ﰡ
شرح الكلمات:
أتى أمر الله: أي دنا وقرب أمر لله بعذابكم أيها المشركون فلا تستعجلون.
ينزل الملائكة بالروح: أي بالوحي الذي به حياة الأرواح والمراد من الملائكة جبريل.
خلق الإنسان من نطفة: أي قطرة من المني.
دفء ومنافع: أي ما تستدفئون به، ومنافع من العسل واللبن واللحم والركوب.
حين تريحون: أي حين تردونها من مراحها.
وحين تسرحون.: أي وحين إخراجها من مراحها إلى مسارحها أي الأماكن التي تسرح فيها.
إلا بشق الأنفس: أي بجهد الأنفس ومشقة عظيمة.
معنى الآيات:
لقد استعجل المشركون بمكة العذاب وطالبوا به غير مرة فأنزل الله تعالى قوله: ﴿أتى أمر١ الله﴾ أي بعذابكم أيها المستعجلون له. لقد دنا منكم وقرب فالنضر بن الحارث القائل: ﴿اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو أئتنا بعذاب أليم﴾، جاءه بعد سُنيات قلائل فهلك ببدر صَبْراً، إلى جهنم، وعَذَابُ يوم القيامة لمن استعجله قد قرب وقته ولذا عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه وقرب مجيئه فلا معنى لاستعجاله فلذا قال الله تعالى: ﴿فلا تستعجلوه﴾ وقوله ﴿سبحانه وتعالى عما يشركون﴾.
٢ أي: من الأنبياء ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمامهم وخاتمهم وقوله: ﴿أن أنذروا﴾ : تفسير لقوله: ﴿ينزل الملائكة بالروح﴾.
٣ أمر الله الأنبياء الذين أوحي إليهم بشرعه أن ينذروا المشركين عاقبة الشرك ويدعوهم إلى الإيمان والعمل الصالح بعد نبذ الشرك والعمل الفاسد.
٤ هذا الإنسان الخصيم هو أبيّ بن خلف الجمحي، جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعظم رميم فقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رمّ؟ وفيه نزل: ﴿أو لم ير الإنسان أنّا خلقناه من نطفة..﴾ الخ من سورة يس.
٥ الدفء: الشيء الذي يدفىء الإنسان، والجمع: ادفاء، ويقال: دفىء دفاءة ككره كراهة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- قرب يوم القيامة فلا معنى لاستعجاله فإنه آتٍ لا محالة، وكل آتٍ قريب.
٢- تسمية الوحي بالروح من أجل أنه يحيى القلوب، كما تحيي الأجسام الأرواح.
٣- تقرير التوحيد والنبوة والبعث الآخر بذكر مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرأفة والرحمة.
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَآء لَّكُم مِّنْهُ
٢ شق النفس: مشقتها، وغاية جهدها وعليه فالشق المشقة، والشق: الجانب من كل شيء.
٣ في الآية دليل على جواز ركوب الإبل، والحمل عليها لكن لا تحمل أكثر مما تطيق فقد ضرب عمر حمالاً وقال: تحمل على بعيرك ما لا يطيق. وكان لأبي الدرداء جمل يقال له دمون يقول له: يا دمون لا تخاصمني عند ربك.
شرح الكلمات:
ويخلق ما لا تعلمون: من سائر الحيوانات ومن ذلك السيارات والطائرات والقطر.
وعلى الله قصد السبيل: أي تفضلاً منه وامتناناً ببيان السبيل القاصدة وهي الإسلام.
ومنها جائر: أي عادل عن القصد وهو سائر الملل كاليهودية والنصرانية.
ومنه شجر: أي وبسببه يكون الشجر وهو هنا عام في سائر النباتات.
فيه تسيمون: ترعون مواشيكم.
مسخراتٍ بأمره: أي بإذنه وقدرته.
وما ذرأ لكم في الأرض: أي خلق لكم في الأرض من الحيوان والنباتات المختلفة.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في تقرير التوحيد بذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته إذ قال تعالى: ﴿والخيل١ والبغال والحمير﴾ أي خلقها وهو خالق كل شيء لعلة ركوبهم
٢ أي: على الله بيان قصد السبيل، والسبيل هو الإسلام، أي: بيان شرائعه وأحكامه وحِكمه ومواعظه بواسطة كتبه ورسله. وقصد السبيل: استقامته كما أن جائر السبيل: هو الحائد عن الاستقامة.
٣ الشراب: اسم لما يشرب وذكر للماء النازل من السماء فائدتين. الأولى: الشراب والثانية: إنبات النبات وهما نعمتان.
٤ لفظ الشجر: يطلق على النبات ذي الساق الصلبة ويطلق على مطلق العشب والكلأ تغليباً.
٥ الإسامة: إطلاق الإبل للسوم وهو الرعي يقال: سامت الماشية إذا رعت وأسامها: إذا رعاها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- كون الخيل٤ والبغال والحمير خلقت للركوب والزينة لا ينفي منفعة أخرى فيها وهي أكل
٢ الذرء: الخلق بالتناسل والتولّد بالحمل والتفريخ فليس الإنبات فقط.
٣ المخلوقات قسمان: قسم منها مسخر مذلل كالدواب والأنعام والأشجار، وقسم غير مذلل ولا مسخر، وشاهد هذا: قول كعب الأحبار: لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حماراً فقيل له وما هن؟ قال: أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم من شرّ ما خلق وذرأ وبرأ.
٤ ما في الآية: ﴿والخيل والبغال والحمير﴾ ما يدلى على وجوب الزكاة فيها، وفي الحديث الصحيح: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" رواه مالك.
٢- الإسلام هو السبيل التي بينها الله تعالى فضلاً منه ورحمة وما عداه فهي سبل جائرة عن العدل والحق.
٣- فضيلة التفكر والتذكر والتعقل وذم أضدادها لأن الآيات الكونية كالآيات القرآنية إذا لم يتفكر فيها العبد لا يهتدي إلى معرفة الحق المنشود وهو معرفة الله تعالى ليعبده بالذكر والشكر وحده دون سواه.
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ١ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (١٩)
شرح الكلمات.
حلية تلبسونها: هي اللؤلؤ والمرجان.
مواخر فيه: أي تشقه بجريها فيه مقبلة ومدبرة بريح واحدة وبالبخار اليوم.
أن تميد بكم: أي تميل وتتحرك فيخرب ما عليها ويسقط.
لا تحصوها: أي عداً فتضبطوها فضلاً عن شكرها للمنعم بها عز وجل.
ما تسرون وما تعلنون: من المكر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن أذاه علانية هذا بالنسبة إلى أهل مكة، إذ الخطاب يتناولهم أولاً ثم اللفظ عام فالله يعلم كل سرٍ وعلانية في أي أحد.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته تلك المظاهر الموجبة لتوحيده وعبادته وشكره وذكره قال تعالى: ﴿وهو الذي سخر لكم البحر﴾ وهو كل ماء غمر كثير عذباً كان أو ملحاً وتسخيره تيسير الغوص فيه وجرى السفن عليه. وقوله ﴿لتأكلوا منه لحماً١ طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها﴾ بيان لعلة تسخير البحر وهي ليصيد الناس منه السمك يأكلونه، ويستخرجون اللؤلؤ والمرجان حلية لنسائهم٢. وقوله: ﴿وترى الفلك مواخر فيه﴾ أي وترى أيها الناظر إلى البحر ترى السفن تمخر الماء أي تشقه ذاهبة وجائية. وقوله: ﴿ولتبتغوا﴾ أي سخَّر البحر والفلك لتطلبوا الرزق بالتجارة بنقل البضائع والسلع من إقليم إلى إقليم وذلك كله من فضل الله وقوله ﴿لعلكم تشكرون﴾ أي كي تشكروا الله تعالى. أي سخر لكم ذلك لتحصلوا على الرزق من فضل الله فتأكلوا وتشكروا الله على ذلك والشكر يكون بحمد الله والاعتراف بنعمته وصرفها في مرضاته وقوله: ﴿وألقى في الأرض رواسي٣﴾ أي ألقى في الأرض جبالاً ثوابت ﴿أن تميد بكم﴾ كي لا تميد بكم، وميدانها ميلها وحركتها إذ لو كانت تتحرك لما استقام العيش عليها والحياة فيها. وقوله: ﴿وأنهاراً﴾ أي وأجرى لكم أنهاراً في الأرض كالنيل والفرات
٢ الإجماع على جواز تختم الرجل بخاتم الفضة للأحاديث الثابتة وذلك منها حديث البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتخذ خاتما من فضة ونقش فيه محمد رسول الله" ولذا جاز للقضاة وغيرهم أن ينقشوا أسماءهم على خواتمهم.
٣ في هذه الآية دليل على استعمال الأسباب إذ كان الله قادراً على سكونها دون الجبال، ومع هذا أرساها، وسكنها بالجبال تعليما لعباده للأخذ بالأسباب، و ﴿رواسي﴾ جمع راس، على غير قياس، كفوارس، وعواذل جمع فارس وعاذل.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان العلة في الرزق وأنها الشكر فالله سبحانه وتعالى يرزق لِيُشكر.
٣- لا زكاة في اللؤلؤ والمرجان لأنه من حلية النساء.
٤- المقارنة بين الحي الخلاق العليم، وبين الأصنام الميتة المخلوقة لتقرير بطلان عبادة غير الله تعالى لأن من يَخلُق ليس كمن لا يَخلَق.
٥- عجز الإنسان عن شكر نعم الله تعالى يتطلب منه أن يشكر ما يمكنه منها وكلمة (الحمد لله) تعد رأس الشكر والاعتراف بالعجز عن الشكر من الشكر، والشكر صرف النعم فيما من أجله أنعم الله تعالى بها.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لاَ جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (٢٥)
شرح الكلمات:
وهم يخلقون: أي يصورون من الحجارة وغيرها.
وما يشعرون أيان يبعثون: أي وما تشعر الأصنام ولا تعلم الوقت الذي تبعث فيه وهو يوم القيامة. ولا يبعث فيه عابدوها من دون الله.
وهم مستكبرون: لظلمة قلوبهم بالكفر يتكبرون.
لا جرم: أي حقاً.
أساطير الأولين: أي أكاذيب الأولين.
ليحملوا أوزارهم: أي ذنوبهم يوم القيامة.
ألا ساء ما يزرون: أي بئس ما يحملون من الأوزار.
معنى الآيات:
في هذا السياق مواجهة صريحة للمشركين بعد تقدم الأدلة على اشراكهم وضلالهم فقوله تعالى: ﴿والذين يدعون من١ دون الله﴾ أي تعبدونهم أيها المشركون ﴿أموات غير أحياء﴾ أي هم أموات إذ لا حياة لهم ودليل ذلك أنهم لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون، وقوله ﴿وما يشعرون أيان يبعثون٢﴾ أي لا يعلمون٣ متى يبعثون كما أنكم أنتم أيها العابدون لهم لا تشعرون متى تبعثون. فكيف تصح عبادتهم وهم أموات ولا يعلمون متى يبعثون للاستنطاق والاستجواب والجزاء على الكسب في هذه الحياة، وقوله ﴿إلهكم إله واحد﴾ هذه النتيجة العقلية التي لا ينكرها العقلاء وهي أن المعبود واحد لا شريك له، وهو الله جل جلاله، إذ هو الخالق الرازق المدبر المحي المميت ذو الصفات العلا والأسماء الحسنى، وما عداه فلا يخلق ولا يرزق ولا يُدبِّر ولا يحيى ولا يميت فتأليهه سفه وضلال، وبعد تقرير ألوهية الله تعالى وإثباتها بالمنطق السليم قال تعالى: ﴿فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون﴾ ذكر علة الكفر لدى الكافرين والفساد عند المفسدين وهي تكذيبهم بالبعث الآخر إذ لا يستقيم عبد على منهج الحق والخير وهو لا يؤمن باليوم الآخر يوم الجزاء على العمل في الحياة الدنيا، فأخبر تعالى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة لكل ما يسمعون من الحق الذي يدعو إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتنبيه آيات القرآن الكريم، وهم مع إنكار قلوبهم لما يسمعون من الحق مستكبرون عن
٢ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تبعث الأصنام وتركب فيها الأرواح ومعها شياطينها فيتبرؤون من عبدتها، ثم يؤمر بالشياطين والمشركين إلى النار.
٣ عبّر عنهم بصيغة من يعقل لأن المشركين يزعمون أنها تعقل عنهم وتشفع لهم عند الله تعالى، وتقرّبهم إلى الله زلفى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بطلان الشرك وتقرير التوحيد.
٢- التكذيب باليوم الآخر والبعث والجزاء هو سبب كل شر وفساد يأتيه العبد.
٢ أي: فهو لا يثيبهم ولا يثني عليهم خيراً، وفي الحديث الصحيح: "إن المستكبرين يحشرون أمثال الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبّرهم". قالت العلماء: كل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه إلا الكبر، وهو أصل العصيان كله.
٣ قيل: إن الآية نزلت في النضر بن الحارث وهو القائل: أساطير الأولين. والآية تشمله وغيره ممن قال ويقول هذه الكلمات الكاذبة الباطلة.
٤ الأساطير: الأباطيل، والترهات، و ﴿أساطير الأولين﴾ : خبر والمبتدأ الذي أنزله أي: الذي أنزله أساطير الأوّلين.
٥ وفي الصحيح شاهد هذا فقد روى مسلم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً".
٤- بيان إثم وتبعة من يصد عن سبيل الله بصرف الناس عن الإسلام.
٥- بيان تبعة من يدعو إلى ضلالة فإنه يتحمل وزر كل من عمل بها.
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
شرح الكلمات:
من قبلهم: أي من قبل كفار قريش بمكة كالنمرود وغيره.
فأتى الله بنيانهم: أي قصد إليه ليدمره فسلط عليه الريح والزلزلة فسقط من أسسه.
وخر عليهم السقف: أي سقط لتداعي القواعد وسقوطها.
كنتم تشاقون فيهم: أي تخالفون المؤمنين فيهم بعبادتكم إياهم وجدالكم عنه، وتشاقون الله بمخالفتكم إياه بترك عبادته وعبادتكم إياها.
وقال الذين أوتوا العلم: أي الأنبياء والمؤمنون.
ظالمي أنفسهم: بالشرك والمعاصي.
فألقوا السلم: أي استسلموا وانقادوا.
فلبئس مثوى المتكبرين: مثوى المتكبرين: أي قبح منزل المتكبرين في جهنم مثلاً.
وقيل للذين اتقوا: أي اتقوا الشرك والمعاصي.
للذين أحسنوا: أي أعمالهم وأقوالهم ونياتهم فأتوْا بها وفق مراد الله تعالى.
حسنة: أي الحياة الطيبة حياة العز والكرامة.
ولنعم دار المتقين: أي الجنة دار السلام.
طيبيين: أي الأرواح بما زكوها به من الإيمان والعمل الصالح. وبما أبعدوها عنه من الشرك والمعاصي.
يقولون سلام عليكم: أي يقول لهم ملك الموت "عزرائيل " وأعوانه.
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة: أي لقبض أرواحهم وعند ذلك يؤمنون.
أو يأتي أمر ربك: أي بالعذاب أو بقيام الساعة وحشرهم إلى الله عز وجل.
وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون: أي نزل بهم العذاب وأحاط بهم وقد كانوا به يستهزئون.
ما زال السياق الكريم مع كفار قريش في تذكيرهم وتبصرهم بما هم فيه من الجهالة والضلالة. فيقول تعالى: ﴿قد مكر الذين من قبلهم﴾ أي من قبل مكر كفار قريش وذلك كالنمرود وفرعون وغيرهم من الجبابرة الذين تطاولوا على الله عز وجل ومكروا برسلهم، فالنمرود ألقى بإبراهيم في النار، وفرعون قال ذروني اقتل موسى وليدع ربه.. وقوله: ﴿فأتى الله بنيانهم من القواعد﴾ أي أتاه أمر الله بهدمه وإسقاطه على الظلمة الطغاة ﴿فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون١﴾. وذهب باطلهم وزال مكرهم. ألم يتعظ بهذا كفرة قريش وهم يمكرون بنبيهم ويبيَّتون له السوء بالقتل أو النفي أو الحبس؟ وقوله تعالى: ﴿ثم يوم القيامة يخزيهم﴾ أي يهينهم ويذلهم ويوبخهم بقوله: ﴿أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم٢﴾ أي أصنامكم وأوثانكم الذين كنتم تخالفوني بعبادتكم إياهم دوني كما تشاقون أوليائي المؤمنين أي تخالفونهم بذلك وتحاربونهم فيه. وهنا يقول الأشهاد والذين أوتوا العلم من الأنبياء والعلماء الربانيين: ﴿إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين﴾ أي إن الذل والهون والدون على الكافرين. وقوله تعالى: ﴿الذين تتوفاهم٣ الملائكة ظالمي أنفسهم﴾ بالشرك والمعاصي ومن جملة المعاصي ترك الهجرة والبقاء بين ظهراني الكافرين والفساق المجرمين حيث لا يتمكن المؤمن من عبادة الله تعالى بترك المعاصي والقيام بالعبادات. وقوله ﴿فألقوا السلم﴾ أي عند معاينتهم ملك الموت وأعوانه أي استسلموا وانقادوا وحاولوا الاعتذار بالكذب وقالوا ﴿ما كنا نعمل من سوء﴾ فترد عليهم الملائكة قائيلين: ﴿بلى﴾ أي كنتم تعملون السوء ﴿إن الله عليم بما كنتم تعملون﴾ ويقال لهم أيضاً ﴿فادخلوا أبواب جهنم﴾ أي أبواب طبقاتها ﴿خالدين فيها فلبئس﴾ جهنم ﴿مثوى﴾ أي مقاماً ومنزلاً ﴿للمتكبرين﴾ عن عبادة الله وحده. وقوله تعالى: ﴿وقيل للذين اتقوا﴾ أي ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه في أمره ولا نهيه وأطاعوا رسوله كذلك: ﴿ماذا أنزل ربكم﴾ أي إذا سألهم من أتى مكة يتعرف على ما بلغه من
٢ قرىء ﴿تشاقون﴾ بفتح النون وبكسرها على الإضافة، كما قرأ شركائي ابن كشر: شركاي بفتح الياء وبدون همزة.
٣ قيل: الآية نزلت في الذين تركوا الهجرة إلى المدينة وبقوا في مكة يزاولون أعمال الشرك خوفاً من المشركين، ومن بينهم الذين لمّا رأوا قلّة المؤمنين رجعوا إلى الشرك.
كما ذكر تعالى جزاء الكافرين وما يلقونه من العذاب في نار جهنم وهم الذين أساءوا في هذه الحياة الدنيا إلى أنفسهم بشركهم بالله ومكرهم وظلمهم للمؤمنين، ذكر جزاء المحسنين. فقال: ﴿للذين أحسنوا﴾ أي آمنوا وعملوا الصالحات متبعين شرع الله في ذلك فأخلصوا عبادتهم لله تعالى ودعوا الناس إلى عبادة الله وحثوهم على ذلك فكانوا بذلك محسنين لأنفسهم ولغيرهم لهؤلاء الذين أحسنوا في الدنيا ﴿حسنة﴾ وهي الحياة الطيبة حياة الطهر والعزة والكرامة١، ولدار الآخرة خيرٌ لهم من دار الدنيا مع ما فيها من حسنة وقوله تعالى: ﴿ولنعم دار المتقين﴾ ثناء ومدح لتلك الدار الآخرة لما فيها من النعيم المقيم وإضافتها إلى المتقين باعتبار أنهم أهلها الجديرون بها إذ هي خاصة بهم ورثوها بإيمانهم وصالح أعمالهم بتركهم الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: ﴿جنات٢ عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون﴾ هو وصف وبيان لدار المتقين فأخبر أنها جنات جمع جنة وهي البستان المشتمل على الأشجار والأنهار والقصور وما لذ وطاب من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمراكب وقوله تعالى: ﴿لهم فيها ما يشاءون﴾ هذا نهاية لإكرام والإنعام إذ كون العبد يجد كل ما يشتهي ويطلب هو نعيم لا مزيد عليه وقوله تعالى: ﴿كذلك يجزي الله المتقين﴾ أي كهذا الجزاء الحسن العظيم يجزي الله المتقين في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة طيبين٣﴾ أي طاهري الأرواح لأرواحهم ريح طيبة ثمرة إيمانهم وصالح أعمالهم ونتيجة بعدهم عما يدنس أنفسهم من أوضار الشرك وعفن المعاصي. وقوله: ﴿يقولون﴾ أي تقول لهم الملائكة وهم ملك الموت وأعوانه ﴿سلام عليكم﴾ ٤ تحييهم وفي ذلك بشارة لهم برضا ربهم وجواره الكريم. ﴿ادخلوا الجنة﴾ بأرواحهم اليوم
٢ ﴿جنات عدن﴾ : بدل من قوله: (دار المتقين).
٣ طيّبين بإيمانهم وعملهم الصالح وبعدهم عن الشرك والمعاصي ووفاتهم أيضاً طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم بخلاف ما تقبض به أرواح أهل الكفر والشرك والفساد.
٤ قال ابن المبارك: إذا استقنعت نفس العبد المؤمن "أي: اجتمعت في فيه تريد الخروج" جاءه ملك الموت فقال له: السلام عليك وليَّ الله الله يقرأ عليك السلام، ثم قرأ هذه الآية: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة﴾ الخ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال: ربّك يقرئك السلام.
من هداية الآيات:
١- سوء عاقبه المكر وأنه يحيق بأهله لا محالة والمراد به المكر السيء.
٢- بيان خزي الله تعالى يوم القيامة لأهل الشرك به والمعاصي له ولرسوله.
٣- فضل أهل العلم إذ يتخذ منهم شهداء يوم القيامة ويشمتون بأهل النار.
٤- بان استسلام الظلمة عند الموت وانهزامهم وكذبهم.
٥- تقرير معتقد البعث والحياة الآخرة بأروع أسلوب وأحكمه وأمتنه.
آ- إطلاق لفظ خير على القرآن وهو حق خير فالذي أوتي القرآن أوتي الخير كله، فلا ينبغي أن يرى أحداً من أهل الدنيا خيراً منه وإلا سخط نعمة الله تعالى عليه.
٧- سعادة الدارين لأهل الإحسان وهم أهل الإيمان والإسلام والإحسان في إيمانهم بالإخلاص وفي إسلامهم بموافقه الشرع ومراقبة الله تعالى في ذلك.
٩- إعمال القلوب والجوارح سبب في دخول الجنة وليست ثمناً لها لغلائها، وإنما الأعمال تزكي النفس وتطهر الروح وبذلك يتأهل العبد لدخول الجنة.
١٠- ما ينتظر المحرمون بإصرارهم على الظلم والشر والفساد إلا العذاب، عاجلاً أو آجلاً فهو نازل بهم حتما مقضياً إن لم يبادروا إلى التوبة الصادقة.
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ (٣٩) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٤٠)
وقال الذين أشركوا: هم كفار قريش ومشركوها.
ولا حرمنا من دونه من شيء: كالسوائب والبحائر والوصائل والحامات.
فهل على الرُّسل إلا البلاغ: أي ما على الرُّسل إلا البلاغ فالاستفهام للنفي.
واجتنبوا الطاغوت: أي عبادة الأصنام والأوثان.
حقت عليه الضلالة: أي وجبت في علم الله أزلا.
جهد أيمانهم: أي غايتها حيث بذلوا جهدهم فيها مبالغة منهم.
بلى وعداً عليه حقاً: أي بلى يبعث من يموت وقد وعد به وعداً وأحقه حقاً. فهو كائن لا محالة.
يختلفون فيه: أي بين المؤمنين من التوحيد والشرك.
انهم كانوا كاذبين: أي في قولهم "لا نبعث بعد الموت".
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحجاج مع مشركي قريش فيقول تعالى مُخْبراً عنهم ﴿وقال الذين أشركوا﴾ أي مع الله آلهةً أخرى وهي أصنامهم كهبل واللات والعُزَّى وقالوا لو شاء الله عدم إشراكنا به ما أشركنا نحن ولا آباؤنا، ولا حرمنا من دون تحريمه شيئاً فهل قالوا هذا إيمانا بمشيئة الله تعالى، أو قالوه استهزاء وسخرية دفاعاً عن شركهم وشرعهم الباطل في التحريم والتحليل بالهوى، والأمران محتملان. والرد عليهم بأمرين أولهما ما دام الله قد نهاهم عن الشرك والتشريع فإن ذلك أكبر دليل على تحريمه تعالى لشركهم ومحرماتهم من السوائب والبحائر وغيرها وثانيهما كونه لم يعذبهم عليها بعد ليس دليلاً على رضاه بها بدليل أن من سبقهم من الأمم والشعوب الكافرة قالوا قولتهم هذه محتجين به على باطلهم فلم يلبثوا حتى أخذهم الله، فدل ذلك قطعاً على عدم رضاه بشركهم وشرعهم إذ قال تعالى في سورة الأنعام رداً على هذه الشبهة كذلك قال الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا أي عذاب انتقامنا منهم لما كذبوا رسلنا وافتروا علينا. وقوله تعالى: {كذلك فعل الذين١
وقوله تعالى: ﴿فمنهم﴾ أي من الأمم المرسل إليهم ﴿من هدى الله﴾ فعرف الحق واعتقده وعمل به فنجا وسعد، ﴿ومنهم من حقت عليه الضلالة٥﴾ أزلاً في كتاب المقادير لأنه أصر على الضلال وجادل عنه وحارب من أجله باختياره وحريته فحرمه الله لذلك التوفيق فضلَّ ضلالاً لا أمل في هدايته. وقوله تعالى: ﴿فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين﴾ أمرٌ لكفار قريش المجادلين بالباطل المحتجين على شركهم وشرعهم الباطل أمرٌ لهم أن يسيروا في الأرض جنوباً أو شمالاً فينظروا كيف كانت عاقبة المكذبين أمثالهم من أمة عاد في الجنوب وثمود في الشمال، ومدين ولوط وفرعون في الغرب. وقوله تعالى في تسلية رسوله والتخفيف من الهمَّ عنه: ﴿إن تحرص﴾ يا رسولنا
٢ في الآية: ﴿فهل على الرسل... ﴾ تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعليم وفيها أيضاً التحريض بإبلاغ المشركين.
٣ هذا الكلام معطوف على قوله: ﴿كذلك فعل الذين من قبلهم﴾ متضمن بياناً لسنة الله تعالى في إرسال الرسل لإحقاق الحق وإبطال الباطل ونصر المؤمنين، وهلاك الكافرين المكذبين.
٤ أولياء الشيطان: هم الكهان ودعاة الضلال الذين يصدّون عن سبيل الله بتزيين الباطل وتحسين الشرك والخرافة.
٥ في هذا ردّ على القدرية نفاة القدر إذ معنى: ﴿حقت﴾ : وجبت له أزلا في كتاب المقادير.
٢ روي أن رجلاً من المسلمين كان له دَين على مشرك فقاضاه منه وقال في بعض كلامه: والذي أرجوه بعد الموت، أنه لكذا وكذا فأقسم المشرك بالله: لا يبعث الله من يموت، فنزلت الآية.
٣ ذكر القرطبي عن قتادة أن رجلاً قال لابن عباس: إنّ ناسا يزعمون أنّ علياً مبعوث بعد الموت قبل الساعة يتأوّلون هذه الآية فقال ابن عباس: كذب أولئك إنما هذه الآية عامة للناس فلو كان عليَّ مبعوثاً قبل يوم القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه.
٤ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قال الله تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك".
٥ أي: في نفيهم البعث وإقسامهم على عدم وقوعه، وفي إنكارهم التوحيد والنبوّة أيضاً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الرد على شبهة المشركين في احتجاجهم بالمشيئة الإلهية.
٢- تفسير لا إله إلا الله.
٣- التحذير من تعمد الضلال وطلبه والحرص عليه فإن من طلب ذلك وأضله الله لا ترجى هدايته.
٤- بيان بعض الحكم في البعث الآخر.
٥- لا يستعظم على الله خلق شيء وإيجاده، لأنه يوجد بكلمة التكوين فقط.
وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
شرح الكلمات:
والذين هاجروا في الله: أي خرجوا من مكة في سبيل الله نصرةً لدينه وإقامته بين الناس.
الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون: أي على أذى المشركين وهاجروا متوكلين على ربهم في دار هجرتهم.
فاسألوا أهل الذكر: أي أيها الشاكوّن فيما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاسألوا أهل التوراة والإنجيل لإزالة شككم ووقوفكم على الحقيقة وأن ما جاء به محمد حق وأن الرسل قبله كلهم كانوا بشراً مثله.
بالبينات والزبر: أي أرسلناهم بشراً بالبينات والزبر١ لهداية الناس.
وأنزلنا إليك الذكر: أي القرآن.
لتبين للناس ما نزل إليهم: علة لإنزال الذكر إذ وظيفة الرسل، البيان.
معنى الآيات:
إنه بعد اشتداد الأذى على المؤمنين لعناد المشركين وطغيانهم، أذن الله تعالى على لسان رسوله للمؤمنين بالهجرة من مكة إلى الحبشة ثم إلى المدينة فهاجر رجال ونساء فذكر تعالى ثناء عليهم وتشجيعاً على الهجرة من دار الكفر فقال عز وجل ﴿والذين هاجروا٢ في الله﴾ أي في ذات الله ومن أجل عبادة الله ونصرة دينه ﴿من بعد ما ظلموا﴾ أي من قبل المشركين ﴿لنبوئنهم﴾ أي لننزلهم ولنسكننهم ﴿في الدنيا حسنة﴾ وهي المدينة النبوية ولنرزقنهم فيها رزقاً حسناً هذا بالنسبة لمن نزلت٣ فيهم الآية، وإلا فكل من هاجر في الله ينجز له الرب هذا الوعد كما قال تعالى: ﴿ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيرا وسعة﴾ أي في العيش والرزق ﴿ولأجر الآخرة﴾ المعد لمن هاجر في سيبل
٢ أي: تركوا الوطن، والأهل، والقرابة كما تركوا السيئات. ومعنى: في الله أي: لأجل الله إذ بدار الكفر لا يتمكنون من عباده الله تعالى فإذا هاجروا تمكنوا فكانت هجرتهم إذا لله أي لعبادته التي خلقهم من أجلها.
٣ قيل: نزلت الآية في صهيب وبلال وعمار، وخبّاب إذ عذّبهم المشركون أشد العذاب حتى هاجروا، ويدخل في هذا أيضاً أبو جندل وغيره.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١-فضل الهجرة ووجوبها عند اضطهاد المؤمن وعدم تمكنه من عبادة الله تعالى.
٢- وجوب سؤال أهل العلم على كل من لا يعلم أمور دينه من عقيدة وعبادة وحكم.
٣- السنة لا غنى عنها لأنها المبينة لمجمل القرآن والموضحة لمعانيه.
٢ قال العلماء: خيارُ المؤمنين من إذا نابه أمر صبر وإذا عجز عن أمر توكل وهو المراد من قوله تعالى: ﴿الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون﴾.
٣ يدخل في أهل الذكر أهل القرآن، وهم علماء هذه الأمّة، وبهذا أمر الله تعالى غير العالمين أن يسألوا أهل العلم، وأمر العالمين أن يعلموا ويبيّنوا ومن كتم منهم عُذِّب.
شرح الكلمات:
مكروا السيئات: أي مكروا المكرات السيئات فالسيئات وصف للمكرات التي مكروها.
في تقلبهم: أي في البلاد مسافرين للتجارة وغيرها.
على تخوف: أي تنقص.
يتفيئوا ظلاله:. أي تتميل من جهةٍ إلى جهة.
سجداً لله: أي خضعاً لله كما أراد منهم.
داخرون: أي صاغرون ذليلون.
من فوقهم: من أعلى منهم إذ هو تعالى فوق كل شيء ذاتاً وسلطاناً وقهراً.
ها يؤمرون: أي ما يأمرهم ربهم تعالى به.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تخويف المشركين وتُذكيرهم لعلهم يرجعون بالتوبة من الشرك والجحود للنبوة والبعث والجزاء. قال تعالى: ﴿أفأمن الذين مكروا١﴾ المكرات
٢ أي: بسابقين الله ولا فائتيه.
٣ التخوف: مصدر لفعل تخوّف إذا حاف، ومصدر لتخوّف المتعدي الذي بمعنى تنقص، وهو لغة هذيل، فللآية معنيان. الأول: أن يكون المعنى: يأخذهم العذاب وهم في حالة توقع بنزول العذاب لوجود أماراته كالرعد والبرق مثلا. والثاني: أن يكون المعنى بأن يأخذهم وهم في حالة تنقص بأن يأخذ القرية فتخاف القرية الأخرى وهو واضح المعنى في التفسير.
٤ ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسير التخوّف: بأن يعاقب أو يتجاوز، ويشهد له الجملة التعليلية وهي ﴿فإنّ ربكم لرؤوف رحيم﴾ فهو لا يعاجل بالعقوبة.
٥ أي: من أي جسم قائم له ظل كشجرة أو جبل ومعنى تفيء الظلال: ميلانه من جانب إلى جانب ومنه سمي الظل بالعشي فيء: لأنه فاء من المشرق إلى المغرب أي. رجع، والفيء: الغنائم التي ترجع إلى المسلمين من الكافرين لأنّهم أحق بها فرجعت إليهم.
٦ أي: خاضعون، والدخور: الصغار والذل يقال: دخر الرجل فهو داخر وأدخره الله. قال ذو الرمّة:
فلم يبق إلا داخر في مخيس
ومنجحر في غير أرضك في حجر
والشاهد في قوله داخر أي خاضع ذليل والمخيس بناء من مدر يسجن فيه
٧ قيل: المراد بالملائكة: ملائكة الأرض، وخضهم بالذكر وهم داخلون في عموم ما في السموات وما في الأرض لشرف منزلتهم عند ربّهم جلّ جلاله، والملائكة يطيرون ولا يَدِبّون، فلذا أخرجوا أيضاً بالذكر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة الأمن من مكر الله.
٢- كل شيء ساجد لله، أي خاضع لما يريده منهم، إلا أن السجود الطوعي الاختياري هو الذي يثاب عليه العبد، أما الطاعة اللا إرادية فلا ثواب فيها ولا عقاب.
٣- فضل السجود الطوعي الاختياري.
٤- مشروعية السجود عند هذه الآية: إذا قرأ القارىء أو المستمع: ﴿ويخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون﴾، عليه أن يسجد إن كان متطهراً إلى القبلة إن أمكن ويسبح في السجود ويكبر في الخفض والرفع ولا يسلم، ولا يسجد عند طلوع الشمس ولا عند غروبها.
وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُواْ١ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ
شرح الكلمات:
لا تتخذوا إلهين: أي تعبدونهما إذ ليس لكم إلا إله واحد.
وله ما في السموات والأرض: أي خلقاً وملكاً، إذاً فما تعبدونه مع الله هو لله ولم يأذن بعبادته.
وله الدين واصباً: أي خالصاً دائماً واجباً.
فإليه تجأرون: أي ترفعون أصواتكم بدعائه طالبين الشفاء منه.
فتمتعوا فسوف تعلمون: تهديدٌ على كفرهم وشركهم ونسيانهم دعاء الله تعالى.
ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً: أي يجعلون لآلهتهم نصيباً من الحرث والأنعام.
عما كنتم تفترون: أي تختلقون بالكذب وتفترون على الله عز وجل.
معنى الآيات:
بعد إقامة الحجج على التوحيد وبطلان الشرك أخبرهم أن الله ربهم رب كل شيء قد قال لهم: أيها الناس ﴿لا تتخذوا إلهين اثنين﴾ فلفظ اثنين توكيد للفظ إلهين أي لا تعبدوا إلهين بل اعبدوا إلهاً واحداً وهو الله إذ ليس من إله إلا هو فكيف تتخذون إلهين والحال انه ﴿إله واحد﴾ لا غير وهو الله الخالق الرازق المالك، ومن عداه من مخلوقاته كيف تُسوَّى به وتُعبَد معه؟ وقوله تعالى: ﴿فإياي فارهبون١﴾ أي ارهبوني وحدي ولا ترهبوا سواي إن بيدي كل شيء، وليس لغيري شيء فأنا المحيي المميت، الضار النافع، يوبخهم على رهبتهم غيره سبحانه وتعالى من لا يستحق أن يُرهب لعجزه وعدم قدرته على أن ينفع أو يضر. وقوله تعالى: ﴿وله ما في السموات والأرض﴾ ٢ برهان على بطلان رهبة غيره أو
٢ في الآية تقرير وحدانية الله تعالى إذ ما في السموات له، وما في الأرض له فهو إذاً إله واحد وبطل التعدد الذي يراه المجوس.
وقوله: ﴿ليكفروا بما آتيناهم﴾ ٣ أي ليؤول أمرهم إلى كفران ونسيان ما آتاهم الله من نعمٍ وما أنجاهم من محن. أفهكذا يكون الجزاء؟ أينعم بكل أنواع النعم وينجى من كل كرب ثم ينسى له ذلك كله، ويعبد غيره؟ بل ويحارب دينه ورسوله؟ إذاً ﴿فتمتعوا٤﴾ أيها الكافرون ﴿فسوف تعلمون﴾ عاقبة كفركم وإعراضكم عن طاعة الله وذكره وشكره. وقوله تعالى: ﴿ويجعلون لما لا يعلمون نصنيباً مما رزقناهم﴾ وهذا ذكرٌ لعيب آخر من عيوبهم وباطلٍ من باطلهم أنهم يجعلون لأوثانهم التي لا يعلمون عنها شيئاً من نفعٍ أو ضر أو اعطاء أو منع أو إماتة أو إحياء يجعلونها لها طاعةً للشيطان نصيباً وحظاً من أموالهم
٢ فيه إشارة إلى بطلان إله الخير الذي يدين له المجوس الذين يقولون الخير من إله الخير، والشر من إله الشر.
٣ وجائز أن تكون اللام: لام كي التعليلية.
٤ الأمر للتهديد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير التوحيد بعبادة الله تعالى وحده. ٢- وجوب الرهبة من الله دون سواه.
٣- وجوب الدين لله إذ هو الإله الحق دون غيره.
٤- كل نعمة بالعبد صغرت أو كبرت فهي من الله سبحانه وتعالى.
٥- تهديد المشركين إن أصروا على شركهم وعدم توبتهم.
٦- التنديد بالمشركين وتشريعهم الباطل بالتحليل والتحريم والإعطاء والمنع.
وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ
شرح الكلمات:
ويجعلون لله البنات: إذ قالوا الملائكة بنات الله.
ولهم ما يشتهون: أي الذكور من الأولاد.
ظل وجهه مسوداً: أي متغيراً بالسواد لما عليه من كرب.
وهو كظيم: أي ممتلىء بالغم.
أم يدسه في التراب: أي يدفن تلك المولودة حية وهو الوأُد.
مثل السوء: أي الصفة القبيحة.
ولله المثل الأعلى: أي الصفة العليا وهي لا إله إلا الله.
أن لهم الحسنى: أي الجنة إذ قال بعضهم ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى.
وأنهم مفرطون: أي مقدمون إلى جهنم متروكون فيها.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أخطاء المشركين في اعتقاداتهم وسلوكهم فقال تعالى: ﴿ويجعلون١ لله البنات- سبحانه- ولهم ما يشتهون٢﴾ وهذا من سوء أقوالهم وأقبح اعتقادهم حيث ينسبون إلى الله تعالى البنات، إذ قالوا الملائكة بنات الله في الوقت الذي يكرهون نسبة البنات إليهم، حتى إذا بشر أحدهم بأنثى بأن أُخبر بأنه ولدت له بنت ظل نهاره كاملاً في غم وكرب ﴿وجهه مسوداً وهو كظيم﴾ ٣ ممتلىء بالغم والهم. ﴿يتوارى﴾ أي يستتر ويختفي عن أعين الناس خوفاً من المعرة، وذلك ﴿من سوء ما بشر به﴾ وهو البنت وهو في ذلك بين أمرين إزاء هذا المبَشرَّ به: إما أن يمسكه. أن يبقيه في بيته بين
(ما) موصولة، وهو وصلته مبتدأ في محل رفع، والخبر متعلّق الجار والمجرور أي: ثابت لهم.
٣ الكظيم: مشتق من الكظامة وهو شدّ فم القربة، إذا الكظيم هو المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلّم من الغمّ.
٢ كانت مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدهم في هذا تميم زعموا خوف القهر عليهن وطمع غير الأكفاء فيهن وكان صعصع بن ناجية عمّ الفرزدق إذا أحسّ بشيء من ذلك وجّه إلى والد البنت إبلا يستحييها بذلك، قال الفرزدق يفتخر:
وعمّىٍ الذي منع الوائدات
فأحيى الوئيد فلم يوأد
٣ تكرّر شرح هذه الآية في التفسير سهواً وهو غير ضار.
٤ أي: صفة السوء من الجهل والكفر.
٥ إن قيل: كيف أضاف المثل هنا إلى نفسه عزّ وجلّ وقد قال ﴿فلا تضربوا لله الأمثال﴾ فالجواب: إنّ قوله: ﴿فلا تضربوا لله الأمثال﴾ معناه الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص أي: لا تضربوا له مثلا يقتضي نقصاً وتشبيها بالخلق والمثل الأعلى هو وصفه تعالى بما لا شبيه له ولا نظير.
٦ قال ابن مسعود رضي الله عنه وقرأ هذه الآية: لو آخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في جحرها، ولأمسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فماتت الدّواب ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل كما قال ﴿ويعفو من كثير﴾.
وآخر آية في هذا السياق (٦٢) تضمنت التنديد بسوء حال الذين لا يؤمنون بالآخرة وذلك أنهم لجهلهم بالله وقبح تصورهم لظلمه نفوسهم أنهم يجعلون لله تعالى ما يكرهونه لأنفسهم من البنات والشركاء وسب الرسول وازدرائه، ومع هذا يتبجحون بالكذب بأن لهم الحسنى أي الجنة يوم القيامة. فرد تعالى على هذا الافتراء والهُراء السخيف بقوله: ﴿لا جرم﴾ أي حقاً وصدقاً ولا محالة ﴿أن لهم النار﴾ بدل الجنة ﴿وأنهم مفرطون١﴾ إليها مقدمون متروكون فيها أبداً. هذا ما تضمنته الآية في قوله تعالى: ﴿ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب ان لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرَطون﴾ ٢ وإن قرئ مفرطون باسم الفاعل فهم حقاً مفرِطون في الشر والفساد والكفر والضلال والانحطاط إلى أبعد حد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان الحال الاجتماعية التي كان عليها المشركون وهي كراهيتهم للبنات خوف العار.
٢- بيان جهلهم بالرب تعالى فهم يؤمنون به ويجهلون صفاته حتى نسبوا إليه الولد والشريك.
٣- بيان العلة في ترك الظلمة يتمادون زمناً في الظلم والشر والفساد.
٤- بيان سوء اعتقاد الذين لا يؤمنون بالآخرة وهو أنهم ينسبون إلى نفوسهم الحسنى ويجعلون لله ما يكرهون من البنات والشركاء وسب الرسل وامتهانهم.
٢ مفرِّطون: اسم فاعل من فرّط المضاعف إذا ضيّع الحقوق الواجبة عليه.
شرح الكلمات:
تالله: أي والله.
أرسلنا إلى أمم من قبلك: أي رسلاً.
فزين لهم الشيطان أعمالهم: فكذبوا لذلك الرسل.
فهو وليهم اليوم: أي الشيطان هو وليهم اليوم أي في الدنيا.
إن في ذلك لآية: أي دلالة واضحة على صحة عقيدة البعث الآخر.
لآية لقومٍ يسمعون: أي سماع تدبر وتفهم.
لعبرةً: أي دلالة قوية يعبر بها من الجهل إلى العلم لأن العبرة من العبور.
من بين فرثٍ: أي ثَفَل الكِرْش، أي الرَّوْث الموجود في الكرش.
لبناً خالصاً: أي ليس فيه شيء من الفرث ولا الدم، لا لونه ولا رائحته ولا طعمه.
معنى الآيات:
يقسم الله تعالى بنفسه لرسوله فيقول بالله يا رسولنا ﴿لقد أرسلنا﴾ رسلاً ﴿إلى أمم من قبلك﴾ كانوا مشركين كافرين كأمتك ﴿فزين لهم الشيطان أعمالهم﴾ فقاوموا رسلنا
بعد هذه التسلية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاد السياق إلى الدعوة إلى التوحيد وعقيدة البعث والجزاء بعد تقرير النبوة المحمدية بقوله تعالى: ﴿تالله لقد أرسلنا﴾ الآية فقال تعالى: ﴿والله أنزل من٢ السماء ماء فأحيا بها الأرض بعد موتها﴾ الماء هو ماء المطر وحياة الأرض بالنبات والزرع بعدما كانت ميتة لا نبات فيها وقوله ﴿إن في ذلك﴾ المذكور من إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بعد موتها ﴿لآية﴾ واضحة الدلالة قاطعة على وجوده تعالى وقدرته، وعلمه ورحمته كما هو آية على البعث بعد الموت من باب أولى. وقوله تعالى: ﴿وإن لكم في الأنعام٣ لعبرةً﴾ ٤ أي حالاً تعبرون بها عن الجهل إلى العلم.. من الجهل بقدرة الله ورحمته ووجوب عبادته بذكره وشكره إلى العلم بذلك والمعرفة به فتؤمنوا وتوحدوا وتطيعوا. وبين وجه العبرة العظيمة فقال: ﴿نسقيكم مما في بطونه٥﴾ أي بطون المذكور من الأنعام ﴿من٦ بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين﴾ فسبحان ذي القدرة العجيبة والعلم الواسع والحكمة التي لا يقادر قدرها.. اللبن يقع بين الفرث والدم
٢ كون المسند فعلاً وهو: أنزل من السماء ماء أفاد التخصيص أي: الله وحده الذي أنزل من السماء ماء والمراد من السماء: السحاب.
٣ هناك مناسبة ظاهرة بين الآيتين وهي: كما أنّ الأرض تحيى بماء السماء كذلك الإنسان يحيى بالألبان.
٤ اسم جمع لكل جماعة من أحد أصناف الإبل والبقر والضأن والمعز والعبر: ما يتعظ به ويعتبر.
٥ البطون: جمع بطن وهو اسم للجوف الحاوية للجهاز الهضمي كلَّه من معدة وكبد وأمعاء.
٦ ﴿من﴾ زائدة لتوكيد التوسط أي: يفرز في حالة بين حالتي الفرث والدم وموقع: ﴿من بين فرث ودم﴾ موقع الصفة والموصوف: لبناً وقدّمت للاهتمام بها.
٦ مفرِّطون: اسم فاعل من فرّط المضاعف إذا ضيّع الحقوق الواجبة عليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان ان الله يقسم بنفسه وبما شاء من١ خلقه.
٢- بيان أن الله أرسل رسلاً إلى أمم سبقت وأن الشيطان زين لها أعمالها فخذلها.
٣- تقرير النبوة وتسلية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جراء ما يلقاه من المشركين.
٤- بيان مهمة رسول الله وأنها بيان ما أنزل الله تعالى لعباده من وحيه في كتابه.
٥- بيان كون القرآن الكريم هدىً ورحمة للمؤمنين الذين يعملون به.
٦- دليل البعث والحياة الثانية إحياء الأرض بعد موتها فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأموات بعد فنائهم وبلاهم.
وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠)
ومن ثمرات النخيل والأعناب: أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب ثمرٌ تتخذون١ منه سكراً أي خمرا ورزقاً حسناً أي والتمر والزبيب والخل والدبس الرزق الحسن.
وأوحى ربك إلى النحل: أي ألهمها أن تفعل ما تفعله بإلهام منه تعالى.
ومما يعرشون: أي يبنون لها.
سبل ربك ذللاً: أي طرق ربك مذللةً فلا يعسر عليك السير فيها ولا تضلين عنها.
شراب: أي عسل.
فيه شفاء للناس: أي من الأمراض إن شرب بنية الشفاء، أش بضميمته إلى عقار آخر.
إلى أرذل العمر: أي أخَسَّه من الهرم والخرف، والخرف فساد العقل.
معنى الآيات:
مازال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لعبادته وحده والمقررة لعقيدة النبوة والبعث الآخر. قال تعالى في معرض بيان ذلك بأسلوب الامتنان المقتضي للشكر ﴿ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً﴾ ورزقاً حسناً أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب ثمرٌ تتخذون منه سكراً أي شراباً مسكراً. وهذا كان قبل تحريم٢ الخمر ﴿ورزقاً حسناً﴾ وهو الزبيب والخل من العنب والتمر والدبس العسل من النخل وقوله ﴿ان في ذلك لآية لقوم يعقلون﴾ أي أن فيما ذكرنا لكم لآية أي دلالة واضحة على قدرتنا وعلمنا ورحمتنا لقومٍ يعقلون الأمور ويدركون نتائج المقدمات، فذو القدرة والعلم والرحمة هو الذي يستحق التأليه والعبادة.. وقوله: ﴿وأوحى ربك إلى النحل ان اتخذى من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون﴾ هذا مظهر آخر عظيم من مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته يتجلى بإعلامه حشرة
٢ إن قيل: هذا خبر، والنسخ لا يكون في الأخبار؟ فالجواب: إن تضمّن الخبر حكماً شرعياً جاز نسخه، ومن أدلة ذلك هذا الخبر ونسخه.
٢ بيوت النحل في ثلاثة، في الجبال وكواها، ومتجوّف الأشجار، وما يعرش لها من الأجباح والخلايا والحيطان، وعرش يعرش: إذا بنى عريشا من الأغصان والخشب، ومن عجيب ما ألهم الله النحل أنه يجعل بيوته مسدسة الشكل.
٣ اللّفظ صالح لأن يكون لفظ ذللا المراد به النحلة نفسها وذلل جمع ذلول وهي المنقادة المطيعة المسخرة، وصالح أن يكون المراد به الطرق التي تسلكها النحلة كما في التفسير.
٤ روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في تحقير الدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة وأشرف شرابه فيها رجيع نحلة.
٥ بحسب تنويع الغذاء كما أن الطعم يختلف باختلاف المراعي ومن هذا المعنى قول زينب رضي الله عنها جرست نحله العرفط حين شبهت رائحته برائحة المغافير والعرفط شجر الطلح له صمغ كريه الرائحة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان منة الله تعالى على العباد بذكر بعض أرزاقهم لهم ليشكروا الله على نعمه.
٢- بيان آيات الله تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته في خلق شراب الإنسان وغذائه ودوائه.
٣- فضيلة العقل والتعقل والفكر والتفكر.
٤- تقرير عقيدة الإيمان باليوم الآخر الدال عليه القدرة والعلم الإلهيين، إذ من خلق وأماتَ لا يستنكر منه أن يخلق مرة أخرى ولا يميت.
وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي
شرح الكلمات
فضل بعضكم على بعض في الرزق: أي فمنكم الغني ومنكم الفقير، ومنكم المالك ومنكم المملوك.
برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم: أي بجاعلي ما رزقناهم شركة بينهم وبين مماليكهم من العبيد.
والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا: إذ حواء خلقت من آدم وسائر النساء من نطف الرجال.
وحفدة: أي خدماً من زوجه وولد وولد ولد وخادم وختن.
أفبالبالطل يؤمنون: أي بعبادة الأصنام يؤمنون.
رزقاً من السموات والأرض: أي بإنزال المطر من السماء، وإنبات النبات من الأرض.
معنى الآيات:
مازال السياق العظيم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد. فقوله تعالى: {والله فضل
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللّبيب وطيب عيش الأحمق
والآية متضمنة مثلا ضربه لعبادة الأصنام، ونظير هذه المُثل في سورة الروم في قوله تعالى: ﴿ضرب لكم مثلا من أنفسكم..﴾ الخ.
٢ يريد أن أغنياءهم لا يشاطرون عبيدهم رزقهم فيستووا فيه فكيف يرضون لله مالا يرضونه لأنفسهم كما في قوله: ﴿ويجعلون لله البنات ولهم ما يشتهون﴾ أي: البنون.
٣ أي: من نوعكم، ومِنْ للابتداء ومِنْ في قوله تعالى: ﴿وجعل لكم من أزواجكم﴾ للتبعيض.
٤ الأزواج: جمع زوج وهو ما يُكوّن مع آخر اثنين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- قطع دابر الشرك في المثل الذي حوته الآية الأولى: ﴿والله فضل بعضكم على بعضٍ في الرزق﴾.
٢- وجوب شكر الله تعالى على نعمه وذلك بذكره وشكره وإخلاص ذلك له.
٣- قبح كفر النعم وتجاهل المنعم بترك شكره عليها.
٤- التنديد بمن يضربون لله الأمثال وهم لا يعلمون باتخاذ وسائط له تشبيهاً لله تعالى بعباده فهم يتوسطون بالأولياء والأنبياء بدعائهم والاستغاثة بهم بوصفهم مقربين إلى الله تعالى يستجيب لهم، ولا يستجيب لغيرهم.
٢ الأمثال: جمع مثل بفتحتين بمعنى المماثل كشبه بمعنى مشابه، ومعنى. ضربهم الأمثال لله تعالى: هو أنهم أثبتوا للأصنام صفات الإلهية وشبّهوها بالخالق عز وجل حيث عبدوها بالنذر لها وبالذبح والدعاء والإقسام بها والعكوف حولها.
٣ جملة: ﴿إنّ الله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾ تعليلية لنهيهم عن ضرب الأمثال لله تعالى. فنهيه تعالى لهم عن ضرب الأمثال لعلمه عزّ وجلّ أنه لا مثل له، وأن ما يضربونه له باطل، وهو تعالى منزّه عنه.
شرح الكلمات:
ضرب الله مثلاً: أي هو عبداً مملوكاً الخ..
عبداً مملوكاً: أي ليس بحُرٍ بل هو عبد مملوك لغيره.
هل يستوون: أي العبيد العجزة والحُر المتصرف، والجواب: لا يستوون قطعاً.
وضرب الله مثلاً: أي هو رجلين الخ..
أبكم: أي ولد أخرس وأصم لا يسمع.
لا يقدر على شيء: أي لا يَفهَمْ ولا يُفهِمْ غيره.
ولله غيب السموات والأرض: أي ما غاب فيهما.
وما أمر الساعة: أي أمر قيامها، وذلك بإماتة الأحياء وإحيائهم مع من مات قبل وتبديل صور الأكوان كلها.
معنى الآيات:
مازال السياق في تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك والتنفير منه وقد تقدم أن الله تعالى جهل المشركين في ضرب الأمثال له وهو لا مثل له ولا نظير، وفي هذا السياق ضرب تعالى مثلين وهو العليم الخبير.. فالأول قال فيه: ﴿ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً﴾ أي غير حر من أحرار الناس، ﴿لا يقدر على شيء﴾ إذ هو مملوك لاحق له في التصرف في مال سيده إلا بإذنه١، فلذا فهو لا يقدر على إعطاء أو منع شيء، هذا طرف المثل، والثاني ﴿ومن رزقناه منا رزقاً حسناً﴾ صالحاً واسعاً ﴿فهو ينفق منه سراً وجهراً﴾ ليلاً ونهاراً لأنه حر التصرف بوصفه مالكاًَ ﴿هل يستوون٢﴾ ؟ الجواب لا يستويان.. إذاً ﴿الحمد لله بل أكثرهم٣ لا يعلمون﴾ والمثل مضروب للمؤمن والكافر، فالكافر أسير للأصنام عبدٌ لها لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، لا يعمل في سبيل الله ولا ينفق لأنه لا يؤمن بالدار الآخرة، والجزاء فيها، وأما المؤمن فهو حر يعمل بطاعة الله فينفق في سبيل الله سراً وجهراً يبتغي الآخرة والمثوبة من الله، ذا علمٍ وإرادة، لا يخاف إلا الله ولا يرجو إلا هو سبحانه وتعالى. وقوله: ﴿وضرب الله مثلاً رجلين﴾ هو المثال الثاني في هذا السياق وقد حوته الآية الثانية (٧٦) فقال تعالى فيه ﴿وضرب الله مثلاً﴾ هو ﴿رجلين أحدهما٤ أبكم﴾ ولفظ الأبكم قد يدل على الصمم فالغالب أن الأبكم لا يسمع ﴿لا يقدر على شيء﴾ فلا يفهم غيره لأنه أصم ولا يُفهم غيره لأنه أبكم، ﴿وهو كلٌّ على٥ مولاه﴾ أي ابن عمه أو من يتولاه من أقربائه يقومون بإعاشته ورعايته لعجزه وضعفه وعدم قدرته على شيء. وقوله: ﴿أينما يوجهه لا يأت بخير﴾ أي أينما يوجهه مولاه وابن عمه ليأتي بشيء
٢ لم يقل يستويان لأنّ مَنْ صالحة للواحد والجماعة.
٣ لا يعلمون أن الله هو المستحق للحمد دون آلهتهم لأن الله تعالى هو المنعم بالخلق والرزق، والأصنام لا تخلق ولا ترزق فلذا الحمد له وحده.
٤ هذا مثل آخر ضربه تعالى لنفسه وللمؤمن. قاله قتادة وغيره.
٥ أي: ثقل على وليّه وقرابته ووبال على صاحبه وابن عمّه.
وهذا مثل الأصنام التي تعبد من دون الله إذ هي لا تسمع ولا تبصر فلا تفهم ما يقال لها، ولا تُفهم عابديها شيئاً وهي محتاجة إليهم في صُنْعِها ووضعها وحملها وحمايتها. وقوله تعالى ﴿هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراطٍ مستقيم﴾ وهو الله تعالى يأمر بالعدل أي بالتوحيد والاستقامة في كل شيء، وهو قائم على كلى شيء، وهو على صراط مستقيم يدعو الناس إلى سلوكه لينجوا ويسعدوا في الدارين، فالجواب، لا يستويان بحال، فكيف يرضى المشركون بعبادة وولاية الأبكم الذي لا يقدر على شيء ويتركون عبادة السميع البصير، القوي، القدير، الذي يدعوهم إلى كمالهم وسعادتهم في كلتا حياتهم، أمر يحمل على العجب، ولكن لا عجب مع أقدار الله وتدابير الحكيم العليم. وقوله تعالى في الآية (٧٧) ﴿ولله غيب السموات١ والأرض﴾ وحده يعلم ما غاب عنا فيهما فهو يعلم من كتبت له السعادة ومن حُكم عليه بالشقاوة، ومن يهتدي ومن لا يهتدي، والجزاء آت بإتيان الساعة ﴿وما أمر الساعة٢﴾ أي إتيانها ﴿إلا كلمح٣ البصر أو هو أقرب﴾ ٤ إذ لا يتوقف أمرها إلا على كلمة ﴿كن﴾ فقط فتنتهي هذه الحياة بكل ما فيها، وتأتي الحياة الأخرى وقد تبدلت صور الأشياء كلها ﴿إن الله على كل شيء قدير﴾ ومن ذلك قيام القيامة، ومجيء الساعة. وقوله تعالى: ﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا٥ تعلمون٦ شيئاً﴾ حقيقة لا تُنكر، الله الذي أخرجنا من بطون أمهاتنا بعد أن صورنا في الأرحام ونمانا حتى صرنا بشراً ثم أذن بإخراجنا، فأخرجنا، وخرجنا لا نعلم شيئاً قط، هذه آية القدرة الإلهية والعلم الإلهي والتدبير الإلهي، فهل للأصنام شيء من ذلك، والجواب لا، لا وثانياً جعل الله تعالى لنا الأسماع والأبصار والأفئدة نعمة أخرى، إذ لولا ذلك ما سمعنا ولا أبصرنا ولا عقلنا وما قيمة حياتنا يومئذٍ، إذْ العدم خيرٌ منها. وقوله:
٢ الساعة: هي الوفت الذي تقوم فيه القيامة، سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق بصيحة.
٣ اللّمح: النظر بسرعة يقال لمحه لمحاً ولمحاناً.
٤ ليس (أو) للشك وإنما هي بمعنى بل الانتقالية من شيء إلى آخر كقوله ﴿فأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون﴾ أي: بل يزيدون.
٥ البطون: جمع بطن وهو ما بين ضلوع الصدر إلى العانة، وفيه الأمعاء والمعدة والكبد والرحم.
٦ الشكر: الاعتراف بالنعمة لله وحمده عليها وصرفها فيما يرضيه تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- استحسان ضرب الأمثال وهو تشبيه حال بحال على أن يكون ضارب المثل عالماً.
٢- بيان مثل المؤمن في كماله والكافر في نقصانه.
أ- بيان مثل الأصنام في جمودها وتعب عَبَدتِها عليها في الحماية وعدم انتفاعهم بها. ومثل الرب تبارك وتعالى في عدله، ودعوته إلى الإسلام وقيامه على ذلك مع استجابة دعاء أوليائه، ورعايتهم، وعلمه بهم وسمعه لدعائهم ونصرتهم في حياتهم وإكرامهم والإنعام عليهم في كلتا حياتهم. ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم.
أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
شرح الكلمات:
مسخراتٍ في جو السماء: أي مذللات في الفضاء بين السماء والأرض وهو الهواء.
ما يمسكهن: أي عند قبض أجنحتها وبسطها إلا الله تعالى بقدرته وسننه في خلقه.
من بيوتكم سكنا: أي مكاناً تسكنون فيه وتخلدون للراحة.
من جلود الأنعام بيوتاً: أي خياماً وقباباً.
يوم ظعنكم: أي ارتحالكم في أسفاركم.
أثاثاً ومتاعاً إلي حين: كبُسط وأكسية تبلى وتتمزق وتُرمى.
ظلالاً ومن الجبال أكناناً: أي ما تستظلون به من حر الشمس، وما تسكنون به في غيران الجبال.
وسرابيل: أي قمصاناً تقيكم الحر والبرد.
وسرابيل تقيكم بأسكم: أي دروعاً تقيكم الضرب والطعان في الحرب.
لعلكم تسلمون: أي رجاء أن تسلموا له قلوبكم ووجوهكم فتعبدوه وحده.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك وتركه فيقول تعالى: ﴿ألم١ يروا إلى الطير مسخرات٢ في جو السماء ما يمسكهن٣ إلا الله﴾ فإن في خلق الطير على اختلاف أنواعه وكثرة أفراده، وفي طيرانه في جو٤ السماء، أي في الهواء وكيف يقبض جناحيه وكيف يبسطها ولا يقع على الأرض فمن يمسكه غير الله بما شاء من تدبيره في خلقه وأكوانه إن في ذلك المذكور لآياتٍ عدة تدل على الخالق وقدرته وعلمه وتوجب معرفته
٢ ﴿مسخرات﴾ : أي: مذللات لأمر الله تعالى، ومذللات لمنافعكم أيضاً.
٣ ﴿ما يمسكهن﴾ أي: في جال القبض والبسط والاصطفاف إلا الله عزّ وجلّ.
٤ ﴿جو السماء﴾ هو الفضاء الذي بين السماء والأرض، وإضافته إلى السماء لأنه يبدو متصلا بالقبة الزرقاء فيما يخال الناظر.
٢ بعد أن ذكر تعالى السكن في الدور ذكر السكن في البيوت المتنقلة وهي الخيام والقباب.
٣ في الآية دليل على حليذة جلود الميتة ولكن بعد دبغها لحديث: "أيّما إهاب دبغ فقد طهر".
٤ الأكنان: جمع كن وهو: ما يكن عن الحرّ والريح والبرد وهو الغار في الجبل.
من هداية الآيات:
١- لا ينتفع بالآيات إلا المؤمنون لحياة قلوبهم، أما الكافرون فهم في ظلمة الكفر لا يرون شيئاً من الآيات ولا يبصرون.
٢- مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته ونعمه تتجلى في هذه الآيات الأربع ومن العجب أن المشركين كالكافرين عمي لا يبصرون شيئاً منها وأكثرهم الكافرون.
٣- مهمة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليست هداية القلوب وإنما هي بيان الطريق بالبلاغ المبين.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (٨٥) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
ويوم نبعث: أي اذكر يوم نبعث.
شهيداً: هو نبيها.
لا يؤذن للذين كفروا: أي بالاعتذار فيعتذرون.
ولا هم يستعتبون: أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى اعتقاد وقول وعمل ما يرضي الله عنهم.
وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم: أي الذين كانوا يعبدونهم من دون الله كالأصنام والشياطين.
فألقوا إليهم القول: أي ردوا عليهم قائلين لهم إنكم لكاذبون.
وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم: أي ذلوا له وخضعوا لحكمه واستسلموا.
وضل عنهم ما كانوا يفترون: من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وتنجيهم من عذابه، ومعنى ضل غاب.
عذاباً فوق العذاب: أنه عقارب وحيات كالنِّخل الطوال والبغال الموكفة.
ونزلنا عليك الكتاب: أي القرآن.
تبياناً لكل شيء: أي لكل ما بالأمة من حاجة إليه في معرفة الحلال والحرام والحق والباطل والثواب والعقاب.
معنى الآيات:
انحصر السياق! لكريم في هذه الآيات الست في تقرير البعث والجزاء مع النبوة فقوله تعالى: ﴿يوم نبعث١﴾ أي اذكر يا رسولنا محمد يوم نبعث ﴿من كل أمة﴾ من الأمم ﴿شهيداً﴾ هو نبيها الذي نبىء فيها وأرسل إليها ﴿ثم لا يؤذن للذين كفروا﴾ أي بالاعتذار فيعتذرون ﴿ولا هم يستعتبون٢﴾ أي لا يطلب منهم العتبى٣ أي الرجوع إلى اعتقاد وقول وعمل يرضي الله عنهم أي اذكر هذا لقومك، علهم يذكرون فيتعظون، فيتوبون، فينجون
٢ أي: لا يكلّفون أن يرضوا ربهم لأنّ الآخرة ليست دار تكليف ولا يمكنون من الرجوع إلى الدنيا فيتوبون.
٣ العتبى: الرضا، والفعل: عتب يعتب عليه إذا وجد عليه في نفسه وأعتبه: إذا أزال الموجدة ورجع إلى مسرّته وفي الحديث: " لك العتبى حتى ترضى" والعتبى: رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب وهو المراد في الحديث.
٢ أي: أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها، وذلك لأنّ الله تعالى يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار، روى مسلم: "من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت.." الحديث، وفي الترمذي: " فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون".
٣ الشهداء: هم الأنبياء والعلماء، فالنبي يشهد على أمته والعالم يشهد على من أمره ونهاه ودلّ هذا على أنه لم تخل فترة من وجود داع إلى الله تقوم به الحجة لله تعالى فقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زيد بن عمرو بن نفيل "يبعث امة وحده". ومثل زيد قس وورقة وسطيح.
٤ التبيان: مصدر دال على المبالغة في المصدرية وأريد به هنا اسم الفاعل أي: المبيِّن لكل شيء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث الآخر بما لا مزيد عليه لكثرة ألوان العرض لما يجرى في ذلك اليوم.
٢- براءة الشياطين والأصنام الذين أشركهم الناس في عبادة الله من المشركين بهم والتبرؤ منهم وتكذيبهم.
٣- زيادة العذاب لمن دعا إلى الشرك والكفر وحمل الناس على ذلك.
٤- لا عذر لأحد بعد أن أنزل الله تعالى القرآن تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين.
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً
شرح الكلمات:
العدل: الإنصاف ومنه التوحيد.
الإحسان: أداء الفرائض وترك المحارم مع مراقبة الله تعالى.
وإيتاء ذوي القربى: أي إعطاء ذي القربى حقوقهم من الصلة والبر.
عن الفحشاء: الزنا.
يعظكم: أي يأمركم وينهاكم.
تذكرون: أي تتعظون.
توكيدها: أي تغليظها.
نقضت غزلها: أي أفسدت غزلها بعد ما غزلته.
من بعد قوة: أي أحكام له وبرم.
أنكاثاً: جمع نكث وهو ما ينكث ويحل بعد الإبرام.
كالتي نقضت غزلها: هي حمقاء مكة وتدعى رَيْطَة بنت سعد بن تيم القرشية.
دخلاً بينكم: الدخل ما يدخل في الشيء وهو ليس منه للإفساد والخديعة.
أربى من أمة: أي أكثر منها عددا ًوقوة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿إن الله يأمر بالعدل١﴾ أي أن الله يأمر في الكتاب الذي أنزله تبياناً لكل شيء، يأمر بالعدل وهو الإنصاف ومن ذلك أن يعبد الله بذكره وشكره لأنه الخالق المنعم
٢ ورد في البغي: لا ذنب أسرع عقوبة من البغي، واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب، والباغي مصروع وقد وعد الله من بُغي عليه بالنصر في قوله: ﴿ومن عاقب بمثل ما عوقب ثمّ بغى عليه لينصرنه الله﴾.
٣ قال ابن مسعود رضي الله عنه: هذه الآية: أجمع آية في القرآن لخير يمتثل ولشرّ يجتنب.
٤ روي أن جماعة رفعت شكوى بعاملها إلى أبي جعفر المنصور فحاجّها العامل فغلبها حيث لم يثبتوا عليه كبير ظلم ولا جور في شيء، فقام فتى منهم وقال يا أمير المؤمنين: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ وإنّه عدل ولم يحسن فعجب أبو جعفر المنصور من إصابته، وعزل العامل.
٥ هذا في الإيمان المؤكد بها الحلف في الجاهلية لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث مسلم "لا حلف في الإسلام وأيّما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة وأبطل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحلف في الإسلام، لأن الإسلام جاء بنصرة المظلوم وأخذ الحق له من الظالم كما هو مبين في شريعته.
٦ أمّا إذا حلف العبد يميناً فرأى غيرها خيراً منها فإنه ينقض يمينه ويكفر كفّارة يمين لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلاّ أتيت الذي هو خير وكفّرت عن يميني".
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان أجمع آية للخير والشر في القرآن وهي آية ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان..﴾ الآية (٩٠).
٢- وجوب العدل والإحسان وإعطاء ذوي القربى حقوقهم الواجبة من البر والصلة.
٢ يقال لها ريطة بنت عمر وكانت تغزل طول النهار، وفي المساء إذا غضبت لحمقها تحلّ ما أبرمته من غزلها، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا كهذه الحمقاء فيحلون ما يبرمون من عقود وعهود.
٣ النكث والجمع أنكاث: وهو النقض والحل بعد الإبرام.
٤ اللام دالة على قسم محذوف نحو: ﴿والله لتسألن﴾.
﴿ العدل ﴾ : الإنصاف ومنه التوحيد.
﴿ الإحسان ﴾ : أداء الفرائض وترك المحارم مع مراقبة الله تعالى.
﴿ وإيتاء ذي القربى ﴾ : أي : إعطاء ذي القربى حقوقهم من الصلة والبر.
﴿ عن الفحشاء ﴾ : الزنا.
﴿ يعظكم ﴾ : أي : يأمركم وينهاكم.
﴿ تذكرون ﴾ : أي : تعظون.
المعنى :
قوله تعالى :﴿ إن الله يأمر بالعدل ﴾، أي : أن الله يأمر في الكتاب الذي أنزله تبياناً لكل شيء، يأمر بالعدل وهو الإنصاف ومن ذلك أن يعبد الله بذكره وشكره ؛ لأنه الخالق المنعم، وتترك عبادة غيره ؛ لأنهم غيره، لم يخلق ولم يرزق ولم ينعم بشيء. ولذا فسر هذا اللفظ بلا إله إلا الله، ﴿ والإحسان ﴾ : وهو أداء الفرائض، واجتناب المحرمات، مع مراقبة الله تعالى في ذلك حتى يكون الأداء على الوجه المطلوب إتقاناً وجودة، والاجتناب خوفاً من الله حياء منه، وقوله :﴿ وإيتاء ذي القربى ﴾، أي : ذوي القرابات حقوقهم من البر والصلة. هذا مما أمر الله تعالى به في كتابه، ومما ينهى عنه الفحشاء، وهو الزنا واللواط، وكل قبيح اشتد قبحه وفحش، حتى البخل. ﴿ والمنكر ﴾ : وهو كل ما أنكر الشرع، وأنكرته الفطر السليمة، والعقول الراجحة السديدة، وينهى عن البغي، وهو الظلم والاعتداء، ومجاوزة الحد في الأمور كلها، وقوله :﴿ لعلكم تذكرون ﴾، أي : أمر بهذا في كتابه رجاء أن تذكروا، فتتعظوا فتمتثلوا الأمر وتجتنبوا النهي. وبذلك تكملون وتسعدون. ولذا ورد أن هذه الآية :﴿ أن الله يأمر بالعدل والإحسان ﴾، إلى :﴿ تذكرون ﴾، هي أجمع أية في كتاب الله للخير والشر. وهي كذلك، فما من خير إلا وأمرت به، ولا من شر إلا ونهت عنه.
الهداية :
١- بيان أجمع آية للخير والشر في القرآن، وهي أية :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان.. ﴾ الآية ( ٩٠ ).
٢- وجوب العدل والإحسان، وإعطاء ذوي القربى حقوقهم الواجبة من البر والصلة.
٣- تحريم الزنا واللواط، وكل قبيح اشتد قبحه من الفواحش الظاهرة والباطنة.
٤- تحريم البغي، وهو الظلم بجميع صوره وأشكاله.
﴿ توكيدها ﴾، أي : تغليظها.
المعنى :
وقوله تعالى :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ﴾، أمر من الله تعالى لعبادة المؤمنين بالوفاء بالعهود، فعلى كل مؤمن بايع إماماً، أو عاهد أحدا على شيء، أن يفي له بالعهد ولا ينقضه. ﴿ إذ لا أيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ﴾، كما في الحديث الشريف.. وقوله تعالى :﴿ ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ﴾، الأيمان : جمع يمين : وهو الحلف بالله، وتوكيدها : تغليظها بالألفاظ الزائدة. ﴿ وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً ﴾، أي : وكيلاً، أي : أثناء حلفكم به تعالى، فقد جعلتموه وكيلاً، فهذه الآية حرمت نقض الأيمان : وهو نكثها وعدم الالتزام بها بالحنث فيها لمصالح مادية. وقوله تعالى :﴿ إن الله يعلم ما تفعلون ﴾، فيه وعيد شديد لمن ينقض أيمانه بعد توكيدها.
الهداية :
- وجوب الوفاء بالعهود وحرمة نقضها.
- حرمة نقض الأيمان بعد توكيدها وتوطين النفس عليها لتخرج لغو اليمين.
﴿ نقضت غزلها ﴾، أي : أفسدت غزلها بعد ما غزلته.
﴿ من بعد قوة ﴾، أي، أحكام له وبرم.
﴿ أنكاثاً ﴾ : جمع نكث، وهو ما ينكث ويحل بعد الإبرام.
﴿ كالتي نقضت غزلها ﴾ : هي حمقاء مكة، وتدعى ريطة بنت سعد بن تيم القرشية.
﴿ دخلاً بينكم ﴾ : الدخل : ما يدخل في الشيء وهو ليس منه ؛ للإفساد والخديعة.
﴿ أربى من أمة ﴾، أي : أكثر منها عدداً وقوة.
المعنى :
وقوله تعالى :﴿ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها ﴾، وهي امرأة بمكة حمقاء تغزل ثم تنكث غزلها وتفسده بعد إبرامه وإحكامه، فنهى الله تعالى المؤمنين أن ينقضوا أيمانهم بعد توكيدها، فتكون حالهم كحال هذه الحمقاء.
وقوله تعالى :﴿ تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ﴾، أي : إفساداً وخديعة كأن تحالفوا جماعة وتعاهدوها، ثم تنقضون عهدكم وتحلون ما أبرتم من عهد وميثاق، وتعاهدون جماعة أخرى ؛ لأنها أقوى وتنتفعون بها أكثر. هذا معنى قوله تعالى :﴿ أن تكون أمة هي أربى من أمة ﴾، أي : جماعة أكثر من جماعة رجالاً وسلاحاً أو مالاً ومنافع. وقوله تعالى :﴿ إنما يبلوكم الله به ﴾، أي : يختبركم فتعرض لكم هذه الأحوال وتجدون أنفسكم تميل إليها، ثم تذكرون نهي ربكم عن نقض الأيمان والعهود فتتركوا ذلك طاعة لربكم، أولا تفعلوا إيثاراً للدنيا عن الآخرة، ﴿ وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ﴾، ثم يحكم بينكم ويجزيكم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته..
الهداية :
- من بايع أميرا أو عاهد أحدا، يجب عليه الوفاء، ولا يجوز النقض والنكث لمنافع دنيوية أبداً.
وقوله تعالى :﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ﴾، على التوحيد والهداية لفعل.. ولكن اقتضت حكمته العالية أن يهدي من يشاء هدايته ؛ لأنه رغب فيها وطلبها، ويضل من يشاء إضلاله ؛ لأنه رغب في الضلال وطلبه وأصر عليه بعد النهي عنه. وقوله تعالى :﴿ لتسألن ﴾، أي : سؤال توبيخ وتأنيب، ﴿ عما كنتم تعملون ﴾، من سوء وباطل، ولازم ذلك الجزاء العادل : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا بمثلها وهو لا يظلمون.
٤- لحريم البغي وهو الظلم بجميع صوره وأشكاله.
٥- وجوب الوفاء بالعهود وحرمة نقضها.
٦- حرمة نقض الإيمان بعد توكيدها وتوطين النفس عليها لتخرج لغو اليمين.
٧- من بايع أميراً أو عاهد أحداً يجب عليه الوفاء ولا يجوز النقض والنكث لمنافع دنيوية أبداً.
وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (٩٧)
شرح الكلمات:
دخلاً بينكم: أي لأجل الإفساد والخديعة.
وتذوقوا السوء: أي العذاب.
ما عندكم ينفد: يفنى وينتهي.
وهو مؤمن: أي والحال أنه عندما عمل صالحاً كان مؤمناً، إذ بدون إيمان لا عمل يقبل.
حياة طيبة: في الدنيا بالقناعة والرزق الحلال وفي الآخرة هي حياة الجنة.
بأحسن ما كانوا يعملون: أي يجزيهم على كل أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب الأحسن فيها.
ما زال السياق في تربية المؤمنين أهل القرآن الذي هو تبيان كل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وقال تعالى لهم ﴿ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً﴾ أي خديعة ﴿بينكم﴾ لتتوصلوا بالإيمان إلى غرضٍ دنيوي سافل، ﴿فتزل قدم١ بعد ثبوتها﴾ بأن يقع أحدكم في كبيرة من هذا النوع، يحلف بالله بقصد الخداع والتضليل فتذوقوا السوء في الدنيا بسبب صدكم عن سبيل الله من تعاهدونهم أو تبايعونهم وتعطونهم أيمانكم وعهودكم ثم تنقضوها فهؤلاء ينصرفون عن الإسلام ويعرضون عنه بسبب ما رأوا منكم من النقض والنكث، وتتحملون وزر ذلك، ويكون لكم العذاب العظيم يوم القيامة. فإياكم والوقوع في مثل هذه الورطة، فاحذروا أن تزل قدم أحدكم عن الإسلام بعد أن رسخت فيه. وقوله: ﴿ولا تشتروا٢ بعهد الله ثمناً قليلاً﴾ وكل ما في الدنيا قليل وقوله تعالى إنما عند الله هو خير لكم قطعاً، لأن ما عندكُمْ من مالٍ أو متاعٍ ينفد أي يفنى، ﴿وما عند الله باق﴾ لا نفاذ له، فاذكروا هذا ولا تبيعوا الغالي بالرخيص والباقي بالفاني، وقوله تعالى: ﴿ولنجزين الذين صبروا﴾ على عهودهم ﴿أجرهم﴾ على صبرهم ﴿بأحسن ما كانوا يعملون﴾ أي يضاعف لهم الأجر فيعطيهم سائر أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب أفضلها وأكملها حتى يكون أجر النافلة، كأجر الفريضة وهذا وعد من الله تعالى لمن يصبر على إيمانه وإسلامه ولا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ووعدٌ ثان في قوله: ﴿من عمل صالحاً من ذكرٍ وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه٣ حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ إلا أن أصحاب هذا الوعد هم أهل الإيمان والعمل الصالح، الإيمان الحق الذي يدفع إلى العمل الصالح، ولازم ذلك أنهم تخلوا عن الشرك والمعاصي، هؤلاء وعدهم ربهم بأنه يحييهم في الدنيا حياة طيبة لا خبث فيها قناعة وطيب طعام٤ وشراب ورضا، هذا في
٢ نهى تعالى المؤمنين عن الرُّشا وأخذ الأموال على نقض العهد أي: لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدنيا. روي أن امرؤ القيس بن عابس الكندي اختصم مع ابن أسوع في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فلمّا سمع هذه الآية نكل وقرأ لخصمه بالأرض.
٣ اختلف في معنى الحياة الطيبة فقال بعضهم: هي الرزق الحلال، وقيل: هي القناعة وقيل: التوفيق إلى الطاعة الموجبة لرضوان الله تعالى، وقيل: هي حلاوة الطاعة، وقيل هي المعرفة بالله وصدق المقام بين يدي الله.
٤ روى مسلم قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه".
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة اتخاذ الإيمان طريقاً إلى الغش والخديعة والإفساد.
٢- ما عند الله خير مما يحصل عليه الإنسان بمعصيته الرحمن من حطام الدنيا.
٣- عظم أجر الصبر على طاعة الله تعالى فعلاً وتركاً.
٤- وعد الصدق لمن آمن وعمل صالحاً من ذكر وأنثى بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)
شرح الكلمات:
فإذا قرأت القرآن: أي أردت أن تقرأ القرآن.
فاستعذ بالله من الشيطان: أي قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لحمايتك منه وسواسه.
إنه ليس له سلطان: أي قوة وتسلط على إفساد الذين آمنوا وإضلالهم، ما داموا
وإذا بدلنا آية مكان آية: أي بنسخها وإنزاله آية أخرى غيرها لمصلحة العباد.
قل نزله روح القدس: أي جبريل عليه السلام.
ليثبت الذين آمنوا: أي على إيمانهم.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في هداية المسلمين وتكميلهم، فقوله تعالى: ﴿فإذا قرأت القرآن﴾ يا محمد أنت أو أحد من المؤمنين أتباعك ﴿فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم﴾ أي إذا كنت قارئاً عازماً على القراءة فقل أعوذ بالله١ من الشيطان الرجيم، فإن ذلك يقيك من وسواسه الذي قد يفسد عليك تلاوتك٢، وقوله: ﴿إنه ليس له﴾ أي للشيطان ﴿سلطان﴾ يعني تسلط وغلبة وقهر ﴿على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون﴾ وهذه بشرى خير للمؤمنين ﴿إنما سلطانه على الذين يتولونه﴾ ٣ بطاعته والعمل بتزيينه للشر والباطل٤، ﴿والذين هم به٥ مشركون﴾. هؤلاء هم الذين يتسلط الشيطان عليهم فيغويهم ويضلهم حتى يهلكهم. وقوله تعالى: ﴿وإذا بدلنا آية مكان آية﴾ أي نسخنا حكماً بحكم آخر بآية أخرى قال المشركون المكذبون بالوحي الإلهي ﴿إنما أنت﴾ يا محمد ﴿مفترٍ﴾ تقول بالكذب والخرص، أي يقول اليوم شيئاً ويقول غداً خلافه. وقوله تعالى: ﴿والله أعلم بما ينزل﴾ فإنه ينزله لمصلحة عباده فينسخ ويثبت لأجل مصالح المؤمنين. وعلم الله تعالى رسوله كيف يرد على هذه الشبهة وقال له ﴿قل نزله روح القُدس٦ من ربك بالحق﴾ فلست أنت الذي تقول ما تشاء وإنما هو وحي الله وكلامه ينزل به جبريل عليه السلام من عند ربك بالحق الثابت عند الله الذي لا يتبدل ولا بتغير، وذلك لفائدة تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وإسلامهم.
٢ لقد صحت الأحاديث الكثيرة في أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتعوّذ في صلاته قبل القراءة روي أن بعض السلف كان يتعوّذ بعد القراءة أخذاً بهذه الآية.
٣ فائدة الاستعاذة قبل القراءة أن يحفظ المرء من أن يلبس عليه إبليس قراءته ويخلط عليه ويمنعه من التدبرّ.
٤ قيل في قوله تعالى: ﴿إنه ليس له سلطان﴾ : أي أنه لا يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه.
٥ الضمير في ﴿به﴾ عائد إلى الشيطان ويصح عوده على الله تعالى.
٦ روح القدس: جبريل عليه السلام: "فقد نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه ما عدا الفاتحة فقد نزل بها ملك لم ينزل إلى الأرض قط" رواه مسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- استحباب الاستعاذة عند قراءة القرآن بلفظ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
٢- بيان أنه لا تسلط للشيطان على المؤمنين المتوكلين على ربهم.
٣- بيان أن سلطان الشيطان على أوليائه العاملين بطاعته المشركين بربهم.
٤- بيان أن القرآن فيه الناسخ والمنسوخ.
٥- بيان فائدة نزول القرآن بالناسخ والمنسوخ وهي تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وهدى من الضلالة وبشرى للمسلمين بالفوز والفلاح في الدارين.
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٠٥) مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ
شرح الكلمات:
بشر: يعنون قيناً (حداداً) نصرانياً في مكة.
لسان الذي يلحدون إليه: أي يميلون إليه.
وهذا لسان عربي: أي القرآن فكيف يعلمه أعجمي.
إلا من أكره: أي على التلفظ بالكفر فتلفظ به.
ولكن من شرح بالكفر صدرا: أي فتح صدره الكفر وشرحه له فطابت نفسه له.
وأولئك هم الغافلون: أي عما يراد بهم.
لا جرم: أي حقاً.
هم الخاسرون: أي لمصيرهم١ إلى النار خالدين فيها أبداً.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الرد على المشركين الذين اتهموا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالافتراء فقال تعالى: ﴿ولقد نعلم٢ أنهم يقولون إنما يعلمه بشر﴾ أي يعلم محمداً بشر أي إنسان من الناس، لا أنه وحي يتلقاه من الله. قال تعالى في الرد على هذه الفرية وإبطالها ﴿لسان الذي يلحدون إليه﴾ أي يميلون إليه بأنه هو الذي يعلم محمد لسانه ﴿أعجمي٣﴾ لأنه عبد رومي، ﴿وهذا﴾ أي القرآن ﴿لسان عربي مبين﴾ ذو فصاحة وبلاغة وبيان فكيف
٢ اختلف في تعيين هذا الرجل فقيل: اسمه جبر ويكنى بأبي فكيهة، وقيل: اسمه عايش، وقيل: اسمه يعيش وكان روميًّا وكان صيقليا يشحذ السيوف ويحليها وكان يجلس إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحياناً فقالوا قولتهم هذه.
٣ العجمة: الإخفاء وضد البيان ورجل أعجم وامرأة عجماء أي لا يفصح ولا يبين ومنه عجب الذنب لاستتاره والعجماء البهيمة والأعجمى من لا يتكلم العربية.
٢ قوله: ﴿من كفر بالله بعد إيمانه﴾ : عائد إلى قوله: ﴿إنما يفتري الكذب الذي لا يؤمنون بآيات الله﴾. وقوله: ﴿إلاّ من أكره﴾ : نزلت في عمّار بن ياسر في قول أهل التفسير لأنه قارب أن يقول بعض ما طلبوه منه فرفع تعالى عنه الحرج وقال له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أعطهم يا عمار" وهو تحت العذاب وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" واستثنى أهل العلم من أكره على قتل مؤمن أنه لا يقتله، وليكن المقتول ولا يقتل فلا يفد نفسه بأخيه حتى مجرد الضرب لا يضربه.
٣ أهل العلم على أن المكره على الطلاق وعلى الحلف وعلى الحنث أنه لا شيء فيه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- دفاع الله تعالى عن رسوله ودرء كل تهمةٍ توجه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢- المكذبون بآيات الله يحرمون هداية الله، لأن طريق الهداية هو الإيمان بالقرآن. فلما كفروا به فعلى أي شيء يهتدون.
٣- المؤمنون لا يكذبون لإيمانهم بثواب الصدق وعقاب الكذب، ولكن الكافرين هم الذين يكذبون لعدم ما يمنعهم من الكذب إذ لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً.
٤- الرخصة١ في كلمة الكفر في حال التعذيب بشرط اطمئنان القلب إلى الإيمان وعدم انشراح الصدر بكلمة الكفر.
٥- إيثار الدنيا على الآخرة طريق الكفر وسبيل الضلال والهلاك.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ
شرح الكلمات،:
هاجروا: أي إلى المدينة.
من بعدما فتنوا: أي فتنهم المشركون بمكة فعذبوهم حتى قالوا كلمة الكفر مكرهين.
إن ربك من بعدها: أي من بعد الهجرة والجهاد والصبر على الإيمان والجهاد.
لغفور رحيم: أي غفورٌ لهم رحيم بهم.
يوم تأتي: أي اذكر يا محمد يوم تأتي كل نفسٍ تجادل عن نفسها.
مثلاً قرية: هي مكة.
رزقها رغداً: أي واسعاً.
فكفرت بأنعم الله: أي بالرسول والقرآن والأمن ورغد العيش.
فأذاقها الله لباس الجوع: أي بسبب قحطٍ أصابهم حتى أكلوا العهن لمدة سبع سنين.
والخوف: حيث أصبحت سرايا الإسلام تغزوهم وتقطع عنهم سبل تجارتهم.
معنى الآيات:
بعدما ذكر الله تعالى رخصة كلمة الكفر عند الإكراه وبشرط عدم انشراح الصدر بالكفر ذكر مخبراً عن بعض المؤمنين، تخلفوا عن الهجرة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما أرادوا الهجرة منعتهم قريش وعذبتهم حتى قالوا كلمة الكفر، ثم تمكنوا من الهجرة فهاجروا وجاهدوا
وقوله تعالى: ﴿يوم٤ تأتي كل نفس تجادل عن نفسها﴾ أي اذكر ذلك واعظاً به المؤمنين أي تخاصم طالبةً النجاة لنفسها ﴿وتوفى كل نفسٍ ما عملت﴾ أي من خير أو شر ﴿وهم لا يظلمون﴾ لأن الله عدلٌ لا يجور في الحكم ولا يظلم. وقوله تعالى: ﴿وضرب الله مثلاً قرية٥﴾ أي مكة ﴿كانت آمنة﴾ من غارات الأعداء ﴿مطمئنة﴾ لا ينتابها فزعٌ ولا خوف، لما جعل الله تعالى في قلوب العرب من تعظيم الحرم وسكانه، ﴿يأتيها رزقها رغداً﴾ أي واسعاً ﴿من كل٦ مكان﴾ حيث يأتيها من الشام واليمن في رحلتيهما في الصيف والشتاء ﴿فكفرت بأنعم الله﴾ وهي تكذيبها برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنكارها للتوحيد، وإصرارها على الشرك وحرب الإسلام ﴿ (فأذاقها الله لباس الجوع﴾ فدعا عليهم الرسول اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف السبع الشداد، فأصابهم القحط سبع سنوات فجاعوا حتى أكلوا الجِيفْ والعهن، وأذاقها لباس الخوف إذ أصبحت سرايا الإسلام تعترض طريق تجارتها بل تغزوها في عقر دارها، وقوله تعالى ﴿بما كانوا يصنعون٧﴾ أي جزاهم لله بالجوع والخوف بسبب صنيعهم الفاسد وهو اضطهاد المؤمنين بعد كفرهم وشركهم وإصرارهم على ذلك. وقوله تعالى: ﴿ولقد جاءهم رسولٌ منهم﴾ هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿فكذبوه﴾ أي جحدوا رسالته وانكروا نبوته وحاربوا دعوته ﴿فأخذهم العذاب﴾ عذاب الجوع والخوف والحال أنهم ﴿ظالمون﴾ أي مشركون وظالمون لأنفسهم حيث عرضوها
٢ هاجروا أولا إلى الحبشة ثم إلى المدينة النبوية.
٣ أي: من بعد الحال التي كانت أيام تعذيبهم وفتنتهم على يد المشركين.
٤ جائز أن يكون الظرف متعلقاً بقوله: ﴿لغفور رحيم﴾ وجائز أن يكون معمولاً لفعل محذوف تقديره: اذكر ومعنى تجادل: تخاصم وتحاج عن نفسها وفي الحديث: "أن كل نفس يوم القيامة تقول: نفسي نفسي" لشدة الهول.
٥ هي مكة وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دعا على أهلها فقال: "اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام.
٦ من البرّ والبحر، هذا كقوله تعالى: ﴿يجبى إليه ثمرات كل شيء﴾.
٧ وقيل: إنّ القرية هذه هي المدينة قالت هذا حفصة وعائشة زوجتا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك لما قتل عثمان واشتد البلاء بأهل المدينة وعموم الآية ظاهر، وكونها مكة أظهر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- فضل الهجرة والجهاد والصبر، وما تكفر هذه العبادات من الذنوب وما تمحو من خطايا. ،
٢- وجوب التذكير باليوم الآخر وما يتم فيه من ثوابٍ وعقاب للتجافي عن الدنيا والإقبال على الآخرة.
٣- استحسان ضرب الأمثال من أهل العلم.
٤- كفر النعم بسبب زوالها والانتقام من أهلها.
٥- تكذيب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ما جاء به، ولو بالإعراض عنه وعدم العمل به يجر البلاء والعذاب.
فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١١٥) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨)
فكلوا: أي أيها الناس.
حلالاً طيباً: أي غير حرام ولا مستقذر.
واشكروا نعمة الله عليكم: أي بعبادته وحده وبالانتهاء إلى ما أحل لكم عما حرمه عليكم.
إن كنتم إياه تعبدون: أي إن كنتم تعبدونه وحده فامتثلوا أمره، فكلوا مما أحل لكم وذروا ما حرم عليكم.
الميتة: أي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير تذكية شرعية.
والدم: أي الدم المسفوح السائل لا المختلط باللحم والعظم.
وما أهل لغير الله به: أي ما ذكر عليه غير اسم الله تعالى.
غير باغٍ ولا عاد: أي غير باغ على أحد، ولا عادٍ أي متجاوز حد الضرورة.
ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب: أي لا تحللوا ولا تحرموا بألسنتكم كذباً على الله فتقولوا هذا حلال وهذا حرام بدون تحليل ولا تحريم من الله تعالى.
وعلى الذين هادوا: أي اليهود.
حرمنا ما قصصنا عليك من قبل: أي في سورة الأنعام.
معنى الآيات:
امتن الله عز وجل على عباده، فأذن لهم أن يأكلوا مما رزقهم من الحلال الطيب ويشكروه على ذلك بعبادته وحده وهذا شأن من يعبد الله تعالى وحده، فإنه يشكره على ما أنعم به عليه، وقوله تعالى: ﴿إنما حرم١ عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به﴾ فلا تحرموا ما لم يحرم عليكم كالسائبة والبحيرة والوصيلة التي حرمها المشركون افتراء على الله وكذباً. وقوله ﴿فمن اضطر﴾ منكم أي خاف على نفسه ضرر الهلاك بالموت لشدة الجوع وكان ﴿غير باغ﴾ على أحد ولا معتدٍ ما أحل له إلى ما حرم عليه
وقوله: ﴿ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب١ هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب﴾ أي ينهاهم عن التحريم والتحليل من تلقاء أنفسهم بأن يسموا الشيء بأنه حلال أو حرام لمجرد قولهم بألسنتهم الكذب: هذا حلال وهذا حرام كما يفعل المشركون فحللوا وحرموا بدون وحي إلهي ولا شرع سماوي. ليؤول قولهم وصنيعهم ذلك إلى الافتراء على الله والكذب عليه. مع أن الكاذب على الله لا يفلح أبداً لقوله ﴿إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل﴾ ٢ وإن تمتعوا قليلاً في الدنيا بمال أو ولد أو عزة وسلطان فإن ذلك متاع قليل جداً ولا يعتبر صاحبه مفلحاً ولا فائزاً. فإن وراء ذلك العذاب الآخروي الأليم الدائم الذي لا ينقطع. وقوله تعالى: ﴿وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل﴾ يخاطب الله تعالى رسوله فيقول: كما حرمنا على هذه الأمة المسلمة الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، حرمنا على اليهود ما قصصنا عليك من قبل في سورة الأنعام. إذ قال تعالى ﴿وعلى الذين٣ هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم﴾. وحرم هذا الذي حرم عليهم بسبب ظلم منهم فعاقبهم الله فحرم عليهم هذه الطيبات التي أحلها لعباده المؤمنين. ولذا قال تعالى ﴿وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- يجب مقابلة النعيم بالشكر فمن غير العدل أن يكفر العبد نعم الله تعالى عليه فلا يشكره عليها بذكره وحمده وطاعته بفعل محابه وترك مساخطه.
٢ جملة: ﴿متاع قليل﴾ جملة بيانية في جواب قول من قال: كيف لا يفلحون وهم يمتعون بالطعام والشراب والنساء والأموال؟ فأجيب بأن هذا متاع قليل جداً بالنظر إلى ما في الآخرة.
٣ تقديم الجار والمجرور: ﴿وعلى الذين هادوا حرمنا﴾ للاهتمام وللإشارة إلى أنّ ذلك التحريم كان انتقاماً منهم ولم يكن شرعاً لإكمالهم وإسعادهم.
٣- بيان الرخصة في الأكل من المحرمات المذكورة لدفع غائلة الموت.
٤- حرمة التحريم والتحليل بغير دليل شرعي قطعي لا ظني إلا ما غلب على الظن تحريمه.
٥- حرمة الكذب على الله وأن الكاذب على الله لا يفلح في الآخرة وفلاحه في الدنيا جزيء قليل لا قيمة له.. هذا إن أفلح.
٦- قد يحرم العبد النعم بسبب ظلمه فكم حرمت أمة الإسلام من نعم بسبب ظلمها في عصور انحطاطها.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
شرح الكلمات:
ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة: أي ثم إن ربك غفورٌ رحيمٌ للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا.
من بعدها: أي من بعد الجهالة والتوبة.
لله حنيفاً: أي مطيعاً لله حنيفاً: مائلاً إلى الدين القيم الذي هو الإسلام.
اجتباه: أي ربه اصطفاه للخلة بعد الرسالة والنبوة.
وآتيناه في الدنيا حسنة: هي الثناء الحسن من كل أهل الأديان السماوية.
إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه: أن اليهود أمروا بتعظيم الجمعة فرفضوا وأبوا إلا السبت ففرض الله عليهم ذلك وشدد لهم فيه عقوبة لهم.
معنى الآيات:
بعدما نددت الآيات في سياق طويل بالشرك وإنكار البعث والنبوة من قبل المشركين الجاحدين المعاندين، وقد أوشك سياق السورة على الانتهاء فتح الله تعالى باب التوبة لهم وقال: ﴿ثم إن ربك﴾ أي بالمغفرة والرحمة ﴿للذين عملوا السوء بجهالةٍ١﴾ فأشركوا بالله غيره وأنكروا وحيه وكذبوا بلقائه ﴿ثم تابوا من بعد ذلك﴾ فوحدوه تعالى بعبادته وأقروا بنبوة رسوله وآمنوا بلقائه واستعدوا له بالصالحات ﴿وأصلحوا﴾ ما كانوا قد أفسدوه من قلوبهم وأعمالهم وأحوالهم ﴿إن ربك من بعدها﴾ من بعد هذه التوبة٢ والأوبة الصحيحة ﴿لغفور رحيم﴾ بهم فكانت بشرى لهم على لسان كتاب ربهم. وقوله تعالى: ﴿إن إبراهيم٣ كان أمة٤ قانتاً لله حنيفاً، ولم يك من المشركين. شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم. وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ثم أوحينا إليك أن اتبع٥ ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين﴾ إنه لما كان من شبه المشركين أنهم على دين أبيهم إبراهيم باني البيت وشارع المناسك ومحرم الحرم، واليهود والنصارى كذلك يدعون أنهم على ملة إبراهيم فأصر الجميع على أنه متبع لملة إبراهيم وأنه على دينه ورفضوا الإسلام بدعوى ما هم عليه هو دين الله الذي جاء به إبراهيم أبو الأنبياء عليه
٢ وجائز أن يعود الضمير على الجهالة أيضاً كما جائز أن يعود على التوبة.
٣ ﴿إنّ إبراهيم﴾ ؛ هذه الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لغرض التنويه بدين الإسلام الذي هو دين إبراهيم من قبل.
٤ الأمّة: الجامع للخير، والقانت: المطيع لله تعالى، والحنيف: المائل إلى الحق المجانب للباطل.
٥ في الآية الدليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول ولا تبعة على الفاضل أي: لا غضاضة عليه ولا مساس بمقامه.
هذا هو إبراهيم فمن أحق بالنسبة إليه، المشركون؟ لا! اليهود؟ لا، النصارى؟ لا! المسلمون الموحدون؟ نعم نعم اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وأكرمنا يوم تكرمهم.
وقوله تعالى: ﴿إنما جعل السبت٢ على الذين اختلفوا فيه﴾ فيه دليل على بطلان دعوى اليهود أنهم على ملة إبراهيم ودينه العظيم، إذ تعظيم السبت لم يكن من دين إبراهيم،
٢ أي: لم يكن في شرع إبراهيم ولا من دينه، إذ كان. دين إبراهيم سمحاً لا تغليظ فيه والسبت تغليظ على اليهود في ترك الأعمال وترك التبسّط في المعاش بسبب اختلافهم فيه أي: اختلفوا في يوم الجمعة بعدما أمروا بتعظيمه فأبت اليهود إلا السبت بدعوى أن الله فرغ من الخلق فيه. واختار النصارى الأحد: لأن الله ابتدأ الخلق فيه، وهدى الله أمّة الإسلام ليوم الجمعة الذي اختلفوا فيه ففي البخاري يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، ونحن أوّل من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فيه فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له (يوم الجمعة".
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- باب التوبة مفتوح لكل ذي ذنب عَظُم أو صغُر على شرط صدق التوبة بالإقلاع الفوري والندم والاستغفار الدائم وإصلاح المفاسد.
٢- تقرير التوحيد والإعلان عن شان إبراهيم عليه السلام وييان كمالاته وإنعام الله عليه.
٣- بيان أن سبت اليهود هو من نقم الله عليهم لا من نعمه وافضاله عليهم.
ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (١٢٨)
شرح الكلمات:
إلى سبيل ربك: أي إلى طاعته إذ طاعة الله موصلة إلى رضوانه وإنعامه فهي سبيل الله.
بالحكمة: أي بالقرآن والمقالة المحكمة الصحيحة ذات الدليل الموضح للحق.
والموعظة الحسنة: هي مواعظ القرآن، والقول الرقيق الحسن.
لهو خيرٌ للصابرين: أي خيرٌ من الانتقام عاقبةً.
ولا تك في ضيق مما يمكرون: أي لا تهتم بمكرهم، ولا يضيق صدرك به.
مع الذين اتقوا: أي اتقوا الشرك والمعاصي.
والذين هم محسنون: أي في طاعة الله، ومعصيته تعالى هي نصره وتأييده لهم في الدنيا.
معنى الآيات:
يخاطب الرب تعالى رسوله تشريفاً وتكليفاً: ﴿ادع إلى سبيل ربك١﴾ أي إلى دينه وهو الإسلام سائر الناس، وليكن دعاؤك ﴿بالحكمة﴾ التي هي القرآن الكريم الحكيم ﴿والموعظة الحسنة﴾ وهي مواعظ القرآن وقصصه وأمثاله، وترغيبه وترهيبه، ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ أي خاصمهم بالمخاصمة التي هي أحسن وهي الخالية من السب والشتم والتعريض بالسوء، فإن ذلك أدعى لقبول الخصم الحق وما يدعي إليه، وقوله تعالى: ﴿إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله﴾ من الناس ﴿وهو أعلم بالمهتدين﴾ وسيجزيهم المهتدي بهداه، والضال بضلاله، كما هو أعلم بمن ضل واهتدى أزلاً. فهون على نفسك ولا تشطط في دعوتك فتضر بنفسك، والأمر ليس إليك. بل لربك يهدي من يشاء ويضل من يشاء وما عليك إلا الدعوة بالوصف الذي وصف لك، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وقوله تعالى ﴿وإن عاقبتم٢ فعاتبوا بمثل ما عوقبتم به﴾ لا أكثر، ﴿ولئن صبرتم﴾ وتركتم المعاقبة ﴿لهو﴾ أي صبركم ﴿خيرٌ﴾ لكم من المعاقبة على الذنب والجناية، وقوله تعالى: ﴿واصبر﴾ على ترك ما عزمت عليه أيها الرسول من التمثيل بالمشركين جزاء تمثيلهم بعمك حمزه، فأمره بالصبر ولازمه ترك المعاقبة والتمثيل معاً، وقوله: ﴿وما صبرك إلا بالله﴾ أي إلا بتوفيقه وعونه، فكن مع ربك
٢ جمهور المفسرين على أن هذه الآية: ﴿وإن عاقبتم فعاقبوا... ﴾ الخ نزلت بالمدينة في شأن قتل حمزة والتمثيل به رضي الله عنه وأرضاه يوم أحد ذكر ذلك البخاري وغيره وفي الآية دليل على وجوب المماثلة في القصاص ويحرم عدمها. وفي الآية دليل لمن قال بجواز أخذ مال من أخذ مال غيره إذا لم يتمكن منه بعلمه ورضاه على شرط أن لا يأخذ أكثر مما أخذ.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب الدعوة إلى الله تعالى أي إلى الإسلام وهو واجب كفائى، إذا قامت به جماعة أجزأ ذلك عنهم.
٢- بيان أسلوب الدعوة وهو أن يكون بالكتاب والسنة وأن يكون خالياً من العنف والغلظة والشدة، وأن تكون المجادلة بالتي هي أحسن من غيرها.
٣- جواز المعاقبة بالأخذ بقدر ما أخذ من المرء، وتركها صبراً واحتساباً أفضل.
! - معية الله تعالى ثابتة لأهل التقوى والإحسان، وهي معية نصرٍ وتأييد وتسديد.
٢ قيل: لهرم بن حبان عند موته: أوصنا فقال: أوصيكم بآيات الله وآخر سورة النحل: ﴿ادع إلى سبيل ربك..﴾ إلى ﴿محسنون﴾.