هي ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون وهي مكية بلا خلاف في قول الجمهور قال ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير وعائشة مثله، ومدنية في قول علي ابن أبي طلحة.
أخرج النسائي عن جابر قال صلى معاذ صلاة فجاء رجل فصلى معه فطول، فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف، فبلغ ذلك معاذا فقال منافق، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال يا رسول الله جئت أصلي معه فطول علي فانصرفت فصليت في ناحية المسجد، فعلفت ناضحي، فقال رسول الله صلى الله عليه وله وسلم، " أفتان أنت يا معاذ، أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والفجر والليل إذا يغشى ".
ﰡ
وقال الضحاك فجر ذي الحجة لأن الله قرن الأيام به فقال
وقد ورد في فضل صوم شهر محرم أحاديث صحيحة، ولكنها لا تدل على أنه المراد بالآية لا مطابقة ولا تضمناً ولا التزاماً، وجواب هذا القسم وما بعده هو قوله (إن ربك لبالمرصاد). قاله ابن الأنباري، وقيل محذوف لدلالة السياق عليه أي ليجازين كل أحد بما عمل أو ليعذبن، وقدره أبو حيان بما دلت عليه خاتمة السورة التي قبله أي والفجر الخ لإِيابهم إلينا وحسابهم علينا، وهذا ضعيف جداً، وأضعف منه قول من قال أن الجواب قوله (هل في ذلك قسم لذي حجر) وأن هل بمعنى قد، لأن هذا لا يصح أن يكون مقسماً عليه أبداً.
قرأ الجمهور ليال بالتنوين وعشر صفة لها، وقرأ ابن عباس بالإضافة قيل والمراد ليالي أيام عشر، وكان حقه على هذا أن يقال عشرة لأن المعدود مذكر، وأجيب عنه بأنه إذا حذف المعدود جاز الوجهان.
وعن جابر مرفوعاً " هي ليالي العشر من ذي الحجة " (١)، أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم، وعن طلحة بن عبد الله أنه دخل على ابن عمر هو وأبو سلمة بن عبد الرحمن فدعاهم ابن عمر إلى الغداء يوم عرفة فقال أبو سلمة أليس هذه الليالي العشر التي ذكرها الله تعالى في القرآن؟ فقال ابن عمر وما يدريك قال ما أشك، قال بلى فاشكك.
وقد ورد في فضل هذه العشر أحاديث، وليس فيها ما يدل على أنها المرادة بما في القرآن هنا بوجه من الوجوه، قال ابن عباس هي العشر الأواخر من رمضان.
_________
(١) المراد بها عشر ذي الحجة، كما قاله ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف، قال: وقد ثبت في " صحيح البخاري " عن ابن عباس مرفوعاً: " ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام " يعني عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: " ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ".
وقال الضحاك الشفع عشر ذي الحجة والوتر أيام منى الثلاثة، وبه قال عطاء وقيل هما آدم وحواء لأن آدم كان وتراً فشفع بحواء، وقيل الشفع درجات الجنة وهي ثمان والوتر دركات النار وهي سبع وبه قال الحسين بن الفضل وقيل الشفع الصفا والمروة والوتر الكعبة، وقال مقاتل الشفع الأيام والليالي والوتر اليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة.
وقال سفيان بن عيينة الوتر هو الله سبحانه، وهو الشفع أيضاً لقوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) الآية وقال الحسن المراد بالشفع والوتر العدد كله لأن العدد لا يخلو عنهما، وقيل الشفع مسجد مكة والمدينة، والوتر مسجد بيت المقدس، وقيل الشفع حج القِران والوتر الإفراد، وقيل الشفع الحيوان لأنه ذكر وأنثى والوتر الجماد، وقيل الشفع ما سمي، والوتر ما لم يسم.
ولا يخفاك ما في غالب هذه الأقوال من السقوط البين، والضعف الظاهر، والاتكال في التعيين على مجرد الرأي الزائف والخاطر الخاطيء، والذي ينبغي التعويل عليه ويتعين المصير إليه ما يدل عليه معنى الشفع والوتر في كلام العرب وهما معروفان واضحان، فالشفع عند العرب الزوج، والوتر الفرد.
فالمراد بالآية إما نفسى العدد أو ما يصدق عليه من المعدودات بأنه شفع أو وتر، وإذا قام دليل على تعيين شيء من المعدودات في تفسير هذه الآية فإن كان الدليل يدل على أنه المراد نفسه دون غيره فذاك، وإن كان الدليل يدل على أنه مما تناولته هذه الآية لم يكن ذلك مانعاً من تناولها لغيره.
وقد روي عن عمران بن عصام عن عمران بن حصين بإسقاطه الرجل المجهول، وقال الترمذي في الرواية الأولى غريب لا نعرفه إلا من حديث قتادة.
قال ابن كثير وعندي أن وقفه على عمران أشبه والله تعالى أعلم، قال ولم يجزم ابن جرير بشيء من هذه الأقوال في الشفع والوتر.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير هذا الحديث موقوفاً على عمران، فهذا يقوي ما قاله ابن كثير.
وعن جابر مرفوعاً " أن العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر " أخرجه أحمد والنسائي والبزار والحاكم وصححه وغيرهم.
وعن ابن عباس قال كل شيء شفع فهو اثنان، والوتر واحد. وعن أبي أيوب عن النبي ﷺ " أنه سئل عن الشفع والوتر فقال يومان وليلة يوم عرفة ويوم النحر، والوتر ليلة النحر ليلة جمع " أخرجه الطبراني وابن مردويه، قال السيوطي بسند ضعيف.
وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الشفع
_________
(١) رواه أحمد في " المسند " ٤/ ٤٤٢ من حديث همام عن قتادة عن عمران بن عصام الضبعي أبو عمارة البصري، عن شيخ أهل البصرة، عن عمران بن حصين رضي الله عنه. ورواه أيضاًً الترمذي ٢/ ١٧٠ من حديث همام عن قتادة به، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث قتادة، وقد رواه خالد بن قيس أيضاًً عن قتادة، ورواه ابن جرير الطبري ٣٠/ ١٧٢ عن خالد بن قيس عن قتادة به، والحاكم في " المستدرك " ٢/ ٥٢٢ من حديث همام عن قتادة به، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وفيه نظر، لأن الراوي عن عمران بن حصين مجهول، ولم يوثقه إلا ابن حبان. وأورده السيوطي في " الدر " ٦/ ٣٤٦ وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
وعن ابن عباس قال الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة.
قرأ الجمهور الوتر بفتح الواو، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بكسرها وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه، وهما لغتان، والفتح لغة قريش وأهل الحجاز، والكسر لغة تميم. قال الأصمعي كل فرد وتر، وأهل الحجاز يفتحون فيقولون وتر في الفرد، وحكى يونس عن ابن كثير أنه قرأ بفتح الواو وكسر التاء فيحتمل أن يكون لغة ثالثة. ويحتمل أنه نقل كسرة الراء إلى التاء إجراء للوصل مجرى الوقف.
قال المؤرج سألت الأخفش عن العلة في إسقاط الياء من (يسري) فقال لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة فبت على باب داره سنة فقال الليل لا يسري وإنما يسرى فيه فهو مصروف عن جهته وكل ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه، ألا ترى إلى قوله (وما كانت أمك بغياً) ولم يقل بغية لأنه صرفها عن باغية.
وفي كلام الأخفش هذا نظر فإن صرف الشيء عن معناه بسبب من الأسباب لا يستلزم صرف لفظه عن بعض ما يستحقه، ولو صح ذلك للزم في كل المجازات العقلية واللفظية، واللازم باطل فالملزوم مثله، والأصل هنا
ومعنى (والليل إذا يسر) إذا يمضي كقوله (والليل إذ أدبر)، (والليل إذا عسعس) وقيل معنى يسر يسار فيه كما يقال ليل نائم ونهار صائم وبهذا قال الأخفش والقتيبي وغيرهما من أهل المعاني، وعلى هذا نسبة السري إلى الليل مجاز والمراد يسرى فيه فهو مجاز في الإسناد بإسناد ما للشيء للزمان كما يسند للمكان، والظاهر أنه مجاز مرسل أو استعارة، وبالأول قال جمهور المفسرين.
وقال قتادة وأبو العالية (والليل إذا يسر) أي جاء وأقبل، وقال النخعي أي استوى، قال عكرمة وقتادة والكلبي ومحمد بن كعب هي ليلة المزدلفة خاصة لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله سبحانه، وقيل ليلة القدر لسراية الرحمة فيها واختصاصها بزيادة الثواب، والراجح عدم تخصيص ليلة من الليالي دون أخرى.
قال ابن عباس (إذا يسر) إذا ذهب، ويسر مأخوذ من السري وهو خاص بسير الليل، يقال سريت الليل وسريت به، وقد استعملت العرب سرى في المعاني تشبيهاً لها بالأجسام مجازاً، واتساعاً نحو طاف الخيال وذهب الهم وأخذه الكسل والنشاط.
وقول الفقهاء سرى الجرح إلى النفس معناه دام ألمه حتى حدث منه الموت، وقطع كفه فسرى إلى ساعده أي تعدى أثر الجرح، وسرى التحريم وسرى العتق بمعنى التعدية. وهذه الألفاظ جارية على ألسنة الفقهاء، وليس لها ذكر في الكتب المشهورة لكنها موافقة لما تقدم.
قال الفارابي سرى فيه السم والخمر ونحوهما، وقال السرقسطي سرى عرق السوء من الإنسان، وقال ابن القطاع سرى عليه الهم أتاه ليلاً، وسرى همه ذهب.
(لذي حجر) أي عقل ولب، فمن كان ذا عقل ولب علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء حقيق بأن يقسم به، ومثل هذا قوله (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) قال الحسن: لذي حجر أي لذي حلم، وقال أبو مالك: لذي ستر من الناس، وقال الجمهور: الحجر العقل قال الفراء: الكل يرجع إلى معنى واحد لذي عقل ولذي حلم ولذي ستر، الكل بمعنى العقل.
وأصل الحجر المنع يقال لمن ملك نفسه ومنعها أنه لذو حجر، ومنه سمي الحجر لامتناعه بصلابته ومنه حجر الحاكم على فلان أي منعه، قال والعرب تقول إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها، قال ابن عباس لذي حجر لذي حجى وعقل ونهي.
ثم ذكر سبحانه على طريق الاستشهاد ما وقع من عذابه على بعض طوائف الكفار بسبب كفرهم وعنادهم وتكذيبهم للرسل تحذيراً للكفار في عصر نبينا صلى الله عليه وسلم، وتخويفاً لهم أن يصيبهم ما أصابهم فقال:
ولا بد من تقدير مضاف على كلا القولين أي أهل إرم أو سبط إرم فإن إرم هو جد عاد، لأنه عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وقرأ الحسن وأبو العالية بإضافة عاد إلى إرم، وقرأ الجمهور إرم بكسر الهمزة وفتح الراء والميم، وقرىء بفتح الهمزة والراء وقرأ معاذ بسكون الراء تخفيفاً وقرىء بإضافة إرم إلى ذات العماد.
وقال مجاهد: من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالإِرم التي هي الأعلام واحدها أرم. وفي الكلام تقديم وتأخير أي والفجر وكذا وكذا إن ربك لبالمرصاد ألم تر أي ألم ينته علمك إلى ما فعل ربك بعاد، وهذه الرؤية رؤية القلب، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو لكل من يصلح له.
وقد كان أمر عاد وثمود مشهوراً عند العرب، لأن ديارهم متصلة بديار العرب، وكانوا يسمعون من أهل الكتاب أمر فرعون.
وقال مجاهد أيضاً إرم أمة من الأمم، وقال قتادة هي قبيلة من عاد، وقيل هما عادان فالأولى هي إرم، قال معمر إرم إليه مجتمع عاد وثمود وكان يقال عاد إرم وعاد ثمود وكانت القبيلتان تنسب إلى إرم، قال أبو عبيدة هما عادان فالأولى إرم.
ومعنى ذات العماد ذات القوة والشدة مأخوذ من قوة الأعمدة، كذا قال الضحاك وقال قتادة ومجاهد أنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم، وقال مقاتل ذات العماد يعني طولهم، وكان طول
قال أبو عبيدة ذات العماد ذات الطول، يقال رجل معمد إذا كان طويلاً، وقال مجاهد وقتادة أيضاًً كان عماداً لقومهم يقال فلان عميد القوم وعمودهم أي سيدهم، وقال ابن زيد ذات العماد يعني إحكام البنيان بالعمد.
قال في الصحاح: والعماد الأبنية الرفيعة تذكر وتؤنث، وقال عكرمة وسعيد المقبري: هي دمشق، وعن مالك مثله، وقال محمد بن كعب: هي الاسكندرية، قال ابن عباس يعني بالإرم الهالك، ألا ترى أنك تقول إرم بنو فلان، وذات العماد يعني طولهم مثل العماد.
وعن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه ذكر إرم ذات العماد فقال كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة فيحملها على كاهله فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم " أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه وفي إسناده رجل مجهول لأن معاوية بن صالح رواه عمن حدثه عن المقدام.
وقد ذكر جماعة من المفسرين أن إرم ذات العماد اسم مدينة مبنية بالذهب والفضة قصورها ودورها وبساتينها وأن حصباءها جواهر، وترابها مسك، وليس بها أنيس ولا فيها ساكن من بني آدم وأنها لا تزال تنتقل من موضع إلى موضع تارة تكون باليمن وتارة تكون بالشام وتارة تكون بالعراق وتارة تكون بسائر البلاد. وهذا كذب بحت لا ينفق (١) على من له أدنى تمييز.
_________
(١) لا يروج.
وقد أصيب الإسلام وأهله بداهية دهياء وفاقرة عظمى. ورزية كبرى من أمثال هؤلاء الكذابين الدجالين الذين يجترئون على الكذب تارة على بني إسرائيل وتارة على الأنبياء وتارة على الصالحين، وتارة على رب العالمين، وتضاعف هذا الشر وزاد كثرة بتصدر جماعة من الذين لا علم لهم بصحيح الرواية من ضعيفها بل موضوعها للتصنيف والتفسير للكتاب العزيز فأدخلوا هذه الخرافات المختلفة، والأقاصيص المنحولة والأساطير المفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه، فحرفوا وغيروا وبدلوا، ومن أراد أن يقف على بعض ما ذكرنا فلينظر في كتاب الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني.
قال الحافظ ابن كثير لا تغتر بما ذكر جماعة من المفسرين من ذكر مدينة يقال لها إرم ذات العماد فإن ذلك كله من خرافات الإسرائيليين من وضع الزنادقة منهم ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس، فهذا وأمثاله مختلق لا حقيقة له.
وأما قوله تعالى فالمراد من الآية إنما هو الإخبار عن هلاك القبيلة المسماة بعاد الذين أرسل الله فيهم هوداً فكذبوه فأهلكهم الله، وإرم عطف بيان لعاد أو بدل منه للإعلام بأنهم عاد الأولى فسموا باسم جدهم إرم كما يقال لبني هاشم " هاشم " لأن عاد هو ابن عوض بن إرم سام بن نوح، وقيل إرم اسم بلدتهم وأرضهم بالتقدير بعاد أهل إرم كقوله تعالى (واسأل القرية) أي أهلها وذات العماد إن كان صفة للقبيلة فمعناها أنهم أصحاب خيام لها أعمدة يظعنون بها، أو هو كناية عن طول أجسامهم وتشبيهها بالأعمدة، وإن كان صفة للبلدة فمعناه أنها ذات عمد من الحجارة.
وتعقب هذا القول بأنه لو كان ذلك مراداً لقال التي لم يعمل مثلها في البلاد وإنما قال (لم يخلق) فالقول الأول هو الصواب انتهى، وبه قال شيخ
قال عبد الرحمن بن خلدون في كتاب العبر بعد ذكر أغلاط المؤرخين:
وأبعد من ذلك وأغرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير سورة والفجر في قوله تعالى (إرم ذات العماد) فيجعلون لفظة إرم إسماً لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطين وهي كذا وكذا ذكر ذلك الطبري والثعالبي والزمخشري وغيرهم من المفسرين، وينقلون عن عبد الله ابن قلابة من الصحابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها الخ وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض، وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زال عمرانه متعاقباً والأدلاء تقص طرقه ولم ينقل عن هذه المدينة خبر. ولا ذكرها أحد من الإخباريين، ولا من الأمم، ولو قالوا أنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة، وبعضهم يقول أنها دمشق بناء على أن قوم عاد ملكوها، وقد ينتهي الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة، وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر، مزاعم كلها أشبه بالخرافات.
والذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الأعراب في لفظة ذات العماد أنها صفة إرم وحملوا العماد على الأساطين فتعين أن يكون بناء، ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير عاد إرم على الإضافة من غير تنوين ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات، وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام وإن أريد بها الأساطين فلا بدع وصفهم بأنه أهل بناء وأساطين على العموم بما اشتهر من قوتهم لا إنه بناء خاص في مدينة معينة كما تقول قريش كنانة والياس مضر، وربيعة نزار، وأي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحل لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله تعالى عن مثلها لبعدها عن الصحة انتهى كلامه.
(الذين جابوا الصخر) أي قطعوه وقال ابن عباس: خرقوه والجوب القطع ومنه جاب البلاد إذا قطعها، ومنه سمي جيب القميص لأنه جيب أي قطع، قال المفسرون أول من نحت الجبال والصخور ثمود فبنوا من المدائن ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة، ومنه قوله سبحانه (وتنحتون من الجبال بيوتاً آمنين) وكانوا ينحتون الجبال وينقبونها ويجعلون تلك الأنقاب بيوتاً يسكنون فيها.
وقوله (بالواد) متعلق بجابوا أو بمحذوف على أنه حال من الصخر وهو وادي القرى، وهو موضع بقرب المدينة من جهة الشام، وقيل الوادي بين جبال، وكانوا ينقبون في تلك الجبال بيوتاً ودوراً وأحواضاً وكل منفرج بين جبال أو تلال يكون مسلكاً للسيل ومنفذاً فهو واد، وقرأ الجمهور بالواد بحذف الياء وصلاً ووقفاً إتباعاً لرسم المصحف، وقرأ ابن كثير بإثباتها فيهما وقرىء بإثباتها في الوصل دون الوقف.
وقال ابن مسعود: وتد فرعون لامرأته أربعة أوتاداً ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت.
وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم هو بالنسبة إلى ما أعده لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به، وقيل ذكر السوط للدلالة على شدة ما نزل بهم وكان السوط عندهم هو نهاية ما يعذب به.
وقال الفراء هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب. وأصل ذلك أن السوط هو عذابهم الذي يعذبون به فجرى لكل عذاب إذ كان فيه عندهم غاية العذاب، وقيل معناه عذاب يخالط اللحم والدم من قولهم ساطه
وقوله:
وقد قدمنا قول من قال أن هذا جواب القسم، وبه قال ابن مسعود، والأولى أن الجواب محذوف والمعنى أنه يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه عليه بالخير خيراً وبالشر شراً ففيه استعارة تمثيلية قال الحسن وعكرمة أي عليه طريق العباد لا يفوته أحد، والرصد والمرصاد الطريق.
وقد تقدم بيانه في سورة براءة، وقد تقدم أيضاًً عند قوله: (إن جهنم كانت مرصاداً) وقال ابن عباس: بالمرصاد أي يسمع ويرى، وقال ابن مسعود في الآية من وراء الصراط جسور جسر عليه الأمانة وجسر عليه الرحم وجسر عليه الرب عز وجل.
ولما ذكر سبحانه أنه ذكر ما يدل على اختلاف أحوال عباده عند إصابة الخير وعند إصابة الشر، وإن مطمح أنظارهم ومعظم مقاصدهم هو الدنيا فقال:
ويحتمل أن يراد الإنسان على العموم لعدم تيقظه أن ما صار إليه من الخير وما أصيب به من الشر في الدنيا ليس إلا للاختبار والإمتحان، وأن الدنيا بأسرها لا تعدل عند الله جناح بعوضة ولو كانت تعدل جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء.
قرىء بإثبات الياء في أكرمن وأهانن وصلاً، وحذفها وقفاً، وقرىء بإثباتها فيهما، وقرىء بحذفها في الوصل والوقف اتباعاً لرسم المصحف وموافقة لرؤوس الآي، والأصل إثباتها لأنها اسم، وقرأ الجمهور (فقدر) بالتخفيف وقرىء بالتشديد وهما لغتان، وقرىء ربي بفتح الياء في الموضعين وبسكونها فيهما.
وقوله:
(بل لا تكرمون اليتيم) والالتفات إلى الخطاب لقصد التوبيخ والتقريع على قراءة الجمهور بالفوقية، وقرىء بالتحتية على الخبر، وهكذا اختلفوا فيما بعد هذا من الأفعال، فقرأ الجمهور تحضون وتأكلون وتحبون بالفوقية على الخطاب فيها، وقرىء بالتحتية فيها والجمع في هذه الأفعال باعتبار معنى الإنسان لأن المراد به الجنس أي بل لكم أفعال هي أقبح مما ذكر، وهي أنكم تتركون إكرام اليتيم فتأكلون ماله وتمنعونه من فضل أموالكم، قال مقاتل نزلت في قدامة بن مظعون وكان يتيماً في حجر أميَّة ابن خلف.
وأصل اللّم في كلام العرب الجمع يقال لممت الشيء ألمّه لمّاً جمعته، ومنه قولهم لَمَّ الله شعثه أي جمع ما تفرق من أموره، قال الليث: اللّم الجمع
وكان حكم الإرث عندهم من بقايا شريعة إسماعيل أو مما هو معلوم لهم وثابت عندهم بطريق عادتهم، فلا يقال السورة مكية وآية المواريث مدنية ولا يعلم الحل والحرمة إلا من الشرع.
ثم كرر سبحانه الردع لهم والزجر فقال
وقد تقدم الكلام على الدك في سورة الأعراف وفي سورة الحاقة، والمعنى أنها دكت مرة بعد أخرى، ونصب دكاً الأول على أنه مصدر مؤكد للفعل، ودكاً الثاني تأكيد للأول، وكذا قال ابن عصفور.
ويجوز أن يكون النصب على الحال، والمعنى حال كونها مدكوكة مرة بعد مرة، كما يقال: علمته الحساب باباً باباً، وعلمته الخط حرفاً حرفاً، والمعنى أنه كرر الدك عليها حتى صارت (هباء منبثاً) قال ابن عباس يعني تحريكها.
والحق أن هذه الآية من آيات الصفات التي سكت عنها وعن مثلها عامة سلف الأمة وأئمتها وبعض الخلف فلم يتكلموا فيها، بل أجروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تأويل ولا تحريف ولا تعطيل، وقالوا يلزمنا الإيمان بها وإجراؤها على ظاهرها، والتأويل ديدن المتكلمين ودين المتأخرين، وهو خلاف ما عليه جمهور السلف الصالحين.
وقوله (والملك صفاً صفاً) منتصب على الحال أي مصطفين أو ذوي الصفوف، قال عطاء يريد صفوف الملائكة وأهل كل سماء صف على حدة قال الضحاك أهل كل سماء إذا نزلوا يوم القيامة كانوا صفاً محيطين بالأرض ومن فيها فيكونون سبعة صفوف.
وهذا الذي نقله عن جماعة المفسرين قد أتى مرفوعاً عن رسول الله ﷺ فقد أخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها " (١) وعلى هذا فالآية مجراة على ظاهرها وقيل المعنى أنها برزت لأهلها كقوله: (وبرزت الجحيم للغاوين) والأول أولى.
(يومئذ) بدل من يومئذ الذي قبله أي يوم جيء بجهنم (يتذكر الإنسان) أي يتعظ ويذكر ما فرط منه ويندم على ما قدمه في الدنيا من الكفر والمعاصي، وقيل إن قوله: (يومئذ) الثاني بدل من قوله (إذا دكت) والعامل فيهما هو قوله: يتذكر الإنسان (وأنى له الذكرى) أي ومن أين له التذكرة والاتعاظ. وقيل هو على حذف مضاف أي ومن أين له منفعة الذكرى، قال الزجاج: يظهر التوبة ومن أين له التوبة.
_________
(١) صحيح مسلم ٤/ ٢١٨٤.
قال الفراء المعنى أنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر المعين أحد ولا يوثق بالسلاسل والأغلال كوثاقه أحد، لتناهيه في الكفر والعناد، وقيل المعنى إنه لا يعذب مكانه أحد ولا يوثق مكانه أحد فلا تؤخذ منه فدية وهو كقوله؛ (ولا تزر وازرة وزر أخرى) والعذاب بمعنى التعذيب والوثاق بمعنى التوثيق.
واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة المبني للمفعول وقالا تكون الهاء في الموضعين ضميراً لكافر لأنه معروف أنه لا يعذب كعذاب الله أحد، وقال أبو علي الفارسي يجوز أن يكون الضمير للكافر على قراءة الجماعة أي لا يعذب أحد أحداً مثل تعذيب هذا الكافر.
ولما فرغ سبحانه من حكاية أحوال الأشقياء ذكر بعض أحوال السعداء فقال:
قال الحسن هي المؤمنة الموقنة، وقال مجاهد الراضية بقضاء الله التي علمت أن ما أخطأها لم يكن لصيبها وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وقال مقاتل هي الآمنة المطمئنة. وقال ابن كيسان المطمئنة بذكر الله تعالى وقيل المخلصة، قال ابن زيد المطمئنة لأنها بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث،
والمعنى ارجعي إلى الله وقيل إلى موعده وقيل إلى أمره، وقال عكرمة وعطاء إلى جسدك الذي كنت فيه، واختاره ابن جرير، ويدل على هذا قراءة ابن عباس
قال القفال: هذا وإن كان أمراً في الظاهر فهو خبر في المعنى، والتقدير أن النفس إذا كانت مطمئنة رجعت في القيامة إلى الله بسبب هذا الأمر. قال ابن عباس: " نزلت هذه الآية وأبو بكر جالس، فقال: يا رسول الله ما أحسن هذا فقال أما أنه سيقال لك هذا " أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة، وعن سعيد بن جبير نحوه مرسلاً، وعن أبي بكر الصديق نحوه.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: (يا أيتها النفس المطمئنة) قال هو النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه قال: المطمئنة المصدقة، وعنه قال ترد الأرواح يوم القيامة في الأجساد، وعنه قال: راضية بما أعطيت من الثواب، مرضية عنها بعملها.
(فادخلي في عبادي) المؤمنين أي في زمرة عبادي الصالحين وكوني من جملتهم، وانتظمي في سلكهم: وهذا يشعر بأن النفس بمعنى الذات، ويجوز أن تكون بمعنى الروح كما أشار له البيضاوي
وأتى بالفاء فيما لم يتراخ عن الموت وبالواو فيما يتراخى عنه.
والمراد بالآية كل نفس مطمئنة على العموم لأن السورة مكية ولا ينافي ذلك نزولها في نفس معينة فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ويقال سورة لا أقسم وهي عشرون آية وهي مكية بلا خلاف، عن ابن عباس قال نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله.
بسم الله الرحمن الرحيم
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (٩)