تفسير سورة القيامة

بيان المعاني
تفسير سورة سورة القيامة من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

تفسير سورة القيامة عدد ٣١- ٧٧
نزلت بمكة بعد القارعة، وهي أربعون آية، ومثلها في عدد الآي سورة النّبإ وهي تسع وتسعون كلمة، وستمائة واثنان وخمسون حرفا، ويوجد سورة البلد مبدوءة بما بدئت به هذه السورة، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ» اتفق أكثر المفسرين عن أن المعنى أقسم لأن العرب تدخل لا على أقسامها فتقول لا والله لا وأبيك، والقرآن نزل بلغتهم، قال امرؤ القيس الكندي:
لا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم اني أفر
ويقولون لا ورب الكعبة، ويريدون وربها وفائدتها التأكيد، ويجوز حذفها في غير القرآن، وما قيل إنها زائدة لا أصل له، فضلا عن ضعفه إذ لا زائد في كتاب الله لأن كل حرف فيه له معنى لا يتأتي الكلام بدونه كاملا، وما استدل من قوله تعالى: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) الآية الأخيرة من سورة الحديد في ج ٣، مردود لأن لها مغزى هناك ستقف عليه عند تفسيرها، فضلا عن أنها وسط الكلمة لا في أولها كهذه وكونها ليست للقسم لتفيد المعنى المطلوب في هذه التي للقسم، فهي هناك نافية، وقد تأتي زائدة في أقوال العرب لضروره الوزن في نظم أشعارهم كقوله:
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد ضمير القلب لا يتقطع
أما في القرآن فلا، وانظر إلى ما قاله الفراء: إن لا هنا ردّ لانكار المشركين البعث المار ذكره في السورة قبلها لأنه مما يناسب تتابع السور، إذ قد يكون غالبا مناسبة بين الأولى والثانية بعدها من كلمة أو جملة مما ينتبه له من له المام بمعاني كتاب الله فكأنه قيل ليس الأمر كما تزعمون من جحود القيامة وعذابها ثم قال أقسم. وقرأ ابن كثير لأقسم بلام التوكيد ولا يرد على هذا القول من قال ان لام التأكيد لا بدّ وأن يصحبها نون التوكيد لأنها تفارقه أحيانا وكلاهما وجيه، وعلى القول بأنها نافية يكون المعنى أقسم بيوم القيامة «وَلا أُقْسِمُ
237
بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ٢»
إلا إعظاما وتفخيما لهما يكون الغرض إجلال القسم به وتبجيله والأول أولى، وهذا كله تحاشيا عن القول بأنها زائدة إذ ما من حرف في القرآن إلا ويؤدي معنى خاصا، واللوامة النفس التي تلوم صاحبها بعد إيقاعه الفعل المنهي عنه الذي حسنته له والتي تقول له دائما لم فعلت ولم لم تفعل وغيرك يفعل؟
مطلب: على الإنسان أن يتفقد حاله:
قال المغيرة بن شعبة: يقولون القيامة، وقيامة أحدهم موته، وهذه القيامة ليست مرادة هنا والله أعلم، وانما هي القيامة الكبرى، لأن سياق الآية يدل عليها ويأبى صرفه لما في قول المغيرة، والأحسن في تفسير اللوامة أن نقول هي التي تلوم صاحبها على مافات منه إن كان خيرا لم لم يزدد منه، وإن كان شرا لم لم يقلع عنه، يدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلم: ما منكم يوم القيامة إلا ندم، إن كان محسنا ندم أن لا ازداد وان كان مسيئا ندم ان لا أقلع، لأن المؤمن لا بد له أن يحاسب نفسه دائما على كل ما يقع منه ويزنه في ميزان الشرع، حتى كلامه المباح وأكله الحلال هل أراد بهما وجه الله والتقوي على طاعته أم لا، وينبغي أن يستحقر أعماله واجتهاده في طاعة الله لأنه كلما رأى نفسه مزدادة فهي مقصرة إذا عقل قوله تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية ٥٦ من سورة الذاريات في ج ٢ والآية عامة، وما قيل إن المراد بها نفس آدم عليه السلام، لأنها لمّا تزل تلومه على ما وقع منه، وفرط به لا دليل له عليه، ولا يوجد ما يؤيده، بل هي شاملة لكل نفس، وجواب القسم محذوف تقديره لتكوننّ القيامة ولتبعثنّ فيها وتحاسبون على ما وقع منكم، بدليل قوله عز قوله «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ» الذي ينكر البعث، ولم يؤمن به جحدا وكفرا «أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ٣» بعد تفرقها وصيرورتها رفاتا، واختلاطها بالتراب ونسفها بالرياح، وبعد أن أكلتها الوحوش والطيور والحيتان، يقول الله تعالى: تستعظم علينا أيها الإنسان هذا كلا لا تستكثره على من خلقك من العدم، «بلى» أيها الكافر نفعل ذلك حالة كوننا «قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ٤» عظام رؤوس أصابعه، وإنما
238
خصّ هذه العظام لأنها قوالب النفوس، ولا يستوي الخلق إلا باستوائها، وخص رؤوس الأصابع لأنها سلامات صغار كثيرة لطيفة، ومهما كانت الدقة فإنه جل شأنه، يعيدها لأماكنها، ويؤلفها كما كانت، فإعادة كبار العظام القوية الظاهرة من باب أولى، لأن القادر على الإبداء إبداعا، قادر على الإعادة اتباعا، وهو قادر عليه، وله المثل الأعلى. فانظر هداك الله قبل رقي علم التشريح، هل يوجد أحد يعلم أن أقوى شيء درّاك في الإنسان هو أنامله، التي هي جواسيس الدماغ وانها أدق جوارح الإنسان وأهمها، وإن البشر عاجز عن تركيبها كما كانت، إذا اعتراها ما يوهنها، وان الخطوط التي في رؤوسها لا يشبه بعضها بعضا أبدا، ولهذا اختاروا التوقيع بها بدلا من الختم لأنه يقلد، وهذه لا تقلد، ولهذا ولأمر لا نعرفه ذكرنا الله بها، واعلم أن للانسان ثلاثمائة وستين مفصلا، كل واحد منها يسمى سلامى، وقال صلّى الله عليه وسلم: كل سلامى من الناس عليه صدقة، وفيه تعدل بين اثنين صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة، رواه البخاري ومسلم، فكما أن الله تعالى تصدق بتلك السلامات على عباده فينبغي للعبد أن يتصدق بما استطاع على سبيل الشكر لله تعالى، على عدد مفاصله التي مكنه منها، وتمكّن بسببها من القبض والبسط والمد، واستخدمها بمنافعه ليدفع عنه حدوث البلاء، لأن الصدقة تدفعه وتزيد في العمر، وتمام الحديث: (كل يوم تطلع فيه الشمس)، أي إن استطاع التصدق كل يوم فليفعل، وفيه وتعين الرجل في دابته فتحمل عليها، وترفع له عليها متاعه صدقة، لأنك إذا لم تفعل ذلك تأخر أخوك المسلم لعدم قدرته بنفسه أن يفعل ذلك، وفيه الكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة أي فمن لم يجد ما ينفق شاكرا على هذا فليفعل ما جاء في هذا الحديث فذلك بمعاملة الصدق بالمال وسبب نزول هذه الآية ان عديا بن ربيعة أو أبا جهل جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال له يا محمد حدثني عن القيامة وكيف أمرها وحالها فأخبره صلّى الله عليه وسلم فقال لو عاينت ذلك لم أصدقك ولم أو من بك فأنزل الله هذه الآية قال تعالى (بَلْ) إضراب وانتقال من معنى لآخر (يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ٥) بأن
239
يقدم قبائحه وإذا كان كذلك فدعه ولا تعنفه، وأنى يسمع منك فيرتدع وينزجر وهو يريد الإدمان على الفجور حالا ومستقبلا ولا يريد أن يتوب أو ينزع هما هو عليه ومعنى الفجور في
الأصل الميل وسمي الكافر فاجرا لميله عن الحق وكذا الفاسق «يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ٦» إلى متى يكون استبعادا له فقل له يا حبيبي يكون ذلك لا محالة «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ٧» شخص عند الموت لما يشاهد من أهواله وعجائبه قال ذو الرمة: ولو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق وقرىء برق بكسر الراء أي دهش من شدة الفزع «وَخَسَفَ الْقَمَرُ ٨» ذهب ضوءه بحيلولة الأرض ما بينه وبين الشمس وكذلك كسوف الشمس يكون بحيلولة الأرض بينهما وبين ما تشرق عليه منها. هذا في الدنيا أما بالآخرة وهو المراد هنا فيذهب ضوءه وضوءها ويسقطان يدل عليه قوله «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ٩» بطلوعهما معا من جهة المغرب وذهاب نورهما ثم يسقطان كسائر الكواكب راجع أول سورة التكوير المارة وللبحث صلة في سورتي الانفطار والانشقاق في ج ٢، وهذا لا يكون بالحيلولة كما يقوله الفلكيون ولا شيء آخر مما يقوله علماء الهيئة حيث تضمحل هناك المعارف والعوارف أما ما قاله الملاحون ان خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر فهو انكار لقدرة الله القادر أن يجعله منخسفا سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس أو لم تكن لأن الأجسام متماثلة فيصح على كل منها ما يصح على الآخر، والله قادر على كل الممكنات والمستحيلات، ومن جملة قدرته إزالة ضوء القمر في كل حال، ولهذا لما كسفت الشمس يوم موت إبراهيم، وقال الناس إنها كسفت لأجله لأنهم يزعمون أنها تنكسف لموت عظيم، أو لأمر عظيم وحادث خطير، قال صلّى الله عليه وسلم: إنهما- أي الشمس والقمر- لا ينكسفان لموت أحد أو حياته، وإنهما آيتان يخوّف الله بهما عباده، الحديث. قال تعالى واصفا ذلك الوقت العصيب الذي يحار فيه اللبيب، ويذهل عنه البعيد والقريب «يَقُولُ الْإِنْسانُ» المكذب لذلك «يَوْمَئِذٍ» يوم وقوع هذه الأشياء «أَيْنَ الْمَفَرُّ» والمهرب والمخلص من هذا فيقال
«كَلَّا» انزجر وارتدع «لا وَزَرَ ١١» لا ملجأ
240
يلجأ إليه ولا واق يقي منه راجع الآية (٢٠) من سورة ابراهيم في ج ٢ تجد ما يتعلق بهذا، واعلم أن الوزر هو الجبل المنيع، وكل ما يتحصّن به ويلجأ إليه.
قال كعب بن مالك:
الناس آلت علينا ليس فيك لنا إلا السيوف وأطراف القنا وزر
وقال الآخر:
لعمرك ما يلقى من وزر من الموت يدركه والكبر
وكانوا إذا فزعوا من شيء يلجأون إلى الجبال ولذلك قال ابن نوح عليه السلام:
(سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) الآية ٤٣ من سورة هود، في ج ٢، فتقدم الله تعالى لهؤلاء بما يقطع أملهم بأن لا شيء هناك يعصبهم من عذاب الله إلا هو، ولهذا قال «إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ١٢»
، أي يكون قرار خلقه يوم فرارهم إليه، وخلاصهم منوط به وحده، لا يشاركه أحد، وهو إما إلى الجنة أو النار لا توسط بينهما، أما أهل الأعراف فسيأتي بيانهم في الآية ٤٦ من سورتهم الآتية، قال تعالى حينذاك «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ»
يوم الحساب والجزاء «بِما قَدَّمَ»
من أعماله الحسنة والسيئة «وَأَخَّرَ ١٣»
من آثاره كسنة حسنة سنّها أو وصية خير أوصى بها أو وقف، أوقفه في دنياه، فيفهم هل أراد به وجه الله تعالى، فإن كان فيوضع في جملة أعماله الصالحة، وإلا فإن كانت النيّة سيئة والوصية لحب المال، أو كراهية بالورثة أو رياء، فيكون في جملة أعماله الطالحة، ومما يعد مؤخر الولد ان كان صالحا انتفع به وإلا لا، ومما يدل على حسن النية وسوئها قوله عز قوله «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ»
وكافة جوارحه «بَصِيرَةٌ ١٤»
شاهد لا يحتاج إلى الإشهاد عليه، فهو يعلم مغزى ما يفعل وما يقدم وما يؤخر، والهاء في بصيرة للمبالغة كعلامة وشهامة فالسمع يشهد بما سمع، والبصر بما ابصر، واليد بما بطشت، والرجل بما مشت، والأنف بما شم، والفم بما ذاق وتكلم، وهكذا فلا يظن انه ينجو إذا كان عمله لغير الله «وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ ١٥»
كلها بأنواعها وأجناسها فلا ينفعه ذلك لأن شاهده من نفسه قال تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ» الآية ٢٤ من ت (١٦)
241
سورة النور في ج ٣ ومثلها في فصلت الآية ٢٢ في ج ٢ وقال تعالى «كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» الآية ١٤ من الإسراء الآتية وانشد الفراء بما يلائم هذا:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة بمجلسه أو منظر هو ناظره
يحاذر حتى يحسب الناس كلهم من الخوف لا يخفى عليه سرائره
وفسر بعضهم المعاذير بالستور وعليه يكون المعنى ولو أرخى ستوره عند ارتكاب المعاصي لئلا يراه أحد فالله يراه وتشهد عليه جوارحه وجاء العذار بمعنى الستر، ومنه سمى الشعر الثابت ما بين الأذن والوجه عذار، ومنه عذار الفرس فانه يستر جزءا من وجهها والأول أولى وأنسب بالمقام، ثم التفت جل شأنه يخاطب رسوله بما يراه يعالجه حين تلقى الوحي فقال «لا تُحَرِّكْ بِهِ»
أي القرآن حينما تتلقاه من جبريل «لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ١٦»
وتسيء تلاوته على اثر فراغك من سماعه لتوقره في صدرك خشية نسيأنه كلا لا تخف هذا «إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ»
وإثباته في لبّك الآن وفي المصاحف بعد، حتى لا يفلت منه حرف «وَقُرْآنَهُ ١٧»
وعلينا وبكفالتنا قراءته بلسانك على قومك وان يقرأه من بعدك الى قرب أن نرث الأرض ومن عليها «فَإِذا قَرَأْناهُ»
عليك يا حبيبي بواسطة أميننا جبريل «فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ١٨»
قراءته واستمع لها وأنصت فهذا الذي عليك «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ١٩» لك وان كان صلّى الله عليه وسلم في بدء الوحي يحفظ ما ينزل عليه، الخمس آيات والأقل والأكثر ولما حمي الوحي احتاج إلى شدة اجتهاد به حرصا على ان لا ينسى منه شيئا، وكان لشدة حرصه على وحي ربه حال سماعه يتلوه اثر سماعه وإذا أشكل عليه شيء سأل جبريل عنه فقال له ربه لا تتعب نفسك بشيء تكفلنا لك بحفظه وبيان ما فيه من أحكام وحلال وحرام، هذا (وقرآنه) في الآيتين بمعنى القراءة وهي لغة معروفة عند العرب قال
ضحوا بأشمط غوان السجود له يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
أي قراءة. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال كان صلّى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة فكان مما يحرك شفتيه. قال ابن جبير قال ابن عباس أنا أحركهما كما كان صلّى الله عليه وسلم يحرك شفتيه فحرك شفتيه فأنزل الله هذه الآية، وكان بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق قرأه
242
كما قرأه. وفي رواية كما وعده الله، ورواه البغوي من طريق البخاري بزيادة يحرك لسانه وشفتيه بشدة وكان يعرف منه. وفيه فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده.
لذلك فإن هذه الآية كالمعترضة بين ما قبلها وما بعدها كما ترى «كَلَّا» حقا انكم لا تميلون إلى الآجلة «بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ٢٠» الفانية فتنهكون فيها
«وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ٢١» الباقية فلا تلتفتون إليها وكان الأحرى بكم العكس «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ» يوم تكون الآخرة التي اخترتم الدنيا عليها «ناضِرَةٌ ٢٢» حسنة ناعمة جميلة مضيئة مسرورة بما رأت «إِلى رَبِّها» في جنته العالية «ناظِرَةٌ ٢٣» مبصرة مشاهدة عيانا بلا حجاب ولا كيفية ولا كمية ولا ثبوت جهة أو مسافة. قال في بدء الأمالي:
يراه المؤمنون بغير كيف وادراك وضرب من مثال
فينسون النعيم إذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال
ومن قال ان ناظرة بمعنى منتظرة، فقد أخطأ لأن العرب لا تقول نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته بل تقول نظرت فلانا أي انتظرته قال الحطيئة:
وقد نظرتكم أعشاء صادرة للورد طال بها حوري وتنساسي
وعليه إذا قلت نظرت إليه فلا يكون إلا بالعين، أما إذا قلت نظر بالأمر احتمل معنى تفكر وتدبر بعقله ولأن الوجه إذا وصف بالنظر لا يحتمل غير الرؤية ولا يعدى بإلى إلا إذا كان بمعنى الرؤية.
مطلب رؤية الله في الآخرة:
وقد أجمعت أهل السنة والجماعة على جواز رؤية المؤمنين ربهم بالآخرة دون الكافرين، قال تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) الآية ١٥ من المطففين في ج ٢ فيفهم منها صراحة ان المؤمنين غير محجوبين عن رؤيته، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة واجماع الأئمة الأصحاب فمن بعدهم من السلف الصالح والخلف الناجح على إثبات رؤية الله تعالى وقد روى ذلك أكثر من عشرين صحابيا وان الرؤية
243
قوة يجعلنها الله فيمن يوفق لها، ولا يشترط فيها اتصال ولا مقابلة ولا سعة ولا غير ذلك ومن أنكرها فجزاؤه حرمانها. روى البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله البجلي، قال كنا عند رسول الله فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال انكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون (بفتح التاء أي لا ينال أحدكم ضيم إذ ترونه جميعكم وبضمها مع تشديد الميم أي لا ينضم بعضكم إلى بعض ولا تزدحمون وقت النظر إليه) في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) الآية ٣٩ من سورة ق الآتية. وروى مسلم عن صهيب ان رسول الله قال إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار قال فيكشف الحجاب فما اعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم والأحاديث في هذا الباب كثيرة عن ابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأبي رزين العقيلي وقد خرجها أبو داود والترمذي وغيرهما، واعلم بان الأحاديث التي يتشهد بها على معاني الآيات في هذا التفسير لا نعتي بها أن حضرة الرسول قالها عند نزول الآيات وخاصة المكيات لا وإنما كان صلّى الله عليه وسلم يقولها عند حدوث سؤال أو وقوع حادثة أو حالة وعظ وخطبة، تدبر. هذا واعلم أن من لم يقنع بهذا فلو أتيته بما في الدنيا لا يصدقه على حد قوله تعالى (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) الآية ١٤٤ من البقرة في ج ٣ وهؤلاء كذلك من هذه الحيثية ولعلهم إن أصروا يدخلون في قوله جل قوله «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ٢٤» كالحة عابسة مكفهرة مقطبة أجارنا الله (تَظُنُّ) أيها الإنسان وتيقن وتحقق «أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ٢٥» شيء عظيم يقصم فقار الظهر وذلك حين ترى ما ناله السعداء من نعيم الآخرة ورحمة ربها حينما تمر بين أهل الجنة وأهل النار (كلا) زجر وردع عن إيثار الدنيا على الآخرة وتنبيه الى حالة الموت المبينة بقوله (إِذا بَلَغَتِ) الروح الدال عليها سياق الكلام ويجوز في مثله أن يعود الضمير إلى غير مذكور قال تعالى (حَتَّى
244
تَوارَتْ بِالْحِجابِ)
الآية ٣٢ من سورة ص الآتية أي الشمس لم تذكر ولكن سياق الكلام أو سياق المعنى دل عليها وجاء مثله في قول حاتم:
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
راجع تفسير سورة إنا أنزلناه المارة واعلم انه إذا وصلت الروح «التَّراقِيَ ٢٦» العظام المكتنفة لثغرة النحر من اليمين والشمال جمع ترقوة قال دريد بن الصمة في هذا:
ورب عظيمة دافعت عنها... وقد بلغت نفوسهم التراقى
(وَقِيلَ)
أي قال من حضر المحتضر «مَنْ راقٍ ٢٧»
أي هل من يرقيه هل من يداويه هل من ينجيه ويخلصه مما هو فيه فيشفيه مما حل فيه كلا لا شيء من ذلك يحول دون موته (وَظَنَّ) ذلك المحتضر فتيقن وتحقق (أنّه) الحال الذي نزل به هو «الْفِراقُ ٢٨» من الدنيا وما فيها من مال وأهل وولد وزوجة وحبيب وان لا نجاة من قضاء الله وقدره ولم تغن عنه الرقيا ولا الأطباء شيئا وانه الموت نفسه قد حضر «وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ٢٩» التوت الساقان على بعضها عند هلع الموت وقلقه فمات ثم لفّ في أكفانه وحمل يتوارى في برزخه الأخير ورمسه المقدر له وإذ ذاك يقال (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ) يوم الفراق يوم موته «الْمَساقُ ٣٠» إلى غيره وهو يأمر بسوقها إلى الجنة أو إلى النار وفي اضافة السوق اليه تعالى بشارة لمن حسن ظنه بالله ومات على ذلك.
قالوا غدا نأت ديار الحمى... وينزل الركب بمغناهم
فقلت لي ذنب فما حيلتي... بأي وجه أتلقّاهم
قالوا أليس العفو من شأنهم... لا سيما عمّن ترجّاهم
وقال أبو بكر الصديق في مرضه:
غدا نلقى الأحبة... محمدا وحزبه
وجواب إذا محذوف تقديره وجد الإنسان نتيجة عمله ان خيرا فخير وان شرا فشر، وحذف الجواب في مثل هذا كثير في كلام العرب وهو من محسنات البيان ومقتضيات البديع وهو في المعنى كأنه موجود ولا يخفى على من له المام باللغة
قال تعالى (فَلا
245
صَدَّقَ)
ذلك الإنسان المذكور في صدر السورة. رسول الله الذي وعظه وبشّره وأنذره «وَلا صَلَّى ٣١» لربه وسبحه وعزره (وَلكِنْ كَذَّبَ بالله وبما أنزل على رسوله «وَتَوَلَّى ٣٢» عنه ولم يؤمن به «ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ٣٣» يختال ويتبختر في مشيته لانّها مأخوذة من المط أي يتمطط لأن المتبختر يمد خطاه فقلبت الطاء ياء كراهية اجتماع الأمثال (أَوْلى لَكَ أيها الفاسق الفاجر «فَأَوْلى ٣٤» لك «ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ٣٥» هذا جملة موضوعة للتهديد والوعيد وفي تكرارها ما يدل على شدة ما يراد به وقيل معناه أنك أجدر وأحق بالعذاب القاسي وأولى به من غيرك وهو وجيه، منطبق على المعنى المراد، وقيل في معناها: ويل لك ثم ويل لك دعاء عليه بالهلاك، وعلى كل فهو تهديد ووعيد اليه مكرر من الله المرة بعد المرة، أي أن ذلك الإنسان السيء أجدر بهذا العذاب وأحق به من غيره. قال قتادة: ذكر لنا رسول الله لما نزلت هذه الآية (في حق عدي بن ربيعة حليف بني زهرة ختن الأخنس بن شريق الثقفي الذي كان يقول فيهما حضرة الرسول: (اللهم اكفني جاري السوء بعينهما) أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء، وقال له (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) فقال أبو جهل- عليه اللعنة- أتوعدني يا محمد؟ والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، وإني لأعزّ من مشى بين جبليها، فلما كان يوم بدر صرعه الله، فأذله وقتله شر قتلة.
وكان صلّى الله عليه وسلم يقول: لكل أمة فرعون، وفرعون هذه الأمة أبو جهل، وأنزل الله في حقه «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» الآية ٣٩ من سورة الدخان ج ٢ أي يقال له هذا عند إدخاله جهنم بمقابلة قوله ذلك قال تعالى «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ» أل فيه للجنس فيشمل كافة أفراده إذ لم يرد به إنسان مخصوص بل مطلق إنسان «أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ٣٦» هملا مهملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف ولا يحاسب ولا يعذّب، (وكلمة سدّى) لم تكرر في القرآن كلا لا يترك بل لا بد له من ذلك، ثم طفق جل شأنه يذكرهم مبدأ الخلقة، ومن أين هي، وما هي؟
وعوده إلى جيفة قذرة، يتذكر الإنسان بها حالة طيشه فقال عز قوله «أَلَمْ يَكُ
246
Icon