تفسير سورة هود

جهود القرافي في التفسير
تفسير سورة سورة هود من كتاب جهود القرافي في التفسير .
لمؤلفه القرافي . المتوفي سنة 684 هـ

٦٩٨- حصل من ذلك أن أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمبادرين إلى تصديقهم إنما هم الفقراء والضعفاء، وأعداء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومعاندوهم هم الأغنياء. ( الفروق : ٤/٢٢١ )
٦٩٩- إن التصغير قد يكون لغير التحقير نحو قوله تعالى :﴿ يا بني اركب معنا ﴾. ( الذخيرة : ٩/٢٨١ )
٧٠٠- أي : بجواز سؤاله، فاشترط العلم بالجواز قبل الإقدام على الدعاء، وهو يدل أن الأصل في الدعاء التحريم إلا ما دل الدليل على جوازه. ( الفروق : ٤/٢٥٦ )
٧٠١- معناه : ما ليس لي بجواز سؤاله علم فدل ذلك على أنه لا يجوز له أن يقدم على الدعاء والسؤال إلا بعد علمه بحكم الله تعالى في ذلك السؤال، وأنه جائز١، وذلك بسبب كونه عليه السلام عوقب على سؤاله عز وجل لابنه أنه يكون معه في السفينة لكونه سأل قبل العلم بحال الولد٢، وأنه مما ينبغي طلبه أم لا. ( نفسه : ٢/١٤٨ )
١ - قال الإمام القرافي: "من الدعاء المحرم الذي ليس بكفر، وهو الدعاء بالألفاظ العجمية لجواز اشتمالها على ما ينافي جلال الربوبية، فمنع العلماء من ذلك، وبعضها يقرب من التحريم، وبعضها من الكراهة حسب حال مستعمليها من العجم، فمن غلب على العلماء عادته الضلال والفساد حرم استعمال لفظه حتى يعلم خلوصه من الفساد. ومن لا يكون كذلك فالكراهة سدا للذريعة، ويدل على تحريمه قوله تعالى: ﴿فلا تسألن ما ليس لك به علم﴾" ن: الفروق: ٤/٢٩٠-٢٩١..
٢ قوله تعالى:﴿قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين﴾هود: ٤٦..
٧٠٢- لو حذفت " من " لم يحصل العموم. ( العقد المنظوم : ١/٥٣٢ )
* قوله تعالى :﴿ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ﴾ :
٧٠٣- هو استثناء مفرغ، لتوسطه بين الفعل والمفعول، لأن معنى " نقول " : نقدر. و " أن " معناها " ما " النافية.
وتقدير الكلام : " ما نقدر إلا أن بعض آلهتنا إذا سببته اعتراك بسوء "، " فأن " وما بعدها في تأويل المصدر مفعول ب " نقدر "، والمستثنى منه على هذا التقدير أفراد المفاعيل.
ومعنى الكلام : " لا سلامتك من الآلهة ولا غفلتهم عنك ولا غير ذلك من الأمور التي يمكن تقديرها بل إصابتك فقط، ويقال عر، يعر، اعترى، يعترى إذا ألم بالشيء ". ( الاستغناء : ٢٠٥ )
* قوله تعالى :﴿ ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ﴾ :
٧٠٤- هو استثناء مفرغ لتوسطه بين المبتدأ وخبره.
وفيه من الأسئلة : أن " من " هل زائدة أو مفيدة للعموم، ولولاها لم يثبت العموم ؟ ولم خصص الدواب دون بقية المخلوقات العاقلة وغير العاقلة ؟ ولم خصص الناصية ؟ وما المستثنى منه ؟
والجواب :
أن لفظ الدابة ليس من الألفاظ الموضوعة للاستعمال في النفي، لأن الألفاظ الموضوعة للاستعمال في النفي ذكرها اللغويون في نحو عشرين صورة، ليست هذه منها. قال الزمخشري في قوله تعالى :﴿ ما لكم من إله غيره ﴾١ : لو حذفت " من " لم يبق العموم. فهذه الألفاظ لا تفيد العموم إلا إذا دخلت عليها " من ". فتكون " من " هاهنا ليست زائدة مؤكدة للعموم، بل منشئة له. وأصلها أن تكون مبتدأ مرفوعا، تقديره : " ما دابة إلا يأخذ ربي بناصيتها ". فدخلت " من " على المبتدإ، فهو مخفوض في اللفظ مرفوع في المعنى.
وأما وجه تخصيص الدابة، فلأنه موضوع في اللغة لمطلق ما دب على الأرض، فهو يشمل نوع الإنسان وجنسه الذي هو الخطاب بينه وبين هود عليه السلام، فيناسب ألا يبعد عنهم بعدا شديدا إلى مطلق الوجود أو مطلق العاقل فيضعف الوعيد. والاقتصار عليهم بخصوصهم أيضا ليس فيه إشارة إلى عموم الاقتدار، فكانت هذه الرتبة المتوسطة جامعة بين عموم الاقتدار وقوة الوعيد، فكانت أبلغ وأتم.
وأما الناصية فلأنها الموضع الذي عادة الفرس يقاد به، وكذلك كل أسير إذا أخذ يمسك بناصيته، حتى عادة العرب تجز بناصية الأسير إذا أطلقته لتدل بذلك على أنها قدرت عليه وأطلقته، لأنها موضع الأخذ. ثم لما كثر ذلك في الاستعمال صار الأخذ بالناصية يعبر به عن مطلق القهر والاستيلاء، وإن لم يحصل مس باليد، وهو المراد هاهنا.
وأما المستثنى منه فهو أحوال الدواب، أي : " لا توجد دابة في حالة هي الإهمال ولا في حالة هي أنها المستولية، بل لا يوجد إلا في هذه الحالة، وهي استيلاء الله تعالى عليها، وانقيادها له في أقصى غاية الانقياد، فلا يمكن أن توجد دابة إلا في هذه الحالة ". والمستثنى منه أحوال. ( نفسه : ٢٠٥ إلى ٢٠٧ )
١ - سورة الأعراف: ٥٩..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٤:* قوله تعالى :﴿ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ﴾ :

٧٠٣-
هو استثناء مفرغ، لتوسطه بين الفعل والمفعول، لأن معنى " نقول " : نقدر. و " أن " معناها " ما " النافية.
وتقدير الكلام :" ما نقدر إلا أن بعض آلهتنا إذا سببته اعتراك بسوء "، " فأن " وما بعدها في تأويل المصدر مفعول ب " نقدر "، والمستثنى منه على هذا التقدير أفراد المفاعيل.
ومعنى الكلام :" لا سلامتك من الآلهة ولا غفلتهم عنك ولا غير ذلك من الأمور التي يمكن تقديرها بل إصابتك فقط، ويقال عر، يعر، اعترى، يعترى إذا ألم بالشيء ". ( الاستغناء : ٢٠٥ )
* قوله تعالى :﴿ ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ﴾ :

٧٠٤-
هو استثناء مفرغ لتوسطه بين المبتدأ وخبره.
وفيه من الأسئلة : أن " من " هل زائدة أو مفيدة للعموم، ولولاها لم يثبت العموم ؟ ولم خصص الدواب دون بقية المخلوقات العاقلة وغير العاقلة ؟ ولم خصص الناصية ؟ وما المستثنى منه ؟

والجواب :

أن لفظ الدابة ليس من الألفاظ الموضوعة للاستعمال في النفي، لأن الألفاظ الموضوعة للاستعمال في النفي ذكرها اللغويون في نحو عشرين صورة، ليست هذه منها. قال الزمخشري في قوله تعالى :﴿ ما لكم من إله غيره ﴾١ : لو حذفت " من " لم يبق العموم. فهذه الألفاظ لا تفيد العموم إلا إذا دخلت عليها " من ". فتكون " من " هاهنا ليست زائدة مؤكدة للعموم، بل منشئة له. وأصلها أن تكون مبتدأ مرفوعا، تقديره :" ما دابة إلا يأخذ ربي بناصيتها ". فدخلت " من " على المبتدإ، فهو مخفوض في اللفظ مرفوع في المعنى.
وأما وجه تخصيص الدابة، فلأنه موضوع في اللغة لمطلق ما دب على الأرض، فهو يشمل نوع الإنسان وجنسه الذي هو الخطاب بينه وبين هود عليه السلام، فيناسب ألا يبعد عنهم بعدا شديدا إلى مطلق الوجود أو مطلق العاقل فيضعف الوعيد. والاقتصار عليهم بخصوصهم أيضا ليس فيه إشارة إلى عموم الاقتدار، فكانت هذه الرتبة المتوسطة جامعة بين عموم الاقتدار وقوة الوعيد، فكانت أبلغ وأتم.
وأما الناصية فلأنها الموضع الذي عادة الفرس يقاد به، وكذلك كل أسير إذا أخذ يمسك بناصيته، حتى عادة العرب تجز بناصية الأسير إذا أطلقته لتدل بذلك على أنها قدرت عليه وأطلقته، لأنها موضع الأخذ. ثم لما كثر ذلك في الاستعمال صار الأخذ بالناصية يعبر به عن مطلق القهر والاستيلاء، وإن لم يحصل مس باليد، وهو المراد هاهنا.
وأما المستثنى منه فهو أحوال الدواب، أي :" لا توجد دابة في حالة هي الإهمال ولا في حالة هي أنها المستولية، بل لا يوجد إلا في هذه الحالة، وهي استيلاء الله تعالى عليها، وانقيادها له في أقصى غاية الانقياد، فلا يمكن أن توجد دابة إلا في هذه الحالة ". والمستثنى منه أحوال. ( نفسه : ٢٠٥ إلى ٢٠٧ )
١ - سورة الأعراف: ٥٩..

٧٠٥- قال أئمة اللغة : الوراء : ولد الولد. ( الذخيرة : ٤/١٦١ )
* قوله تعالى :﴿ إلا امرأتك ﴾ :
٧٠٦- قرئ بالنصب والرفع١، فعلى النصب : مستثناة من الجملة الأولى، لأنها جملة موجبة، وعلى الرفع : مستثناة من الثانية لأنها منفية. وتكون قد خرجت معهم ثم رجعت فهلكت، كذلك نقله علماء التفسير. ( شرح التنقيح : ٢٥٢. الاستغناء : ٥٧٥. العقد : ٢/٣٤٧ )
٧٠٧- في هذه الآية من المسائل : ما معنى القطع ؟ وما وجه من قرأ :﴿ إلا امرأتك ﴾ بالرفع والنصب ؟ وما المستثنى منه ؟
والجواب : أما القطع فاسم للقطعة من الليل، يشبه الذبح، اسما للشيء المذبوح. وقال أبو عمرو :﴿ إلا امرأتَك ﴾ بالرفع على البدل من " أحد "، لأنه استثناء من نفي. وقرأ الباقون بالنصب. وعلل بأمور ثلاثة :
أحدها : وإن كان استثناء من نفي إلا أنه في معنى الموجب لأنه مستقل بنفسه لقوله :﴿ إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم ﴾ فأشبه الاستثناء من الإيجاب.
وثانيها : أنه مستثنى من أصل الكلام من قوله تعالى :﴿ فاسر بأهلك ﴾ وهو موجب، على هذا التأويل لا يجوز إلا النصب.
وثالثها : أنه من النفي، وفيه لغة بالنصب.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام٢ : لا يصح الاستثناء من ﴿ لا يلتفت ﴾ ويرفع المستثنى إلا إذا كان الفعل إخبارا مرفوع الأخير، لكن القراءة بالجزم في التاء من ﴿ لا يلتفت ﴾ فيلزم من استثناء المرأة منه أن يكون أذن لها في الالتفات، فيفسد معنى الآية.
وأجيب بأن المقصود بالنهي إنما هو لوط وحده، نهي أن يخلي أحدا يلتفت إلا امرأته، فإنه لم ينه عنه، بل يتركها تفعل ما بدا لها.
ومعنى الآية : " لا يلتفت أحد إلى ما خلفه، بل يخرج مسرعا مع لوط عليه السلام ". وروي أن امرأته سمعت الهدة فردت بصرها، وقالت : وا قوماه ! فأصابها حجر فقتلها٣. ( الاستغناء : ٣٢٨- ٣٢٩ )
١ - قرأه ابن كثير وأبو عمرو بالرفع على البدل من "أحد" لأنه نهي، والنهي نفي، والبدل في النفي وجه الكلام لأنه بمعنى: "ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك". وقرأ الباقون بالنصب على الاستثناء من الإيجاب في قوله: ﴿فاسر بأهلك﴾. ن: الكشف عن وجوه القراءات: ١/٥٣٦..
٢ - هو القاسم بن سلام الهروي الأزدي الخزاعي بالولاء، أبو عبيد. من أهل هراة. (ت: ٣٢٤هج). من مصنفاته: "الغريب المصنف" و"فضائل القرآن" و"الأمثال" وغيرها. ن: تذكرة الحفاظ: ٢/٥. تهذيب التهذيب: ٧/٣١٥. تاريخ بغداد: ٤٠٣..
٣ - ن: تفسير ابن كثير: ٢/٧٠٢..
٧٠٨- مرادهم ضد ذلك، وهو كثير في القرآن١. ( الذخيرة : ١٢/٩٤ )
١ - يقصد التعريض..
٧٠٩- هو استثناء مفرغ لتوسطه بين المبتدإ والخبر، والاستثناء واقع فيه من الأسباب. أي : " وما توفيقي بسبب من الأسباب إلا بالله " أي : بقدرة الله تعالى، فهو السبب الذي يحصل التوفيق لي دون غيره من الأسباب. فالمستثنى والمستثنى منه أسباب. ( الاستغناء : ٢٠٧ )
٧١٠- الرهط : قبيلة الرجل وقومه، التي تنصره. قال تعالى :﴿ ولولا رهطك لرجمناك ﴾. ( الذخيرة : ٦/٣٥٩ )
٧١١- في هذه الآية من المسائل : من الذين شقوا ؟ هل يتدرج العصاة فيهم أم لا ؟ وما معنى الزفير والشهيق ؟ وهل هما مترادفان أو متباينان ؟ وما معنى الاستثناء في الآية ؟ وهل ذلك يأبى الخلود الدائم أم لا ؟ لأن السماوات والأرض لا يدومان، وذلك يقتضي ألا يدوم نعيم ولا عذاب، وهو خلاف المعلوم من الدين بالضرورة ؟ وما معنى المجذوذ ؟
والجواب : اختلف في :﴿ الذين شقوا ﴾، فقيل، الكفار والعصاة الذين لا يخلدون، وقيل : الكفار الذين يخلدون فقط، وهو الصحيح.
والزفير : صوت شديد خاص بالمحزون والوجع.
والشهيق : يكون في صوت الباكي الذي يصيح خلال بكائه.
وقال ابن عباس : الزفير صوت حاد، والشهيق صوت ثقيل.
وقال ابن العالية : الزفير من الصدر، والشهيق من الحلق، وقيل بالعكس١.
وقال قتادة : الزفير أول صوت الحمار، والشهيق آخره. فصياح أهل النار كذلك٢.
وقيل : الزفير مأخوذ من الزفر، وهو الشدة، والشهيق مأخوذ من قولهم جبل شاهق.
وأما الاستثناء، فاختلف العلماء في السماوات والأرض، المذكورات في الآية : فقيل : سماوات الدنيا وأرضها.
وقيل : سماء الجنة وأرضها، وسماء النار وأرضها، فقيل : إن الله يبدل السماء والأرض يوم القيامة، ويجعل الأرض مكانا لجهنم والسماء مكانا للجنة، ويتأبد ذلك، فأخبرت الآية عن خلود الفريقين ببقائهما.
وعن ابن عباس : إن الله تعالى خلق السماء والأرض من نور العرش، ثم يردهما إلى هنالك في الآخرة، فيحصل معنى التأبيد والخلود٣.
فأما الاستثناء فباعتبار مبدأ خلقهما، فإن مقتضى الآية : أن مدة الخلود تنطبق على مدة الدوام، بحيث لا يبقى جزء إلا ومعه جزء من الآخر، لكن السماوات والأرض دائمة من أول خلق العالم إلى يوم القيامة، وليس مع هذا الدوام خلود ولا دخول، فهذا هو المستثنى، وهو استثناء متصل صحيح المعنى.
ويرد على هذين القولين ما في الحديث الصحيح : " إن الله تعالى يجعل أول فري أهل الجنة فرصة الأرض بزيادة كبد النون الذي عليه الأرض " ٤. والحكمة في ذلك إفهام أهل الجنة أن الأرض التي كانت محل التعب والنصب والموت قد ذهبت، وهاهي كلوتها، فلا يخطر بعد ذلك بالبال تنغيص بتوهم الرجوع إلى هذه الدار، ومفارقة ذلك النعيم المقيم العظيم، وأكل الأرض يأبى جعلها أرض النار أو الرجوع إلى العرش.
وقيل : بل الخطاب جاء على عادة العرب في التعبير بهذه العبارة عن الدوام المطلق، كقوله : " لا فعلته أبد الدهر " و " ما ناح الحمام " و " ما طرد الليل النهار " إلى غير ذلك من عباراتهم التي يقصدون بها الدوام المطلق٥.
وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يختار في هذه المسألة أن الخطاب يقع في لسان العرب بحسب الاعتقاد، وإن كان الواقع في نفس الأمر يخالفه، كقوله تعالى :﴿ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ﴾٦ أي في رأي العين والاعتقاد، وإلا فالقمر في نفسه لم يعد كالعرجون. وكذلك قوله تعالى :﴿ ... وجدها تغرب في عين حمئة ﴾٧ أي الاعتقاد للرائي لها في ذلك الموضع كما يقول راكب البحر المالح : " الشمس تطلع من البحر وتغرب في البحر "، وهي لا تطلع من البحر ولا تغرب فيه.
ومن قوله تعالى :﴿ يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ﴾٨ أي في اعتقاد الناس في جاري العادة، وإلا فالعودة والبداءة على الله تعالى سواء، والعرب كانت تعتقد عدم البعث ودوام العالم لقوله :
وكل أخ يفارقه أخوه*** لعمرو أبيك إلا الفرقدان.
فخوطبوا بحسب اعتقادهم، وقيل لهم : " حال هؤلاء في دوام عذابهم ونعيمهم كما يعتقدونه في السماوات والأرض ".
وحكى ابن عطية في تفسيره : أن الاستثناء في الآية إنما هو على طريق الاستثناء الذي ندب إليه، كما قال تعالى :﴿ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ﴾٩ قال : لا يوصف هذا الاستثناء بأنه متصل ولا منقطع، لأنه ليس من باب الاستثناء.
وهذا لا يتجه لما تقدم من صحة الاستثناء، أن الإخراج واقع وحق بما تقدم من دوام السماء والأرض.
وقيل : " إلا " بمعنى الواو، أي " وما شاء ربك دوام السماء والأرض ".
وقيل : الاستثناء منقطع، تقديره : " إلا ما شاء ربك زائدا على ذلك، فلا يكون الحكم بعد إلا بنقيض ما حكم به قبلها، فيكون منقطعا من هذا الوجه، كقوله تعالى :﴿ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ﴾١٠.
وقيل : " إلا " بمعنى : سوى. وقيل : " سوى ما شاء ربك من أنواع العذاب غير المذكور لنا ". وهذه كلها أقوال لا حاجة إليها ولا ضرورة، بل الاستثناء صحيح على بابه بمقتضى ظاهر اللفظ، وأنه ما تقدم من الدوام قبل الدخول. هذا كله إذا قلنا : " سماوات الدنيا وأرضها ".
وإن قلنا : " سماوات الجنة وأرضها وسماء النار وأرضها " فهي تدوم لا إشكال في الدوام، وإنما يبقى الإشكال في الاستثناء، وهو صحيح بسبب أن مذهب أهل الحق : الجنة والنار مخلوقتان في دار الدنيا قبل يوم القيامة. وعلى هذا وجد دوام سمائهما وأرضهما، وليس معه خلود البتة من مبدإ خلقهما إلى حين صدق الخلود، وهو زمان عظيم، حسن الاستثناء باعتباره استثناء صحيحا متصلا لا إشكال فيه، وينبغي أن يعلم أن الخلود لا يتحقق بالدخول بل إنما يتحقق بالمكث الطويل. ولذلك قال العلماء في قوله تعالى :﴿ فادخلوها خالدين ﴾١١ : إنها حال مقدرة مستقبلة غير مقارنة، فإن الدخول في أوله ليس معه خلود، ويكون مثل قول العرب : " على يده صقر صائدا به غدا " أي : مقدرا الصيد به.
ومعنى المجذوذ : المقطوع.
سؤال : لم قدم الكلام في الآية على الذين شقوا على الذين سعدوا. وعادت العرب تقديم الأفضل والأهم، كقولهم : أنشد النبي حسان بن ثابت، وقال الله تعالى :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾١٢ ولأن رتبة الشرف تقتضي التقديم ؟
والجواب : أن الكلام لما كان في سياق الوعيد والزجر كان الاهتمام واقعا بذكر الأشقياء، لأن بعذابهم يحصل الزبر لا بنعيم أهل السعادة. فمقصود الآية يقتضي تقديم أهل الشقاء وذكر أحوالهم قبل غيرهم. وهذه الآية في معناها واستثنائها من المهمات في الدين، فينبغي أن يعتنى بها. وقد اتضحت بفضل الله تعالى اتضاحا جليا كافيا. ( الاستغناء : ٣٢٩ إلى ٣٣٤ )
١ - وهو مروي عن ابن عباس أيضا ن: تفسير ابن كثير: ٢/٧١١..
٢ - ن: جامع البيان للطبري: ٧/١١٤..
٣ - لم أعثر على هذه الرواية فيما اطلعت عليه من كتب التفسير بالمأثور..
٤ - أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقائق، الباب: ١٦. ومسلم في صحيحه، كتاب الزهد، الباب: ٢٨. وأحمد في مسنده: ٣/١٢٠..
٥ - قابل بمثل ما أورده الطبري في تفسيره: ٧/١١٤..
٦ - سورة يس: ٣٩..
٧ - سورة الكهف: ٨٦..
٨ - سورة الروم: ٢٧..
٩ - سورة الفتح : ٢٧..
١٠ - سورة الدخان: ٥٦..
١١ - سورة الزمر: ٧٣..
١٢ - سورة الفاتحة: ٥..
Icon