصيركم، ولا تستجيزوا تقصيركم.
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾؛ أي: اعبدوه وحده؛ لتجعلوا عبادته وقاية وسترا بينكم وبين عذابه، هذا إن جرينا على أنّ (لعلّ) للتعليل. ويحتمل كونها على أصل معناها من الترجيّ، فتكون جملتها حالا من فاعل ﴿اعْبُدُوا﴾؛ أي: أفردوه بالعبادة حالة كونكم راجين أن تدخلوا، وتنظّموا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح، المستوجبين لجوار الله تعالى. و (لعلّ) للترجّي والإطماع، وهي من الله تعالى واجب؛ لأنّ الكريم لا يطمع إلّا فيما يفعل. والأولون والآخرون مخاطبون بالأمر بالتقوى. وخصّ المخاطبين بالذكر؛ تغليبا لهم على الغائبين، كما في «الكواشي».
وقرأ ابن السميفع (٢) ﴿وخلق من قبلكم﴾ جعله من عطف الجمل. وقرأ زيد بن علي ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ بفتح ميم (من) قال الزمخشري: وهي قراءة مشكلة، ووجهها على إشكالها بأن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته؛ تأكيدا، كما أقحم جرير في قوله:
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
228
يا تيم تيم عدي لا أبالكم
تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في (لا أبالك). انتهى كلامه. ذكره في «البحر».
وفيه تنبيه: على أنّ التقوى منتهى درجة السالكين، وهو التبرّي من كلّ شيء سوى الله تعالى، وأنّ العابد ينبغي له أن لا يغترّ بعبادته، ويكون ذا خوف ورجاء، كما قال تعالى: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ﴾.
وحاصل المعنى: أي أنّ هذا الربّ العظيم المتصف بتلك الصفات التي تعلمونها، هو الذي خلقكم وخلق من قبلكم، وربّاكم وربّى أسلافكم، ودبّر شؤونكم، ووهبكم من طرق الهداية ووسائل المعرفة مثل ما وهبهم، فاعبدوه وحده، ولا تشركوا بعبادته أحدا من خلقه. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (٢١)؛ أي: فاعبدوه على تلك الشاكلة، فإنّ العبادة على هذا السنن هي التي تعدّكم للتقوى، ويرجى بها بلوغ درجة الكمال القصوى.
٢٢ - ثمّ ذكر بعض خصائص الربوبيّة التي تقتضي الاختصاص به تعالى، فقال: ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ وصيّر ﴿لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا﴾ صفة ثانية لربّكم؛ أي: بساطا تقعدون، وتنامون عليها، وتتقلّبون فيها، كالفراش المبسوط.
وقدم (١) ذكر الأرض على السماء وإن كانت أعظم في القدرة، وأمكن في الحكمة، وأتمّ في النعمة، وأكبر في المقدار؛ لأنّ السقف والبنيان فيما يعهد، لا بدّ له من أساس وعمد مستقرّ على الأرض، فبدأ بذكرها، إذ على متنها يوضع الأساس، وتستقرّ القواعد، إذ لا ينبغي ذكر السقف أولا قبل ذكر الأرض التي تستقرّ عليها قواعده؛ أو لأنّ خلق الأرض متقدم على خلق السماء، ذكره في «البحر».
قال أهل اللغة: الأرض: بساط العالم وبسيطها، من حيث إنّه يحيط بها
(١) البحر المحيط.
229
البحر الذي هو البحر المحيط أربعة وعشرون ألف فرسخ، كلّ فرسخ ثلاثة أميال، وهو اثنا عشر ألف ذراع بالذراع المرسلة، وكلّ ذراع ستّ وثلاثون أصبعا، كلّ أصبع ستّ حبّات شعير، مصفوفة بطون بعضها إلى بعض. فللسودان: اثنا عشر ألف فرسخ، وللبيضان: ثمانية، وللفرس: ثلاثة، وللعرب ألف، كذا في كتاب «الملكوت».
وسمت وسط الأرض المسكونة حضرة الكعبة المشرفة، وأمّا وسط الأرض كلّها عامرها وخرابها، فهو الموضع الذي يسمّى قبّة الأرض، وهو مكان يعتدل فيه الأزمان في الحرّ والبرد، ويستوي الليل والنهار أبدا، لا يزيد أحدهما على الآخر، كما في «الملكوت».
وروي عن عليّ - كرم الله وجهه -: أنّه قال: (إنّما سميت الأرض أرضا؛ لأنّها تتأرّض ما في بطنها)؛ يعني: تأكل ما فيها. وقال بعضهم: لأنّها تتأرّض بالحوافر والأقدام.
ومعنى جعلها ﴿فَرْشًا﴾ جعل بعضها بارزا من الماء مع اقتضاء طبعها الرسوب، وجعلها متوسّطة بين الصلابة واللين، صالحة للقعود عليها والنوم فيها، كالبساط المفروش، وليس من ضرورة ذلك كونها سطحا حقيقيا، وهو الذي له طول وعرض، فإنّ كرويّة شكلها مع عظم جرمها مصّححة لافتراشها.
وعبارة النسفي هنا: وليس فيه دليل على أنّ الأرض مسطّحة أو كروية، إذ الافتراش ممكن على كلا التقديرين.
﴿وَ﴾ جعل ﴿السَّماءَ﴾ وهو ما علاك وأظلّك؛ لأنّه من السموّ بمعنى: العلوّ. ﴿بِناءً﴾ أي: سقفا مبنيا فوق الأرض مرفوعا فوقها، كهيئة القبّة؛ أي: جعلها قبّة مضروبة عليكم. وكلّ سماء مطبقة على الأخرى، مثل: القبّة، والسماء الدنيا ملتزقة أطرافها على الأرض، كما في «تفسير أبي الليث».
قيل (١): إذا تأمّل الإنسان المتفكّر في العالم، وجده كالبيت المعمور فيه كلّ
(١) الخازن.
230
ما يحتاج إليه، والسماء مرفوعة كالسقف، والأرض مفروشة كالبساط، والنجوم كالمصابيح، والإنسان كمالك البيت، وفيه ضروب النبات المهيّئة لمنافعه، وأصناف الحيوان مصروفة في مصالحه، فيجب على الإنسان المسخرة له هذه الأشياء، شكر الله تعالى عليها بالتوحيد، والإيمان، والطاعة. وما أحسن قول أبو العتاهية:
فيا عجبا كيف يعصى الإله... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كلّ شيء له آية... تدلّ على أنّه الواحد
﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ﴾؛ أي: من السحاب ﴿ماءً﴾؛ أي: مطرا عذبا فراتا، أو أنزل من السماء مطرا ينحدر منها على السحاب، ومنه على الأرض. وفيه ردّ لزعم من قال: إنّه يأخذه من البحر. ﴿فَأَخْرَجَ﴾ سبحانه وتعالى بفضله وقدرته، وأنبت ﴿بِهِ﴾؛ أي: بسبب ذلك الماء الذي أنزل من السماء ﴿مِنَ﴾ أنواع ﴿الثَّمَراتِ﴾ والفواكه والنباتات، فالمراد بالثمرات ههنا: المأكولات كلّها من الحبوب والفواكه، وغيرها مما يخرج من الأرض والشجر، كما في «التيسير».
﴿رِزْقًا﴾ وغذاء وقوتا ﴿لَكُمُ﴾ وعلفا لدوابّكم.
وذلك (١) أنّه أودع في الماء قوة فاعليّة، وفي الأرض قوة منفعلة، فتولّد من تفاعلهما أصناف الثمار، فبين المظلّة والمقلّة شبه عقد النكاح، بإنزال الماء منها عليها، والإخراج به من بطنها، أشباه النسل المنتج من الحيوان من ألوان الثمار رزقا لبني آدم، ولسائر الأنعام والدوابّ. و ﴿مِنَ﴾ للبيان، و ﴿رِزْقًا﴾؛ أي: طعاما وعلفا لكم ولدوابّكم، كما مرّ آنفا، ففيه تقديم البيان على المبيّن؛ لغرض الاهتمام.
والمعنى (٢): أنّ الله تعالى أنعم عليكم بذلك كلّه، لتعرفوه بالخالقيّة والرازقيّة، فتوحّدوه.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
231
﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدادًا﴾ والفاء فيه إما تفريعية، أو فصيحية؛ أي: إذا عرفتم أنّه خالق السموات والأرض وما فيهما، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم، فأقول لكم: لا تجعلوا لله سبحانه وتعالى أندادا؛ أي: شركاء وأشباها من الأصنام، وغيرها تشركونها مع الله تعالى في العبادة. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، أي:
والحال أنكم تعلمون أنّها لا تخلق شيئا، ولا ترزق أحدا، وأنّ الله هو الخالق الرازق. أو تعلمون أنّه ليس في التوراة والإنجيل جواز اتخاذ الأنداد. والأنداد: جمع ندّ، وهو المثل؛ أي: لا تجعلوا له أمثالا تعبدونهم كعبادة الله؛ يعني: لا تقولوا له شركاء تعبد معه. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - (لا تقولوا لولا فلان لأصابني كذا، ولولا كلبنا يصيح على الباب لسرق متاعنا)، وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إيّاكم ولو فإنّه من كلام المنافقين» قالوا: ﴿لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا﴾.
وفي «الصحيحين» عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله! أيّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل الله ندّا وهو خلقك» الحديث، وكذا حديث معاذ «أتدري ما حقّ الله على عباده؟ حقّ الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا» الحديث.
قال البيضاويّ: واعلم أنّ مضمون الآيتين: هو الأمر بعبادة الله وتوحيده، والنهي عن الإشراك به، والإشارة إلى ما هو العلّة والمقتضي لذلك. انتهى.
وفي «المراغي»: الأنداد (١): هم الذين خضع الناس لهم، وقصدوهم في قضاء حاجاتهم، وكان مشركوا العرب يسمّون ذلك الخضوع عبادة، إذ لم يكن عندهم شرع ينهاهم عن عبادة غير الله تعالى، وأهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أندادا وأربابا، كانوا يتحاشون هذا اللفظ، فلا يسمّون ذلك الاتخاذ عبادة، ولا أولئك المعظّمين آلهة وأندادا، بل يسمّون دعاءهم غير
الله، والتقرب إليه توسّلا واستشفاعا، ويسمّون تشريعهم لهم بعض العبادات، وتحليل
(١) المراغي.
232
المنكرات، وتحريم بعض الطيبات فقها واستنباطا من التوراة، والكل متفقون على أنّه لا خالق إلّا الله ولا رازق إلّا هو. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي: وإنّكم لتعلمون بطلان ذلك، وإنّكم إذا سئلتم من رزقكم من السموات والأرض؟ ومن يدبّر الأمر؟ تقولون: الله، فلم إذا تدعون غيره وتستشفعون به؟. ومن أين أتيتم بهذه الوسائط التي لا تضرّ ولا تنفع؟ ومن أين جاءكم أنّ التقرب إلى الله يكون بغير ما شرعه الله حتى قلتم: ﴿ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى﴾.
وقرأ زيد بن عليّ، ومحمد بن السميفع (١): ﴿ندا﴾ على التوحيد، وهو مفرد في سياق النهي، فالمراد به: العموم، إذ ليس المعنى: فلا تجعلوا لله ندّا واحدا، بل أندادا.
٢٣ - ولمّا احتجّ سبحانه وتعالى، عليهم في إثبات توحيد الألوهية والربوبيّة بما تقدم، احتجّ عليهم في إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بما قطع عذرهم، فقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ﴾ أيّها الناس ﴿فِي رَيْبٍ﴾ وشكّ ﴿مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا﴾ أي: في كون القرآن المعجز الذي نزلناه على عبدنا ورسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وحيا منزّلا من عند الله تعالى، أو مفترى من عند نفسه. والتنزيل (٢): هو النزول على سبيل التدريج، وأنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا إلى بيت العزّة، ثمّ منه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مفرّقا منجما في ثلاث وعشرين سنة؛ ليحفظ، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم كان أمّيّا لا يقرأ ولا يكتب، ففرّق عليه؛ ليثبت عنده حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنّه كان كاتبا قارئا، فيمكنه حفظ الجميع من الكتاب، ولذا قالوا: إنّ سائر الكتب الإلهية أنزلت جملة.
وفي إضافة العبد إليه تعالى: تنبيه على عظم قدره صلّى الله عليه وسلّم واختصاصه بخالص العبودية ورفع محلّه. وإضافته إلى نفسه تعالى واسم العبد عامّ وخاصّ، وما هنا من الخاص، كقوله:
لا تدعني إلّا بيا عبدها... لأنّه أشرف أسمائي
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
233
ومن قرأ ﴿على عبادنا﴾ بالجمع، فقيل: يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمّته، قاله الزمخشري، ذكره في «البحر»؛ لأنّ المكذّب لمحمد مكذّب لأمته، لأنّهم تبعه.
وقوله: ﴿فَأْتُوا﴾ جواب الشرط، وهو أمر تعجيز ﴿بِسُورَةٍ﴾ واحدة كائنة ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾؛ أي: من مثل هذا القرآن الذي نزلناه على عبدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم في البلاغة، والفصاحة، والبيان الغريب، وعلوّ الطبقة في حسن النظم، والتركيب، والإخبار عن المغيّبات؛ أي: فهاتوا وجيئوا بسورة واحدة مماثلة له فيما ذكر، فأنتم بشر فصحاء مثله، هذا إن جرينا على أنّ الضمير في ﴿مِثْلِهِ﴾ عائد على ما نزلنا، وهو المتبادر.
والمعنى: أي (١) ائتوا أنتم بمثل ما أتى هو، إن كان الأمر كما زعمتم من كونه كلام البشر، إذ أنتم وهو سواء في الجوهر، والخلقة، واللسان، وليس هو أولى بالاختلاق منكم. ثمّ القرآن وإن كان لا مثل له؛ لأنّه صفة الله وكلامه ووحيه، ولا مثل لصفاته، كما لا مثل لذاته، لكن معناه من مثله على زعمكم، فقد كانوا يقولون: لو شئنا لقلنا مثل هذا، كما في «التيسير».
ويحتمل (٢) عود الضمير على ﴿عَبْدِنا﴾، والمعنى حينئذ: فهاتوا بسورة واحدة واقعة من بشر مماثل لعبدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم في كونه عربيّا فصيحا. وحدّ السورة: هي قطعة من القرآن معلومة الأول والآخر، مترجم عنها باسم خاصّ، أقلّها ثلاث آيات. وإنّما سميت سورة؛ لكونها أقوى من الآية من سورة الأسد والشراب؛ أي: قوته. والآية قطعة من السورة مميزا بفصل يسمّى الفاصلة، هذا إن كان واوها أصلية، وإن كانت منقلبة عن همزة، فهي مأخوذة من السؤر الذي هو البقية من الشيء، فالسورة قطعة من القرآن مفرزة باقية من غيرها.
قال القاضي زكريا: إن قلت: لم ذكرت ﴿مِنْ﴾ هنا، وحذفت في سورتي: يونس وهود؟
قلت: لأنّ ﴿مِنْ﴾ هنا للتبعيض، أو للتبيين، أو زائدة على قول الأخفش:
(١) روح البيان.
(٢) العمدة.
234
بتقدير رجوع الضمير في ﴿مِثْلِهِ﴾ إلى ما في قوله: ﴿مِمَّا نَزَّلْنا﴾، وهو الأوجه، والمعنى على الأخير: فأتوا بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة وحسن النظم، وعلى الأولين: فأتوا بسورة مما هو على صفته في البلاغة وحسن النظم، وحينئذ فكأنّه منه، فحسن الإتيان بمن الدالة على ما ذكر، بخلاف ذاك، فإنّه قد وصف السور بالافتراء صريحا في هود، وإشارة في يونس، فلم يحسن الإتيان بمن الدالة على ما ذكر؛ لأنّها حينئذ تشعر بأنّ ما بعدها من جنس ما قبلها، فيلزم أن يكون قرآنا، وهو محال. ويجوز جعل ﴿مِنْ﴾ للابتداء بتقدير رجوع الضمير في ﴿مِثْلِهِ﴾ إلى ﴿عَبْدِنا﴾؛ أي: محمد، والمعنى: فأتوا بسورة مبتدأة من شخص مثل محمد، ذكره في «فتح الرحمن».
وقوله: ﴿وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ﴾ معطوف على جواب الشرط، جمع شهيد بمعنى: الحاضر، أو القائم بالشهادة، أو الناصر. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ إما متعلّقة بادعوا، فالمعنى: ادعوا متجاوزين الله من حضركم كائنا من كان، للاستظهار في معارضة القرآن، أو الحاضرين في مشاهدكم ومحاضركم من رؤسائكم وأشرافكم الذين تفزعون إليهم من الملمّات، وتعوّلون عليهم في المهمّات. أو القائمين بشهادتكم الجارية فيما بينكم من أمثالكم المتولّين، لاستخلاص الحقوق بتنفيذ القول عند الولاة. أو القائمين بنصركم حقيقة أو زعما من الإنس والجنّ، ليعينوكم. وقال القاضي: معنى ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: من غيره، وهو بهذا المعنى في جميع ما جاء في القرآن.
وإما متعلّقة بشهداءكم، والمراد بهم: الأصنام. و ﴿دُونِ﴾ بمعنى: التجاوز على أنّها ظرف مستقرّ وقع حالا من ضمير المخاطبين، والعامل ما دلّ عليه ﴿شُهَداءَكُمْ﴾؛ أي: ادعوا أصنامكم الذين اتخذتموهم آلهة، وزعمتم أنّهم يشهدون لكم يوم القيامة أنّكم على الحقّ، متجاوزين الله في اتخاذها كذلك.
والمعنى عليه: وادعوا آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، ليساعدوكم في معارضة هذا القرآن والإتيان بمثله. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في مقالتكم: إنّ محمّدا افتراه من عند نفسه، فإنّكم عربيون فصحاء مثله. وسميّت الآلهة شهداء؛ لزعمهم
235
أنّهم يشهدون لهم يوم القيامة بصحّة عبادتهم إياهم. والصدق: خلاف الكذب، وهو مطابقة الخبر للواقع أو الاعتقاد، أو لهما على
الخلاف المذكور في علم المعاني.
ودلّت الآية: على أنّ الاستعانة بالخلق لا تغني شيئا، وما يغني رجوع العاجز عن العاجز، فلا ترفع حوائجك إلّا إلى من لا يشّق عليه قضاؤها، ولا تسأل إلّا من لا تفنى خزائنه، ولا تعتمد إلّا على من لا يعجز عن شيء ينصرك من غير معين، ويحفظك من كلّ جانب ومن غير صاحب، ويغنيك من غير مال، فيقلّ أعداد الأعداء الكثيرة إذا حماك، ويكثر عدد المال القليل إذا كفاك.
وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في أنّ محمدا تقوّله من تلقاء نفسه، وفي أنّ فيه مجالا للريب، وأنّ آلهتكم شهداؤكم. شرط جوابه محذوف، تقديره: فافعلوا؛ أي: فأتوا بسورة من مثله.
وقد نزل في هذا المعنى آيات كثيرة بمكة، أوّلها: ما في سورة الإسراء ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾ الآية، ثمّ ما في سورة هود ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾، ثمّ ما في سورة يونس ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾، وما جاء في هذه السورة المدنية.
فائدة: وأصل (١) معنى ﴿دُونِ﴾: أدنى مكان من الشيء، واتسع فيه حتى استعمل في تخطّي الشيء إلى شيء آخر، ومنه ما في هذه الآية، وكذلك قوله تعالى: ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾. وله معان أخر:
منها: التقصير عن الغاية والحقارة. يقال: هذا الشيء دون؛ أي: حقير، ومنه قوله:
إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع بالدّون من كان دونا
(١) الشوكاني.
236
والقرب. يقال: هذا دون ذاك؛ أي: أقرب منه، ويكون إغراء. تقول:
دونك زيدا؛ أي: خذه من أدنى مكان.
٢٤ - ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد ما بذلتم في السعي غاية المجهود، يعني: فيما مضى وغبر، وحضر من الزمان، والجملة فعل شرط لإن.
وقوله: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾. فيما يستقبل أبدا؛ وذلك لظهور إعجاز القرآن. اعتراض بين الشرط وجوابه، وهذه الجملة المعترضة معجزة باهرة، أخبر بها القرآن قبل وقوعها، حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به سبحانه وتعالى، وقد وقع القرآن كذلك، كيف لا ولو عارضوه بشيء بداية في الجملة لتناقله الرواة خلفا عن سلف، فلم تقع المعارضة من أحد من الكفرة في أيّام النبوة وفيما بعدها إلى الآن. وقوله: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ بالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقيام بفرائضه، واجتناب مناهيه. جواب الشرط.
والمعنى: أي (١) فإن لم تأتوا الآن بسورة من مثل المنزل على محمدّ صلّى الله عليه وسلّم لعجزكم عنها، ولن تقدروا على أن تأتوا بمثله في المستقبل لتحقّق عجزكم الآن ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ أي: فاجعلوا لأنفسكم وقاية وسترا من النار المذكورة، بتصديق هذا القرآن، ومن جاء به. وعبّر عن الإتيان بالفعل؛ لأنّ الإتيان فعل من الأفعال، ولقصد الاختصار.
والخلاصة: أي (٢) وحين عجزتم عن معارضة القرآن، وعن الإتيان بمثله، لزمتكم الحجة على أنّ محمدا رسولي، والقرآن كتابي، ولزمكم تصديقه والإيمان به، وإن لم تؤمنوا صرتم من أهل النار، فاتقوها.
وفي «الكشاف»: لصيق اتقاء النار، وضميمة ترك العناد من حيث إنّه من نتائجه؛ لأنّ من اتّقى النار ترك المعاندة، فوضع ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ موضع فاتركوا العناد. اه.
(١) العمدة.
(٢) روح البيان.
237
وقال القاضي: إن قلت: لم عرّف النار هنا، ونكرّها في التحريم؟
قلت: لأنّ الخطاب في هذه السورة مع المنافقين، وهم في أسفل النار المحيطة بهم، فعرفت بلام الاستغراق، أو العهد الذهني، وفي تلك مع المؤمنين، والذين يعذّبون من عصاتهم بالنار يكونون في جزء من أعلاها. فناسب تنكيرها لتقليلها. وقيل: لأنّ تلك الآية نزلت في مكة قبل هذه، فلم تكن النار التي وقودها الناس والحجارة معروفة، فنكّرها ثمّ، وهذه نزلت بالمدينة، فعرفت إشارة إلى ما عرفوه أوّلا. وردّ هذا: بأنّ آية التحريم نزلت بالمدينة بعد هذه الآية التي هنا.
﴿الَّتِي وَقُودُهَا﴾ وحطبها الذي توقد به ﴿النَّاسُ﴾؛ أي: العصاة من الكفار وغيرهم. وقدم الناس على الحجارة؛ لأنّهم العقلاء الذين يدركون الآلام والمعذّبون؛ أو لكونهم أكثر إيقاد للنار من الجماد، لما فيهم من الجلود، واللحوم، والشحوم، والعظام، والشعور؛ أو لأنّ ذلك أعظم في التخويف، فإنّك إذا رأيت إنسانا يحرق، اقشعرّ بدنك وطاش لبّك، بخلاف الحجر. ﴿وَالْحِجارَةُ﴾ أي: (١) حجارة الكبريت، وإنما جعل حطبها منها؛ لسرعة اتقادها؛ أي التهابها، وبطىء خمودها، وشدة حرها، وقبح رائحتها، ولصوقها بالبدن. أو الحجارة هي الأصنام التي عبدوها، وإنما جعل التعذيب بها؛ ليتحققوا أنهم عذبوا بعبادتها؛ وليروا ذلها ومهانتها بعد اعتقادهم عزّها وعظمتها، قال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾، والكافر عبد الصنم، واعتمده، ورجاه، فعذّب به، إظهارا لجهله وقطعا لأمله، كأتباع الكبراء خدموهم، ورجوهم، وفي النار يسحبون معهم؛ ليكون أشق عليهم وأقطع لرجائهم.
فإن قلت: أنار الجحيم كلّها توقد بالناس والحجارة، أم هي نيران شتّى منها نار بهذه الصفة؟
قلت: بل هي نار شتّى منها: نار توقد بالناس والحجارة، يدلّ على ذلك
(١) روح البيان.
238
تنكيرها في قوله تعالى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نارًا﴾، وقوله سبحانه ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نارًا تَلَظَّى﴾. ولعل لكفّار الجنّ ولشياطينهم نارا وقودها الشياطين، كما أنّ لكفرة الإنس نارا وقودها هم، جزاء لكلّ جنس بما يشاكله من العذاب.
وفي هذا من (١) التهويل ما لا يقادر قدره، من كون هذه النار تتقد بالناس والحجارة، فأوقدت بنفس ما يراد إحراقه بها. ﴿أُعِدَّتْ﴾ أي: هيّئت ﴿لِلْكافِرِينَ﴾ أي: للذين كفروا بما نزلناه على رسلنا، وجعلت عدّة لعذابهم. وفيه دلالة على أنّ النار مخلوقة موجودة الآن خلافا للمعتزلة، وفيه أيضا: دلالة على أنّ الكافرين هم المقصود بخلقها أصالة.
وفي الآية (٢): إشارة إلى أنّ ثمرة الأخذ بالقرآن والإقرار به، وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم هو النجاة من النار التي وقودها الناس والحجارة، وفيه زيادة فضل القرآن وأهله.
قال البغوي عند قوله: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ﴾ قيل: السورة اسم للمنزلة الرفيعة، وسمّيت سورة؛ لأنّ القارىء ينال بقراءتها منزلة رفيعة،
حتى يستكمل المنازل باستكمال سور القرآن. اه.
وخلاصة معنى الآية (٣): إذا ظهر عجزكم عن المعارضة، صحّ عندكم صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم وإذا صحّ ذلك فاتركوا العناد، وإذا لزمتم العناد استوجبتم العقاب بالنار.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿وَقُودُهَا﴾ بفتح الواو، وهو الحطب الذي تتقد به، وقد جاء بالفتح مصدرا أيضا. وقرأ الحسن باختلاف، ومجاهد، وطلحة، وأبو حيوة، وعيسى بن عمر الهمدانيّ بضمّ الواو، وهو مصدر بمعنى: التوقد، وهو حينئذ على حذف مضاف؛ أي: ذو وقودها، لأنّ الناس والحجارة ليسا نفس الاتقاد،
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
(٤) البحر المحيط.
239
أو على أن جعلوا نفس الوقود مبالغة. وقرأ عبيد بن عمير ﴿وقيدها﴾ على وزن فعيل، وهو بمعنى: الحطب، كقراءة الجمهور.
وعبارة المراغي هنا: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ الآية، والنار (١) موطن العذاب، ونحن نؤمن بها كما أخبر القرآن، ولا نبحث عن حقيقتها، والوقود بفتح الواو: ما توقد به النار، والمراد بالناس: العصاة، والمراد بالحجارة هنا: الأصنام، كما قال: ﴿إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾، وقوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾؛ أي: هيّئت للذين لا يستجيبون دعوة الرسل، أو ينحرفون عنها لمخالفتهم هدي الدين، وعمل ما تنكره شرائع الأنبياء والمرسلين من الخرافات والبدع.
والخلاصة: فإن لم تفعلوا ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد أن بذلتم المجهود ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ فليس في استطاعتكم، فاحذروا من العناد، واعترفوا بكونه منزلا من عند الله تعالى، لئلا تكونوا أنتم وأصنامكم وقودا للنار التي أعدّت لأمثالكم من الكافرين. اه.
٢٥ - ولمّا ذكر الله سبحانه وتعالى جزاء الكافرين، عقّبه بجزاء المؤمنين؛ ليجمع بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، كما هي عادته سبحانه في كتابه العزيز؛ لما في ذلك من تنشيط عباده المؤمنين لطاعاته، وتثبيط عباده الكافرين عن معاصيه، فقال: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا...﴾ الخ. وقال ابن كثير: (٢) لمّا ذكر الله سبحانه وتعالى، ما أعدّه لأعدائه من الأشقياء الكافرين بالله وبرسله من العذاب والنكال، عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذين صدّقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة. وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصحّ أقوال العلماء، وهو أن يذكر الإيمان، ويتبع بذكر الكفر أو عكسه، أو حال السعداء، ثمّ الأشقياء أو عكسه. وحاصله: أنّه ذكر الشيء ومقابله. انتهى.
(١) المراغي.
(٢) ابن كثير.
240
والبشارة: الخبر السارّ الذي يظهر به أثر السرور في البشرة، والتبشير: الإخبار بما يظهر أثره على البشرة، وهي الجلدة الظاهرة من البشر والسرور.
والمأمور بالتبشير هنا، قيل: هو النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: هو كل أحد ممن يتأتّى منه التبشير، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بشّر المشّائين إلى المساجد في ظلم الليالي، بالنور التامّ يوم القيامة»، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر بذلك واحدا بعينه، بل كلّ أحد ممّن يتأتّى منه ذلك، كالعلماء وولاة الأمور. والأمر على الأول للوجوب؛ لأنّ البشارة من جملة ما أمر بتبليغه.
أي: فرّح يا محمد قلوب الذين آمنوا، وصدّقوا بأنّ القرآن منزل من عند الله تعالى، وبجميع ما أرسلت به. ﴿وَعَمِلُوا﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحاتِ﴾ من الفرائض والنوافل، جمع صالحة؛ أي: وعملوا الفعلات الصالحات، وهي كلّ ما كان لله تعالى. وفي عطف (١) العمل على الإيمان، دلالة على تغايرهما، وإشعار بأنّ مدار استحقاق البشارة مجموع الأمرين، فإنّ الإيمان أساس، والعمل الصالح كالبناء عليه، ولا غناء بأساس لا بناء عليه. وطلب الجنة بلا عمل حال السفهاء؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى، جعل العمل سببا لدخول الجنة، والعبد وإن كان يدخله الله الجنة بمجرّد الإيمان، لكن العمل يزيد نور الإيمان، وبه يتنوّر قلب المؤمن، وكم من عقبة كؤود تستقبل العبد إلى أن يصل إلى الجنة، وأوّل تلك العقبات عقبة الإيمان، أنّه هل يسلم من السلب أم لا؟ فلزم العمل لتسهيل العقبات.
أي: أخبر يا محمد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بشارة بـ ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ أي: حدائق وبساتين ذات أشجار مثمرة، ومساكن مزيّنة. والجنة: ما فيه النخيل، والفردوس: ما فيه الكرم، كذا قال الفراء. ولفرط التفاف أغصان أشجارها، وتستّرها بالأشجار سمّيت جنة، كأنّها سترة واحدة، لأنّ الجنة بناء مرّة. وإنّما سميت دار الثواب بها مع أنّ فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور؛ لما أنّها مناط نعيمها ومعظم ملاذّها.
(١) روح البيان.
241
فإن قلت: ما معنى جمع الجنة وتنكيرها؟
قلت: الجنة اسم لدار الثواب كلّها، وهي مشتملة على جنّات كثيرة مرتّبة مراتب على استحقاقات العاملين، لكلّ طبقة منهم جنة من تلك الجنات.
والمراد بالجنة هنا (١): دار الخلود في الحياة الآخرة، أعدّها الله للمتقين، كما أعدّ النار للكافرين، ونحن نؤمن بهما ولا نبحث عن حقيقتهما. ثمّ (٢) الجنان ثمان: دار الجلال كلّها من نور مدائنها، وقصورها، وبيوتها، وأوانيها، وشرفها وأبوابها، ودرجها، وغرفها، وأعاليها، وأسافلها، وخيامها، وحليها، وكلّ ما فيها. ودار القرار كلّها من المرجان، ودار السلام كلّها من الياقوت الأحمر، وجنة عدن من الزبرجد كلّها، وهي قصبة الجنة، وهي مشرفة على الجنان كلّها، وجنة المأوى من الذهب الأحمر كلّها، وجنّة الخلد من الفضّة كلّها، وجنة الفردوس من اللؤلؤ كلّها، وجنة النعيم من الزمردّ كلّها، كذا قالوا، والله أعلم.
وجملة قوله: ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت أشجارها ومساكنها على ظهر الأرض من غير حفيرة. ﴿الْأَنْهارُ﴾ الأربعة المذكورة في (سورة محمد)؛ أي: المياه المعهودة في الجنة المذكورة في قوله تعالى: ﴿فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ الآية. وهي أنهار الخمر، واللبن، والعسل، والماء. صفة لقوله: ﴿جَنَّاتٍ﴾.
والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها وهو (٣) المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، كالنيل وهو نهر مصر، والمراد بها: الماء الجاري فيها، وأسند الجري إليها مجازا، والجاري حقيقة هو الماء، كما في قوله تعالى: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾؛ أي: أهلها، وكما قال الشاعر:
ونبّئت أنّ النّار بعدك أوقدت واستبّ بعدك يا كليب المجلس
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
242
والضمير في قوله: ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ عائد إلى الجنات، ولكنه على تقدير مضاف؛ لاشتمالها على الأشجار؛ أي: من تحت أشجارها، كما مرّ آنفا.
فإن قلت (١): كيف جري الأنهار من تحتها؟
قلت: كما ترى الأشجار النابتة على شواطىء الأنهار الجارية. وعن مسروق: أنّ أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وهو الشقّ من الأرض بالاستطالة، وأنزه البساتين، وأكرمها منظرا، ما كانت أشجاره مظللة، والأنهار في خلالها مطّردة. ولولا أنّ الماء الجاري من النعمة العظمى، وأنّ الرياض وإن كانت أحسن شيء، لا تجلب النشاط حتى يجري فيها الماء، وإلّا كان السرور الأوفر مفقودا، وكانت كتماثيل لا أرواح لها، وصورا لا حياة لها، لما جاء الله بذكر الجنات ألبتة مشفوعا بذكر الأنهار الجارية من تحتها.
وقوله: ﴿كُلَّما رُزِقُوا﴾ وصف (٢) آخر للجنات، أو هو جملة مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنّ سائلا قال: كيف ثمارها؟. و ﴿كُلَّما﴾ ظرف زمان ضمّن معنى الشرط؛ أي: متى أطعموا ﴿مِنْها﴾؛ أي: من تلك الجنات ﴿مِنْ ثَمَرَةٍ﴾؛ أي: من أيّ ثمرة من أنواع ثمراتها. وليس المراد بالثمرة (٣): التفاحة الواحدة أو الرمّانة الفذّة، وإنما المراد: نوع من أنواع الثمرات. و ﴿مِنْ﴾ الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية، لأنّ الرزق قد ابتدىء من الجنات، والرزق من الجنّات قد ابتدىء من ثمرة. ﴿رِزْقًا﴾ مفعول رزقوا. والرزق: ما ينتفع به الحيوان طعاما.
﴿قالُوا﴾؛ أي: قال أصحاب الجنة للملائكة والولدان: ﴿هذَا﴾ الطعام الذي أتيتمونا به هو ﴿الَّذِي رُزِقْنا﴾ به ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: مثل الطعام الذي رزقنا به من قبل هذا في الدنيا، ولكن لمّا استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته.
وإنّما (٤) جعل ثمر الجنة كثمر الدنيا؛ لتميل النفس إليه حين تراه، فإنّ
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
243
الطباع مائلة إلى المألوف، متنفرة عن غير المعروف؛ وليتبيّن لها مزيّة، إذ لو كان جنسا غير معهود، لظن أنّه لا يكون إلّا كذلك وإن كان فائقا، فحين أبصروا الرمّانة من رمّان الدنيا ومبلغها في الحجم، وأنّ الكبرى لا تفضل عن حدّ البطيخة الصغيرة، ثمّ يبصرون رمّانة الجنة، وهي تشبع السكن - أي: أهل الدار - كان ذلك أبين للفضل، وأجلب للسرور، وأزيد في التعجّب من أن يفاجئوا ذلك الرمّان من غير عهد سابق بجنسه. وعموم ﴿كُلَّما﴾ يدلّ على ترديدهم هذه المقالة، كلّ مرة رزقوا فيما عدا المرّة الأولى، يظهرون بذلك التبجّح وفرط الاستغراب، لما بينهما من التفاوت العظيم من حيث اللذّة، مع اتحادهما في الشكل واللون، كأنّهم قالوا: هذا عين ما رزقناه في الدنيا، فمن أين له هذه الرتبة من اللذة والطيب.
ولا يقدح فيه ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (أنّه ليس في الجنّة من أطعمة الدنيا إلّا الاسم)، فإنّ ذلك، لبيان كمال التفاوت بينهما من حيث اللذّة، والحسن، والهيئة، لا لبيان أن لا تشابه بينهما أصلا، كيف لا وإطلاق الأسماء منوط بالاتحاد النوعي قطعا.
وجملة قوله: ﴿وَأُتُوا بِهِ﴾ حال من فاعل قالوا؛ أي: قالوا ذلك والحال أنّهم أتوا به، أي: جيئوا بذلك الرزق، أو المرزوق في الدنيا والآخرة جميعا.
والضمير عائد إلى ما دلّ عليه فحوى الكلام، مما رزقوا في الدارين حال كون ما أتوا به وأعطوه في الدارين. ﴿مُتَشابِهًا﴾ بعضه بعضا في اللون والجودة، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك أجود وألذّ، يعني: لا يكون فيه رديء، فقوله: ﴿مُتَشابِهًا﴾ حال من ضمير ﴿بِهِ﴾.
وقيل المعنى: (١) كلّما رزقوا من الجنة رزقا من بعض ثمارها قالوا: هذا الذي وعدنا به في الدنيا جزاء على الإيمان، وصالح الأعمال، فهو من وادي قوله تعالى: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ
(١) المراغي.
244
حَيْثُ نَشاءُ}. ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا﴾ أي: إنّ رزق الجنة وثمرها يتشابه على أهلها في صورته، ويختلف في طعمه ولذته.
وقيل المعنى: (١) ﴿كُلَّما رُزِقُوا﴾ وأعطوا، واطعموا ﴿مِنْها﴾؛ أي: من تلك الجنات ﴿مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾؛ أي: عطاء وطعاما من ثمرة من ثمارها. ﴿قالُوا﴾ للملائكة والولدان: ﴿هذَا﴾ الطعام الذي أتيتمونا به في هذه المرّة، مثل الطعام. ﴿الَّذِي رُزِقْنا﴾ وأعطينا به ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل هذه المرّة في الجنة؛ أي: مثله في الشكل واللون، فتقول الملائكة: كل يا عبد الله، فاللون واحد، والطعم مختلف. ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا﴾؛ أي: والحال أنّهم أعطوا بذلك الطعام، حال كونه متشابها بعضه بعضا في اللون والمنظر دون الطعم؛ أي: تأتيهم الملائكة والولدان برزق الجنة متشابها بعضه بعضا في اللون مختلفا في الطعم.
وقرأ الجمهور ﴿وَأُتُوا بِهِ﴾ مبنيا للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وهو الخدم والولدان، يبيّن ذلك قراءة هارون الأعور، والعتكي ﴿وَأُتُوا بِهِ﴾ على البناء للفاعل، ذكره في «البحر».
وروى مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أهل الجنة يأكلون، ويشربون، ولا يبولون، ولا يتغوّطون، ولا يتمخّطون، ولا يبزقون، ويلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النّفس طعامهم جشاء، ورشحهم كرشح المسك. وفي رواية: ورشحهم المسك. وعن مسروق: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها؛ أي: منضود بعضها على بعض؛ أي: متراكب ومجتمع ليس كأشجار الدنيا متفرّقة أغصانها وثمرتها أمثال القلال، كلّما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، والعنقود اثنا عشر ذراعا، ولو اجتمع الخلائق على عنقود لأشبعهم. وجاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم - فقال: يا أبا القاسم! تزعم أنّ أهل الجنة يأكلون ويشربون، فقال: «نعم والذي نفس محمد بيده، إنّ أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل، والشرب، والجماع»، قال: فإنّ الذي يأكل له
(١) العمدة.
245
حاجة، والجنة طيّبة ليس فيها أذى، قال عليه السلام: «حاجة أحدهم عرق كريح المسك».
وجملة قوله: ﴿وَلَهُمْ فِيها﴾؛ أي: في الجنة ﴿أَزْواجٌ﴾؛ أي: نساء وحور.
معطوفة على جملة قوله: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾. على كونها صفة لجنات؛ أي: وبشّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، بأنّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وجنات لهم فيها أزواج. ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾؛ أي: (١) مهذّبة منقّاة من الأحوال المستقذرة، كالحيض، والنفاس، والبول، والغائط، والمنيّ، والمخاط، والبلغم، والورم، والدّرن، والصّداع، وسائر الأوجاع، والولادة، ودنس الطبع، وسوء الخلق، وميل الطبع إلى غير الأزواج، وغير ذلك.
وقوله: ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ أبلغ من طاهرة ومتطهرة؛ للإشعار بأنّ مطهّرا طهّرهنّ، وما هو إلّا الله سبحانه وتعالى. وقرأ الجمهور (٢) ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ صفة للأزواج، مبنيّة على طهرت كالواحدة المؤنثة. وقرأ زيد بن علي ﴿مطهّرات﴾ فجمع بالألف والتاء على معنى: طهّرن. قال الزمخشري: وهما لغتان فصيحتان. يقال: النساء فعلن وهنّ فاعلات، والنساء فعلت وهي فاعلة. وقرأ عبيد بن عمير ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ بتشديد الطاء المفتوحة وتشديد الهاء المكسورة. أصله: متطهرة، وهي مناسبة لقراءة الجمهور. قال الحسن: هنّ عجائزكم العمص العمش طهّرن من قاذورات الدنيا. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (خلق الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتها من الزعفران، ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب؛ أي: الأبيض، ومن عنقها إلى رأسها من الكافور، إذ أقبلت يتلألأ نور وجهها، كما يتلألأ نور الشمس لأهل الدنيا).
وجملة قوله: ﴿وَهُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ حال من ضمير لهم؛ أي: ولهم فيها أزواج مطهّرة خالصة من الأدناس الحسية والمعنوية، حالة كونهم خالدين في تلك
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
246
الجنات ماكثين فيها أحياء أبدا، لا يموتون، ولا يخرجون منها؛ لأنّ من تمام النعمة عليهم الخلود فيها.
قال عكرمة: (١) أهل الجنة ولد ثلاث وثلاثين سنة، رجالهم ونساؤهم، وقامتهم ستون ذراعا على قامة أبيهم آدم، شباب جرد مرد، مكحلون، عليهم سبعون حلّة، تتلوّن كلّ حلة في كلّ ساعة سبعين لونا، لا يبزقون، ولا يتمخّطون، وما كان فوق ذلك من الأذى، فهو أبعد، يزدادون كلّ يوم جمالا وحسنا، كما يزداد أهل الدنيا هرما وضعفا، لا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم.
واعلم: أنّ معظم اللذات الحسيّة، لما كان مقصورا على المساكن، والمطاعم، والمناكح حسبما يقضي به الإستقراء، وكان ملاك جميع ذلك الدوام والثبات، إذ كلّ نعمة وإن جلّت حيث كانت في شرف الزوال، ومعرض الاضمحلال، فإنّها منغّصة غير صافية من شوائب الألم، بشّر المؤمنين بها وبدوامها تكميلا للبهجة والسرور، ولذلك قيل:
أشدّ الغمّ عندي في سرور تيقّن عنه صاحبه انتقالا
واعلم (٢): أنّ صحبة الأزواج في الآخرة من الأمور الغيبية التي نؤمن بها، كما أخبر الله تعالى، ولا نبحث فيما وراء ذلك، فأطوار الآخرة أعلى مما في حياتنا الدنيا، فهي سالمة من المنغّصات في الطعام، والشراب، والمباشرة الزوجيّة، كما أخبره النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث مسلم السابق.
وقد ورد في الحديث الصحيح (٣)، ما يدلّ على كثرة الأزواج من الحور وغيرهنّ، وأريد بالأزواج هنا القرناء من النساء اللاتي تختصّ بالرجل، لا يشركه فيها غيره، فمعنى تطهيرهنّ: (إن كنّ من الحور، كما روي عن عبد الله: خلقهنّ على الطهارة لم يعلق بهنّ دنس ذاتيّ ولا خارجيّ) (وإن كنّ من بني آدم، كما روي عن الحسن: تطهيرهنّ من الأدناس الّتي كانت بها في الدنيا، ذاتيّة كانت
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
247
كالحيض، والنفاس، والبول، والغائط، أو عرضيّة، كالبخر، والصّنان، والقيح، والصديد، أو معنويّة كالغضب، والحقد، والحدّة، والكيد، والمكر، والميل إلى غير الأزواج).
٢٦ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي﴾. الخ. أنزل الله سبحانه هذه الآية ردّا على الكفار، لمّا أنكروا ما ضربه من الأمثال، كقوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾. وقوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾، فقالوا: الله أجلّ وأعلى من أن يضرب الأمثال. وقال الحسن وقتادة: لمّا ذكر الله سبحانه الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود، وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله هذه الآية، كما مرّ في الأسباب بسطه.
والظاهر (١) ما ذكرناه أوّلا؛ لكون هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلها، ولا يستلزم استنكارهم لضرب الأمثال بالأشياء المحقرة أن يكون ذلك، لكونه قادحا في الفصاحة والإعجاز.
والحياء: تغيّر وانكسار، يعتري الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذمّ، كذا في «الكشاف»، وتبعه الرازي في «مفاتيح الغيب». وقال القرطبي: أصل الاستحياء: الانقباض عن الشيء، والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله تعالى. وقد اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية من ذكر الحياء، فقيل: ساغ ذلك لكونه واقعا في الكلام المحكي عن الكفّار، وقيل: هو من باب المشاكلة، وقيل: هو جار على سبيل التمثيل. قال في «الكشاف»: مثّل تركه تخييب العبد، وأنّه لا يردّ يديه صفرا من عطائه لكرمه، بترك من يترك ردّ المحتاج إليه حياء منه. اه.
والمعنى: أنّ الله لا يترك ضرب المثل بالبعوضة، ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها. وما (٢) الأمثال إلّا إبراز للمعاني المقصودة في قالب الأشياء
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
248
المحسوسة، لتأنس بها النفس، وتستنزل الوهم عن معارضة العقل. والحكيم علام الغيوب، يعلم حكمة هذا، فلا يترك ضرب المثل بالبعوضة، وما دونها حين تدعو المصلحة إلى ذلك.
والناس إزاء هذا فريقان: مؤمنون يقولون: إنّ الله خالق الأشياء حقيرها وعظيمها، فالكلّ لديه سواء، وكافرون يستهزؤن بالأمثال احتقارا لها، فحقت عليهم كلمة ربّهم، فأصبحوا من الخاسرين.
فمحلّ ﴿أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾؛ أي: يذكر. نصب (١) على المفعولية؛ أي: إنّ الله لا يترك أن يذكر مثلا وشبها لآلهتهم، وما في قوله: ﴿ما بَعُوضَةً﴾ اسمية إبهامية؛ أي: موجبة لإبهام ما دخلت عليه؛ أي: تزيد ما تقارنه من الاسم المنكّر إبهاما وشيوعا، حتى يكون أعمّ مما كان عليه أوّلا، وأكثر شيوعا في أفراده، فكأنّه قيل: يضرب مثلا ما من الأمثال أيّ مثل كان، فهي في موضع نصب، صفة لما قبلها، و ﴿بَعُوضَةً﴾ بدل من ﴿مَثَلًا﴾. ﴿فَما فَوْقَها﴾ معطوف على بعوضة؛ أي: إنّ الله لا يترك أن يذكر مثلا وشبها لآلهتهم أيّ مثل كان، ولا يترك أن يذكر بعوضة، فيذكر الذي هو أزيد منها في الكبر، كالذباب والعنكبوت، أو يذكر ما دونها في الصغر، كالذرّة، وجناح بعوضة. قيل: إنّه من الأضداد، ويطلق على الأعلى والأدنى. وقيل: أن يضرب بمعنى: يجعل، فتكون. ﴿بَعُوضَةً﴾ المفعول الثاني، كما سيأتي.
فإن قلت (٢): مثّل الله آلهتهم ببيت العنكبوت وبالذباب، فأين تمثيلها بالبعوضة فما دونها؟
قلت: في هذه الآية كأنّه قال: إنّ الله لا يستحيي أن يضرب مثل آلهتكم بالبعوضة فما دونها، فما ظنّكم بالعنكبوت والذباب؟.
والبعوضة: فعولة من بعض إذا قطع. يقال: بعض وبضع بمعنى، والبعوض: الناموس، والواحدة: بعوضة. قال الربيع بن أنس: ضرب المثل
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
249
بالبعوضة عبرة لأهل الدنيا، فإنّ البعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا شبعت، فكذا صاحب الدنيا، إذا استغنى طغا، وأحاط به الردى. وقال الإمام أبو منصور: الأعجوبة في الدلالة على وحدانية الله تعالى، في الخلق الصغير الجثّة والجسم، أكثر منها في الكبار العظام؛ لأنّ الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب، وتركيب ما يحتاج من الفم، والأنف، والعين، والرجل، واليد، والمدخل، والمخرج ما قدروا عليه، ولعلّهم يقدرون على تصوير العظام من الأجسام الكبار منها، فالبعوضة أعطيت على قدر حجمها الحقير، كلّ آلة وعضو أعطيه الفيل الكبير القويّ.
قال بعضهم: (١) إنّ الله تعالى قوّى قلوب ضعفاء الناس بذكر ضعفاء الأجناس، وعرّف الخلق قدرته في خلق الضعفاء على هيئات الأقوياء، فإنّ البعوض على صغره بهيئة الفيل على كبره، وفي البعوض زيادة جناحين، فلا يستبعد من كرمه، أن يعطي على قليل العمل ما يعطي على كثير العمل من الخلق، كما أعطى صغير الجثة ما أعطى كبير الجثة من الخلقة، ومن العجب أنّ هذا الصغير يؤذي هذا الكبير، فلا يمتنع منه.
ومن لطف الله تعالى: أنّه خلق الأسد بغاية القوة، والبعوض والذباب بغاية الضعف، ثمّ أعطى البعوض والذباب جراءة أظهرها في طيرانهما في وجوه الناس، وتماديهما في ذلك مع مبالغة الناس في ذبّهما بالمذبّة، وركّب الجبن في الأسد، وأظهر ذلك
بتباعده عن مساكن الناس وطرقهم، ولو تجاسر الأسد تجاسر الذباب والبعوض لهلك الناس. فمنّ الله تعالى، وجعل في الضعيف التجاسر، وفي القوي الجبن، ومن العجب عجزك عن هذا الضعيف، وقدرتك على ذلك الكبير.
وتقدّم لك أنّ المراد بالبعوض هنا: الناموس، وهو من عجيب خلق الله تعالى، فإنّه في غاية الصغر، وله ستّة أرجل، وأربعة أجنحة، وذنب، وخرطوم
(١) روح البيان.
250
مجوّف، وهو مع صغره يغوص خرطومه في جلد الفيل، والجاموس، والجمل، فيبلغ منه الغاية حتى إنّ الجمل يموت من قرصته.
قال القشيري - رحمه الله تعالى - (١): الخلق في التحقيق بالإضافة إلى قدرة الخالق، أقلّ من ذرّة من الهباء في الهواء، وسيّان في قدرته العرش والبعوضة، فلا خلق العرش عليه أعسر، ولا خلق البعوضة عليه أيسر، سبحانه وتقدّس عن لحوق العسر واليسر. انتهى.
أي: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لا يَسْتَحْيِي﴾ ولا يترك ﴿أَنْ يَضْرِبَ﴾ ويذكر، ويبيّن للخلق ﴿مَثَلًا ما﴾؛ أي: شبها ما أيّ مثل كان ﴿بَعُوضَةً فَما فَوْقَها﴾؛ أي: فوق البعوضة في الذات والكبر، كالذباب والعنكبوت، أو فوقها في الغرض المقصود من التمثيل، كجناح البعوضة، أو دونها في الذات، كالذرة صغار النمل، وكيف يستحيي الله سبحانه من ذكر شيء، لو اجتمع الخلائق كلّهم على تخليقه ما قدروا عليه.
والمعنى: أنّ الله تعالى، لا يترك ضرب المثل ببعوضة فما فوقها، إذا علم أنّ فيه عبرة لمن اعتبر، وحجة على من جحد. والخلاصة: أي: إنّ الله جلّت قدرته، لا يرى من النقص أن يضرب المثل بالبعوضة فما دونها، لأنّه هو الخالق لكلّ شيء جليلا كان أو حقيرا.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يَسْتَحْيِي﴾ بياءين، والماضي استحيا، وهي لغة أهل الحجاز، واستفعل هنا جاء للإغناء عن الثلاثي المجرد، كاستنكف، واستأثر، واستبدّ، واستعبر، وهو من المعاني التي جاء لها استفعل. قال الزمخشري: يقال: حيي الرجل من الحياء، كما يقال: نسي، وخشي، فيكون استحيا على ذلك موافقا للمجرّد. وقرأ ابن كثير في رواية شبل، وابن محيصن، ويعقوب ﴿يستحي﴾ بياء واحدة، وهي لغة بني تميم، وبكر بن وائل، يجرونها مجرى
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
251
يستبي، قال الشاعر:
ألا تستحي منّا ملوك وتتقي محارمنا لا يبوء الدّم بالدم
والماضي استحى، قال الشاعر:
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه كرعن بستّ في إناء من الورد
وأصله: ﴿يَسْتَحْيِي﴾ بياءين، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء، فسكنت، ثمّ استثقلت الضمة على الثانية، فسكنت، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين. واختلف النحاة في المحذوفة، فقيل: لام الكلمة، فالوزن: يستفع، فنقلت حركة العين إلى الفاء وسكنت العين، فصارت يستفع. وقيل: المحذوف العين، فالوزن: يستفل، ثمّ نقلت حركة اللام إلى الفاء وسكنت اللام، فصارت يستفل، وأكثر نصوص الأئمّة على أنّ المحذوف هو العين.
وقرأ الجمهور (١): بنصب ﴿بَعُوضَةً﴾، واختلف في توجيه النصب على أوجه:
أحدهما: أن تكون صفة لـ ﴿ما﴾، إذا جعلنا ﴿ما﴾ بدلا من ﴿مَثَلًا﴾، و ﴿مَثَلًا﴾ مفعول ﴿يَضْرِبَ﴾.
والثاني: أن تكون ﴿بَعُوضَةً﴾ عطف بيان، و ﴿مَثَلًا﴾ مفعول ﴿يَضْرِبَ﴾.
والثالث: أن تكون بدلا من ﴿مَثَلًا﴾.
والرابع: أن تكون مفعولا لـ ﴿يَضْرِبَ﴾، وانتصب ﴿مَثَلًا﴾ حالا من النكرة مقدّمة عليها.
والخامس: أن تكون مفعولا لـ ﴿يَضْرِبَ﴾ ثانيا، والأول هو ﴿مَثَلًا﴾ على أنّ ﴿يَضْرِبَ﴾ بمعنى يجعل يتعدّى لاثنين.
والسادس: أن تكون مفعولا أوّل لـ ﴿يَضْرِبَ﴾، و ﴿مَثَلًا﴾ المفعول الثاني.
والسابع: أن تكون منصوبا على تقدير إسقاط الجار، والمعنى: أن يضرب
(١) البحر المحيط.
252
مثلا ما بين بعوضة فما فوقها، نظير قولهم: له عشرون ما ناقة فجملا.
وقرأ الضحاك (١)، وإبراهيم بن أبي عبلة، ورؤبة بن العجاج، وقطرب ﴿بَعُوضَةً﴾ بالرفع، وهي لغة تميم. قال أبو الفتح: وجه ذلك: أنّ ﴿ما﴾ اسم بمنزلة الذي و ﴿بَعُوضَةً﴾ رفع على إضمار المبتدأ، ويجوز أن تكون ﴿ما﴾ استفهامية في محلّ الرفع بالابتداء، و ﴿بَعُوضَةً﴾ وما بعدها خبرها، وقيل غير ذلك.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدّقوا بالقرآن، وبما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو محمد وأصحابه. والفاء؛ للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما يدل عليه ما قبلها، كأنّه قيل: فيضربه فأما الذين آمنوا ﴿فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ﴾؛ أي: أنّ ضرب المثل بالبعوضة والذباب هو الأمر الْحَقُّ الثابت الذي لا يسوغ إنكاره حال كونه ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ لا من محمد، فلا يسوغ إنكاره؛ لأنّه ليس عبثا، بل هو مشتمل على الحكم والفوائد، فيؤمنون به. والجار والمجرور (٢) حال من الضمير المستكن في ﴿الْحَقُّ﴾، أو من الضمير العائد إلى المثل؛ أي: كائنا منه تعالى، فيتفكرون في هذا المثل الحقّ، ويوقنون أنّ الله هو خالق الكبير والصغير، وكلّ ذلك في قدرته سواء، فيؤمنون به.
والمعنى: أي (٣) فالمؤمنون يقولون: ما ضرب الله هذا المثل إلّا لحكم ومصالح اقتضت ضربه لها، وهي تقرير الحقّ، والأخذ به، فهو إنّما يضرب لإيضاح المبهم بجعل المعقولات تلبس ثوب المحسوسات، أو تفصيل المجمل لبسطه وإيضاحه.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجحدوا بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم وهم اليهود والمشركون، ﴿فـ﴾ يتعجّبون من ذلك المثل، و ﴿يقولون﴾ إنكارا له: ﴿ماذا﴾؛
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
253
أي: أيّ شيء، أو ما الغرض الذي ﴿أَرادَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِهذا﴾ المثل الخسيس الذي هو التمثيل بالأشياء الحقيرة من البعوضة والذباب. وفي كلمة ﴿هذا﴾ تحقير للمشار إليه، واسترذال له. ﴿مَثَلًا﴾؛ أي: من جهة كونه مثلا من الأمثال، فهو تمييز ذات من اسم الإشارة؛ أي: أيّ فائدة وأيّ غرض في ضرب المثل بهذه الأشياء الخسيسة؟ فليس من الله، بل افتراء من محمّد.
قال في «الروح» (١): الأصل: ماذا أراد الله بهذا المثل؟ فلما حذف الألف واللام نصب على الحال؛ أي: ماذا أراد الله بهذا حال كونه ممثّلا به، أو على التمييز؛ أي: من جهة كونه مثلا.
والمعنى (٢): وأمّا الذين كفروا، وهم اليهود والمشركون، وكانوا يجادلون بعد أن استبانت الحجة، وحصحص الحقّ، ويقولون: ماذا أراد الله بهذه المثل الحقيرة التي فيها الذباب والعنكبوت، ولو أنصفوا لعرفوا وجه الحكمة في ذلك، وما أعرضوا، وانصرفوا ﴿وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾.
فأجابهم الله تعالى، ردّا عليهم بقوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ﴾؛ أي: يخذل بهذا المثل والإضلال: هو الصرف عن الحقّ إلى الباطل، وإسناد الإضلال؛ أي: خلق الضلال إليه سبحانه، مبنيّ على أنّ جميع الأشياء مخلوقة له تعالى، وإن كانت أفعال العباد مستندة إليهم من حيث الكسب؛ أي: أراد الله بهذا المثل أن يضلّ به ﴿كَثِيرًا﴾ من أهل الكفر والنفاق؛ وذلك. لأنّهم ينكرونه، ويكذّبونه، فيزيدون بإنكاره ضلالا على ضلالهم الأول. ﴿وَيَهْدِي بِهِ﴾؛ أي: بهذا المثل ﴿كَثِيرًا﴾ من أهل الإيمان والإخلاص؛ لأنّهم يعرفون، ويصدّقون به، فيزيدون به إيمانا على إيمانهم. يعني: (٣) يضلّ به من علم منهم أنّه يختار الضلالة، ويهدي به من علم أنّه يختار الهدى.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
254
والمعنى: أي (١) إنّ من غلب عليهم الجهل إذا سمعوه كابروا، وعاندوا، وقابلوه بالإنكار، فكان ذلك سببا في ضلالهم، ومن عادتهم الإنصاف، والنظر بثاقب الفكر إذا سمعوه اهتدوا به؛ لأنّهم يقدّرون الأشياء بحسب فائدتها. ومن المعلوم: أنّ أنفع الكلام ما تجلّت به الحقائق، واه