تفسير سورة الإنشقاق

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الإنشقاق من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الانشقاق مكية، وآيها خمس وعشرون

إِذَا السماء انشقت
أي بالغمامِ كما في قولِه تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه تنشقُ من المجرةِ
وأذنب لِرَبّهَا
أي واستمعتْ أي انقادات وأذعنتْ لتأثيرِ قُدرتِهِ تعالى حين تعلقتْ إرادتهُ بانشقاقِها انقيادَ المأمورِ المطواعِ إذا وردَ عليه أمرُ الآمرِ المُطاعِ والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إليها للإشعارِ بعلةِ الحُكْمِ وهذه الجملةُ ونَظيرتُها الآتيةُ بمنزلة قولِه تعالى أَتَيْنَا طَائِعِينَ في الإنباء عن كونِ ما نُسبَ إلى السماءِ والأرضِ من الانشقاق المد وغيرِهما جارياً على مُقتضى الحكمةِ كما أُشيرَ إليهِ فيما سلفَ
وَحُقَّتْ
أي جُعلت حقيقةً بالاستماع والانقيادِ لكنْ لا بعدَ أنْ لم تكن كذلك بل في نفسها وحدذاتها من قولهم هو محقوقٌ بكَذا وحقيقٌ به والمَعْنى انقادتْ لربِّها وهيَ حقيقةٌ بذلكَ لكنْ لا على أنَّ المرادَ خصوصيةُ ذاتها من بين سائرِ المقدوراتِ بل خصوصية القدرة القاهرةِ الربانيةِ التي يتأتى لها كلُّ مقدورٍ ولا يتخلفُ عنها أمرٌ من الأمورِ فحقُّ الجملةِ أن تكونَ اعتراضاً مقرراً لما قبلَها لا معطوفةً عليهِ
وَإِذَا الأرض مُدَّتْ
أي بُسطتْ بإزالة جبالِها وآكامِها من مقارِّها وتسويتِها بحيثُ صارتُ قاعاً صفصفاً لا ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً أو زيدتْ سعَةً وبسطةً منْ مدَّهُ بمعنى أمدَّه أي زادَهُ
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا
أي رمتْ ما في جوفِها من الموتَى والكنوزِ كقولِه تعالى وَأَخْرَجَتِ الارض أَثْقَالَهَا
وخلتْ عمَّا فيها غايةَ الخلوِّ حتَّى لم يبقَ فيها شيءٌ منه كأنَّها تكلفتْ في ذلكَ أقصَى جُهدِها
وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا
في الإلقاءِ والتخلِّي
وَحُقَّتْ
أيْ وهيَ حقيقةٌ بذلكَ أي شأنُها ذلكَ بالنسبةِ إلى القدرةِ
131
٨٤ سورة الانشقاق (٦ ١٣)
الربانيةِ وتكريرُ كلمةِ إذا ما اتحادِ الأفعالِ المنسوبةِ إلى السماءِ والأرضِ وقُوعاً في الوقتِ الممتدِّ الذي هُو مدلولُها قد مرَّ سِرُّه فيمَا مَرَّ
132
يأَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبّكَ كَدْحاً
أي جاهدٌ ومجدٌّ إلى الموت وما بعدَهُ من الأحوالِ التي مُثِّلتْ باللقاءِ مبالغٌ في ذلكَ فإنَّ الكدحَ جهدُ النفسِ في العملِ والكدُّ فيهِ بحيثُ يؤثرُ فيها من كدح جله إذا خدَشَةُ
فملاقيه
أي فملاقٍ لهُ عقيبَ ذلكَ لا محالة من غير صارف يلويك عنه قوله تعالى
فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً
الخ قيلَ جوابُ إذا كما في قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم منى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وقولُه تعالى يأيها الإنسان الخ اعتراضٌ وقيلَ هو محذوفٌ للتهويل والإيماءِ إلى قصورِ العبارةِ عن بيانِه أوْ للتعويلِ على مامر في سورةِ التكويرِ والانفطارِ عليهِ وقيلَ هو ما دل عليه قوله تعالى يأيها الانسان الخ تقديره لا قي الإنسانُ كَدحَهُ وقيلَ هو قولهُ تعالى فملاقيهِ وما قبله اعتراضٌ وقيلَ هو يأيها الإنسانُ الخ بإضمارِ القولِ يسير سهلاً لا مناقشةَ فيه ولا اعتراضَ وعن الصديقةِ رضي الله عنها هُو أن يُعرّفَ ذنوبَهُ ثم يُتجاوزَ عَنْهُ
وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً
أي عشيرتِه المؤمنينَ أو فريقَ المؤمنينَ مُبتهجاً بحالِه قائلا هاؤم اقرؤا كتابيه وقيلَ إلى أهلهِ في الجنةِ من الحورِ والغلمانِ
وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه وَرَاء ظَهْرِهِ
أي يُؤتاهُ بشمالِه من وراءِ ظهرِه قيلَ تُغلُّ يمناهُ إلى عنقِه ويجعلُ شمالُه وراءَ ظهرِه فيؤتى كتابَهُ بشمالِه وقيلَ تخلعُ يدُه اليُسْرَى من وراءِ ظهرِه
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً
أي يتمنَّى الثبورَ وهو الهلاكُ ويدعوه يا ثبوراه تعالى فإنه أوانُكَ وأنَّى له ذلكَ
ويصلى سَعِيراً
أي يدخلُها وقُرِىءَ يُصلّى كقوله تعالى وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ وقرىءَ ويصلى كما في قوله تعالى ونصليه جهنم
إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ
فيما بينَ أهلِه وعشيرتِه في الدنيا
مسرورا
132
٨٤ سورة الانشقاق (١٤ ٢٠)
مترفاً بَطِراً مستبشراً كديدنِ الفجارِ الذينَ لا يهمهم ولا يخطر ببالهم أمورُ الآخرةِ ولا يتفكرونَ في العواقبِ ولم يكُنْ حَزيناً متفكراً في حالهِ ومآلهِ كسنةِ الصلحاءِ والمتقينَ والجملةُ استئنافٌ لبيانِ علةِ ما قَبلها وقولُه تعالى
133
إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ
تعليلٌ لسرورِه في الدنيا أي ظن أنْ لَنْ يرجِعُ إلى الله تعالى تكذبيا للمعادِ وإنْ مخففةٌ مِنْ أنَّ سادّةٌ معَ ما في حيزِها مسدَّ مفعولَيْ الظنِّ أو أحدَهُما عَلى الخِلافِ المعروفِ
بلى
إيجابٌ لما بعدَ لَنْ وقولُه تعالى
إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً
تحقيقٌ وتعليلٌ لهُ أيْ بَلَى ليحورَنَّ البتةَ إنَّ ربَّهُ الذي خلقَهُ كانَ به وبأعمالِه الموجبةِ للجزاءِ بصيراً بحيثُ لا يَخْفى منها خافيةٌ فلا بُدَّ منْ رجعهِ وحسابِه وجزائِه عليها حَتماً وقيلَ نزلتْ الآيتانِ في أبي سَلَمةَ بنِ عبْدِ الأشد وأخيه الأسودِ
فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق
هي الحمرةُ التي تُشاهدُ في أفقِ المغربِ بعد الغروبِ أو البياضُ الذي يليها سُميَ بهِ لرقتِه ومنْهُ الشفقةُ التي هي عبارةٌ عن رقة القلب
والليل وَمَا وَسَقَ
وما جمعَ وضمَّ يقالُ وسقَهُ فاتَّسقَ واستوسقَ أي جمعهُ فاجتمعَ وما عبارةٌ عمَّا يجتمعُ بالليلِ ويأوِي إلى مكانهِ من الدوابِّ وغيرِها
والقمر إِذَا اتسق
أي اجتمعَ وتمَّ بدراً ليلة اربع عشر
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ
أي لتُلاقُنَّ حالاً بعدَ حالٍ كُلُّ واحدةٍ منهَا مطابقةٌ لأختها في الشدةِ والفظاعةِ وقيلَ الطبقُ جمع طبقةٍ وهي المرتبةُ وهو اأوفق للركوبِ المنبىءُ عن الاعتلاءِ والمَعْنَى لتركَبُنَّ أحوالاً بعدَ أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدةِ بعضُها أرفعُ من بعضٍ وهي الموتُ وما بعدَه من مواطنِ القيامةِ ودواهيها وقُرِىءَ لتَرْكَبَنَّ بالإفرادِ على خطابِ الإنسانِ باعتبارِ اللفظِ لا باعتبارِ شمولهِ لأفرادِه كالقراءةِ الأولى وقُرِىءَ بكسر الباء على خطابِ النفسِ وليَرْكَبَنَّ بالياءِ أي ليركَبَنَّ الإنسانُ ومحلُّ عن طبقٍ النصبِ على أنَّه صفةٌ لطبقاً أي طبقاً مجاوزاً لطبقٍ أو حال من الضمير في لتركبنَّ طبقاً مجاوزينَ أو مجاورا أو مجاوزةً على حسبِ القراءةِ والفاءُ في قولِه تعالى
فما لهم لايؤمنون
لترتيب ما بعَدَها منَ الإنكار والتعجيبِ على ما قبلها من أحوالِ القيامةِ وأهوالِها الموجبة
133
٨٤ سورة الانشقاق (٢١ ٢٥)
للإيمانِ والسجودِ أيْ إذا كانَ حالُهم يومَ القيامةِ كما ذُكِرَ فأيُّ شيءٍ لهم حالَ كونِهم غيرَ مؤمنينَ أي أيُّ شيءٍ يمنعُهم من الإيمانِ معَ تعاضدِ موجباتِه وقولُه تعالى
134
واذا قرىء عليهم القرآن لاَ يَسْجُدُونَ
جملةٌ شرطيةٌ محلُّها النصبُ عَلى الحاليةِ نسقاً على ما قَبلَها أيْ فأيُّ مانعٍ لهم حالُ عدمِ سجودِهم وخضوعِهم واستكانتهم عندَ قراءةِ القُرآنِ وقيلَ قرأ النبيُّ عليه الصلاةَ والسَّلامُ ذاتَ يومٍ واسجدْ واقتربْ فسجدَ هُو ومَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفرْ فنزلتْ وبه احتجَّ أبو حنيفة رحمه الله تعالَى عَلى وجوبِ السجدةِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما ليسَ في المفصلِ سجدةٌ وعن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّه سجَدَ فيها وقالَ والله ما سجدتُ إلا بعدَ أن رأيتُ النبيَّ ﷺ يسجدُ فيها وعن أنسٌ رضيَ الله عَنْهُ صليتُ خلفَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ رضيَ الله عنهم فسجدُوا وعن الحسنِ هي غيرُ واجبةٍ
بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذّبُونَ
بالقُرآنِ النَّاطقِ بما ذُكر من أحوال القيامة وأهوال مع تحققِ موجباتِ تصديقهِ ولذلكَ لا يخضعونَ عندَ تلاوتِه
والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ
بما يضمرونَ في قلوبِهم ويجمعونَ في صدورِهم من الكفرِ والحسدِ والبغي والبغضاءِ أو بما يجمعونَ في صحفهم من أعمال السواء ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذابِ علماً فعلياً
فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
لأنَّ علمَهُ تعالَى بذلكَ على الوجه المذكورِ موجبٌ لتعذيبهم حتما
الا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
استثناءٌ منقطعٌ إنْ جُعل الموصولُ عبارةً عن المؤمنينَ كافَّة ومتصلٌ إنْ أريدَ به منْ امنَ منهمُ بعدَ ذلكَ وقولُه تعالى
لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
أي غيرُ مقطوعٍ أو ممنونٍ به عليم استئنافٌ مقررٌ لما أفادَهُ الاستثناءُ من انتفاءِ العذابِ عنهم ومبينٌ لكيفيتهِ ومقارنتِه للثوابِ العظيمِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الانشقاق أعاذَهُ الله تعالَى أنْ يعطيَهُ كتابَهُ وراءَ ظهرِه
134
٨٥ سورة البروج (١ ٤)

بسم الله الرحمن الرحيم

135
Icon