ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
١، ٢ - ﴿حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ قال ابن عباس: قَسَمٌ من الله بالقرآن المبين (١)، يريد الذي بَيَّنَ فيه الفرائض والسنن والشرائع، قال أبو إسحاق: ﴿الْمُبِينِ﴾ الذي أبانَ طريقَ الهدى من طرق الضلالة، وأبان كلَّ ما تحتاج إليه الأمة (٢).٣ - قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ أي: صَيَّرناه. والجَعْل يكون بمعنى (٣) التصيير، ذكرنا ذلك في قوله: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ [المائدة: ١٠٣] والمعنى: صَيَّرْنا قرآنَ هذا الكتاب عربيًّا، لأن من القرآن العبراني (٤)
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٠٥.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" (جعل) ١/ ٣٧٣، "اللسان" (جعل) ١١/ ١١١، "مفردات الراغب" (جعل) ص ٩٤، "تفسير البغوي" ٧/ ٢٠٥، "تفسير ابن عطية" ١٤/ ٢٣٩.
(٤) قال السيوطي: اختلف الأئمة في وقوع المعرَّب في القرآن، فالأكثرون ومنهم الإمام الشافعي، وابن جرير، وأبو عبيدة، والقاضي أبو بكر، وابن فارس على عدم وقوعه فيه لقوله تعالى: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ وقوله: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ وقد شدد الشافعي النكير على القائل بذلك، وقال أبو عبيدة: إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول، ومن زعم أن كذاباً بالنبطية فقد أكبر القول. وقال ابن أوس: لو كان فيه من لغة غير العرب شيء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله، لأنه أتى بلغات لا يعرفونها. وقال ابن جرير: ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير =
٤ - قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ﴾ يعني: القرآن ﴿فِي أُمِّ الْكِتَابِ﴾ قال ابن عباس: في اللوخ المحفوظ (١). ﴿لَدَيْنَا﴾ يريد: الذي عندنا، قال مقاتل: يقول فإن نُسْخته في أم الكتاب، يعني: اللوح المحفوظ (٢).
وقال أبو إسحاق: ﴿أُمِّ الْكِتَابِ﴾ أصل الكتاب، وأصلُ كلِّ شيء أمُّه، والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ، والدليل على ذلك: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)﴾ (٣) [البروج: ٢١ - ٢٢].
وقال عبد الرحمن بن سابط: كلُّ شيء كائن إلى يوم القيامة مكتوب في أم الكتاب (٤).
(١) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ٧٨ ب، والبغوي ٧/ ٢٠٥، والقرطبي ١٦/ ٦٢ ولم ينسبوه.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٨٩.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٠٥.
(٤) انظر: "الدر المنثور" ٧/ ٣٦٦.
وقال أهل المعاني: العلي في البلاغة المظهر ما بالخلق إليه حاجة (٤) في أحسن البيان، جهله من جهله، وعلمه من علمه.
٥ - قوله تعالى: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا﴾ قال الفراء (٥) والزجاج (٦): يقال: ضربت عنه وأضربت عنه، أي: تركته وأمسكت عنه. وقوله: (صفحًا). قال ابن قتيبة: أي: إعراضًا، يقال: صَفَحْت عن فلان، إذا أعرضت عنه، والأصل في ذلك أنك موليه صَفْحةَ عنقك. قال كُثيِّر يذكر امرأةً صفوحًا:
صفُوحًا فَما تَلْقَاكَ إلا بَخِيلَةً | فَمنْ مَلَّ مِنْها ذَلِك الوَصْلَ مَلَّتِ |
وقال أبو علي: وانتصاب (صفحًا) من باب: (صُنْعَ الله) لأن قوله: (أفنضرب عنكم الذكر) يدل على أصفح عنكم صفحًا (٨)، واختلفوا في
(٢) أخرج ذلك الطبري عن قتادة، انظر: "تفسيره" ١٣/ ٤٩، "تفسير الوسيط" ٤/ ٦٣.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٢٠٥، "تفسير الوسيط" ٤/ ٦٤.
(٤) انظر: "غرائب التفسير" للكرماني ٢/ ١٠٦٠.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٢٨.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٠٥.
(٧) إلى هنا انتهى ما نقله عن ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص ٣٩٥.
(٨) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ١٣٨.
قال أبو إسحاق: المعنى: أفنضرب عنكم ذكر العذاب بأن أسرفتم، قال: والدليل على أن المعني هذا قوله: ﴿فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا﴾ (٢) وعلى هذا ضَرْب الذكر: رده وكفه، واختيار الفراء على هذا القول، وقال: المعنى: أفنضرب عنكم ذكر الانتقام منكم والعقوبة لكم، لأن كنتم قومًا مسرفين (٣).
وقال آخرون: معنى: الذكر هاهنا القرآن والتذكير به، قال ابن عباس: يريد: الضرب عنكم الموعظة (٤)، وقال الكلبي: يقول الله لأهل مكة: أفنترك عنكم الوحي صفحًا فلا نأمركم بشيء ولا ننهاكم (٥) ولا نرسل إليكم رسولاً أن كنتم قومًا مشركين، المعنى على هذا: أفنمسك عن إنزال القرآن ونتركه من أجل أنكم لا تؤمنون به (٦)، وهذا معنى قول قتادة: والله لو كان هذا القرآن رُفع حين ردَّه أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة (٧).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٢٠٦.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٢٧ ونص عبارته: والعرب تقول: قد أضربت عنك وضربت عنك، إذا أردت به: تركتك وأعرضت عنك.
(٤) لم أقف عليه، وكذا رسمها في الأصل، ولعل الصواب: نضرب أو أضرب.
(٥) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ٧٩ أ، والبغوي ٧/ ٢٥٦، وأبو حيان ٨/ ٦ عن الكلبي.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٤٩، "البغوي" ٧/ ٢٠٦، "الجامع" للقرطبي ١٦/ ٦٢.
(٧) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ٤٩ عن قتادة، ونسبه البغوي ٧/ ٢٠٦ لقتادة.
وقال أبو إسحاق مثل هذا القول أي: أنهملكم فلا نعرفكم ما يجب عليكم لأن أسرفتم (٢)، والاختيار هذا القول، وهو قول ابن زيد واختيار الجبائي (٣) لأنه أليق بما بعده من قوله: (أن كنتم قومًا مسرفين) (٤)، وقرئ ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ بكسر الهمزة وفتحها، فمن فتح فالمعنى: لأن، والكسر على أنه جزاء استغني عن جوابه بما تقدمه، مثل: أنت ظالم إن فعلت، كأنه قال: إن كنتم قومًا مسرفين نضرب (٥).
وقال أبو إسحاق: من كسر فعلى معنى الاستقبال، على معنى: إن تكونوا مسرفين، وقرئ: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ﴾ (٦)، وقال الفراء: ومثله ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ [المائدة: ٢] و (أن صدوكم) بالكسر والفتح وأنشد:
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٠٦.
(٣) هو: محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي أبو علي من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره وإليه نسبة الطائفة (الجبائية) مات سنة ثلاث وثلاثمائة، انظر: "وفيات الأعيان" ١/ ٤٨٠، "البداية والنهاية" ١١/ ١٢٥، "الأعلام" ٦/ ٢٥٦.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٥٠، "إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ٩٨، "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٣٨.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٠٥.
أَتَجْزعُ إِنْ أُذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتا | جِهَارًا وَلَم تَجْزَعْ لِقَتْلِ ابن خَازِمِ (١) |
٦ - ٨ - ﴿وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٧) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الزخرف: ٦ - ٨].
قال ابن عباس: يريد أشد من قومك بطشًا (٤)، ويعني: بالأشد بطشًا الأولين الذين ذكر أنه أرسل فيهم الرسول فاستهزؤا به فأهلكهم الله، وهم كانوا أشد بطشًا من قريش.
قال ابن عباس: يعني: أكبر عددًا وأظهر جَلدًا (٥)، ونظم الكلام
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٢٧.
(٣) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ٧٩ ب، والشوكاني في "فتح القدير" ٤/ ٥٤٨ عن أبي عبيد، وذكره بهذا اللفظ القرطبي ١٣/ ٦٣ ولكن نسبه لأبي عبيدة فلعله تصحيف (عبيد).
(٤) ذكر ابن الجوزي أن المراد: قريش، ولم ينسبه، انظر: "زاد المسير" ٧/ ٣٠٣، وقال البغوي ٧/ ٢٠٦: أي: أقوى من قومك، وقال القرطبي: الكناية في ﴿مِنْهُمْ﴾ ترجع إلى المشركين المخاطبين بقوله: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا﴾ فكنى عنهم بعد أن خاطبهم ١٦/ ٦٣.
(٥) قال القرطبي ١٦/ ٦٤: أقوى من هؤلاء المشركين في أبدانهم وأتباعهم. ولم ينسبه.
قوله تعالى: ﴿وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ﴾ قال الكلبي: سنة الأولين ممن أهلك، وهو قول مجاهد (٢).
قال مقاتل: يعني: سنة الأولين في العقوبة حين كذبوا رسلهم (٣).
وقال قتادة: عقوبة الأولين (٤).
وقال ابن عباس: يريد: وسبق ما أنزل الله في القرون الأولين قوم نوح وعاد وثمود (٥)، وعلى هذا معنى الآية: وسبق ما أنزلنا في إهلاكهم، وهو مَثَلٌ ضربناه لهم، وتقدير الكلام: مثل الأولين لهم.
قال أهل المعاني (٦): ومضى مثل الأولين لهؤلاء الباقين، أي: أنهم قد سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم، فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي ما نزل بهم، فقد ضربنا لهم مثلهم كما قال: ﴿وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الفرقان: ٣٩]، وكقوله: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٥١، "تنوير المقباس" ص ٤٨٩.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٨٩.
(٤) "تفسير الطبري" ١٣/ ٥١ فقد أخرجه عن قتادة، ونسبه القرطبي لقتادة، انظر: "الجامع" ١٦/ ٦٤.
(٥) لم أقف عليه، وكذا رسمها في الأصل، ولعل الصواب: (الأولى).
(٦) لم أقف عليه.
ثم ذكر أن هؤلاء مع شركهم وكفرهم يقرون بما هو الحجة عليهم فقال:
٩ - ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ قال ابن عباس: ولئن سألت قومك يا محمد (٢) ﴿مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ قال: يريد إقرارًا منهم بعدلي وعلمي بخَلْقي، قال الكلبي: وهذا إيمان منهم وهم يخالفون فيشركون به الأصنام (٣).
وقال أهل المعاني: هذا إخبار عن غاية جهلهم، إذ أقروا بالله خالق السموات والأرض، ثم عبدوا معه غيره، وأنكروا قدرته على البعث (٤)، وقد تم الإخبار عنهم (٥) ثم ابتدأ جل وعز دالًّا على نفسه فقال:
١٠ - قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾ (٦) قال صاحب
(٢) ذكر ذلك البغوي ٧/ ٢٠٦ ولم ينسبه، وابن عطية ١٤/ ٢٤٢ ولم ينسبه.
(٣) ذكر نحو ذلك في "تفسير الوسيط" ٤/ ٦٥ ولم ينسبه، وكذلك "البغوي" ٧/ ٢٠٧.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٢٠٧، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٦٤.
(٥) انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص ٦٤٦.
(٦) نص الآية: ﴿مَهْدًا﴾ قال أبو علي الفارسي: اختلفوا فى قوله: ﴿مَهْدًا﴾ (طه: ٥٣) =
قوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ صفة من صفاته أضافها -عز وجل- إلى الصفة التي حكاها عن الكفار؛ لأنها حق، وإن كان من كلام الكفار، وتفسير هذه الآية قد سبق في سورة طه [آية ٥٣].
وقوله: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ فيه قولان: أحدهما: تهتدون في أسفاركم إلى مقاصدكم، وهذا قول الحسن ومقاتل، والثاني: لتهتدوا إلى الحق [في بالاعتبار] (٢) الذي جعل لكم، وهذا معنى قول ابن عباس (٣).
١١ - قوله: ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ﴾ قال ابن عباس: يريد
(١) كذا رسمها في الأصل، ولعله سننه لفظ: (ثم).
(٢) كذا رسمها في الأصل ولعل المراد: (فيه بالاعتبار).
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٠، "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٣، "تفسير ابن عطية" ١٤/ ٢٤٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٦٤
١٢ - ﴿وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾ أي الأصناف والضروب والألوان والذكر والأنثى.
١٣ - قوله: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ قال أبو عبيدة: التذكير لـ: ما (٢)، وقال الفراء: أضاف الظهور إلى واحد فيه معنى الجمع بمنزلة الجيش والجند، فلذلك ذكَّر وجمع الظهور (٣).
﴿ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ يعني النعمة بتسخير ذلك لكم، مراكب في البر والبحر، وقال الكلبي: هو أن تقول: الحمد لله الذي رزقني هذا وحملني عليه (٤)، وهذا معنى قول ابن عباس: تذكروا كرامة ربكم إذا استويتم عليه، يعني: إكرامه إياكم بتلك المراكب (٥)، ويدل على هذا قوله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الإسراء: ٧٠].
وقوله: ﴿وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا﴾ قال مقاتل: ذلل لنا هذا المركب (٦)، وقال قتادة: قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم الفلك بقوله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ [هود: ٤١] ويعلمكم إذا ركبتم الإبل أن
(٢) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢٠٢.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٢٨.
(٤) ذكر ذلك في "الوسيط" ٤/ ٦٥ ونسبه لمقاتل والكلبي.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٠.
قال ابن عباس: يريد: ولا طاقة لنا بالإبل ولا بالفلك ولا بالبحر لولا أن الله سخره لنا (٢) ومعنى المقرن: المطيق في قول المفسرين (٣)، قال أبو عبيدة: فلان مقرن لفلان، أي: ضابط له وأنشد:
ولَسْتُم للصِّعَابِ بمُقرنِينَا (٤)
وقال الليث: أقرنت لهذا البرذون والبعير، أي قد أطقته، وكان اشتقاقه من قولك: صوت له قرنًا مطيقًا (٥)، ونحو هذا قال الزجاج وابن قتيبة قال: ومعنى: أنا قرن لفلان، أي: مثله في الشدة (٦).
وقال صاحب النظم: هذا كله خبر عن ظاهره، ومعناه في الباطن أمر؛ لأنه لو كان خبرًا لوجب أن يكون ذلك عامًا في الإتيان والعمل به، فلما لم يكن ذلك عامًا، وكان خاصًّا في بعض، دل ذلك عليه أنه أمر أخرج مخرج الخبر، قال: وقد قيل إن معناه: ليأمركم إذا استويتم عليه أن تذكروا نعمة ربكم كقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]
(٢) نسبه في "الوسيط" لابن عباس. انظر: ٤/ ٦٥.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٥٥، "الماوردي" ٥/ ٢١٨، "القرطبي" ١٦/ ٦٦.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢٠٢، والبيت للكميت وصدره قوله:
ركبتم صعبتي أنشرًا وحيفًا
والشاهد قوله: مقرنينا: أي ضابطين. وقد استشهد به النحاس في "معاني القرآن" ٦/ ٣٤١، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ٦٦.
(٥) انظر: كتاب: العين ٥/ ١٤٣ (قرن) بلفظ:
صرت له قرينا أي مطيقًا
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٠٦، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٣٩٥.
١٥ - قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ﴾. قال صاحب النظم: رجع إلى ذكر الكفار الذين قدم ذكرهم في أول السورة، فابتدأ خبرًا عنهم من غير أن يصله في المعنى بما قبله؛ لأنه لا يتصل بشيء مما تقدمه، وإن كان منسوقًا عليه بواو العطف، ومعنى الجزء في اللغة: القطعة والنصيب، وجمعه أجزاء، ويقال: جزأت الشيء بينهم وجزأته، إذا قسمته، تخفف وتثقل (١).
وذكر المفسرون في هذا قولين:
أحدهما: قال ابن عباس: يريد حيث جعلوا الملائكة بنات الله (٢)، وعلى هذا معنى الآية حكموا بأن بعض العباد وهم الملائكة له أولاد.
فمعنى الجعل هنا الحكم بالشيء، وحُذِفَ من الكلام مفعولٌ هو مراد على تقدير: وجعلوا له من عباده جزءًا ولدًا أو بنات.
القول الثاني: أن معنى الجزء هاهنا العدل والشبيه، وذلك أنهم عبدوا الملائكة والجن، فجعلوهم لله عدلًا وشبيهًا، وهذا معنى قول مقاتل وقتادة (٣)، وتقدير هذا القول كتقدير القول الأول؛ لأن المعنى: وجعلوا له
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ٥٥ عن مجاهد والسدي. ونسبه في "الوسيط" ٤/ ٦٦ لابن عباس ومجاهد والحسن.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٠، "تفسير الطبري" وقد ذكر القولين ١٣/ ٥٥ - ٥٦، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٣٩٦، "تفسير الماوردي" ٥/ ٢١٩.
إنْ أَجْزأَتْ حُرَّةٌ يومًا فلاَ عَجَبٌ | قَدْ تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكَارُ أَحْيَانَا (٢) |
قوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ﴾ يعني: إن الكافر (لكفور) لجحود لنعم الله (مبين) بيِّن الكفران، والاختيار: القول الأول لقوله:
(٢) البيت استشهد به ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص ٣٩٦، والماوردي في "تفسيره" ٥/ ٢١٩، وأبو حيان في "البحر" ٨/ ٨، "اللسان" (جزأ) ١/ ٤٧. وقال الزمخشري: ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث ما هو إلا كذب على العرب ووضح محدث متحول ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه أجزأت المرأة ثم صنعوا بيتاً وبيتاً:
إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب
زوجتها من بنات الأوس مجزئة
انظر: "الكشاف" ٣/ ٤١٣.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" بتصرف يسير (جزى) ١١/ ١٤٥.
١٧ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا﴾ قال مقاتل: بالذي وصف للرحمن شبهًا (٤)، وقال [مقاتل] (٥): بما جعل لله شبهًا (٦)، وذلك أنهم إذا أجازوا أن تكون الملائكة بنات الله، فقد جعلوا الملائكة شبهًا لله، وذلك أن ولد كل شيء شبهه وجنسه، وهذه الآية مفسرة في سورة النحل [آية ٥٨].
ووجه الاحتجاج عليهم من هذه الآية أن من اسود وجهه بما يضاف إليه مما لا يرضى، فهو أحق أن يسود وجهه بإضافته مثل ذلك إلى من هو
(٢) كذا رسمها بالأصل، ولعل الصواب (اتخاذ).
(٣) كذا رسمها بالأصل، ولعل الصواب (رد) أو (أراد).
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩١.
(٥) كذا في الأصل ولعله تصحيف، ولعل الصواب (قتادة).
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٥٦، فقد أخرج عن قتادة بلفظ: (بما جعل لله).
١٨ - قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ﴾ قال مقاتل: ينبت في الزينة، يعني: الابنة (١) قال المبرد: تقدير الآية: أو يجعلون له من ينشأ في الحلية يعني البنات، ونحو هذا قال الزجاج والفراء (٢)، وعلى هذا موضع (من) نصب، وهو اختيار أبي علي قال: موضع (من) نصب على تقدير: اتخذوا له من ينشأ في الحلية على وجه التقريع لهم بما افتروه (٣)، وذكر الفراء قولين قال: وإن شئت جعلت (من) في موضع رفع على الاستئناف، وعلى هذا يضمر الخبر، قال: وإن رددتها على أول الكلام على قوله: ﴿بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ﴾ خفضتها (٤).
وقرأ حمزة والكسائي: (ينشؤ) بالتشديد على غير تسمية الفاعل، وهي قراءة ابن عباس وابن مسعود (٥).
قال أبو علي الفارسي: يقال: نشأت السحاب، ونشأ الغلام، فإذا نقل بالهمز تعدَّى إلى مفعول كقوله: ﴿وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ﴾ [الرعد: ١٢] ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤] والأكثر في الأفعال التي لا تتعدى إذا أريد تعديتها أن ينقل بالهمزة، أو بتضعيف العين نحو: فرَّحته وأفرحته،
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٥٧، "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٢٩، ولم أقف على قول المبرد.
(٣) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ١٤٠.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٢٩.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٥٨، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٦٤٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٧١، "الإتحاف" ص ٤٧٢.
قال المبرد: الفرق الذي ذكر أبو عبيد بين (ينشأ وينشا) ليس بشيء، لأنه إذا أنشئ نشأ، ولا ينشَّأ إلا أن ينشأ، وكذلك: إنك ميت، إنما هو ممات؛ لأنه لا يموت حتى يمات، وكذلك كل ما ينسب إلى العبد في خلقه (٣).
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ فِي الْخِصَامِ﴾ يعني المخاصمة ﴿غَيْرُ مُبِينٍ﴾ للحجة قاله الكلبي، وقال قتادة: قلما تتكلم امرأة بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها (٤)، وقال أبو إسحاق: إن الأنثى لا تكاد تستوفي الحجة ولا تبين (٥)،
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٧١.
(٣) قولا الكسائي والمبرد لم أقف عليهما، وانظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٦٤٦.
(٤) انظر: "تفسير عبد الرازق" ٢/ ١٩٥، "الطبري" ١٣/ ٥٧، "البغوي" ٧/ ٢٠٩.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٠٧.
١٩ - قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ﴾ قال أبو إسحاق: الجعل هاهنا في معنى القول والحكم على الشيء، يقول: قد جعلت زيدًا أعلم الناس، أي قد وصفته بذلك وحكمت به.
قوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾ (٤)، وكلٌّ صواب، قد جاء التنزيل بالأمرين جميعًا في وصف الملائكة، وذلك قوله: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٦]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٦]، وقوله: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأنبياء: ١٩]، وفي قوله: (عند الرحمن) دلالة على رفع المنزلة، والتقريب كما قال: ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ٥٧ عن ابن زيد، ونسبه الثعلبي ١٠/ ٨٠ ب لابن زيد، وانظر: "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٢٠.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٠٧.
(٤) لعل في الكلام سقطًا هاهنا، فكأن المؤلف يشير إلى القراءة الأخرى، وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر: {عِندَ الرَّحْمَنِ﴾ بالنون، وقرأ الباقون: ﴿عِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾ بالباء، ومما يقوى ذلك أنه غالباً ما ينقل عن "الحجة" لأبي علي الفارسي وهي هكذا في "الحجة" بنفس الشواهد انظر: "الحجة" ٦/ ١٤٠.
وقال في "الوسيط" ٤/ ٦٧ بعد هذا المقطع: وقرئ ﴿عِندَ الرَّحْمَنِ﴾ وكل صواب.
وقال المبرد: هذه القراءة أنبأ عن صحة كذبهم مما اختاره القسم (٣)، لأن المعنى أن الملائكة عنده وليسوا عندهم [رواهم] (٤)، فكيف حكموا بأنوثتهم، يدل على هذا قوله: ﴿أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ﴾، (فعند) على ما ذكره المبرد ينبئ عن العلم لا عن الدنية (٥).
واختلفوا في قوله: ﴿أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ﴾ فقرأه العامة من الشهود، ويدل عليه قوله: ﴿أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ﴾ [الصافات: ١٥٠]، وقرأ نافع: (أَأشْهِدُوا) على أفعلوا بضم الهمزة وسكون الشين وقبلها همزة الاستفهام مفتوحة، ثم خففت الهمزة الثانية من غير أن يدخل بينهما الفاء. وروى المسيبي عنه بإدخال الألف بين الهمزتين، و (شهد) الذي يراد به حضر يتعدَّى إلى مفعول به من غير حرف جر كقوله:
(٢) انظر: "اختيار" أبي عبيد في "إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٧٢.
(٣) كذا رسمها، ولعله سقط لفظ (الأول).
(٤) كذا رسمها، ولعل الصواب (يرونهم).
(٥) قال الطبري: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار صحيحتا المعنى فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، وذلك أن الملائكة عباد الله وعنده. "تفسير الطبري" ١٣/ ٥٨، ولم أقف على قول المبرد.
شَهدنا فَمَا تَلْقَى لَنَا مِنْ كَتِيْبَةٍ | يَدَ الدَّهرِ إلَّا جبْرئيلٌ أمَامُها (١) |
قال ابن عباس: يريد أحضروا أو عاينوا خلقهم.
قال الكلبي ومقاتل: لما جعلوا الملائكة بنات الله سألهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما يدريكم أنهم إناث؟ " قالوا: سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم
(٢) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ١٤٢، وفيها: أو من اجتمع لقتالنا، بدل قتالها، وكتاب: التذكرة في القراءات ٢/ ٦٦٦، "الكشف" لمكي ٢/ ٢٥٧.
(٣) كذا رسمها في الأصل وفي "الحجة" (أأشهدوا)، فالمعنى: أأحضروا ذلك، انظر: ٦/ ١٤٦.
(٤) لم أقف على قول المبرد، وقد ذكر نحو ذلك النحاس في "إعراب القرآن" ٤/ ١٠٤.
(٥) كذا رسمها في الأصل، وفي "إعراب القرآن" للنحاس (لأنهم إذا شهدوا فقد أشهدوا).
٢٠ - قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ قال الكلبي: بنو مليح (٢) من خزاعة كانوا يعبدون الملائكة، قالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، ونحو هذا قال قتادة ومقاتل (٣).
قوله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾ قال أبو إسحاق: ما لهم بقولهم إن الملائكة بنات الله من علم (٤)، يدل على هذا قوله: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ وقال أصحابنا إنهم عنوا بقولهم: ﴿لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ أنه قدرنا على عبادتها فَلَمْ يعاقبنا؛ لأنه رضي بذلك منا (٥). وذلك كذب منهم، لأن الله تعالى وإن أراد كفر الكافر لا يرضاه، وليس تقديره الكافر على الكفر رضا منه (٦)، فذلك يدل على ذلك. ﴿مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾ أي: لا علم
(٢) بنو مليح بن عمرو بن عامر بن لحي بن قَمَعَة بن إلياس، ويقال إن بني مليح هؤلاء من ولد الصلت بن مالك بن النضر بن كنانة انظر: "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم ص ٢٣٨.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ص ٤٩٠، "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩١، "القرطبي" ١٦/ ٧٤.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٠٨.
(٥) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" ١٠/ ٨١ أ.
(٦) قال ابن كثير رحمه الله: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ أي لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام فإنه عالم بذلك وهو يقررنا عليه فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ:
الأول: جعلهم لله تعالى ولدًا.
الثاني: دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين. =
أحدهما: وهو أن قول أبي إسحاق أن قوله: ﴿مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ إنكارٌ لما ذكر عنهم من قوله: ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾، وقوله: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾.
والثاني: أنهم [أروا] (١) بقولهم: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، أنه أمرنا بذلك، وأنه رضي بذلك فقدرنا عليه، فأنكر عليهم، وهذه الآية كقوله: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ في سورة النحل [٣٥].
٢١ - قوله تعالى: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾ قالوا كلهم: من قبل القرآن، قال مقاتل: يقول هل أعطيناهم كتابًا من قبل
الرابع: احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قدراً، وقد جهلوا في هذا الاحتجاج جهلاً كبيرًا فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار. انظر: "تفسير ابن كثير" ٦/ ٢٢٢. وقال شارح الطحاوية: أما أهل السنة فيقولون إن الله وإن كان يريد المعاصي قدراً فهو لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها، وهذا قول السلف قاطبة فيقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. انظر: "شرح الطحاوية" ١/ ٧٩.
(١) كذا رسمها، ولعل المراد (أرادوا).
قال ابن عباس: فهم به يعملون (٢)، وقال الكلبي: يأخذون بما فيه (٣).
وقال أبو إسحاق: أم هل قالوه عن كتاب، والمعنى آتيناهم كتابًا بما قالوه من عبادة غيره (٤). [ذكر أنه لم] (٥) يعبدوا غيره بكتاب [إذا] (٦) العلم بالحق لا يدرك إلا بالسمع أو بالعقل، وليس يوجب ما يفعلون عقل ولا سمع.
٢٢ - ثم ذكر أنهم لم يأتهم كتاب، فقال: ﴿بَلْ﴾ أي ما أتيناهم كتابًا ولكنهم ﴿قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾.
وقال الزجاج: أعلم الله أن فعلهم اتباع ضلالة آبائهم بقوله: ﴿بَلْ قَالُوا﴾ (٧).
وقال صاحب النظم: أي ليس لهم حجة إلا تقليد آبائهم، وقولهم: إنا وجدناهم على دين فنحن نتبعهم، ومعنى الأمة في هذه الآية: السنة والملة والدين، في قول جميعهم (٨).
(٢) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" ولم ينسبه. انظر: ١٦/ ٧٤.
(٣) انظر: "تفسير أبي الليث السمرقندي" ٣/ ٢٠٥، "تنوير المقباس" ص ٤٩٥.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٠٨.
(٥) كذا في الأصل، ولعل الصواب (ذكر أنهم لم).
(٦) كذا في الأصل، ولعل الصواب (إذ).
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٠٨.
(٨) انظر: "تفسير السمرقندي" ٣/ ٢٠٥، "الماوردي" ٥/ ٢٢١، "البغوي" ٥/ ٢١٠.
٢٣ - ثم أخبر تعالى أن غيرهم قالوا هذا القول فقال: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي وكما قالوا ﴿مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ﴾ الآية.
قوله: ﴿مُتْرَفُوهَا﴾ قال ابن عباس ومقاتل: ملوكها وأشرافها وجابرتها (٢)، وقال أبو إسحاق قوله: ﴿مُهْتَدُونَ﴾ و ﴿مُقْتَدُونَ﴾، يصلح أن يكون جوابًا لـ: ﴿إِنَّا﴾، و ﴿عَلَى﴾ من صلته والتقدير: إنا مهتدون على آثارهم، وكذلك مقتدرون، ويصلح أن يكون خبرًا بعد خبر، فيكون (على آثارهم) خبر (إنا) ومهتدون [خبرًا ثان] (٣)، وكذلك مقتدون (٤)، فقال الله تعالى لنبيه:
٢٤ - ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ﴾ قال الكلبي: بأعرف دينا وأبين صلاحًا (٥).
وقال أبو إسحاق: المعنى فيه قل: أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جئتكم بأهدى منه (٦)؟ فأبوا أن يقبلوا ذلك ﴿قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٢، "تفسير أبي الليث" ٣/ ٢٠٥، "تنوير المقباس" ص ٤٩١.
(٣) كذا في الأصل، وفي معاني الزجاج (ثانيًا) ٤/ ٤٠٨.
(٤) نص العبارة عند الزجاج: ويصلح أن يكون خبرًا لإنا مهتدون، و ﴿عَلَى﴾ من صلة مهتدين، وكذلك ﴿مُقْتَدُونَ﴾، فيكون المعنى وإنهم مهتدون على آثارهم، وكذلك يكون المعنى مقتدون على آثارهم، ويصلح أن يكون خبراً بعد خبر، فيكون: ﴿وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ﴾ الخبر ويكون ﴿مُهْتَدُونَ﴾ خبراً ثانياً، وكذلك ﴿مُقْتَدُونَ﴾ ٤/ ٤٠٨.
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ٨١ ب، "السمرقندي" ٣/ ٢٠٥، "البغوي" ٧/ ٢١٠.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٠٨.
٢٥ - ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ الآية. قال ابن عباس: يريد ما صنع بقوم نوح وعاد وثمود (١)، ونحو هذا قال مقاتل (٢).
٢٦ - ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ﴾ قال الكلبي: لما خرج إبراهيم من السرب وهو ابن سبع عشرة سنة، أبصر قومه وأباه يعبدون الأصنام فقال لهم هذا القول (٣).
وقوله: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ﴾ قال الكساني والفراء والمبرد: براء: مصدر لا يثنى ولا يجمع مثل: عدل ورمي، تقول العرب: أنا البرآء منك والخلا، ولا يقولون: البراءان والبراءون؛ لأن المعنى: ذو البراء، وذو البراء، فإن قلت: بريء وخلى، ثنيت وجمعت (٤)، ثم استثنى خالقه من البراءة فقال:
٢٧ - ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ المعنى أنا أتبرأ مما تعبدون إلا من الله -عز وجل-، ويجوز أن يكون (إلا) بمعنى لكن، فيكون المعنى لكن الذي فطرني ﴿فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ أي سيرشدني لدينه ويوفقني لطاعته، قاله ابن عباس (٥). والوجهان في الاستثناء ذكرهما الزجاج (٦).
٢٨ - قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني لا إله إلا الله، وقال قتادة: لا يزال في ذريته من يعبد
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٣.
(٣) ذكر ذلك في "تفسير الوسيط" انظر: ٤/ ٦٩.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٣٠، "اشتقاق أسماء الله" لأبي القاسم الزجاجي ص ٢٤٢.
(٥) ذكر ذلك البغوي ٤/ ٢١٠، والشوكاني ٤/ ٥٥٣ ولم ينسبه.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٠٩.
قال صاحب النظم: قد رضيت العامة بقول المفسرين من غير وقوف على حقيقة مخرج هذه الكلمة، وإذا تأملت الآية رددتها بالاعتبار إلى تأويلها، دلت على قيام لا إله إلا الله فيها مصورة، وذلك أن النفي والتنزيه عند العرب واحد في المعنى.
وقوله -عز وجل- ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ﴾ مثل قولك: لا، لأنه يتبرأ بها من الشيء.
قوله: ﴿مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ كل معبود عند العرب كان يسمى إلهًا، فقد رجع تأويل هذه الآية بهذا الاعتبار أنها كناية عن الإله، ثم قال: ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ ولا يهدي ولا يفطر إلا الله -عز وجل-، وكأنه قال: إلا الله، وقد انتظمت الكلمتان بهذا التأويل لا إله إلا الله.
وقوله: ﴿فِي عَقِبِهِ﴾ قال مقاتل: في ذرية إبراهيم، وقال الكلبي: في نسله (٢)، وقال الحسن: عقب الرجل: نسله إلى يوم القيامة.
وقال ابن عباس: يريد في ولده وولد ولده إلى يوم القيامة (٣).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٣، "تنوير المقباس" ص ٤٩١، وفص العبارة عند مقاتل: يعني في ذريته، يعني ذرية إبراهيم.
(٣) انظر: "تفسير أبي الليث" ٣/ ٢٠٦، "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٢٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٧٧.
قول: ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ قال الفراء: أي لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين إذ كانوا من ولد إبراهيم، فذلك قوله: ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي: إلى دينك دين إبراهيم (٢)، وقال قتادة: لعلهم يتوبون ويرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله (٣).
٢٩ - ثم ذكر نعمته على قريش فقال: ﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ﴾ قال ابن عباس: يريد المشركين (٤)، يعني أنه متعهم بأنفسهم وأموالهم وأنواع إنعامه عليهم، ولم يعاجلهم بعقوبة كفرهم ﴿حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ﴾، وقال مقاتل: يعني القرآن. وقال الضحاك: الإسلام (٥).
﴿وَرَسُولٌ مُبِينٌ﴾ مبين لهم الإعلام والأحكام، وقال مقاتل: بين أمره (٦).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٣١.
(٣) انظر: "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٢٣، فقد أورد عدة أقوال عن قتادة بلفظ: (يذكرون)، وعن ابن عباس بلفظ (يتوبون)، وعن الفراء: (يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم)، وذكره البغوي ٧/ ٢١١ ونسبه للسدي.
(٤) ذكر ذلك البغوي ٧/ ٢١١ ولم ينسبه، وذكره أبو الليث السمرقندي بلفظ: يعني قومك، ولم ينسبه. انظر: "تفسيره" ٣/ ٢٠٦.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٣، "تفسير البغوي" ٧/ ٢١١ عن الضحاك.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٣.
٣٠، ٣١ - ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ﴾ يعني: القرآن ﴿قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (٣٠) وَقَالُوا لَوْلَا﴾ هلا ﴿نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ﴾ الآية. قال الكلبي ومقاتل: قال الوليد بن المغيرة، لو كان هذا القرآن حقًا لنزل عليَّ أو على [ابن] (١) مسعود: عمرو بن عمير بن عوف الثقفي جد المختار الكذاب (٢)، وكان بالطائف والوليد كان بمكة، وهما القريتان، وقال عطاء عن ابن عباس وقتادة: في عظيم الطائف إنه عروة بن مسعود (٣)، وقال مجاهد: عتبة بن ربيعة من مكة، وابن عبد الثقفي من الطائف (٤).
وقال أبو إسحاق: المعنى على رجل من رجلي القريتين (٥).
وقال أبو علي: من إحدى القريتين (٦).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٣، "تفسير البغوي" ٧/ ٢١١.
(٣) ذكر ذلك البغوي، ونسبه لقتادة انظر: "تفسيره" ٧/ ٢١١، وذكره ابن الجوزي ونسبه لمجاهد وقتادة. انظر: "زاد المسير" ٧/ ٣١١، ونسبه القرطبي لقتادة. انظر: "الجامع" ١٦/ ٨٣. وهو عروة بن مسعود بن معتب بن مالك.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٦٥، "تفسير البغوي" ٧/ ٢١١، "التعريف الإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء الأعلام" ص ٢٨٧، ورجح النحاس أن المراد بالرجلين: الوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي. انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٦/ ٣٥١.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٠٩.
(٦) لم أقف عليه.
ثم قال قوله تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قال ابن عباس: يريد أرزاقهم (٤)، واختلفوا في معنى ذكر سبب قسمة المعيشة هاهنا، فقال مقاتل في هذه الآية: يقول لم أعط الوليد وأبا مسعود الذي أعطيناهما من الغنى لكرامتهما على الله، ولكنه قسمة من الله بين الخلق (٥)، فعلى هذا المعنى: نحن أعطيناهما ذلك فلا يغر بهما الغنى ولا يبطر بهما النعمة، فإن من قسمها لهما قادر على نزعها عنهما، ثم ذكر الحكمة في تفضيل بعض على بعض في الرزق في باقي الآية.
وقال أهل المعاني: إن الله قسم النبوة كما قسم الرزق في المعيشة، فليس لأحد أن يتحكم في شيء من ذلك، وكما فضلنا بعضهم فوق بعض في الرزق والمنزلة، كذلك اصطفينا للرسالة من نشاء، وعلى هذا معنى الآية: إنا تولينا قسم معيشتهم، كذلك تولينا قسم النبوة بالرحمة، فلا
(٢) كذا في الأصل، ولعل الصواب (اعترضوا).
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٤.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٤.
وقال آخرون: نبه الله -عز وجل- بالأدنى على الأعلى، فذكر أنه قسم المعيشة بين عباده بتفضيله من يشاء في الرزق على غيره، وإذا كان هو المتولي لهذه القسمة، فأن يكون هو المتولي لقسمة النبوة، إذ شأن النبوة أعظم ومحلها أرفع، وكما لا يعترض عليه في قسمة الرزق، كذلك لا يعترض عليه في قسمة النبوة (٢).
قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يعني الفضل في الغنى في الحياة الدنيا (٣). ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ أي يستخدم بعضهم بعضًا فيسخر الأغنياء بأموالهم الفقراء، هذا قول السدي وابن زيد (٤)، قال الضحاك وقتادة: ليملك بعضهم بما لهم بعضًا فيتخذونهم عبيدًا ومماليك، وهذا معنى قول مقاتل والكلبي (٥).
وقال ابن عباس: يُسخِّر هذا لهذا وهذا لهذا (٦). وهذا القول يحتمل القولين؛ لأن التسخير يكون بالأجر ويكون بالملك (٧)، وذكرنا معنى السخرى في سورة المؤمنين [١١٠]، وقال أبو الحسن الأخفش: اتفق
(٢) انظر: "تفسير أبي الليث السمرقندي" ٣/ ٢٠٦، "تفسير ابن عطية" ١٤/ ٢٥٤.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٤، ولم أقف على نسبته لابن عباس.
(٤) انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ٨٢ أ، "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٢٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٨٣.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٤، "تفسير أبي الليث" ٣/ ٢٠٦، "الماوردي" ٥/ ٢٢٤.
(٦) قال ابن كثير: قيل معناه: ليسخر بعضهم بعضًا في الأعمال لاحتياج هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا. قاله السدي وغيره. انظر: "تفسير ابن كثير" ٦/ ٢٢٥.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٦٧.
قوله تعالى: ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ قال مقاتل: يعني الجنة للمؤمنين خير مما يجمع الكفار من الأموال (٢)، وهذا القول اختيار أبي إسحاق فقال: أعلم الله أن الآخرة أحظ من الدنيا (٣)، وقال ابن عباس: والنبوة من ربك خير مما يجمعون من الدنيا، والرحمة على هذا القول: النبوة (٤) وهو أولى لقوله: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ ولم يختلفوا أنها بمعنى النبوة، كذلك التي في آخر الآية، والمعنى على هذا: أن النبوة لك يا محمد من ربك خير من أموالهم التي يجمعونها.
٣٣ - ثم أعلم قلة الدنيا عنده -عز وجل- فقال: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ قال قتادة: لولا أن يكون الناس كفارًا (٥).
وقال مقاتل: يقول لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة من الخير والرزق (٦).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٤.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٠.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٦٧، فقد أخرج ذلك عن قتادة والسدي، وذكر ذلك الماوردي ٥/ ٢٢٤ ولم ينسبه، والقرطبي ١٦/ ٨٤ ولم ينسبه.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٦٨، "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٢٤.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٤.
﴿لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ﴾ لهوان الدنيا عليه ﴿سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ﴾ قال الشعبي: يعني: الجذوع (٢)، وقال مقاتل: يعني سماء البيت (٣)، وقرئ: ﴿سُقُفًا﴾. فمن قال (سَقْفًا) فهو واحد يدل على الجمع، ألا ترى أنه قد علم بقوله: ﴿لِبُيُوتِهِمْ﴾ أن لكل بيت سقفًا، ومن قرأ: (سُقُفًا). فهو جمع سَقْف، مثل: رَهْنَ ورُهُنُ، ويُخَفَّفُ فيقال: رُهْنُ، ومثله في الصفة فَرَسٌ وَرْدٌّ، [والجميع] (٤) وُرْدٌ [وكذلك] (٥) كَثٌ وكُثٌّ، وسَهْمٌ حَشْرٌ وسِهَام حُشْرٌ، وَفُعُلٌ في الجمع يُخَفَّف نحو: أَسَدٍ و [أُسْدٍ] (٦)، قال:
(٢) أخرج ذلك النحاس عن الشعبي لكنها بلفظ: (الجزوع) انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٦/ ٣٥٤، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" لعبد بن حميد وابن المنذر عن الشعبي بلفظ: (الجزوع) انظر: "الدر" ٧/ ٣٧٦، والذي يظهر لي أن الصحيح أنها: (الجذوع) بالذال قال ابن فارس: في "معجم مقاييس اللغة" (سقف)، السين والقاف والفاء أصل يدل على ارتفاع في إطلال وانحناء، ومن ذلك السقف سقف البيت لأنه عال مطل، والسقيفة الصفة، والسقيفة كل لوح عريض في بناء إذا ظهر من حائط. انظر: "معجم مقاييس اللغة" (سقف) ٣/ ٨٧. وقال الأزهري: قال الليث: السقف غماء البيت.. قال: والسقيفة كل بناء سُقِف به صفة أو شبه صفة مما يكون بارزاً.. والسقيفة كل خشبة عريضة كاللوح أو حجر عريض يستطاع أن يُسقَفَ به قُترةٌ أو غيرها. انظر: "تهذيب اللغة" (سقف) ٨/ ٤١٣. وذكر ذلك النحاس في "إعراب القرآن" بلفظ: (جذوعاً) ونسبه لسعيد بن جبير والشعبي. انظر: ٤/ ١٠٩.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٤.
(٤) كذا في الأصل وهو تصحيف، والصحيح (وخَيْلُ).
(٥) سقط من الأصل لفظ (وكذلك).
(٦) سقط من الأصل لفظ (أُسْدٍ).
كأنَّ مُحَرَّباً من أُسْدِ تَرْجٍ | ينازِلُهُ لِنَابَيْهِ قَبِيبُ (١) |
وقال ابن قتيبة: يعلون، يقال: ظهرت على البيت، إذا علوت سطحه (٧)، ومنه قول الجعدي:
وإنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذلك مَظْهَرا (٨)
(٢) نظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٠، "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٤٨.
(٣) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٤٨.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٧٠، "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٢٤، "تفسير الوسيط" ٤/ ٧١، "تغليق التعليق" لابن حجر ٤/ ٣٠٥.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٧٠.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٤.
(٧) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٣٩٧.
(٨) البيت للنابغة الجعدي وصدره قوله: =
٣٤ - ﴿وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا﴾ أي أبوابًا من فضة (و) كذلك ﴿وَسُرُرًا﴾ من فضة، والمعنى لولا (٢) تميل بهم الدنيا فيصير الخلق كفارًا لأعطى الله الكافر في الدنيا غاية ما يتمنى فيها لقلتها عنده، ولكنه -عز وجل- لم يفعل ذلك لعلمه بأن الغالب على الخلق حب العاجلة.
قال الأخفش: واحد المعارج معراج، ولو شئت قلت في جمعه المعاريج (٣) وإن شئت جعلت الواحد معراجًا بفتح وكسر، كما تقول: مَرقاة ومِرْقاة. قال: وقوله: ﴿يَظْهَرُونَ﴾، يقول: قد ظهر على البيت يظهر، ويظهر ظهورًا وظهورًا، إذا علاه، وظهرت على السطح، إذا صرت عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [الفتح: ٢٨] معناه: ليُعْليه، وأظهر الله المسلمين على الكافرين أي: أعلاهم [عليه] (٤)، وأظهر على الشيء المسروق، إذا أطلع عليه (٥).
﴿وَسُرُرًا﴾ هو السرير، والعدد أسرة، والجميع السرر.
انظر: "ديوانه" ٦٨، ٧٣. وقد ذكره ابن قتيبة في "غريب الحديث" ١/ ١٢٧، "اللسان" (ظهر) ٤/ ٥٢٩.
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١١.
(٢) كذا في الأصل، ولعله سقط لفظ: (أن).
(٣) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٨٨.
(٤) كذا في الأصل، ولعل الصواب (عليهم).
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" (ظهر) ٦/ ٢٤٨، "الصحاح" (ظهر) ٢/ ٧٣٢.
٣٥ - قوله تعالى: ﴿وَزُخْرُفًا﴾ تفسير الزخرف في اللغة: الزينة، وكمال الشيء فيها، ودليل ذلك قوله (٢): ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا﴾ [يونس: ٢٤]، ونحو هذا قال ابن عباس: يريد جمع الزينة (٣).
وقال مقاتل: يقول ولجعلنا لهم كلَّ شيء من ذهب (٤).
وقال الفراء: جاء في التفسير إنما نجعلها لهم من فضة ومن زخرف، فإذا ألقيت من أوقعتَ الفعلَ عليه فتنصبه، أي وزخرفها تجعل ذلك منه. قال: وقال آخرون: ونجعل لهم مع ذلك ذهبًا وغنى، وهو أشبه الوجهين بالصواب (٥).
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ القراء على تخفيف ﴿لما﴾ و ﴿مَا﴾ لغو، المعنى: لمتاع الحياة الدنيا، (وإن) مخففة من الثقيلة، واللام في ﴿لَما﴾ التي تدخل لتفصل بين النفي والإيجاب في نحو قوله:
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (زخرف) ٧/ ٦٧٢، "الصحاح" (زخرف) ٤/ ١٣٦٩.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٧١، "إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٩.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٥.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء بتصرف يسير ٣/ ٣٢.
ولم تعمل (إن) عمل الفعل لما خففتها لزوال شبهها بالفعل من أجل التخفيف، وحكى سيبويه النصب بها مخففة، والقياس أن لا تعمل إذا خففت بذلك على دخولها على الفعل في نحو: ﴿وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾ [الأنعام: ١٥٦] ﴿وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾ [الأعراف: ١٠٢]، وقرأ حمزة (لمَّا) بالتشديد، جعل (لما) في معنى: إلا، وحكى سيبويه: نشدتك باللهِ لَمَّا فَعَلْتَ يعني: إلا، ويقوي هذه [القراءتان في حرف] (٢) (وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا) وهذا يدل على أن (لما) بمعنى (إلا) وأنَّ (إنْ) بمعنى (ما) (٣).
وقال أبو الحسن: الوجه التخفيف، لأن (لما) في المعنى (إلا) لا يكاد يعرف ولا يكاد يُتكلم بها (٤)، وحُكي عن الكسائي أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل (٥).
حلت عليك عقوبة المتعمد
انظر: "المحتسب" لابن جني ٢/ ٢٥٥، "الأضداد" لابن الأنباري ص١٩٠، "شرح ابن عقيل" لألفية ابن مالك ١/ ٣٣٥، لكن صدره: شلت يمينك.
(٢) كذا في الأصل، ولعل الصواب (القراءة أن في حرف أبي) انظر: "الحجة" ٦/ ١٤٩.
(٣) من بداية ذكر القراءة نقله المؤلف عن "الحجة" لأبي علي مع اختصار لبعض المواضع. انظر: "الحجة" ٦/ ١٤٩، وانظر: "الجنى الداني في حروف المعاني" ص ٥٩٤.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٨٨.
(٥) انظر: "الحجة" ٦/ ١٤٩، "تفسير ابن عطية" ١٤/ ٢٥٦.
٣٦ - وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا﴾ قال أبو زيد وابن الأعرابي: عشى يعشو عَشْوًا وعُشُوًّا، إذا أتى نارًا للضيافة، وعشا يعشو، إذا ضعف بصره (٣)، ونحو هذا قال الليث، قال: والعاشية كل شيء يعشو بالليل إلى ضوء نار من أصناف الحيوان كالفراش (٤) وغيره وأنشدوا:
مَتَى تَأتِه تَعْشُو إلى ضوْءِ نارِهِ | تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَها خَيْرُ مُوقِدِ (٥) |
أحدهما: أن المراد بقوله (يعش): يعم ويضعف بصره.
والآخر: أن المعنى: ومن يعرض عن ذكر الرحمن، والأول قول مقاتل وابن زيد وابن عباس في رواية عطاء وأبي عبيدة وابن قتيبة.
قال مقاتل: يقول: ومن يعم بصره عن ذكر الرحمن، يعني القرآن.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٥.
(٣) انظر: "الصحاح" (عشى) ٦/ ٢٤٢٦، "اللسان" (عشا) ١٥/ ٥٦.
(٤) انظر: "العين" (عشى) ٢/ ١٨٧.
(٥) البيت للحطيئة من قصيدة مدح بها بغيض بن عامر بن شماس. انظر: "ديوانه" ص ٢٤٩، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢٠٤، "الصحاح" (عشا) ٦/ ٢٤٢٦، "اللسان" (عشا) ١٥/ ٥٦، "العين" (عشى) ٢/ ١٧٨، "الكتاب" ٣/ ٨٦.
وقال أبو عبيدة: ومن تظلم عينه، واختاره ابن قتيبة (١).
والقول الثاني: هو قول قتادة، وروي ذلك عن ابن عباس وهو اختيار الفراء وأبي إسحاق (٢).
وشرح الأزهري القولين وبيَّن الأصوب فقال: قال القتيبي معنى قوله: ﴿وَمَنْ يَعْشُ﴾ أي ومن يظلم بصره، قال: وهذا قول أبي عبيدة، ثم ذهب يرد قول الفراء ويقول: لم أر أحدًا يجيز عشوت عن الشيء، أي: تغافلت عنه كأني لم أره وكذلك تعاميت.
قال الأزهري: أغفل القتيبي موضع الصواب، واعترض مع غفلته على الفراء يرد عليه، فذكرت قوله لأبين عواره، فلا يغتر به الناظر في كتابه، العرب تقول: عَشَوت إلى النار أعشو عَشْوًا، أي قصدتها مهتديًا بها، وعشوت عنها، أي: أعرضت فيفرقون بين (إلى) و (عن) موصولين بالفعل.
قال أبو الهيثم: عشا عن كذا يعشو عنه، إذا مضى، وعشا إلى كذا يعشو إليه عَشْوًا وعُشُوًّا، إذا قصد إليه مهتديًا بضوء ناره، وإنما أتى القتيبي في وهمه الخطأ من جهة أنه لم يفرق بين عشا إلى النار، وعشا عنها، ولم يعلم أن كل واحد منهما ضد الآخر في باب الميل إلى الشيء والميل عنه كقولك: عدلت إلى بني فلان، وعدلت عنهم، وكذلك ملت إليهم، وملت
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٧٣، "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٣٢، "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١١.
وهكذا قال أبو إسحاق الزجاج في هذه الآية كما قال الفراء (١) قال: معنى الآية: أن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكمة إلى أباطيل المضلين، يعاقبه بشيطان يقيضه له حتى يضله ويلازمه قرينًا له، فلا يهتدي مجازاة له حين آثر الباطل على الحق البين (٢).
قال الأزهري: وأبو عبيدة صاحب معرفة الغريب، وأيام العرب، وهو بليد النظر في باب النحو ومقاييسه، انتهت الحكاية عن الأزهري (٣)، والقول ما اختاره؛ لأن الإعراض عن القرآن صح يعني من العمى عنه، ولهذا الوجه أدلة من التنزيل كقوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه: ١٢٤] وقوله: ﴿وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ﴾ [الجن: ١٧] والأول ليس ببعيد، ويحمل على أنه يعمى عن الاستدلال بحججه والتأويل في تبيانه، ونظيره من التنزيل قوله: ﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي﴾ [الكهف: ١٠١]
قوله: ﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا﴾ تفسير التقييض قد تقدَّم في سورة السجدة [آية: ٢٥]، قال مقاتل: يعني يضم إليه (٤).
(فهو له) في الدنيا (قرين) يعني صاحبًا يزين له العمى، وقال ابن عباس: فهو له قرين: يريد في الدنيا والآخرة (٥).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٢، لكنه بأخصر مما هنا، وهذا القول بنصه في "تهذيب اللغة" ٣/ ٥٦ (عشا) وفي "الوسيط" ٤/ ٧٢.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" وقد اختصر المؤلف في بعض المواضع من كلام الأزهري (عشا) ٣/ ٥٥ - ٥٧.
(٤) ذكر ذلك المعنى البغوي ٧/ ٢١٣ ولم ينسبه، ولم أقف عليه عند مقاتل.
(٥) انظر: "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٢٦، "تنوير المقباس" ص ٤٩٢، وقال القرطبي: =
٣٧ - ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ الهدى، وذكر الكناية عن الشيطان وابن آدم بلفظ الجمع في قوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ﴾ لأن قوله: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا﴾ في مذهب جمع (١) وإن كان اللفظ على الواحد. قاله الفراء (٢).
قوله تعالى: ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ قال مقاتل: يحسب كفار مكة أنهم على هدى (٣)، وقال أبو إسحاق: الشيطان يصدهم عن السبيل، ويحسب الكفار أنهم مهتدون (٤).
٣٨ - ثم عاد إلى لفظ الواحد فقال: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا﴾ يعني الكافر، وقرئ (جاءانا) يعني الكافر وشيطانه، قال مقاتل: يعني ابن آدم وقرينه في الآخرة جعلا في سلسلة واحدة (٥).
وروى معمر عن الجريري في هذه الآية قال: بلغنا أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ بيده شيطان فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار،
(١) انظر: "تفسير ابن عطية" ١٤/ ٢٥٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٩٠.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٣٢.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٥.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٢.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٥.
قال مقاتل: يعني يقول يتمنى الكافر أن بينهما بعد المشرقين، وأطول يوم في السنة إلى مشرق أقصر يوم في السنة (٢). ويقال: إنه أراد المشرق والمغرب فقال: المشرقين، وهذا أشبه الوجهين بالصواب؛ لأن العرب قد تجمع الاسمين على تسمية أشهرهما كما قال الفرزدق:
لنا قَمَرَاها والنّجومُ والطَّوَالِعُ (٣)
يريد: الشمس والقمر، ويقولون للكوفة والبصرة: البصرتان، وللجزيرة والموصل: الموصلان، الغداة (٤) والعصر، ومثله كثير، واختاره أبو إسحاق فقال: غلب لفظ المشرق كما قالوا سُنَّة العمرين يراد: سنة أبي بكر وعمر رحمة الله عليهما (٥).
قوله تعالى: ﴿فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ أي: أنت، قال مقاتل والكلبي: فبئس المصاحب معه في النار في سلسلة واحدة (٦)، ويقول الله للكافر في ذلك اليوم.
٣٩ - ﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ﴾ أي: أشركتم في الدنيا، قاله ابن عباس ومقاتل.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٥ بلفظ (يعني ما بين مشرق الصيف إلى مشرق الشتاء أطول يوم في السنة، وأقصر يوم في السنة).
(٣) انظر: "ديوان الفرزدق" ص ٥١٩، "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٣٣، "تفسير الطبري" ١٣/ ٧٤، "تهذيب اللغة" (عني) ٣/ ٢١٤، "تفسير ابن عطية" ١٤/ ٢٥٩.
(٤) في "تفسير الثعلبي" (ويقال الغداة والعشي العصران) ١٠/ ٨٤ أ.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٢.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٥، "تنوير المقباس" ص ٤٩٢.
وذكر ابن مجاهد أن ابن عامر قرأ ﴿إِنَّكُمْ﴾ بكسر الألف (٢)، وهو صحيح على ما ذكرنا من قول ابن عباس ومقاتل، وهو على إضمار فاعل ينفعكم، والفاعل ما ذكراهما، والمعنى: ولن ينفعكم اليوم التبرؤ إذ ظلمتم أمس، ودل على التبرؤ قوله: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ﴾ والفاعل قد يضمر إذا دلت عليه الحال كقولهم: إذا كان غدًا فأتني، وعلى هذه القراءة ﴿إِنَّكُمْ﴾ ابتداء كلام، ومن إضمار الفاعل في التنزيل قوله: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ [آل عمران: ١٧٣] أي زادهم قولُ الناس إيمانًا، وقرأه العامة: ﴿أَنَّكُمْ﴾ بفتح الهمزة.
قال المفسرون: لا يخفف الاشتراك عنهم؛ لأن لكل أحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب (٣).
قال المبرد فيما حكى عنه الزجاج: أنهم مُنِعوا روح التأسي، [لأن التأسي] (٤) يسهل المصيبة، فأعْلموا أنه لن ينفعهم الاشتراك في العذاب، فإن الله لا يجعل لهم فيه أسوة (٥).
(٢) انظر: كتاب: السبعة لابن مجاهد ص ٥٨٦، "الحجة" ٦/ ١٥٥.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٧٥، "الثعلبي" ١٠/ ٨٤ أ، "البغوي" ٧/ ٢١٤.
(٤) (لأن التآسي) ساقط من الأصل وهي هكذا عند الزجاج.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٢.
ولولا كَثْرةُ البَاكِينَ حَوْلي | على إخْوَانهم لَقَتَلْتُ نَفْسِي |
وما يَبْكُونَ مِثْلَ أخِي ولكِن | أعَزّي النَّفْسَ عَنْهُ بالتَّأسِّي (١) |
وهَوّنَ وَجْدِي عن خَلِيلِي أنني | إذا شِئْتُ لاقيت امرأ ما صاحبه (٢) |
ولكن أُسَلَّي النفْسَ عنه بالتَّأسَّي (٣)
٤٠ - ثم ذكر الله تعالى أنه لا تنفع الدعوة والوعظ من سبقت له الشقاوة فقال: ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ﴾ قال ابن عباس: يريد أنهم لا يعقلون ما جئت به ولا يبصرونه، لأن من أعميت قلبه فلا هادي له (٤) ﴿وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ يريد بانت ضلالته بتكذيب الصادق الأمين.
٤١ - قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد: الموت (٥)، قال مقاتل: يعني: فيميتك (٦).
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٥٥، ١٥٦، "عجز البيت" للخنساء.
(٤) ذكر ذلك في "الوسيط" عن ابن عباس. انظر: ٤/ ٧٣.
(٥) ذكر ذلك السمرقندي في "تفسيره" ٣/ ٢٠٨، وذكره الشوكاني ٤/ ٥٥٧ ولم ينسبه.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٦.
٤٢ - ﴿أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ﴾ قال ابن عباس: أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من الذل والقتل.
﴿فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ﴾ قالوا: وقد أري ذلك يوم بدر (٣) والمعنى: أن الله تعالى يقول لنبيه مطيبًا قلبه: إن ذهبنا بك انتقمنا لك منهم بعدك، أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من العذاب على تكذيبك ﴿فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ﴾ متى شئنا عذبناهم، ثم عذبوا يوم بدر، وهذا قول ابن عباس ومقاتل (٤).
وذهب قوم من المفسرين إلى أن هذا في المسلمين وهو مذهب قتادة والحسن، قال قتادة: أكرم الله نبيه وذهب به ولم ير في أمته ما كان من النقمة بعده (٥)، والقول هو الأول لأنه في ذكر المشركين قوله: ﴿وَإِنَّهُ﴾ الهاء كناية عن الذي أوحي إليه، وهو القرآن في قوله:
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٦.
(٣) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ٨٤ ب، والبغوي ٧/ ٢١٤ ولم ينسباه، ونسبه القرطبي ١٦/ ٩٢ لابن عباس.
(٤) انظر: "تفسير الثعلبي" قال: وهو قول أكثر المفسرين، وكذلك البغوي نسبه لأكثر المفسرين، ونسبه القرطبي لابن عباس وأكثر المفسرين، انظر المواضع السابقة، و"تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩.
(٥) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ٧٥ عن الحسن وقتادة، وأورده بدون سند الثعلبي ١٠/ ٨٤ ب، ونسبه البغوي ٧/ ٢١٤ للحسن وقتادة، وانظر: "تفسير الحسن البصري" ٢/ ٢٧٤، وانظر: "الجامع" ١٦/ ٩٢ فقد نسبه للحسن وقتادة.
قوله تعالى: ﴿وَلِقَوْمِكَ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: لمن آمن منهم، والقوم يحتمل كل من بعث إليه من الناس، ويحتمل أن يراد به قريش و [(٢)] ابن عباس ومقاتل: المؤمنين (٣)، ويكون المعنى على هذا: القرآن شرف لك بما أعطاك الله من الحكمة ولقومك المؤمنين بما عوضهم من إدراك الحق به، وإن قلنا: المراد بالقوم: قريش فشرفهم بالقرآن أنه أنزل على رجل منهم.
وروى الضحاك عن ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك؟ لم يخبر بشيء، حتى نزلت: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ فكان بعد ذلك إذا سئل قال: لقريش (٤)، وهذا يدل على أن -صلى الله عليه وسلم- فهم من هذا أنه يلي على المسلمين بحكم النبوة وشرف القرآن الذي أنزل على رجل منهم، وقال مجاهد: هو أن يقول الرجل لأخيه: ممن الرجل؟ فيقول: من العرب، فيقول: من أي العرب؟، فيقول: من قريش، فيقول: من أي قريش؟ فيقول: من بني هاشم (٥)، هذا والله هو الذِّكر والشرف، وعلى هذا
(٢) كذا في الأصل وقد سقط لفظ: (قال).
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٦، "تفسير أبي الليث" ٣/ ٢٠٨، وقد ذكر الأقوال الثلاثة ابن الجوزي ولم ينسبها، قال: أحدها: العرب قاطبة، والثاني: قريش، والثالث: جميع من آمن به، انظر: "زاد المسير" ٧/ ٣١٨.
(٤) أخرج ذلك الثعلبي في "تفسيره" ١٠/ ٨٤ ب عن علي وابن عباس، وعزاه السيوطي في "الدر" لابن عدي وابن مردويه عن علي وابن عباس، انظر: "الدر" ٧/ ٣٨٠، ونسبه البغوي لابن عباس ٧/ ٢١٥.
(٥) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد دون ذكر بني هاشم، انظر: "تفسيره" ١٣/ ٧٦، =
وقوله: ﴿وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ قال الكلبي: أي عن هذا الشرف هل أديتم شكره (١).
وقال مقاتل: يعني من كذب به، كأن يسأل: لم كذب به؟ (٢) فيسأل سؤال توبيخ.
وقال أبو إسحاق: سوف تسألون عن شكر ما جعله الله لكم من الشرف (٣)، وقال غيره: تسألون عن القرآن وعملكم بما أمرتم به فيه، وعما يلزمكم من القيام بحقه (٤).
٤٥ - قوله: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾ اختلف المفسرون وأهل التأويل في هذه الآية، فذهب طائفة إلى أن المعنى: واسأل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء، هل جاءتكم الرسل إلا بالتوحيد؟ وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والمقاتلين، واختيار الزجاج والفراء وابن قتيبة (٥).
(١) انظر: "تنوير المقباس" ص ٤٩٢، "تفسير الوسيط" عن الكلبي ٤/ ٧٤.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٦، "تفسير أبي الليث" ٣/ ٨٠٢.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٣.
(٤) انظر: "زاد المسير" ٧/ ٣١٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٩٤، "تفسير الوسيط" ٤/ ٧٤.
(٥) أخرج ذلك الطبري في "تفسيره" ١٣/ ٧٧ عن قتادة ورجحه، وأوردد البغوي في "تفسيره" ٧/ ٢١٦، وابن عطية في "تفسيره" ١/ ٢٦٣٤، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٣١٩، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ٩٦، وانظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٣٤، و"تفسير غريب القرآن" لابن قيبة ص ٣٩٩.
وقال ابن قتيبة: تقدير الآية: واسأل من أرسلنا، يعني: أهل الكتاب (٤).
قال ابن الأنباري (٥): وهذا خطأ في النحو؛ لأنه لا يصلح إضمار (إِلَيْهِ) اتفق النحويون أنه لا يجوز: الذي جلست عبد الله، على معنى: الذي جلست إليه؛ لأن (إليه) حرف منفصل، والمنفصل لا يضمر في صلة الموصول لانفصاله من الفعل؛ لأنه يجري مجرى المظهر. كما أنك إذا قلت: الذي أكرمك أبا عبد الله، لم يجز أن يضمر أباه، وإنما يحسن الإضمار في الهاء المتصلة نحو: الذي أكلت طعامك إذا أكلته، فحذف الهاء تخفيفًا لطول الاسم؛ لأن (الذي) و (أكلت) حرف واحد، ومعنى الآية: تِبَاع من أرسلنا (٦) فيكون هذا من باب حذف المضاف، ومعنى هذا الأمر بالسؤال التقدير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله.
(٢) كذا في الأصل وفي "معاني الفراء": (فإنهم إنما يخبرونه عن كتب....).
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٣٤.
(٤) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتية ص ٣٩٩.
(٥) لم أقف على قول ابن الأنباري، وقد ذكر نحوه النحاس في "إعراب القرآن" ٤/ ١١١، ١١٢.
(٦) انظر: "تفسير ابن عطية" ١٤/ ٢٦٥ بهذا اللفظ، وذكره في "الوسيط" ٤/ ٧٥ عن ابن الأنباري بلفظ: (سل أتباع من أرسلنا).
وهذا قول سعيد بن جبير والزهري، قالوا: جمع له الرسل ليلة أسري به فلقيهم وأمر أن يسألهم، فلم يشكك ولم يسأل (٣).
وذكر أبو إسحاق قولاً ثالثًا وهو: أن يكون الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمراد: الذين بعث إليهم، كأنه قيل لهم: سلوا الذين أرسلنا إليهم الرسل قبل محمد، هل أتوا بدين غير التوحيد؟ ولكن الكلام خرج على مخاطبته -صلى الله عليه وسلم- كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [الطلاق: ١] (٤).
وذكر صاحب النظم وجهًا آخر [حلفًا فاسدًا] (٥) فقال: المعنى سل الأنبياء الذين أرسلناهم من هم لتعرفهم، كما تقول: سل من هذا، أي:
(٢) أخرج نحو ذلك الطبري ١٣/ ٧٨ عن ابن زيد، ونسبه البغوي ٧/ ٢١٦ لعطاء عن ابن عباس، ونسبه القرطبي ١٦/ ٩٥ لابن عباس وابن زيد، ونسبه في "الوسيط" ٤/ ٧٥ لعطاء عن ابن عباس.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٧٨، "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٢٨، "البغوي" ٧/ ٢١٦، "زاد المسير" ٧/ ٣١٩، "الوسيط" ٤/ ٧٥، وقد زاد بعضهم نسبته لابن زيد.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج بتصرف في العبارة ٤/ ٤١٤.
(٥) كذا رسمها في الأصل ولم أتبينها.
٤٦ - قوله تعالى: ﴿إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ﴾ قال الكلبي: ألقى عصاه لهم فإذا هي ثعبان مبين فضحك القوم وهزئوا به وقالوا: هل يأته غير هذه؟ قال: نعم، فأراهم يده لها شعاع كشعاع الشمس يضيء لها الوادي فضحكوا منه وهزئوا (٣).
٤٨ - قوله تعالى: ﴿إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا﴾ قال الكلبي: من التي كانت قبلها (٤).
قال مقاتل: كانت اليد أكبر من العصا، وكان موسى بدأ بالعصا فألقاها ثم أخرج يده فلم يؤمنوا ﴿وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ﴾ يعني: بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس (٥).
وذهب قوم إلى أن المعنى في قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا﴾: هي العصا واليد والطوفان والجراد إلى الدم، فكانوا يكذبون ويهزؤن وهي تترادف عليهم التالية أكبر من السابقة، وهي العذاب المذكور في قوله: (وأخذناهم
(٢) انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص ٦٤٨.
(٣) و (٤) انظر: "تنوير المقباس" ص ٤٩٢، ص٤٩٣ فقد ذكر نحوه.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٦.
٤٩ - ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ﴾ قال ابن عباس: يقولون أيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيمًا يعظمونه ويعزونه ولم يكن صفة ذم (٢)، وقيل: إنهم قالوا ذلك جهلاً منهم بصفته.
وقال أبو إسحاق: إنهم خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر، ولم يناقشهم موسى في مخاطبتهم إياه بذلك رجاء أن يؤمنوا، قوله تعالى: ﴿بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ﴾ فيمن آمن به من كشف العذاب عنهم (٣).
قوله: ﴿إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾ أي: مؤمنون بك، قاله ابن عباس (٤) ومقاتل قال: وكان الله عهد إلى موسى لئن آمنوا كشفت عنهم العذاب، فدعا موسى ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا فذلك قوله:
٥٠ - ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾ أي: العهد الذي عاهدوا عليه موسى (٥) وهو مذكور في قوله: ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ﴾ الآية من سورة الأعراف [آية: ١٣٤].
ومعنى ذكر هذه القصة هاهنا: أن حال موسى مع قومه كحال محمد -صلى الله عليه وسلم- وأن أمره يؤول إلى الاستعلاء كما آل أمر موسى.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٨٠، "تفسير الثعلبي" ١٠/ ٨٦ أ، "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٢٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٩٧، "تفسير الوسيط" ٤/ ٧٦.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٤.
(٤) ذكر ذلك البغوي ٧/ ٢١٧، والمصنف في "الوسيط" ولم ينسباه ٤/ ٧٦.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٧، "تفسير البغوي" من غير نسبه ٧/ ٢١٧.
وقال الحسن: بأمر (٤)، وعلى هذا معناه: تجري تحت أمري، وهو معنى قول عطاء: في قبضتي وملكي (٥).
قوله: ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ قال ابن عباس: أفلا تبصرون ما أنا فيه من النعم والخير، وما فيه موسى من الفقر، افتخر عدو الله بملكه (٦).
٥٢ - قوله تعالى: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ﴾ اختلف المفسرون وأهل التأويل في معنى (أم) هاهنا فقال أبو عبيدة: مجازها: بل أنا خير (٧)، وعلى هذا تمام الفصل عند قوله: أفلا تبصرون (٨) ثم ابتدأ فصلاً آخر فقال: (أم أنا خير) على تأويل: أنا خير، وهذا قول مقاتل، قال: ليس باستفهام يعني: بل أنا خير، ونحو هذا قال السدي (٩).
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ص ٤٩٣.
(٣) ذكر ذلك البغوي ٧/ ٢١٧، والقرطبي ١٦/ ٩٨، والمؤلف في "الوسيط" ٤/ ٧٦ ونسبوه لقتادة.
(٤) نُسب للحسن في "تفسير البغوي" ٧/ ٢١٧، و"الوسيط" ٤/ ٧٦.
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ٨٦ ب.
(٦) ذكر هذا المعنى "الطبري" ١٣/ ٨١ ولم ينسبه، ونسبه في "الوسيط" لقتادة ٤/ ٧٧.
(٧) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢٠٤.
(٨) انظر: "القطع والاثتناف" للنحاس ص ٦٤٩، "المكتفى" للداني ص ٥٠٩.
(٩) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٧، "تفسير الطبري" ١٣/ ٨١ فقد أخرج عن السدي.
وذكر صاحب النظم وجهًا حسنًا وهو: أن يكون تمام الكلام عند قولى: أم، وقوله: (أنا خير) فصل آخر مبتدأ، على تأويل: أفلا تبصرون أم تبصرون، فكيف ذكر (تبصرون) اكتفاء بذكره في قوله: (أفلا تبصرون) كما يقال في الكلام: أتاكل أم لا، فسكت على الاكتفاء بما قبله من ذكر الأكل، وكذلك يكون إذا قدمت النفي فتقول: ألا تأكل أم تأكل، ثم يكف، ذكر تأكل بعد (أم) اكتفاء بذكره في أول الكلام، فكذلك قوله: أفلا تبصرون أم تبصرون، فكف ذكر (تبصرون) عند (أم) لجري ذكره، وهذا معنى قول مجاهد: أم تام يقف، ثم أنا خير أفلا تبصرون أم قد أبصرتم (٢).
وقوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ﴾ قال مقاتل: أفضل ﴿مِنْ هَذَا﴾ يعني: موسى ﴿الَّذِي هُوَ مَهِينٌ﴾ يعني: ضعيف ذليل (٣)، وقال الكلبي: ضعيف في بدنه (٤)، وقال الليث: رجل مهين صغير ضعيف (٥).
وقال الزجاج: معنى مهين قليل، يقال: شيء مهين أي: قليل، وهو
(٢) انظر: "المكتفى في الوقف والابتدا" للداني ص ٥٠٨، "تفسير الطبري" ١٣/ ٨١.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٧.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ص ٤٩٣.
(٥) انظر: "العين" للخليل (مهن) ٤/ ٦١، "تهذيب اللغة" (مهن) ٦/ ٣٢٩.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ قال ابن عباس: لا يبين الكلام (٢)، وقال الكلبي: لا يكاد يبين حجته (٣)، وقال قتادة والسدي: آفة بلسانه (٤)، وقال الزجاج: يعني اللثغة (٥) التي كانت بلسان موسى (٦).
فإن قيل: أليس موسى سأل الله أن يذهب الرُّتَّةَ (٧) من لسانه بقوله: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ [طه: ٢٧ - ٢٨] أعطاه ذلك بقوله: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾ [طه: ٣٦] فكيف عابه فرعون باللثغة؟ والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن فرعون أراد: لا يكاد يبين حجته التي تدل على صدقه فيما يدعي، ولم يرد أنه لا يوضح ما يتكلم به، وهذا كذب من فرعون وعناد بعد ما رأى من الآية، هذا معنى قول مقاتل (٨).
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ص ٤٩٣.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٨٢، "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٧، "الماوردي" ٥/ ٢٣٠.
(٥) قال الأزهري: أخبرني المنذري عن المبرد أنه قال: (اللثغة أن يُعدل بحرف إلى حرف) وقال الليث: الألثغ: الذي يتحول لسانه من السين إلى الثاء والمصدر: اللثغُ واللُّثْغَةُ، وقال أبو زيد: الألثغ: الذي لا يُتم رفع لسانه في الكلام وفيه ثقل. انظر: "تهذيب اللغة" (لثغ) ٨/ ٩٢.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٥.
(٧) قال الليث: (الرُّتَّة: عجلة في الكلام. ورجل أرت). وقال ابن الأعرابي: رترت الرجل إذا تعتع في التاء وغيرها. انظر: "تهذيب اللغة" (رت) ١٤/ ٢٥٠، وقال ابن قتيبة عند قوله تعالى: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي﴾ أي: رَتَّةً كانت في لسانه. انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٢٧٨.
(٨) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٧.
ويقوي الجواب الأول قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ﴾ ألا ترى أنه اقترح الآيات، ولم يكتف بما ظهر من معجزته، وليس للأمم أن يقترحوا من الآيات، ما يريدون، بل إذا أتى الرسول بما فيه دلالة على صدقه وجب الإيمان به.
واختلف القراء في ﴿أَسْوِرَةٌ﴾ فقرءوا بوجهين: أسورة وأساورة، فأسورة جمع سوار لأدنى العدد، كقولك: خِمَارٍ وَأَخْمِرَةٍ، وغُرَابٍ وأَغْرِبَة، ومن قال في سوار: أسوار، جمعه أساوير وأساورة، تكون الهاء عوضًا من الياء نحو: بطاريق وبطارقة، وزناديق وزنادقة، وقدادين وقدادنة، فيكون أساورة: جمع أسوار، وإن شئت فجمع أسورة، كما تقول: أساقٍ في جمع أسقية، وأساقي في جمع أسقية، هذا كلام المبرد (١).
وقال أبو زيد: هو سوار المرأة وأسوار المرأة، وهما قُلْبان يكونان في يديها (٢)، وأسورة جمع سوار مثل: سقاءٍ وأَسْقِيَةٍ، وإزارٍ وآزِرَة، وخوانٍ وأَخوِنَةٍ، وأساورة جمع أسوار، وألحق الهاء في الجمع عوضًا من الياء التي ينبغي أن تلحق في جمع أسوار، على حد إعصار وأعاصير، كذلك أسوار وأساور، ثم يقال: أساورة، ويجوز أن يكون جمع أسورة مثل أسقية وأساق، وهذا كلام أبي علي (٣).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (سور) ١٣/ ٥١.
(٣) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٥١، "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي ٢/ ٢٥٩.
وقال مجاهد: كانوا إذا سودُوا رجلاً سوّروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب، يكون ذلك دلالة على سيادته (٣).
قال أبو إسحاق: كأنه لما وصف نفسه بالملك والرياسة فقال: هلا جاء موسى يلقى عليه أسورة من ذهب، يدل على أنها من عند إلهه الذي يدعوكم إلى توحيده (٤).
٥٣ - قوله: ﴿أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ قال قتادة: متتابعين (٥)، وقال ابن عباس: يعاونونه على من خالفه (٦)، وقال مقاتل: يعينونه على أمره الذي بعث له (٧)، وقال الكلبي: مصدقين له بالرسالة (٨).
وقال أبو إسحاق: أي يمشون معه فيدلون على صحة نبوته (٩)، وقد جمع بين هذه الأقوال كلها لأنه فسر الاقتران وموجبه.
٥٤ - قوله تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ يقال: استخفه الفرح،
(٢) انظر: "تفسير أبي الليث" ٣/ ٢٠٩، "زاد المسير" ٧/ ٣٢٢ من غير نسبة.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٢١٧، "الجامع" للقرطبي ١٦/ ١٠٠ ونسباه لمجاهد.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٥.
(٥) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ٨٣ عن قتادة، ونسبه القرطبي ١٦/ ١٠٥ لقتادة.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٨٣، "تفسير الثعلبي" ١٠/ ٨٧ أ، "البغوي" ٧/ ٢١٧.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٨.
(٨) انظر: "تنوير المقباس" ص ٤٩٣.
(٩) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٥.
ومن قال هاهنا في تفسير (استخفهم): وجدهم جهالاً خفاف الأحلام (٥)، فليس بالوجه لقوله: ﴿فَأَطَاعُوهُ﴾ وهذا يوجب أنه أمرهم بشيء فيه إزعاجهم فأطاعوه، ولا يقال وجده خفيفًا فأطاعه، لأنك قد تجد إنساناً خفيف العقل فلا يطيعك، لأنك لم تأمره أو لم يرد هو طاعتك، ويحتاج في هذا التفسير إلى إِضْمارٍ لا يجوز، هو أن يكون التقدير: وجده خفيفًا فدعاه إلى الغواية فأطاعه، وإذا قلت: أزعجه فأطاعه، لم يحتج إلى إضمار.
ومعنى ﴿فَأَطَاعُوهُ﴾: قال ابن عباس ومقاتل: على تكذيب موسى (٦)، والمعنى أنه حملهم على الجهل فقبلوا قوله وكذبوا موسى.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ قالا: عاصين لله (٧).
(٢) كذا في الأصل، ولعل الصواب (لا يحملنك).
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٣٥.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٣٥.
(٥) ذكر ذلك الماوردي في "تفسيره" ٥/ ٢٣١ وقال: هو معنى قول الكلبي، وذكره البغوي ١٧/ ٢٧، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٣٢٢ بغير نسبة.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٨، "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٣١ وقد نسبه لابن زياد.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٠١.
ونحو هذا روي أن وهب بن منبه كان عند عروة بن الزبير وشكا إليه عامل له فأكثروا عليه (٢) فقالوا: فعل وفعل وثبتت البينة عليه، فلم يملك وهب نفسه، فضربه على يديه بعصا، فإذا دماء يشخب، فضحك عروة واستلقى على قفاه، وقال: يعيب علينا أبو عبيد الله الغضب في حكمته وهو يغضب. فقال وهب: وما لي لا أغضب، وقد غضب خالق الأحلام. إن الله يقول (٣): ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾.
٥٦ - قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾ يقال: سلف يسلف، إذا تقدم ومضى، وسلف له عمل صالح، أي: تقدم، والسلف كل شيء قدمته من عمل صالح أو ولد، قرضا وقرض فهو سلف. وهذا وجه واحد، ويقال في جمعه الأسلاف، والسلف أيضًا من تقدم من آبائك وذوي قرابتك، واحدهم سالف، ومنه قول طفيل يرثي قومه:
(٢) أي: بالغوا في الشكوى.
(٣) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٠٣، "تفسير أبي الليث" ٣/ ٢١٠.
مَضَوْا سلَفًا قَصْدُ السبيلِ عَلَيْهم | وصَرْفُ المنايا بالرَّجَالِ [سلف] (١) |
وقال ابن عباس: يريد مضوا إلى النار (٤).
وقال مجاهد وقتادة: جعلناهم سلفًا لكفار أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى النار (٥)، وأكثر القراء قرؤوا ﴿سَلَفًا﴾ بالفتح، وهو جمع سالف كما ذكرنا.
قال أبو علي: وفَعَل قد جاء بحروف يراد به الكثرة، وكأنه اسم من أسماء الجمع كقولهم: خادِم وخَدَم، وطالب وطَلَب، وحارِس وحرَس، وحكى أحمد بن يحيى: رائِح وَرَوح.
وقرأ حمزة والكسائي (سُلُفًا) بالضم، وهو جمع سليف من سلُف بضم اللام (٦). ذكره الفراء والزجاج (٧)، وقال المبرد: سُلُف يمكن أن يكون جمع سَلَفٍ كقولك: أَسَد وأُسُد، ووثَن ووُثن، وزاد أبو علي: ومما لحقته هاء التأنيث، من هذا: خشبة وخشب، وبدنة وبدن (٨).
(٢) انظر: "كتاب العين" (سلف) ٧/ ٢٥٨.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٣٦، "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٦.
(٤) ذكر ذلك السمرقندي في "تفسيره" ٣/ ٢١٠ ونسبه لقتادة.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٨٥، "الماوردي" ٥/ ٢٣٢، "الثعلبي" ١٠/ ٨٧ ب.
(٦) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ١١٥.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٣٦، "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٦.
(٨) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ١٥٢، "الدر المصون" ٦/ ١٠٤.
وَسَاقِيَيْنِ مِثْلِ زَيْدٍ وجُعَلْ (٢)
وقد جمع المثل في قوله: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ﴾ [الحشر: ٢١] وقوله: ﴿ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨]، وأفرد في قوله (٣): ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٠].
٥٧ - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد لما ذكر عيسى، وقدرة الله تعالى فيه وخلقه إياه من غير ذكر، وما كان يفعل من إحياء الموتى وغير ذلك إذا قومك منه يصدون يريد: يضجون كضجيج الإبل بالأثقال (٤).
وقال مجاهد في هذه الآية: قالوا إنما يريد محمدٌ أن نعبده كما عبدَ
(٢) هذا صدر البيت وعجزه:
سقبان ممشوقان مكنوزا العضل
انظر: "الكتاب" ٢/ ١٧، "شرح أبيات" سيبويه ص ٩٥، "الحجة" ٦/ ١٥٣.
(٣) انظر: "الحجة" ٦/ ١٥٣.
(٤) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" ١٦/ ١٠٣.
وقال قتادة: لما ذكر عيسى بن مريم جزعت قريش من ذلك وقالوا: ما يريد محمد إلا أن يصنع به كما صنعت النصارى بعيسى ابن مريم (٢). هذا قول هؤلاء، وأريد بهذا المثل قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٥٩]، وهي مذكورة في آل عمران بعد ما ذكرت أحوال عيسى، وما أظهر الله على يده من المعجزات ومعنى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا﴾ لما شبه عيسى في إحداث الله إياه من غير فحل بآدم أو خلق من غير أب ولا [آدم] (٣) إذا قومك منه يصدون، أي يضجون ويقولون: ما يريد محمد إلا أن نعبده (٤)، والمعنى على أنهم لما سمعوا ذكر عيسى ظنوا أن محمدًا إنما يذكره بأوصافه ليصنع به قومه ما صنع قوم عيسى بعيسى فلذلك ضجوا.
وفي: ﴿يَصِدُّونَ﴾ قراءتان: ضم الصاد وكسرها. قال الأخفش والكسائي: هما لغتان قريبتان لا تختلفان في المعنى، ونحو ذلك ذكر الفراء، قال الزجاج: ومعناهما جميعًا يضجون (٥). قال: ويجوز أن يكون معنى المضمومة يعرضون (٦).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" فقد أخرجه عن قتادة ١٣/ ٨٥، ونسبه الماوردي لقتادة ٥/ ١٣٣، وكذلك نسبه القرطبي لقتادة ١٦/ ١٠٢.
(٣) كذا رسمها في الأصل، ولعل الصواب (ولا أم).
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٨٥
(٥) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٩٠، "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٣٦، "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٦، "معاني القرآن" للنحاس ٦/ ٣٧٦.
(٦) هذا تابع لقول الزجاج في "معاني القرآن" ٤/ ٤١٦.
واختاره أبو عبيدة قال: ونرى مَنْ ضمها أراد الصدود عن الحق ولو كان من هذا القبيل [..] (٣) ﴿عَنْهُ﴾ يصدون ولم يكن ﴿مِنْهُ﴾ ولكنه عندنا على ما فسره ابن عباس يضجون.
وقال أبو عبيدة: يصدون يضجون، ومن ضمها أراد يعدلون (٤) ويريغون (٥) وأما تعلق أبي عبيدة بقوله: (منه) ولم يقل عنه، فذلك لا يدل على ترجيح الكسر؛ لأن من ذهب في (يصدون) إلى الضم بمعنى: يعدلون، كان المعنى إذا قومك منه، أي: من أجل المثل يصدون، ولم يصل يصد بـ (من) ومن قرأ بالكسر جعل (من) متصلة به كما تقول: ضج من كذا، وذكر ذلك أبو علي (٦).
وذكر أكثر المفسرين (٧) أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزبعرى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نزل قوله: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] وقد
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (صد) ١٢/ ١٠٤، "حجة القراءات" ص ٦٥٢.
(٣) كذا في الأصل وقد سقط لفظ: (لكان).
(٤) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢٠٥.
(٥) قال الليث: الرَّوّاغ: الثعلب، وهو أروَغُ من ثعلب، وطريق رائغ مائل، وراغَ فلانُ إلى فلانٍ إذا مال إليه سرًّا. انظر: كتاب: العين (روغ) ٤/ ٤٤٥، "تهذيب اللغة" (راغ) ٨/ ١٨٦.
(٦) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٥٥.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٨٦، "الثعلبي" ١٠/ ٨٧ ب، "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٩.
٥٨ - قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ﴾ وذلك أنهم قالوا
وقال أبو إسحاق: طلب المجادلة لأنهم قد علموا أن المعني في حصب جهنم أصنامهم (٢).
وقال أبو علي: ما ضربوه إلا إرادة للمجادلة؛ لأنهم قد علموا أن المراد لحصب جهنم ما اتخذوه من الموات (٣)، وعلى القول الأول في الآية الأولى قوله: ﴿أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ﴾ يعنون محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، قاله قتادة (٤). والمعنى: أنهم يقولون: آلهتنا خير أم (٥) فنحن لا ندع عبادتها لعبادة محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو سؤال تقرير أن آلهتهم خير.
قوله تعالى: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا﴾ أي ما قالوا لك هذا القول إلا طلبًا للخصومة منه، ثم ذكر أنهم أصحاب خصومة، فقال: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ الخَصِم الشديد الخصومة، وكذلك الجَدِل (٦)، والقول الثاني أظهر وسياق الآيات عليه أدل وهو قوله:
٥٩ - ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ قال ابن عباس: يريد ليس بولد ولا
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٦.
(٣) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٥٤.
(٤) أخرج ذلك الطبري عن قتادة. انظر: "تفسيره" ١٣/ ٨٨، "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٣٤، ونسبه القرطبي لقتادة. انظر: "الجامع" ١٦/ ١٠٤.
(٥) كذا في الأصل، ولعله قد سقط لفظ (محمد).
(٦) انظر: "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٣٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٠٤.
﴿وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، قال الكلبي: معتبرًا (٢).
وقال مقاتل: يعني أنه وغيره ليعتبروا حين [ولده] (٣) من غير أب.
وقال قتادة: آية لبني إسرائيل (٤).
والمعنى: أنهم يعرفون به قدرة الله فيعلمون أن من قدر على خلق ولد من غير أب قادر على ما يشاء، فهو مثل لهم يشبهون به ما يرون من أعاجيب صنع الله تعالى، ثم [خاطبهم] (٥) كفار مكة فقال:
٦٠ - ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً﴾ أي لو نشاء لأهلكناكم ولجعلنا بدلكم ملائكة ﴿فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ يكونون خلفًا منكم، قاله الكلبي (٦)، وقال قتادة: يخلف بعضهم بعضًا مكان ابن آدم، وقال محمد: يعمرون الأرض بدلاً منكم، وقول قتادة معنى قول ابن عباس في رواية عطاء قال: كما جعلت في ولد آدم أمة بعد أمة، وقومًا بعد قوم خلفًا من قوم (٧).
قال الأزهري: و (من) قد يكون للبدل كقوله: لجعلنا منكم، يريد بدلاً
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ص ٧٩٣.
(٣) كذا رسمها في الأصل ولعل الصواب (ولد)، انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٩، ٨٠٠.
(٤) انظر: "تفسير أبي الليث" ٣/ ٢١١، "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٠، "الطبري" ١٣/ ٨٩.
(٥) كذا في الأصل، ولعل الصواب (خاطب).
(٦) انظر: "تنوير المقباس" ص ٤٩٣.
(٧) أخرج الطبري قول قتادة، وأخرج القول الثالث عن مجاهد. انظر: "تفسيره" ١٣/ ٨٩، وأورد الماوردي قول الكلبي ونسبه للسدي. انظر: "تفسيره" ٥/ ٢٣٥، وأورد القرطبي قول قتادة، ونسبه لابن عباس. انظر: "الجامع" ١٦/ ١٠٥.
٦١ - ثم رجع إلى ذكر عيسى فقال قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾ قال ابن عباس والمفسرون: يعني نزول عيسى من السماء من أشراط الساعة وأهوالها، ويكون التقدير على هذا ظهوره أو نزوله.
وروي عن الحسن وقتادة أنهما قالا: الكناية في (وإنه) تعود إلى القرآن، يدل على مجيء الساعة، أو به يعلم أحوال الساعة وأهوالها (٣)، وقوله: ﴿لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ﴾ قال ابن قتيبة: يُعلم به قرب الساعة (٤).
﴿فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾ قال ابن عباس: لا تكذبوا بها (٥)، وقال مقاتل: لا تشكوا في الساعة (٦)، وقول ابن عباس جيد؛ لأن الامتراء يوصل بفي، يقال: امترى فيه، كقوله: ﴿الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ [مريم: ٣٤]، وهاهنا وصل بالباء لأنه بمعنى التكذيب، ومن شك في شيء فقد كذب به ﴿وَاتَّبِعُونِ﴾،
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٨٩، "تفسير مقا تل" ٣/ ٨٠٠، "الماوردي" ٥/ ٢٣٥.
(٣) أخرج الطبري ١٣/ ٩٠، ٩١ القولين، والأول عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي، وأخرج القول الأول الثعلبي ١٠/ ٨٨ ب، وذكر القولين الماوردي ٥/ ٢٣٥، وأورد القولين القرطبي ١٦/ ١٠٥، ونسب الأول لابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي، ونسب الثاني للحسن وقتادة وسعيد بن جبير.
(٤) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٤٠٠.
(٥) ذكر ذلك البغوي ٧/ ٢٢٠ عن ابن عباس. انظر: "تفسيره" ٧/ ٢٢٠، ونسبه في "الوسيط" ٤/ ٧٩ لابن عباس. انظر: ٤/ ٧٩.
(٦) انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٢٢٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٠٧ وقد نسب قول ابن عباس للسدي، "تفسير متقاتل" ٣/ ٨٠٠.
٦٣ - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ قال قتادة ومقاتل: يعني الإنجيل (٣).
﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ مذهب أبي عبيدة أن بعض هاهنا بمعنى الكل (٤)، وذكرنا ذلك عند قوله: ﴿يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ [غافر: ٢٨] وعلى هذا المعنى، ولأبين لكم ما تختلفون فيه، قال ابن عباس: يعني ما تختلفون فيه، يعني أحكام التوراة (٥)، وقال السدي: يعني اختلاف الفرق الذين تحزبوا في أمر عيسى، وقيل: لأبين لكم أمر دينكم دون أمر دنياكم (٦)، وعلى هذه الأقوال ليس المراد بالبعض الكل.
(٢) ذكر ذلك البغوي ولم ينسبه، وكذلك ذكره في "الوسيط" ٤/ ٧٩ ولم ينسبه.
(٣) أخرج الطبري ١٣/ ٩٢ قول قتادة، "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٣٦، وانظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٠.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢٠٥، وأورد الطبري ١٣/ ٩٢ هذا القول قال: وقيل إن معنى البعض في هذا الموضع بمعنى الكل، واستشهد ببيت من الشعر للبيد وهو قوله:
ترَّاك أمكنةٍ إذا لم أرضها | أو يعتلق بعض النفوس حمامها |
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٩٢، "تفسير البغوي"، وقد نسب قول السدي لقتادة ٧/ ٢٢٠ وقال الطبري: (كان بينهم اختلاف كثير في أسباب دينهم ودنياهم)، فقال لهم: أبين لكم بعض ذلك، وهو أمر دينهم دون ما هم فيه مختلفون من أمر دنياهم، فلذلك خص ما أخبرهم أنه يبينه لهم.
وقال أبو إسحاق: الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه، وبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه (٣)، وما بعد هذا مفسر فيما مضى (٤)، إلى قوله:
٦٦، ٦٧ - ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ﴾ قال ابن عباس: هل يرتقبون إلا القيامة (٥). يعني أنها تأتيهم لا محالة بغتة، فكأنهم يرتقبونها وإن كانوا أمواتًا، فهم يرقبونها لأنه من يكفر بالبعث والقيامة إذا مات، علم أنه حق فهو يرتقبها، ولكن لا يدري متى تفجأه فهو قوله: ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلَّاءُ﴾ في الدنيا، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ يعني في الآخرة ﴿بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ يعني أن الخلة إذا كانت على المعصية والكفر صارت عداوة يوم القيامة ﴿إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ يعني الموحدين المؤمنين الذين يخال بعضهم بعضًا على الإيمان والتقوى، فإن خلتهم لا تصير عداوة، وهذا معنى قول المفسرين (٦).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٠.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٨.
(٤) لعله في سورة مريم عند قوله: ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ﴾ آية: ٣٧، وفي سورة الأحزاب عند قوله: ﴿يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا﴾ آية: ٢٠.
(٥) ذكر ذلك في "تفسير الوسيط" ٤/ ٨٠ ولم ينسبه.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٩٤، "الثعلبي" ١٠/ ٨٩ أ، "الوسيط" ٤/ ٨٠.
قال أبو إسحاق: ﴿الَّذِينَ﴾، في موضع نصب على النعت لـ ﴿عِبَادى﴾ لأن [..] (٢) منادى مضاف (٣).
٦٩، ٧٠ - قال النحاس وصاحب النظم وأبو حاتم (٤): ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ابتداء، وخبره مضمر على تقدير يقال لهم: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾، أو يكون الخبر ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ﴾ ويجوز أن يكون التقدير: هم الذين آمنوا بآياتنا.
وقال صاحب النظم: وعلى كلا الوجهين دليل في الفصل، فقوله: ﴿وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ دليل لمن جعل (الذين) منتظمًا بالآية الأولى؛ لأن آخر الكلام وأوله خطاب.
٧١ - قوله: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ﴾ دليل على القول الآخر على تأويل الذين آمنوا يقال لهم: ادخلوا الجنة، ويطاف عليهم.
وقوله: ﴿تُحْبَرُونَ﴾ قال: تكرمون وتنعمون.
قال الكلبي: تكرمون إكرامًا يبالغ فيه (٥). والحبرة المبالغة فيما وصف
(٢) كذا في الأصل، وقد سقط لفظ ﴿عِبَادِى﴾ وهي كذلك مثبتة عند الزجاج.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٩.
(٤) لم أقف على أقوال هؤلاء وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ١١٩، "الدر المصون" ٦/ ١٠٦.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ص ٤٩٤.
﴿بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ﴾ قال الكلبي: بقصاع (٣)، قال الليث: الصحيفة شبه قصعة مُسْلَنْطِحَة عريضة، والجمع الصحاف (٤).
قال الأعشى:
والمَكَاكِيكُ والصحَافُ من الفضـ | ـضةِ والضامِراتُ تحت الرِّحالِ (٥) |
مُتَّكِئًا تُصْفَقُ أبوابُهُ | يَسْعَى عَلَيْه العَبْدُ بالكُوبِ |
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٢.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ص ٤٩٤.
(٤) قال ابن سيده: (الصحفة: شبه قصعة مُسْلَنْطِحَةَ عريضة وهي تشبع الخمسة ونحوهم). انظر: "اللسان" (صحف) ٩/ ١٨٧، وانظر: قول الليث في "كتاب العين" (صحف) ٣/ ١٢٠، "تهذيب اللغة" (صحف) ٤/ ٢٥٤.
(٥) انظر: "ديوان" الأعشى ص ٤١، "تهذيب اللغة" (صحف) ٤/ ٢٥٤، "اللسان" (صحف) ٩/ ١٨٧.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٣٧، والبيت لعدي بن زيد بن حماد بن أيوب من زيد مناة بن تميم. انظر: "معاني الفراء" ٣/ ٣٧، "تهذيب اللغة" (كوب) ١٠/ ٤٠٠، "الدر المصون" ٦/ ١٠٦، "اللسان" (صفق) ١٠/ ٢٠٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١١٤.
(٧) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢٠٦.
قال ابن عباس: هي الأباريق التي ليس لها آذان (٢)، وقال مقاتل: يعني الأكواب التي ليست لها عرا مدورة الرأس (٣).
وقوله تعالى: ﴿مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ﴾ وقرئت: ﴿تَشْتَهِيهِ﴾ بإثبات الهاء، قال المبرد: الأصل إثبات الهاء والحذف استخفاف، وهو حسن كثير، كما تقول: الذي ضربت زيد، والأصل ضربته، وإنما استخفوا في هذا الموضع حذف المفعول لأن (الذي) اسم، وضربت اسم الفاعل، والهاء المفعول، فلما اجتمع ذلك استخفوا الحذف، وكان المجيء بالهاء مع (ما) أحسن منه مع (الذي)؛ لأن (الذي) أطول من (ما)، ولأن (ما) مبهمة تقع للمؤنث والمذكر، والمجيء بالهاء يفصل بينهما، والذي والتي تنبيان عن أنفسهما فيستغنى عن الهاء، وفي هذا دليل على حسن قراءة من قرأ (تشتهيه) (٤).
وقال أبو علي الفارسي: حذف هذه الهاء من الصلة في الحسن كإثباتها، إلا أن الحذف يرجح على الإثبات بأن ما كان من هذا النحو في التنزيل جاء على الحذف، من ذلك قوله: ﴿أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا﴾ [الفرقان: ٤١] ﴿وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل: ٥٩] ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٣٨، "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٢.
(٤) انظر: "الحجة" لابن خالويه ص ٣٢٣، "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي ٢/ ٢٦٢، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٦٥٤، وهي قراءة: نافع وابن عامر وحفص عن عاصم. "إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ١٢٠، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: {تَشْتَهِي﴾ بغير هاء.
قوله تعالى: ﴿وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ﴾ قال الكسائي: يقال للشيء: يلذ بالكسر لَذَاذًا ولذاذة بفتح اللام فيهما، فإذا كنت أنت الفاعل كان فعلت منه مكسورًا، ويفعل مفتوحًا، تقول: لَذِذْتُ الشيء أَلَذُّه، مثل استلْذَذته (٢).
قال مقاتل (٣): وفيها ما تشتهي الأنفس من شيء وتلذ الأعين، أنه ما من شيء تشتهيه نفس أو استلذته عين إلا وهو في الجنة، وقد عبر الله بهذين اللفظين عن جميع نعيم أهل الجنة، فإنه ما من نعمة إلا وهي تصيب النفس أو العين يستحسن بالعين أو يستطاب بالنفس، ثم تمم هذه النعم بقوله: ﴿وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لأنها لو انقطعت لم تطب، فإن الشيء إذا طاب بعضه [بناه] (٤)، فإذا دام كان أطيب له.
٧٢ - وقوله: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ﴾ يعني الجنة التي ذكرها في قوله: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا﴾ (٥) وقد ذكرنا في رواية الجنة قولين في قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ﴾ وابن عباس قال في هذه الآية: خلق الله لكل نفس جنة ونارًا،
(٢) انظر: "الصحاح" للجوهري (لذذ) ٢/ ٥٧٥، "اللسان" (لذذ) ٣/ ٥٠٦.
(٣) قول مقاتل هذا غير موجود في "تفسيره" لهذه الآية ٣/ ٨٠٢.
(٤) كذا رسمها وهي غير منقوطة.
(٥) كذا في الأصل وهو تصحيف ونص الآية ﴿تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا﴾ [الأعراف: ٤٣].
٧٦ - قوله: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾، وقال الكلبي ومقاتل: وما ظلمناهم بتعذيبهم، وما عذبناهم على غير ذنب (١).
﴿وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ لأنفسهم لما جنوا عليها من الشرك والكفر، قال أصحابنا: ولا يتصور الظلم من الله تعالى لأنه متصرف في ملكه على الإطلاق، كيف ما تصرف، وإنما الظلم أن يفعل الفاعل ما ليس له فعله و ﴿هُمُ﴾ في قوله: ﴿هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ عماد وفصل (٢).
٧٧ - ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ﴾ قال ابن عباس: يريد خازن جهنم (٣).
﴿لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ قال الكلبي: ليقض علينا الموت.
وقال مقاتل: لينزل علينا ربك الموت، والمعنى أنهم توسلوا بمالك إلى الله تعالى ليسأل الله تعالى ليميتهم حتى يستريحوا من شدة العذاب، فيسكت عنهم مالك ولا يجيبهم أربعين سنة في قول الكلبي (٤)، وألف سنة فيما روي عن ابن عباس (٥).
(٢) ﴿هُمْ﴾ هاهنا فصل كذا يسميها البصريون، وهي تأتي دليلاً على أن ما بعدها ليس بصفة لما قبلها، وأن المتكلم يأتي بخبر الأول، ويسميها الكوفيون العِماد، وهي عند البصريين لا موضع لها في رفع ولا نصب ولا جر. انظر: "معاني الزجاج" ٤/ ٤١٩.
(٣) أخرج ذلك الطبري عن السدي. انظر: "تفسيره" ١٣/ ٩٩، ونسبه ابن الجوزي ٧/ ٣٢٩ للمفسرين، وذكره السمرقندي في "تفسيره" ٣/ ٢١٣ ولم ينسبه، وذكره القرطبي ١٦/ ١١٦ ولم ينسبه.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ص ٤٩٥، "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٢.
(٥) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ٩٩ عن ابن عباس، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" ٢/ ٤٤٨، وقال: حديث صحيح ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح، وذكر ذلك البغوي في "تفسيره" ٧/ ٢٢٢، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ١١٧.
٧٨ - قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ﴾ وهو من قول مالك لهم فيها فيما ذكر مقاتل، و (٣) غيره من المفسرين هو من كلام الله تعالى في مخاطبة الكفار يقول (٤): إليكم يا معشر قريش محمدًا -صلى الله عليه وسلم- (٥). ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد كلكم كارهون لما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- (٦).
٧٩ - قوله تعالى: ﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا﴾ الإبرام معناه في اللغة الأحكام. يقال: أبرمت الأمر، أي أحكمته (٧)، قال مجاهد ومقاتل: أم أجمعوا أمرًا فإنا مجمعون (٨)، والمعنى بل أحكموا أمرًا في كيد محمد والمكر به، فإنا محكمون أمرًا في مجازاتهم.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٣.
(٣) كأن في الكلام سقطًا هاهنا ولفظه (قال).
(٤) كأن في الكلام سقطًا هاهنا ولفظه (لقد أرسلنا) هذا لفظها عند الطبري. انظر: "تفسيره" ١٣/ ٩٩.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٩٩، "تفسير البغوي" ٧/ ٢٢٣.
(٦) ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٣٣٠، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ١١٨، وذكره المؤلف في "الوسيط" ٤/ ٨٢ عن ابن عباس.
(٧) انظر: اللسان (برم) ١٢/ ٤٣.
(٨) أخرج ذلك الطبري عن قتادة بهذا اللفض، وأخرجه عن مجاهد بلفظ: (مجمعون) إن كادوا شرًّا كدنا مثله. انظر: ١٣/ ١٠٠، وانظر: "تفسير مجاهد" ص ٥٩٥.
وهو ما ذكر الله في قوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال: ٣٠]. وقد ذكرنا القصة (٣). قال أبو إسحاق: أم أحكموا عند أنفسهم أمرًا من كيد أو شر فإنا محكمون مجازاتهم (٤).
٨٠ - ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ﴾ ما [يسرونهم] (٥) من غيرهم مما يتناجون به بينهم. ﴿بَلَى﴾ نسمع ذلك، ﴿وَرُسُلُنَا﴾ من الملائكة، يعني الحفظة، ﴿لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾.
٨١ - قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ كثرت الوجوه في هذا التفسير، فالأصح منها، والذي عليه أكثر أهل العلم قول مجاهد، قال: يقول إن كان لله ولد في قولكم، فأنا أول من عبد الله ووحده (٦)، واختاره الزجاج فقال: إن كان للرحمن ولد في قولكم كما قال: ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ﴾ [النحل: ٢٧] أي في
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٣.
(٣) في سورة الأنفال: آية ٣٠.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٢٠.
(٥) كذا لفظها في الأصل، ولعل الصواب (يسرونه).
(٦) انظر: "تفسير مجاهد" ص ٥٩٥، "تفسير الطبري" ١٣/ ١٠١، "الماوردي" ٥/ ٢٤٠ "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١١٩.
الوجه الثاني: أن يكون ﴿الْعَابِدِينَ﴾ من عبد بمعنى غضب، قال ابن عباس: إن كان للرحمن ولد كما تزعمون فأنا أول من غضب للرحمن أن يقال: له ولد (٤) وأنشد:
متى ما يَشَأ ذُو الوُدِّ يَصْرِمْ خَلِيلَه | وَيعْبَدْ عليه لا محالَة ظَالِما (٥) |
(٢) انظر: "مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة ٢/ ١٢٤.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (عبد) ٢/ ٢٣١.
(٤) ذكر ذلك البغوي ٧/ ٢٢٣ ولم يشبه، وانظر: "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٤١، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٢٠.
(٥) لم أقف على قائل هذا البيت، والشاهد فيه قوله: ويعبد عليه: أي يغضب عليه. وقد استشهد ابن جرير في "تفسيره" ١٣/ ١٠٢ بالبيت نفسه. وكذلك استشهد به ابن عطية ١٤/ ٢٧٨، وكذلك استشهد به السمين الحلبي في "الدر المصون" ٦/ ١٠٨ ونسبه محققو "الدر" للمرقش الأصغر. انظر: "المفضليات" ص ٥٠٢.
وروى أبو عبيد عن الفراء: عَبَدَ عليه وأحِنَ، أي: غضب (٢)، والعَبَد يكون بمعنى الأنف، ومنه قول الفرزدق:
وأَعْبَدُ أَنْ أهْجُو كُلَيْبًا بِدَارِم (٣)
أي: آنف (٤)، ابن الأعرابي في قوله: ﴿فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ أي الغضاب، وهذا قول أبي عبيدة والمبرد في (العابدين) هاهنا: أنه معنى الآنفين ولكن (إن) عندهم قوله: ﴿إِنْ كَانَ﴾ بمعنى: (ما) قالوا: ومعنى الآية: ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين أي: الآنفين مما قلتم والمنكرين له.
قال أبو عبيدة: ومجاز الفاء في أنا مجاز الواو (٥).
وقال الكسائي: يقال: رجل عابِد وعَبِدُ، وآنِف وأنِفُ. (٦)
وقال ابن قتيبة: يقال عَبِدتُ من كذا أعبدُ عَبَدًا (٧)، وأكثر ما يأتي
(٢) انظر: "اللسان" (عبد) ٢/ ٢٧٥.
(٣) هذا عجز بيت، وصدره:
أولئك قوم إن هجوني هجوتهم
والشاهد قوله: أعبد. أي آنف، وقد ورد البيت في "اللسان" (عبد) ٣/ ٢٧٥، وفي "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢٠٦، "المحتسب" لابن جني ٢/ ٢٥٨، "الدر المصون" ٦/ ١٠٨، "تهذيب اللغة" (عبد) ٢/ ٢٣٨.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (عبد) ٢/ ٢٣٨ وهي كذا في الأصل ولعله سقط لفظ (قال).
(٥) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢٠٦.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" (عبد) ٢/ ٢٣٠، فقد نقل قول الكسائي.
(٧) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٤٠١.
وذهب قوم إلى أن (إن) بمعنى: (ما)، و (العابدين) من العبادة وهو قول الكلبي (١) ومقاتل، والمعنى: ما كان للرحمن ولد (٢) فأنا أول العابدين، يعني: أول الموحدين من أهل مكة، واختاره ابن الأنباري فقال: معناه: ما كان للرحمن ولد، والوقف على الولد، ثم تبدأ فتقول: فأنا أول العابدين له، على أنه لا ولد له (٣)، والوقف على العابدين تام. وهذا قول الحسن وقتادة (٤).
وفي الآية قول آخر ذكره السدي فقال: قال الله تعالى لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: قل لهم إن كان للرحمن ولد كما تقولون، لكنت أول من يعبده ويطيعه (٥)، أي: إن كان له ولد فأنا أول من عبده بأن له ولدا، ولكن لا ولد له، ومعنى هذا القول: لو كان له ولد لعبدته، كما تقول: لو دعت الحكمة إلى عبادة غير الله لعبدته ولكنها لا تدعو إلى عبادة غيره، كما تقول: لو دل الدليل لقبلت به، ولكنه لا يدل، فهذا تحقيق لنفي الولد.
وقول آخر في الآية يروى عن ابن عيينة أنه سئل عن هذه الآية فقال: يقول فكما أني لست أول من عبد الله، فكذلك ليس لله ولد (٦)،
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٥.
(٣) انظر: "الإيضاح" لابن الأنباري ٢/ ٨٨٦.
(٤) انظر: قول ابن الأنباري بنصه في "تهذيب اللغة" (عبد) ٢/ ٢٣١، وكذلك قولي الحسن وقتادة. وانظر: "المكتفى" للداني ص ٥١١.
(٥) انظر: قول السدي في "تهذيب اللغة" (عبد) ٢/ ٢٣٠، "المكتفي" للداني ص ٥١١.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" (عبد) ٢/ ٢٣٠، "تفسير الوسيط" ٤/ ٨٣.
٨٢ - ثم نزه نفسه فقال: ﴿سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية.
قوله: ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾ قال مقاتل: عما يقولون من الكذب.
٨٣ - ﴿فَذَرْهُمْ﴾ يعني كفار مكة حين كذبوا بالعذاب في الآخرة عصوا في باطلهم ولهوا في دنياهم (٢). ﴿حَتَّى يُلَاقُوا﴾ يوم القيامة.
٨٤ - قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾ قال قتادة: يعبد في السماء ويعبد في الأرض (٣)، قال مقاتل: يوحد في السماء ويوحد في الأرض (٤).
وقال المبرد: تأويله والله أعلم: رَبّ من هناك، ورَبّ من هاهنا كقوله: سبحان الله (٥)، ونحو هذا قوله: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: ٣]، وقد مر الكلام فيه مستقصى.
قال أبو علي: نظرت فيما يرتفع به (إله) فوجدت ارتفاعه يصح بأن يكون خبر مبتدأ محذوف من الصلة راجع إلى الموصول كأنه: وهو الذي
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٥.
(٣) أخرج ذلك الطبري عن قتادة. انظر: "تفسيره" ١٣/ ١٠٤، ونسبه ابن الجوزي لمجاهد وقتادة. انظر: "زاد المسير" ٧/ ٢٣٣.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٦.
(٥) لم أقف على قول المبرد.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ لأن خَلْق السموات والأرض يدل على الحكمة والعلم.
٨٦ - قوله تعالى: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ﴾ ذكر المفسرون في هذه الآية قولين:
أحدهما: إن الذين يدعون من دونه هم عزير وعيسى والملائكة، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء والكلبي، وقول مجاهد ومقاتل (٢)، وقال ابن عباس: يريد أن الملائكة لا تشفع إلا لمن شهد بالحق (٣)، وقال مجاهد: لا يشفع عيسى ولا عزير ولا الملائكة إلا من شهد بالحق (٤).
وقال مقاتل: قال النضر بن الحرث ونفرٌ معه: إن كان ما يقول محمد حق، فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من محمد، فأنزل الله هذه
(٢) انظر: "تفسير مجاهد" ٥٩٦. وأخرجه الطبري ١٣/ ١٠٥ عن مجاهد، وانظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ٩٢ أ، "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٦، "زاد المسير" ٧/ ٣٣٤.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) "تفسير مجاهد" ص ٥٩٦، وأخرجه الطبري ١٣/ ١٠٥ عن مجاهد.
القول الثاني: أن الذين يدعون من دونه كل معبود من دون الله، وقوله: ﴿إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ﴾ عزير وعيسى والملائكة، وهذا قول قتادة قال: إنهم عبدوه من دون الله ولهم شفاعة عند الله ومنزلة (٣)، ومعنى ﴿مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ﴾ قال ابن عباس: من شهد أنه لا إله إلا الله وحده وأن محمدًا عبده ورسوله (٤)، وقال مقاتل: إلا من شهد بالتوحيد من بني آدم (٥).
﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أن الله واحد لا شريك له فيشفعون لهؤلاء، وفي هذا دليل على أنه لا تتحقق الشهادة بالعلم، وأجمع أصحابنا أن شرط الإيمان طمأنينة القلب على ما أعهده بحيث لا يتشكك إذا شكك، ولا يضطرب إذا حرك لقوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يعني شهدوا على علم وبصيرة (٦)، قال إبراهيم: يشهد وهو يعلم أنك كذلك، قال مجاهد:
(٢) انظر: "الدر المصون" ٦/ ١٠٨، "تفسير ابن عطية" ١٤/ ٢٨١.
(٣) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١٠٥ عن قتادة، وانظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ٩٢ ب، "زاد المسير" ٧/ ٣٣٤.
(٤) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" عن ابن عباس. انظر: ١٦/ ١٢٢.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٦
(٦) ذكر ذلك في تفسير "الوسيط" ٤/ ٨٤.
٨٧ - قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ الآية مفسرة في أواخر سورة العنكبوت [آية: ٦١] وفي غيرها.
٨٨ - ﴿وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، قال ابن عباس: شكا إلى ربه تخلف قومه عن الإيمان (٢)، واختلفوا في انتصاب ﴿وَقِيلِهِ﴾ فذكر الأخفش والفراء فيه قولين: أحدهما: أنه نصب على المصدر بتقدير، وقال ﴿وَقِيلِهِ﴾ وشكا شكواه إلى ربه، يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم- فانتصب ﴿وَقِيلِهِ﴾ بإضمار قال.
والثاني: أنه عطف على ما تقدم من قوله: إنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله (٣).
وقال أبو إسحاق: والذي أختاره أنا أن يكون نصبًا على معنى: وعنده علم الساعة، ويعلم قيله (٤)، وشرح أبو علي هذا القول فقال: نصب قيله على الحمل على موضع [...] (٥) الساعة مفعول بها وليست بظرف والمصدر مضاف إلى المفعول به ومثل ذلك قوله:
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١٠٦ عن قتادة. وانظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ٩٢ ب من غير نسبة، ونسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٣٣٤ لابن عباس.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٣٨، ولم أجده في "معاني الأخفش"، وانظر: "الدر المصون" ٦/ ١٠٩.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٢١.
(٥) كذا في الأصل وقد سقط لفظ [﴿وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ لأن]، انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٦٠.
قد كُنْتُ دَايَنْت به حَسَّانَا | مَخَافَةَ الإفْلاسِ واللّيَانَا (١) |
يَسْعَى الوشَاةُ حَواليها وقِيلِهم | إنَّك يا ابْن أبي سَلْمَى لَمَقْتُولُ (٢) |
قال ابن عباس في تقدير الآية: أيحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله يا رب، ونحو هذا قال مقاتل (٥).
(٢) البيت لكعب بن زهير في "ديوانه" ص ١٩ من قصيدته المشهورة بالبردة، وانظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٦٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٢٤.
(٣) "الحجة" ٦/ ١٦٠، "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٣٨، "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٢١، "إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ١٢٣.
(٤) انظر: "كتاب السبعة" لابن مجاهد ص ٥٨٩، "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي ٢/ ٢٦٢، "الحجة في القرءات السبع" لابن خالويه ص ٣٢٣.
(٥) "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٧، وذكر هذا المعنى بغير نسبة: البغوي ٧/ ٢٢٤، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٣٣٤.
وقال أبو إسحاق: الرفع على معنى: وقيله هذا القول قول يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (٢).
قال أبو علي: الرفع يحتمل ضربين: أحدهما: أن يجعل الخبر، وقيله يا رب مسموع ومتقبل، فيا رب منصوب الموضع بقيله المذكورة، وعلى القول الآخر بقيل المضمر وهو من صلته، ولا يمتنع ذلك من حيث امتنع أن يحذف بعض الموصول، ويبقى بعضه، لأن حذف القول [قد كثر] (٣) حتى صار بمنزلة المذكور، وقد يحتمل بيت كعب الرفع على هذين الوجهين (٤)، والقيل مصدر كالقول، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نهى عن قيل وقال" (٥).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٢١، "الحجة" ٦/ ١٦٠.
(٣) كذا في الأصل وفي "الحجة" (قد أضمر).
(٤) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٦١.
(٥) أخرجه الجاري عن المغيرة: "إن الله كره لكم ثلاثاً.. " الحديث، كتاب الزكاة باب قول الله: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ ٢/ ١٣١، وفي الأدب باب عقوق =
وقال الليث: تقول العرب كثير فيه: القيل والقال (٢)، أبو زيد: يقال: ما أحسن قيلك وقولك ومقالتك ومقالك وقالك، خمسة أوجه (٣).
قوله تعالى: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ﴾ قال ابن عباس: أمسك عنهم، وقال مقاتل: أعرض عنهم وقيل سلام، اردد عليهم معروفًا (٤).
وقال ابن عباس: يريد مداراة حتى ينزل حكمي (٥).
قال المبرد: قال سيبويه: إنما معناه المتاركة كما تقول: سلام بسلام أي تركًا بترك (٦)، وهذا كقوله: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ [القصص: ٥٥] وقد مر. وقال الفراء: رفع (سلام) بضمير (عليكم) وما أشبهه، ولو
(١) انظر: هذه الأقوال في "تهذيب اللغة" للأزهري من قوله: ومنه قول النبي.. (لقى) ٩/ ٣٠٤، "اللسان" (قول) ١١/ ٥٧٣.
(٢) انظر: "كتاب العين" (قول) ٥/ ٢١٣.
(٣) انظر: قولي الليث وأبي زيد في "تهذيب اللغة" (لقى) ٩/ ٣٠٥.
(٤) أورد ذلك القرطبي ١٦/ ١٢٤ عن ابن عباس لكن بلفظ: أعرض عنهم، وانظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٧.
(٥) انظر: "تفسير الوسيط" ذكر ذلك عن عطاء ٤/ ٨٤.
(٦) انظر: "الكتاب" ١/ ٣٢٦.
قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ قرئ: بالتاء والياء، فمعنى التاء أن الله تعالى أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للمشركين: سلام عليكم ويقول لهم سلام فسوف تعلمون، ومن قرأ بالياء حمل على الغيبة التي هي (فاصفح عنهم.. فسوف يعلمون) (٢) قال ابن عباس: وهذا وعيد وتهدد من الله تعالى.
قال ابن عباس: وقوله: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ﴾ منسوخ بالسيف (٣).
وقال مقاتل: نسخ السيف الإعراض والسلام (٤).
وقال قتادة: أمر بالصفح عنهم ثم أمر بقتالهم (٥).
(٢) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٦١، "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي ٢/ ٢٦٣.
(٣) ذكر ذلك ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" عن ابن عباس ص ٤٥٥، وذكره ابن حزم في "الناسخ والمنسوخ" ولم ينسبه ص ٥٥، وذكره من غير نسبة هبة الله بن سلامة في "الناسخ والمنسوخ" ص ١٥٨.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٨٠٧.
(٥) أخرج ذلك الطبري عن قتادة، انظر. "تفسيره" ١٣/ ١٠٧، ونسبه القرطبي لقتادة ١٦/ ١٢٤.