تفسير سورة الإنشقاق

فتح البيان
تفسير سورة سورة الإنشقاق من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الانشقاق
هي ثلاث أو خمس وعشرون آية وهي مكية بلا خلاف، قال ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله.
وعن أبي رافع صليت مع أبي هريرة العتمة١ فقرأ إذا السماء انشقت فسجد فقلت له، فقال سجدت خلف أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه٢ أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما وأخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة " قال سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انشقت واقرأ باسم ربك الذي خلق ".
وعن بريدة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الظهر " إذا السماء انشقت ونحوها " أخرجه ابن خزيمة والروياني في مسنده والضياء المقدسي في المختارة.
١ أي العشاء..
٢ أي سجود التلاوة إذا وصل إلى آية﴿وإذا قرئ عليهم لا يسجدون﴾..

(إذا السماء انشقت) أي انصدعت وتفطرت، فيه حذف، والتقدير إذا انشقت السماء انشقت لأن إذا الشرطية يختص دخولها بالجمل الفعلية، وما جاء من هذا ونحوه فمؤول محافظة على قاعدة الاختصاص، فالسماء فاعل لفعل محذوف.
قال الواحدي قال المفسرون انشقاقها من علامات القيامة، ومعنى انشقاقها انفطارها بالغمام الأبيض كما في قوله (ويوم تشقق السماء بالغمام) وقيل تنشق من المجرة وبه قال علي بن أبي طالب والمجرة باب السماء، وأهل الهيئة يقولون أنها نجوم صغار مختلطة غير متميزة في الحس.
واختلف في جواب " إذا " فقال الفراء أنه أذنت، والواو زائدة. وكذلك ألقت. قال ابن الأنباري هذا غلط لأن العرب لا تقحم الواو إلا مع حتى إذا كقوله (حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها) ومع لما كقوله (فلما أسلما وتلة للجبين وناديناه) ولا تقحم مع غير هذين.
وقيل أن الجواب قوله (فملاقيه) أي فأنت ملاقيه. وبه قال الأخفش. وقال المبرد إن في الكلام تقديماً وتأخيراً أي (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) إذا السماء انشقت.
وقال المبرد أيضاًً إن الجواب قوله (فأما من أوتي كتابه) وبه قال الكسائي، والتقدير إذا السماء انشقت فمن أوتي كتابه بيمينه فحكمه كذا، وقيل هو يا أيها الإنسان على إضمار الفاء أو على إضمار القول أي يقال له يا
143
أيها الإنسان، وقيل الجواب محذوف تقديره بعثتم أو لاقى كل إنسان عمله.
وقيل هو ما صرح به في سورة التكوير أي (علمت نفس)، هذا على تقدير أن " إذا " شرطية، وقيل ليست بشرطية وهي منصوبة باذكر المحذوف وهي مبتدأ وخبرها إذا الثانية والواو مزيدة وتقديره وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض.
ومعنى
144
(وأذنت لربها وحقت) أنها أطاعته في الانشقاق ولم تأب ولم تمتنع، مشتق من الأذن وهو الاستماع للشيء والإصغاء إليه. وحق لها أن تطيع وتنقاد وتسمع: وقد استعمل الأذن في الاستماع في أشعار العرب، وفي الحديث " ما أذن الله لشيء أذنه لنبي يتغنى بالقرآن " قال الشاعر:
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذن (١)
وقال الحجار بن حكيم: أذنت لكم لما سمعت هديركم.
وفي المختار أذن له استمع وبابه طرب، وقيل المعنى وحقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق أي جعلها حقيقة بذلك، قال الضحاك حقت أطاعت وحق لها أن تطيع ربها لأنه خلقها، يقال فلان محقوق بكذا. ومعنى طاعتها أنها لا تمتنع مما أراده الله بها. قال قتادة حق لها أن تفعل ذلك، ومن هذا قول كثير:
فإن تكن العتبى فأهلاً ومرحبا وحقت لها العتبى لدنيا وقلت
_________
(١) البيت لقَعْنَب بن ضمرة بن أم صاحب أم قعنب، وكان في أيام الوليد، وهو في " مجاز القرآن " ١/ ١٧٧، و " الطبري " ٣٠/ ١١٢. و " السمط ": ٣٦٢، و " الاقتضاب ": ٢٩٢ و " شواهد الكشاف " ١٤٣، و " القرطبي " ١٩/ ٢٦٧، و " اللسان " أذن، وأورد بيتاً قبله، هو:
(وإذا الأرض مدت) أي بسطت كما تبسط الأدم ودكت جبالها وكل
144
أمت فيها حتى صارت (قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) قال مقاتل سويت كمد الأديم فلا يبقى عليها بناء ولا جبل إلا دخل فيها، وقيل مدت زيد في سعتها من المدد، وهو الزيادة، قال ابن عباس: تمد يوم القيامة.
وأخرج الحاكم قال السيوطي بسند جيد عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم فيها إلا موضع قدميه ".
145
(وألقت ما فيها) أي أخرجت ما فيها من الأموات والكنوز وطرحتهم إلى ظهرها ورمت (وتخلت) من ذلك، قال ابن عباس أخرجت ما فيها من الموتى وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء ومثل هذا قوله: (وأخرجت الأرض أثقالها) والمعنى تخلت غاية الخلو لم يبق شيء في باطنها كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو يقال تكرم الكريم إذا بلغ جهده في الكرم، وتكلف فوق ما في طبعه، وذلك يؤذن بعظم الأمر.
وقيل ألقت ما استودعته وتخلت مما استحفظته. ووصفت الأرض بالإلقاء والتخلية توسعاً وإلا فالتحقيق أن المخرج لتلك الأشياء هو الله تعالى.
(وأذنت لربها) أي سمعت وأجابت وأطاعت لما أمرها به من الإلقاء والتخلي، وقال ابن عباس سمعت حين كلمها وعنه قال أطاعت وحقت بالطاعة وعنه قال سمعت وأطاعت (وحقت) أي وجعلت حقيقة بالاستماع لذلك والانقياد له إذ هي مصنوعة مربوبة لله تعالى، وقد تقدم بيان معنى الفعلين قبل هذا، وليس تكراراً لأن الأول في السماء وهذا في الأرض، وتكرير إذا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة.
145
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١) وَيَصْلَى سَعِيرًا (١٢) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (١٥)
146
(يا أيها الإنسان) المراد جنس الإنسان فيشمل المؤمن والكافر وقيل هو الإنسان الكافر والأول أولى لما سيأتي من التفصيل (إنك كادح إلى ربك كدحاً) الكدح في كلام العرب السعي في الشيء بجهد من غير فرق بين أن يكون ذلك الشيء خيراً أو شراً، والمعنى أنك ساع إلى ربك في عملك أو إلى لقاء ربك مأخوذ من كدح جلده إذا خدشه، قال قتادة والضحاك والكلبي: عامل لربك عملاً، وفي المختار الكدح العمل والسعي والكد والكسب، وهو الخدش أيضاًً وباب الكل قطع.
(فملاقيه) أي فملاق عملك وبه قال ابن عباس، والمعنى أنه لا محالة ملاق لجزاء عمله وما يترتب عليه من الثواب والعقاب، قال الشهاب: أي ملاق كدحه بنفسه من غير تقدير لوجوده في صحفه، وعلى هذا فما بعده تفصيل له.
قال القتيبي معنى الآية أنك كادح أي عامل ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك لا مفر لك منه، والملاقاة بمعنى اللقاء أي تلقى ربك بعملك، وقيل فملاق كتاب عملك لأن العمل قد انقضى.
(فأما من أوتي كتابه) أي كتاب عمله (بيمينه) وهم المؤمنون
(فسوف يحاسب حساباً يسيراً) سهلاً هيناً لا مناقشة فيه، قال مقاتل لأنها تغفر ذنوبه ولا يحاسب عليها.
وقال المفسرون هو أن تعرض عليه سيئاته ثم يغفرها الله فهو الحساب
146
اليسير، وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس أحد يحاسب إلا هلك فقلت أليس يقول الله فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً قال ليس ذلك بالحساب ولكن ذلك العرض، ومن نوقش الحساب هلك " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
وعنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في بعض صلاته " اللهم حاسبني حساباً يسيراً فلما انصرف قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، أنه من نوقش الحساب هلك "، أخرجه أحمد وعبد ابن حميد وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه، وفي بعض ألفاظ الحديث الأول وهذا الحديث " عُذِّب " مكان هلك.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ثلاث من كن فيه يحاسبه الله حساباً يسيراً، ويدخله الجنة برحمته: تعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك " أخرجة البزار والطبراني في الأوسط والبيهقي والحاكم.
147
(وينقلب) أي يرجع وينصرف بنفسه بعد الحساب اليسير من غير مزعج برغبة وقبول (إلى أهله الذين أهل بهم) الجنة من عشيرته أو إلى أهله الذين كانوا له في الدنيا من الزوجات والأولاد وقد سبقوه إلى الجنة أو إلى من أعده الله له في الجنة من الحور العين والولدان المخلدين أو إلى جميع هؤلاء (مسروراً) مبتهجاً فرحاً بما أوتي من الخير والكرامة.
(وأما من أوتي كتابه) بشماله و (وراء ظهره) قال الكلبي لأن يمينه مغلولة إلى عنقه وتكون يده اليسرى خلفه وقال قتادة ومقاتل تفك ألواح صدره وعظامه ثم تدخل يده وتخرج من ظهره فيأخذ كتابه كذلك
(فسوف يدعو ثبوراً) أي ينادي هلاكه ويتمنى فإن نداء ما لا يعقل يراد به التمني فالدعاء بمعنى الطلب بالنداء، والمعنى إذا قرأ كتابه قال يا ويلاه يا ثبوراً، والثبور الهلاك، وقال ابن عباس ثبوراً الويل.
(ويصلى سعيراً) أي يدخلها ويقاسي حر نارها وشدتها، قرأ أبو عمرو وحمزة وعاصم يصلي بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام، وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديدها، وقرىء بضم الياء وإسكان الصاد من أصلى يصلي.
(إنه كان في أهله) أي عشيرته في الدنيا (مسروراً) باتباع هواه وركون شهوته بطراً أشراً لعدم خطور الآخر بباله أي كان لنفسه متابعاً، وفي مراتع هواه راتعاً، والجملة تعليل لما قبلها.
(إنه ظن) أي علم وتيقن (أن لن يحور) تعليل لكونه كان في الدنيا بين أهله مسروراً والمعنى أن سبب ذلك السرور ظنه بأنه لا يرجع إلى الله ولا يبعث للحساب والعقاب لتكذيبه بالبعث وجحده لدار الآخرة، وأن هي المخففة من الثقيل سادَّة مع ما في حيزها مسد مفعولي ظن، والحور في اللغة الرجوع يقال حار يحور إذا رجع وقال الراغب الحور التردد في الأمر، ومحاورة الكلام مراجعته والمحار المرجع والمصير.
قال عكرمة وداود بن أبي هند: " يحور " كلمة بالحبشية ومعناها يرجع، قال القرطبي: الحور في كلام العرب الرجوع، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم " اللهم أني أعوذ بك من الحور بعد الكور " يعني من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة، وكذلك الحور بالضم، وفي المثل حور في محار أي نقصان في نقصان، والحور أيضاًً الهلكة، قال ابن عباس: يحور يبعث ويرجع.
(بلى إن ربه كان به بصيراً) أي كان به وبأعماله عالماً لا يخفى عليه منها خافية، وبلى إيجاب للمنفي بأن أي بلى ليحورن وليبعثن، وأن ربه جواب قسم مقدر فالجملة بمنزلة التعليل لما أفادته بلى، قال الزجاج كان به بصيراً قبل أن يخلقه عالماً بأن مرجعه إليه.
148
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)
149
(فلا أقسم بالشفق) لا زائدة كما تقدم في أمثال هذه العبارة وقد قدمنا الخلاف فيها في سورة القيامة فارجع إليه.
أقسم بمخلوقاته تشريفاً لها وتعريضاً للاعتبار بها، والشفق الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء الآخرة، قال الواحدي: هذا قول المفسرين وأهل اللغة جميعاً، قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمراً، وحكاه القرطبي عن أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء.
وقال أسد بن عمرو وأبو حنيفة رحمه الله: في إحدى الروايتين عنه أنه البياض، ولا وجه لهذا القول ولا متمسك له لا من لغة العرب ولا من الشرع، قال الخليل الشفق الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة.
قال في الصحاح: الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب العتمة، وكتب اللغة والشرع مطبقة على هذا (١).
وقال مجاهد: الشفق النهار كله، ألا تراه قال
_________
(١) أخرجه الدارقطني في " سننه " ص ١٠٠، وصحح البيهقي وقفه، وقال في " المعرفة ": روي هذا: الحديث عن عمر، وعلي، وابن عباس، وعبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وأبي هريرة، ولا يصح عن النبي - ﷺ - فيه شيء، وذكره السيوطي في " الدر " موقوفاً على ابن عمر، وعزاه إلى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وعبد بن حميد، وابن مردويه.
(والليل وما وسق)
149
وقال عكرمة هو ما بقي من النهار، وإنما قالا هذا لقوله بعده (والليل وما وسق) فكأنه تعالى أقسم بالضياء والظلام، ولا وجه لهذا على أنه قد روي عن عكرمة أنه قال الشفق الذي يكون بين المغرب والعشاء، وروي عن أسد بن عمرو الرجوع، وعن عمر بن الخطاب قال الشفق الحمرة، وعن ابن عباس نحوه، وعن أبي هريرة الشفق النهار كله.
وقال الراغب الشفق اختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس، وقال الزمخشري الشفق الحمرة التي ترى في المغرب بعد سقوط الشمس وبسقوطه يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العتمة عند عامة العلماء إلا ما يروى عن أبي حنيفة في إحدى الروايتين أنه البياض وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه انتهى، وسمي شفقاً لرقته ومنه الشفقة على الإنسان وهي رقة القلب عليه.
(والليل وما وسق) أي جمع ما دخل عليه من الدواب وغيرها، والوسق عند أهل اللغة ضم الشيء بعضه إلى بعض يقال استوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت والراعي يسقها أي يجمعها، قال الواحدي: المفسرون يقولون وما جمع وضم وحوى ولف.
والمعنى أنه جمع وضم ما كان منتشراً بالنهار في تصرفه وذلك الليل إذا أقبل أوى كل شيء إلى مأواه، وقال عكرمة وما وسق أي وما ساق من شيء إلى حيث يأوي فجعله من السوق لا من الجمع، وقيل وما وسق أي وما جن ما ستر، وقيل وما حمل وكل شيء حملته فقد وسقته، والعرب تقول لا أحمله وما وسقت عيني الماء أي حملته ووسقت الناقة تسق وسقاً أي حملت.
قال قتادة: والضحاك ومقاتل بن سليمان: وما وسق وما حمل من الظلمة أو حمل من الكواكب، قال القشيري ومعنى حمل ضم وجمع والليل يحمل بظلمته كل شيء، وقال سعيد بن جبير وما وسق أي وما عمل فيه من التهجد والاستغفار بالأسحار، والأول أولى، وقال ابن عباس: ما وسق ما دخل فيه وعنه ما جمع.
150
(والقمر إذا اتسق) أي اجتمع وتكامل، قال الفراء: اتساقه امتلاؤه واجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة ورابع عشرة إلى ست عشرة، وهو افتعل من الوسق الذي هو الجمع، قال الحسن اتسق امتلأ واجتمع، وقال قتادة استدار يقال وسقته فاتسق كما يقال وصلته فاتصل، ويقال أمر فلان متسق أي مجتمع منتظم، ويقال اتسق الشيء إذا تتابع، قال ابن عباس اتسق استوى، وعنه قال ليلة ثلاث عشرة.
(لتركبن) أيها الناس (طبقاً عن طبق) حالاً بعد حال، هذا جواب القسم ومحل عن طبق النصب على أنه صفة لطبقاً مجاوزاً لطبق، أو على الحال من ضمير لتركبن أي مجاوزين أو مجاوزاً، قرىء بفتح الموحدة على أنه خطاب للواحد وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يصلح له، وقرىء بضم الموحدة خطاباً للجمع وهم الناس. قال الشعبي ومجاهد لتركبن يا محمد سماء بعد سماء، قال الكلبي يعني تصعد فيها وهذا على القراءة الأولى، وقيل درجة ورتبة بعد رتبة في القرب من الله ورفعة المنزله.
وقيل المعنى لتركبن حالاً بعد حال كل حالة منها مطابقة لأختها في الشدة، وقيل المعنى لتركبن أيها الإنسان حالاً بعد حال من كونك نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم حياً وميتاً وغنياً وفقيراً، فالخطاب للإنسان المذكور في قوله (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً) واختار أبو حاتم وأبو عبيدة القراءة الثانية قالا لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقرأ عمر رضي الله عنه ليركبن بالتحتية وضم الموحدة على الإخبار، وروي عنه وعن ابن عباس أنهما قرآ بالغيبة وفتح الوحدة أي ليركبن الإنسان، وروي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرآ بكسر حرف المضارعة وهي لغة، وقرىء بفتح حرف المضارعة وكسر الموحدة على أنه خطاب للنفس.
وقيل أن معنى الآية ليركبن القمر أحوالاً من سرار واستهلال وهو بعيد،
151
قال مقاتل: طبقاً عن طبق يعني الموت والحياة، وقال عكرمة: رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ. وعن ابن مسعود: قال يعني السماء تنفطر ثم تنشق ثم تحمر، وعنه قال: السماء تكون كالمهل وتكون وردة كالدهان وتكون واهية وتنشق فتكون حالاً بعد حال، وقيل يعني الشدائد وأهوال الموت ثم البعث ثم العرض، وقيل " لتركبن سنن من كان قبلكم " كما ورد في الحديث الصحيح.
152
(فما لهم لا يؤمنون) الاستفهام للإنكار والفاء لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجيب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة الموجبة للإيمان والسجود أو من غيرها على الإختلاف السابق، والمعنى أي شيء للكفار لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بما جاء به من القرآن مع وجود موجبات الإيمان بذلك من التغيرات العلوية والسفلية الدالة على خالق عظيم القدرة.
(وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون) الجملة في محل نصب على الحال أي أيّ مانع لهم حال عدم سجودهم وخضوعهم عند قراءة القرآن، قال الحسن وعطاء والكلبي ومقاتل ما لهم لا يصلُّون، وقال أبو مسلم المراد الخضوع والاستكانة. وقيل المراد نفس السجود المعروف بسجود التلاوة، وقد وقع الخلاف على هذا الموضع من مواضع السجود عند التلاوة أم لا وقد تقدم في فاتحة هذه السورة الدليل على السجود، وهذه السجدة آخر سجدات القرآن عند الشافعي ومن وافقه.
(بل الذين كفروا يكذبون) أي بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما جاء به من الكتاب المشتمل على إثبات التوحيد والبعث والثواب والعقاب
(والله أعلم بما يوعون) أي بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب. وقال مقاتل: بما يكتمون من أفعالهم. وقال ابن زيد: يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة، مأخوذ من الوعاء الذي يجمع فيه، ويقال وعاء، حفظه وعيت الحديث أعيه وعياً ومنه (أذن واعية) وقال ابن عباس يوعون يسرون.
(فبشرهم بعذاب أليم) أي أخبرهم خبراً يظهر أثره على بشرتهم واجعل ذلك بمنزلة البشارة لهم لأن علمه سبحانه بذلك على الوجه المذكور موجب لتعذيبهم، والأليم المؤلم الموجع، والكلام خارج مخرج التهكم بهم.
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) الاستثناء منقطع لأن الموصول مبتدأ، والجملة خبره والاستثناء من قبيل المفردات أي لكن الذين جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح (لهم أجر) عند الله (غير ممنون) أي غير مقطوع ولا منقوص، يقال مننت الحبل إذا قطعته، قال المبرد: المنين الغبار لأنه يقطعه وراءه وكل ضعيف منين وممنون، وقيل المعنى أنه لا يمن عليهم به وقيل متصل وليس بذلك لأن الضمير راجع إلى الذين كفروا، والذين كفروا قد وضع موضع المظهر للإشعار بأنهم لا يؤمنون ولا يسجدون عند قراءة القرآن عليهم لأنهم كافرون مكذبون.
قال أبو السعود استئناف مقرر لما أفاده الاستثناء من انتفاء العذاب عنهم ومبين لكيفيته ومقارنته الثواب العظيم.
153
سورة البروج
هي اثنتان وعشرون آية وهي مكية بلا خلاف قال ابن عباس نزلت بمكة، وعن أبي هريرة " أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق " أخرجه أحمد وعن جابر بن سمرة " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق والسماء ذات البروج " أخرجه أحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وغيرهم.
155

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤)

بسم الله الرحمن الرحيم

157
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
إن يسمعوا ريبةً طاروا بها فرحاً مني وما علموا من صالحٍ دفنوا