تفسير سورة النازعات

تفسير الثعلبي
تفسير سورة سورة النازعات من كتاب الكشف والبيان عن تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعلبي .
لمؤلفه الثعلبي . المتوفي سنة 427 هـ
مكيّة : وهي ستة وأربعون آية، ومائة وتسع وسبعون كلمة، وثلاثة وسبع مائة وخمسون حرفاً

سورة النازعات
مكيّة: وهي ستة وأربعون آية، ومائة وتسع وسبعون كلمة، وثلاثة وسبع مائة وخمسون حرفا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١ الى ١٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً قال مسروق: هي الملائكة التي تنزع نفوس بني آدم، وهي رواية أبي صالح وعطية عن ابن عباس،
قال أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه: هي الملائكة تنزع أرواح الكافر والكفرة «١»
، وقال ابن مسعود: يريد أنفس الكفّار ينزعها ملك الموت من أجسادهم من تحت كلّ شعرة ومن تحت الأظافير وأصول القدمين ثم يفرّقها ويردّدها في جسده بعد ما تنزع حتى إذا كادت تخرج ردّها في جسده فهذا عمله بالكفار، وقال مقاتل: هم [ملك الموت] وأعوانه ينزعون روح الكافر كما ينزع السّفود الكثير الشعب من الصوف المبتل فتخرج نفسه كالغريق في الماء.
سعيد بن جبير: نزعت أرواحهم ثم غرّقت ثم حرّقت ثم قذف بها في النار، وقال مجاهد هو الموت ينزع النفوس، السندي: هي النفس حين تغرق في الصدر، وقيل: يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنه يغرق، الحسن وقتادة وابن كيسان وأبو عبيدة والأخفش: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب، عطاء وعكرمة: هي القسيّ، وقيل: الغزاة، الرماة، ومجاز الآية:
والنازعات إغراقا كما يغرق النازع في القوس إذا بلغ بها غاية المد [... ] «٢» الذي عند النصل الملفوف عليه، ويقال لقشرة البيضة الداخلة غرقي، وأراد بالإغراق المبالغة في النزع وهو سابغ في جميع وجوه تأويلها.
(١) كذا في المخطوط.
(٢) كلمة غير مقروءة في المخطوط.
122
وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً قال ابن عباس: يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حلّ عنها وحكى الفرّاء هذا القول ثم قال: والذي سمعت من العرب أن يقولوا: أنشطت، وكأنما أنشط من عقال، وربطها نشطا، والرابط: الناشط، وإذا ربطت الحبل في يد البعير فقد نشطته وأنت ناشط، وإذا حللته فقد أنشطته وأنت منشط.
وعن ابن عباس أيضا: هي أنفس المؤمنين عند الموت، ينشط للخروج وذلك أنه ليس من مؤمن يحضره الموت إلّا عرضت عليه الجنّة قبل أن يموت فيرى فيها أشباها من أهله وأزواجه من الحور العين فهم يدعونه إليها، فنفسه إليهم نشيطة ان تخرج فتأتيهم،
وقال علي ابن أبي طالب: هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أجوافها بالكرب والغمّ
، وقال مجاهد: هو الموت ينشط نفس الإنسان، وقال السندي: حين ينشط من القدمين، عكرمة وعطا: هي الأدهان، قتادة والأخفش: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق، أي تذهب، يقال: حمارنا ناشط ينشط من بلد إلى بلد أي يذهب، ويقال لبقر الوحش نواشط، لأنها تذهب من موضع إلى موضع. قال الطرماح:
وهل بحليف الخيل ممّن عهدته به غير أحدان النواشط روّع «١»
والهموم تنشط بصاحبها، قال هميان بن قحافة:
أمست همومي تنشط المناشطا الشام بي طورا وطورا واسطا «٢»
وقال الخليل: النشط والإنشاط «٣» مدّك شيئا إلى نفسك حتى تنحل.
وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً
قال علي: هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين
، وقال الكلبي: هم الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء فأحيانا ينغمس وأحيانا يرتفع يسلونه سلا رفيقا ثم يدعونها حتى يستريح، وقال مجاهد وأبو صالح: هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين كما يقال للفرس الجواد، سابح إذا أسرع في جريه، وقيل: هي خيل الغزاة. قال امرؤ القيس:
مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن الغبار بالكديد المركل «٤»
وقال قتادة: هي النجوم والشمس والقمر. قال الله سبحانه: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «٥» وقال عطا: هي السفن.
(١) جامع البيان للطبري: ٣٠/ ٣٨.
(٢) لسان العرب: ٧/ ٤١٥.
(٣) النشط: هو الإيثاق، والإنشاط هو الحلّ، تاج العروس: ٥/ ٢٣١.
(٤) كتاب العين: ٣/ ١٦.
(٥) سورة يس: ٤٠.
123
فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً قال مجاهد وأبو روق: سقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح، مقاتل:
هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، ابن مسعود: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقضونها وقد عاينت السرور شوقا إلى لقاء الله ورحمته وكرامته، عطا: هي الخيل، قتادة: النجوم تسبق بعضها بعضا في المسير.
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً يعني الملائكة.
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن جعفر بن الطيب قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص قال: حدّثنا محمد بن خلف قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا الأعمش عن عمرو ابن مرّة عن عبد الرحمن بن سابط قال: يدبّر أمر الدنيا أربعة: جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل (عليهم السلام)، فأما جبريل فوكّل بالرياح، وأما ميكائيل فوكّل بالقطر والنبات وأمّا ملك الموت فوكّل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم.
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يعني النفخة الأولى التي يتزلزل ويتحرّك لها كلّ شيء تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ وهي النفخة الأخيرة وبينهما أربعون سنة، قال قتادة: هما صيحتان: أما الأولى فتميت كلّ شيء بإذن الله، وأمّا الأخرى فتحيي كلّ شيء بإذن الله، وقال مجاهد: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يعني تزلزل الأرض والجبال تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ حين تنشق السماء ويحمل الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، عطا: الرَّاجِفَةُ: القيامة، والرَّادِفَةُ البعث، ابن زيد: الرَّاجِفَةُ:
الموت، والرَّادِفَةُ: الساعة، وأصل: الراجفة: الصوت والحركة ومنه سميت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها، وكلّ شيء ولى شيئا وتبعه فقد ردفه.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال: حدّثنا محمد بن هارون الحضرمي قال: حدّثنا الحسن بن عرفة قال: حدّثنا قبيصة بن عقبة عن سفيان الثوري عن عبد الله ابن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبيّ بن كعب عن أبيّ بن كعب، قال: كان رسول الله ﷺ إذا ذهب ربع الليل قام وقال: «يا أيها الناس اذكروا الله اذكروا الله جاءت الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه» [٨٩] «١».
واختلف العلماء في جواب القسم فقال بعض نحاة الكوفة: جوابه مضمر مجازه: لتبعثن ولتحاسبن، وقال بعض نحاة البصرة: هو قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى وقيل: في الكلام تقديم وتأخير تقديره:
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً.
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ خائفة، مجاهد: وجلة، السدي: زائلة عن أماكنها، نظيره إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ «٢»، المؤرّخ: قلقة، قطرب: مستوفرة، يمان: غير هادئة ولا ساكنة، أبو
(١) سنن الترمذي: ٤/ ٥٣.
(٢) سورة غافر: ١٨.
124
عمرو بن العلا: مرتكضة، المبرد: مضطربة من وجيف الحركات يقال: وجف القلب ووجب فهو يجف ويجب وجوفا ووجيفا ووجوبا ووجيبا.
أَبْصارُها خاشِعَةٌ يَقُولُونَ يعني هؤلاء المكذّبين للبعث من مشركي مكّة إذا قيل لهم:
إنكم مبعوثون بعد الموت.
إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أي إلى أوّل الحال وابتداء الأمر فراجعون أحياء كما كنّا قبل حياتنا وهو من قول العرب: رجع فلان على حافرته إذا أرجع من حيث جاء، وقال الشاعر:
أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من سفه وعار «١»
ويقال: البعد عند الحافر وعند الحافرة أي في العاجل عند ابتداء الأمر وأول سومه، والتقى القوم فاقتتلوا عند الحافرة أي عند أول كلمة.
أخبرنا أبو بكر الجمشادي قال: أخبرنا أبو بكر القطيعي قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال: حدّثنا عمر بن مرزوق قال: أخبرنا عمران القطان قال: سمعت الحسن يقول: إنّا لمردودون إلى الدنيا فنصير أحياء كما كنا، قال الشاعر:
آليت لا أنساكم فاعلموا حتى يرد الناس في الحافرة «٢»
وقال بعضهم: الحافرة الأرض التي فيها تحفر قبورهم فسمّيت حافرة وهي بمعنى المحفورة كقوله سبحانه: ماءٍ دافِقٍ «٣» وعِيشَةٍ راضِيَةٍ «٤» ومعنى الآية إنّا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقا جديدا ثم مردودون في قبورنا أمواتا، وهذا قول مجاهد والخليل بن أحمد، وقيل: سمّيت الأرض حافرة، لأنها مستقر الحوافر كما سمي القدم أرضا، لأنها على الأرض ومجاز الآية: نرد فنمشي على أقدامنا، وهذا معنى قول قتادة، وقال ابن زيد: الحافرة النار، وقرأ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ قال: هي اسم من أسماء النار وما أكثر أسمائها.
أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً قرأ أهل الكوفة وأيوب ناخرة بالألف، وهي قراءة عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس وابن الزبير وابن مسعود وأصحابه، واختاره الفراء وابن جرير لوفاق رؤوس الآي، وقرأ الباقون بجرة بغير الألف، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، قال أبو عبيد إنما اخترناه لحجتين: إحداهما: أن الجمهور الأعظم من الناس عليها، منهم أهل تهامة والحجاز والشام والبصرة، والثانية: إنّا قد نظرنا في الآثار التي فيها ذكر العظام التي قد نخرت
(١) لسان العرب: ٤/ ٢٠٥، تفسير القرطبي: ١٩/ ١٩٧.
(٢) تفسير القرطبي: ١٩/ ١٩٧. [.....]
(٣) سورة الطارق: ٦.
(٤) سورة الحاقّة: ٢١.
125
فوجدناها كلّها العظام النخرة، ولم أسمع في شيء منها الناخرة، وكان أبو عمرو يحتج بحجة ثالثة قال: إنّما يكون تناخره إلى تنخرها، ولم يفعل، وهما لغتان في قول أكثر أهل اللسان مثل:
الطمع والطامع والبخل والباخل والفره والفاره والجذر والجاذر، وفرّق بينهما فقالوا: النخرة:
البالية، والناخرة: المجوّفة التي تمرّ فيها الريح فتخرّ أي تصوّت.
قالُوا يعني المنكرين تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ رجعة غابنة قال الله سبحانه: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ صيحة ونفخة واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ يعني وجه الأرض صاروا على ظهر الأرض بعد ما كانوا في جوفها، والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة، قال أئمة أهل اللغة تراهم سمّوا ذلك بها [لأنّ فيها نوم الحيوان] سهّرهم فوصف بصفة ما فيه، واستدل ابن عباس والمفسرون بقول أمية بن أبي الصلت:
وفيها لحم ساهرة وبحر... وما فاهوا به لهم مقيم «١»
أي لهم البر والبحر، وقال امرؤ القيس:
ولاقيتم بعده غبّها... فضاقت عليكم به الساهرة
وقال ابو ذؤيب:
يرتدن ساهرة كأن حميمها... وعميمها أسداف ليل مظلم «٢»
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن لمهان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا جهاد عن أبي سنان عن أبي المنية فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ جبل عند البيت المقدّس، وروى الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ قال الصقع الذي بين جبل حسان وجبل أريحا يمدّه الله كيف يشاء، وقال سفيان: هي أرض الشام، وقال قتادة: هي جهنم.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١٥ الى ٤٦]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩)
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤)
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)
(١) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٥٢ والبيت وصف الجنة.
(٢) تفسير القرطبي: ١٩/ ١٩٩.
126
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى قرأ أهل الحجاز وأيوب ويعقوب بتشديد الزاي أي تتزكّى ومثله روى العباس عن أبي عمرو، غيرهم بتخفيفه ومعناه تسلّم وتصلح وتطهّر.
وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: أخبرنا ابن زنجويه قال: حدّثنا مسلمة قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن التيمي عن عبيد الله بن أبي بكر قال: حدّثني صخر بن جويرية قال: لما بعث الله تعالى موسى (عليه السلام) إلى فرعون فقال له: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى إلى فَتَخْشى ولن يفعل. قال موسى (عليه السلام) : يا رب وكيف أذهب إليه وقد علمت أنه لن يفعل؟ فأوحى الله تعالى إليه أن أمض إلى من أمرت به فإن في السماء اثني عشر ألف ملك يطلبون علم القدر فلم يبلغوه ولم يدركوه.
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى وهي العصا واليد البيضاء.
فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ تولى وأعرض عن الإيمان.
يَسْعى يعمل بالفساد فَحَشَرَ فجمع السحرة وقومه فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى يقول ليس ربّ فوقي، وقيل: أراد أن الأصنام أرباب وأنا ربّها وربكم، وقيل: أراد القادة والسادة فَأَخَذَهُ اللَّهُ فعاقبه الله نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى يعني في الدنيا والآخرة، الأولى بالغرق وفي الآخرة بالنار، وقيل: نكال كلمته الأولى وهي قوله سبحانه ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وكلمته الآخرة هي قوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وكان بينهما أربعون سنة.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى أَأَنْتُمْ أيها المنكرون للبعث أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ إن الذي قدر على خلق السماء قادر عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وقوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «١».
بَناها رَفَعَ سَمْكَها سقفها، قال الفراء: كل شيء حمل شيئا من البناء وغيره فهو سمك وبناء وسموك فَسَوَّاها بلا شطور ولا فطور وَأَغْطَشَ أظلم لَيْلَها والغطش أشد الظلمة ورجل أغطش أي أعمى وَأَخْرَجَ ضُحاها أبرز وأظهر نهارها ونوره.
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها اختلفوا في معنى الآية، فقال ابن عباس: خلق الله سبحانه
(١) سورة غافر: ٥٧.
127
الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ، ثم دحا الأرض بعد ذلك أي بسطها، قال ابن عباس وعبد الله بن عمرو: خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام فدحيت الأرض من تحت البيت، وقيل معناه: والأرض مع ذلك دحاها كما يقال للرجل: أنت أحمق وأنت بعد هذا لئيم الحسب، أي مع هذا، قال الله عزّ وجل: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «١» أي مع ذلك، وقال الشاعر:
فقلت لها عني إليك فإنني حرام وإني بعد ذاك لبيب «٢»
يعني مع ذلك.
ودليل هذا التأويل قراءة مجاهد والأرض عند ذلك دحاها وقيل بعد بمعنى قبل كقوله سبحانه: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ «٣» أي من قبل الذكر وهو القرآن، وقال الهذلي:
حملت الهي بعد عروة إذا نجا خراش وبعض الشراهون من بعض زعموا أن خراشا نجا قبل عروة.
وقراءة العامة وَالْأَرْضَ بالنصب، وقرأ الحسن والأرض رفعها بالابتداء الرجوع الهاء وكلا الوجهين سائغان في عائد الذكر، والدّحو البسط والمدّ، ومنه أدحي النعامة لأنها تدحوه بصّدرها، يقال: دحا يدحوا دحوا ودحا يدحا دحيا لغتان مثل قولهم طغى يطغو أو يطغي وصغا يصغو ويصغي، ومحا يمحو ويمحي ولحي العود يلحوا أو يلحي، فمن قال: يدحو قال دحوت، ومن قال يدحا قال: دحيت.
أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها قال القتيبي: أنظر كيف دلّ بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنعام من العشب والشجر والحبّ والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح، لأنّ النار من العيدان والملح من الماء.
وَالْجِبالَ أَرْساها قراءة العامة بالنصب وقرأ عمرو بن عبيد بالرفع. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى وهي القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كلّ هائلة من الأمور فتغمر ما سواها بعظم هولها أي يغلب، والطامة عند العرب الناهية التي لا تستطاع، وإنّما أخرت من قولهم طمّ الفرس طميمها إذا استفرغ جهده الجري.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا محمد بن عمران قال: حدّثنا هناد ابن السهى قال: حدّثنا أبو أسامة عن ملك بن مغول عن القاسم الهمداني فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى قال الحسن: يسوق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.
(١) سورة القلم: ١٣.
(٢) تفسير القرطبي: ١٩/ ٢٠٥.
(٣) سورة الأنبياء: ١٠٥.
128
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى عمل في الدنيا من خير أو شر وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها متى ظهورها وثبوتها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها علمها عند الله ولست من علمها في شيء
قالت عائشة:
لم يزل النبي ﷺ يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت هذه الآيات.
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها قراءة العامة بالإضافة وقرأ أبو جعفر وابن محيض منذر بالتنوين، ومثله روى العباس عن أبي عمرو.
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا قيل: في قبورهم، إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها قال الفراء: ليس للغاشية ضحى إنّما الضحى لصدر النهار ولكن هذا ظاهر من كلام العرب أن تقولوا أتتك العشية أو عداتها إنما معناه آخر يوم أو أوّله قال وأنشد بعض بني عقيل:
نحن صبّحنا عامرا في دارها جردا تعاطى طرفي نهارها «١»
عشية الهلال أو سرارها.
بمعني عشية الهلال أو عشية سرار العشية.
(١) لسان العرب: ٢/ ٥٠٣.
129
Icon