ﰡ
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿إِنَّا﴾ نحن ﴿فَتَحْنَا لَكَ﴾ يا محمد ﴿فَتْحًا مُبِينًا﴾؛ أي: فتحًا ظاهرًا واضحًا، لا يختلج فيه شكّ بذلك الصلح الذي تمَّ على يديك في الحديبية، إذ لم يمض إلا القليل من الزمان، حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، وكان هو السُّلَّم الذي فيه رقيت إلى فتح مكة، وتسابق العرب إلى الدخول في الدين زرافات ووحدانًا.
اختلف في تعيين هذا الفتح (١)، فقال أكثر العلماء: هو صلح الحديبية، والصلح قد يسمّى فتحًا، قال الفرّاء: والفتح قد يكون صلحًا، ومعنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصلح الذي كان مع المشركين بالحديبية كان مسدودًا متعذّرًا، حتى فتحه الله، قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم، فتمكّن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام، وقال قوم: إنّه فتح مكة، وقال آخرون: إنّه فتح خيبر، والأول: أرجح، ويؤيّده ما ذكرناه قبل هذا، من أنّ السورة أنزلت في شأن الحديبية، وقيل: هو جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح، وقيل: هو ما فتح له من النبوّة والدعوة إلى الإسلام، وقيل: فتح الروم، وقيل: المراد بالفتح في هذه الآية: الحكم والقضاء، كما في قوله:
فإن قلت (١): على هذه الأقوال هذه البلاد مكة وغيرها، لم تكن قد فتحت بعد، فكيف قال تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١)﴾ بلفظ الماضي؟
قلت: وعد الله تعالى نبيَّه - ﷺ - بالفتح، وجيء به بلفظ الماضي، جريًا على عادة الله تعالى في أخباره؛ لأنها في تحقّقها وتيقّنها بمنزلة الكائنة الموجودة، كأنه تعالى قال: إنا فتحنا لك في حكمنا وتقديرنا أزلًا، وما قدّره وحكم به فهو كائن لا محالة.
٢ - ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ﴾ ربّك ﴿مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾؛ أي: جميع ما فُرِّط منك من الهفوات، مما يصح أن يسمى ذنبًا بالنظر إلى مقامك الشريف، وإن كان لا يسمى بالنظر إلى سواك، ومن ثم قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
والمراد: غفران الذنوب التي قبل الرسالة والتي بعدها، قاله مجاهد، وسفيان الثوريّ، وابن جرير والواحدي، وغيرهم، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن المغيرة بن شعبة قال: كان النبيّ - ﷺ - يصلّي حتى ترم قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله ما تقدّم من ذبنك وما تأخّر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا".
قال صاحب "الكشاف": فإن قلت (٢): كيف جعل فتح مكة علّة للمغفرة؟
قلت: لم يجعله علّة للمغفرة، ولكنّه جعله علّة لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة: وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، كأنه قيل: يسّرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوّك؛ لنجمع لك بين عزّ الدارين، وأغراض الآجل والعاجل. اهـ.
(٢) الكشاف.
﴿وَ﴾ لـ ﴿يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ بإظهار دينك على الدين كله، وانتشاره في البلاد، ورفع ذكرك في الدنيا والآخرة ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾؛ أي: ويرشدك طريقًا من الدين لا اعوجاج فيه، يستقيم بك إلى رضا ربّك.
والمعنى: ليثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه.
٣ - ﴿وَيَنْصُرَكَ الله﴾ سبحانه على من ناوأك من أعدائك ﴿نَصْرًا عَزِيزًا﴾؛ أي: نصرًا غالبًا منيعًا لا يتبعه ذل، ولا يدفعه دافع لما يؤيِّدك به من بأس، وينيلك من ظفر.
هذا، ولمّا (٢) كان لكل عامل ثمرة يجنيها من عمله، وغاية يبتغيها منه كان للنبوة نهاية مطلوبة في هذه الحياة، وثمرة تتبع هذه النهاية، فنهاية أمر النبوة أن تلتئم الأمور، ويجتمع شملها، وتكمل نظمها التي تبني عليها الحياة الهنيِّة، حتى يعيش العالم في طمأنينة وهدوءٍ، ولن يتم ذلك إلا بعد بث الدعوة والجهاد العلمي والعملي بقتال الأعداء، وخضد شوكتهم، ومتى تم هذا، وأنقذ المستضعفون، ودخل الناس في دين الله أفواجًا كرهًا ثم طوعًا انتظم أمر النبوة، وأدى الرسول واجبه، واستوجب أن يجني ثمرة أعماله، وهي:
١ - مغفرة ما فرط من ذنبه، مما يعد ذنبًا بالنظر إلى مقامه الشريف.
٢ - تمام النعمة باجتماع الملك والنبوة، بعد أن كانت له النبوة وحدها.
٣ - الهداية إلى الصراط المستقيم في تبليغ الرسالة، وإقامة مراسيم الرياسة.
(٢) المراغي.
فهذا الفتح كان كفيلًا بهذه الشؤون الأربعة، فكأنه سبحانه يقول لرسوله: لقد بلّغت الرسالة، ونصبت في العمل، وجاهدت بلسانك وسيفك، وجمعت الرجال والكراع والسلاح، وتلطّفت وأغلظت، وأخلصت في عملك، وفعلت في وجيز الزمن ما لم ينله مثلك في طويله، حتى تم ما ندبناك له، فلتجن ثمار عملك، ولتقر عينًا بما آل إليه أمرك في الدنيا والآخرة.
فإن قلت (١): وصف الله تعالى النصر بكونه عزيزًا، والعزيز: هو المنصور صاحب النصر، فما معناه؟
قلت: معناه: ذا عزّة، كقوله: ﴿عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾؛ أي: ذات رضًا، وقيل: وصف النصر بما يوصف به المنصور إسنادًا مجازيًا، يقال: هذا كلام صادق، كما يقال: متكلّم صادق. وقيل: معناه: نصرًا عزيزًا صاحبه، فحذف المضاف إيجازًا واختصارًا، وقيل: إنما يحتاج إلى هذه التقديرات إذا كانت العزّة بمعنى الغلبة، والعزيز: الغالب، أما إذا قلنا: إنّ العزيز: هو النفيس القليل، أو العديم النظير، فلا يحتاج إلى هذه التقديرات؛ لأنّ النصر الذي هو من الله تعالى عزيز في نفسه، لكونه من الله تعالى، فصحَّ وصف كونه نصرًا عزيزًا. اهـ من "الخازن".
٤ - ولمَّا قال تعالى: ﴿وَيَنْصُرَكَ الله نَصْرًا عَزِيزًا (٣)﴾.. بيَّن وجه هذا النصر، فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي أَنْزَلَ﴾ وألقى ﴿السَّكِينَةَ﴾ والطمأنينة ﴿فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وهم: أهل الحديبية؛ أي: وهو الذي جعل السكينة التي هي الطمأنينة، والثبات، وعدم التزلزل في قلوب المؤمنين، بعد أن دهمهم فيها ما من شأنه أن يزعج النفوس، ويزيغ القلوب من صد الكفار، ورجوع الصحابة دون بلوغ مقصودهم، فلم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن هاج الناس وزلزلوا، ويلزم من ذلك ثبات الأقدام عند اللقاء في الحروب وغيرها، فكان ذلك من
والمعنى (١): هو الذي أنزل في قلوب المؤمنين طمأنينة، وثبات أقدام عند اللقاء، ومقاتلة الأعداء، ليزدادوا يقينًا في دينهم إلى يقينهم برسوخ عقيدتهم واطمئنان نفوسهم بعد أن دهمهم من الحوادث ما من شأنه أن يزعج ذوي الأحلام، ويزلزل العقائد بصدّ الكفار لهم عن المسجد الحرام، ورجوعهم دون بلوغ مقصدهم، ولكن لم يرجع أحد منهم عن الإيمان، بعد أن هاج الناس وزلزلوا زلزالًا شديدًا، حتى إنّ عمر بن الخطاب لم يكن راضيًا عن هذا الصلح، وقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟. وكان للصديق من القدم الثابتة، ورسوخ الإيمان ما دلّ على أنه لا يجارى ولا يبارى. أو المعنى: ليزدادوا (٢) إيمانًا بشرائع الدين مع إيمانهم بالله ورسوله، وليزدادوا إيمانًا بالفروع مع إيمانهم بالأصول، فإنهم آمنوا بأنّ محمدًا رسول الله، وأنّ الله واحد، والحشر كائن، وآمنوا بأنّ كل ما يأمر الله به واجب، وبأنّ كلّ ما يقوله النبيّ - ﷺ - صدق، وهو الذي قد قال لهم: "لا بد من أن تدخلوا مكة، وتطوفوا بالبيت".
ولمّا قال الله: (٣) ﴿وَيَنْصُرَكَ الله نَصْرًا عَزِيزًا﴾، وكان المؤمنون في قلّة من العَدد والعُدد.. فكأنّ قائلًا قال: كيف ينصره؟ فأجابه الله سبحانه
(٢) المراح.
(٣) الخازن.
الأول: أنهم ملائكة السموات والأرض.
الثاني: أنّ جنود السموات الملائكة، وجنود الأرض جميع الحيوانات.
الثالث: أنّ جنود السموات: مثل الصاعقة، والصيحة، والحجارة، وجنود الأرض: مثل الزلازل والخسف والغرق، ونحو ذلك.
﴿وَكَانَ الله﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمًا﴾ بجميع جنوده الذين في السموات والأرض، أو عليما بالمصالح ﴿حَكِيمًا﴾؛ أي: في تدبير جنوده، أو فيما يقدّر ويدبّر، وقيل: عليمًا بما في قلوبكم أيّها المؤمنون، حكيمًا حيث جعل النصر لكم على أعدائكم.
والمعنى (١): أي فهو سبحانه الإله الذي يدبّر أمر العالم، ويسلّط بعض جنده على بعض، فيجعل جماعة يجاهدون لإعلاء كلمة الحق، ويجعل آخرين يقاتلون في سبيل الشيطان، ولو شاء.. لأرسل عليهم جندًا من السماء، فأباد خضراءهم، لكنّه سبحانه شرع الجهاد والقتال لما في ذلك من مصلحة هو عليم بها، وحكمة قد تغيب عنّا، وهذا ما عناه بقوله: ﴿وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾. فهو لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض.
٥ - و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿لِيُدْخِلَ﴾ الله سبحانه ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ المخلصين من الرجال ﴿وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ المخلصات من النساء ﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: تسيل من تحت أشجارها ومساكنها وغرفها ﴿الْأَنْهَارُ﴾؛ أي: أنهار الماء واللبن والخمر
وقيل (٢): متعلقة بما يدل عليه ما ذكر من كون جنود السموات والأرض له تعالى من معنى التصرّف والتدبير؛ أي: دبّر ما دبَّر من تسليط المؤمنين، ليعرفوا نعمة الله في ذلك، ويشكروها، فيدخلهم الجنة، وقد تقدّم ما روي عن أنس: أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾.. قال الصحابة: هنيئًا مريئًا، قد بيَّن الله تعالى ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله عزّ وجل الآية التي بعدها: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ إلخ.
﴿وَيُكَفِّرَ﴾؛ أي: يستر ﴿عَنْهُمْ﴾؛ أي: عن المؤمنين ﴿سَيِّئَاتِهِمْ﴾؛ أي: ذنوبهم ولا يظهرها، وهذا (٣) بإزاء قوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ الله﴾؛ أي: يغطيها ولا يظهرها، قبل أن يدخلهم الجنة؛ ليدخلوها مطهَّرين من الآثام، وتقديم الإدخال على التكفير، مع أنّ الترتيب في الوجود على العكس، من حيث إنَّ التخلية قبل التحلية للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى، والمقصد الأسنى. أو يقال: إنّ الواو لا تقتضي الترتيب ﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾؛ أي: ما ذكر من الإدخال والتكفير ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿فَوْزًا عَظِيمًا﴾ لا يقادر قدره؛ لأنه منتهى ما يمتد إليه أعناق الهمم من جلب نفع، ودفع ضرّ، والفوز: الظفر بالمطلوب مع حصول السلامة، و ﴿عِنْدَ اللهِ﴾: حال من ﴿فَوْزًا﴾؛ لأنه صفته في الأصل، فلما قدم عليه.. صار حالًا؛ أي: كائنًا عند الله تعالى؛ أي: في علمه وقضائه.
أي: وكان (٤) ذلك الوعد بإدخالهم الجنة، وتكفير سيئاتهم عند الله وفي
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
(٤) الشوكاني.
والمعنى (١): أي وإنّما دبّر ذلك؛ ليعرف المؤمنون نعمة الله، ويشكروها، فيدخلوا الجنة ماكثين فيها أبدًا، وليكفرّ عنهم سيئات أعمالهم بالحسنات التي يعملونها شكرًا لربهم على ما أنعم به عليهم، وكان ذلك ظفرًا لهم بما كانوا يرجون ويسعون له، ونجاة ما كانوا يحذرونه من العذاب الأليم، وهذا منتهى ما يرون من منفعة مجلوبة، ومضرة مدفوعة.
٦ - ثمّ لما فرغ مما وعد به صالحي عباده.. ذكر ما يستحقه غيرهم، فقال: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ﴾ إلخ، فهو معطوف على ﴿يُدْخِلُ﴾؛ أي: وليعذّب المنافقين والمنافقات من أهل المدينة ﴿وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ﴾ من أهل مكة؛ أي: وليعذّبهم في الدنيا بما يصل إليهم من الهموم والغموم، بسبب ما يشاهدونه من ظهور كلمة الإسلام، وقهر المخالفين له، وبما يصابون به من القهر، والقتل والأسر، وفي الآخرة بعذاب جهنم.
وفي تقديم المنافقين على المشركين هنا، وفي غيره من المواضع (٢)، دلالة على أنهم أشدّ منهم عذابًا، وأحق منهم بما وعدهم الله به؛ لأنّ المنافقين كانوا أشدّ ضررًا على المؤمنين من الكافرين المجاهرين؛ لأنّ الكافر يمكن أن يحترز منه، ويجاهد؛ لأنه عدو مبين، فيتوقى المؤمن من شره، والمنافق لا يمكن أن يحترز منه، ولا يجاهد؛ لأنّه يختلطه لظنّه إيمانه فيفشي سره، فلهذا كان شره أكثر من شر الكافر، فكان تقديم المنافق بالذكر أولى.
ثم وصف الفريقين، فقال: ﴿الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ﴾: صفة للفريقين: أهل النفاق، وأهل الشرك. و ﴿ظَنَّ السَّوْءِ﴾ (٣): منصوب على المصدرية،
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
والمعنى: الذين يظنون بالله الأمر السيء الفاسد الردىء ظنًّا. وقال في "كشف الكشاف": إنّ ظن السوء مثل رجل صدق؛ أي: يظنون الظنَّ السيء الفاسد المذموم. انتهى، وعند البصريين لا يجوز إضافة الموصوف إلى صفته ولا عكسها؛ لأنّ الصفة والموصوف عبارتان عن شيء واحد، فإضافة أحدهما إلى الآخر، كإضافة الشيء إلى نفسه، وفي "التأويلات النجمية": ﴿الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ في ذاته وصفاته بالأهواء والبدع، وفي أفعاله، وأحكامه بالظلم والعبث.
﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على المشركين والمنافقين ﴿دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾؛ أي: الأمر السيء الرديء الذي يظنونه بالمؤمنين، ويتربّصونه بهم، دائر عليهم، حائق بهم، لا يتجاوزهم إلى غيرهم، فقد أكذب الله سبحانه ظنهم، وقلب ما يظنونه بالمؤمنين عليهم بحيث لا يتخطاهم، ولا يظفرون بالنصرة أبدًا، كقوله: ﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾. وقال أبو السعود: في سورة التوبة: ﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾: دعاء عليهم بنحو ما أرادوا بالمؤمنين على نهج الاعتراض، كقوله تعالى: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ بعد قول اليهود ما قالوا. اهـ.
فإن قلت: كيف يحمل على الدعاء، وهو للعاجز عرفًا، والله منزه عن العجز؟
قلت: هذا تعليم من الله لعباده أنه يجوز الدعاء عليهم، كقوله تعالى: ﴿وَقَتْلَهُمُ الله﴾، ونحوه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿السُّوءِ﴾ في الموضعين بفتح السين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بضمها، وهما (٢) لغتان في مصدر ساء بمعنى واحد، كالكره والكره،
(٢) روح البيان.
فمعنى الآية: يحيط بهم السوء إحاطة الدائرة بالشيء، أو بمن فيها، بحيث لا سبيل إلى الانفكاك عنها بوجهٍ، إلا أنّ أكثر استعمالها؛ أي: الدائرة في المكروه، كما أنَّ أكثر استعمال الدولة في المحبوب الذي يتداول، ويكون مرةً لهذا، ومرةً لذاك، والإضافة في ﴿دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾ من إضافة العام إلى الخاص للبيان، كما في خاتم فضة؛ أي: دائر من شرّ، لا من خير.
والخلاصة: (١) أنّ الفريقين ظنّوا أنّ الله لا ينصر رسوله ولا المؤمنين على الكافرين، وقد دعا سبحانه عليهم بأن ينزل بهم ما كانوا يظنّونه بالمؤمينن من الدوائر، وأحداث الزمان، فقال: ﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾؛ أي: عليهم تدور الدوائر السيئة، والمصائب الداهية، وسيحيق بهم ما كانوا يتربَّصونه بالمؤمنين من قتل وسبيٍ، وأسرٍ لا يتخطاهم.
ثم بين ما يستحقونه من الغضب واللعنة، فقال: ﴿وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: ولمَّا بين سبحانه أن دائرة السوء عليهم في الدنيا.. بيَّن ما يستحقونه مع ذلك من الغضب واللعنة وعذاب جهنم، وقال بعضهم (٢): غضبه تعالى: إرادة العقوبة لهم في الآخرة، وكونهم على الشرك والنفاق في الدنيا، وحقيقته: أن للغضب صورة ونتيجة، أما صورته فتغير في الغضبان يتأذى به ويتألم، وأما نتيجته فإهلاك
(٢) روح البيان.
والصحيح: أنَّ الغضب صفة ثابتة لله تعالى، أثرها الانتقام ممن عصاه.
﴿وَلَعَنَهُمْ﴾؛ أي طردهم، وأبعدهم من كل خير، فإن المغضوب عليه قد يقنع الغاضب بالعتب، والشتم أو الضرب، ولا يفضي غضبه إلى إبعاد المغضوب. عليه من جنابه، ولا إلى طرده من بابه، وقد يفضي غضبه إلى إبعاد المغضوب عليه من جنابه، لكون الغضب شديدًا ﴿وَأَعَدَّ﴾؛ أي: هيأ ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿جَهَنَّمَ﴾؛ أي: نارها ﴿وَسَاءَتْ﴾؛ أي: قبحت جهنم ﴿مَصِيرًا﴾؛ أي: مرجعًا لهم، والمخصوص بالذمِّ هي.
والمعنى: ونالهم غضب من الله، وأبعدهم فأقصاهم من رحمته، وأعدَّ لهم جهنم يصلونها يوم القيامة، وساءت منزلًا يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات، والمشركون والمشركات.
٧ - ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه ﴿جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ من الملائكة والإنس والجنّ، والشياطين والصيحة والرجفة والحجارة والزلازل والخسف والغرق، ونحو ذلك أنصارًا على أعدائه، إن أمرهم بإهلاكهم.. أهلكوهم، وسارعوا مطيعين لذلك.
﴿وَكَانَ الله﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَزِيزًا﴾؛ أي: غالبًا على كل شيء، فلا يرد بأسه ممن أراد الانتقام منهم ﴿حَكِيمًا﴾ فيما دبّره لخلقه، فلا يفعل ما يفعل إلا على مقتضى الحكمة والصواب، وكرَّر هذه الآية؛ لقصد التأكيد، أو للتنبيه (٢) على أنَّ لله تعالى جنودًا للرحمة، ينزلهم ليدخل بهم المؤمنين الجنة، معظمًا
(٢) روح البيان.
قال في "برهان القرآن": الأول متصل بإنزال السكينة وازياد إيمان المؤمنين، فكان الموضوع موضع علم وحكمة، وأما الثاني والثالث الذي بعده، فمتصلان بالعذاب والغضب، وسلب الأموال والغنائم، فكان الموضع موضع عزّ وغلبة وحكمة، روي: أنه لمّا جرى صلح الحديية.. قال عبد الله بن أبي رئيس المنافقين: أيظن محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها.. لا يبقى له عدوّ، فأين فارس والروم؟ فبيَّن سبحانه أن جنود السموات والأرض، أكثر من فارس والروم.
خلاصة ما سلف (١): أنّه قد ترتَّب على هذا الفتح أربعة أشياء للنبي - ﷺ -:
١ - مغفرة الذنوب.
٢ - اجتماع الملك والنبوّة.
٣ - الهداية إلى الصراط المستقيم.
٤ - العزّة والمنعة.
وفاز المؤمنون بأربعة أشياء:
١ - الطمأنينة والوقار.
٢ - ازدياد الإيمان.
٤ - تكفير السيئات.
وجازى الكفار بأربعة أشياء:
١ - العذاب.
٢ - العضب.
٣ - اللعنة.
٤ - دخولهم جهنم.
٨ - ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ﴾ يا محمد إلى كافّة الناس، حالة كونك ﴿شَاهِدًا﴾ على أمّتك يوم القيامة بتصديق من صدّقك، وتكذيب من كذّبك كما في قوله في آية أخرى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾؛ أي: مقبولًا قوله في حقهم يوم القيامة عند الله تعالى، سواء شهد لهم أو عليهم، كما يقبل قول الشاهد العدل عند الحاكم، وهو حال مقدرة، فإنه - ﷺ - إنما يكون شاهدًا وقت التحمل والأداء، وذلك متأخّر عن زمان الإرسال، بخلاف غيره مما عطف عليه، فإنه ليس من الأحوال المقدرة ﴿وَ﴾ حالة كونك ﴿مُبَشِرًا﴾ لمن آمن بك بالجنة والثواب ﴿وَنَذِيرًا﴾؛ أي: منذرًا ومخوفًا لمن كذّبك بالعذاب والعقاب
٩ - ﴿لِتُؤْمِنُوا﴾؛ أي: لكي تؤمن أنت وأمّتك. ﴿بِاللهِ﴾؛ أي: بوحدانية الله وصفاته ﴿و﴾ تؤمنوا بـ ﴿رسوله﴾ محمد - ﷺ - بأنه صادق مصدَّق فيما جاء به من عند الله سبحانه، والخطاب (١) في: ﴿تؤمنوا﴾ يكون للنبي - ﷺ - ولأمّته، فيكون تعميمًا للخطاب بعد التخصيص؛ لأنّ خطاب ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾ للنبيّ خاصّةً، ومثله قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ خصَّه - ﷺ - بالنداء، ثمّ عمَّم الخطاب على طريق تغليب المخاطب على الغائبين وهم: المؤمنون، فدلت الآية على أنه - ﷺ - يجب أن يؤمن برسالة نفسه، كما ورد في الحديث: أنه كان يقول: "أشهد أنّي عبد الله ورسوله". ويجوز أن يكون الخطاب
فإن قلت: كيف يجوز تخصيص الخطاب الثاني بالأمّة في مقام توجيه الخطاب الأول إليه - ﷺ - بخصوصه؟.
قلت: إنّ خطاب رئيس القوم بمنزلة خطاب من معه من أتباعه، فيجوز أن يخاطب الأتباع في مقام تخصيص الرسل بالخطاب؛ لأنّ المقصود سماعهم.
﴿وَتُعَزِّرُوهُ﴾؛ أي: ولكي تعزّر الله تعالى أنت وأمّتك، وتنصروه، وتقوّوه بتقوية دينه ونصرة رسوله، من التعزير: وهو النصرة مع التعظيم؛ أي: ولتنصروا الله تعالى بنصر دينه تعالى ﴿وَتُعَزِّرُوهُ﴾ تعالى؛ أي: ولكي توقّر الله تعالى أنت وأمّتك، وتعظّموه باعتقاد أنه متصف بجميع صفات الكمال، منزّه عن جميع سمات النقصان، من التوقير: وهو التبجيل والتعظيم. ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ تعالى؛ أي: ولكي تسبّح الله تعالى أنت وأمّتك، وتنّزهوه عما لا يليق به، وعمّا لا يجوز إطلاقه عليه تعالى من الشريك والولد، أو تصلّوا له، من السبحة: وهي الدعاء وصلاة التطوع، قال في "القاموس": التسبيح: الصلاة، ومنه قوله: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣)﴾؛ أي: من المصلّين. ﴿بُكْرَةً﴾ وغدوة ﴿وَأَصِيلًا﴾ وعشيّا، فالبكرة: أوّل النهار، والأصيل: آخره، أو تسبّحوه دائمًا، فإنه يراد بهما: الدوام، وفي "عين المعاني": البكرة: صلاة الفجر، والأصيل: الصلوات الأربع، فتكون الآية مشتملة على جميع الصلوات المفروضة.
وجوّز (١) بعض أهل التفسير أن يكون ضمير ﴿تعزّروه وتوقّروه﴾ لرسول الله - ﷺ -، ولا وجه له؛ لأنه تفكيك وتشتيت للضمائر، إذ ضمير ﴿رسوله﴾ و ﴿تسبحوه﴾ لله تعالى قطعًا، وعلى تقدير يكون له وجه، فمعنى تعظيم الرسول - ﷺ -، وتوقيره حقيقةً: اتباع سنته في الظاهر والباطن، والعلم بأنه زبدة المخلوقات، وخلاصتها وأفضلها على الإطلاق، وحينئذٍ الوقف على ﴿توقروه﴾ وقف تام، ثم يبدأ بقوله: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿لِتُؤْمِنُوا﴾ والأفعال الثلاثة بعده بتاء الخطاب، وأبو جعفر وأبو حيوة وابن كثير وأبو عمرو: بياء الغيبة فيها، والكنايات الثلاثة راجعة إلى الله تعالى؛ لتكون على وتيرة واحدة، كما جرينا عليه في حلّنا، ويصحّ رجوعها إلى رسول الله - ﷺ -، فحينئذٍ معنى ﴿يسبحوه﴾: ينزهوه - ﷺ - من كل وصمة بإخلاف وعده بدخول مكة، والطواف بالبيت الحرام، وبنحو ذلك.
وقرأ الجحدري: ﴿وتعزروه﴾ بفتح التاء وضم الزاي مخففةً، وقرأ جعفر بن محمد: ﴿وتعزروه﴾ بضم التاء وكسر الزاي، وقرأ ابن عباس واليمانيّ: ﴿وتعزّزوه﴾ بزايين، من العزة، وقرىء: ﴿وتوقروه﴾ بسكون الواو.
١٠ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ﴾؛ أي: إنّ الذين بايعوك، وعاهدوك يا محمد على أن لا يفرّوا من قتال قريش تحت شجرة السمرة في الحديبية بيعة الرضوان، وهم مقدار ألف وخمس مئة أو أربع مئة رجل، سميت (٣) المعاهدة مبايعة؛ تشبيهًا بالمعاوضة الماليّة؛ أي: مبادلة المال بالمال في اشتمال كل واحد منهما على معنى المبادلة، فهم التزموا طاعة النبيّ - ﷺ -، والثبات على محاربة المشركين، والنبيّ - ﷺ - وعدهم بالثواب، ورضا الله تعالى، قال بعض الأنصار عند بيعة العقبة: تكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، فقال - ﷺ -: "أشترط لربّي أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئًا، ولنفسي أن تمنعوني، ومما تمنعوني منه: أنفسكم، وأبناءكم، ونساءكم" فقال ابن رواحة رضي الله عنه: فإذا فعلنا فما لنا؟
(٢) البحر المحيط والمراح.
(٣) روح البيان.
﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾ سبحانه وتعالى أنفسهم بالجنة؛ أي: إنّ (١) من بايعك بمنزلة من بايع الله، كأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾. وذلك لأنّ المقصود ببيعة رسوله: هو وجه الله، وتوثيق العهد بمراعاة أوامره ونواهيه، قال ابن الشيخ: لمّا كان الثواب إنما يصل إليهم من قبله تعالى.. كان المقصود بالمبايعة منه - ﷺ -: المبايعة مع الله سبحانه، وأنه - ﷺ - إنما هو سفير، ومعبِّر عنه تعالى، وبهذا الاعتبار صاروا كأنهم يبايعون الله تعالى.
وقرأ تمام بن العباس بن عبد المطلب: ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾؛ أي: لأجل الله ولوجهه، والمفعول: محذوف؛ أي: إنما يبايعونك لله، ذكره في "البحر".
والمعنى: أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله تعالى، من غير تفاوت بينهما؛ لأنّ من بايع النبي - ﷺ - أن لا يفرّ من موضع القتال إلى أن يقتل، أو أن يفتح الله لهم، وإن كان يقصد ببيعته رضا الرسول ظاهرًا، لكن إنما يقصد بها حقيقةً رضا الرحمن، فإنّ المقصود توثيق العهد بمراعاة أوامره ونواهيه، وهذا يسمى بيعة الرضوان؛ لقول الله تعالى في شأن هذه البيعة: ﴿لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ...﴾ الآية.
وجملة قوله: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾: مستأنفة (٢) لتقرير ما قبلها على طريق التخييل في محل نصب على الحال؛ أي: نعمة (٣) الله عليهم في الهداية فوق إحسانهم إلى الله، وهو ما صنعوا من البيعة، أو نصرة الله تعالى إيّاهم أعلى من نصرتهم إياه، ويقال: حفظ الله إياهم على البيعة أقوى من وضع يد ثالث على
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
فيد الله في هذه التأويلات: إما بمعنى النعمة، أو بمعنى النصرة، أو بمعنى الحفظ، وقال سعدي المفتي: الظاهر: والله أعلم أنَّ المعنى على التشبيه؛ أي: كأنهم يبايعون الله، وكذا الحال في قوله: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾؛ أي: كأنَّ يد الله حين المبايعة فوق أيديهم، حذف أداة التشبيه للمبالغة في التأكيد، وذكر اليد لأخذهم بيد رسول الله - ﷺ - حين البيعة على ما هو عادة العرب عند المعاهدة والمعاقدة، وفيه تشريف عظيم ليد رسول الله - ﷺ -، التي تعلوا أيدي المؤمنين المبايعين، حيث عبّر عنها بيد الله، كما أنَّ وضعه - ﷺ - يده اليمنى على يده اليسرى لبيعة عثمان رضي الله عنه تفخيم لشأن عثمان، حيث وضعت يد رسول الله - ﷺ - موضع يده، ولم ينل تلك الدولة العظمى أحد من الأصحاب، فكانت غيبته رضي الله عنه في تلك الواقعة خيرًا له من الحضور، وقيل غير ذلك من الأقوال المتلاطمة، وقيل: إنّ في الكلام حذف مضاف؛ أي: يد رسول الله - ﷺ - فوق أيديهم عند المبايعة.
تنبيه هام: وهذا الذي ذكرناه من الأقاويل: مذهب أهل التأويل، وكلامهم في هذه الآية، ومذهب أهل السلف، وهو الأصحّ الصحيح، والأسلم السليم: السكوت عن التأويل، وإمرار آيات الصفات كما جاءت وتفسيرها قراءتها، والإيمان بها من غير تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل، والله أعلم بمعنى كلامه وأسرار كتابه.
وعن يزيد بن عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: على أيّ شيءٍ بايعتم رسول الله - ﷺ -؟ قال: على الموت. متفق عليه.
قال العلماء: لا منافاة بين الحديثين، ومعناهما صحيح، فيقال في الجمع بينهما: بايعه جماعة، منهم: سلمة بن الأكوع على الموت، فلا يزالون يقاتلون بين يديه حتى يقتلوا، أو ينتصروا، وبايعه جماعة، منهم: معقل بن يسار على أن لا يفرّوا.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إنّ الناس كانوا مع النبي - ﷺ - يوم الحديبية، تفرَّقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون بالنبي - ﷺ -، فقال - يعني: عمر -: يا عبد الله، انظر ما شأن الناس أحدقوا بالنبي - ﷺ -، فذهب، فوجدهم يبايعون، فبايع ثم رجع إلى عمر، فخرج فبايع. أخرجه البخاري.
بيعة الرضوان بيعة الشجرة
سبب هذه البيعة: أنّ رسول الله - ﷺ - دعا خراش بن أميّة الخزاعيّ حين نزل الحديبية، فبعثه إلى قريش بمكة ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا جمل رسول الله - ﷺ -، وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش، واحدهم أحبوش: وهو الفوج من قبائل شتّى، فخلّوا سبيله حتى أتى رسول الله - ﷺ -، فأخبره، فدعا رسول الله - ﷺ - عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه، فقال: إنيّ أخافهم على نفسي لما أعرف من عداوتي إياهم، وما بمكة عدويٌّ، قبيلته بنو عدي، ولكني أدلك على رجل هو أعز بها، وأحبّ إليهم: عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان، وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرًا لهذا البيت معظّمًا لحرمته، فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي حين دخل مكة، فجعله في جواره حتى فرغ من رسالته لعظماء قريش، ثمّ احتبسوه عندهم، فشاع بين المسلمين أنّ عثمان قد قتل، فقال رسول الله - ﷺ -: "لا نبرح حتى نناجز القوم" ودعا الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وبايعه القوم على أن لا يفرّوا أبدًا إلا جدَّ بن قيس الأنصاري، فأرعب ذلك المشركين، وأرسلوا داعين إلى الموادعة والصلح،
﴿فَمَنْ نَكَثَ﴾؛ أي: فمن نقض العهد الذي عقده مع النبيّ - ﷺ -، وبيعته معه، وأزال إبرامه وإحكامه ﴿فَإِنَّمَا يَنْكُثُ﴾ وينقض إدخالًا للضرر ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾؛ أي: فإنما يعود ضرر نكثه على نفسه، ولا يضر بنقضه إلا نفسه؛ لأنّ الناكث هو لا غير؛ لأنّه فوت على نفسه الإحسان الجزيل، على العمل القليل، فقد خسر. ﴿وَمَنْ أَوْفَى﴾؛ أي: ومن وفي ﴿بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ﴾ بضم الهاء؛ فإنه (١) أبقى الضم بعد حذف الواو، إذ أصله: عليه والله توصلًا بذلك إلى تفخيم لام الجلالة؛ أي: ومن أوفى بعهده مع الله، وثبت عليه، وأتمَّه ﴿فَسَيُؤْتِيهِ﴾ الله سبحانه وتعالى في الآخرة ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وثوابًا جزيلًا: هو الجنة وما فيها من رضوان الله العظيم، والنظر إلى وجهه الكريم، وسيدخله جنات يجد فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ويحتمل أن يراد بنكث العهد: ما يتناول عدم مباشرته ابتداءً، ونقضه بعد انعقاده؛ لما روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: بايعنا رسول الله - ﷺ - بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت، وعلى أن لا نفرّ، فما نكث أحد منّا البيعة إلا جُدَّ بن قيس، وكان منافقًا اختبأ تحت إبط بعيره، ولم يصر مع القوم؛ أي: إلى المبايعة حين دعوا إليها.
وقرأ زبد بن عليّ (٢): ﴿يَنْكِثْ﴾ بكسر الكاف، وقرىء: ﴿بما عَهِدَ﴾ ثلاثيًا، وقرأ الجمهور: ﴿عليه﴾ بكسر الهاء والترقيق لوقوعها بعد ياءٍ ساكنةٍ، كما هو الغالب، وقرأ حفص والزهري: بضمها والتفخيم على الأصل في بناء هاء الضمير على الضمّ؛ لأنّها هاء هو، وهي مضمومة، فاستصحب ذلك، كما في له وضربه، وقرأ الجمهور: ﴿فَسَيُؤْتِيهِ﴾ بالياء التحتية، وقرأ نافع وابن كثير، وابن عامر
(٢) البحر المحيط.
١١ - ﴿سَيَقُولُ لَكَ﴾ السين فيه: للاستقبال ﴿الْمُخَلَّفُونَ﴾ من خلّفته بالتشديد تركته خفي، وخلفوا أثقالهم تخليفًا خلّوها وراء ظهورهم؛ أي: سيقول لك يا محمد، الأحياء الذين خلّفتهم وتركتهم وراءك في المدينة، حين سافرت إلى مكة ﴿مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ الذين خلَّفهم الله تعالى عن صحبتك، إذا رجعت إليهم من عمرتك هذه، وعاتبتهم على التخلف عنك: ﴿شَغَلَتْنَا﴾ عن المسافرة والخروج معك ﴿أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾؛ أي: نساؤنا وذرارينا؛ يعني: لم يكن لنا من يخلفنا فيهم، فلذا تخلفنا عنك، قال ابن عباس ومجاهد: يعني: أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والنخع، وذلك أنّ رسول الله - ﷺ - حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرًا.. استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه، حذرًا من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت، فأحرم بالعمرة، وساق الهدي؛ ليعلم الناس أنه لا يريد حربًا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب، وتخلّفوا، واعتلّوا بالشغل، فأنزل الله فيهم: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ﴾، إذا رجعت إليهم من عمرتك: ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾؛ أي: منعنا عن الخروج معك مالنا، من الأموال والنساء والذراريّ، وليس لنا من يقوم بهم، ويخلفنا عليهم، فإنا لو تركناهم.. لضاعوا، وأنت قد نهيت عن ضياع المال، وعن التفريط في العيال، وقرىء (١): ﴿شَغَلَتْنَا﴾ بتشديد الغين، حكاه الكسائي، وهي قراءة إبراهيم بن نوح بن باذان عن قتيبة.
ولمّا علموا أنّ ذلك التخلُّف عن الرسول الله - ﷺ - كان معصية.. سألوا أن يستغفر لهم ﴿فـ﴾ قالوا: ﴿اسْتَغْفِرْ لَنَا﴾ الله يا رسول الله بتأخرنا عنك عن الخروج إلى الحديبية؛ أي: فاطلب لنا المغفرة من الله، إذ لم يكن تخلَّفنا عن عصيان لك، ولا مخالفة لأمرك؛ ليغفر الله لنا ما وقع منا من التخلف عنك بهذا السبب.
ولمّا كان طلب الاستغفار منهم ليس عن اعتقاد، بل على طريقة الاستهزاء،
ثم أمر الله سبحانه رسوله - ﷺ - أن يجيب عنهم، فقال: ﴿قُل﴾ يا محمد ردًّا لهم عند اعتذارهم إليك بأباطيلهم: ﴿فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ﴾؛ أي: فمن يقدر لأجلكم ﴿مِنَ اللهِ﴾؛ أي: من مشيئة الله، وقضائه أن يجلب ﴿شَيْئًا﴾ من النفع ﴿إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا﴾ أو من يحفظكم من مشيئته وقضائه، إن أراد بكم ضرًّا.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿ضَرًّا﴾ بفتح الضاد، وهو مصدر ضررته ضرًّا، وقرأ حمزة والكسائي: بضمها، وهو اسم ما يضر، وقيل: هما لغتان في المصدر؛ أي: إن أراد بكم ما يضركم، كقتل وهزيمة، وخلل في المال والأهل، وعقوبة على التخلف من هلاك الأهل والأموال، وضياعهما حتى تتخلّفوا عن الخروج لحفظهما، ودفع الضرر عنهما. ﴿أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا﴾؛ أي: ومن يقدر على شيء من الضرر إن أراد بكم ما ينفعكم من حفظ أموالكم وأهليكم؛ فأيُّ حاجة إلى التخلف لأجل القيام بحفظهما.
أي: قل لهم (٣): إنكم بعملكم هذا تحترسون من الضر، وتتركون أمر الله ورسوله، وتقعدون طلبًا للسلامة، ولكن لو أراد الله بكم ضرًّا.. لا ينفعكم
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
ثم أبان لهم أنه عليم بجميع نواياهم، وأنّ ما أظهروه من العذر هو غير ما أبطنوه من الشك والنفاق، فقال: ﴿بَلْ كَانَ الله﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾؛ أي: عليمًا بجميع ما تعملونه بواطنه وظواهره، فيعلم أنَّ تخلفكم لم يكن لما أظهرتم من المعاذير، بل كان شكًّا ونفاقًا،
١٢ - كما فصَّل ذلك بقوله: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ...﴾ إلخ: بدل (١) من ﴿كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ مفسِّرٌ لما فيه من الإبهام؛ أي: بل ظننتم أيها المخلفون ﴿أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ﴾؛ أي: أنه لن ينقلب، ولن يرجع، فـ ﴿أَنْ﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن ﴿الرَّسُولُ﴾ محمد - ﷺ - ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ الذين معه: وهم ألف وأربع مئة ﴿إِلَى أَهْلِيهِمْ﴾ في المدينة ﴿أَبَدًا﴾ لظنكم أن يستأصلهم المشركون بالكلية، فخشيتم إن كنتم معهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلأجل ذلك الظنّ تخلَّفتم، لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة.
وقرأ عبد الله (٢): ﴿إلى أهلهم﴾ بغير ياءٍ، وأهلون: (٣) جمع أهل، كأرضون جمع أرض، وقد يجمع على أهلات كأرضات على أنّ أصله: أهلة، وأما أهال قاسم جمع، كليال.
﴿وَزُيِّنَ ذَلِكَ﴾ الظن المذكور ﴿في قُلُوبِكُمْ﴾؛ أي: زيَّنه الشيطان في قلوبكم، وقبلتموه، واشتغلتم بشأن أنفسكم غير مبالين بهم، وقرأ الجمهور: ﴿وَزُيِّنَ﴾ مبنيًا للمفعول، وقرىء: مبنيًا للفاعل، والفاعل الله حقيقةً، أو الشيطان مجازًا ﴿وَظَنَنْتُمْ﴾ في الرسول والمؤمنين ﴿ظَنَّ السَّوْءِ﴾؛ أي: ظننتم فيهم الأمر السّيء الفاسد الرديء ظنًّا، وهو عدم انقلابهم إلى أهاليهم، وعدم نصر الله إياهم، والظنّ: منصوب على المصدرية، مضاف إلى موصوف محذوف، كما مرّ، وهذا
(٢) البحر المحيط.
(٣) البيضاوي.
والمعنى (١): أي أن تخلفكم لم يكن لما أبديتم من الأسباب، بل إنكم اعتقدتم أنّ الرسول والمؤمنين سيقتلون، وتستأصل شأفتهم، فلا يرجعون إلى أهليهم أبدًا، وزيّن لكم الشيطان ذلك الظنَّ، حتى قعدتم عن صحبته، وظننتم أنّ الله لن ينصر محمدًا وصحبه المؤمنين على أعدائهم، بل سيغلبون، ويقتلون، وبلغ الأمر بكم أن قلتم: إنّ محمدًا وأصحابه أكلة رأس، قليلوا العدد، فأين يذهبون؟ وقد صرتم بما قلتم قومًا هلكى، لا تصلحون لشيء من الخير، مستوجبين سخط الله وشديد عذابه.
١٣ - ثم أخبر سبحانه عما أعده للكافرين به، فقال: ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ هذا كلام مستأنف من جهته تعالى، غير داخل تحت ما أمر الله به رسوله - ﷺ - أن يقوله، مقرر لبوارهم، ومبين لكيفيته. و ﴿مَنْ﴾: شرطية أو موصولة، جوابها أو خبرها: محذوف، دلَّ عليه قوله: ﴿فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾؛ أي: ومن لم يصدق بما أخبر الله به، ويقر بصدق ما جاء به رسوله من الحق من عنده، كهؤلاء المخلفين.. فهو كافر مستوجب لسخط الله وعذابه، لأنّا أعتدنا وهيأنا للكافرين نارًا ملتهبة متقدة عليه يوم القيامة جزاء كفره، وإنما (٢) وضع الكافرين موضع
(٢) روح البيان.
١٤ - ثمّ بيّن سبحانه قدرته على ذلك، وأنه يفعل ما يشاء، لا رادّ لحكمه، ولا معقّب لقضائه، فقال: ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه، لا لغيره ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وما فيهما، يتصرف في الكل كيف يشاء، لا يحتاج إلى أحد من خلقه، وإنما تعبدهم بما تعبدهم ليثيب من أحسن، ويعاقب من أساء، ولهذا قال: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أن يغفر له، وهو فضل منه ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أن يعذّبه، وهو عدل منه من غير دخل لأحد في شيء منهما وجودًا وعدمًا، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وفيه حسم لأطماعهم الفارغة في استغفاره - ﷺ - لهم ﴿وَكَانَ الله﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورًا رَحِيمًا﴾؛ أي: كثير المغفرة والرحمة بليغهما، يخصّ بمغفرته ورحمته من يشاء من عباده، ولا يشاء إلا لمن تقتضي الحكمة مغفرته ممن يؤمن به وبرسوله، وأما من عداه من الكافرين، فهو بمعزل من ذلك قطعًا.
ومعنى الآية (١): أي ولله السلطان والتصرف في السموات والأرض، فلا يقدر أحد أن يدفعه عمّا أراد بكم من تعذيب على نفاقكم إن أصررتم عليه، أو منعه من العفو عنكم إن أنتم تبتم من نفاقكم وكفركم، وهذا حسم لأطماعهم في استغفاره - ﷺ - لهم، وهم على هذه الحال، ثمّ أطمعهم في مغفرته وعفوه إن تابوا وأنابوا إليه، فقال: ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ لمن يشاء المغفرة والرحمة دون من عداه.
وفي الآية حث لهؤلاء المتخلفين عن رسول الله - ﷺ - على التوبة، والمراجعة إلى أمر الله في طاعة رسوله - ﷺ -، وطلب المبادرة بها، فإنّ الله يغفر للتائبين، ويرحمهم إذا أنابوا إليه، وأخلصوا العمل له.
فإن قيل: كيف (٢) يصح هذا الكلام، وقد ثبت أنه - ﷺ - أعطى من قدم مع جعفر رضي الله عنه من مهاجري الحبشة، وكذا الدوسيين والأشعريين من مغانم خيبر، ولم يكونوا ممن حضر الحديبية؟.
قلنا: كان ذلك باستنزال أهل الحديبية عن شيء من حقهم.
فقال الله سبحانه: ﴿يُرِيدُونَ﴾؛ أي: يريد أولئك المخلفون بقولهم: ﴿ذَرُونَا﴾ ﴿أَنْ يُبَدِّلُوا﴾ ويغيِّروا ﴿كَلَامَ اللهِ﴾ سبحانه؛ أي: مواعيد الله لأهل الحديبية، حيث وعدهم غنيمة خيبر لهم خاصة، وهذا قول جمهور المفىسرين، وقال مقاتل: يعني: أمر الله تعالى نبيه - ﷺ - حيث أمره أن لا يسير منهم أحد إلى خيبر. وقال ابن زيد: هو قول الله تعالى: ﴿فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا﴾. والقول الأول أصوب.
(٢) روح البيان.
ثم أمر الله سبحانه رسوله - ﷺ - أن يقول لهم إقناطًا وتيئيسًا من الذهاب معه إلى خيبر، بقوله: ﴿قُل﴾ يا محمد لهؤلاء المخلّفين الذين يريدون تبديل كلام الله إقناطًا لهم: ﴿لَنْ تَتَّبِعُونَا﴾ في المسير إلى خيبر، ولن تذهبوا معنا؛ أي: لا تتبعونا، فإنه نفي في معنى النهي للمبالغة. وقال سعدي المفتي: ﴿لَنْ﴾ ليس (٢) للتأبيد، سيّما إذا أريد النهي.
والمراد: لن تتبعونا في خيبر، أو ديمومتهم على مرض القلوب، وقال أبو الليث: لن تتبعونا في المسير إلى خيبر، إلا متطوعين من غير أن يكون لكم شركة في الغنيمة.
﴿كَذَلِكُمْ﴾؛ أي: قولًا مثل ما قلته لكم ﴿قَالَ الله﴾ سبحانه ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل رجوعنا من الحديبية إليكم؛ أي: قال عند انصرافنا من الحديبية: إنّ غنيمة خيبر لمن شهد الحديبيّة خاصة، ليس لغيرهم فيها نصيب. ﴿فَسَيَقُولُونَ﴾؛ أي: فسيقول المنافقون للمؤمنين عند سماع هذا النهي: ﴿بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾؛ أي: ليس ذلك النهي حكم الله، بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنائم؛ أي: بل ما يمنع من خروجنا معكم إلا الحسد منكم؛ لئلّا نشارككم في الغنيمة، وليس ذلك
(٢) روح البيان.
ثم رد الله سبحانه عليهم اتهام رسوله وصحبه بالحسد، بقوله: ﴿بَلْ كَانُوا﴾؛ أي: أولئك المخلفون ﴿لَا يَفْقَهُونَ﴾؛ أي: لا يفهمون ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾؛ أي: إلا فهمًا قليلًا، وهو فطنتهم لأمور الدنيا، وهو وصف لهم بالجهل المفرط وسوء الفهم في أمور الدين، وعن علي رضي الله عنه: "أقل الناس قيمةً أقلهم علمًا".
ومعنى الآية: ﴿قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا﴾؛ أي: (١) لا تأذن لهم في الخروج معك، معاقبة لهم من جنس ذنبهم، فإنَّ امتناعهم عن الخروج إلى الحديبية ما حصل إلا لأنّهم كانوا يتوقعون المغرم: وهو جلاد العدو، ومصاولته، ولا يتوقعون المغنم، فلمّا انعكست الآية في خيبر.. طلبوا ذلك، فعاقبهم الله بطردهم من المغانم، ثمّ أكد هذا المنع بقوله: ﴿كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: مثل هذا القول الصادر منّي قال الله سبحانه من قبل مرجعنا من الحديبية إليكم؛ أي: حكم الله بأن لا تتبعونا، وبأنَّ غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا، ولستم ممن شهدها، فليس لكم أن تتبعونا؛ لأنّ غنيمتها لغيركم، ثم أخبر بأنهم سيردُّون مقالك السابق: ﴿كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِنْ قَبْلُ﴾. فقال: فسيقولون: إنّ الله ما قال ذلك من قبل، بل أنتم تحسدوننا أن نصيب معكم مغنمًا، ومن ثم منعتمونا، فرد الله عليهم اتهام الرسول وصحبه بالحسد، فقال: ﴿بَلْ كَانُوا﴾ إلخ؛ أي: ما الأمر كما يقول هؤلاء المنافقون من الأعراب، من أنكم تمنعونهم عن اتباعكم حسدًا منكم لهم على أن يصيبوا معكم من العدو مغنمًا، بل إنما كان؛ لأنّهم لا يفقهون من أمر الدين إلا قليلًا، ولو فقهوا.. ما قالوا ذلك لرسوله وللمؤمنين بعد أن أخبرهم بأنّ الله منعهم غنائم خيبر، وفي هذا إشارة إلى أن ردهم حكم الله، وإثبات الحسد لرسوله وللمؤمنين ناشىء من الجهل، وقلة التدبر، فإن حب الدنيا ليس من شيمة
واعلم: أيها الأخ الكريم، أنّ العلم إنما يزداد بصحبة أهله، ولمَّا تخلف المنافقون عن صحبة رسول الله - ﷺ -.. وصفهم الله سبحانه بعدم الفقه، فلا بدَّ من مجالسة العلماء العاملين، حتى تكون الدنيا وراء الظهر، ويجعل الرغبة في الآخرة. وقدورد في الأخبار: "اطلبوا العلم ولو بالصين".
وعن بعضهم قال: رأيت في الطواف كهلًا قد أجهدته العبادة، وبيده عصا، وهو يطوف معتمدًا عليها، فسألته عن بلده، فقال: خراسان، ثم قال لي: في كم تقطعون هذا الطريق؟ قلت: في شهرين أو ثلاثة، فقال: أفلا تحجون كلّ عام؟ فقلت له: وكم بينكم وبين هذا البيت؟ قال: مسيرة خمس سنين، قلت: هذا والله هو الفضل المبين، والمحبّة الصادقة، فضحك وأنشأ يقول:
زُرْ مَنْ هَوَيْتَ وَإِنْ شَطَّتْ بِكَ الدَّارُ | وَحَالَ مِنْ دُوْنِهِ حُجْبٌ وَأَسْتَارُ |
لَا يَمْنَعَنَّكَ بُعْدٌ عَنْ زِيَارَتِهِ | إِنَّ المُحِبَّ لِمَنْ يَهْوَاهُ زَوَّارُ |
يعني: أنّ المراد بـ ﴿قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾: المرتدّون والمشركون مطلقًا، سواء كانوا مشركي العرب أو العجم، بناءً على أنّ من عدا الطائفتين المذكورتين، وهم: أهل الكتاب والمجوس، ليس الحكم فيهم أن يقتلوا إلى أن يسلموا، بل تقبل منهم الجزية، بخلاف المرتدّين، ومشركي العرب والعجم، فإنه لا تقبل منهم
واختلف العلماء في تعيين هؤلاء القوم، فقال الزهريّ ومقاتل وجماعة: المراد بالقوم أولي العباس شديد: بنو حنيفة، أصحاب مسيلمة الكذّاب، وقال قتادة: هم هوازن وغطفان، وقال ابن عباس، ومجاهد: هم أهل فارس، وقال الحسن: هم فارس والروم، قال ابن جرير: إنه لم يقم دليل من نقل، ولا من عقل على تعيين هؤلاء القوم، فلندع الأمر على إجماله دون حاجة إلى التعيين. اهـ.
أي: يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة، أو الإسلام، لا ثالث لهما.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ مرفوعًا، وقرأ أبيّ وزيد بن عليّ: بحذف النون منصوبًا بإضمار أن بعد ﴿أَوْ﴾ العاطفة لمصدر متصيد، على مصدر متوهّم؛ أي: يكون قتال أو إسلام، والرفع على العطف على: ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ﴾ أو على القطع؛ أي: أو هم يسلمون دون قتال.
ثمّ وعدهم إذا أجابوا بقوله: ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا﴾؛ أي: فإن تستجيبوا وتنفروا أيّها المخلّفون للجهاد، وتؤدُّوا ما طلب منكم أداؤه.. ﴿يُؤْتِكُمُ الله﴾؛ أي: يعطكم ربّكم ﴿أَجْرًا حَسَنًا﴾ وثوابًا جزيلًا، فتنالوا المغانم في الدنيا، وتدخلوا الجنة في الآخرة، كما وعد من نكص على عقبه بقوله: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا﴾؛ أي: تعرضوا عن الدعوة، وتعصوا ربكم فتدبروا عن طاعته، وتخالفوا أمره، فتتركوا قتال أولي النجدة والبأس الشديد إذا دعيتم إلى قتالهم ﴿كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ في الحديبية؛ أي: كما عصيتموه في أمره إياكم بالمسير مع رسوله - ﷺ - إلى مكة ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾؛ أي: عذابًا شديدًا بالمذلّة في الدنيا بالقتل والأسر والقهر والنار في
وبيان المقام (١): أنه - ﷺ - لمّا قال لهم: "لن تتبعونا".. دعت الحاجة إلى بيان قبول توبة من رجع منهم عن النفاق، فجعل تعالى لهذا القبول علامة، وهو أنهم يدعون بعد وفاته - ﷺ - إلى محاربة قوم أولي بأس وقوة في الحرب، فمن أجاب منهم دعوة إمام ذلك الزمان، وحاربهم.. فإنه يقبل توبته، ويعطى الأجر الحسن، فلولا هذا الامتحان.. لاستمرّ حالهم على النفاق، كما استمرت حالة ثعلبة عليه، فإنه قد امتنع من أداء الزكاة، ثمّ أتى بها، ولم يقبل منه النبي - ﷺ -، واستمر عليه الحال، ولم يقبل منه أحد من الصحابة، فلعلَّه تعالى علم من ثعلبة أنَّ حاله لا تتغيّر، فلم يبيّن لتوبته علامةً، وعلم من أحوال الأعراب أنها تتغيّر، فبيّن لتغيُّرها علامةً. والله أعلم.
١٧ - روي: أنه لمّا نزل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ الآية.. قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ الآية، فبيَّن فيها الأعذار المبيحة للتخلف عن القتال بقوله: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى﴾؛ أي: فاقد البصر ﴿حَرَجٌ﴾؛ أي: إثم في التخلف عن الغزو؛ لأنّه كالطائر المقصوص الجناح لا يمتنع على من قصده، والتكليف يدور على الاستطاعة ﴿وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ﴾؛ أي: على فاقد منفعة الرجل ﴿حَرَجٌ﴾؛ أي: ذنب في التخلّف عن الجهاد لما به من العلّة اللازمة إحدى الرجلين أو كلتيهما، وقد سقط عمّن ليس له رجلان غسلهما في الوضوء، فكيف بالجهاد؟! ﴿وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ﴾ مرضًا يمنع من الجهاد ﴿حَرَجٌ﴾ لأنّه لا قوّة به، وفي نفي الحرج عن كلّ من الطوائف المعدودة مزيد اعتناء بأمرهم، وتوسيع لدائرة الرخصة.
والمعنى: أي ليس (٢) على من في عضوه أو قوّته خلل مأثم في التخلّف عن الغزو، وكذا فقير لا يمكن له استصحاب ما يحتاج إليه من مصالح الجهاد، وإنما قدَّم الأعمى على الأعرج؛ لأنَّ عذره مستمر، لا يمكن الانتفاع به في حراسة
(٢) المراح.
ومجمل المعنى (١): أي لا إثم على ذوي الأعذار إذا تخلفوا عن الجهاد، وشهود الحرب مع المؤمنين إذا هم لاقوا عدوَّهم للعلل التي بهم، والأسباب التي تمنعهم من شهودها، كالعمى والعرج والمرض، قال مقاتل: عذر الله أهل الزمانة الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية.
ثم رغب سبحانه في الجهاد، وطاعة الله ورسوله، وأوعد على تركه بقوله: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ في الأوامر والنواهي في السر والعلن من المعذورين وغيرهم، فيجب الداعي إلى حرب أعدائه أهل الشرك، دفاعًا عن دينه، وإعلاءً لكلمته ﴿يُدْخِلْهُ﴾ يوم القيامة ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ خالدين فيها ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ﴾ ويعرض عن طاعتهما، ويعص الله ورسوله، فيتخلّف عن الجهاد إذا دعي إليه.. ﴿يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾؛ أي: يدخله عذابًا موجعا في نار جهنم لا يقادر قدره.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يُدْخِلْهُ﴾ و ﴿يُعَذِّبْهُ﴾ بالياء، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد، وقرأ نافع وابن عامر والحسن وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشيبة: بالنون فيهما.
تتمة: وهذه الأعذار (٣) المذكورة هنا أعذار ظاهرة في ترك الجهاد؛ لأنَّ أصحابها لا يقدرون على الكر والفرّ؛ لأنّ الأعمى لا يمكنه الإقدام على العدو والطلب، ولا يمكنه الهرب، وكذلك الأعرج والمريض، وفي معنى المريض: صاحب السعال الشديد، والطحال الكبير، والذين لا يقدرون على الكرّ والفرّ: كأصحاب السمن المفرط، فهذه أعذار، وهناك أعذار أخر دون ما ذكر، كالفقر
(٢) البحر المحيط.
(٣) الفتوحات.
وقد غزا ابن أم مكتوم، وكان أعمى في بعض حروب القادسية، وكان رضي الله عنه يمسك الراية. ذكره في "البحر".
الإعراب
﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿فَتَحْنَا﴾: خبره، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة. ﴿لَكَ﴾: متعلق بـ ﴿فَتَحْنَا﴾. ﴿فَتْحًا﴾: مفعول مطلق. ﴿مُبِينًا﴾: صفة له. ﴿لِيَغْفِرَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿يغفر﴾: فعل مضارع، منصوب بأن مضمرة. ﴿لَكَ﴾: متعلق بـ ﴿يغفر﴾. ﴿الله﴾: فاعل، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب، مفعول به، وجملة ﴿تَقَدَّمَ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾. ﴿مِنْ ذَنْبِكَ﴾: متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿تَقَدَّمَ﴾. ﴿وَمَا تَأَخَّرَ﴾: معطوف على ﴿مَا تَقَدَّمَ﴾، وجملة ﴿يغفر﴾: صلة أن المضمرة، أن مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾. تقديره: لغفران الله لك، الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿فَتَحْنَا﴾. ﴿وَيُتِمَّ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على ﴿يغفر﴾، ﴿نِعْمَتَهُ﴾: مفعول به. ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق بـ ﴿يُتِمَّ﴾. ﴿وَيَهْدِيَكَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على ﴿يغفر﴾، و ﴿الكاف﴾: مفعول أول. ﴿صِرَاطًا﴾: مفعول ثان، أو منصوب بنزع الخافض. ﴿مُسْتَقِيمًا﴾: صفة ﴿صِرَاطًا﴾.
﴿وَيَنْصُرَكَ الله نَصْرًا عَزِيزًا (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا (٥)﴾.
{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ
﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ﴿يُدْخِلَ﴾. ﴿وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ﴾: معطوفات على ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾. ﴿الظَّانِّينَ﴾: نعت لـ ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾ وما بعده. ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿الظَّانِّينَ﴾؛ ﴿ظَنَّ السَّوْءِ﴾: مفعول مطلق مضاف إلى ما بعده مؤكد لعامله، والسوء، بضم السين وفتحها: صفة لموصوف محذوف، تقديره: الظانّين بالله الأمر السوء ظنًّا، فحذف المضاف إليه الذي هو الأمر، وأقيمت صفته مقامه، وسيأتي بقية البحث فيه. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: خبر مقدم. ﴿دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: دعائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿غَضِبَ﴾، والجملة: معطوفة على جملة ﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾: عطف فعلية على اسمية. ﴿وَلَعَنَهُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ﴿غَضِبَ﴾، ﴿أَعَدَّ﴾: فعل وفاعل ممستتر، معطوف على ﴿غَضِبَ﴾. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَعَدَّ﴾، ﴿جَهَنَّمَ﴾: مفعول به. ﴿وَسَاءَتْ﴾: فعل ماض لإنشاء الذم، وفاعل مستتر يعود على ﴿جَهَنَّمَ﴾. ﴿مَصِيرًا﴾: تمييز، والجملة معطوفة على ما قبلها. ﴿وَلِلَّهِ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لِلَّهِ﴾: خبر مقدم. ﴿جُنُودُ السَّمَاوَاتِ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَزِيزًا﴾: خبره. ﴿حَكِيمًا﴾: خبر ثان له، والجملة: معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة. ﴿شَاهِدًا﴾: حال مقدرة من مفعول ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾. ﴿وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾: معطوفان على ﴿شَاهِدًا﴾. ﴿لِتُؤْمِنُوا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿تُؤْمِنُوا﴾: فعل مضارع، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، و ﴿الواو﴾: فاعل. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُؤْمِنُوا﴾ ﴿وَرَسُولِهِ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾؛ أي: أرسلناك لإرادة إيمانكم بالله
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾ ناصب واسمه. ﴿يُبَايِعُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، صلة الموصول. ﴿إِنَّمَا﴾ كافة ومكفوفة. ﴿يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾: مستأنفة. ﴿يَدُ اللَّهِ﴾: مبتدأ. ﴿فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾: ظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل الرفع خبر ثان لـ ﴿إِنَّ﴾. ويجوز أن تكون حالية من ضمير الفاعل في ﴿يُبَايِعُونَكَ﴾، ويجوز أن تكون مستأنفة. ﴿فَمَنْ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿نَكَثَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها. ﴿فَإِنَّمَا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا؛ لشبه الجواب جملة اسمية لاشتماله على ﴿إِنَّ﴾ المكفوفة. ﴿إِنَّمَا﴾: كافة ومكفوفة. ﴿يَنْكُثُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَنْكُثُ﴾، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية: مستأنفة. ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في على الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الجواب. ﴿أَوْفَى﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أَوْفَى﴾، وجملة ﴿عَاهَدَ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿عَلَيْهُ﴾: متعلق بـ ﴿عَاهَدَ﴾، وضمت الهاء، مع أنها تكسر بعد الياء؛ لمجيء سكون بعدها، فيجوز الضمّ إن أريد تفخيم لام الجلالة، والكسر إن أريد ترقيقها، ولفظ الجلالة: مفعول به. ﴿فَسَيُؤْتِيهِ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا؛ لاشتمال الجواب على حرف
﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١١)﴾.
﴿سَيَقُولُ﴾ ﴿السين﴾: حرف استقبال ﴿يَقُولُ﴾: فعل مضارع. ﴿لَكَ﴾: متعلق بـ ﴿يَقُولُ﴾، ﴿الْمُخَلَّفُونَ﴾: فاعل ﴿مِنَ الْأَعْرَابِ﴾: حال من ﴿الْمُخَلَّفُونَ﴾. والجملة: مستأنفة. ﴿شَغَلَتْنَا﴾: فعل ومفعول به. ﴿أَمْوَالُنَا﴾: فاعل ﴿وَأَهْلُونَا﴾: معطوف عليه، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول القول. ﴿فَاسْتَغْفِرْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿اسْتَغْفِرْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد. ﴿لَنَا﴾: متعلق بـ ﴿اسْتَغْفِرْ﴾ ومفعول ﴿اسْتَغْفِرْ﴾: محذوف؛ أي: الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿شَغَلَتْنَا﴾، ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾: متعلق به، والجملة: حال من ﴿الْمُخَلَّفُونَ﴾ ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب، مفعول به. ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها: ضمير يعود على ﴿مَا﴾، ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾: خبر ﴿لَيْسَ﴾. والجملة: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. ﴿فَمَنْ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿مَن﴾: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿يَمْلِكُ﴾: خبره. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَمْلِكُ﴾، والجملة الاستفهامية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: حال من ﴿شَيْئًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به، ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿أَرَادَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على الله. ﴿بِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَرَادَ﴾. ﴿ضَرًّا﴾: مفعول به، وجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية: محذوف دل عليه ما قبلها؛ أي: إن أراد بكم ضرًّا، فمن يملك لكم دفعه، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطة: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا﴾: معطوف على ﴿أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا﴾. ﴿بَلْ﴾: حرف
الإعراب.
﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٤)﴾.
﴿بَلْ﴾: حرف إضراب أيضًا، أضرب عن بيان بطلان اعتذارهم إلى بيان الحامل لهم على التخلّف. ﴿ظَنَنْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة: جملة إضرابية لا محل لها من الإعراب. ﴿أَنْ﴾: مخفّفة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن، ﴿لَنْ﴾: حرف نفي ونصب. ﴿يَنْقَلِبَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿لَنْ﴾. ﴿الرَّسُولُ﴾: فاعل. ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾: معطوف على ﴿الرَّسُولُ﴾، ﴿إِلَى أَهْلِيهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَنْقَلِبَ﴾. ﴿أَبَدًا﴾: ظرف متعلق بـ ﴿يَنْقَلِبَ﴾، وجملة ﴿يَنْقَلِبَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿أَنْ﴾ المخفّفة، وجملة ﴿أَنْ﴾ المخفّفة: سدّت مسدّ مفعولي ﴿ظَنَنْتُمْ﴾. ﴿وَزُيِّنَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿ذَلِكَ﴾ نائب فاعل. ﴿فِي قُلُوبِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿زُيِّنَ﴾، والجملة: معطوفة على جملة ﴿ظَنَنْتُمْ﴾. ﴿وَظَنَنْتُمْ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿ظَنَنْتُمْ﴾ الأول، ﴿ظَنَّ﴾: مفعول مطلق. ﴿السَّوْءِ﴾: مضاف إليه، والسوء في الأصل: صفة لمفعول ﴿ظَنَنْتُمْ﴾ المحذوف، والتقدير: وظننتم الأمر السّيء بالمؤمنين ظنّا. ﴿وَكُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿قَوْمًا﴾: خبر ﴿كان﴾، ﴿بُورًا﴾: نعت ﴿قَوْمًا﴾. وجملة ﴿كان﴾: معطوفة على ما قبلها. وبورًا: جمع بائر، اسم فاعل من بار يبور: إذا هلك. ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم أو موصولة، في محل الرفع. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿يُؤْمِنْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، يعود على ﴿مَنْ﴾ مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْمِنْ﴾، ﴿وَرَسُولِهِ﴾: معطوف على الجلالة، وجواب الشرط: محذوف، تقديره: ندخله نارًا، وجملة الجواب المحذوف: خبر لـ ﴿مَنْ﴾
﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ﴾.
﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ ﴿سَيَقُولُ﴾. ﴿انْطَلَقْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها. ﴿إِلَى مَغَانِمَ﴾: متعلق بـ ﴿انْطَلَقْتُمْ﴾، ﴿لِتَأْخُذُوهَا﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿تَأْخُذُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لأخذكم إياها، الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿انْطَلَقْتُمْ﴾. ﴿ذَرُونَا﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول لـ ﴿سَيَقُولُ﴾. ﴿نَتَّبِعْكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، مجزوم بالطلب السابق، والجملة الفعلية: جملة جوابية، لا محل لها من الإعراب. ﴿يُرِيدُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب،
﴿قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. ﴿لَنْ﴾: حرف نصب واستقبال. ﴿تَتَّبِعُونَا﴾ ﴿تتبعوا﴾: فعل مضارع، منصوب بـ ﴿لَنْ﴾ وعلامة نصبه: حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، و ﴿نَا﴾: مفعول به، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿كَذَلِكُمْ﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: قولًا مثل هذا القول المصادر عنّي. وهو ﴿لَنْ تَتَّبِعُونَا﴾. ﴿قَالَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ جار ومجرور متعلقان بـ ﴿قَالَ﴾ ﴿فَسَيَقُولُونَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿قُلْ﴾. ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب. ﴿تَحْسُدُونَنَا﴾: فعل مضارع مرفوع بثبات النون، و ﴿الواو﴾: فاعل و ﴿نَا﴾: مفعول به، والجملة: في محل النصب مقول لـ ﴿سَيَقُولُونَ﴾. ﴿بَلْ﴾: حرف عطف وإضراب. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، جملة ﴿لَا يَفْقَهُونَ﴾: خبر ﴿كَان﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿قَلِيلًا﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: إلا فقهًا قليلًا، وجملة ﴿كان﴾: جملة إضرابية مستأنفة، أو معطوفة على ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. ﴿لِلْمُخَلَّفِينَ﴾: متعلق بـ ﴿قُلْ﴾، ﴿مِنَ الْأَعْرَابِ﴾: حال من ﴿الْمُخَلَّفِينَ﴾. ﴿سَتُدْعَوْنَ﴾ ﴿السين﴾: حرف استقبال. ﴿تُدْعَوْنَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع بالنون، و ﴿الواو﴾: نائب فاعل. ﴿إِلَى قَوْمٍ﴾: متعلق به، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أُولِي بَأْسٍ﴾: صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾، مجرور بالياء؛ لأنه
﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (١٧)﴾.
﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَلَى الْأَعْمَى﴾: خبرها مقدم. ﴿حَرَجٌ﴾: اسمها مؤخر، والجملة: مستأنفة، مسوقة لبيان حكم الزمني وذوي العاهات بالنسبة إلى الجهاد، ونفي الحرج عنهم في التخلف عنه. ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَا﴾: زائدة، زيدت لتأكيد نفي ﴿لَيْسَ﴾. ﴿عَلَى الْأَعْرَجِ﴾: معطوف على ﴿الْأَعْمَى﴾، ﴿حَرَجٌ﴾: معطوف على ﴿حَرَجٌ﴾ الأول، وكذا قوله: ﴿وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾: معطوف عليه. ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّا فَتَحْنَا﴾: فتح البلد عبارة عن الظفر به عنوة أو صلحًا، بحرب أو بدونه، فإنه ما لم يظفر منغلق، مأخوذ من فتح باب الدار، قال في "عين المعاني": الفتح: هو الفجر المزيل للهمّ؛ لأن المطلوب كالمنغلق، فإذا نيل.. انفتح، وفي "المفردات": الفتح: إزالة الإغلاق والإشكال، وذلك ضربان:
ضرب: يدرك بالبصر، نحو: فتح الباب والغلق والقفل، والمتاع نحو قوله: ﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ﴾.
والثاني: ما يدرك بالبصيرة، كفتح الهمّ: وهو إزالة الغمّ، وذلك ضربان:
أحدهما: في الأمور الدنيوية كغمّ يفرج، وفقر يزال بإعطاء المال ونحوه.
والثاني: فتح المستغلق من العلوم، نحو: قولك: فلان فتح من العلم بابًا مغلقًا. انتهى.
﴿مُبِينًا﴾؛ أي: بيّنًا، ظاهر الأمر مكشوف الحال.
﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ﴾ أصله: يتمم، نقلت حركة الميم الأولى إلى التاء، فسكنت فأدغمت في الميم الثانية.
﴿أَنْزَلَ السَّكِينَةَ﴾؛ أي: خلقها، وأوجدها، قال الراغب: إنزال الله تعالى نعمته على عبده: إعطاؤه إياها إما بإنزال الشيء نفسه: كإنزال القرآن، أو بإنزال أسبابه بالهداية إليه: كإنزال الحديد ونحوه. اهـ. السكينة: الطمأنينة والثبات، من السكون.
﴿فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: أوجد السكينة في القلوب في مواضع القلق والاضطراب.
قوله: ﴿لِيَزْدَادُوا﴾ أصله: ليزتيدوا بوزن يفتعلوا، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح، ثمّ أبدلت تاء الافتعال دالًّا لوقوعها بعد الزاي، فصار ليزدادوا، وهذا على حدّ قول ابن مالك في باب التصريف:
طَا تَا افْتِعَالِ رُدَّ إِثْرَ مُطْبَقِ | فِيْ ادَّانَ وَازْدَدْ وَادَّكِرْ دَالًا بَقِيْ |
﴿مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾؛ أي: مع يقينهم. أو ليزدادوا إيمانًا بالشرائع مع إيمانهم بالله، وباليوم الآخر، قال ابن عباس: إنّ أوّل ما أتاهم به النبيّ - ﷺ - التوحيد، فلما آمنوا بالله وحده.. أنزل الصلاة، ثمّ الزكاة، ثم الجهاد، ثم الحج.
﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الجنود: جمع جند بالضم، وهو جمع معدّ للحرب؛ أي: الأسباب السماويّة والأرضيّة.
﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾ لفظ دائرة فيه إعلام بالإبدال، أصله: داورة، اسم فاعل من دار يدور، كقال يقول، أبدلت الواو في الوصف حملًا له في الإعلال على فعله، والدائرة في الأصل: عبارة عن الخطّ الميحط بالمركز، ثمّ استعملت في الحادثة والمصيبة المحيطة بمن هي وقعت عليه.
فمعنى الآية: يحيط بهم السوء إحاطة الدائرة بالشيء أو بمن فيها، بحيث لا سبيل إلى الانفكاك عنها بوجه، إلا أن أكثر استعمالها؛ أي: الدائرة في المكروه، كما أنّ أكثر استعمال الدولة في المحبوب الذي يتداول، ويكون مرةً لهذا، ومرةً لذاك، والإضافة في ﴿دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾ من إضافة العام إلى الخاص، فهي للبيان، كخاتم فضة؛ أي: دائرة من شرّ لا من خير.
والمراد: الإحاطة والشمول، بحيث لا يتخطّاهم السوء ولا يتجاوزهم، اهـ. "روح".
وقال ابن الشيخ: السوء بالفتح صفة مشبهة، من ساء يسوء بضم العين في المضارع، سوءًا فهو سوء، ويقابله من حيث المعنى قولك: حسن يحسن حسنًا، فهو حسن، وهو فعل لازم بمعنى: قبح، وصار فاسدًا رديئًا، بخلاف ساءه يسوءه سوءًا ومساءةً؛ أي: أحزنه، نقيض سرَّه، فإنه متعدٍّ، ووزنه في الماضي فعل بفتح العين، ووزن ما كان لازمًا فعل بضم العين، وفعل يأتي فعله على فعل، كصعب صعوبة فهو صعب، والسوء بضم السين: مصدر لهذا اللازم، والسوء بالفتح: مشترك بين اسم الفاعل من اللازم، وبين مصدر المتعدّي، وقيل: السوء بالفتح والضم لغتان، من ساء بمعنى كالكره والكره. كما مرّ.
﴿وَتُعَزِّرُوهُ﴾؛ أي: تنصروه، قال في "المفردات": التعزير: النصرة، في التعظيم، قال تعالى: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ﴾. والتعزير ما دون الحد، وذلك يرجع إلى الأول، فإنّ ذلك تأديب، والتأديب نصرة بقهر عدوّه، فإنّ أفعال الشر عدوّ الإنسان، فمتى قمعته عنها.. فقد نصرته، وعلى هذا الوجه قال النبي - ﷺ -: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" فقال: أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: "تكفّه
وقال في "القاموس": التعزير: ضرب دون الحد، أو هو أشد الضرب. والتفخيم والتعظيم ضدٌ، والإعانة كالعزر والتقوية والنصر. انتهى.
وقال بعضهم: أصله: المنع ومنه التعزير، فإنه منع من معاودة القبيح؛ يعني: وتمنعوه تعالى؛ أي: دينه ورسوله، حتى لا يقوى عليه عدو.
﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾؛ أي: تعظّموه تعالى، باعتقاد أنه متصف بجميع صفات الكمال، منزّه عن جميع وجوه النقصان، قال في "القاموس": التوقير: التبجيل، والوقار بوزن سحاب: الرزانة. انتهى يعني: السكون والحلم، فأصله من الوقر الذي هو الثقل في الأذن.
﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ تعالى عمّا لا يليق به من الشريك والصاحبة والولد، وسائر صفات المخلوقين، أو تصلّوا له، من السبحة: وهي الدعاء، وصلاة التطوّع، وقال في "القاموس": التسبيح: الصلاة، ومنه قوله: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾؛ أي: من المصلّين.
﴿بُكْرَةً﴾؛ أي: أول النهار. ﴿وَأَصِيلًا﴾؛ أي: آخر النهار.
والمراد: جميع النهار، إذ من سنن العرب: أن يذكروا طرفي الشيء، ويريدوا جميعه، كما يقال: شرقًا وغربًا لجميع الدنيا.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ﴾؛ أي: يعاهدونك يوم الحديبية تحت الشجرة، سمّيت المعاهدة بالمبايعة التي هي مبادلة المال بالمال تشبيهًا لها بالمبايعة في اشتمال كل واحد منهما على معنى المبادلة؛ وإن المعاهدة أيضًا مشتملة على المبادلة بين التزام الثبات في محاربة الكافرين، وبين ضمانه - ﷺ - لمرضاة الله عنهم، وإثابته إيّاهم بجنات النعيم في مقابلة محاربة الكافرين، وسيأتي مزيد بسط في مبحث البلاغة، إن شاء الله تعالى.
﴿فَمَنْ نَكَثَ﴾ النكث: نقضُ نحوِ: الحبل والغزل، استعير لنقض العهد.
﴿شَغَلَتْنَا﴾ والشغل: العارض الذي يذهل الإنسان، وقد شغل فهو مشغول. ﴿أَمْوَالُنَا﴾ جمع مال: وهو كل ما يتملّكه الإنسان من دراهم أو دناينر أو ذهب أو فضة أو حنطة أو خبز أو حيوان أو ثياب أو سلاح أو غير ذلك، والمال: العين هو المضروب، وسمّي المال مالًا؛ لكونه بالذات تميل القلوب إليه، وفي "التلويح": المال: ما يميل إليه الطبع، ويدّخر لوقت الحاجة، أو ما خلق لمصالح الآدميّ، ويجري فيه الشحّ والضنة. انتهى.
﴿وَأَهْلُونَا﴾ والأهلون: جمع أهل، وأهل الرجل: عشيرته، وذووا قرباه، وقد يجمع الأهل على إهالٍ وآهالٍ وأهلاتٍ، ويحرك كأرضات، على تقدير تاء التأنيث؛ أي على أنّ أصله: أهلة، كما في أرض، فحكمه حكم تمرة، حيث يجوز في تمرات تحريك الميم.
﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا﴾ و (السين): للاستقبال، يقال: خلّفته بالتشديد: تركته خلفي، وخلفوا أثقالهم تخليفًا: خلوها وراء ظهورهم، وقال ابن الشيخ في سورة التوبة؛ العرب: هو الصنف الخاص من بني آدم، سواء سكن البوادي أم سكن القرى، وأمّا الأعراب فإنه لا يطلق إلا على من يسكن البوادي، فالأعراب جمع أعرابيّ، كما أن العرب: جمع عربيّ، والمجوس: جمع مجوسيّ، واليهود: جمع يهودي، بحذف ياء النسبة في الجمع، ويدل على الفرق بين العرب والأعراب، قوله - ﷺ -: "حب العرب من الإيمان" وقوله تعالى: ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا﴾، حيث مدح العرب، وذم الأعراب الذين هم سكان البادية، فعلى هذا يكون العرب أعم من الأعراب.
﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: إن كلامهم من طرف اللسان غير مطابق لما في القلب، فهو كذب صراح. ﴿فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ﴾ والملك: إمساك بقوّة وضبطٍ، تقول: ملكت الشيء: إذا دخل تحت ضبطك دخولًا تامًّا، ومنه: لا أملك رأس بعيري: إذا لم تستطع إمساكه إمساكًا تامًّا.
﴿بُورًا﴾؛ أي: هالكين لفساد عقائدكم، وسوء نياتكم، على أنه جمع بائر، من بار بمعنى هلك، كعائذٍ وعوذٍ: الحديثة النتاج من الإبل أو الخيل، وقيل: البور: مصدر من بار، كالهلك من هلك بناء، ومعنى؛ ولذا وصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، فيقال: رجل بور، وقوم بور.
﴿إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ﴾؛ أي: ذهبتم، يقال: انطلق فلان إذا مرَّ متخلفًا، وأصل الطلاق: التخلية من وثاق، كما يقال: حبس طلقًا، ويضم؛ أي: بلا قيد ولا وثاق، والمغانم: جمع مغنم بمعنى الغنيمة.
﴿ذَرُونَا﴾؛ أي: دعونا، يقال: ذره دعه، وهو يذره؛ أي: يدعه، وأصله وذره يذره، كوسعه، وقد أماتوا ماضيه، ومصدره واسم فاعله، فلم ينطقوا بها، فلا يقال: وذره ماضيًا، ولا يقال: وذر مصدرًا، كوعد، ولا واذر بكسر الذال اسم فاعل، بل يقال: تركه تركًا فهو تارك. اهـ من "القرطبي" و"القاموس".
﴿بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾ والحسد: تمني زوال النعمة عمّن يستحق لها. كما مرّ.
﴿بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ﴾؛ أي: لا يفهمون، قال الراغب: الفقه: هو التوصل إلى علمٍ غائبٍ بعلم شاهدٍ، فهو أخص من العلم، والفقه: العلم بأحكام الشريعة، وفقه فقهًا؛ أي: فهم فهمًا، والمراد بالفقه القليل: فهمهم لأمور الدنيا، دون أمور الدين.
﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى﴾ وهو فاقد البصر. ﴿حَرَجٌ﴾ وأصل الحرج والحراج: مجتمع الشيء، كالشجر وتصوِّر منه ضيق ما بينهما، فقيل للضيق: حرجٌ، وللإثم: حرج. ﴿وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ﴾ من العروج؛ لأنّ الأعرج ذاهب في صعود بعد هبوط، وعرج كفرح: إذا صار ذلك خلقة له، وقيل للضبع: عرجاء؛ لكونها في خلقتها ذات عرج، وعرج كدخل: ارتقى وأصابه شيء في رجليه، فمشى مشي العارج؛ أي: المذاهب في صعود، وليس ذلك بخلقةٍ، أو يثلث في غير الخلقة.
قوله: ﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ﴾ أصله: ستدعوون، قلبت الواو الأولى ألفًا؛ لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين.
البلاغة
وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التعبير بالماضي عمّا في المستقبل في قوله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا﴾ فقد جاء الأخبار بالفتح بلفظ الماضي؛ لأنها نزلت حين رجع - ﷺ - من الحديبية قبل عام الفتح؛ إيذانًا بأنّ أخبار الله تعالى لمّا كانت محقَّقة لا محالة.. نزلت منزلة المحققة الكائنة الموجودة، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر، وصدقه ما لا يخفى على من له مسكة من عقل.
ومنها: تصدير الكلام بحرف التحقيق تأكيدًا للتبشير.
ومنها: حذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل، والإيذان بأنَّ مناط التبشير: نفس الفتح المصادر عنه سبحانه، لا خصوصية المفتوح.
ومنها: الالتفات من التكلّم إلى اسم الذات المستتبع لجميع الصفات كالمغفرة والإنعام والنصر، في قوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾؛ لأجل الإشعار بأنّ كل واحد من الأمور الأربعة الداخلة تحت لام الغاية صادر عنه تعالى، من حيثيةٍ غير الحيثية الأخرى، مترتب على صفة من صفاته تعالى. اهـ "أبو السعود". فمغفرة الذنوب من حيث إنه تعالى غفار، وهداية الصراط من حيث إنه هاد، وهكذا، ويجمع الكل لفظ الله، فإنه اسم للذات المستجمع للصفات. اهـ شيخنا.
قال ابن الشيخ: في إظهار فاعل قوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ﴾ ﴿وَيَنْصُرَكَ﴾ إشعار بأنّ كل واحد من المغفرة والنصرة متفرع على الألوهية، وكونه معبودًا بالحق، والمغفرة: ستر الذنوب ومحوها.
ومنها: المقابلة بين: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ الآية، وبين: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ...﴾ الآية
ومنها: التعليل في قوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ حيث جعل تعالى فتح مكة علة للمغفرة؛ لأنَّ الفتح من حيث كونه جهادًا وعبادة سبب للغفران، وقيل: السرّ فيه: اجتماع ما عدد من الأمور الأربعة، وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، والهداية والنصر العزيز، كأنَّه قيل: يسّرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوّك لنجمع لك عزّ الدارين، وأغراض العاجلة والآجلة.
ومنها: الإسناد المجازيّ، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣)﴾ فقد أسند العزّ والمنعة إلى النصر، وهو للمنصور، فإنَّ صيغة فعيل هنا للنسبة، العزيز بمعنى ذي العزّة.
ومنها: التكرير في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ حيث قال ثانيًا: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾؛ لأنه ذكر قبل الآية الأولى ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، ولما كان فيهم من هو أهل للرحمة، ومن هو أهل للعذاب.. ناسب أن يكون خاتمة الأولى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾. ولمّا بالغ تعالى في تعذيب المنافق والكافر، وشدته.. ناسب أن يكون خاتمة الثانية: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ فالأولى: دلّت على أنه المدبّر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته، والثانية: دلّت على التهديد والوعيد، وأنهم في قبضة المنتقم.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ﴾.
ومنها: الإتيان بالواو في الفعلين الأخيرين في قوله: ﴿وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ﴾ مع أنّ حقّهما الإتيان بالفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها، إذ اللعن سبب الإعداد، والغضب سبب اللعن؛ للإيذان باستقلال كل منهما في الوعيد،
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعيّة في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ حيث شبّه المعاهدة على التصريحية بالأنفس في سبيل الله طلبًا لمرضاته، بدفع السلع في نظير الأموال، بجامع اشتمال كل منهما على معنى المبادلة، واستعير اسم المشبه به للمشبّه، واشتق من المبايعة بمعنى المعاهدة: يبايعون: بمعنى يعاهدون على دفع أنفسهم في سبيل الله، على طريق الاستعارة التصريحية التبعيّة.
ومنها: الاستعارة المكنيّة في قوله: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ حيث شبّه اطلاع الله على مبايعتهم، ومجازاته على طاعتهم، بملك وضع يده على يد أميره ورعيّته، وطوى ذكر المشبّه به، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو اليد، على طريق الاستعارة المكنية الأصلية، فتلخّص أنّ في هذا التركيب استعارة تصريحية تبعيّة في الفعل، ومكنية في الاسم الكريم، وتخييلية في إثبات اليد له، وفيه مشابهة في مقابلة يده بأيديهم، وقيل: الكلام على التشبيه البليغ، الأصل: كأنّ يد الله حين المبايعة فوق أيديهم، حذف أداة التشبيه؛ للمبالغة في التأكيد.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعيّة في قوله: ﴿فَمَنْ نَكَثَ﴾؛ لأنّ النكث حقيقة في نقض، نحو: الحبل والغزل وفكِّه، فاستعير لنقض العهد، فاشتق من النكث بمعنى: نقض العهد نكث، بمعنى: نقض العهد، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: فنّ اللفّ في قوله: ﴿فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا﴾؛ لأنّ الأصل: فمن يملك لكم من الله شيئًا، إن أراد بكم ضرًّا، ومن يحرمكم النفع، إن أراد بكم نفعًا.
ومنها: تكرير الظنّ في قوله: ﴿وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ بعد قوله: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ﴾ إلخ، لتشديد التوبيخ، والتسجيل عليه بالسوء.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾؛
ومنها: تنكير ﴿سَعِيرًا﴾؛ للتهويل للدلالة على أنه سعير لا يكتنه كنهها، ولا يعرف قدرها.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ فالإضراب الأول معروف، وهو ديدنهم، ودليل لجاجهم وتماديهم في التعنّت والإصرار على السفه، أمّا الإضراب الثاني.. فهو الذي تتجسد فيه بلادتهم وغباوتهم؛ وإن الإضراب الأول: فيه نسبة إلى جهل في شيء مخصوص: وهو نسبتهم الحسد إلى المؤمنين، والثاني: فيه نسبة إلى جهل عامّ على الإطلاق.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ كرّر ذكرهم بهذا العنوان؛ لذمّهم مرّةً بعد أخرى، فإن التخلّف عن صحبة الرسول - ﷺ - شناعةٌ أيُّ شناعة.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (١٨) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٩) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢٠) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢١) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٢٦) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٢٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا (١) بين حال المخلّفين فيما سلف.. عاد إلى بيان
قوله تعالى: ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا (١) وعدهم فيما سلف بمغانم خيبر.. أردف ذلك ببيان: أنّ ما آتاهم من الفتح والمغانم، ليس هو الثواب وحده، بل الجزاء أمامهم، وإنّما عجّل لهم هذه؛ لتكون علامة على صدق رسوله - ﷺ - وحياطته له، وحراسته للمؤمنين، وليثبتكم على الإِسلام، وليزيديكم بصيرةً، وسيؤتيكم مغانم أخرى من فارس والروم، وغيرهما ما كنتم تقدرون عليها لولا الإِسلام، فقد كانت بلاد العرب شبه مسستعمرات لهذه الدول، فأقدرهم الله تعالى عليها بعزّ الإِسلام.
ثم ذكر أنه لو قاتلكم أهل مكة، ولم يصالحوكم.. لانهزموا ولم يجدوا وليًّا ولا نصيرًا يدافع عنهم، وتلك هي سنة الله تعالى من غلبة المؤمنين، وخذلان الكافرين، ثمّ امتن على عباده المؤمنين أنه كفَّ أيدي المشركين عنهم، فلم يصل إليهم منهم سوء، وكف أيدي المؤمنين عن المشركين، فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، فصان كلًا من الفريقين عن الآخر، وأوجد صلحًا فيه خيرة للمؤمنين، وعافية لهم في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا بيَّن فيما سلف أنّ الله كفّ أيدى المؤمنين عن الكافرين، وكفّ أيدي الكافرين عن المؤمنين.. عيَّن هنا مكان الكفّ، وهو البيت الحرام، الذي صدّوا المؤمنين
ثم أخبرهم بأنه لولا أن يقتلوا رجالًا مؤمنين، ونساء مؤمنات لا علم لهم بهم، فيلزمهم العار والإثم.. لأذن لهم في دخول مكة، ولقد كان الكف ومنع التعذيب عن أهل مكة؛ ليُدخل الله في دين الإِسلام من يشاء منهم بعد الصلح وقبل دخولها، وليمنعنّ الأذى عن المؤمنين منهم، ولو تفرّقوا وتمييّز بعضهم من بعض.. لعذبنا الذين كفروا منهم عذابًا أليما بالقتل والسبي، حين جعلوا في قلوبهم أنفة الجاهلية، التي تمنع من الإذعان للحق، ولكن أنزل الله الثبات والوقار على رسوله، وعلى المؤمنين، فامتنعوا أن يبطشوا بهم، وألزمهم الوفاء بالعهد، وكانوا أحق بذلك من غيرهم، إذ اختارهم الله لدينه، وصحبة نبيّه - ﷺ -.
ورأى النبي - ﷺ - في المنام وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبيّة أنه يدخل المسجد الحرام، هو وأصحابه آمنين، منهم من يحلق، ومنهم من يقّصر، فأخبر ذلك أصحابه، ففرحوا وحسبوا أنهم داخلون مكة عامهم هذا، فلمّا انصرفوا لم يدخلوا.. شق ذلك عليهم، وقال المنافقون: أين رؤياه التي رآها؟ فأنزل الله هذه الآية: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا﴾ ودخلوا في العام المقبل.
قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر (١) أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الإِسلام، ليعلي شأنه على سائر الأديان.. أردف هذا ببيان حال الرسول، والمرسل إليهم، فوصفهم بأوصاف كلها مدائح لهم، وذكرى لمن بعدهم، وبها سادوا الأمم، وامتلكوا الدول، وقبضوا على ناصية العالم أجمع، وهي:
١ - أنهم غلاظ على من خالف دينهم، وناوأهم العداء رحماء فيما بينهم.
٢ - أنهم جعلوا الصلاة والإخلاص لله ديدنهم في أكثر أوقاتهم.
٤ - أنهم لهم سيماء، يعرفون بها، فلهم نور في وجوههم، وخشوع وخضوع يعرفه أولو الفطن.
٥ - أن الإنجيل ضرب بشأنهم المثل، فقال: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.
ذاك أنهم في بدء الإِسلام كانوا قليلي العدد، ثمّ كثروا واستحكموا، وترقى أمرهم يومًا فيومًا، حتى أعجب الناس بهم، فإنّ النبي - ﷺ - قام وحده، ثمّ قوَّاه الله بمن معه، كما يقوّي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتوالد منها.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سلمة بن الأكوع، قال: بينما نحن قائلون، إذ نادى منادي رسول الله - ﷺ -: يا أيّها الناس، البيعة البيعة، نزل روح القدس، فسرنا إلى رسول الله - ﷺ - وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه، فأنزل الله: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه مسلم والترمذي والنسائي، عن أنس رضي الله عنه قال: لمّا كان يوم الحديبية.. هبط على رسول الله - ﷺ - وأصحابه ثمانون رجلًا في السلاح من جبل التنعيم، يريدون غرّة رسول الله - ﷺ -، فأُخذوا فأعتقهم فأنزل الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ...﴾ الآية. وأخرج مسلم نحوه من حديث سلمة بن الأكوع وأحمد والنسائي نحوه من حديث عبد الله بن مغفل المزني، وابن إسحاق نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ...﴾ الآية، سبب نزول هذه
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الفريابي وعبد بن حميد والبيهقي في "الدلائل" عن مجاهد قال: أري النبيّ - ﷺ - وهو بالحديبية: أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين، محلّقين رؤوسهم ومقصرين، فلمّا نحر الهدي بالحديبية.. قال أصحابه: أين رؤياك يا رسول الله؟ فنزلت: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١٨ - ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد باعد الله السخط عن المؤمنين بواسطة إيجاد الرضا لهم؛ لأنَّ من معنى ﴿عَنِ﴾ المجاوزة، والمجاوزة لغةً: البعد، واصطلاحًا: بعد الشيء عن المجرور بها بواسطة إيجاد مصدر ذلك العامل، كما هو مقرّر في محلّه، ورضوا عنه.
ومعنى رضا العبد عن ربه (١): أن لا يكره ما يجري به قضاؤه.
ومعنى رضا الله عن العبد: هو أن يراه مؤتمرا لأمره، منتهيًا عن نهيه، وهم الذين ذكر شأن مبايعتهم، وكانوا ألفًا وأربع مئة على الصحيح، وقيل: ألفًا وخمس مئة وخمسة وعشرين؛ أي: (٢) رضي عن المؤمنين الراسخين في الإيمان؛ أي: فعل بهم فعل الراضي بما جعل لهم من الفتح، وما قدر لهم من الثواب، وأفهم ذلك أنه لم يرض عن الكافرين، فخذلهم في الدنيا مع ما أعد لهم في الآخرة، فالآية تقرير لما ذكر من جزاء الفريقين بأمور شاهدة.
﴿إِذْ يُبَايِعُونَكَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿رَضِيَ﴾، وصيغة المضارع؛ لاستحضار صورتها؛ أي: رضي الله عنهم وقت تلك المبايعة، وبهذه الآية سمّيت: بيعة
(٢) خطيب.
وروى الإِمام النسفي رحمه الله في "التيسير": إنها عمّيت عليهم من قابل، فلم يدروا أين ذهبت، ويمكن التوفيق بين الروايتين بأنها لما عميت عليهم.. ذهبوا يصلون تحت شجرة على ظنّ أنها هي شجرة البيعة، فأمر عمر بقطعها، فقطعت.
وكانت البيعة على أن يقاتلوا قريشًا، ولا يفرّوا، وروي: أنه بايعهم على الموت، والقصة مبسوطة في كتب الحديث والمسير، فراجعها إن شئت.
﴿فَعَلِمَ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾: معطوف على ﴿يُبَايِعُونَكَ﴾ لما عرفت من أنه بمعنى بايعوك، لا على ﴿رَضِيَ﴾، فإنّ رضاه تعالى عنهم مرتّب على علمه تعالى بما في قلوبهم من الصدق والإخلاص، عند مبايعتهم له - ﷺ -، قال الفرّاء: علم ما في قلوبهم من الصدق والوفاء، وقال قتادة وابن جريج: من الرضى بأمر البيعة على أن لا يفرّوا، وقال مقاتل: من كراهة البيعة على الموت.
﴿فَأَنْزَلَ﴾ سبحانه ﴿السَّكِينَةَ﴾؛ أي: الطمأنينة، وسكون النفس بالتشجيع أو الصلح ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على قلوبهم، معطوف على ﴿رَضِيَ﴾؛ يعني: أنزل السكينة على قلوب المؤمنين المخلصين حتى ثبتوا، وبايعوك على الموت، وعلى أن لا يفرّوا ﴿وَأَثَابَهُمْ﴾؛ أي: وجازاهم على الطاعة ﴿فَتْحًا قَرِيبًا﴾؛ أي: فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية في ذي الحجة، فأقام - ﷺ - بالمدينة بقيته وبعض المحرم، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم، سنة سبع.
وقرأ الحسن ونوح القارىء: ﴿وآتاهم﴾؛ أي؛ أعطاهم، والجمهور:
١٩ - ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا﴾ وهي مغانم خيبر، وكانت ذات عقار وأشجار أخذوها من اليهود مع فتح بلدتهم، فقسمت عليهم.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَأْخُذُونَهَا﴾ بالياء على الغيبة في ﴿وَأَثَابَهُمْ﴾ وما قبله من ضمير الغيبة، وقرأ الأعمش، وطلحة، ورويس عن يعقوب ودلبة عن يونس عن ورش، وأبو دحية عن نافع والأنطاكي عن أبي جعفر: بالتاء على الخطاب، كما جاء بعد ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً﴾ بالخاطب.
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَزِيزًا﴾؛ أي: غالبًا منيعًا كامل العزّة غنيًا عن إعانتكم ﴿حَكِيمًا﴾ فيما دبره لخلقه، حيث حكم لكم بالنصرة والفتح والغنائم، ولأهل خيبر بالسبي والهزيمة
٢٠ - ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى أيّها المؤمنون ﴿مَغَانِمَ كَثِيرَةً﴾ إلى يوم القيامة ﴿تَأْخُذُونَهَا﴾ من الكفار في أوقاتها المقدّرة لكل واحدة منها، والالتفات لتشريفهم بالخطاب، وفي هذا وعد منه سبحانه لعباده المؤمنين بما سيفتحه عليهم من الغنائم إلى يوم القيامة، يأخذونها في أوقاتها التي قدّر وقوعها فيها ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾؛ أي: غنائم خيبر، قاله مجاهد، وقيل: صلح الحديبية، فليست كل الثواب، بل الجزاء قدامكم ﴿وَكَفَّ﴾ سبحانه ومنع ﴿أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ﴾؛ أي: كفّ (٢) الله سبحانه أيدي بني أسد وغطفان: وهم حلفاء أهل خيبر عنكم، حيث جاؤوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فنكصوا عن عيالكم لما خرجتم إلى خيبر، فإنّ النبيّ - ﷺ - لمّا قصد خيبر، وحاصر أهلها.. همّت قبائل من بني أسد وغطفان، أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريّهم بالمدينة، فكفّ الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم، فنكصوا، وقال قتادة؛ كفّ أيدي يهود خيبر عن المدينة بعد خروج النبيّ - ﷺ - إلى الحديبية، ورجح هذا ابن جرير، أما كفّ أيدي أهل مكة بالحديبية.. فمذكور بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ...﴾ إلخ.
(٢) المراح.
وقوله: ﴿وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾: معطوف على علة أخرى محذوفة من أحد الفعلين؛ أي: فعجل لكم هذه، أو كفّ أيدي الناس عنكم لتغتنموها، ولتكون هذه الكفة أمارةً للمؤمنين يعرفون بها صدق الرسول - ﷺ - في وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية ما ذكر من الغنائم، وفتح مكة، ودخول المسجد الحرام؛ أي (٢): لتنفعكم في الظاهر، وتنفعكم في الباطن، حيث يزداد يقينكم إذا رأيتم صدق الرسول في إخباره عن الغيوب، فيكمل اعتقادكم؛ أي: عجّل الله فتح خيبر ليكون ذلك الفتح وهو هزيمة أهل خيبر وسلامتكم عبرةً للمؤمنين؛ لأنكم كنتم ثمانية آلاف، وأن أهل خيبر كانوا سبعين ألفا، وكفّ أيدي الناس عنكم، وعن عيالكم؛ ليكون ذلك الكف علامة للمؤمنين، فيعلموا أنّ الله يحرسهم في مشهدهم ومغيبهم.
ويجوز (٣) أن تكون ﴿الواو﴾: اعتراضية على أن تكون اللام متعلقة بمحذوف مؤخرٍ؛ أي: ولتكون آيةً لهم فعل ما فعل من التعجيل، وقيل: إن ﴿الواو﴾: زائدة، و ﴿اللام﴾: لتعليل ما قبلها؛ أي: كفّ أيدي الناس عنكم؛ لتكون لتلك الكفّة آية للمؤمنين.
﴿وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾؛ أي: طريق التوكّل عليه تعالى، والثقة بفضله تعالى في كلّ ما تأتون وما تذرون، أو يزيدكم بتلك الآية هدى، أو يثبّتكم بها على الهداية إلى طريق الحق.
ومعنى الآية: أي (٤) وعدكم الله سبحانه مغانم كثيرة من غنائم أهل الشرك
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
روى إياس بن سلمة، قال: حدّثني أبي قال: خرجنا إلى خيبر مع رسول الله - ﷺ -، فجعل عمّي عامر يرتجز بالقوم، ثمّ قال:
تَالله لَوْلَا الله مَا اهْتَدَيْنَا | وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا |
وَنَحْنُ عَنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا | فَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا |
فقال رسول الله - ﷺ -: "من هذا؟ " قال: أنا عامر، قال: "غفر لك ربّك" وما استغفر لأحد إلا استشهد، قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له: يا نبيّ الله، لو امتعتنا بعامر، فلمّا قدمنا خيبر.. خرج قائدهم مرحب يخطر سيفه، ويقول:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّيْ مَرْحَبُ | شَاكِيْ السِّلَاح بَطَلٌ مُجَرَّبُ |
فبرز له عامر بن عثمان، فقال:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّيْ عَامِرُ | شَاكِيْ السِّلَّاحِ بَطَلٌ مُغَامِرُ |
أَنَا الَّذِيْ سَمَّتْنِيْ أُمِّيْ مَرْحَبُ | شَاكِيْ السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ |
أَنَا الَّذِيْ سَمَّتْنِيْ أُمِّيْ حَيْدَرَهْ | كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيْهِ الْمَنْظَرَهْ |
قال: فضرب رأس مرحب، فقتله، ثم كان الفتح على يديه كرم الله وجهه.
نبذة من قصة خيبر
ثم إن خيبر حصن معروف قرب المدينة، على ما في "القاموس". وقال في "إنسان العيون": هو على وزن جعفر، سميت باسم رجل من العماليق نزلها، يقال له: خيبر، وهو أخو يثرب الذي سمّيت باسمه المدينة، وفي كلام بعضهم: خيبر بلسان اليهود الحصين، ومن ثمّ قيل لها: خيابر؛ لاشتمالها على الحصون، وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، ونخل كثير، بينها وبين المدينة الشريفة ثمانية برد، والبريد: أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال.
يقول الفقير: وكل ميلين ساعة واحدة بالساعات النجومية؛ لأنّه عدّ من المدينة إلى قباء ميلان، وهي ساعة واحدة، فتكون الثمانية البرد ثماني وأربعين ساعة بتلك الساعات.
ولمّا رجع - ﷺ - من الحديبية.. أقام بالمدينة شهرًا؛ أي: بقية ذى الحجة وبعض المحرم من سنة سبع، ثمّ خرج إلى خيبر، وقد استنفر من حوله ممن شهد الحديبية يغزون معه، وجاء المخلفون عنه في غزوة الحديبية ليخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقال - ﷺ -: "لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، أما الغنيمة فلا"؛ أي: لا تعطون منها شيئًا، ثمّ أمر مناديًا ينادي بذلك، فنادى به، وأمر أيضًا أنه
وابتدأ من حصونهم بحصن النطاة، وأمر بقطع نخلها فقطعوا أربع مئة، ثم نهاهم عن القطع، ومكث - ﷺ - سبعة أيَّام يقاتل أهل حصون النطاة، فلم يرجع من أعطى له الراية بفتح، ثمّ قال: "لأعطين الراية غدًا إلى رجل يحبّ الله ورسوله، ويحبّانه، يفتح الله على يديه" فتطاولها أبو بكر وعمر، وبعض الصحابة من قريش، فدعا - ﷺ - عليًّا رضي الله عنه وبه رمد، فتفل في عينيه، ثم أعطاه الراية، وكانت تلك الراية بيضاء مكتوب فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، بالسواد، فقال: عَلَامَ أقاتلهم يا رسول الله؟ قال: "أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك.. فقد حقنوا دماءهم وأموالهم" وألبسه - ﷺ - درعه الحديد، وشدّ سيفه ذا الفقار في وسطه، ووجهه إلى الحصين، وقال: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خير لك من حمر النعم"؛ أي: من الإبل النفيسة التي تصدق بها في سبيل الله، فخرج عليّ بالراية يهرول، حتى ركزها تحت الحصن، فخرج الحارث أخو مرحب، وكان معروفًا بالشجاعة، فتضاربا فقتله عليّ، وانهزم اليهود إلى الحصين، ثمّ خرج إليه مرحب سيد اليهود، وهو يرتجز ويقول:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّيْ مَرْحَبُ | شَاكِيْ السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ |
أَنَا الَّذِيْ سَمَّتْنِيْ أُمِّيْ حَيْدَرَهْ | ضِرْغَامُ آجَامٍ وَلَيْثٌ قَسْوَرَهْ |
ثم انتقل النبي - ﷺ - من حصن ناعم إلى حصن العصب من حصون النطاة، فأقاموا على محاصرته يومين، حتى فتحه الله، وما بخيبر حصن أكثر طعامًا منه: كالشعير، والسمن والتمر والزيت، والشحم والماشية والمتاع، ثم انتقلوا إلى حصن قلة، وهو حصن بقلة، وهو آخر حصون النطاة، فقطعوا عنهم ماءهم، ففتحه الله، ثمّ سار المسلمون إلى حصار الشقّ، بفتح الشين المعجمة، وهو أعرف عند أهل اللغة من الكسر، ففتحوا الحصن الأول من حصونه. ثمّ حاصروا حصن البراء: وهو الحصن الثاني من حصون الشقّ، فقاتلوا قتالًا شديدًا حتى فتحه الله، ثمّ حاصروا حصون الكثيبة، وهي ثلاثة حصون: القموص بوزن صبور، والوطيح، وسلالم بضم السين المهملة، وكان أعظم حصون خيبر القموص، وكان منيعًا حاصره المسلمون عشرين ليلةً، ثم فتحه الله على يد عليّ رضي الله عنه ومنه سبيت صفية بنت حيي رضي الله عنها. وانتهى المسلمون إلى حصار الوطيح، بالحاء المهملة، سمي باسم الوطيح بن مارن رجل من اليهود، وسلالم آخر حصون خيبر، ومكثوا على حصارهما أربعة عشر يومًا، وهذان الحصنان فتحا صلحًا؛ لأنَّ أهلهما لما أيقنوا بالهلاك.. سألوا رسول الله - ﷺ - الصلح على حقن دماء المقاتلة، وترك الذريّة لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريِّهم، وأن لا يصحب أحد منهم إلا ثوبًا واحدًا على ظهره، فصالحهم عليه، ووجدوا في الحصنين المذكورين مئة درع، وأربع مئة سيف، وألف رمح، وخمس مئة قوس عربية بجعابها، وأشياء أخر غالية القيمة، وهي ما في خزانة أبي الحقيق - مصغرًا - وأرسل - ﷺ - إلى أهل فدك، وهي محرّكة: قرية بخيبر، يدعوهم إلى الإِسلام ويخوِّفهم، فتصالحوا معه - ﷺ - على أن يحقن دماءهم ويخلِّيهم ويخلون
ثمّ إنّ النبي - ﷺ - أمر بالغنائم التي غنمت قبل الصلح فجمعت، وأصاب رسول الله - ﷺ - سبايا، منها: صفية بنت ملكهم حيي بن أخطب، من سبط هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام، فهداها الله، فأسلمت، ثمّ أعتقها رسول الله - ﷺ - وتزوّجها، وكانت رأت أن القمر وقع في حجرها، فكان ذلك رسول الله - ﷺ - وجعل وليمتها حيسًا في نطع، الحيس: تمر وأقط وسمن، ودخل بها رسول الله - ﷺ - في منزل الصهباء في العود، والصهباء: موضع قرب خيبر، كما في "القاموس".
ونهى النبيّ - ﷺ - عن إتيان الحبالى حتى تضع، وعن غير الحبالى حتى تستبرأ بحيضة، ونهى عن إتيان المسجد لمن أكل الثوم والبصل، وعن بعضهم: ما أكل نبيّ قطّ ثومًا ولا بصلًا.
يقول الفقير: يدخل فيه الدخان الشائع شربه في هذا الزمان، بل رائحته أكره من رائحة الثوم والبصل، فإذا كان دخول المسجد ممنوعًا مع رائحتهما دفعًا لأذى الناس والملائكة.. فمع رائحة الدخان أولى، وظاهر: أنَّ الثوم والبصل من جنس الأغذية، ولا كذلك الدخان، ومحافظة المزاج بشربه إنما عرفت بعد الإدمان المولد للأمراض الهائلة، فليس لشاربه دليل في ذلك أصلًا، فكما أنَّ شرب الخمر ممنوع أولًا وآخرًا، حتى لو تاب منها ومرض.. لا يجوز أن يشربها، ولو مات من ذلك.. يؤجر ولا يأثم فكذا شرب الدخان، وليس استطابته إلا من خباثة الطبع، فإنّ الطباع السليمة تستقذره لا محالة، فتب إلى
ولمّا قدم رسول الله - ﷺ - خيبر.. كان الثمر أخضر، فأكثر الصحابة من أكله، فأصابتهم الحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله - ﷺ - وسلم، فقال: "برِّدوا لها الماء في الشنان؛ أي: في القرب، ثم صبوا منه عليكم بين أذاني الفجر، واذكروا اسم الله عليه" ففعلوا فذهبت عنهم، وفي هذه الغزوة أراد - ﷺ - أن يتبَّرز، فأمر إلى شجرتين متباعدتين، حتى اجتمعتا فاستتر بهما، ثمّ قام فانطلقت كل واحدة إلى مكانها.
وفي خيبر كان أكله من الشاة المسمومة، وذلك أنَّ زينب ابنة الحارث أخي مرحب سمتها، وأكثرت في الذراعين والكتف، لمّا عرفت أنه - ﷺ - كان يحب الذراع والكتف لكونهما أبعد من الأذى، وأهدتها له معه، وهو بشر بن البراء، واحتجم رسول الله - ﷺ - بين الكتفين في ثلاثة مواضع، ثم أرسل رسول الله - ﷺ - إلى تلك اليهوديّة، فقال: "أسَمَمت هذه الشاة؟ " فقالت من أخبرك؛ قال: "أخبرتني هذه التي في يدي"؛ أي: الذراع، قالت: نعم. قال: "ما حملك على ما صنعت؟ " قالت: قتلت أبي وعمي وزوجي، ونلت من قومي ما نلت، فقلت: إن كان ملكًا.. استرحنا منه، وإن كان نبيًا فسيخبر، فعفا عنها، فلمّا مات بشر.. أمر بها، فقتلت وصلبت.
٢١ - وقوله: ﴿أُخْرَى﴾: معطوف (١) على هذه، أي: فعجَّل لكم هذه الغنائم ومغانم أخرى: ﴿لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا﴾ وهي الفتوح التي فتحها الله على المسلمين من بعد: كفارس والروم ونحوهما، كذا قال الحسن ومقاتلٌ، وابن أبي ليلى، وقال الضحاك وابن زيد وابن أبي إسحاق: هي خيبر، وعدها الله نبيه قبل أن يفتحها، ولم يكونوا يرجونها، وقال قتادة: فتح مكة، وقال عكرمة: حنين، والأول: أولى.
﴿قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا﴾: صفة ثانية لـ ﴿أُخْرَى﴾ قال الفرّأء: أحاط الله بها
والمعنى: أنه أعدَّها لهم، وجعلها كالشيء الذي قد أحيط به من جميع جوانبه، فهو محصور لا يفوت منه شيء، فهم وإن لم يقدروا عليها في الحال، فهي محبوسة لهم لا تفوتهم، وقيل: معنى: ﴿أَحَاطَ﴾: علم أنها ستكون لهم.
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ لا يعجزه شيء، ولا تختصّ قدرته ببعض المقدورات دون بعض.
والمعنى (١): أي ووعدكم الله فتح بلاد أخرى لم تقدروا عليها، قد حفظها لكم، حتى تفتوحها، ومنعها من غيركم حتى تأخذوها: كفارس والروم، أقدركم عليهم بعز الإِسلام، وقد كنتم قبل ذلك مستضعفين أمامهم، لا تستطيعون دفعهم عن أنفسكم، وكان الله على كل ما يشاء من الأشياء من فتح القرى والبلدان لكم، وغير ذلك، ذا قدرة لا يتعذّر عليه شيء منها.
٢٢ - ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ﴾ أيّها المؤمنون ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ولم يصالحوكم، قال قتادة: يعني: كفار قريش بالحديبية، وقيل: أسد وغطفان الذين أرادوا نصر أهل خيبر، والأول: أولى. ﴿لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ﴾؛ أي: لانهزموا عنكم، ولم يكن قتال، فإنّ تولية الأدبار كناية عن الانهزام ﴿ثُمَّ﴾ بعد انهزامهم ﴿لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا﴾ يواليهم ويحرسهم وينفعهم باللطف ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ ينصرهم، ويدفع عنهم بالعنف، بل الهلاك لاحقٌ بهم بعد الانهزام؛ يعني: من تولى الله خذلانه فلا ناصر له ولا مساعد.
والمعنى: ولو ناجزكم المشركون بالقتال.. لنصركم عليهم، ولانهزم جيش الكفر فارًّا مدبرًا، لا يجد وليًّا يتولّى رعايته، ويكلؤه، ويحرسه، ولا نصيرًا يساعده؛ لأنّه محارب لله ولرسوله، ولحزبه المؤمنين.
٢٣ - وقوله: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾: مصدر مؤكد لفعله المحذوف؛ أي: سنَّ الله سبحانه
أي: ما تقابل الكفر والإيمان في موطن إلا نصر الله المؤمنين على الكافرين، ورفع الحق، ووضع الباطل، كما نصر يوم بدر أولياءه المؤمنين، على قلة عددهم وعددهم، وكثرة المشركين وكثرة عددهم.
٢٤ - ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿الَّذِي كَفَّ﴾ ومنع ﴿أَيْدِيَهُمْ﴾؛ أي: أيدي كفّار مكة ﴿عَنْكُمْ﴾ أيّها المؤمنون؛ أي: بأن حملهم على الفرار منكم، مع كثرة عددهم، وكونهم في بلادهم بصدد الذّب عن أهليهم وأولادهم ﴿وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ﴾ بأن حملكم على الرجوع عنهم وتركهم ﴿بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾؛ أي: في داخلها؛ أي: في داخل الحرم، وهو الحديبية ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ﴾؛ أي: من بعد أن جعلكم ظافرين غالبين ﴿عَلَيْهِمْ﴾ مع أنّ العادة المستمرّة فيمن ظفر بعدوّه أن لا يتركه، بل يستأصله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ الله تعالى أظهر المسلمين عليهم بالحجارة، حتى أدخلوهم البيوت؛ يعني: أنّ جماعة من أهل مكة خرجوا يوم الحديبية يرمون المسلمين، فرماهم المسلمون بالحجارة، حتى أدخلوهم بيوت مكة، فلمّا كان الكفّ على الوجه المذكور في غاية البعد.. قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ﴾ إلخ. على طريق الحصر، استشهادًا به على ما تقدم من قوله: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ﴾. وقيل: هم ثمانون رجلًا، طلعوا على رسول الله - ﷺ - من قبل التنعيم عند صلاة الصبح ليأخذوه بغتة، ويقتلوا الأصحاب، فأخذهم رسول الله - ﷺ -، فخلَّى سبيلهم، فيكون (١) المراد ببطن مكة: وادي الحديبية؛ لأنّ بعضها من الحرم.
والمعنى - والله أعلم -: أنّ الله هو الذي كفّ أيديهم عنكم، وأيديكم عنهم في الحديبية التي هي الجهة السفلى من مكة، من بعد أن أقدركم عليهم، بحيث لو قاتلتموهم.. غلبتم عليهم بإذنه تعالى على ما كان في علمه، كما قال: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ﴾ إلخ؛ أي: إنّ الله (١) سبحانه هو الذي كفّ أيدي المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله - ﷺ - بالحديبية، يلتمسون غرتهم ليصيبوا منهم، فبعث رسول الله - ﷺ - سريةً، فأتي بهم أسرى، ثم خلى سبيلهم، ولم يقتلهم منةً منه وفضلًا.
روى أحمد وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والنسائي في آخرين عن أنس قال: لمّا كان يوم الحديبية.. هبط على رسول الله - ﷺ - وأصحابه، ثمانون رجلًا من أهل مكة في السلاح من جبل التنعيم، التنعيم: موضع بين مكة وسرف، فدعا عليهم، فأخذوا، فعفا عنهم، فنزلت هذه الآية: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ...﴾ إلخ.
وروى أحمد عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنهما قال: كنّا مع رسول الله - ﷺ - في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله - ﷺ -، وكان عليّ بن أبي طالب، وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله - ﷺ - لعليّ رضي الله عنه: "اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ": فأخذ سهيل بيده، وقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيّتنا ما نعرف قال: "اكتب باسمك اللهم" وكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة، فأمسك سهيل بن عمرو بيده، وقال لقد ظلمناك إن كنت رسوله، اكتب في قضيّتنا ما نعرف، فقال: "اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله"،
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾؛ أي: بأعمالكم وأعمالهم، بصيرًا لا يخفى عليه شيء منها، وهو مجازيكم، ومجازيهم بها.
وقرأ الجمهور (١): ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ على الخطاب؛ أي: من مقاتلتكم وهزمكم إياهم أولًا طاعة لرسوله، وكفّكم عنهم ثانيًا؛ لتعظيم بيته الحرام، وصيانة أهل الإِسلام. ﴿بَصِيرًا﴾؛ أي: عالمًا لا يخفى عليه شيء، فيجازيكم بذلك، وقرأ أبو عمرو: بالياء، وهو تهديد للكفار.
٢٥ - ﴿هُمُ﴾؛ أي: قريش الأقوام ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله ﴿وَصَدُّوكُمْ﴾؛ أي: منعوكم ﴿عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾؛ أي: عن أن تطوفوا بالبيت ﴿و﴾ صدّوا ﴿الْهَدْيَ﴾ وهو بالنصب عطف على الضمير المنصوب في ﴿صَدُّوكُمْ﴾ والهدي بسكون الدال: (٢) جمع هدية، كتمر وتمرة، وجدي وجدية، وهو: مختص بما يهدى إلى البيت تقرّبًا إلى الله تعالى من النعم، أيسره: شاة، وأوسطه: بقرة، وأعلاه: بدنة، ويجوز تشديد الياء، فيكون جمع هديّة.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿الْهَدْيَ﴾ بالنصب، عطفًا على الضمير في: ﴿صدّوكم﴾، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه. ﴿الهدي﴾ بالجر عطفًا على ﴿الْمَسْجِدِ﴾ ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: وعن نحو الهدي، وقرىء: بالرفع على تقدير: وصد الهدي، وقرأ الجمهور: ﴿الهدي﴾ بفتح الهاء وسكون الدال، وهي لغة قريش، وقرأ ابن هرمز والحسن وعصمة عن عاصم واللؤلؤيّ وخارجة عن
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط والشوكاني.
قال في "بحر العلوم": الحديبية: طرف الحرم على تسعة أميال من مكة، وروي: أنّ خيامه - ﷺ - كانت في الحلّ، ومصلاه في الحرم، وهناك نحرت هداياه - ﷺ -، وهي سبعون بدنة.
والمراد: صدّها عن محلّها المعهود الذي هو مني للحاج، وعند الصفا للمعتمر، وعند الشافعي لا يختص دم الإحصار بالحرم، فيجوز أن يذبح في الموضع الذي أحصر فيه.
والمعنى: أي هم الذين جحدوا توحيد الله، وصدّوكم أيّها المؤمنون بالله عن دخول المسجد الحرام، وصدّوا الهدي محبوسًا أن يبلغ محلّ نحوه، وهو الحرم عنادًا منهم وبغيًا، وكان رسول الله - ﷺ - ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك سبعين بدنة.
واعلم (١): أنه تعالى بيَّن استحقاق كفّار مكة للعقوبة بثلاثة أشياء: كفرهم في أنفسهم، وصدِّ المؤمنين عن إتمام عمرتهم، وصدّ هديهم عن بلوغ المحلّ، فهم مع هذه الأفعال القبيحة كانوا يستحقّون أن يقاتلوا أو يقتلوا، إلا أنه تعالى كفّ أيدي كل فريق عن صاحبه، محافظة على ما في مكة من المؤمنين المستضعفين ليخرجوا منها، أو يدخلوها على وجه لا يكون فيه إيذاء من فيها من المؤمنين والمؤمنات، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ﴾؛ أي: لم تعرفوهم أيّها المؤمنون بأعيانهم؛ لاختلاطهم بالمشركين،
والمعنى (١): لولا كراهة أن تهلكوا أناسًا مؤمنين، بين أظهر الكافرين، غير معروفين لكم، كالوليد وسلمة بن هشام وعيّاش بن ربيعة وأبي جندلٍ، حال كونكم جاهلين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقّة.. لأذن لكم في دخول مكة عنوةً، أو لما كفّ أيديكم عنهم. اهـ "بيضاوي".
أي (٢): ولولا هؤلاء الذين يكتمون إيمانهم خيفة على أنفسهم، وهم بين أظهرهم.. لسلّطناكم عليهم، فقتلتموهم، وأبدتم خضراءهم، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات من لا تعرفونهم حين القتل، ولو قتلتموهم.. للحقتكم المعرة والمشقة بما يلزمكم في قتلهم من كفارة وعيب.
والخلاصة: أنه لولا وجود المؤمنين مختلطين بالمشركين، غير متميزين
(٢) المراغي.
و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ﴾: متعلِّقة بما يدل عليه الجواب المقدّر؛ أي: ولكن لم يأذن لكم، أو كف أيديكم ليدخل الله سبحانه ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ من عباده المؤمنين في رحمته بتوفيقه لزيادة الخير والطاعة، أو من المشركين بدخوله في الإِسلام، والمراد بمن يشاء من عباده: هم (١) المؤمنون والمؤمنات، الذين كانوا في مكة، فيتمم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهراني الكفار، ويفكّ أسرهم، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب، وقيل: إنّ ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ عباده ممن رغب في الإِسلام من المشركين، وقيل: ﴿اللام﴾: متعلقة بمحذوف غير ما ذكر، تقديره: لو قتلتموهم.. لأدخلهم الله في رحمته، والأول: أولى.
والمعنى (٢): أي هم الذين كفروا، الذين استحقوا التعجيل في إهلاكهم، ولولا مؤمنون مختلطون بهم.. لعجَّل الله بهم، ولكن كفَّ الله أيديكم عنهم لكي يكرم الله المؤمنين، بزيادة الخير والطاعة لله تعالى، والمشركين بدخولهم في دين الإِسلام؛ أي: ليخرج المؤمنين من مكة، ويهاجروا إلى المدينة، وليؤمن من المشركين من علم الله أنه يؤمن في تلك السنة؛ لأنّهم إذا شاهدوا رحمة الله في شأن طائفة من المؤمنين، بأن منع الله من تعذيب أعداء الدين بعد الظفر بهم؛ لأجل اختلاطهم بهم، رغبوا في مثل هذا الدين.
والخلاصة: قد حال بينكم وبين دخول مكة لقتالهم، إخراج المؤمنين من بين أظهرهم، وليدخل في دينه من يشاء منهم قبل أن تدخلوها.
والضمير في قوله: ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا﴾ عائد إلى الفريقين المؤمنين والمشركين؛ أي: لو يتميز المؤمنون عن المشركين، وتفرَّقوا عنهم، وخرجوا من بين أظهرهم ﴿لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ﴾؛ أي: من أهل مكة ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ بالقتل والأسر والقهر؛ أي: لعذَّبنا كفار مكة بتسليط المؤمنين عليهم بقتلهم، وسبي ذراريهم.
(٢) المراح.
٢٦ - والظرف في قوله: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد، قصّة إذ ألقى الذين كفروا من أهل مكة ﴿فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ﴾؛ أي: الأنفة والتكبر، من سمي من كذا حمية إذا أنف منه، والجار والمجرور (٢): إما متعلق بالجعل على أنه بمعنى الإلقاء، أو بمحذوف هو مفعول ثان على أنه بمعنى التصيير؛ أي: جعلوها ثابتة راسخة في قلوبهم ﴿حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ بدل من ﴿الْحَمِيَّةَ﴾؛ أي: حمية الملة الجاهلية، وهي ما كانت عليه قبل البعثة، أو الحميَّة الناشئة من الجاهلية التي تمنع إذعان الحق، قال الزهري: حميتهم أنفسهم من الإقرار بالرسالة للنبيّ - ﷺ -، والاستفتاح ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أو منعهم من دخول مكة، وقال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان: قال أهل مكة: قد قتلوا أبنائنا وإخواننا، ثم يدخلون علينا، فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا، واللات والعزّى، لا يدخلون علينا! فهذه حميَّة الجاهلية التي دخلت في قلوبهم.
﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ معطوف على ﴿جَعَلَ﴾.
والمراد (٣): تذكير حسن صنيع الرسول والمؤمنين بتوفيق الله تعالى، وسوء صنيع الكفرة؛ أي: فأنزل الله تعالى عليهم الثبات والوقار والطمأنينة، فلم يلحق بهم ما لحق الكفار، فصالحوهم، ورضوا أن يكتب الكتاب على ما أرادوا، ويروى: أنه لمَّا أبى سهيل بن عمرِو ومن معه أن يكتب في عنوان كتاب الصلح البسملة، وهذا ما صالح عليه رسول الله أهل مكة، بل قالوا لعليّ: اكتب باسمك اللهم، وهذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة.. قال النبي - ﷺ - لعليّ
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
﴿وَأَلْزَمَهُمْ﴾؛ أي: ألزم الله تعالى رسوله والمؤمنين ﴿كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾؛ أي: اختار لهم كلمة يُتَّقى بها من الشرك؛ أي؛ كلمة لا إله إلا الله، كذا قال الجمهور، وزاد بعضهم: محمد رسول الله، وزاد بعضهم: وحده لا شريك له، حتى قالوها، وهذا إلزام الكرم واللطف، لا إلزام الإكراه والعنف، وأضيفت إلى التقوى؛ لأنها سببها، إذ بها يتقى من الشرك ومن النار، فإنَّ أصل التقوى: الانتقاء عنها، وقد وصف الله تعالى هذه الأمة بالمتقين في مواضع من القرآن العظيم، باعتبار هذه الكلمة، وقال الزهريّ: هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وذلك أنَّ الكفار لم يقروا بها، وامتنعوا من كتابتها في كتاب الصلح الذي كان بينهم وبين رسول الله - ﷺ -، كما ثبت ذلك في كتب الحديث والسير، فخصَّ الله بهذه الكلمة المؤمنين، وألزمهم بها، وهي من شعار هذه الأمة وخواصِّها، اختارها لهم، وصار المشركون محرومين منها، حيث لم يرضوا بأن يكتب في كتاب الصلح، والأول: أولى، وعن الحسن: كلمة التقوى: هي الوفاء بالعهد، فإنَّ المؤمنين وفوا بالعهد، حيث نقضوا وعاونوا من حارب حليف المؤمنين.
والمعنى على هذا: وألزمهم كلمة أهل التقوى: وهي العهد الواقع في ضمن الصلح، ومعنى إلزامها إياهم: تثبيتهم عليها، وعلى الوفاء بها.
﴿وَكَانُوا﴾؛ أي: وكان المؤمنون ﴿أَحَقَّ بِهَا﴾؛ أي: بكلمة التوحيد من الكفار في سابق علمه ﴿وَأَهْلَهَا﴾؛ أي: مستأهلين لها، ومختصين بها في الدنيا دونهم؛ لأنَّ الله تعالى اختارهم لصحبة نبيّه - ﷺ -، وهو عطف تفسير لما قبله.
قيل: إنّ الذين كانوا قبلنا، لا يمكن لأحد منهم أن يقول: لا إله إلا الله في اليوم والليلة إلا مرةً واحدة، لا يستطيع أن يقولها أكثر من ذلك، وكان قائلها يمدُّ بها صوته حتى ينقطع النفس؛ التماس بركتها وفضلها، وجعل الله لهذه الأمة
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من شأنه أن يتعلق به العلم ﴿عَلِيمًا﴾؛ أي: بليغ العلم، فيعلم حق كل شيء، فيسوقه إلى مستحقه، ومن معلوماته: أنهم أحق بها؛ أي: من جميع الأمم؛ لأنَّ النبيّ - ﷺ - أفضل المخلوقات، وأمته خير الأمم، وهذه الكلمة من أفضل الأذكار، فأعطوها لأنّها اللائقة بهم.
والمعنى (١): أي واذكر يا محمد إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم أنفة الجاهلية، فامتنع سهيل بن عمرو أن يكتب في كتاب الصلح الذي بين رسول الله - ﷺ - والمشركين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وأن يكتب فيه محمد رسول الله، وامتنع هو وقومه أن يدخل رسول الله - ﷺ - عامه هذا المسجد الحرام، فأنزل الله الصبر والطمأنينة على رسوله، ففهم عن الله مراده، وجرى على ما يرضيه، وأنزله على المؤمنين فألزمهم أمره، وقبلوه، وحماهم من همزات الشياطين، وألزمهم كلمة التوحيد والإخلاص لله في العمل، وكانوا أحق بها، وكانوا أهلها، إذْ هم أهل الخير والصلاح، ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ سواء كان من المؤمنين أم من المشركين، فيجازي كلًّا بما عمل.
٢٧ - ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا﴾؛ أي: لقد (٢) جعل الله سبحانه رؤيا رسوله صادقةً، ولم يجعلها أضغاث أحلام، وقوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ إما صفة لمصدر محذوف؛ أي: صدقًا متلبسًا بالحق والحكمة البالغة: وهي التمييز بين الراسخ في الإيمان، والمتزلزل فيه، أو حال من الرؤيا؛ أي: متلبسةً بالصدق ليست من نوع أضغاث الأحلام؛ لأنّ ما رآه كائن لا محالة في وقته المقدر له: وهو العام القابل.
والمعنى: أراه الرؤيا الصادقة المتلبسة بالحق والحكمة، حيث قال النبيّ - ﷺ -
(٢) المراح.
وتلك الرؤيا أنه - ﷺ - رأى عام الحديبية قبل خروجه إلى الحديبية: كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين، وقد حلقوا رؤوسهم وقصروا، فقصّ الرؤيا على أصحابه، ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوا مكة في عامهم، فلمّا خرجوا معه - ﷺ -، وصدّهم الكفار بالحديبية، ورجعوا، وشقّ عليهم ذلك.. قال عبد الله بن أبي وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحارث: والله ما حلقنا ولا قصرنا، ولا رأينا المسجد الحرام، فنزلت هذه الآية المذكورة، ولمّا نزلت هذه الآية.. علم المسلمون أنهم يدخلونها فيما يستأنف، واطمأنت قلوبهم، ودخلوها معه - ﷺ - في
وقوله: ﴿فَعَلِمَ﴾ الله سبحانه ﴿مَا لَمْ تَعْلَمُوا﴾ في الصلح في الحديبية من المصلحة المتجدّدة، فإنّ دخولكم في سنتكم هذه سبب لهلاك المؤمنين والمؤمنات، معطوف على ﴿صَدَقَ﴾. و ﴿الفاء﴾ (١): للترتيب الذكري، فالتعرض لحكم الشيء إنما يكون بعد جري ذكره.
والمراد بعلمه تعالى: العلم الفعليّ المتعلق بأمر حادث بعد المعطوف عليه؛ أي: فعلم عقيب ما أراه الرؤيا الصادقة، ما لم تعلموا من الحكمة الداعية إلى تقديم ما يشهد بالصدق علمًا فعليًا. ﴿فَجَعَلَ﴾ سبحانه ﴿مِنْ دُونِ ذَلِكَ﴾؛ أي: من قبل ذلك الدخول في مكة؛ أي: من قبل تحقق مصداق ما أراه من دخول المسجد الحرام ﴿فَتْحًا قَرِيبًا﴾ وهو فتح خيبر، فيقويكم به، فإنه كان سببًا لإسلام كثير من الناس تقوّى بهم المسلمون، فتكون تلك الكثرة سببًا لهيبة الكفار، ولمنعهم من قتال المسلمين، حين رجعوا إلى مكة في العام المقبل، وهم عشرة آلاف، وكانوا في عام الحديبية ألفًا وأربع مئة.
والمعنى (٢): أي لقد صدق الله رسوله محمدًا - ﷺ - رؤياه التي أراها إياه، أنه يدخل هو وأصحابه البيت الحرام، آمنين لا يخافون أهل الشرك، محلقًا بعضهم ومقصّرًا بعضهم الآخر، فعلم جل ثناؤه ما لم تعلموا، وذلك علمه تعالى ما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين، الذين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها هذا العام.. لوطئوهم بالخيل والرجل، فأصابتهم منهم معرّة بغير علم، فردّهم الله تعالى عن مكة من أجل ذلك، فجعل من دون دخولهم المسجد فتحًا قريبًا: هو صلح الحديبية، وفتح خيبر؛ لتستروح إليه قلوب المؤمنين، إلى أن يتيسّر اليوم الموعود.
٢٨ - ثمّ أكّد صدق الرسول في الرؤيا بقوله: ﴿هُوَ الَّذِي﴾؛ أي: هو سبحانه وتعالى الإله الذي ﴿أَرْسَلَ﴾ وبعث ﴿رَسُولَهُ﴾ محمدًا - ﷺ -؛ أي؛ اختصّ بإرسال
(٢) المراغي.
ومعنى الحق: الثابت الذي هو ناسخ لجميع الأديان ومبطلها.
﴿لِيُظْهِرَهُ﴾؛ أي: ليظهر الله سبحانه الدين الحق، ويعليه ﴿عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾؛ أي: على جنس الدين بجميع أفراده التي هي الأديان المختلفة، بنسخ ما كان حقًّا منها من بعض الأحكام المتبدّلة بتبدّل الأعصار، وإظهار بطلان ما كان باطلًا منها، أو بتلسيط المسلمين على أهل سائر الأديان.
والمعنى: أي هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الإِسلام؛ ليبطل به الملل كلها، بنسخ سائر الديانات، وإظهار فساد العقائد الزائفات، حتى لا يكون دين سواه، ولقد أنجز الله وعده، حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإِسلام، ولا يبقى إلا مسلم أو ذمّة للمسلمين، وكم ترى من فتوح أكثر البلاد، وقهر الملوك الشداد، ما تعرف به قدرة الله تعالى، وقيل: ليظهره الرسول على الدين كلّه، والأول: أولى.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال، و ﴿الباء﴾: زائدة، كما تقدم في غير موضع؛ أي: كفى الله سبحانه ﴿شَهِيدًا﴾ على هذا الإظهار الذي وعد المسلمين به، وعلى صحة نبوّة محمد - ﷺ -، بإظهار المعجزات، وإن لم يشهد الكفار،
٢٩ - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: شهد له بالرسالة بقوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ فـ ﴿مُحَمَّدٌ﴾ مبتدأ، و ﴿رَسُولُ اللَّهِ﴾: خبره، وهو وقف تام، والجملة: مبينة للمشهود به، وقيل: ﴿مُحَمَّدٌ﴾: خبر مبتدأ محذوف، وقوله: ﴿رَسُولُ اللَّهِ﴾: بدل أو عطف بيان أو نعت؛ أي: ذلك الرسول المرسل بالهدى ودين الحق،
﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾؛ أي: مع رسول الله - ﷺ -، قيل: هم أصحاب الحديبية، والأولى (١): العمل على العموم، وهو مبتدأ، خبره: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾؛ أي: غلاظ عليهم، كما يغلظ الأسد على فريسته، وهو جمع شديد. ﴿رُحَمَاءُ﴾؛ أي: متعاطفون، جمع رحيم ﴿بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: فيما بينهم، كالوالد مع ولده؛ أي: متوادون متعاطفون فيما بينهم.
والمعنى: أنهم يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمن وافقهم في الدين الرأفة والرحمة، كقوله تعالى: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ فلو اكتفى (٢) بقوله: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾.. لربما أوهم الفظاظة والغلظة، فكمّل بقوله: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ فيكون من أسلوب التكميل، وعن الحسن: بلغ من تشدّدهم على الكفار: أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمسّ أبدانهم، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم: أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنًا إلا صافحه وعانقه.
وقرأ ابن عامر في رواية (٣): ﴿رَسُولُ اللَّهِ﴾ بالنصب على المدح، وقرأ الجمهور: ﴿أَشِدَّاءُ﴾، ﴿رُحَمَاءُ﴾ بالرفع على أنه خبر للموصول، وقرأ الحسن: بنصبهما على الحال، والعامل فيهما: العامل في ﴿مَعَهُ﴾ ويكون الخبر عن المبتدأ المتقدم ﴿تَرَاهُمْ﴾ وقيل: على المدح، وقرأ (٤) يحيى بن يعمر: ﴿أَشِدَّا﴾ بالقصر، وهي شاذّة؛ لأنّ قصر الممدود إنما يكون في الشعر، نحو قوله:
لَا بُدَّ مِنْ صَنْعَا وَإِنْ طَالَ السَّفَرْ
﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ جمع راكع وساجد؛ أي: تشاهدهم حال كونهم راكعين ساجدين، لمواظبتهم على الصلوات، فهما حالان؛ لأن الرؤية بصرية، وأريد بالفعل الاستمرار، والجملة: خبر آخر أو استئناف، وجملة قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) البحر المحيط.
والمعنى: يطلبون ثواب الله لهم، ورضاه عنهم. وقرأ عمرو بن عبيد: ﴿ورضوانا﴾ بضم الراء.
﴿سِيمَاهُمْ﴾ فعلى من سامه: إذا أعلمه؛ أي: جعله ذا علامة. وقرىء: ﴿سيمياؤهم﴾ بالياء بعد الميم والمد، وهما لغتان، وفيها لغة ثالثة هي: السيماء، وهو مبتدأ، خبره: قوله: ﴿فِي وُجُوهِهِمْ﴾؛ أي: علامتهم التي تميزهم عن غيرهم ثابتة في وجوههم؛ أي: في جباههم حالة كون تلك السيماء كائنة ﴿مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ فالجار والمجرور: حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبر المبتدأ، وأثر الشيء: حصول ما يدلّ على وجوده. كما في "المفردات"؛ أي: (١) من التأثير الذي تؤثّر كثرة السجود في جباههم، وما روي عن النبيّ - ﷺ -: "لَا تُعْلِمُوا صُوركم"؛ أي: لا تسموها، إنما هو فيما إذا اعتمد بجبهته على الأرض ليحدث فيها تلك السمة، وذلك محض رياءٍ ونفاقٍ، والكلام هنا فيما حدث في جبهة السُّجَّاد الذين لا يسجدون إلا خالصًا لوجه الله تعالى؛ أي: تظهر علامتهم في جباههم من أثر السجود في الصلاة، وكثرة التعبّد بالليل والنهار، وقال الضحاك: إذا سهر الرجل أصبح مصفرًّا، فجعل هذا هو السيما، وقال - ﷺ -: "من كثر صلاته بالليل.. حسن وجهه بالنهار". ألا ترى أنَّ من سهر بالليل، وهو مشغول بالشراب واللعب.. لا يكون وجهه في النهار كوجه من سهر وهو مشغول بالطاعة، وقال الزهري: مواضع السجود أشد وجوههم بياضًا يوم القيامة.
وقرأ ابن هرمز: ﴿إثْر﴾ بكسر الهمزة وسكون الثاء، والجمهور: بفتحهما،
﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من نعوتهم الجليلة ﴿مَثَلُهُمْ﴾؛ أي: وصفهم العجيب الشأن، الجاري من الغرابة مجرى الأمثال، حال كون ذلك المثل مكتوبًا ﴿فِي التَّوْرَاةِ﴾ حال من ﴿مَثَلُهُمْ﴾ والعامل فيه: معنى الإشارة، والتوراة: اسم لكتاب موسى عليه السلام، سمّي بالتوراة؛ لأنه يظهر منه النور والضياء لبني إسرائيل ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ﴾: معطوف على ﴿مَثَلُهُمْ﴾ الأول، كأنه قيل: ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل، وتكرير ﴿مَثَلُهُمْ﴾؛ لتأكيد غرابته. ، وزيادة تقريرها، والإنجيل: كتاب عيسى عليه السلام، سمّي بالإنجيل؛ لأنّه أظهر الدين بعدما درس؛ أي: عفا رسمه.
ومعنى الآية: أي (١) إنّ محمدًا - ﷺ - رسول الله، بلا شكّ ولا ريب، مهما أنكر المنكرون، وافترى الجاحدون، وإنّ صحابته الذين معه غليظة قلوبهم على الكفار، رقيقة قلوب بعضهم على بعض، ليّنة أنفسهم لهم، هيّنة عليهم، تراهم دائبين على الصلاة، مخلصين لله، محتسبين فيها الأجر وجزيل الثواب عنده، طالبين رضاه عنهم، لهم سمت حسن، وخشوع وخضوع يظهر أثره على الوجوه، ومن ثمّ قيل: إنّ للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وسعةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الناس.
والخلاصة: أنّ كل ما يفعله المرء، أو يتصوَّره، يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سيرته وسريرته صحيحة مع الله.. أصلح الله عزّ وجلّ ظاهره للناس، ثمّ أخبر سبحانه: أنه نوَّه بفضلهم في الكتب المنزّلة، والأخبار المتداولة، فقال: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾؛ أي: هذه الصفة التي وصفت لكم من صفات أتباع محمد - ﷺ -، هي صفتهم في التوراة، وصفتهم في الإنجيل: ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ...﴾ إلخ، تمثيل مستأنف (٢)؛ أي: هم كزرع أخرج أفراخه؛
(٢) روح البيان.
وقال الفرّاء: قوله: ﴿كَزَرْعٍ﴾ فيه وجهان: إن شئت.. قلت: ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل؛ يعني: كمثلهم في القرآن، فيكون الوقف على الإنجيل، وإن شئت.. قلت: ذلك مثلهم في التوراة، ثم تبتدىء: ومثلهم في الإنجيل كزرع، وعلى هذا فيكون ﴿كَزَرْعٍ﴾: خبرًا عن قوله: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ﴾. قال قتادة: مثل أصحاب النبيّ - ﷺ - في الإنجيل مكتوب: أنه سيخرج من أمة محمد - ﷺ - قوم ينبتون نباتًا كالزرع، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.
قال ابن عطية: قوله: ﴿كَزَرْعٍ﴾: هو على كل الأقوال، وفي أيّ كتابٍ أنزل، فرض مثل للنبي - ﷺ - وأصحابه، في أنَّ النبيَّ - ﷺ - بعث وحده، فكان كالزرع حبّةً واحدةً، ثم كثر المسلمون، فهو كالشطأ: وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل. انتهى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿شَطْأَهُ﴾ بإسكان الطاء وبالهمزة، وقرأ ابن كثير وابن ذكوان: بفتهما، وكذلك وبالمدّ أبو حيوة وابن أبي عبلة وعيسى الكوفي، وقرأ أنس وزيد بن عليّ ونصر بن عاصم ويحيى بن وثاب: ﴿شطاه﴾ كعصاه، فاحتمل أن يكون مقصورًا، وأن يكون أصله الهمزة، فنقل الحركة وأبدل الهمزة ألفًا، كما قالوا في المرأة والكمأة: المراه والكماه، وهو تخفيف مقيس عند الكوفيين، وهو عند البصريين شاذٌّ لا يقاس عليه، وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق: ﴿شَطَه﴾
﴿فَآزَرَهُ﴾؛ أي: فقوّاه وأعانه وشدّه، قال الإِمام النسفيّ: (١) الضمير المستتر في ﴿آزره﴾: يعود على الشطأ، والبارز على الزرع؛ أي: فقوّى الشطأ أصل الزرع بالتفافه عليه وتكاثفه، وهو من الموازرة بمعنى المعاونة، فيكون وزن آزر فاعل، من الأزر: وهو القوّة. وخطَّأه أبو حيان لأنّه لم يسمع في مضارعه إلا يؤزر على وزن يكرم، أو من الإيزار: وهي الإعانة، فيكون وزنه أفعل، وهو الظاهر؛ لأنه لم يسمع في مضارعه يوازر.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَآزَرَهُ﴾ على وزن أفعله، وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس: ﴿فَأزَرَهُ﴾ بالقصر ثلاثيًا، وقرىء: ﴿فأزّره﴾ بتشديد الزاي.
﴿فَاسْتَغْلَظَ﴾ ذلك الزرع؛ أي: صار ذلك الزرع الأصل غليظًا، بعد أن كان دقيقًا، فهو من باب استحجر الطين؛ يعني: أنّ السين للتحوّل، فكذلك أصحاب رسول الله - ﷺ -، كانوا أقلّة ضعفاء، فلمّا كثروا، وتقوّوا.. قاتلوا المشركين ﴿فَاسْتَوَى﴾ ذلك الزرع، واستقام ﴿عَلَى سُوقِهِ﴾؛ أي: تمّ نباته على سوقه؛ أي: على أصوله، سوق جمع ساق، ساق: أصل الزرع، وساق فروعه.
وقرأ ابن كثير وقنبل: ﴿سؤقه﴾ بالهمزة الساكنة، قيل: وهي لغة ضعيفة يهمزون الواو التي قبلها ضمة، ومنه قول الشاعر:
أَحَبُّ الْمُؤْقِدِيْنَ إِليَّ مُؤْسَى
ذكره في "البحر".
وقوله: ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾: حال من ﴿زرع﴾؛ أي: حال كون ذلك الزرع
(٢) البحر المحيط.
ثم ذكر سبحانه علّة تكثيره لأصحاب نبيّه - ﷺ -، وتقويته لهم، فقال: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ الغيظ: أشدّ الغضب، وهو علّة لما يعرب عنه الكلام من تشبيههم بالزرع في زكائه واستحكامه؛ أي: كثرهم الله سبحانه، وقوّاهم وجعلهم كالزرع في النماء والقوّة؛ ليغيظ ويغضب بهم مشركي مكة، وسائر كفّار العرب والعجم؛ أي: فعل بهم ذلك؛ ليكونوا غيظًا للكافرين، ومما يغيظ الكفار قول عمر رضي الله عنه لأهل مكة بعدما أسلم: لا نعبد الله سرًّا بعد اليوم.
وقيل: قوله: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾: علّة لما بعده من قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فرائضها وسننها، و ﴿من﴾، في قوله: ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من أصحاب محمد - ﷺ -، للبيان؛ أي: لبيان الجنس كلّهم، كما في قوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ فلا حجَّة فيه للطاعنين في الأصحاب؛ وإن كلّهم مؤمنون، وقيل: الضمير للكفار فمن للتبعيض. ﴿مَغْفِرَةً﴾ لذنوبهم ﴿وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ وثوابًا جزيلًا؛ أي: وعد الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين مع محمد - ﷺ -، أن يغفر ذنوبهم، ويجزل أجرهم، بإدخالهم الجنة التي هي أكبر نعمة، وأعظم منّة؛ ليغيظ بهم الكفار، فإنّ الكفار (٢) إذا سمعوا بما أعدّ للمؤمنين في الآخرة، مع ما لهم في الدنيا من العزّة.. غاظهم ذلك أشدّ الغيظ، والأول: أولى.
يقول الفقير: نظر الكفار مقصور على ما في الدنيا مما يتنافس فيه ويتحاسد، وكيف لا يغيظهم ما أعدّ للمؤمنين في الآخرة وليسوا بمؤمنين باليوم الآخر؟!
(٢) روح البيان.
روى مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا.. ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" رضي الله عنهم وأرضاهم.
تنبيه: هذه أوصاف الأمة الإِسلامية أيّام عزّها، فانظر الآن، وتأمّل في تخاذلها وجهلها، حتى أصبحت مثلًا في الخمول والجهل، وأصبحت زرعًا هشيمًا تذروه الرياح، فكيف يجتمع عصفه وتبنه؟! ولعل الله يبدل الحال غير الحال، ويخضر الزرع بعد ذبوله، وتعود الأمة سيرتها الأولى، مهيبة مرعية الجانب، مخشية القوة.
الإعراب
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (١٨) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٩)﴾.
﴿لَقَدْ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿رَضِيَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة. ﴿عَنِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: متعلق بـ ﴿رَضِيَ﴾. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ ﴿رَضِيَ﴾. ﴿يُبَايِعُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به مرفوع يثبات النون، وأتى بصيغة المضارع؛ لاستحضار صورة المبايعة، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾: متعلق بـ ﴿يُبَايِعُونَكَ﴾، ﴿فَعَلِمَ﴾
﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢٠) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢١)﴾.
﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ﴾: فعل ماض ومفعول أول وفاعل. ﴿مَغَانِمَ﴾: مفعول ثانٍ، ﴿كَثِيرَةً﴾: صفة لـ ﴿مَغَانِمَ﴾، وجملة ﴿تَأْخُذُونَهَا﴾: صفة ثانية لـ ﴿مَغَانِمَ﴾، وجملة ﴿وَعَدَكُمُ﴾: مستأنفة على طريق الالتفات. ﴿فَعَجَّلَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿عَجَّلَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾، ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿عَجَّلَ﴾. ﴿هَذِهِ﴾: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة ﴿وَعَدَكُمُ﴾. ﴿وَكَفَّ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿أَيْدِيَ النَّاسِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة: معطوفة على جملة ﴿عَجَّلَ﴾. ﴿عَنْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿كَفَّ﴾، ﴿وَلِتَكُونَ﴾ ﴿الواو﴾: مقحمة عند الكوفين، وعاطفة على مقدر عند البصريين، تقديره: وكفّ أيدي الناس عنكم لتشكروه. ﴿وَلِتَكُونَ﴾ و ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿تكون﴾: فعل مضارع ناقص، منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، واسمها: ضمير مستتر يعود على خصلة الكفّ لأيدي الناس، ﴿آيَةً﴾: خبرها، ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾: صفة لـ ﴿آيَةً﴾، وجملة ﴿تكون﴾ مع أن المضمرة: في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من الجملة المحذوفة،
﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٢٣)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿لو﴾: حرف شرط، ﴿قَاتَلَكُمُ﴾: فعل ومفعول به. ﴿الَّذِينَ﴾: فاعل، والجملة: فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿لَوَلَّوُا﴾ ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾ ﴿وَلَّوُا﴾: فعل وفاعل. ﴿الْأَدْبَارَ﴾: مفعول به، والجملة: جواب ﴿لو﴾ الشرطية، وجملة ﴿لو﴾ مستأنفة. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف، ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَجِدُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على جواب ﴿لو﴾، ﴿وَلِيًّا﴾: مفعول به. ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾: معطوف عليه، ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف، تقديره: سنّ الله سبحانه غلبة أنبيائه سنّته التي قد خلت، والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿الَّتِي﴾: صفة لـ ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾، ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق، ﴿خَلَتْ﴾. فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَتْ﴾، والجملة: صلة الموصول. ﴿وَلَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَنْ﴾: حرف نفي ونصب واستقبال. ﴿تَجِدَ﴾ فعل مضارع وفاعل مستر يعود على محمد، أو على أيّ مخاطب. ﴿لِسُنَّةِ اللَّهِ﴾:
﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾.
﴿وَهُوَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. ﴿كَفَّ أَيْدِيَهُمْ﴾: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهِ﴾، ﴿عَنْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿كَفَّ﴾، والجملة: صلة الموصول. ﴿وَأَيْدِيَكُمْ﴾: معطوف على ﴿أَيْدِيَهُمْ﴾. ﴿عَنْهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿كَفَّ﴾. ﴿بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ضمير ﴿عَنْهُمْ﴾؛ أي: حال كونهم كائنين ببطن مكة. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كَفَّ﴾، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿أَظْفَرَكُمْ﴾: فعل ماض ومفعول به وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾، في محل النصب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَظْفَرَ﴾، والجملة الفعلية مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية: في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من بعد إظفاره إياكم عليهم. ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾: متعلق بـ ﴿بَصِيرًا﴾، و ﴿بَصِيرًا﴾: خبره، وجملة ﴿كَانَ﴾: مستأنفة. ﴿هُمُ الَّذِينَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول، ﴿وَصَدُّوكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿كَفَرُوا﴾، ﴿عَنِ الْمَسْجِدِ﴾: متعلق بـ ﴿صَدُّوكُمْ﴾ ﴿الْحَرَامِ﴾: صفة لـ ﴿الْمَسْجِدِ﴾. ﴿وَالْهَدْيَ﴾: معطوف على الضمير المنصوب في ﴿صَدُّوكُمْ﴾. وهو ﴿الكاف﴾؛ أي: وصدّوا الهدي، ويجوز أن يكون مفعولًا معه، و ﴿الواو﴾: للمعية. ﴿مَعْكُوفًا﴾: حال من ﴿الْهَدْيَ﴾. ﴿أَن﴾: حرف نصب. ﴿يَبْلُغَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿الْهَدْيَ﴾، ﴿مَحِلَّهُ﴾: منصوب على الظرفية المكانية، متعلق بـ ﴿يَبْلُغَ﴾، والجملة الفعلية مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية: في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، تقديره: وصدّوا الهدي بلوغه محلّه؛ أي:
﴿لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
﴿لِيُدْخِلَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يُدْخِلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، ﴿فِي رَحْمَتِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُدْخِلَ﴾ ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾: صلته، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾، تقديره: لإدخال الله في رحمته من يشاء، الجار والمجرور: متعلق بمحذوف، دل عليه جواب ﴿لولا﴾ المقدّر، تقديره: ولكن كفّكم عنهم لإدخال الله في رحمته من يشاء. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غيبر جازم. ﴿تَزَيَّلُوا﴾: فعل ماض وفاعل، والجملة: فعل شرط لـ
﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٢٦)﴾.
﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ ﴿عَذَّبْنَا﴾ أو بـ ﴿صدوكم﴾ أو بمحذوف، تقديره: واذكر إذ جعل الذين كفروا، والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿جَعَلَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿كَفَرُوا﴾ من فعل وفاعل والجملة صلة الموصول ﴿فِي قُلُوبِهِمُ﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾ إن كان بمعنى ألقى أو بمحذوف: مفعول ثان لـ ﴿جَعَلَ﴾ إن كان بمعنى صيّر، كما مر. ﴿الْحَمِيَّةَ﴾: مفعول به لـ ﴿جَعَلَ﴾ أو مفعول أول له، ﴿حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ بدل من ﴿الْحَمِيَّةَ﴾: بدل كل من كل. ﴿فَأَنْزَلَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، ﴿سَكِينَتَهُ﴾: مفعول به لـ ﴿أَنْزَلَ﴾، ﴿عَلَى رَسُولِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾، ﴿وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾: معطوف على قوله: ﴿عَلَى رَسُولِهِ﴾، والجملة الفعلية: معطوفة على محذوف معلوم من السياق، والتقدير: فهمّ المسلمون مخالفة الرسول في أمر الصلح، فأنزل الله سكينته عليهم، والجملة المحذوفة: معطوفة على جملة ﴿جَعَلَ﴾. ﴿وَأَلْزَمَهُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾ ومفعول أول معطوف على ﴿أَنْزَلَ﴾. ﴿كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾: مفعول ثان. ﴿وَكَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿أَحَقَّ﴾: خبره. ﴿بِهَا﴾: متعلق بـ ﴿أَحَقَّ﴾. ﴿وَأَهْلَهَا﴾: معطوف على ﴿أَحَقَّ﴾: عطف تفسيبر، وجملة ﴿كَانَ﴾: معطوفة على جملة ﴿أَلْزَمَهُمْ﴾. ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿عَلِيمًا﴾. و ﴿عَلِيمًا﴾: خبره، وجملة ﴿كَانَ﴾: مستأنفة.
﴿لَقَدْ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿صَدَقَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: جواب القسم، وجملة القسم: مستأنفة. ﴿رَسُولَهُ﴾: مفعول به. ﴿الرُّؤْيَا﴾: منصوب بنزع الخافض؛ أي: في رؤياه؛ أي: جعله صادقًا في رؤياه. ﴿بِالْحَقِّ﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: صدقًا متلبسًا بالحق، أو حال من الرؤيا؛ أي: حالة كونها متلبسةً بالحق. ﴿لَتَدْخُلُنَّ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿تَدْخُلُنَّ﴾: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه: ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، و ﴿الواو﴾ المحذوفة، لالتقاء الساكنين: في محل الرفع فاعل. ﴿الْمَسْجِدَ﴾: مفعول به على السعة. ﴿الْحَرَامَ﴾: صفة له، والجملة الفعلية: جواب القسم، وجملة القسم: مقول لقول محذوف، تقديره: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، حيث قال الرسول: لتدخلنّ المسجد الحرام. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿شَاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، وهو فعل شرط لـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية، وجوابها: معلوم مما قبلها؛ أي: إن شاء الله.. لتدخلن المسجد الحرام، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية: معترضة. ﴿آمِنِينَ﴾: حال من فاعل ﴿تَدْخُلُنَّ﴾، ﴿مُحَلِّقِينَ﴾: حال ثانية متداخلة. ﴿رُءُوسَكُمْ﴾: مفعول به لـ ﴿مُحَلِّقِينَ﴾، ﴿وَمُقَصِّرِينَ﴾: معطوف على ﴿مُحَلِّقِينَ﴾، وجملة ﴿لَا تَخَافُونَ﴾: مستأنفة، أو حال من فاعل ﴿لَتَدْخُلُنَّ﴾ أو من الضمير في ﴿آمِنِينَ﴾ أو في ﴿مُحَلِّقِينَ﴾. ﴿فَعَلِمَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿علم﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة: معطوفة على ﴿صَدَقَ﴾، وجملة ﴿لَمْ تَعْلَمُوا﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ما لم تعلموه. ﴿فَجَعَلَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾ معطوف على ﴿عَلِمَ﴾، ﴿مِنْ دُونِ ذَلِكَ﴾؛ متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾ ﴿فَتْحًا﴾: مفعول به. ﴿قَرِيبًا﴾ صفة ﴿فَتْحًا﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾ مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. ﴿أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة: صلة الموصول. ﴿بِالْهُدَى﴾: حال من ﴿رَسُولَهُ﴾؛ أي: حال كونه متلبسًا بالهدى. ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾: معطوف على ﴿الْهُدَى﴾، ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ ﴿اللام﴾: لام كي، ﴿يُظْهِرَهُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾ ومفعول به. ﴿عَلَى الدِّينِ﴾: متعلق بـ ﴿يُظْهِرَهُ﴾. ﴿كُلِّهِ﴾: توكيد لـ ﴿الدِّينِ﴾، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإظهاره دين الحق على الدين كلّه، الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿أَرْسَلَ﴾. ﴿وَكَفَى﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كَفَى﴾: فعل ماض. ﴿بِاللَّهِ﴾: فاعل و ﴿الباء﴾: زائدة. ﴿شَهِيدًا﴾: تمييز، والجملة: مستأنفة، مسوقة للتعجب.
﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ﴾.
﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. ﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿مَعَهُ﴾: متعلق بمحذوف صلة الموصول. ﴿أَشِدَّاءُ﴾: خبر. ﴿عَلَى الْكُفَّارِ﴾: متعلق به. ﴿رُحَمَاءُ﴾: خبر ثان. ﴿بَيْنَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿رُحَمَاءُ﴾، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة قوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾. ﴿تَرَاهُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على من يصلح للخطاب، و ﴿الهاء﴾: ضمير الغائبين مفعول به. ﴿رُكَّعًا سُجَّدًا﴾: حالان من مفعول ﴿تَرَاهُمْ﴾؛ لأنّ الرؤية هنا بصرية، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ثالث للموصول أو مستأنفة. ﴿يَبْتَغُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿فَضْلًا﴾: مفعول به. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَبْتَغُونَ﴾، ﴿وَرِضْوَانًا﴾: معطوف على ﴿فَضْلًا﴾، والجملة الفعلية: مستأنفة، واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا يريدون بركوعهم وسجودهم؛ فقيل: ﴿يَبْتَغُونَ﴾.. إلخ. ﴿سِيمَاهُمْ﴾: مبتدأ. ﴿فِي وُجُوهِهِمْ﴾ خبر. ﴿مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾: حال من الضمير المستكن في الخبر الظرفيّ؛ أي: سيماهم
﴿فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾.
﴿فَاسْتَغْلَظَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿اسْتَغْلَظَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الزرع، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة ﴿آزَرَهُ﴾. ﴿فَاسْتَوَى﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿اسْتَوَى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الزرع، والجملة: معطوفة على جملة ﴿اسْتَغْلَظَ﴾. ﴿عَلَى سُوقِهِ﴾: متعلق بـ ﴿اسْتَوَى﴾ أو حال من فاعله؛ أي: كائنًا على سوقه، قائمًا عليها. ﴿يُعْجِبُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الزرع، ﴿الزُّرَّاعَ﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿اسْتَوَى﴾: أي: حال كون ذلك الزرع المستوي معجبًا الزرّاع. ﴿لِيَغِيظَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جرف وتعليل. ﴿يَغِيظَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿بِهِمُ﴾: متعلق به. ﴿الْكُفَّارَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور: متعلق بمعلول محذوف، تقديره: كثرهم الله تعالى، وقوّاهم كالزرع المذكور، لإغاظته الكفار بهم، والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: مستأنفة. وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾:
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ﴾ الرضا: ما يقابل السخط، يقال: رضي عنه، ورضي به، ورضيته، ورضي الله عن العبد: هو أن يراه مؤتمرًا لأمره، منتهيًا عن نهيه، وأصله: رضو، قلبت الواو ياءً لتطرفها إثر كسرة، والمراد بالمؤمنين: أهل الحديبية، ورضاه عنهم؛ لمبايعتهم رسول الله - ﷺ -.
﴿إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ والشجرة: واحد الشجر، والشجر من النبت: ما له ساق، والمراد بالشجرة: السمرة؛ أي: أمّ غيلان، وهي كثيرة في بوادي الحجاز، وقيل: السدرة.
﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: من الصدق والإخلاص في المبايعة.
﴿فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ السكينة: الطمأنينة والأمن وسكون النفس.
﴿وَأَثَابَهُمْ﴾ أصله: أثوبهم، بوزن أفعل نقلت حركة الواو إلى الثاء فسكّنت، لكنها أبدلت ألفًا لتحوكها في الأصل وانفتاح ما قبلها في الحال، والثواب: ما يرجع إلى الإنسان من جزاء عمله، يستعمل في الخير والشر، لكن الأكثر المتعارف في الخير، والإثابة تستعمل في المحبوب، وقد قيل ذلك في المكروه، نحو: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾ على طريق الاستعارة.
﴿فَتْحًا قَرِيبًا﴾ هو فتح خيبر بعد انصرافهم من الحديبية.
﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً﴾ هي مغانم خيبر، وكانت خيبر أرضًا ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله - ﷺ - بين المقاتلة، فأعطي الفارس سهمين، والراجل سهمًا واحدًا.
﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ﴾؛ أي: أيدي أهل خيبر، وهم سبعون ألفًا، وحلفاؤهم من بني أسد وغطفان، حيث جاءوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم
﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ وهي ما وعد به المؤمنون إلى يوم القيامة.
﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾؛ أي: مغانم خيبر.
﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ﴾؛ أي: أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول منها إلى الحديبية.
﴿وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: أمارة للمؤمنين يعرفون بها.
١ - وصدق الرسول - ﷺ -.
٢ - حياطة الله لرسوله - ﷺ - وللمؤمنين، وحراسته لهم في مشهدهم ومغيبهم.
٣ - معرفة المؤمنين الذين سيأتون بعد: أنَّ كلاءته تعالى ستعمهم أيضًا ما داموا على الجادّة الصراط المستقيم، وهي الثقة بالله تعالى، والتوكّل عليه فيما يأتون ويذرون.
﴿وَأُخْرَى﴾؛ أي: مغانم أخرى: هي مغانم فارس والروم.
﴿أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا﴾؛ أي: أعدّها لكم، وهي تحت قبضته يظهر عليها من أراد.
﴿لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ﴾؛ أي: لانهزموا، فإنّ تولية الأدبار كناية عن الانهزام، أصله: لوليو، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، والأدبار جمع دبر، ودبر الشيء: خلاف القبل: كالظهر والخلف.
﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ والنصير: المعين والمساعد.
﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾؛ أي: سنَّ سبحانه وتعالى غلبة أنبيائه على أعدائه، سنّةً قديمةً فيمن مضى وخلا من الأمم.
﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ من الظفر: وهو الفوز، وأصله: من ظفر؛ أي: نشب ظفره.
﴿وَالْهَدْيَ﴾ بسكون الدال: جمع هدية، كتمر وتمرة، وجدي وجدية، وهو ما يقدم قربانًا لله تعالى من النعم حين أداء مناسك الحج أو العمرة، كما مرّ، يقال: أهديت له، وأهديت إليه، وحكي ابن خالويه فيه ثلاث لغات؛ الهدي بسكون الدال: وهي الشهيرة لغة قريش، والهديّ بكسر الدال، وتشديد الياء: جمع هديّة، والهداء بالمدّ.
﴿مَعْكُوفًا﴾؛ أي: محبوسًا، يقال: عكفت الرجل عن حاجته: إذا حبسته عنها، وأنكر الفارسيّ تعدية عكف بنفسه، وأثبتها ابن سيده والأزهري وغيرهما، وهو ظاهر القرآن لبناء اسم المفعول منه. اهـ "سمين". وفي "المختار": عكفه حبسه ووقفه، وبابه: ضرب ونصر، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا﴾ ومنه الاعتكاف في المسجد: وهو الاحتباس، وعكف على الشيء: أقبل عليه مواظبًا، وبابه: دخل وجلس، قال الله تعالى: ﴿يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ﴾، اهـ.
﴿مَحِلَّهُ﴾ اسم مكان على وزن مفعل بكسر العين، أصله: محلل، نقلت حركة اللام الأولى إلى الحاء فسكنت، فأدغمت في اللام الثانية؛ أي: المكان الذي يسوغ فيه نحوه، وهو مني في حقّ الحاج، والمروة في حق المعتمر.
﴿أَنْ تَطَئُوهُمْ﴾ من الوطء: وهو الدوس، وهو عبارة عن الإيقاع، والإهلاك والإبادة؛ وإن الوطء تحت الأقدام مستلزم للإهلاك.
﴿مَعَرَّةٌ﴾ مفعلة من عرّه: إذا عراه ودعاه بما يكرهه ويشقّ عليه، وفي "المفردات": العرّ: الجرب الذي يعرّ البدن؛ أي: يعترضه، ومنه قيل للمضرّة:
﴿لَوْ تَزَيَّلُوا﴾ التزيّل: التفرق والتميز، من زاله يزيله فرَّقه، وزيلته فتزيل؛ أي: فرَّقته فتفرق.
﴿فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ﴾ الحمية: الأنفة والتكبر، وهي: مصدر على وزن فعيلة، من حمي من كذا حمتة: إذا أنف منه، وداخله منه عارٌ، وفي "المفردات": عبّر عن القوّة الغضبيّة إذا ثارت وكثرت بالحمية، يقال: حميت على فلان؛ أي: غضبت عليه. انتهى. وذلك لأنّ في الغضب ثوران دم القلب وحرراته وغليانه، وحميّة الجاهلية: حمية في غير موضعها لا يؤيّدها دليل ولا برهان، بل مدارها مطلق المنع، سواء، كان بحق أم بباطل، فتمنع من الإذعان والقبول للحق، ومبناها التشفّي على مقتضى الغضب لغير الله، فتوجب تخطّي حدود الشرع، ولذلك أنفوا من دخول المسلمين مكة المشرفة لزيارة البيت العتيق الذي الناس فيه سواءٌ، وأصل الحميّة: حميية على وزن فعيلة، أدغمت ياء فعيل في ياء لام الكلمة.
﴿كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ التاء فيه مبدلة من واو، والواو مبدلة من ياء، فأصله: وقيا.
﴿أَحَقَّ بِهَا﴾ أصله: أحقق بوزن أفعل، نقلت حركة القاف الأولى إلى الحاء فسكنت، فأدغمت في القاف الثانية.
﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا﴾ هي رؤيا منام وحلم؛ أي: صدقه في رؤياه ولم يكذبه.
﴿مُحَلِّقِينَ﴾ والحلق: العضو المخصوص، وحلقه قطع حلقه، ثم جعل الحلق لقطع الشعر وجزه، فقيل: حلق شعره وحلق رأسه: إذا أزال شعره ﴿وَمُقَصِّرِينَ﴾ والقصر: خلاف الطول، وقصر شعره: جز بعضه.
﴿أَشِدَّاءُ﴾ أصله: أشدداء بوزن أفعلاء، جمع شديد، نقلت حركة الدال الأولى إلى الشين فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية.
﴿رُحَمَاءُ﴾ جمع رحيم. ﴿رُكَّعًا سُجَّدًا﴾: جمع راكع وساجد، كفضل جمع فاضل، وكمل جمع كامل. ﴿سِيمَاهُمْ﴾ فيه ثلاث لغات: السيما والسيماء والسيمياء، وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر، قال الشاعر:
غلَامٌ رَمَاهُ الله بِالْحُسْنِ يَافِعًا | لَهُ سِيْمِيَاءٌ لَا تَشُق عَلَى الْبَصَرْ |
﴿فِي التَّوْرَاةِ﴾ من جوز أن تكون التوراة عربية، يقول: إنما مشتقة من ورى الزند حينما تقدح به النار، فأصل التوراة: تورية بوزن تفعلة، بفتح العين، وأصل تورية وورية؛ لأنه من وري، قلبت الواو الأولى تاءً، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وقيل: أصله تورية بوزن تفعلة، بكسر العين، ثمّ فتحت راؤه توصّلًا لقلب الياء ألفًا.
﴿فِي الْإِنْجِيلِ﴾ من نجل الشيء: إذا أظهره. ﴿كَزَرْعٍ﴾ يقال: زرع كمنع: طرح البذر، وزرع الله: أثبت، والزرع: الولد، والمزروع، والجمع: زروع، وموضعه المزرعة مثلثة الراء. ﴿أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾ وفي "القاموس": الشطء: فراخ النخل والزرع أو ورقه، وشطأ كنمع شطأً وشطوءًا: أخرجها، ومن الشجر: ما خرج حول أصله، والجمع: أشطاء، وأشطأ الزرع، وشطأ: إذا أخرج فراخه، وهو في الحنطة والشعير والنخل وغيرها.
﴿فَآزَرَهُ﴾؛ أي: أعانه وقوّاه، من المؤازرة: وهي المعاونة، فيكون وزن آزر فاعل من الأزر: وهو القوّة أو من الإيزار: وهي الإعانة، فيكون وزنه أفعل؛ وهو
﴿فَاسْتَوَى﴾؛ أي: استقام. ﴿عَلَى سُوقِهِ﴾ جمع ساقٍ؛ أي: على قضبانه وأصوله.
﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ فيه إعلال بالنقل والتسكين، أصله: ليغيظ بوزن يفعل، نقلت حركة الياء إلى الغين فسكنت إثر كسرة فصارت حرف مدّ، من الغيظ، والغيظ: أشدُّ الغضب: وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه، يقال: غاظه يغيظه بوزن باع فاغتاظ، وغيظه فتغيظ وأغاظه وغايظه، كما في "القاموس".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآية ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التعبير بصيغة المضارع في قوله: ﴿إِذْ يُبَايِعُونَكَ﴾ مع كون المقام للماضي لاستحضار صورة المبايعة؛ لأنّها جديرة بالتجسيد لتكون عبرة الأجداد للأحفاد.
ومنها: تكرار المغانم إشعارًا بكثرتها وتنوّعها.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ﴾ لأنّ تولية الأدبار كناية عن الهزيمة لأنّ المنهزم يدبر ظهره لعدوّه للهرب.
ومنها: الالتفات من ضمير الغائب إلى الخطاب، في قوله: ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً﴾ بعد قوله: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ وذلك لتشريف المؤمنين في مقام الامتنان.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿أَنْ تَطَئُوهُمْ﴾؛ لأنّ الوطأ عبارة عن الإهلاك والإبادة، على طريق ذكر الملزوم وإرادة اللازم؛ لأنّ الوطأ تحت الأقدام مستلزم للإهلاك.
ومنها: البلاغات المعنوية في قوله: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ﴾ الآية. قال الإِمام الرازي: ففي هذه الآية لطائف معنوية: وهو أنّه تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن، باين بين الفاعلين، إذ فاعل ﴿جَعَلَ﴾ هو الكافر، وفاعل ﴿أَنْزَلَ﴾ هو الله تعالى، وبين المفعولين، إذ تلك حميّة وهذه سكينة، وبين الإضافتين أضاف الحميّة إلى الجاهلية، وأضاف السكينة إلى الله تعالى، وبين الفعل ﴿جَعَلَ﴾ و ﴿أَنْزَلَ﴾ فالحميّة مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى، والسكينة كالمحفوظة في خزانة الرحمة فأنزلها، والحميّة قبيحة مذمومة في نفسها، وازدادت قبحًا بالإضافة إلى الجاهلية، والسكينة حسنة في نفسها، وازدادت حسنًا بإضافتها إلى الله تعالى، والعطف في ﴿فأنزل﴾ بـ ﴿الفاء﴾ لا بالواو: يدلّ على المقابلة، تقول: أكرمني زيد فأكرمته، فدلّت على المجازاة للمقابلة، ولذلك جعل ﴿فَأَنْزَلَ﴾.
ولمّا كان الرسول - ﷺ - هو الذي أجاب أوّلًا إلى الصلح، وكان المؤمنون عازمين على القتال، وأن لا يرجعوا إلى أهلهم إلا بعد فتح. مكة أو النحر في المنحر، وأبوا إلا أن يكتبوا: محمد رسول الله - ﷺ -، وباسم الله.. قال الله تعالى: ﴿عَلَى رَسُولِهِ﴾ ولمّا سكن هو - ﷺ - للصلح.. سكن المؤمنون، فقال: ﴿وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ ولمّا كان المؤمنون عند الله تعالى.. ألزموا تلك الكلمة قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾. وفيه تلخيص، وهو كلام حسن.
ومنها: أسلوب التكميل في قوله: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾؛ لأنّه لو اكتفى بقوله: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ لربّما أوهم الفظاظة والغلظة فيما بينهم، فكمّل بقوله: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ رفعًا لذلك الوهم، فيكون من أسلوب التكميل.
ومنها: تكرير ﴿مَثَلُهُمْ﴾ لتأكيد غرابته، وزيادة تقريرها.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
خاتمة: قال في "فتح الرحمن": وقد اجتمعت حروف الهجاء التسعة والعشرون في هذه الآية، وهي ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ إلى آخر السورة، أول حرف المعجم فيها ميم من محمد، وآخرها صاد من الصالحات، وتقدّم نظير ذلك في سورة آل عمران في قوله: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا...﴾ الآية، وليس في القرآن آية جمعت فيها حروف المعجم غيرهما، من دعا الله بهما.. استجيب له، وفي ذلك بشارة تلويحيّة مع ما فيها من البشائر التصريحية باجتماع أمرهم، وعلى نصرهم رضي الله عنهم وأحشرنا معهم نحن ووالدينا ومحبّينا، وجميع المسلمين بمنه وكرمه، وهذا آخر القسم الأول من القرآن، وهو المطوّل، وقد ختم كما ترى بسورتين هما في الحقيقة للنبيّ - ﷺ -.
وحاصلهما: الفتح بالسيف والنصر على من قاتله ظاهرًا، كما ختم القسم الثاني المفصل بسورتين هما نصرة له - ﷺ - بالحال على من قصده بالضر باطنًا. اهـ "خطيب".
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - بشارة النبيّ - ﷺ - بالفتح، وإعزاز دين الله تعالى.
٢ - وعد المؤمنين، ووعيد الكافرين والمنافقين.
٣ - ذمّ المخلّفين من عرب أسلم وجهينة ومزينة وغفار.
٤ - رضوان الله على المؤمنين الذين بايعوا رسول الله - ﷺ - تحت الشجرة، ووعده إياهم بالنصر في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.
٥ - البشرى بتحقّق رؤيا رسول الله - ﷺ - أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين، وقد تمّ لهم ذلك في العام المقبل.
٦ - وصف النبي - ﷺ -، والذين آمنوا معه بالرحمة والشدة.
٧ - وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة، والأجر العظيم (١).
والله أعلم
* * *
سورة الحجرات مدنيّة، قال القرطبي: بالإجماع، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس وابن الزبير: أنها نزلت بالمدينة بعد سورة المجادلة، وهي ثماني عشرة آيةً، وثلاث مئة وثلاث وأربعون كلمةً، وألف وأربع مئة وستة وسبعون حرفًا، وكلها محكمة لا ناسخ ولا منسوخ فيها، كما قاله ابن حزم، وسمّيت بالحجرات؛ لذكر لفظ الحجرات فيها.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه (١):
١ - ذكر في هذه قتال البغاة، وفي تلك قتال الكفار.
٢ - أنّ السابقة ختمت بالذين آمنوا، وافتتحت هذه بهم.
٣ - أنّ كلًّا منهما تضمّن تشريفًا وتكريمًا للرسول - ﷺ -، ولا سيما في مطلعيهما.
قال أبو حيان (٢): مناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة؛ لأنه ذكر رسول الله - ﷺ - وأصحابه، ثمّ قال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فربما صدر من مؤمن عمل الصالحات بعض شيء ممّا ينبغي أن يجتنب عنه، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ وكانت عادة العرب وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء، وأن يتكلم كل بما شاء، ويفعل ما أحبّ، فجرى من بعض من لم يتمرن على آداب الشريعة بعض ذلك، قال قتادة: فربّما قال قوم: ينبغي أن يكون كذا لو أنزل في كذا.
(٢) البحر المحيط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨)﴾.قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (١): أنه ذكرت سورة الفتح بعد سورة القتال؛ لأنّ الأولى كالمقدمة، والثانية كالنتيجة، وذكرت هذه بعد الفتح لأنّ الأمّة إذا جاهدت ثم فتح الله عليها، والنبي - ﷺ - بينها، واستتب الأمر.. وجب أن توضع القواعد التي تكون بين النبيّ - ﷺ - وأصحابه، وكيف يعاملونه، وكيف يعامل بعضهم بعضًا، فطلب إليهم أن لا يقطعوا أمرًا دون أن يحكم الله ورسوله به، وأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبيّ - ﷺ -، وأن لا يجهروا له بالقول كما يجهر بعضهم لبعهض، لما في ذلك من الاستخفاف الذي قد يؤدّي إلى الكفر المحيط للأعمال.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمَّا نهى عن رفع أصواتهم فوق صوت النبي - ﷺ -.. أردفه بذمّ الذين ينادون رسول الله - ﷺ - من وراء الحجرات، وهو في بيوت نسائه، كما يفعل أجلاف الأعراب، ثمّ أرشدهم إلى ما فيه الخير والمصلحة لهم في دينهم ودنياهم، وهو أن ينتظروا حتى يخرج إليهم.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذمّ المنادين من وراء الحجرات.. أردفه بتأديب عباده المؤمنين بأدب نافع لهم في دينهم ودنياهم، وهو أنه إذا جاءهم الفاسق المجاهر بترك شعائر الدين بأيّ خبر.. لا يصدّقونه بادىء ذي بدءٍ، حتى يتثبّتوا ويتطلّبوا انكشاف الحقيقة، ولا يعتمدوا على قوله، فإنّ من لا يبالي بالفسق لا يبالي بالكذب الذي هو من فصيلته كراهة أن يصيبوا بأذى قومًا هم جاهلون حالهم، فتندموا على ما فرّط منكم، وتتمنّوا أنه لم يكن قد وقع.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا (٢) حذر المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق.. بيَّن
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ...﴾ مناسبة هذه
الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع الله تعالى، ومع رسوله - ﷺ -، ومع من يخالفهما ويعصيهما، وهو الفاسق.. بيّن ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن، فذكر أنه لا ينبغي أن يسخر منه، ولا أن يعيّبه بالهمز واللمز، ولا أن يلقبه باللقب الذي يتأذى منه، فبئس العمل هذا، ومن لم يتب بعد ارتكابه.. فقد أساء إلى نفسه، وارتكب جرمًا كبيرًا.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه أدّب عباده المؤمنين بآداب، إن تمسّكوا بها.. دامت المودّة والوئام بينهم، منها: ما تقدم قبل هذا، ومنها: ما ذكره هنا من الأمور العظام، التي تزيد توثيق رباط المجتمع الإِسلامي قوَّةً، وهي:
١ - البعد عن سوء الظن بالناس، وتخوينهم في كل ما يقولون ويفعلون؛ لأن بعض ذلك قد يكون إثمًا محضًا، فليجتنب كثير منه، وقد روي عن عمر رضي الله عنه: أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملًا.
٢ - عدم البحث عن عورات الناس ومعايبهم.
٣ - عدم ذكر بعضهم بعضا بما يكرهون في غيبتهم، وقد مثّل الشارع المغتاب بآكل لحم الميتة استفظاعًا له، قال قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا نهى فيما سلف عن السخرية بالناس، والازدراء بهم، وعن اللمز والتنابز بالألقاب.. ذكر هنا ما يؤكّد النهي، ويؤيّد ذلك المنع، فبين أنّ الناس جميعًا من أب واحد وأمّ واحدة، فكيف يسخر الأخ من أخيه، إلى أنه تعالى جعلهم شعوبًا وقبائل مختلفة ليحصل بينهم التعارف والتعاون في مصالحهم المختلفة، ولا فضل لواحد على آخر إلَّا بالتقوى والصلاح وكمال النفس لا بالأمور الدنيويّة الزائلة.
قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا...﴾ إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لمّا حّث (١) الناس على التقوى.. وبّخ من في إيمانه ضعف من الأعراب الذين أظهروا الإِسلام وقلوبهم وغلة؛ لأنّهم كانوا يريدون المغانم، وعرض الدنيا إذ جاؤوا في سنة مجدبة، وكانوا يقولون لرسوله - ﷺ -: جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان؛ يريدون بذكر ذلك: الصدقة والمنّ على النبيّ - ﷺ -، فاطلع الله نبيّه - ﷺ - على مكنون ضمائرهم، وأنهم لم يؤمنوا إيمانًا حقيقيًّا، وهو الذي وافق القلب فيه اللسان، وأمرهم أن يقولوا: استسلمنا وخضعنا.
ثمّ أخبرهم بأنهم إن اتقوا الله حق تقاته.. وفّاهم أجورهم كاملة غير منقوصة.
ثمّ بيّن أنّ من علامة الإيمان الكامل: التضحية بالنفس والمال في سبيل الله، ببذلهما في تقوية دعائم الدين، وإعلاء شأنه، وخضد شوكة العدوّ بكل السبل الممكنة.
ثمّ أعقب هذا: بأن الله يعلم ما هم عليه من إيمان ضعيف أو قويّ، إذ لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وأنه لا ينبغي للمؤمن أن يمتّن على
ثم ختم الآيات بالإخبار عن واسع علمه، وإحاطته بمكنون سرّ خلقه في السموات والأرض، لا يعزب عنه مثقال ذرّة فيهما، وهو البصير بما يعمل عباده من خير أو شرّ.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ الآيتين، سبب نزولهما: ما أخرجه البخاري وغيره (١)، من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة، أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله - ﷺ -، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر رضي الله عنه: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا﴾.
وأخرج ابن المنذر عن الحسن: أنّ أناسًا ذبحوا قبل رسول الله - ﷺ - يوم النحر، فأمرهم أن يعيدوا ذبحًا، فأنزل الله قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...﴾.
وأخرج ابن أبي الدنيا في "كتاب الأضاحي" بلفظ: ذبح رجل قبل الصلاة.. فنزلت.
وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن عائشة: أنّ ناسًا كانوا يتقدّمون الشهر، فيصومون قبل النبيّ - ﷺ -، فأنزل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا...﴾.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن ناسًا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، فأنزل الله: ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...﴾.
وأخرج أيضًا عن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس قال: لما نزلت هذه الآية ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ...﴾ قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي، فمرّ به عاصم بن عديّ بن العجلان، فقال: ما يبكيك؟ قال: هذه الآية، أتخوّف أن تكون نزلت في، وأنا صيّت رفيع الصوت، فرفع عاصم ذلك إلى رسول الله - ﷺ -، فدعا به، فقال: "أما ترضى أن تعيش حميدًا، وتقتل شهيدًا، وتدخل الجنة؟ " قال: رضيت، ولا أرفع صوتي أبدًا على صوت رسول الله - ﷺ -، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ...﴾ الآيتين، سبب نزولهما: ما أخرجه الطبراني وأبو يعلى بسند حسن عن زيد بن أرقم، قال: جاء ناس من العرب إلى حجر رسول الله - ﷺ -، فجعلوا ينادون: يا محمد، يا محمد، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ...﴾ الآية. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: أنّ رجلًا جاء إلى النبي - ﷺ -، فقال: يا محمد إنّ مدحي لزين، وإنّ شتمي لشين، فقال النبيّ - ﷺ -: "ذاك هو الله" فنزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ...﴾ الآية. مرسل له شواهد مرفوعة من حديث البراء، وغيره عند الترمذي بدون نزول الآية، وأخرج ابن جرير نحوه عن الحسن، وأخرج أحمد بسند صحيح عن الأقرع بن حابس: أنه نادى رسول الله - ﷺ - من وراء الحجرات فلم يجبه، فقال: يا محمد إنّ حمدي لزين، وانّ ذمّي لشين، فقال: "ذلك الله". وقال قتادة: نزلت في وفد تميم، وكانوا سبعين رجلًا منهم: الزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب وقيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم، جاؤوا إلى النبيّ - ﷺ - للمفاخرة، فنادوا على الباب: اخرج إلينا يا محمد، فإنّ مدحنا لزين، وإنّ ذمّنا لشين، فخرج إليهم رسول الله - ﷺ - وهو يقول: "إنما ذلكم الله الذي مدحه زين، وذمّه شين" فقالوا: نحن ناس من تميم، جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال رسول الله - ﷺ -: "ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا" فقام
نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيٌّ يُعَادِلُنَا | مِنَّا الْمُلُوْكُ وَفِيْنَا تُنْصَبُ البِيَعُ |
فَلَا تَرَانَا إِلَى حَيٍّ يُفَاخِرُهُمْ | إِلَّا اسْتَفَادُوْا فَكَانُوْا الرَّأْسَ يُقْطَتَعُ |
فَمَنْ يُفَاخِرُنَا فِيْ ذَاكَ نَعْرِفُهُ | فَيَرْجِعُ الْقَوْمُ وَالأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ |
إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ | قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ |
يَرْضَى بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيْرَتُهُ | تَقْوَى الإِلَهِ وَكُلُّ الْخَيْرِ يُصْطَنَعُ |
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرُّوْا عَدُوَّهُمُ | أوْ حَاوَلُوْا النَّفْعَ فِيْ أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوْا |
سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ | إِنَّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا الْبِدَعُ |
فلمّا فرغ حسان من قوله.. قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا الرجل لمؤنَّى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، ثم دنا من رسول الله - ﷺ -، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال رسول الله - ﷺ -: "ما يضرُّك ما كان من قبل هذا" ثم جوزهم فأحسن جوائزهم.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان قد بعثه رسول الله - ﷺ - إلى بني المصطلق ليأخذ الصدقات، فلمَّا أتاهم الخبر.. فرحوا به، وخرجوا يستقبلونه، فلمّا حدث بذلك الوليد.. حسب أنهم جاؤوا لقتاله، فرجع قبل أن يدركوه، وأخبر رسول الله - ﷺ - أنهم منعوا الزكاة، فغضب رسول الله - ﷺ - غضبًا شديدًا، وبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم، إذ أتاه الوفد، فقالوا: يا رسول الله إنّا حدثنا أن
وقال الرازي: هذه الرواية ضعيفة؛ لأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بعيد؛ لأنّه توهم وظن فأخطا، والمخطىء لا يسمى فاسقًا، كيف والفاسق في أكثر المواضع يراد به من خرج من ربقة الإيمان لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾. اهـ.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك: أن النبي - ﷺ - ركب حمارًا وانطلق إلى عبد الله بن أبيّ، فقال: إليك عنّي، فقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحماره أطيب ريحًا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فنزلت: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير عن أبي مالك قال: قال: تلاحى رجلان من المسلمين، فغضب قوم هذا لهذا، وهذا لهذا، فاقتتلوا بالأيدي والنعال، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ...﴾ الآية، روي: أنّ الآية نزلت في وفد تميم، إذ كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب رسول الله - ﷺ -: كعمار وصهيب وبلال وخبّاب وابن فهيرة، وسلمان الفارسي وسالم مولى أبي حذيفة في آخرين غيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، وروي: أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها أتت رسول الله - ﷺ - فقالت: إنّ النساء يقلن لي: يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها: "هلّا قلت: أبي هارون وعمي موسى، وزوجي محمد - ﷺ - ".
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال: زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسيّ، أكل ثم رقد فنفخ، فذكر رجل أكله ورقاده، فنزلت.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه أبو داوود: أنّ هذه الآية نزلت في أبي هند، وكان حجّام النبيّ - ﷺ -، قال: إنّ رسول الله - ﷺ - أمر بني بياضة أنّ يزوّجوا أبا هند امرأة منهم، فقالوا لرسول الله - ﷺ -: نزوّج بناتنا موالينا، فأنزل الله عزّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ...﴾ الآية، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة، قال: لمّا كان يوم الفتح.. رقى بلال على ظهر الكعبة فأذّن، فقال بعض الناس: أهذا العبد الأسود يؤذّن على ظهر الكعبة وقال بعضهم: إن يرد الله شيئًا يغيّره فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى...﴾.
قوله تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا...﴾ سبب نزوله: ما أخرجه الطبراني بسند حسن عن عبد الله بن أبي أوفى: أن ناسًا من العرب قالوا: يا رسول الله، أسلمنا ولم نقاتلك، وقاتلك بنو فلان، فأنزل الله: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا...﴾ الآية، وأخرج البزّار من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله، وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: قدم عشرة نفر من بني أسد على رسول الله - ﷺ - في المسجد مع أصحابه، فسلّموا وقال متكلّمهم: يا رسول الله إنّا شهدنا أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، وجئناك يا رسول الله، ولم تبعث إلينا بعثا، ونحن لمن وراءنا سلم، فأنزل الله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ