تفسير سورة آل عمران

المنتخب في تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه المنتخب . المتوفي سنة 2008 هـ
يتحدث القرآن الكريم من خلال ما يذكره من قصص عن سنن الله الكونية، وعن العظات والعبر المستفادة، ويبين في أثناء القصة الكثير من العقائد والأحكام والأخلاق. وقد ذكر في السورة السابقة طرفا من سيرة بني إسرائيل صور فيه الكثير من انحرافهم، وفي هذه السورة يذكر جوانب أخرى من ضلالهم وانحرافهم، ويرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن في عقيدته وسلوكه، ويبين حقيقة الدين السماوي، ويشير إلى آداب المجادلة، ويذكر العادات في الانتصار والفشل أحيانا. ويبين مقام الشهداء يوم القيامة، والجزاء وعمومه للذكر والأنثى، وطريق الفلاح، وتبتدئ هذه السورة الكريمة بما ابتدأت به السورة السابقة.

١- الم، حروف صوتية سيقت لبيان أن القرآن المعجز من هذه الحروف.
٢- الله واحد لا إله غيره، وكل ما في العالم من تنسيق وإبداع يشهد بذلك، وهو الحي الذي لا يموت، القائم بأمر العالم يدبره ويصرفه.
٣- نَزَّلَ عليك - يا محمد - القرآن مشتملا على الحق في كل ما تضمنه من أصول الشرائع السماوية في الكتب السابقة، ولقد أنزل الله من قبله التوراة على موسى والإنجيل على عيسى.
٤- أنزلهما قبل القرآن لهداية الناس، فلمَّا انحرفوا أنزل القرآن فارقاً بين الحق والباطل، ومبيِّناً الرشد من الغي، فهو الكتاب الصادق الدائم، وكل من ترك ما أنزله الله فيه وكفر بآياته فله عذاب شديد، والله قادر لا يغلبه شيء، منتقم ممن يستحق الانتقام.
٥- إن الله عليم بكل شيء، فهو لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء، صغيراً كان أو كبيراً، ظاهراً أو باطناً.
٦- وهو الذي يصوركم وأنتم أجنة في الأرحام بصور مختلفة حسبما يريد، لا إله إلا هو العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه١.
١ تشير الآية الكريمة إلى وجه من الوجوه المعجزة لقدرة البارئ المصور وهو تحول البويضة المخصبة وهي خلية واحدة ضئيلة الحجم إلى إنسان سوي بكل ما يحويه جسمه من أجهزة وأعضاء وأنسجة بملايين الخلايا وآيات في البنيان والوظيفة. وسوف تتوالى في القرآن الكريم آيات تفصل بعض أطوار النمو الجنيني. ولكن الذي تنوه به هذه الآية الكريمة على وجه الخصوص هو المشيئة الإلهية المطلقة في تصوير الجنين، إذ إن الله يودع في البويضة الدقيقة الحجم جميع المورثات الجينات التي تحدد جنس المولود ونصيبه من الخصائص الجسمانية بل ومواهبه العقلية والنفسية والسمات الرئيسية في تكوين الشخصية الوارثة وإن كانت تسير على قوانين ثابتة إلا أن هذا التحديد لكل فرد بذاته من التقاء بويضة بعينها وحيوان منوي بعينه من بين الملايين من أقرانه هو من دلائل المشيئة المطلقة حتى إنه لا يتماثل فردان في العالم تماثلا كاملا، اللهم إلا في توائم البويضة الواحدة فتكاد تتطابق..
٧- وهو الذي أنزل عليك القرآن، وكان من حكمته أن جعل منه آيات محكمات محددة المعنى بيِّنة المقاصد، هي الأصل وإليها المرجع، وأخر متشابهات يدق معناها على أذهان كثير من الناس، وتشتبه على غير الراسخين في العلم، وقد نزلت هذه المتشابهات لتبعث العلماء على العلم والنظر ودقة الفكر في الاجتهاد، وفي البحث في الدين، وشأن الزائغين عن الحق أن يتتبعوا ما تشابه من القرآن رغبة في إثارة الفتنة، ويؤوِّلوها حسب أهوائهم. وهذه الآيات لا يعلم تأويلها الحق إلا الله والذين تثبتوا في العلم وتمكنوا منه، وأولئك المتمكنون منه يقولون : إنا نوقن بأن ذلك من عند الله، لا نفرق في الإيمان بالقرآن بين محكمه ومتشابهه، وما يعقل ذلك إلا أصحاب العقول السليمة التي لا تخضع للهوى والشهوة.
٨- وأولئك العلماء العاقلون يقولون : ربنا لا تجعل قلوبنا تنحرف عن الحق بعد إذ أرشدتنا إليه، وامنحنا اللهم رحمة من عندك بالتوفيق والتثبيت إنك أنت المانع المعطى.
٩- ربنا إنك جامع الناس ليوم لا شك فيه لتجازي كلاً على ما فعل، فقد وعدت بذلك وأنت لا تخلف الميعاد.
١٠- إن الكافرين لن تدفع عنهم في ذلك اليوم أموالهم مهما عظمت، ولا أولادهم مهما كثرت، وسيكونون حطباً للنار تشتعل بهم.
١١- وشأن هؤلاء قوم فرعون والكافرين من قبلهم، كذَّبوا بآيات الله مع وضوحها فنكَّل الله بهم بسبب ما ارتكبوه من الذنوب، والله شديد العقاب.
١٢- قل - يا أيها النبي - لهؤلاء الذين كفروا إنكم في الدنيا ستهزمون وفي الآخرة ستعذبون، وتكون جهنم فِراشاً لكم وبئس الفِراش.
١٣- لقد كان لكم آية بيِّنة وعبرة ظاهرة في طائفتين من المحاربين التقتا يوم بدر، إحداهما مؤمنة تحارب لإعلاء كلمة الله ونشر الحق، والأخرى كافرة تحارب في سبيل الأهواء والشهوات، فكان من تأييد الله للمؤمنين أن جعل الكافرين يرونهم ضعف عددهم الحقيقي، وبذلك وقع الرعب في قلوب الكفار فانهزموا، والله يمنح نصره لمن يشاء. وإن في ذلك لعبرة لأصحاب البصائر الرشيدة التي لا تنحرف في إدراكها عن الحق.
١٤- إن البشر جبلوا على حب الشهوات التي تتمثل في النساء والبنين والكثرة من الذهب والفضة، والخيل الحسان المعلَّمة، والأنعام التي منها الإبل والبقر والغنم، وتتمثل أيضاً في الزرع الكثير. لكن ذلك كله متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية، وهو لا يُعد شيئاً إذا قيس بإحسان الله إلى عباده الذين يجاهدون في سبيله عند أوبتهم إليه في الآخرة.
١٥- قل يا أيها النبي : أأخبركم بما هو خير من ذلك الذي زُيِّن للناس في الدنيا ؟ إن للذين اتقوا ثواباً مضموناً - عند ربهم، هو جنات تجري من تحت ظلال أشجارها الأنهار، يتمتعون بالحياة الطيبة فيها لا يساورهم خوف من زوال نعيمها إذ كتب لهم الخلود فيها، وأزواج طاهرة نقية من كل ما يشين نساء الدنيا، ورضاء من الله يشعرون في ظله بنعيم أكبر، والله مطلع على أحوال عباده لا يخفى عليه أمر أو سر من أمورهم وأسرارهم.
١٦- ينال هذا الجزاء أولئك الذين ملأ الإيمان قلوبهم وأعلنوا ذلك بألسنتهم فقالوا - ضارعين إلى الله - : ربنا إننا آمنا استجابة لدعوتك فاعف عن ذنوبنا، واحفظنا من عذاب النار.
١٧- وهم الذين يتحملون المشقة في سبيل الطاعة وتجنب المعصية واحتمال المكروه، ويصدقون في أقوالهم وأفعالهم ونياتهم، المداومون على الطاعة في خشوع وضراعة، الباذلون ما يستطيعون من مال وجاه وغيره في وجوه التأمل والتفكير في عظمة الخالق.
١٨- شهد الله أنه المتفرد بالألوهية وبيَّن ذلك - بما بث في الكون من دلائل وآيات لا ينكرها ذو عقل - وأنه واحد لا شريك له، قائم على شؤون خلقه بالعدل، وأقرَّت بذلك ملائكته الأطهار، وَعَلِمَهُ أهل العلم موقنين به، وأنه - جل شأنه - المتفرد بالألوهية الذي لا يغلبه أحد على أمره، وشملت حكمته كل شيء.
١٩- إن الدين الحق المرضي عند الله هو الإسلام، فهو التوحيد والخضوع لله في إخلاص، وقد اختلف كل من اليهود والنصارى في هذا الدين فحرَّفوا وبدَّلوا ولم يكن اختلافهم عن شبهة أو جهل إذ جاءهم العلم، بل كان للتحاسد والتطاول، ومن يجحد بآيات الله فلينتظر حساب الله السريع.
٢٠- فإن جادلك هؤلاء في هذا الدين بعد أن أقمت لهم الحُجج، فلا تجارهم في الجدل، وقل : أخلصت عبادتي لله - وحده - أنا ومن اتبعني من المؤمنين، وقل لليهود والنصارى ومشركي العرب : قد بانت لكم الدلائل فأسلموا، فإن أسلموا فقد عرفوا طريق الهدى واتبعوه، وإن أعرضوا فلا تبعة عليك في إعراضهم، فليس عليك إلا أن تبلغهم رسالة الله، والله مطلع على عباده لا يخفى عليه شيء من أحوالهم وأعمالهم.
٢١- إن الذين يجحدون آيات الله الكونية والمنزَّلة، ويقتلون من بعثهم الله لهدايتهم من الأنبياء، ظلماً بغير حق، ويقتلون دعاة الناس إلى القسط والعدل يستحقون العذاب الأليم فبشرهم به.
٢٢- أولئك المتصفون بتلك الصفات بطلت أعمالهم في الدنيا والآخرة فلا يقبل لهم عمل وما لهم من ناصر ينصرهم من عذاب الله.
٢٣- ألم تعلم حال الذين أُعطوا حظاً من الكتاب والعلم يدعون إلى كتاب الله وهو القرآن ليفصل الحق من الباطل فيما شجر بينهم من خلاف فلا يسارعون إلى إجابة الداعي، بل يعرض عنه فريق منهم شأنه الإعراض عن دعوة الخير.
٢٤- إن أولئك المعرضين من اليهود زَيَّن لهم ذلك الإعراض أنهم يُمنُّون أنفسهم بالأماني الباطلة، فيزعمون أن النار لن تسمهم إلا أياماً معدودات ودفعهم إلى ذلك الغرور وتلك الأماني افتراءاتهم المستمرة في دينهم.
٢٥- فكيف يكون حالهم وقت أن يجمعهم الله في الآخرة التي لا شك في وجودها ولا حسابها فكل نفس تعطى جزاءها وافياً، وهم مستحقون لما نالهم من جزاء.
٢٦- قل - يا أيها النبي - ضارعاً إلى الله مقراً بجبروته : اللهم أنت - وحدك - مالك التصرف في الأمر كله، تمنح من تشاء من الحكم والسلطان، وتنزعه ممن تشاء، وتهب العزة من تريد من عبادك بتوفيقه إلى الأخذ بأسبابها، وتضرب الذل والهوان على من تشاء، فأنت - وحدك - تملك الخير، لا يعجزك شيء عن تنفيذ مرادك، وما تقتضيه حكمتك في نظام خلقك.
٢٧- وأنت بما أنشأت ووضعت من الأسباب والسنن، تُدْخِل من الليل في النهار ما يزيد به النهار طولا، وتدخل من النهار في الليل ما يزيد به الليل طولا، وتخرج المتصف بمظاهر الحياة من فاقدها، كما تخرج فاقد الحياة من الحي المتمكن من أسباب الحياة، وتهب عطاءك الواسع من تشاء كما تريد على نظام حكمتك، فلا رقيب يحاسبك، ومن كان هذا شأنه لا يعجزه أن يمنح رسوله وأصفياءه السيادة والسلطان والغنى واليسار كما وعدهم١.
١ دورة الحياة والموت هي معجزة الكون وسر الحياة نفسها، والسمات الرئيسية في هذه الدورة أن الماء وثاني أكسيد الكربون والنتروجين والأملاح غير العضوية في التربة تتحول بفضل طاقة الشمس والنباتات الخضراء وأنواع معينة من البكتريا إلى مواد عضوية هي مادة الحياة في النبات والحيوان. أما في الشق الثاني من هذه الدورة فتعود هذه المواد إلى عالم الموت في صورة نفايات الأحياء ونواتج أيضها وتنفسها. ثم في صورة أجسامها كلها عندما تموت وتستسلم لعوامل التحلل البكتيري والكيماوي التي تحيلها إلى مواد غير عضوية بسيطة مهيأة للدخول في دورة جديدة من دورات الحياة، وهكذا في كل لحظة من الزمان يخرج الخالق القدير حياة من الموت وموتا من الحياة وهذه الدورة المتكررة لا تتم إلا في وجود كائن أودعه الله سر الحياة كبذرة النبات مثلا. والآية الكريمة تذكر أولى الألباب بالمعجزة الأولى وهي خلق الحياة من مادة الأرض الميتة ثم تكرار الدورة كما سبق. وهكذا جاء في الآية الكريمة إخراج الحي من الميت سابقا لإخراج الميت من الحي وهذا هو الإعجاز بعينه..
٢٨- إذا كان الله - سبحانه وتعالى - هو - وحده - مالك الملك، ويعز ويذل، وبيده وحده الخير والخلق والرزق، فلا يصح للمؤمنين أن يجعلوا لغير المؤمنين ولاية عليهم، متجاوزين نصرة المؤمنين ؛ لأن في هذا خذلاناً للدين وإيذاء لأهله، وإضعافاً للولاية الإسلامية، ومن يسلك هذا المسلك فليس له من ولاية الله مالك الملك شيء، ولا يرضى مؤمن بولايتهم إلا أن يكون مضطرا لذلك، فيتقي أذاهم بإظهار الولاء لهم. وعلى المؤمنين أن يكونوا في الولاية الإسلامية دائماً وهي ولاية الله، وليحذروا أن يخرجوا إلى غير ولايته فيتولى عقابهم بنفسه بكتابة الذلة عليهم بعد العزة. وإليه - وحده - المصير فلا مفرَّ من سلطانه في الدنيا ولا في الآخرة.
٢٩- قل - يا أيها النبي - إن تخفوا ما في صدوركم أو تظهروه في أعمالكم وأقوالكم فإن الله يعلمه، ويعلم جميع ما في السماوات وما في الأرض ما ظهر منه وما استتر، وقدرته نافذة في جميع خلقه.
٣٠- فليحذر الذين يخالفون أمره يوم تجد كل نفس عملها من الخير مهما قلَّ مشاهداً حاضراً، وما اقترفَته من سوء تتمنى أن يكون بعيداً عنها بُعْداً شاسعاً حتى لا تراه استقباحاً له وخوفاً من الوقوع في مغبته، ويحذركم الله عقابه إذا خرجتم من ولايته التي هي رأفة ورحمة بالعباد.
٣١- قل : إن كنتم صادقين في دعواكم أنكم تحبون الله وتريدون أن يحبكم الله فاتبعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه، لأنني مبلغ عن الله، فإن ذلك يحبكم الله به، ويثيبكم الله عليه بالإحسان إليكم والتجاوز عن خطاياكم، والله كثير الغفران والرحمة لعباده.
٣٢- قل : أطيعوا الله ورسوله، فإن أعرضوا عنك فهم كافرون بالله ورسوله، والله لا يحب الكافرين.
٣٣- كما اصطفى الله محمداً لتبليغ رسالته، وجعل اتباعه وسيلة لحب الله ومغفرته ورحمته، كذلك اصطفى آدم وجعله من صفوة العالمين، واصطفى نوحاً بالرسالة، واصطفى إبراهيم وآله إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما، ومنهم موسى - عليهم السلام -، واختار آل عمران واختار منهم عيسى وأمه، فعيسى جعله الله رسولا لبني إسرائيل، ومريم جعلها أماً لعيسى من غير أب.
٣٤- اختارهم ذرية طاهرة، فهم يتوارثون الطهر والفضيلة والخير. والله سميع لأقوال عباده، عليم بأفعالهم وما تُكنّه صدورهم.
٣٥- واذكر - أيها النبي - حال امرأة عمران إذ نذرت وقت حملها تقديم ما تحمله خالصاً لعبادة الله وخدمة بيته، قائلة : يا رب، إني نذرت ما في بطني خالصاً لخدمة بيتك فاقبل منى ذلك، إنك السميع لكل قول، العليم بكل حال.
٣٦- فلما وضعت حملها قالت - معتذرة تناجي ربها - : إني وَلَدت أُنثى والله عليم بما ولدت، وأن مولودها وهو أنثى خير من مطلوبها وهو الذكر. وقالت : إني سميتها مريم وإنِّي أسألك أن تحصِّنها هي وذريتها من غواية الشيطان الرجيم.
٣٧- فتقبل الله مريم نذراً لأمها، وأجاب دعاءها، فأنبتها نباتاً حسناً، وربَّاها في خيره ورزقه وعنايته تربية حسنة مقومة لجسدها، وشأنه أن يرزق من يشاء من عباده رزقاً كثيراً، كلما دخل عليها زكريا في معبدها وجد عندها رزقاً غير معهود في وقته. قال - متعجباً - : يا مريم من أين لك هذا الرزق ؟ قالت : هو من فضل الله، وجعل زكريا - عليه السلام - كافلا لها. وكان رزقها بغير عدد ولا إحصاء.
٣٨- لما رأى زكريا - عليه السلام - ما رآه من نعمة الله على مريم، اتجه إلى الله ضارعاً أن يهبه من فضله وكرمه وبقدرته ولداً، فهو يسمع دعاء الضارعين، وهو القدير على الإجابة وإن وقفت الأسباب العادية من شيخوخة أو عقم دون تحقيقها.
٣٩- فاستجاب الله دعاءه، فنادته الملائكة وهو قائم في معبده متجهاً إلى ربه، بأن الله يبشرك بولد اسمه يحيى، يؤمن بعيسى - عليه السلام - الذي سيوجد بكلمة من الله فيكون على غير السُنَّة العامة في التوالد، ويجعله ( أي يحيى ) يسود قومه بالعلم والصلاة، يعزف عن الشهوات والأهواء، ويجعله من الأنبياء والصالحين.
٤٠- ولما سيقت إليه هذه البشرى، اتجه إلى ربه متشوقاً إلى معرفة الكيفية التي يكون بها هذا الغلام، مع عدم توافر الأسباب العادية لكبر سنه وعقم زوجه، ورد الله عليه بأنه متى شاء أمراً أوجد له سببه، أو خلقه بغير الأسباب المعروفة. فهو يفعل ما يشاء.
٤١- فدعا زكريا ربه أن يجعل له علامة لتحقق هذه البشرى، فأجابه الله بأن علامتك أن تعجز عن كلام الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة إليهم بما تريد، وثابر على ذكر ربك وتنزيهه في المساء والصباح.
٤٢- واذكر - أيها النبي - إذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله اختارك لتكوني أم نبيه، وطهرك من كل دنس، وخصك بأمومتك لعيسى بفضل على كل نساء العالمين.
٤٣- وهذا يا مريم يستوجب منك الشكر لربك، فالزمي طاعته، وصلى له، وشاركي الذين يعبدونه ويصلون له.
٤٤- ذلك الذي قصه القرآن عليك يا محمد من الأخبار العظيمة عَمَّن اصطفاهم الله، هو من الغيب الذي أوحى الله به إليك. وما كنت حاضراً معهم وهم يقترعون بالسهام ليعلم بالقرعة من يقوم بشئون مريم، وما كنت معهم وهم يختصمون في نيل هذا الشرف العظيم.
٤٥- اذكر - أيها النبي - إذ بشرت الملائكة مريم بمولود خلقه الله بكلمة منه على غير السُّنَّة العادية في التوالد، اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وقد خلقه الله ذا مكانة في الدنيا بالنبوة والبراءة من العيوب، وفي الآخرة بعلو درجته مع الصفوة المقربين إلى الله من النبيين أولى العزم.
٤٦- وميَّزه الله بخصائص، فكان يكلم الناس وهو طفل في مهده كلاماً مفهوماً حكيماً، كما يكلمهم وهو رجل سوى، من غير تفاوت بين حالتي الطفولة والكهولة. وكان ممن منحهم الله الصلاح.
٤٧- قالت مريم - متعجبة من وجود الولد على غير نظام التوالد- : من أين يكون لي ولد ولم يمسسني رجل ؟ فذكر الله تعالى لها أنه يخلق ما يشاء بقدرته غير مقيد بالأسباب العادية، فإنه إذا أراد شيئاً أوجده بتأثير قدرته في مراده من غير افتقار إلى موجب آخر.
٤٨- والله يُعلِّم هذا الوليد الكتابة، والعلم الصحيح النافع، والتوراة ( كتاب موسى ) والإنجيل الذي أوحاه الله إليه.
٤٩- ويبعثه رسولا إلى بني إسرائيل، مستدلا على صدق رسالته بمعجزات من الله، هي أن يصور لكم من الطين صورة مثل صورة الطير، ينفخ فيها فتحل فيها الحياة وتتحرك طائراً بإرادة الله، ويشفي بتقدير الله من وُلِدَ أعمى فيبصر، ومن به برص فيزول برصه، ويعيد الحياة إلى من فقدها. كل ذلك بإذن الله وإرادته، ويخبرهم بما يدَّخرون في بيوتهم من مأكول وغيره، ويقول لهم : إن هذه الآيات التي أظهرها الله على يديّ حجة على أن رسالتي حق إن كنتم ممن يذعنون له ويصدقون به.
٥٠- وأُرسلت إليكم مصدقاً لشريعة التوراة التي نزلت على موسى، ولأبيح لكم بأمر الله بعض ما حُرِّم عليكم من قبل، وقد جئتكم بآية من الله على صدق رسالتي. فاتقوا الله وأطيعون.
٥١- إن الله الذي أدعوكم إليه هو - وحده - ربي وربكم فاعبدوه وأخلصوا العبادة له، فإن هذا هو الطريق الذي لا عوج فيه.
٥٢- ولما جاء عيسى - عليه السلام - دعا قومه إلى الصراط المستقيم، فأبى أكثرهم، فلما علمَ منهم ذلك اتجه إليهم منادياً : من يناصرني في هذا الحق الذي أدعو إليه ؟ فأجابه خاصة المؤمنين بالله وبه : نحن نؤيدك وننصرك لأنك داع إلى الله، واشهد بأنا مخلصون لله منقادون لأمره.
٥٣- ونحن نقول : يا ربنا، صدَّقنا بكتابك الذي أنزلته على نبيك، وامتثلنا أمر رسولك عيسى - عليه السلام - فاكتبنا من الشاهدين لرسولك بالتبليغ، وعلى بني إسرائيل بالكفر والجحود.
٥٤- أما الجاحدون فقد دَبَّروا تدبيراً خفياً يحاربون به دعوة عيسى، فأبطل الله كيدهم فلم ينجحوا فيما أرادوا، والله أحكم المدبرين وأقواهم.
٥٥- واذكر - أيها النبي - إذ قال الله : يا عيسى إني مستوفٍ أجلك، ولا أمكِّن أحداً من قتلك، وإني رافعك إلى محل كرامتي، ومنجيك من أعدائك الذين قصدوا قتلك، وجاعل المتبعين لك، الذين لم ينحرفوا عن دينك ظاهرين بالقوة والسلطان على الذين لم يهتدوا بهديك إلى يوم القيامة، ثم إليَّ مصيركم في الآخرة فأقضي بينكم في الذي تنازعتم فيه من أمر الدين.
٥٦- فأما الجاحدون، فأذيقهم عذاب الخزي والنكال بتسليط الأمم عليهم في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأخزى. وليس لهم من ينقذهم من عذاب الله.
٥٧- وأما المهتدون بهدى الله، العاملون على سنن الخير، فيعطيهم الله جزاء أعمالهم وافياً. والله لا يمنح ثوابه المتجاوزين لحدود الله الطاغين على دعوته وإحسانه، ولا يرفع لهم قدراً.
٥٨- ذلك الذي قصصناه عليك من الحجج الدالة على صدق رسالتك، هو من القرآن الكريم المشتمل على العلم النافع.
٥٩- ضلَّ قوم في أمر عيسى، فزعموا أنه ابن الله لأنه ولد من غير أب، فقال الله لهم : إن شأن عيسى في خلقه من غير أب كشأن آدم في خلقه من تراب من غير أب ولا أم، فقد صوَّره وأراد أن يكون فكان بشراً سوياً.
٦٠- هذا البيان في خلق عيسى هو الصدق الذي بيَّن الواقع بإخبار رب الوجود فدم على يقينك، ولا تكن من الشاكين.
٦١- فمن جادلك - يا أيها النبي - في شأن عيسى من بعد ما جاءك من خبر الله الذي لا شبهة فيه، فقل لهم قولا يظهر علمك اليقيني وباطلهم الزائف : تعالوا يدع كل منَّا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه، ثم نضرع إلى الله أن يجعل غضبه ونقمته على من كذب في أمر عيسى من كونه خلق من غير أب وأنه رسول الله وليس ابن الله.
٦٢- وذلك هو الحق الذي لا مرية فيه، فليس في الوجود إله إلا الله الذي خلق كل شيء وأنه لهو المنفرد بالعزة في ملكه والحكمة في خلقه.
٦٣- فإن أعرضوا عن الحق بعدما تبين لهم، ولم يرجعوا عن ضلالتهم فهم المفسدون، والله عليم بهم.
٦٤- قل - يا أيها النبي : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة عادلة بيننا وبينكم نذكرها على السواء، وهي أن نخص الله بالعبادة ولا نجعل غيره شريكاً له فيها، ولا يطيع بعضنا بعضاً وينقاد له في تحليل شيء أو تحريمه، تاركاً حكم الله فيما أحلَّ وحرَّم، فإن أعرضوا عن هذه الدعوة الحقة فقولوا لهم : اشهدوا بأنا منقادون لأحكام الله، مخلصون له الدين لا ندعو سواه.
٦٥- يا أهل الكتاب لماذا تتنازعون وتجادلون في دين إبراهيم، كل منكم يدعي أنه على دينه في حين أن إبراهيم سابق في الوجود على التوراة والإنجيل بشريعة خاصة، وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، فكيف يكون على شريعة واحدة منهما ؟. أليست لكم عقول تدركون بها بطلان هذا الكلام الذي يناقض الواقع ؟
٦٦- ها أنتم يا هؤلاء جادلتم في أمر عيسى وموسى الذي لكم بهما معرفة - كما تزعمون - فكيف تجادلون في كون إبراهيم يهودياً أو نصرانياً وليس لكم بذلك علم ؟. والله يعلم حقيقة ما تنازعتم فيه، وأنتم لا علم لكم بذلك.
٦٧- إن إبراهيم - عليه السلام - ما كان على دين اليهود ولا على دين النصارى، ولكن كان منصرفاً عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق، منقاداً لله، مخلصاً في طاعته، وما كان من الذين يشركون مع الله غيره في العبادة.
٦٨- إن أحق الناس بالانتساب إلى إبراهيم ودينه هم الذين أجابوا دعوته واهتدوا بهديه في زمنه، وكذا محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه، فإنهم أهل التوحيد الخالص وهو دين إبراهيم، والله يحب المؤمنين وينصرهم لأنهم أولياؤه، ويجازيهم بالحسنى وزيادة.
٦٩- إن فريقاً من أهل الكتاب يتمنون إضلال المؤمنين وفتنهم عن دينهم، بإلقاء الشبه التي توهن الاعتقاد، وهم في عملهم هذا لا يضلُّون إلا أنفسهم بإصرارهم على الضلال الذي يحيق بهم - وحدهم - ولا يعلمون إن عاقبة سعيهم هذا لاحقة بهم ولا تضر المؤمنين.
٧٠- يا أهل الكتاب لم تكذّبون بآيات الله المنزلة الدالة على صدق نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنتم تعلمون أنها حق ؟.
٧١- يا أهل الكتاب لم تخلطون الحق الذي جاء به الأنبياء ونزلت به الكتب بما جئتم به من شبهات واهية، وتأويلات باطلة، ولا تذيعون الحق صريحاً واضحاً بعيداً عن التخليط، وأنتم تعرفون أن عقاب الله على مثل هذا الفعل عظيم ؟.
٧٢- وأن أهل الكتاب - في سبيل إضلال المؤمنين - قالوا لإخوانهم : آمنوا بالقرآن الذي نزل على محمد واتبعه فيه المؤمنون أول النهار، واكفروا في آخره لعلكم تستطيعون بهذا فتنتهم ببث الريب والشك فيهم، فيرجعون عن دينهم.
٧٣- وقالوا أيضاً : لا تذعنوا إلا لمن تبع دينكم، خشية أن يدعي أحد أنه أوتي مثل ما عندكم، أو يحتج عليكم بإذعانكم عند ربكم، قل لهم - أيها النبي : إن الهدى ينزل من عند الله، فهو الذي يفيض به ويختار له من يشاء، وقل لهم - أيها النبي - إن الفضل من عند الله يعطيه من يريد من عباده، وهو واسع الفضل، عليم بمن يستحقه ومن ينزله عليه.
٧٤- فهو يمنح من يشاء النبوة والرسالة، ومن خصه بذلك فإنما هو محض فضله، والله صاحب الفضل العظيم، لا ينازعه فيه غيره، ولا يحجر عليه في عطائه.
٧٥- هذا سلوك أهل الكتاب في الاعتقاد، أما سلوكهم في المال فمنهم من إن استأمنته على قنطار من الذهب أو الفضة أدَّاه إليك لا ينقص منه شيئاً، ومنهم من إن استأمنته على دينار واحد لا يؤديه إليك إلا إذا لازمته وأحرجته، وذلك لأن هذا الفريق يزعم بأن غيرهم أميون، وأنهم لا ترعى لهم حقوق، ويدعون أن ذلك حكم الله، وهم يعلمون أن ذلك كذب عليه سبحانه وتعالى.
٧٦- حقاً لقد افتروا على الله الكذب، فإن من أدَّى حق غيره ووفَّاه في وقته كما عاهده عليه وخاف الله فلم ينقص ولم يماطل فإنه يفوز بمحبة الله لأنه اتقاه١.
١ توجب الآية الوفاء بالعهد، وفي الوفاء بالعهد آيات أخرى سبقت منها الآية (٢٧) من "سورة البقرة" ولقد اتهم الإسلام والمسلمون بأنهم لا يرعون العهد ولا يعقدون معاهدة إلا لحاجة مؤقتة وينبذونها كلما حانت لهم الفرصة. وقد مر الرد على هذه الفرية، ومن جوامع كلم الإمام علي بن أبي طالب ما ورد في كتابه للأشتر النخعي: (وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد اجتماعا عليه مع تفرق أهوائهم من تعظيم الوفاء بالعهود فلا تغدرن بذمتك وتحنث بعهدك..)
وحدث أن أحد قواد المسلمين رد إلى معاهديه الجزية التي اقتضاها عماله منهم لما أحس بعدم قدرته على الدفاع عنهم وكان ذلك شرطا من شروط العهد..

٧٧- إن الذين يتركون عهد الله الذي عاهدهم عليه من أداء الحقوق والقيام بالتكليفات، ويتركون أيمانهم التي أقسموا بها على الوفاء - لثمن قليل من أعراض الدنيا - مهما عظم في نظرهم - هؤلاء لا نصيب لهم في متاع الآخرة، ويُعرض عنهم ربهم، ولا ينظر إليهم يوم القيامة نظرة رحمة، ولا يغفر لهم آثامهم، ولهم عذاب مؤلم مستمر الإيلام.
٧٨- وإن من هؤلاء فريقاً يميلون ألسنتهم فينطقون بما ليس من الكتاب، محاولين أن يكون شبيها له، ليحسبه السامع من الكتاب وما هو منه في شيء، ويَدَّعون أن هذا من عند الله وما هو من الوحي في شيء وهم بهذا يكذبون على الله، وهم في أنفسهم يعلمون أنهم كاذبون.
٧٩- وما كان معقولا ولا سائغاً لبشر ينزل الله عليه الكتاب، ويؤتيه العلم النافع والتحدث عن الله أن يطلب من الناس أن يعبدوه من دون الله. ولكن المعقول والواقع أن يطلب منهم أن يكونوا خالصين لربهم الذي خلقهم بمقتضى ما عَلَّمهم من علم الكتاب وما يدرسونه منه.
٨٠- ولا يمكن أن يأمركم بأن تجعلوا الملائكة أو النبيين أرباباً من دون الله، وإن ذلك كفر ليس من المعقول أن يأمركم به بعد أن صرتم مُسلِّمين وجوهكم لله.
٨١- واذكر لهم - أيها النبي : أن الله أخذ العهد والميثاق على كل نبي أنزل عليه الكتاب وآتاه العلم النافع، أنه إذا جاءه رسول توافق دعوته دعوتهم ليؤْمِنُنَّ به وينصرنَّه. وأخذ الإقرار من كل نبي بذلك العهد، وأقروا به وشهدوا على أنفسهم وشهد الله عليهم، وبلغوه لأممهم أن ذلك العهد يوجب عليهم الإيمان والنصرة إن أدركوه وإن لم يدركوه، فحق على أممهم أن يؤمنوا به وينصروه وفاء واتباعاً لما التزم به أنبياؤهم.
٨٢- فمن أعرض عن الإيمان بالنبي بعد هذا الميثاق المؤكد، فهو الفاسق الخارج عن شرع الله، الكافر بالأنبياء أولهم وآخرهم.
٨٣- أيطلبون ديناً غير دين محمد وهو دين الأنبياء وهو - وحده - دين الله - الذي خضع له كل من في السماوات والأرض طوعاً بالإرادة والاختيار، أو كرهاً بالخلق والتكوين، وإليه - وحده - يرجع الخلق كله ؟.
٨٤- أكد الله وحدة الألوهية والرسالة، فأمر نبيه ومن معه بأن يقولوا صدَّقْنا بالله المعبود وحده، ومرسل رسله، وآمنا بما أنزل الله علينا من القرآن والشريعة، وما نزَّله من كتب وشرائع على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده الأسباط الإثني عشر، وما أنزل الله على موسى من التوراة وعيسى من الإنجيل، وما أنزل على سائر النبيين لا فرق في الإيمان بين أحد منهم. ونحن بذلك قد أسلمنا وجهنا لله.
٨٥- فمن يطلب بعد مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ديناً وشريعة غير دين الإسلام وشريعته فلن يرضى الله منه ذلك، وهو عند الله في دار جزائه من الذين خسروا أنفسهم فاستوجبوا العذاب الأليم.
٨٦- إن الله لا يوافق قوماً شهدوا بأن الرسول حق، وجاءتهم الأدلة على ذلك، ثم بعد ذلك كفروا به، وبمعجزاته، فكان ذلك ظلماً منهم، والله لا يوفق الظالمين.
٨٧- أولئك عقوبتهم عند الله استحقاق غضبه عليهم، ولعنته، ولعنة صفوة الخلق جميعاً من ملائكة وبشر.
٨٨- لا تفارقهم اللعنة، ولا يخفف عنهم العذاب، ولا هم يمهلون.
٨٩- لكن الذين أقلعوا عن ذنوبهم، ودخلوا في أهل الصلاح وأزالوا ما أفسدوا، فإن الله تعالى يغفر لهم برحمته ذنوبهم، لأن المغفرة والرحمة صفتان من صفات ذاته العلية.
٩٠- وإن قبول التوبة والرحمة بالغفران شرطهما الاستمرار على الإيمان، الذين يجحدون الحق بعد الإذعان والتصديق، ويزدادون بهذه الردة جحوداً وفساداً وإيذاء للمؤمنين، لن يقبل الله سبحانه وتعالى - توبتهم لأنها لا يمكن أن تكون صادقة خالصة، وقد صاروا بعملهم بعيدين عن الحق منصرفين عنه.
٩١- وإن الذين جحدوا الحق ولم يذعنوا له واستمروا عليه حتى وهم جاحدون، لن يستطيع أحدهم أن يفتدي نفسه من عذاب الله - سبحانه وتعالى - شيئاً، ولو كان الذي يقدمه فدية له ما يملأ الأرض من الذهب إن استطاع، وعذابهم مؤلم شديد الإيلام.
٩٢- لن تنالوا - أيها المؤمنون - الخير الكامل الذي تطلبونه ويرضاه الله تعالى، إلا إذا بذلتم مما تحبون وأنفقتموه في سُبُل الله المتنوعة، وإن كان الذي تنفقونه قليلا أو كثيراً، نفيساً أو غيره، فإن الله يعلمه لأنه العليم الذي لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
٩٣- اعترض اليهود على استباحة المسلمين بعض الأطعمة كلحوم الإبل وألبانها، وادعوا أن ذلك حرمته شريعة إبراهيم. فرد الله سبحانه دعواهم ببيان أن تناول كل المطعومات كان مباحاً لبني يعقوب من قبل نزول التوراة، إلا ما حرمه يعقوب على نفسه لسبب يختص به فحرموه على أنفسهم. وأمر الله نبيه أن يطلب منهم أن يأتوا من التوراة بدليل يثبت أن شريعة إبراهيم تحرم ذلك إن كانوا صادقين، فعجزوا وأفحموا.
٩٤- وإذ ثبت عجزهم، فمن اختلق منهم الكذب على الله من بعد لزوم الحُجة فهم المستمرون على الظلم المتصفون به حقاً.
٩٥- وبعد تعجيزهم، أمر الله النبي أن يبيّن لهم أنه بعد إفحامهم ثبت صدق الله فيما أخبر، فاتَّبعوا شريعة إبراهيم التي يدعوكم إليها وتكذبون عليها، فإنها الحق الذي لا شك فيه، وما كان إبراهيم من أهل الشرك بالله.
٩٦- وإن من اتباع ملة إبراهيم الاتجاه في الصلاة إلى البيت الذي بناه والحج إليه، وقد بين الله تعالى ذلك فذكر : إن أول بيت في القدم والشرف جعله الله متعبداً للناس لهو الذي في مكة، وهو كثير الخيرات والثمرات، وأودع الله - سبحانه وتعالى - البركة فيه، وهو مكان هداية الناس بالحج والاتجاه في الصلاة إليه١.
١ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة. والكعبة أول بيت وضع للناس لعبادة الله الواحد القهار، بينما بقية الشعوب والقبائل في سائر أنحاء الأرض كانوا يبنون البيوت لعبادة الأصنام والتماثيل. فالمصريون كانوا يعبدون آلهة متعددة تارة في وقت واحد وتارة في أوقات متعددة. فمن عبادة الشمس إلى عبادة الصور إلى عبادة الآلهة الثلاثة أوزوريس وأوزيس وابنهما حوريس وأقاموا لذلك التماثيل.
وكان الآشوريون يعبدون بعل مشموش ـ أي إله الشمس ـ ويصنعون له صنما على نحو أبي الهول، له رأس إنسان وجسم أسد وله أجنحة. وكان الكنعانيون يعبدون البعل وهو على وصف أبي الهول ولا يزال تمثال الكنعانيين موجودا. وإن كان مشوها حتى اليوم ببعلبك. وبكة هي عين مكة. ومن المعلوم أن بعض القبائل العربية تبدل الباء ميما وبالعكس. فيقولون: في مكان (بكان) وفي بكر (مكر) ويوجد في بعض جهات الإقليم الجنوبي ـ الصعيد ـ من جمهورية مصر العربية أثر من ذلك حتى اليوم..

٩٧- وفيه دلائل واضحات على حرمته ومزيد فضله، منها مكان قيام إبراهيم للصلاة فيه، ومن دخله يكون آمناً لا يتعرض له بسوء، وحج هذا البيت واجب على المستطيع من الناس، ومن أبى وتمرد على أمر الله وجحد دينه فالخسران عائد عليه، وأن الله غني عن الناس كلهم.
٩٨- أمر الله - سبحانه وتعالى - رسوله بتوبيخ أهل الكتاب على استمرارهم على الكفر والضلال والتضليل فقال : قل لهم : يا أهل الكتاب لا وجه لكفركم، فلأي سبب تكفرون بدلائل الله الدالة على نبوة محمد وصدقه، والله مطلع على أعمالكم ومجازيكم عليها.
٩٩- يا أهل الكتاب كيف تحاولون صرف مَن آمن بالله ورسوله وأذعن للحق عن سبيل الله الحق المستقيمة، وتحاولون أن تصوروها معوجة، وأنتم عالمون أنها حق، وليس الله غافلا عن أعمالكم وسيجازيكم عليها.
١٠٠- وقد حذَّر المؤمنين مما يثيره بعض أهل الكتاب من شُبَهٍ قائلا : إن تطيعوا بعض أهل الكتاب فيما يبثونه من الشُّبَهِ في دينكم تعودوا إلى الضلال بعد الهداية، ويردوكم جاحدين بعد الإيمان.
١٠١- وتصوروا حالكم العجيبة وأنتم تضلون وتكفرون بعد الإيمان، والقرآن يتلى عليكم، ورسول الله بينكم، يبين لكم ويدفع الشبه عن دينكم، ومن يلجأ إلى ربه ويستمسك بدينه فنعم ما فعل، فقد هداه ربه إلى طريق الفوز والفلاح.
١٠٢- وإن باب النار مفتوح إذا لم تتقوا الله، فيا أيها الذين آمنوا خافوا الله الخوف الواجب بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، ودوموا على الإسلام حتى تلقوا الله.
١٠٣- وتمسكوا بدين الله مجتمعين عليه، ولا تفعلوا ما يؤدى إلى فرقتكم، وتذكروا نعمة الله عليكم حين كنتم في الجاهلية متعادين، فَألَّف بين قلوبكم بالإسلام فصرتم متحابين، وكنتم - بسبب كفركم وتفرقكم - على طرف حفرة من النار فخلصكم منها بالإسلام، بمثل ذلك البيان البديع يبين الله لكم دائماً طرق الخير لتدوموا على الهدى.
١٠٤- وإن السبيل للاجتماع الكامل على الحق في ظل كتاب الله ورسوله أن تكونوا أمة يدعون إلى كل ما فيه صلاح ديني أو دنيوي، ويأمرون بالطاعة، وينهون عن المعصية، وأولئك هم الفائزون فوزاً كاملاً.
١٠٥- ولا تكونوا بإهمالكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين يجمعانكم على الخير والدين الحق، كأولئك الذين أهملوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتفرقوا شيعاً، واختلفوا في دينهم من بعد ما جاءتهم الحُجج الواضحة المبينة للحق، وأولئك المتفرقون المختلفون لهم عذاب عظيم.
١٠٦- ذلك العذاب العظيم في اليوم الذي تبيض بالسرور فيه وجوه المؤمنين، وتسود بالكآبة والحزن وجوه الكافرين، ويقال لهم توبيخاً : أكفرتم بعد أن فطرتم على الإيمان والإذعان للحق وجاءتكم البينات عليه ؟، فذوقوا العذاب بسبب كفركم.
١٠٧- وأما الذين ابيضت وجوههم سروراً بما بشروا به من الخير، ففي الجنة التي رحمهم الله بها هم فيها خالدون.
١٠٨- وإن تلك الآيات الواردة بجزاء المحسن والمسيء نتلوها عليك مشتملة على الحق والعدل، وما الله يريد ظلماً لأحد من الناس والجن.
١٠٩- ولله - وحده - ما في السماوات وما في الأرض خلقاً وملكاً وتصرفاً، وإليه مصير أمورهم، فيجازى كلاً بما يستحقه.
١١٠- أنتم - يا أمة محمد - أفضل أمة خلقها الله لنفع الناس، ما دمتم تأمرون بالطاعات وتنهون عن المعاصي، وتؤمنون بالله إيماناً صحيحاً صادقاً، ولو صدق أهل الكتاب في إيمانهم مثلكم لكان خيراً لهم مما هم عليه، ولكن منهم المؤمنون وأكثرهم خارجون عن حدود الإيمان وواجباته.
١١١- لن يضركم هؤلاء الفاسقون بضرر ينالونكم به، ويكون له أثر فيكم، إلا أذى لا يبقى له أثر مثل ما يؤذي أسماعكم من ألفاظ الشرك والكفر وغير ذلك، وإن يُقاتلوكم ينهزموا فارين من لقائكم، ثم لا تكون لهم نصرة عليكم ما دمتم متمسكين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
١١٢- وأخبر - سبحانه - بأنه ألزمهم المهانة في أي مكان وجدوا فيه، إلا بعقد الذمة الذي هو عهد الله وعهد المسلمين، وأنهم استوجبوا غضب الله وألزمهم الاستكانة والخضوع لغيرهم، وذلك بسبب كفرهم بآيات الله الدالة على نبوة محمد، وقتلهم الأنبياء الذي لا يمكن أن يكون بحق، بل هو عصيان منهم واعتداء.
١١٣- وإن أهل الكتاب ليسوا متساوين، فإن منهم جماعة مستقيمة عادلة يقرءون كتاب الله في ساعات الليل وهم يصلون.
١١٤- لا يعبدون إلا الله ويصدقون بوجوده ووحدانيته وبالرسل ومجيء يوم القيامة، ويأمرون بالطاعات وينهون عن المعاصي، ويبادرون إلى فعل الخيرات، وهؤلاء عند الله من عداد الصالحين.
١١٥- وما يفعلوا من خير فلن يحرموا ثوابه، والله محيط بأحوالهم ومجازيهم عليها.
١١٦- إن الذين كفروا لن تدفع عنهم أموالهم لو افتدوا بها أنفسهم، ولا أولادهم لو استعانوا بهم شيئاً ولو يسيراً من عذاب الله في الآخرة. وهؤلاء هم الملازمون للنار، الباقون فيها.
١١٧- إن حال ما ينفقه الكفار في الدنيا وما يرجون عليه من ثواب في الآخرة، كحال زرع قوم ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، أصابته ريح فيها برد شديد فأهلكته عقوبة لهم. وما ظلمهم الله بضياع أجور أعمالهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما أوجب ضياعها، وهو جحود دلالات الإيمان والكفر بالله.
١١٨- يا أيها الذين آمنوا : لا تتخذوا أصفياء تستعينون بهم من غير أهل دينكم، تطلعونهم على أسراركم، لأنهم لا يقصرون في إفساد أموركم. إذ هم يودون أن يرهقوكم ويضروكم أشد الضرر. وقد ظهرت أمارات البغضاء لكم من فلتات ألسنتهم، وما تضمره قلوبهم أعظم مما بدا، قد أظهرنا لكم العلامات التي يتميز بها الولي من العدو إن كنتم من أهل العقل والإدراك الصحيح.
١١٩- ها أنتم أولاء - أيها المؤمنون - تحبون هؤلاء الكفار المنافقين لقرابة أو صداقة أو مودة، ولا يحبونكم لتعصبهم لدينهم، وأنتم تؤمنون بجميع كتب الله المنزلة، وإذا لقوكم أظهروا الإيمان خداعاً لكم، وإذا فارقوكم عضوا لأجلكم أطراف الأصابع غيظاً وأسفاً. قل - أيها النبي - : دوموا على غيظكم إلى الموت، وإن الله عليم بما تخفيه الصدور، ويجازيكم عليه.
١٢٠- إن جاءتكم نعمة كنصر وغنيمة تحزنهم، وإن تصبكم مساءة كجدب وهزيمة يُسَرُّوا بإصابتكم، وإن تصبروا على أذاهم وتتقوا ما نهيتم عنه من موالاتهم لا يضركم مكرهم وعداوتهم أي ضرر، لأنه تعالى عالم بما يعملونه من الكيد، فلا يعجزه رده عنكم.
١٢١- واذكر - أيها النبي - حين خرجت مبكراً من عند أهلك إلى أُحُد قاصداً إنزال المؤمنين في مراكز القتال. والله سميع لأقوالكم، عليم بنياتكم.
١٢٢- حين خطر لطائفتين من المؤمنين - وهما بنو مسلمة وبنو حارثة - أن تفشلا وترجعا، فعصمهم الله، فثبتوا ومضوا للقتال لأنه متولي أمرهما بالعصمة والتوفيق، فليأخذ المؤمنون من هذا عبرة، وليتوكلوا عليه لينصرهم.
١٢٣- ذكَّر الله المؤمنين بنعمة النصر في غزوة بدر١ حين صبروا، فأكد لهم أنه نصرهم فيها وهم قليلو العدد والعدة، وطلب منهم طاعته لشكر هذه النعمة.
١ بدر على مسيرة نحو ١٢٠ ميلا من الجنوب الغربي للمدينة، وكان اللقاء فيها بين المسلمين وقريش في يوم الثلاثاء الموافق ١٧ من رمضان من السنة الثانية للهجرة (١٣ من مارس سنة ٦٢٤ نمن الميلاد المسيحي) وكان خروج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أصحابه من المدينة لثمان خلون من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة (٥ من مارس سنة ٦٢٤ للميلاد المسيحي وكان عدد المقاتلين من المسلمين في هذه الغزوة ثلاثمائة رجل أو يزيدون قليلا. وعدد المشركين ثلاثة أمثالهم، وقد أنجز الله في هذه الغزوة وعده وكان النصر ما لا تفعله القوة المادية. وكان النصر المبين في هذه الغزوة سببا في أن صارت كلمة الإيمان هي العليا إذ كانت مقدمة لانتصارات بعدها وامتد ظل الإسلام إلى الجزيرة العربية كلها، ثم لما وراءها بعدها..
١٢٤- وكان النصر حين قال الرسول للمؤمنين : ألن يكفيكم في طمأنينة نفوسكم إعانة ربكم إياكم بثلاثة آلاف من الملائكة مرسلين من عند الله لتقويتكم.
١٢٥- بلى يكفيكم ذلك الإمداد، وإن تصبروا على القتال، وتلتزموا التقوى، ويأتكم أعداؤكم على الفور يزد ربكم الملائكة إلى خمسة آلاف مرسلين من عند الله لتقويتكم.
١٢٦- وما جعل اللَّه الإمداد بالملائكة إلا بشارة لكم بالنصر، ولتسكن به قلوبكم، ليس النصر إلا من عند الله الذي يضع الأشياء في مواضعها، ويدير الأمور لعبادة المؤمنين.
١٢٧- وقد نصركم ليهلك طائفة من الذين كفروا بالقتل، أو يذلهم ويغيظهم بالهزيمة والعار والخزي، فيرجعوا خائبين.
١٢٨- ليس لك من التصرف في أمر عبادي شيء، بل الأمر لله، فإما أن يتوب عليهم بالإيمان، أو يعذبهم بالقتل والخزي والعذاب يوم القيامة لأنهم ظالمون.
١٢٩- إن للَّه - وحده - ما في السماوات وما في الأرض خلقاً وملكاً، وهو القادر على كل شيء، وفي يده كل شيء، يغفر لمن يريد له المغفرة، ويعذب من يريد تعذيبه، ومغفرته أقرب، ورحمته أرجى لأنه كثير المغفرة والرحمة.
١٣٠- يا أيها الذين آمنوا لا تأخذوا في الدَّيْنِ إلا رءوس أموالكم، فلا تزيدوا عليها زيادة تجيء سنة بعد أخرى فتتضاعف وخافوا اللَّه، فلا تأكلوا أموال الناس بالباطل، فإنكم تفلحون وتفوزون باجتنابكم الربا قليله وكثيره١.
١ وصف الربا بأنه ضعاف مضاعفة وهذا يدعونا إلى الكلام من الناحية الاقتصادية عن الربا، فالربا نوعان: ربا النسيئة: وهو ما حرم بالنص القرآني، وضابطه طل قرض جر نفعا للمقرض في مقابل النسيئة ـ أي التأخير ـ سواء كانت المنفعة نقدا أو عينا كثيرة أو قليلة لا كما ذهبت إليه القوانين الوضعية من جعل الربا جائزا في حدود معينة ٦% مثلا.
أما ربا الفضل: فهو بيع ربوي بمثله أو زيادة كأردب قمح جيد بأردب وكيلتين باتفاق الطرفين، ويكون في المطعومات التي تخرج منها الزكاة وفي النقدية، وتحريمه ثابت بالحديث الشريف الذي مر ذكره بحديث آخر عن ابن عمر: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الورق إلا مثلا بمثل سواء بسواء إني أخشى عليكم الرماد أي الربا" وبعض العلماء يرى أن الأول هو المحرم مؤكدا بنص القرآن؛ لأنه هو الربح المركب الذي يؤكل به الربا أضعافا مضاعفة، وأما ربا الفضل فضرره قليل ولم يحرم بالحديث لذاته لأنه قد يجر إلى ربا النسيئة وذلك من باب سد الذرائع فهو يباح عند الضرورة والحاجة، والربا من الناحية الاقتصادية من أخطر وسائل على الثروة والإنتاج لأنه وسيلة إلى كنز النقد والاستكثار منه دون عمل سوى الاتجار به، مع أنه في الأصل لم يوجد إلا كواسطة تقوم بها المنتجات والحاصلات حتى يمكن التبادل عليها وتقييمها بالنسبة لبعضها البعض، وديانة اليهود نفسها تحرمه بين اليهودي واليهودي، وإنما أحلوه مع الآخرين لمصلحتهم وللإضرار بالآخرين والتحكم في الاقتصاد الدولي بئس ما يصنعون..

١٣١- واحذروا النار التي هيئت للكافرين باجتناب ما يوجبها من استحلال الربا.
١٣٢- وأطيعوا اللَّه والرسول في كل أمر ونهي لترحموا في الدنيا والآخرة.
١٣٣- وبادروا بالأعمال الصالحة، لتنالوا مغفرة عظيمة لذنوبكم من اللَّه مالك أمركم، وجنة واسعة عرضها كعرض السماوات والأرض هيئت لمن يتقون اللَّه وعذابه.
١٣٤- الذين ينفقون أموالهم إرضاء للَّه في أحوال اليسر والعسر، والقدرة والضعف، ويحبسون أنفسهم عن أن يؤدي غيظهم إلى إنزال عقوبة بمن أساء إليهم خاصة، ويتجاوزون عن المسيء، إنهم بهذا يعدون محسنين، واللَّه تعالى يثيب المحسنين ويرضى عنهم.
١٣٥- والذين إذا ارتكبوا كبيرة، أو تحملوا ذنباً صغيراً، تذكروا اللَّه وجلاله، وعقابه وثوابه، ورحمته ونقمته، فندموا، وطلبوا مغفرته، حيث إنه لا يغفر الذنوب إلا اللَّه، ولم يقيموا على قبيح فعلهم وهم يعلمون قبحه.
١٣٦- أولئك المتصفون بهذه الصفات أجرهم مغفرة عظيمة من ربهم مالك أمرهم، وجنات تجري الأنهار بين أشجارها لا يبرحونها. ونعم ذلك ثوابا للعاملين بأمر اللَّه.
١٣٧- قد مضت من قبلكم - أيها المؤمنون - سنن اللَّه في الأمم المكذبة، بإمهالهم، ثم أخذهم بذنوبهم، فتأملوا كيف كان عاقبة أمر المكذبين.
١٣٨- وهذا المذكور من صفات المؤمنين وسنن الله في الماضين فيه بيان للناس وإرشاد لهم إلى طريق الخير، وزجر عن طريق الشر.
١٣٩- ولا تضعفوا عن الجهاد في سبيل الله بسبب ما ينالكم فيه، ولا تحزنوا على من يقتل منكم، وأنتم - بتأييد الله وإيمانكم، وقوة الحق الذي تدافعون عنه - الأعلون، ولكم الغلبة إن صدق إيمانكم ودمتم عليه.
١٤٠- إن يكن قد مسّكم بأُحُدْ قتل أو جراح عميقة في أجسامكم، وأثَّرت في نفوسكم فلا تهنوا ولا تحزنوا، لأنه قد أصاب خصومكم مثله يوم بدر. وإن أوقات النصر يصرفها الله بين الناس، فيكون النصر لهؤلاء أحياناً ولأولئك أخرى، اختباراً للمؤمنين، وليميز الله الثابتين على الإيمان، وليكرم قوماً بالاستشهاد في سبيله، والله لا يحب المشركين الظالمين ولو ظفروا بنصر من غيرهم.
١٤١- وينقي الله بهذه الهزيمة الوقتية جماعة المؤمنين، ويطهرهم من مرضى القلوب وضعفاء الإيمان، ودعاة الهزيمة والتردد، ويستأصل بذلك الكفر وأهله.
١٤٢- لا تظنوا - أيها المؤمنون - أنكم تدخلون الجنة دون أن يتبين منكم المجاهدون الصابرون الذين تطهرهم المحن والشدائد.
١٤٣- لقد كنتم تطلبون الموت في سبيل الله من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا هوله، فقد رأيتم الموت حين قتل إخوانكم بين أيديكم وأنتم تنظرون.
١٤٤- لما أشيع قتل محمد في غزوة أُحد، همّ بعض المسلمين بالارتداد، فأنكر الله عليهم ذلك قائلا : ليس محمد إلا رسول قد مات من قبله المرسلون أمثاله، وسيموت كما ماتوا، وسيمضي كما مضوا، أفإن مات أو قتل رجعتم على أعقابكم إلى الكفر ؟، ومن يرجع إلى الكفر بعد الإيمان فلن يضر الله شيئاً من الضرر، وإنما يضر نفسه بتعريضها للعذاب، وسيثيب الله الثابتين على الإسلام الشاكرين لنعمه.
١٤٥- لا يمكن أن تموت نفس إلا بإذن الله، وقد كتب الله ذلك في كتاب مشتمل على الآجال. ومن يرد متاع الدنيا يؤته منها، ومن يرد جزاء الآخرة يؤته منها، وسيجزى الله الذين شكروا نعمته فأطاعوه فيما أمرهم به من جهاد وغيره.
١٤٦- وكم من الأنبياء قاتل مع كل منهم كثيرون من المؤمنين المخلصين لربهم، فما جبنت قلوبهم ولا فترت عزائمهم، ولا خضعوا لأعدائهم بسبب ما أصابهم في سبيل الله، لأنهم في طاعته، والله يثيب الصابرين على البلاء.
١٤٧- وما كان قولهم عند شدائد الحرب إلا أن قالوا : ربنا تجاوز عمَّا يكون منا من صغائر الذنوب وكبائرها، وثبتنا في مواطن الحرب وانصرنا على أعداء دينك الكافرين بك وبرسالة رسلك.
١٤٨- فأعطاهم الله النصر والتوفيق في الدنيا، وضمن لهم الجزاء الحسن في الآخرة، والله يثيب الذين يحسنون أعمالهم.
١٤٩- يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الكفار أعداءكم الذين أعلنوا الكفر أو أخفوه فيما يدعونكم إليه من قول أو فعل يقلبوكم إلى الكفر فتخسروا الدنيا والآخرة.
١٥٠- والله هو ناصركم، ولا تخشوهم لأن الله أعظم الناصرين.
١٥١- ولا يضعفكم ما أصابكم يوم أُحد، فسنقذف الخوف والفزع في قلوب أعدائكم، لإشراكهم بالله آلهة لم ينزل الله بعبادتها حُجة، لأنها لا تنفع ولا تضر، ومستقرهم النار في الآخرة وبئس هذا المكان للظالمين مقاماً.
١٥٢- وإن نصر الله محقق واقع، ولقد صدقكم الله الوعد بالنصر حين قتلتم كثيرين منهم أول الأمر بإرادته، حتى إذا ضعف رأيكم في القتال، واختلفتم في فهم أمر النبي إياكم بالمقام في مراكزكم، فرأي بعضكم ترك موقعه حيث ظهر النصر، ورأي البعض البقاء حتى النهاية، وعصى فريق منكم أمر الرسول فمضى لطلب الغنيمة من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر، وصرتم فريقين منكم من يريد متاع الدنيا، ومنكم من يريد ثواب الآخرة، لما كان ذلك، منعكم نصره ثم ردكم بالهزيمة عن أعدائكم، ليمتحنكم فيظهر المخلص من غيره. ولقد تجاوز عنكم لما ندمتم. والله ذو الفضل عليكم بالعفو وقبول التوبة.
١٥٣- اذكروا - أيها المؤمنون - حالكم وقت أن كنتم تبعدون في الأرض هاربين، ولا تلتفتون لأحد من شدة الهرب، والرسول يناديكم من ورائكم لترجعوا، فجازاكم الله حزناً غامراً كالغمة، توالى على نفوسكم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة وما أصابكم من الهزيمة، والله عليم بمقاصدكم وأعمالكم.
١٥٤- ثم أسبغ الله عليكم من بعد الغم نعمة أمن، وكان مظهرها نعاساً يغشى فريق الصادقين في إيمانهم وتفويضهم لله، أما الطائفة الأخرى فقد كان همهم أنفسهم لا يعنون إلا بها، ولذلك ظنوا بالله الظنون الباطلة كظن الجاهلية، يقولون مستنكرين : هل كان لنا من أمر النصر الذي وعدنا به شيء ؟ قل - أيها النبي :- الأمر كله في النصر والهزيمة لله، يصرف الأمر في عباده إن اتخذوا أسباب النصر، أو وقعوا في أسباب الهزيمة. وهم إذ يقولون ذلك يخفون في أنفسهم أمراً لا يبدونه. إذ يقولون في أنفسهم : لو كان لنا اختيار لم نخرج فلم نغلب. قل لهم : لو كنتم في منازلكم وفيكم من كتب عليهم القتل لخرجوا إلى مصارعهم فقتلوا. وقد فعل الله ما فعل في أُحد لمصالح جمة، ليختبر ما في سرائركم من الإخلاص وليطهر قلوبكم، والله يعلم ما في قلوبكم من الخفايا علماً بليغاً.
١٥٥- إن الذين انصرفوا منكم عن الثبات في أماكنهم - يا معشر المسلمين - يوم التقى جمعكم وجمع الكفار للقتال بأُحد، إنما جرَّهم الشيطان إلى الزلل والخطأ بسبب ما ارتكبوا من مخالفة الرسول، ولقد تجاوز الله عنهم لأنه كثير المغفرة واسع الحلم.
١٥٦- يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا في شأن إخوانهم - إذا أبعدوا في الأرض لطلب العيش فماتوا أو كانوا غزاة فقتلوا - : لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فقد جعل الله ذلك القول والظن حسرة في قلوبهم، والله هو الذي يحيي ويميت، وبيده مقادير كل شيء، وهو مطلع على ما تعملون من خير أو شر، ومجازيكم عليه.
١٥٧- ولئن قتلتم في الجهاد أو متم في أثنائه، لمغفرة من الله لذنوبكم ورحمة منه لكم، خير مما تجمعونه من متاع الدنيا لو بقيتم.
١٥٨- ولئن متم أو قتلتم في الجهاد فلن تضيع أعمالكم، بل ستحشرون إلى الله فيثيبكم على جهادكم وإخلاصكم.
١٥٩- كان رحمة من الله بك وبهم أن لِنْتَ لهم ولم تغلظ في القول بسبب خطئهم، ولو كنت جافي المعاملة قاسي القلب، لتفرقوا من حولك، فتجاوز عن خطئهم، واطلب المغفرة لهم، واستشرهم في الأمر متعرفاً آراءهم مما لم ينزل عليك فيه وحي، فإذا عقدت عزمك على أمر بعد المشاروة فامض فيه متوكلاً على الله، لأن الله يحب من يفوض أموره إليه١.
١ الشورى أصل أصيل وركن ركين في الإسلام، ولقد قيل: ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، والقرآن على نهجه في التشريع يشرع كبريات الأسس والقواعد ويدع التفاصيل للجماعة بحسب ظروف الزمان والمكان، فقد يكون النظام النيابي في الحكم والشورى صالحا لبلاد معينة كانجلترا وفرنسا بحيث رجال الحكومة مسئولين أمام البرلمان، لأنهم نشأوا على ذلك ومرجع الأمر عندهم تاريخي يتفق مع الهيئة التي هم فيها، وقد يكون نظام الحكم رئاسيا وفيه نوع كبير من الشورى مناسبا لبلاد كالولايات المتحدة لما تبغيه من نهوض سريع وعدم تعويق التقدم والرقي بسقوط الوزارات كما هو حادث في فرنسا البرلمانية حيث لم تكن الوزارة قبل الحرب الأخيرة لتبقى أكثر من ثلاثة أشهر، وقد تكون الشورى على نظام وسط بين الرئاسي والبرلمان.
فكل دولة وكل جماعة لها أن تسن طريق الشورى وفق ظروفها أو تاريخها وبيئتها والمهم أم مبدأ الشورى يكون موجودا خشية تسلط الفرد وتحكمه وطغيانه، ولذلك اكتفى القرآن بالنص على المبدأ منذ أربعة عشر قرنا سابقا بذلك كل المدنيات العصرية التي تتشدق بالحرية..

١٦٠- إن يؤيدكم الله بنصره - كما حصل يوم بدر - فلن يغلبكم أحد، وإن قدر لكم الخذلان لعدم اتخاذكم أسباب النصر - كما حصل يوم أُحد - فلا ناصر لكم سواه، وعلى الله - وحده - يجب أن يعتمد المؤمنون ويفوضوا أمرهم إليه.
١٦١- ما صح لنبي أن يخون في المغنم كما أشاع المنافقون الكذابون، لأن الخيانة تنافي النبوة، فلا تظنوا به ذلك، ومن يخن يأت يوم القيامة بإثم ما خان فيه، ثم تُعطى كل نفس جزاء ما عملت وافياً، وهم لا يظلمون بنقصان الثواب أو زيادة العقاب.
١٦٢- ليس من سعى في طلب رضا الله بالعمل والطاعة مثل الذي باء بغضب عظيم من الله بسبب المعصية. ومصير العاصي جهنم وبئس ذلك المصير.
١٦٣- ليس الفريقان سواء، بل هم متفاوتون عند الله تفاوت الدرجات والله عالم بأحوالهم ودرجاتهم، فيجازيهم على قدرها.
١٦٤- لقد تفضل الله على المؤمنين الأولين الذين صحبوا النبي، بأن بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آيات الكتاب، ويطهرهم من سوء العقيدة، ويعلمهم علم القرآن والسنة. وقد كانوا من قبل بَعثه في جهالة وحيرة وضياع.
١٦٥- أجزعتم وتخاذلتم وقلتم مستغربين حين أصابتكم مصيبة يوم أُحد قد أصبتم ضعفيها يوم بدر : من أين لنا هذا القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله فينا ؟. قل - يا محمد - : الذي أصابكم من عند أنفسكم بسبب مخالفتكم الرسول والله قادر على كل شيء، وقد جازاكم بما عملتم.
١٦٦- إن الذي أصابكم - أيها المؤمنون - يوم التقى جمعكم وجمع المشركين بأُحد واقع بقضاء الله، وليظهر للناس ما علمه من إيمان المؤمن حقاً.
١٦٧- وليظهر نفاق الذين نافقوا، وهم الذين قيل لهم حين انصرفوا يوم أُحد عن القتال : تعالوا قاتلوا لأجل طاعة الله، أو قاتلوا دفاعاً عن أنفسكم، قالوا : لو نعلم أنكم ستلقون قتالاً لذهبنا معكم، وهم حين قالوا هذا القول أقرب للكفر منهم للإيمان، يقولون بأفواههم : ليس هناك حرب، مع أنهم يعتقدون في قلوبهم أنها واقعة. والله أعلم بما يضمرون من النفاق.
١٦٨- وإنهم هم الذين تخلفوا عن القتال وقعدوا عنه، وقالوا في شأن إخوانهم الذين خرجوا وقتلوا : لو أطاعونا وقعدوا كما قعدنا لنجوا من القتل كما نجونا. قل : فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين في أن الحذر كان يمنعكم من القدر.
١٦٩- ولا تظنن الذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتاً بل هم أحياء حياةً استأثر الله بعلمها، يرزقون عند ربهم رزقاً حسناً يعلمه هو.
١٧٠- يتألق السرور بالبشر من وجوههم بما أعطاهم الله بسبب فضله من المزايا، ويفرحون بإخوانهم الذين تركوهم في الدنيا أحياء مقيمين على منهج الإيمان والجهاد، وبأنه لا خوف عليهم من مكروه، ولا هم يحزنون لفوات محبوب.
١٧١- تتألق وجوه الشهداء بما منّ الله به عليهم من نعمة الشهادة ونعيم الجنة وعظيم الكرامة، وبأنه لا يضيع أجر المؤمنين.
١٧٢- الذين لبّوا دعوة الرسول إلى استئناف الجهاد من بعد ما أصابهم في غزوة أُحد من الجرح العميق، وبذلك أحسنوا، واتقوا عصيان أمر الله ورسوله، فاستحقوا الأجر العظيم في دار الجزاء والنعيم.
١٧٣- الذين خوفهم الناس بأن قالوا لهم : إن أعداءكم قد جمعوا لكم جيشاً كثيفاً فخافوهم، فما ضعفوا وما وهنوا، بل ازدادوا إيماناً بالله وثقة بنصره، وكان ردّهم : الله كافينا، وهو المتولي أمورنا، وهو نِعْمَ من يفوّض إليه الأمر كله.
١٧٤- ثم خرجوا للجهاد ولقاء الجيش الكثيف، ولكن المشركين جبنوا عن اللقاء، فعاد المؤمنون فائزين بنعمة السلامة مع الرغبة في الجهاد، وفوزهم بثوابه وفضل اللَّه عليهم في إلقاء الرعب في قلوب عدوهم فلم ينلهم أذى. وابتغوا رضوان اللَّه فصاروا أهلاً لفضله، واللَّه صاحب الفضل العظيم.
١٧٥- يبين اللَّه سبحانه للمؤمنين أن أولئك الذين يخوفونكم بأعدائكم لتجْبنوا عن لقائهم ليسوا إلا أعواناً للشيطان الذي يخوف أتباعه فيجعلهم جبناء ولستم منهم. فلا تحفلوا بتخويفهم وخافوا اللَّه - وحده - إن كنتم صادقي الإيمان، قائمين بما يفرضه عليكم هذا الإيمان.
١٧٦- لا تحزن - أيها النبي - إذا رأيت الذين يزدادون كفراً ويسرعون بالانتقال من سيئ إلى أسوأ، فهم لن ينالوا اللَّه بأي ضرر، لأنه القاهر فوق عباده، بل يريد اللَّه ألا يجعل لهم نصيباً من ثواب الآخرة، ولهم فوق حرمانهم هذا الثواب الكريم عذاب عظيم.
١٧٧- إن هؤلاء الذين استبدلوا الكفر بالإيمان، فابتغوا الكفر وتركوا الإيمان، لن يضرُّوا اللَّه شيئا، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم شديد الإيلام.
١٧٨- لا يحسبن هؤلاء الكافرون أن إمهالنا لهم - حين نُمدُ في أعمارهم، ونهيئ لهم أسباب النعيم في حياتهم الدنيا - خير لهم، فإن إطالة العمر وسعة الرزق يفضيان بهم إلى الاستمرار في اكتساب الإثم واستحقاق ما أعد اللَّه لهم من عذاب مهين.
١٧٩- ما كان اللَّه ليترككم - يا معشر المؤمنين - على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق، حتى يميز بينكم بالمحنة والتكليف لتروا المنافق الخبيث والمؤمن الطيب، ولم تجر سنة اللَّه بإطلاع أحد من خلقه على شيء من غيبه، ولكن اللَّه يصطفي من يشاء بإطلاعه على ما يشاء من غيبه، وإن تؤمنوا وتتقوا ربكم بالتزام طاعته يدخلكم الجنة جزاء، ونعم الجزاء إذ هي جزاء عظيم.
١٨٠- لا يظن الذين يبخلون بما أنعم الله عليهم من المال تفضلاً منه، ولا يبذلونه في الواجبات وسبل الخير أنَّ البخل خير لهم، بل إنه شر سيئ العاقبة عليهم، سيجزون عليه شر الجزاء يوم القيامة، وسيكون العذاب ملازماً لهم ملازمة الطوق للعنق. وإن كل ما في الوجود يؤول لله - سبحانه وتعالى - وهو المالك له، وهو - سبحانه - يعلم كل ما تعملون، وسيجازيكم عليه.
١٨١- ومع أن الله له ملك السماوات والأرض وميراثهما، فقد قال بعض اليهود متهكمين : إن الله فقير يطلب منا أن نقرضه بالإنفاق، ونحن أغنياء ننفق أو لا ننفق، لقد سمع الله قولهم هذا وسجَّل عليهم ذلك القول كما سجل عليهم قتلهم الأنبياء ظلماً وإثماً وعدواناً، وسيقول لهم يوم القيامة : ذوقوا عذاب النار المحرقة.
١٨٢- وذلك العذاب بما قدمت أيديهم من الآثام، وعقاب الله لا يكون إلا عدلا، فهو لا يظلم العباد أبداً.
١٨٣- إنهم هم الذين قالوا : إن الله أمرنا في التوراة ألا نؤمن مذعنين لرسول إلا إذا دلل على صدقه بأن يأتينا بشيء يقربه لوجه الله وتنزل نار من السماء فتأكله، فقل لهم - أيها النبي - : إن رسلا من الله قد جاءوا من قبل بالأدلة الواضحة، وجاءوا بما اقترحتم، ومع ذلك كذبتموهم وقتلتموهم. فلم فعلتم ذلك إن كنتم صادقين في وعدكم بالإيمان عندما يتحقق ما تريدون ؟
١٨٤- وإن كذبوك - أيها النبي - فلا تحزن، فقد سبق قبلك كثيرون كذبهم أقوامهم تعنتاً وعناداً، مع أنهم جاءوا بالأدلة الساطعة والكتب السماوية الدالة على صدق رسالتهم.
١٨٥- كل نفس تذوق الموت لا محالة، وإذا أصابتكم آلام في الدنيا فإنما توفون ثوابكم كاملاً يوم القيامة، ومن قارب النار وزحزح عنها فقد نال الفوز، وما الحياة الدنيا إلا متاع زائل يغرُّ ولا يبقى.
١٨٦- تأكدوا - أيها المؤمنون - أنكم ستختبرون في أموالكم بالنقص أو الإنفاق، وفي أنفسكم بالجهاد وبالأمراض والآلام. وأنكم ستسمعون من اليهود والنصارى والمشركين كثيراً مما يؤذيكم من السب والطعن، فعليكم أن تقابلوا ذلك بالصبر وتقوى الله، لأن ذلك من الأمور الصالحة التي يجب العزم على تنفيذها.
١٨٧- واذكر - أيها النبي - إذ أخذ الله العهد المؤكد على أهل الكتاب أن يوضحوا معانيه، وألا يخفوا شيئاً من آياته عن الناس، فألقوه وراء ظهورهم نابذين له، واستبدلوا به متاع الدنيا طالبين له، ومتاع الدنيا مهما يكن كالثمن البخس الحقير في مقابل الهداية والإرشاد فقبحاً لما فعلوا.
١٨٨- لا تظنن الذين يفرحون دائماً بما يأتون من أفعال قبيحة ويحبون الثناء بما لم يفعلوه، لا تظنن هؤلاء بمنجاة من العذاب، لأن من شأنهم أن يغلقوا على أنفسهم باب الإيمان والحق كاليهود، ولهم عذاب مؤلم يوم القيامة.
١٨٩- الله - وحده - هو المالك لأمر السماوات والأرض، وهو القادر على كل شيء، فيؤاخذ المذنبين بذنوبهم ويثيب المحسنين على إحسانهم.
١٩٠- إن في خلق الله للسماوات والأرض مع ما فيهما من إبداع وإحكام، واختلاف الليل والنهار نوراً وظلمة وطولاً وقصراً لدلائل بينات لأصحاب العقول المدركة على وحدانية الله وقدرته١.
١ ﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب﴾
في هذا النص تنبيه إلى حقائق كونية تدل على عظمة الخالق، ذلك أن السماء هي آية من آيات الله بدت لنا بتأثير الأشعة الشمسية على الغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض، فعندما تسقط هذه الأشعة على ذرات العناصر الكيماوية التي يتألف منها الجو وعلى ما يحمله هذا الجو من أتربة دقيقة عالقة به منعكسة من هذه الذرات وتلك الأتربة تتشتت في جهات مختلفة، ومن المعلوم أن الضوء الأبيض يتألف من جميع الألوان المرئية، وأن هذه الذرات تمتص بعض الألوان من بعضها الآخر.
وقد اتضح من تجارب واعتبارات خاصة بطاقته، أن اللون الأكثر تشتتا هو اللون الأزرق، ويتجلى هذا بصورة أوضح عندما تكون الشمس في سمت الرأس، وتتناقص زرقة هذا اللون شيئا فشيئا حتى إذا بلغت الشمس الأفق أي وقت الغروب أو الشروق. فإن إشعاعها يخترق جو الأرض في مسافات أطول بكثير. ولهذا فإن اللون الأحمر يظهر تشتته أكثر من غيره.
وصفوة القول: إن ضوء النهار يتطلب الإشعاع الشمسي وكمية متناسبة من الغبار الجوي، والدليل على ذلك ما حدث في سنة ١٩٤٤ حيث أظلمت السماء فجأة في وضح النهار. ولشدة ظلمتها صار النهار كأنه الليل. وظل الأمر كذلك زمنا وجيزا، ثم تحولت السماء إلى لون أحمر ثم تدرج إلى لون برتقالي فأصفر، حتى عادت السماء إلى حالتها الطبيعية بعد حوالي ساعة أو أكثر.
وقد تبين فيما بعد أن هذه الظاهرة نشأت من تفتت كوكب في السماء فاستحال إلى رماد وحملته الرياح إلى مسافات بعيدة من أواسط إفريقية إلى شمالها وتجاوزت إلى غربي آسيا حيث شوهدت هذه الظاهرة في إقليم سوريا. وتفسير ذلك أن الغبار المعلق في الهواء قد حجب نور الشمس، فلما قلت كثافته أخذ الضوء في الاحمرار والاصفرار... الخ
ولو ارتفع الإنسان في الفضاء فإنه سوف يمر بطبقات جوية تختلف خصائصها ومميزاتها بعضها عن بعض. فهو يشاهد السماء تأخذ في الزرقة الشديدة شيئا فشيئا حتى إذا ما بلغ عتبة الفضاء الخارجي الخالية من المواد التي يتألف منها الغلاف الجوي والأتربة العالقة به بدت له السماء معتمة كأنها ليل على الرغم من وجود الشمس فوق الأفق، والخلاصة أن هناك سماوات متطابقة في هيئة قباب تختلف في خصائصها وألوانها وتمتد إلى أقصى أعماق الفضاء وهذا مظهر من مظاهر قدرة الله ـ سبحانه وتعالى ـ التي تتجلى في خلقه كل ما في السماوات والأرض.
وضوء النار يتطلب سقوط الشمسية على ذرات من الغلاف الجوي الذي يحمل جسيمات من الغبار بكميات متفاوتة، وضوء النهار يبلغ من الشدة حدا بحيث يحجب الأضواء الخافتة المنبعثة من النجوم أو من احتكاك الشهب والنيازك بالغلاف الجوي.
وعندما تختفي أشعة الشمس تحت الأفق بمسافات بعيد فإن أضواء النجوم الخافتة تظهر لبعدها الشاسع عنا قليلة التأثير على الغلاف الجوي بحيث لا تحدث نورا يشبه نور النهار. وينشأ تعاقب الليل والنهار من دوران الأرض حول محورها. ومرجع التفاوت الزمني بين الليل والنهار هو دورة الأرض حول الشمس وميل محورها عن مستوى مدارها فتختلف الفترات الزمنية باختلاف الفصول وعروض البلاد.
ومن حكمته ـ جلت قدرته ـ أن التعاقب بين الليل والنهار وتراوحهما على فترات قصيرة يؤدي إلى اعتدال في درجة الحرارة والمناخ ويهيئ البيئة الصالحة للحياة والإحياء، ولهذا فإن اللون الأحمر يظهر بسبب التشعب الناجم عن الغبار الحجمي..

١٩١- وشأن أولي الألباب أنهم يستحضرون في نفوسهم عظمة الله وجلاله في كل مكان، قائمين وقاعدين وعلى جنوبهم، ويتدبرون في خلق السماوات والأرض وما فيهما من عجائب قائلين : ربنا ما خلقت هذا إلا لحكمة قدَّرتها وأنت منزه عن النقص، بل خلقته دليلاً على قدرتك، وعنواناً لبالغ حكمتك، فاحفظنا من عذاب النار بتوفيقك لنا إلى طاعتك.
١٩٢- يا خالقنا والقائم على أمورنا، والحافظ لنا إن من يستحق النار وتدخله فيها فقد أخزيته، وليس للظالم الذي استحق النار من نصير يمنعه منها.
١٩٣- يا خالقنا والقائم على أمورنا، والحافظ لنا إننا سمعنا رسولك يدعو إلى الإيمان بك فأطعناه وآمنا به، ربنا اغفر لنا كبائر ذنوبنا وامح عنا صغائر سيئاتنا، واجعلنا بعد وفاتنا مع عبادك الأخيار.
١٩٤- يا خالقنا، والقائم على أمورنا، والحافظ لنا، أعطنا الذي وعدتنا على ألسنة رسلك من نصر وتأييد في الدنيا، ولا تدخلنا النار فتخزنا - يوم القيامة - فشأنك ألا تخلف الميعاد.
١٩٥- فأجاب ربهم دعاءهم، مبيناً لهم أنه لا يضيع على عامل منهم ثواب عمله، سواء كان ذكراً أم أنثى، فالأنثى من الذكر، والذكر من الأنثى. الذين هاجروا يريدون وجه الله وأخرجوا من ديارهم ونالهم الأذى في سبيل الله وقاتلوا وتعرضوا للقتل، وقتل منهم من قتل، كتب الله على نفسه أنه سيمحو عنهم سيئاتهم، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار جزاءً كريماً عالياً من عند الله، والله - وحده - عنده الثواب الحسن الجميل.
١٩٦- لا تتأثر - أيها النبي - بما ترى فيه الذين كفروا من تقلب في النعيم والتصرف في التجارة والمكاسب.
١٩٧- فإن ذلك متاع زائل، وكل زائل قليل، ثم يكون المأوى الذي ينتهون إليه جهنم، وبئس منزلا جهنم.
١٩٨- ذلك جزاء الكافرين، أما الذين آمنوا وخافوا ربهم فلهم جنات تجري من تحتها الأنهار مخلدين فيها، نازلين في كرم الله سبحانه وما عند الله خير للأبرار مما يتقلب فيه الكافرون من متاع زائل.
١٩٩- إن بعض أهل الكتاب يؤمنون بالله وبما أنزل على محمد وبما أنزل على الرسل من قبله، تراهم خاضعين لله ضارعين إليه، لا يستبدلون بالبينات الظاهرة عرضاً من أعراض الدنيا مهما عظم فهو قليل، هؤلاء لهم الجزاء الأوفى في دار الرضوان عند ربهم والله سريع الحساب لا يعجزه إحصاء أعمالهم ومحاسبتهم عليها، وهو قادر على ذلك وجزاؤه نازل بهم لا محالة.
٢٠٠- يا أيها المؤمنون تمسكوا بالصبر، وغالبوا أعداءكم به، ولازموا الثغور لحمايتها، وخافوا ربكم، ففي كل ذلك رجاء فلاحكم.
Icon