وَقَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ حَالَةَ مَنْ لَدَغَتْهُ أَفْعَى:
تَنَاذَرَهَا الرَّاقُونَ مِنْ سُوءِ سَمْعِهَا | تُطْلِقُهُ طَوْرًا وَطَوْرًا تُرَاجِعُ |
وَكَانَ الرَّاقِي يَنْفُثُ عَلَى الْمَرْقِيِّ وَيَتْفُلُ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ التَّاسِعَةِ وَالثَلَاثِينَ بِقَوْلِهِ:
«ثُمَّ إِنَّهُ طَمَسَ الْمَكْتُوبَ على غَفلَة، وَتفعل عَلَيْهِ مِائَةَ تَفْلَةٍ».
وَأَصْلُ الرُّقْيَةِ: مَا وَرِثَهُ الْعَرَبُ مِنْ طَلَبِ الْبَرَكَةِ بِأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، فَأَصْلُهَا وَارِدٌ مِنَ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا سُوءُ الْوَضْعِ عِنْدَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَأَلْحَقُوهَا بِالسِّحْرِ أَوْ بِالطِّبِّ، وَلِذَلِكَ يَخْلِطُونَهَا مِنْ أَقْوَالٍ رُبَّمَا كَانَتْ غَيْرَ مَفْهُومَةٍ، وَمِنْ أَشْيَاءَ كَأَحْجَارٍ أَوْ أَجْزَاءَ مِنْ عَظْمِ الْحَيَوَانِ أَوْ شَعَرِهِ، فَاخْتَلَطَ أَمْرُهَا فِي الْأُمَمِ الْجَاهِلَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْإِسْلَامِ الِاسْتِشْفَاءُ بِالْقُرْآنِ وَالدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ الْمُتَقَبَلَّةِ مِنْ أَرْبَابِهَا وَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الدُّعَاءِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي ظَنَّ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ [الْقِيَامَة:
٥] أَيِ الْإِنْسَانُ الْفَاجِرُ.
وَالظَّنُّ: الْعِلْمُ الْمُقَارِبُ لِلْيَقِينِ، وَضَمِيرُ أَنَّهُ ضَمِيرُ شَأْنٍ، أَيْ وَأَيْقَنَ أَنَّهُ، أَيِ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ الْفِرَاقُ، أَيْ فِرَاقُ الْحَيَاةِ.
وَقَوْلُهُ: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَالْمَعْنَى الْتِفَافُ سَاقَيِ الْمُحْتَضِرِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِذْ تُلَفُّ الْأَكْفَانُ عَلَى سَاقَيْهِ وَيُقْرَنُ بَيْنَهُمَا فِي ثَوْبِ الْكَفَنِ فَكُلُّ سَاقٍ مِنْهُمَا مُلْتَفَّةٌ صُحْبَةَ السَّاقِ الْأُخْرَى، فَالتَّعْرِيفُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهَذَا نِهَايَةُ وَصْفِ الْحَالَةِ الَّتِي تَهَيَّأَ بِهَا لِمَصِيرِهِ إِلَى الْقَبْرِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ مَرَاحِلِ الْآخِرَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَمْثِيلًا فَإِنَّ الْعَرَبَ يَسْتَعْمِلُونَ السَّاقَ مَثَلًا فِي الشِّدَّةِ وَجِدِّ الْأَمْرِ تَمْثِيلًا بِسَاقِ السَّاعِي أَوِ النَّاهِضِ لِعَمَلٍ عَظِيمٍ، يَقُولُونَ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ.
وَأَنْشَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلَ الرَّاجِزِ:
صَبْرًا عَنَاقُ إِنَّهُ لَشِرْبَاقْ | قَدْ سَنَّ لِي قَوْمُكَ ضَرْبَ الْأَعْنَاقِ |
وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقْ
359
وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [٤٢].
فَمَعْنَى وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ طَرَأَتْ مُصِيبَةٌ عَلَى مُصِيبَةٍ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: إِلى رَبِّكَ الْتِفَاتٌ عَنْ طَرِيقِ خِطَابِ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [الْقِيَامَة: ٢٠] لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ حَسُنَ التَّفَنُّنُ فِيهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَساقُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الَّذِي يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِمَا فِيهِمِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِ. وَلَكَ أَنْ تُعَبِّرَ عَنِ اللَّامِ بِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ مَسَاقُ
الْإِنْسَانِ الَّذِي يَسْأَلُ: أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: ٦].
والْمَساقُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِ (سَاقَ)، وَهُوَ تَسْيِيرُ مَاشٍ أَمَامَ مُسَيِّرِهِ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ مُسَيِّرُهُ، وَضِدُّهُ الْقَوْدُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْإِحْضَارِ وَالْإِيصَالِ إِلَى حَيْثُ يَلْقَى جَزَاءَ رَبِّهِ.
وَسُلِكُ فِي الْجُمَلِ الَّتِي بَعْدَ إِذا مَسْلَكُ الْإِطْنَابِ لِتَهْوِيلِ حَالَةِ الِاحْتِضَارِ عَلَى الْكَافِرِ وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يَتَرَاءَى لَهُ مَصِيرُهُ فِي حَالَةِ احْتِضَارِهِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ
حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي
«الصَّحِيحِ» عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ.
قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهُ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ الله لقاءه».
[٣١- ٣٥]
[سُورَة الْقِيَامَة (٧٥) : الْآيَات ٣١ إِلَى ٣٥]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥)
تَفْرِيعٌ على قَوْله: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: ٦].
فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة:
٣] أَيْ لِجَهْلِهِ الْبَعْثَ لَمْ يَسْتَعِدَّ لَهُ.
360
وَحُذِفَ مَفْعُولُ كَذَّبَ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا كَذَّبَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: كَذَّبَ الرَّسُولَ وَالْقُرْآنَ وَبِالْبَعْثِ، وَتَوَلَّى عَنِ الِاسْتِجَابَةِ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاءُ تَفْرِيعًا وَعَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ [الْقِيَامَة:
٣٠]، أَيْ فَقَدْ فَارَقَ الْحَيَاةَ وَسِيقَ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ خَالِيًا مِنَ الْعُدَّةِ لِذَلِكَ اللِّقَاءِ.
وَفِي الْكَلَامِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ: فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ خَسِرَ وَتَنَدَّمَ عَلَى مَا أَضَاعَهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الْفجْر: ٢١- ٢٤].
وَفِعْلُ صَدَّقَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّصْدِيقِ، أَيْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: وَلكِنْ كَذَّبَ.
وَالْمعْنَى: فَلَا ءامن بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرَ صَدَّقَ بِمَعْنَى أَعْطَى الصَّدَقَةَ، وَهُوَ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قِيَاسِ التَّصْرِيفِ إِذْ حَقُّهُ أَنْ يُقَالَ: تَصَدَّقَ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَاعِدُ الِاسْتِدْرَاكَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ كَذَّبَ.
وَعُطِفَ وَلا صَلَّى على نفس التَّصْدِيقِ تَشْوِيهًا لَهُ بِأَنَّ حَالَهُ مُبَائِنُ لِأَحْوَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَالْمَعْنَى: فَلَمْ يُؤْمِنْ وَلَمْ يُسْلِمْ.
وَلَا نَافِيَةٌ دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي وَالْأَكْثَرُ فِي دُخُولِهَا عَلَى الْمَاضِي أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهَا نَفْيٌ آخَرُ وَذَلِكَ حِينَ يَقْصِدُ الْمُتَكَلِّمُ أَمْرَيْنِ مِثْلَ مَا هُنَا وَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
فَلَا هُوَ أَخْفَاهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْكِسَائِيِّ
« (لَا) بِمَعْنَى (لَمْ) وَلَكِنَّهُ يُقْرَنُ بِغَيْرِهِ يَقُولُ الْعَرَبُ: لَا عَبْدُ اللَّهِ خَارِجٌ وَلَا فُلَانٌ، وَلَا يَقُولُونَ: مَرَّرْتُ بِرَجُلٍ لَا مُحْسِنٍ حَتَّى يُقَالَ: وَلَا مُجْمِلٍ» اهـ فَإِذَا لَمْ يُعْطَفْ عَلَيْهِ نَفْيٌ آخَرُ فَلَا يُؤْتَى بَعْدَهَا بِفِعْلِ مُضِيٍّ إِلَّا فِي إِرَادَةِ الدُّعَاءِ نَحْوَ:
«لَا فُضَّ فُوكَ» وَشَذَّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [الْبَلَد: ١١] فَإِنَّهُ عَلَى تَأْوِيلِ تَكْرِيرِ النَّفْيِ لِأَنَّ مَفْعُولَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ بِحَرْفِ لَا وَهُوَ الْعَقَبَةُ يَتَضَمَّنُ عِدَّةَ أَشْيَاءَ مَنْفِيَّةً بَيَّنَهَا قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ
361
إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: ١٢- ١٧]. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ كَانَ الْفِعْلُ فِي تَأْوِيلِ تَكْرِيرِ النَّفْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَكُّ رَقَبَةٍ وَلَا أَطْعَمَ يَتِيمًا وَلَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَلَا آمَنَ.
وَجُمْلَةُ وَلكِنْ كَذَّبَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا صَدَّقَ.
وَحَرْفُ لكِنْ الْمُخَفَّفُ النُّونِ بِالْأَصَالَةِ أَيِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُخَفَّفَ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ أُخْتَ (إِنَّ) هُوَ حَرْفُ اسْتِدْرَاكٍ، أَيْ نَقْضٍ لِبَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهُ إِمَّا لِمُجَرَّدِ تَوْكِيدِ الْمَعْنَى بِذِكْرِ نَقِيضِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الْأَحْزَاب: ٥]، وَإِمَّا لِبَيَانِ إِجْمَالٍ فِي النَّفْيِ الَّذِي قَبْلَهُ نَحْوَ مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ [الْأَحْزَاب: ٤٠].
وَحَرْفُ لكِنْ الْمُخَفَّفُ لَا يَعْمَلُ إِعْرَابًا فَهُوَ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ وَلِذَلِكَ أَكْثَرُ وُقُوعِهِ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ وَجُمْلَةُ وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَفَادَتْ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَوْكِيدُ قَوْلِهِ فَلا
صَدَّقَ بِقَوْلِهِ: كَذَّبَ، وَثَانِيهُمَا زِيَادَةُ بَيَانِ مَعْنَى فَلا صَدَّقَ بِأَنَّهُ تَوَلَّى عَمْدًا لِأَنَّ عَدَمَ التَّصْدِيقِ لَهُ أَحْوَالٌ، وَنَظِيرُهُ فِي غَيْرِ الِاسْتِدْرَاكِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَة: ٣٤].
وَالتَّكْذِيبُ: تَكْذِيبُهُ بِالْبَعْثِ وَبِالْقُرْآنِ وَبِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ عَنْ دَعْوَتِهِ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ.
وَفَاعِلُ صَدَّقَ وَالْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهُ ضَمَائِرُ عَائِدَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ.
ويَتَمَطَّى: يَمْشِي الْمُطَيْطَاءَ (بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الطَّاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ ثُمَّ طَاءٌ مَقْصُورَةٌ وَمَمْدُودَةٌ) وَهِيَ التَّبَخْتُرُ.
وَأَصْلُ يَتَمَطَّى: يَتَمَطَّطُ، أَيْ يَتَمَدَّدُ لِأَنَّ الْمُتَبَخْتِرَ يَمُدُّ خُطَاهُ وَهِيَ مِشْيَةُ الْمُعْجَبِ بِنَفْسِهِ. وَهُنَا انْتَهَى وَصْفُ الْإِنْسَانِ الْمُكَذِّبِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَهْمَلَ الِاسْتِعْدَادَ لِلْآخِرَةِ وَلَمْ يَعْبَأْ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ مُزْدَهِيًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُفَكِّرٍ فِي مَصِيرِهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ جُمْهُورُ الْمُتَأَوِّلِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى
362
نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: ثُمَّ كَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُصَرِّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَتَمَطَّى فَإِنَّهَا كَانَتْ مِشْيَةَ بَنِي مَخْزُومٍ وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يُكْثِرُ مِنْهَا اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ سَيَأْتِي قَرِيبًا.
فَقَوْلُهُ: أَوْلى لَكَ وَعِيدٌ، وَهِيَ كَلِمَةُ تَوَعُّدٍ تَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ فِي لُزُومِ هَذَا اللَّفْظِ لَكِنْ تَلْحَقُهُ عَلَامَاتُ الْخِطَابِ وَالْغَيْبَةِ وَالتَّكَلُّمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: وَيْلٌ لَكَ، مِنْ دُعَاءٍ عَلَى الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ بَعْدَهَا، أَيْ دُعَاءٍ بِأَنْ يَكُونَ الْمَكْرُوهُ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْهُ.
فَأَوْلى: اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنْ وَلِيَ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ عَائِدٌ عَلَى مُقَدَّرٍ مَعْلُومٍ فِي الْعُرْفِ، فَيُقَدِّرُهُ كُلُّ سَامِعٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَكْرُوهِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مَعْنَاهُ: قَارَبَكَ مَا تَكْرَهُ، قَالَتِ الْخَنْسَاءُ:
هَمَمْتُ بِنَفْسِي كُلَّ الْهُمُومِ | فَأَوْلَى لِنَفْسِي أَوْلَى لَهَا |
وَكَانَ الْقَانِصُ إِذَا أَفْلَتَهُ الصَّيْدُ يُخَاطِبُ الصَّيْدَ بِقَوْلِهِ: أَوْلى لَكَ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَوْلى لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فِي سُورَةِ
الْقِتَالِ [٢٠، ٢١] عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ يَجْعَلُ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ مُسْتَأْنَفًا وَلَيْسَ فَاعِلًا لِاسْمِ التَّفْضِيلِ، وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ إِلَى أَنْ أَوْلى عَلَمٌ لِمَعْنَى الْوَيْلِ وَأَنَّ وَزْنَهُ أَفْعَلُ مِنَ الْوَيْلِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، فَأَصْلُ تَصْرِيفِهِ أَوْيَلُ لَكَ، أَيْ أَشَدُّ هَلَاكًا لَكَ فَوَقَعَ فِيهِ الْقَلْبُ (لِطَلَبِ التَّخْفِيفِ) بِأَنْ أُخِّرَتِ الْيَاءُ إِلَى آخَرِ الْكَلِمَةِ وَصَارَ أَوْلَى بِوَزْنِ أَفْلَحَ، فَلَمَّا تَحَرَّكَ حَرْفُ الْعِلَّةِ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهُ قُلِبَ أَلِفًا فَقَالُوا: أَوْلَى فِي صُورَةِ وَزْنِ فَعْلَى.
وَالْكَافُ خِطَابٌ لِلْإِنْسَانِ الْمُصَرِّحِ بِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِطَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِظْهَارًا وَإِضْمَارًا، وَعَدَلَ هُنَا عَنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ لِمُوَاجَهَةِ الْإِنْسَانِ بِالدُّعَاءِ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ أَوْقَعُ فِي التَّوْبِيخِ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: أَوْلَى لَهُ.
وَقَوْلُهُ: فَأَوْلى تَأْكِيد ل أَوْلى لَكَ جِيءَ فِيهِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يُدْعَى عَلَيْهِ بِأَنْ يَعْقُبَهُ الْمَكْرُوهُ وَيُعْقَبَ بِدُعَاءٍ آخَرَ.
363
قَالَ قَتَادَةُ: إِنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاسْتَقْبَلَهُ أَبُو جَهْلٍ عَلَى بَابِ بَنِيَ مَخْزُومٍ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ فَلَبَّبَ أَبَا جَهِلٍ بِثِيَابِهِ وَقَالَ لَهُ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَتَهَدَّدُنِي مُحَمَّدٌ (أَيْ يَسْتَعْمِلُ كَلِمَةَ الدُّعَاءِ فِي إِرَادَة التهديد) فو الله إِنِّي لَأَعَزُّ أَهْلِ الْوَادِي. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
كَمَا قَالَ لِأَبِي جَهْلٍ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى تَأْكِيدٌ لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ وَلِتَأْكِيدِهِ السَّابِقِ.
وَجِيءَ بِحَرْفِ ثُمَّ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ ارْتِقَاءٌ فِي الْوَعِيدِ، وَتَهْدِيدٌ بِأَشَدَّ مِمَّا أَفَادَهُ التهديد الأول وَتَأْكِيدُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: ٣، ٤].
وَأَحْسَبُ أَنَّ الْمُرَادَ: كُلُّ إِنْسَانٍ كَافِرٍ كَمَا يَقْتَضِيهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ إِلَى قَوْلِهِ: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
[الْقِيَامَة: ٣- ١٤]، وَمَا أَبُو جَهْلٍ إِلَّا مِنْ أَوَّلِهِمْ، وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَعَّدَهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَهْدِيدًا لِأَمْثَالِهِ.
وَكَلِمَاتُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ سَبَبَ نُزُولِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ كَلِمَاتٌ فِيهَا تسَامح.
[٣٦]
[سُورَة الْقِيَامَة (٧٥) : آيَة ٣٦]
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَادَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَهُوَ مَا ابْتُدِئَ بِهِ فَارْتَبَطَ بِقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: ٣] فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَيَحْسَبُ أَنْ
لَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ وَيَحْسَبُ أَنْ نَتْرُكَهُ فِي حَالَةِ الْعَدَمِ.
وَزِيدَ هُنَا أَنَّ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ إِيقَاعُهُ بِقَوْلِهِ: أَنْ يُتْرَكَ سُدىً كَمَا سَتَعْلَمُهُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌ مِثْلَ الَّذِي سَبَقَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: ٣].
وَأَصْلُ مَعْنَى التَرْكِ: مُفَارَقَةُ شَيْءٍ شَيْئًا اخْتِيَارًا مِنَ التَّارِكِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى
364
إِهْمَالِ أَحَدٍ شَيْئًا وَعَدَمِ عنايته بأحواله ويتعهده، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ.
وَالْمُرَادُ بِمَا يُتْرَكُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ حَالُ الْعَدَمِ دُونَ إِحْيَاءٍ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: ٣] وَقَوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[الْقِيَامَة: ١٣].
وَعُدِلَ عَنْ بِنَاءِ فِعْلِ يُتْرَكُ لِلْفَاعِلِ فَبُنِيَ لِلنَّائِبِ إِيجَازًا لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ مِنْ قَوْله السَّابِق: أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ نَتْرُكَهُ دُونَ بَعْثٍ وَأَنْ نُهْمِلَ أَعْمَالَهُ سُدًى.
فَجَاءَ ذِكْرُ سُدىً هُنَا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ فِيمَا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ، إِيمَاءً إِلَى أَنْ مُقْتَضَى حِكْمَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَتْرُكَهُ خَالِقُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يُحْيِيهِ لِيُجَازِيَهُ عَلَى مَا عَمِلَهُ فِي حَيَاتِهِ الْأُولَى.
وَفِي إِعَادَةِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ تهيئة لما سيعقب مِنْ دَلِيلِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ مِنْ جَانِبِ الْمَادَّةِ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً [الْقِيَامَة: ٣٧] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ.
فَقَوْلُهُ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً تَكْرِيرٌ وَتَعْدَادٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَى الْكَافرين تكذيبهم بالعبث، أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ وَصْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ عَلَى مَا قَدَّمَ الْإِنْسَانُ وَأَخَّرَ.
وَمَعْنَى هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥].
وسُدىً بِضَم السِّين وبالقصر: اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُهْمَلِ وَيُقَالُ: سُدًى بِفَتْحِ السِّينِ وَالضَّمُّ أَكْثَرُ وَهُوَ اسْمٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ يُقَالُ: إِبِلٌ سُدًى، وَجَمَلٌ سُدًى وَيُشْتَقُّ مِنْهُ فِعْلٌ فَيُقَالُ: أَسْدَى إِبِلَهُ وَأَسْدَيْتُ إِبِلِي، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ.
وَلَمْ يُفَسِّرْ صَاحِبُ
«الْكَشَّافِ» هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَكَذَلِكَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَوَقَعَ سُدىً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُتْرَكَ.
فَإِنَّ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَأَبْدَعَ تَرْكِيبَهُ وَوَهَبَهُ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي لَمْ يُعْطِهَا غَيْرَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ لِيَسْتَعْمِلَهَا فِي مَنَافِعَ لَا تَنْحَصِرُ أَوْ فِي ضِدِّ
365
ذَلِكَ مِنْ مَفَاسِدَ جَسِيمَةٍ، لَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ أَنْ يُهْمِلَهُ مِثْلَ الْحَيَوَانِ فَيَجْعَلَ الصَّالِحِينَ كَالْمُفْسِدِينَ وَالطَّائِعِينَ لِرَبِّهِمْ كَالْمُجْرِمِينَ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الْمُتَمَكِّنُ بِحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَنْ يَجْعَلَ إِلَيْهِ الْمَصِيرَ، فَلَوْ أَهْمَلَهُ لَفَازَ أَهْلُ الْفَسَادِ فِي عَالَمِ الْكَسَادِ، وَلَمْ يُلَاقِ الصَّالِحُونَ مِنْ صَلَاحِهِمْ إِلَّا الْأَنْكَادَ، وَلَا يُنَاسِبُ حِكْمَةَ الْحَكِيمِ إِهْمَالُ النَّاسِ يَهِيمُونَ فِي كل وَادي، وَتَرْكُهُمْ مَضْرِبًا لِقَوْلِ الْمَثَلِ
«فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي».
وَلِذَلِكَ قَالَ فِي جَانِبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: ٣]، أَيْ لَا نُعِيدَ خَلْقَهُ وَنَبْعَثَهُ لِلْجَزَاءِ كَمَا أَبْلَغْنَاهُمْ، وَجَاءَ فِي جَانِبِ حِكْمَتِهِ بِمَا يُشَابِهُ الْأُسْلُوبَ السَّابِقَ فَقَالَ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً مَعَ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً، أَيْ لَا يحْسب أَنه يُتْرَكَ غَيْرَ مَرْعِيٍّ بِالتَّكْلِيفِ كَمَا تُتْرَكُ الْإِبِلُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُجَازَاةَ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّ السُّدَى الَّذِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى اهـ. وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ يُتْرَكَ سُدىً كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَقْصُودٌ مِنْهُ الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَة.
[٣٧- ٤٠]
[سُورَة الْقِيَامَة (٧٥) : الْآيَات ٣٧ إِلَى ٤٠]
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)
اسْتِئْنَافٌ هُوَ عِلَّةٌ وَبَيَانٌ لِلْإِنْكَارِ الْمَسُوقِ لِلِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ [الْقِيَامَة: ٣٦] الَّذِي جعل تكريرا وتأييدا لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ الْآيَةَ، أَيْ أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ مَادَّةٍ ضَعِيفَةٍ وَتَدَرُّجَهُ فِي أَطْوَارِ كِيَانِهِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِنْشَائِهِ إِنْشَاءً ثَانِيًا بَعْدَ تَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ وَاضْمِحْلَالِهَا، فَيَتَّصِلُ مَعْنَى الْكَلَامِ هَكَذَا: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ لَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ وَيَعُدُّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرًا. أَلَمْ نَبْدَأْ خَلْقَهُ إِذْ كَوَّنَاهُ نُطْفَةً ثُمَّ تَطَوَّرَ خَلْقُهُ أَطْوَارًا فَمَاذَا يُعْجِزُنَا أَنْ نُعِيدَ خَلْقَهُ ثَانِيًا كَذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى:
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٤].
وَهَذِهِ الْجُمَلُ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى.
وَهَذَا الْبَيَانُ خَاصٌّ بِأَحَدِ مَعْنَيَيِ التَّرْكِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ تَرْكُهُ دُونَ إِحْيَاءٍ وَأَكْتَفِي
366
بِبَيَانِ هَذَا عَنْ بَيَانِ الْمَعْنَى الْآخَرِ الَّذِي قَيَّدَهُ قَوْله: سُدىً، [الْقِيَامَة: ٣٦] أَيْ تَرْكُهُ بِدُونِ جَزَاءٍ عَلَى أَعْمَالِهِ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِحْيَاءِ أَنْ يُجَازَى عَلَى عَمَلِهِ. وَالْمَعْنَى: أَيَحْسَبُ أَنْ يُتْرَكَ فَانِيًا وَلَا تُجَدَّدَ حَيَاتُهُ.
وَوَقَعَ وَصْفُ سُدىً فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَوْقِعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى لُزُومِ بَعْثِ النَّاسِ مِنْ جَانِبِ الْحِكْمَةِ، وَانْتَقَلَ بَعْدَهُ إِلَى بَيَانِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ مِنْ جَانِبِ الْمَادَّةِ، فَكَانَ وُقُوعُهُ إِدْمَاجًا.
فَالْإِنْسَانُ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ وَطُوِّرَ أَطْوَارًا حَتَّى صَارَ جَسَدًا حَيًّا تَامَّ الْخِلْقَةِ وَالْإِحْسَاسِ فَكَانَ بَعْضُهُ مِنْ صِنْفِ الذُّكُورِ وَبَعْضُهُ مِنْ صِنْفِ الْإِنَاثِ، فَالَّذِي قَدَرَ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ الْبَدِيعِ لَا يُعْجِزُهُ إِعَادَةُ خَلْقِ كُلِّ وَاحِدٍ كَمَا خَلَقَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِحِكْمَةٍ دَقِيقَةٍ وَطَرِيقَةٍ أُخْرَى لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ.
وَالنُّطْفَةُ: الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ سُمِّيَ بِهَا مَاءُ التَّنَاسُلِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِير معنى يُمْنى فَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَعْنَاهُ: تُرَاقُ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ فِعْلَ: مَنَى أَوْ أَمْنَى يُطْلَقُ بِمَعْنَى أَرَاقَ سِوَى أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ فِي تَسْمِيَةِ (مِنَى) الَّتِي بِمَكَّةَ إِنَّهَا سُمِّيَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا تُرَاقُ بِهَا دِمَاءُ الْهَدْيِ، وَلَمْ يُبَيِّنُوا هَلْ هُوَ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ أَوْ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ.
وَأَحْسَبُ هَذَا مِنَ الْتَلْفِيقَاتِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْ طَلَبِهِمْ إِيجَادَ أَصْلٍ لِاشْتِقَاقِ الْأَعْلَامِ وَهُوَ تَكَلُّفٌ صُرَاحٌ، فَاسْمُ (مِنَى) عَلَمٌ مُرْتَجَلٌ، وَقَالَ ثَعْلَبُ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنَى اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، أَيْ قَدَّرَهُ لِأَنَّهَا تُنْحَرُ فِيهَا الْهَدَايَا وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ شُمَيْلٍ وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ تَمَنَّى بِمَعْنَى تُخْلَقُ مِنْ قَوْلِهِمْ مَنَى اللَّهُ الْخَلْقَ، أَيْ خَلَقَهُمْ.
وَالْأَظْهَرُ قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ مُضَارِعُ أَمْنَى الرَّجُلُ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٥٨].
وَالْعَلَقَةُ: الْقِطْعَةُ الصَّغِيرَةُ مِنَ الدَّمِ الْمُتَعَقِّدِ.
وَعُطِفُ فِعْلُ كانَ عَلَقَةً بِحَرْفِ ثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي الْرُتْبِي فَإِنَّ كَوْنَهُ عَلَقَةً
أَعْجَبُ مِنْ كَوْنِهِ نُطْفَةً لِأَنَّهُ صَارَ عَلَقَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَاءً فَاخْتَلَطَ بِمَا تُفْرِزُهُ رَحِمُ الْأُنْثَى مِنَ الْبُوَيْضَاتِ فَكَانَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا عَلَقَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَائِدَةِ التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ [٤٦] مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى.
367
وَلَمَّا كَانَ تَكْوِينُهُ عَلَقَةً هُوَ مَبْدَأَ خَلْقِ الْجِسْمِ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَخَلَقَ بِالْفَاءِ، لِأَنَّ الْعَلَقَةَ يَعْقُبُهَا أَنْ تَصِيرَ مُضْغَةً إِلَى أَنْ يَتِمَّ خَلْقُ الْجَسَدِ وَتُنْفَخَ فِيهِ الرّوح.
وَضمير فَخَلَقَ عَائِدٌ إِلَى رَبِّكَ [الْقِيَامَة: ٣٠]. وَكَذَلِكَ عُطِفَ فَسَوَّى بِالْفَاءِ.
وَالتَّسْوِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ سَوَاءً، أَيْ مُعَدَّلًا مُقَوَّمًا قَالَ تَعَالَى: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [الْبَقَرَة: ٢٩] وَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الْأَعْلَى: ٢]، أَيْ فَجَعَلَهُ جَسَدًا مِنْ عَظْمٍ وَلَحْمٍ. وَمَفْعُولُ (خَلَقَ) وَمَفْعُولُ (سَوَّى) مَحْذُوفَانِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِمَا، أَيْ فَخَلَقَهُ فَسَوَّاهُ. وَعُقِّبَ ذَلِكَ بِخَلْقِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى زَوْجَيْنِ وَمِنْهُمَا يَكُونُ التَّنَاسُلُ أَيْضًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُمْنَى بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِ نُطْفَةً. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَيَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ وَصْفُ مَنِيٍّ.
وَجُمْلَةُ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ لِأَنَّ خَلْقَ جِسْمِ الْإِنْسَانِ مِنْ عَدَمٍ وَهُوَ أَمْرٌ ثَابِتٌ بِضَرُورَةِ الْمُشَاهَدَةِ، أَحَقُّ بِالِاسْتِبْعَادِ مِنْ إِعَادَةِ الْحَيَاةِ إِلَى الْجِسْمِ بَعْدَ الْمَوْتِ سَوَاءٌ بَقِيَ الْجِسْمُ غَيْرَ نَاقِصٍ أَوْ نَقَصَ بَعْضُهُ أَوْ مُعْظَمُهُ فَهُوَ إِلَى بَثِّ الْحَيَاةِ فِيهِ وَإِعَادَةِ مَا فَنِيَ مِنْ أَجْزَائِهِ أَقَرَبُ مِنْ إِيجَادِ الْجِسْمِ مِنْ عَدَمٍ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِلْمَنْفِيِّ إِنْكَارَ تَقْرِيرٍ بِالْإِثْبَاتِ وَهَذَا غَالِبُ اسْتِعْمَالِ الِاسْتِفْهَامِ التقريري أَن يَقع عَلَى نَفْيٍ مَا يُرَادُ إِثْبَاتُهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُقَرَّرِ إِنْ أَرَادَ إِنْكَارًا كِنَايَةً عَنْ ثِقَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْكَارَ.
وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْخِتَامِ بِمُحَسِّنِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، فَإِنَّ السُّورَةَ افْتُتِحَتْ بِإِنْكَارِ أَنْ يَحْسَبَ الْمُشْرِكُونَ اسْتِحَالَةَ الْبَعْثِ، وَتَسَلْسَلَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ بِأَفَانِينَ مِنَ الْإِثْبَاتِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّشْرِيطِ وَالِاسْتِدْلَالِ، إِلَى أَنْ أَفْضَى إِلَى اسْتِنْتَاجِ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الَّذِي قُدِّمَ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَة: ٣، ٤].
وَتَعْمِيمُ الْمَوْتَى فِي قَوْلِهِ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَعْدَ جَرَيَانِ
أُسْلُوبِ الْكَلَامِ عَلَى خُصُوصِ الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ أَوْ خُصُوصِ كَافِرٍ مُعَيَّنٍ، يَجْعَلُ جُمْلَةَ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى تَذْيِيلًا.
368
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
٧٦- سُورَةُ الْإِنْسَانِ
سُمِّيَتْ فِي زَمَنِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«سُورَةُ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ».
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ مِنْ
«صَحِيحِهِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
«كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِ ألم السَّجْدَةِ وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ
[الْإِنْسَانِ: ١].
وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» عَلَى تَسْمِيَةِ هَذِهِ السُّورَةِ
«سُورَةِ الْإِنْسَانِ» عِنْدَ ذِكْرِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي عِدَادِ السُّوَرِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنِ اسْمٍ.
وَتُسَمَّى
«سُورَةَ الدَّهْرِ» فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ.
وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ تُسَمَّى
«سُورَةَ الْأَمْشَاجِ»، لِوُقُوعِ لَفْظِ الْأَمْشَاجِ فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ.
وَذَكَرَ الطُّبَرِسِيُّ: أَنَّهَا تُسَمَّى
«سُورَةَ الْأَبْرَارِ»، لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ نَعِيمِ الْأَبْرَارِ وَذَكَرَهُمْ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلم أره لغيره.
369
فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ لِهَذِهِ السُّورَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِيهَا فَقِيلَ هِيَ مَكِّيَّةٌ، وَقِيلَ مَدَنِيَّةٌ، وَقِيلَ بَعْضُهَا مَكِّيٌّ وَبَعْضُهَا مَدَنِيٌّ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ: هِيَ مَكِّيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ رَتَّبَهَا فِي مُصْحَفِهِ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدٍ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَعَلَى هَذَا اقْتَصَرَ مُعْظَمُ التَّفَاسِيرِ وَنَسَبَهُ الْخَفَاجِيُّ إِلَى الْجُمْهُورِ.
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَان: ٢٤] إِلَى آخِرِهَا، أَوْ قَوْلَهُ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ [الْإِنْسَان: ٢٤]
إِلَخْ. وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلَاءِ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ مِنْ أَيَّةِ سُورَةٍ كَانَتْ تُعَدُّ فِي مَكَّةَ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ سُورَةُ الْإِنْسَانِ بِالْمَدِينَةِ وَهَذَا غَرِيبٌ. وَلَمْ يُعَيِّنُوا أَنَّهُ فِي أَيَّةِ سُورَةٍ كَانَ مَقْرُوءًا.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَإِنَّ أُسْلُوبَهَا وَمَعَانِيَهَا جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَلَا أَحْسَبُ الْبَاعِثَ عَلَى عَدِّهَا فِي الْمَدَنِيِّ إِلَّا مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ آيَةَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الْإِنْسَان:
٨] نَزَلَتْ فِي إِطْعَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالْمَدِينَةِ مِسْكِينًا لَيْلَةً، وَيَتِيمًا أُخْرَى، وَأَسِيرًا أُخْرَى، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ أَسْرَى بِمَكَّةَ حَمْلًا لِلَفْظِ أَسِيرٍ عَلَى مَعْنَى أَسِيرِ الْحَرْبِ، أَوْ مَا رُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي أَبِي الدَّحْدَاحِ وَهُوَ أَنْصَارِيُّ، وَكَثِيرًا مَا حَمَلُوا نُزُولَ الْآيَةِ عَلَى مُثُلٍ تَنْطَبِقُ عَلَيْهَا مَعَانِيهَا فَعَبَّرُوا عَنْهَا بِأَسْبَابِ نُزُولٍ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ.
وَعَدَّهَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ الثَّامِنَةَ وَالتِسْعِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. وَقَالَ: نَزَلَتْ بعد سُورَة الرحمان وَقَبْلَ سُورَةِ الطَّلَاقِ. وَهَذَا جَرْيٌ عَلَى مَا رَآهُ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ.
فَإِذَا كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ أَخْذًا بِتَرْتِيبِ مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَتَكُونُ الثَلَاثِينَ أَوِ الْحَادِيَةَ وَالثَلَاثِينَ وَجَدِيرَةً بِأَنْ تُعَدَّ قَبْلَ سُورَةِ الْقِيَامَةِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي تَرْتِيبِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي بَابِ تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ مِنْ
«سُنَنِهِ» عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
«كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ النَّظَائِرَ السُّورَتَيْنِ وَعَدَّ سُوَرًا فَقَالَ: وهَلْ أَتى وَلَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فِي رَكْعَةٍ»
. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا تَأْلِيفُ ابْنِ مَسْعُودٍ (أَيْ تَأْلِيفُ مُصْحَفِهِ) :
وَاتَّفَقَ الْعَادُّونَ عَلَى عَدِّ آيَهَا إِحْدَى وَثَلَاثِينَ.
370