تفسير سورة الحج

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الحج من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الحج
في السورة إنذار بالقيامة وهولها. وتدليل على قدرة الله على بعث الناس ومحاسبتهم. وتنديد بفئات من الكفار وذوي القلوب المريضة وتنويه بالمؤمنين. وإنذار رهيب للأولين وبشرى للآخرين. وتوبيخ للكفار على صدّهم عن المسجد الحرام. وبيان عن صلة إبراهيم بالكعبة والحج. واستطراد إلى مناسك الحج وبخاصة ما يتعلق بالقرابين وإقرارها بعد تنقيتها من شوائب الشرك. وبشرى للمهاجرين بنصر الله وعنايته في حالتي الموت والحياة. وتقرير باعتبار المسلمين مظلومين بما كان من قتال المشركين لهم وأذاهم. وتقرير حق الدفاع لهم وتقرير ما يمكن أن يكون من سعادة المجتمع إذا تمكنوا في الأرض حيث يقيمونه على أساس قويم من صلاة وزكاة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وتطمين وتثبيت للنبي إزاء عناد الكفار وتذكير بآثار عظمة الله في كونه. وبعذاب الله للأمم السابقة لكفرها وتكذيبها لرسلها، ومشاهد ومواقف جدلية. وختام قوي موجّه للمسلمين، منوّه بالمكانة العظمى التي خصّوا بها، احتوى فيما احتواه تقرير نسبة العرب بالأبوة إلى إبراهيم عليه السلام وما جعل الله لهم من مزيّة ليكونوا شهداء على الناس.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن هذه السورة مدنية، في حين أن المفسرين البغوي والنيسابوري والزمخشري والطبرسي والخازن والبيضاوي والنسفي يروون أنها مكية، وبعضهم يذكر أن بعض آيات منها مدنية.
والآيات المرويّة مدنيتها هي [ ١٩-٢٢ ] في رواية و[ ١٩-٢٤ ] في رواية أخرى، ثم الآيات [ ٣٨-٤١ و٥٢-٥٥ و٥٨-٦٠ ]
والمتمعن في الآيات [ ١٩-٢٤ ] ومضمونها، يجد أن أسلوبها ومضمونها مكّيان أكثر من كونهما مدنيين. وكذلك الآيات [ ٥٢-٥٥ ]. أما الآيات [ ٣٨-٤١ و٥٨-٦٠ ] فقد يؤيّد أسلوبها ومضمونها مدنيتها، مع احتمال أن تكون – وبخاصة الآيات [ ٣٨-٤١ ] – مكية أيضا ؛ لأن أسلوبها ومضمونها يسوغان تخمين ذلك.
وهناك آيات لم يذكرها الرواة في عداد الآيات المدنية على ما اطّلعنا عليه، مع أن مضمونها قد يسوغ بل قد يرجّح مدنيتها وهي الآيات [ ٢٥-٢٧ ] ثم الآيتان الأخيرتان من السورة اللتان يحتمل أن تكون مدنيتين أيضا على ما سوف نشرحه بعد.
وعلى كل حال، فإن أسلوب معظم آيات السورة ومضمونها يسوغان ترجيح صحّة رواية مكّيتها، مع احتمال أن تكون بعض آياتها مدنية.
وفي هذه السورة موضعان يسجد عندهما سجود تلاوة، وهما الآيتان [ ١٨ و٧٧ ] وقد ورد في صدد ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي والحاكم عن عقبة بن عامر قال :«قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله في سورة الحجّ سجدتان قال : نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما » ١. وروى هذا الحديث الإمام أحمد بفرق مهم وهو أن عقبة قال :«يا رسول الله، أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال : نعم » ٢. وهناك حديث رواه أبو داود عن خالد بن معدان «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين » ٣. وحديث رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي عن أبي الجهم قال :«سجد عمر سجدتين في الحجّ – أي في سورة الحجّ- وهو بالجابية، وقال : إنّ هذه فضَلَت بسجدتين » ٤.
والحديث الأول وارد في كتاب من كتب الأحاديث الصحيحة، والأحاديث الأخرى محتملة الصحّة. وسجدات التلاوة منحصرة في السور المكيّة. فبالإضافة إلى ما في الأحاديث من تنويه بفضل هذه السورة، فإن فيها، والحالة هذه، دلالة على مكيتها، والله أعلم.
١ التاج ١/١٩٨-١٩٩.
٢ من تفسير السورة لابن كثير.
٣ انظر المصدر نفسه.
٤ انظر المصدر نفسه.

[ ١ ] الزلزلة : معناها اللغوي شدّة التحريك وإزالتها للأشياء عن أماكنها.

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ [ ١ ] السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴿ ١ ﴾ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴿ ٢ ﴾
في الآيتين : حثّ للناس على تقوى الله والتزام حدوده. وتحذير من هول يوم القيامة، الذي يحاسب الناس فيه على أعمالهم. وتشبيهه بالزلزلة العظيمة، التي تذهل الأمهات، حين ما تحدث، عن أطفالهن وتجهض الحاملات، ويبدو الناس كالمخمورين ولو لم يشربوا خمراً ؛ بسبب الرعب الشديد والاضطراب اللذين يستوليان عليهم.
ولقد روى الطبري وغيره ١ روايات متعددة الصيغ مع اتفاقها بالجوهر، في صدد هذه الآيات، جاء في واحدة منها رواها الطبري عن عمران بن الحصين قال :«بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، وقد فاوت السير بأصحابه، إذ نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ )، فجثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله، قال : هل تدرون أي يوم ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : ذلك يوم ينادي آدم ويناديه ربّه : ابعث بعث النار من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، قال : فأبلس القوم فما وضح منهم ضاحك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا اعلموا وأبشروا فإنّ معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلا كثرتاه فمن هلك من بني آدم ومن هلك من بني إبليس ويأجوج ومأجوج، قال : أبشروا وأما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في جناح الدابة». وفي بعض صيغ الروايات التي يرويها الطبري، ذكر أن الآيتين نزلتا حينئذ حيث يقتضي هذا إذا صحّت الرواية أن تكون الآيتان مدنيتين. غير أن الرواية التي أوردناها لا تذكر ذلك صراحة وكل ما ذكرته أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى بهذه الآية. وفي بعض صيغ الروايات ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها عليهم وليس فيها خبر نزولها حينئذ. وشيء من الرواية التي أوردناها رواه الشيخان في سياق تفسير الآيتين، ولكن ليس في نصّهما أنهما نزلتا حينئذ، وهذا هو نص حديث الشيخين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«يقول الله تعالى يا آدم، فيقول : لبّيك وسعديك والخير بين يديك، فيقول : أخرجْ بعثَ النار، قال : وما بعث النار ؟ قال : من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين. فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد. قالوا : يا رسول الله وأيّنا ذلك الواحد ؟ قال : أبشروا فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفا. ثم قال : والذي نفسي بيده، إني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبّرنا، فقال : أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبّرنا، فقال : أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبّرنا، فقال : ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود» ٢.
وأسلوب الآيتين من الأساليب المكية، وصلتهما قويّة بالآيات التالية لهما التي تذكر البعث وارتياب الناس وجدلهم فيه، وتبرهن على قدرة الله تعالى عليه ؛ حتى ليصحّ أن يقال إنهما مقدمة لما بعدهما. مما يجعلنا نستبعد نزولهما في العهد المدني، ونرجّح نزولهما في العهد المكي، ونفسّر ما جاء في الروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها عليهم في أثناء الغزوة، وفي موقف أو ظرف شاءت حكمته أن يذكر أصحابه بهول يوم القيامة ويعظهم ويبشرهم ويطمئنهم في الوقت نفسه ؛ فالتبس الأمر على الرواة. ومع واجب الإيمان بما يصحّ عن رسول الله من خبر المشاهد الأخروية، فإن هذه الحكمة ملموحة في الحديث الذي يرويه الشيخان، والذي لا يذكر مناسبة النزول التي ترويها الروايات، والله أعلم.
[ ١ ] مريد : متمرد.
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ [ ١ ] ﴿ ٣ ﴾ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴿ ٤ ﴾
وفي هاتين الآيتين : إشارة تنديدية إلى الذين يجادلون في وجود الله وربوبيته الشاملة واستحقاقه وحده للعبادة بغير علم ولا برهان ؛ اتباعاً لوسوسة كلّ شيطان متمرّد يضلّ من يتبعه عن طريق الحقّ ويوصله إلى عذاب السعير.
وقد روى المفسرون ١ أن الآيتين نزلتا في النضر بن الحارث أحد أشداء مجادلي كفار قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم ومناوئيهم له. وهذا الشخص تكرر اسمه في مناسبة كثير من المواقف الجدلية التي حكتها الآيات المكية.
وأسلوب الآيتين تنديدي عام من جهة، وفيهما قرينة على أن التنديد فيهما موجّه إلى فريق من الكفار الذين يسيرون في مواقفهم الجحودية والجدلية وراء تلقين زعماء كفار من جهة ثانية. وهما تعقيب بياني على المطلع فيما هو المتبادر من جهة ثالثة ؛ فقد احتوى المطلع هتافاً بالناس ليتقوا الله من اليوم العظيم، فجاءت الآيتان تذكر موقف بعض الناس الضّالين الذين يجادلون في الله ويستمعون إلى وساوس الشياطين. وفيهما على كلّ حال صورة من صور المواقف الجدليّة التعجيزية، التي لا يسندها منطق ولا حقّ ولا برهان، والتي كان يقفها الكفار من الدعوة النبويّة بتأثير زعماء الضلال والمناوأة، الذين يمكن أن يكونوا قصدوا في جملة ( كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ) من جهة رابعة.
وهذا لا يمنع بالطبع أن يكون في الآيتين إشارة إلى شخص وقف موقفا جدليا تعجيزيا قبل نزول السورة ؛ فكان ذلك مناسبة لهذه الإشارة.
ولقد انطوى في الآيتين، مع خصوصيتهما الزمنية، تلقين قوي مستمر المدى والشمول بتقبيح من يتّصف بالصفات المذكورة فيهما، وتقبيح هذه الصفات والحثّ على اجتنابها مما تكرر في مناسبات عديدة مماثلة.
[ ١ ] مضغة : قطعة اللحم التي تتطور من العلقة والنطفة.
[ ٢ ] مخلّقة وغير مخلّقة : قال المفسرون : إن المخلّقة هي المضغة التي تتشكل جنيناً، وغير المخلقة هي التي تسقط من الرحم دون أن تتشكّل.
[ ٣ ] ربت : نمت وتفتحت.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ [ ١ ] مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [ ٢ ] لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [ ٣ ] وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴿ ٥ ﴾‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿ ٦ ﴾ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ﴿ ٧ ﴾
وفي هذه الآيات خطاب للناس بسبيل البرهنة على البعث بعد الموت : فإذا كانوا في ريب من ذلك فعليهم :

١-
أن يفكروا في نشأتهم وأطوارها. فقد خلق الله أوّلهم من تراب ثم جعلهم يتناسلون عن طريق النطفة، حيث تتطور النطفة إلى علقة دم، والعلقة إلى مضغة لحم، ومن المضغ ما يسقط قبل أن تتخلّق، ومنها ما يستقر في الرحم فتتخلّق على صورة الإنسان وتبقى إلى مدة معينة، ثم طفلا ثم يبلغ أشدّه من القوة والتمييز. ومن الناس من يتوفّون من قبل أن يمتدّ بهم العمر، ومنهم من يمتدّ بهم فيضعفون بعد قوة ويفقدون وعيهم بعد التمييز، حتى لا يكادون يعلمون شيئا مما كانوا يعلمونه. ففي هذا بيان لهم ومثال على عظيم قدرة الله.

٢-
وعليهم أن يفكروا في الأرض فإنّها تكون هامدة جامدة، فإذا ما أنزل الله عليها الماء، اهتزت ونفشت وتفتحت وأنبتت النباتات المتنوعة البهيجة.
ففي هذا وذاك ما من شأنه أن يقنعهم بأن الله هو الحقّ، وأنه لا يمكن أن يكون خلق الخلق إلا بالحق، وأنه قادر على كلّ شيء، وأنه قادر بطبيعة الحال على إحياء الموتى ثانية. وبأن ما أخبر به رسوله من مجيء الساعة وبعث من في القبور إلى الحياة حق لا ريب فيه.
والآيات غير منقطعة الصلة بالآيات السابقة ؛ حيث ما تزال تهتف بالناس. فقد بدأت السورة بإنذارهم بزلزلة الساعة والإهابة لهم لتقوى الله، وعقبت بذكر فئات الناس الذين يجادلون في الله، فجاءت هذه الآيات تقيم للناس البرهان على قيام الساعة، وسخف المجادلين في الله وضلالهم بما يرونه في أنفسهم وفي الأرض.
وهذا الأسلوب بل وهذه المعاني والأمثلة لإقناع الناس بالبعث وقدرة الله عليه وحكمته، مما تكرر في القرآن كثيراً في مناسبات حكاية مواقف الجدل التي كانت تتكرر كثيراً في الموضوع، والتي كانت مسألة البعث بعد الموت من أهمّ مواضيعها ومثيراتها. وقد يكون في الآيات دلالة على أنها وما قبلها نزلت في موقف من هذه المواقف.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات عدّة أحاديث. منها حديث عزاه إلى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال :«حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقيّ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح» ١. ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ما من معمّر يعمّر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاث أنواع من البلاء : الجنون والبرص والجذام». وحديث من بابه مع زيادة مهمة رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أنس أيضا قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد يعمّر في الإسلام أربعين سنة إلاّ صرف الله عنه أنواعا من البلاء الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين سنة ليّن الله له الحساب، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحبّ، فإذا بلغ سبعين سنة غفر الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وسمّي أسير الله، وأحبّه أهل السماء، فإذا بلغ الثّمانين تقبّل الله حسناته وتجاوز عن سيّئاته، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر وسمّي أسير الله في أرضه، وشفع في أهل بيته».
والحديث الأول متّصل بموضوع القدر، وقد أوردناه مع زيادته في التعليق الذي علقناه به على هذا الموضوع في سياق سورة القمر، فلا نرى حاجة إلى تعليق آخر.
والحثّ على الإخلاص له والتزام حدود الدين الإسلامي – وهذا هو المقصود من جملة ما من معمّر يعمّر في الإسلام – والتبشير والتطمين للمسلمين من الحكمة الملموحة في الأحاديث الأخرى إن صحت، والله أعلم.
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴿ ٨ ﴾ ثَانِيَ عِطْفِهِ [ ١ ] لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿ ٩ ﴾ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴿ ١٠ ﴾
في هذه الآيات :
١- إشارة تنديدية إلى فريق آخر من الناس يجادل ويكابر في الله وآياته بدون علم ولا هدى ولا برهان من كتاب صادق، متكبرا متبخترا مشتدّا في العناد ليؤثر على غيره ويمنعه عن سبيل الله والاستجابة إلى دعوته.
٢- وإنذار شديد له، فله الخزي والهوان في الدنيا وله عذاب الحريق في الآخرة. وهذا جزاؤه الحقّ على ما قدمت يداه وليس فيه ظلم. فالله لا يظلم أحدا من عبيده وإنما يجزي كلا بما يستحقّ.
وقد روى المفسرون أن هذه الآيات نزلت في النضر بن الحارث، ومنهم من روى أنها نزلت في أبي جهل، ومنهم من روى أنها عنتهما.
والمتبادر أنها استمرار في السياق، أو أنها استطراد إلى ذكر فريق آخر من زعماء الكفار يصدّ غيره ويوسوس لغيره، بينما احتوت الآيتان [ ٣ و٤ ] صورة الفريق الذي يتبع غيره ويتأثر بوسوسة غيره. وأسلوبها تنديدي كأسلوب الآيتين المذكورتين.
وهذا لا يمنع بطبيعة الحال أن تكون احتوت إشارة إلى موقف جدلي خاص وقفه أحد زعماء الكفار قبل نزول السورة، بل لا بدّ من أن يكون الأمر كذلك ؛ لأنها تنطوي على مشهد واقعي.
ومع خصوصية الآيات فإنها هي الأخرى تحتوي تلقينات جليلة مستمرة المدى وعامة الشمول بتقبيح المكابرة في الحقّ، والاستكبار عليه وصدّ الناس عنه، وتقبيح المتصفين بهذه الصفات.
[ ١ ] ثاني عطفه : لاوي جانبه. والقصد من التعبير وصف المندد به بالكبر والتبختر في الوقفة والمشية.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨:وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴿ ٨ ﴾ ثَانِيَ عِطْفِهِ [ ١ ] لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿ ٩ ﴾ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴿ ١٠ ﴾

في هذه الآيات :


١-
إشارة تنديدية إلى فريق آخر من الناس يجادل ويكابر في الله وآياته بدون علم ولا هدى ولا برهان من كتاب صادق، متكبرا متبخترا مشتدّا في العناد ليؤثر على غيره ويمنعه عن سبيل الله والاستجابة إلى دعوته.

٢-
وإنذار شديد له، فله الخزي والهوان في الدنيا وله عذاب الحريق في الآخرة. وهذا جزاؤه الحقّ على ما قدمت يداه وليس فيه ظلم. فالله لا يظلم أحدا من عبيده وإنما يجزي كلا بما يستحقّ.
وقد روى المفسرون أن هذه الآيات نزلت في النضر بن الحارث، ومنهم من روى أنها نزلت في أبي جهل، ومنهم من روى أنها عنتهما.
والمتبادر أنها استمرار في السياق، أو أنها استطراد إلى ذكر فريق آخر من زعماء الكفار يصدّ غيره ويوسوس لغيره، بينما احتوت الآيتان [ ٣ و٤ ] صورة الفريق الذي يتبع غيره ويتأثر بوسوسة غيره. وأسلوبها تنديدي كأسلوب الآيتين المذكورتين.
وهذا لا يمنع بطبيعة الحال أن تكون احتوت إشارة إلى موقف جدلي خاص وقفه أحد زعماء الكفار قبل نزول السورة، بل لا بدّ من أن يكون الأمر كذلك ؛ لأنها تنطوي على مشهد واقعي.
ومع خصوصية الآيات فإنها هي الأخرى تحتوي تلقينات جليلة مستمرة المدى وعامة الشمول بتقبيح المكابرة في الحقّ، والاستكبار عليه وصدّ الناس عنه، وتقبيح المتصفين بهذه الصفات.

[ ١ ] على حرف : على طرف، والمقصد إنه شاكّ وإنه على غير اطمئنان وصدق بإيمانه.
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [ ١ ] فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴿ ١١ ﴾ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴿ ١٢ ﴾ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [ ٢ ]﴿ ١٣ ﴾.
وفي هذه الآيات : إشارة تنديدية إلى فريق آخر من الناس يعبد الله على غير اطمئنان وإيمان صادق ؛ ويكون مذبذباً. فإذا أصابه خير اطمأن وابتهج به، وإذا أصابه شرّ انقلب عن موقفه وجحد ما كان عليه وأخذ يدعو غير الله الذي لا ينفعه ولا يضرّه، بل والذي ضرره هو الأوكد. وفي هذا من الخسران الدنيوي والأخروي والضلال البعيد ما فيه. ولبئس المولى مولاه ولبئس العشير عشيره.
وقد روى المفسرون ١ أن الآيات نزلت في أعراب كانوا يفدون على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فيسلمون، فإن أصابهم خير ورخاء بعد إسلامهم أو كان عامهم عام غيث وخصب وولادة حسنة أقاموا على الإسلام، وقالوا : هذا دين صالح ؛ وإن أصابهم مصيبة أو جذب جحدوا وقالوا ليس في هذا الدين خير وارتدوا إلى شركهم. وهناك رواية أخرى ٢ تفيد أنها نزلت في يهودي أسلم ثم تشاءم وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيله من بيعته على الإسلام. وهناك حديث رواه البخاري عن ابن عباس جاء فيه :«كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيلُه قال : هذا دين صالح ؛ وإن لم تلد امرأته ولم تُنتج خيله قال : هذا دين سوء»٣.
وهذه الروايات تقتضي أن تكون الآيات مدنية. ولم يذكر المفسرون ذلك صراحة، وقد تكون في الآيات صورة من صور مواقف المنافقين ومرضى القلوب وهؤلاء كانوا في العهد المدني. غير أننا وقد رجحنا مكية السورة لسنا نرى حكمة في وضع هذه الآيات في سياق مواقف وصور مكية. وأسلوب الآيات بعد مماثل كل المماثلة لأسلوب الآيات السابقة التي تحكي هذه المواقف والصور المكية ؛ لذلك فإننا نرجح أن هذه الآيات استمرار في السياق السابق أو استطراد آخر إلى وصف فريق آخر من الناس في العهد المكي بأسلوب تنديدي، كما وصف الفريقان السابقان. مع احتمال قوي أن يكون هذا الفريق قد أسلم ثم تردّد أو ارتدّ استبطاءً لنصر الله واستحبابا للدنيا. وفي سورة النحل التي فسرناها في الجزء السابق آيات تذكر أن بعض المسلمين في مكة ارتدوا عن دينهم استحباباً في الحياة، حيث يورد هذا كشاهد على صواب القول إن الصورة التي وصفت في الآيات صورة مكية وهي ﴿ مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿ ١٠٦ ﴾ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿ ١٠٧ ﴾. وفي سور عديدة أخرى آيات حكت حالة أناس كانوا يعترفون بالله ويدعونه ويخلصون له الدعاء والدين في الأزمات، ثم ينسونه ويشركون به غيره في الأوقات العادية، منها آية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴿ ٦٥ ﴾ وآيات سورة الروم هذه ﴿ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴿ ٣٣ ﴾ و﴿ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴿ ٣٦ ﴾ ٤ فلعلّ هذه الأيات وأمثالها مما يصحّ أن يدخل في ذلك النطاق. ولعل في الآية [ ١٥ ] التالية لها قرينة على ذلك. وهذا لا ينفي صحة الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس وما فيه من صورة لبعض الناس في العهد المدني. ومن الجدير بالتنبيه أن الحديث لا يذكر أن الآية نزلت في الصورة الواردة فيه.
وقد يبدو أن الآية [ ١٣ ] متناقضة مع الآية [ ١٢ ]، من حيث أن الآية الأولى تجعل الضرر والنفع محتملين من الشركاء مع تغليب الضرر على النفع، في حين أن الثانية تنفي قدرة الشركاء على النفع والضرر. حتى لقد وصف المفسّر البغوي هذا بأنه من مشكلات القرآن. وقد حاول المفسّر وغيره ٥ تخريج ما ظنّوه مشكلة ولم يتوصلوا فيما يتبادر لنا إلى حلّ مقنع. والذي يتبادر لنا أن التعبير أسلوبي على سبيل المساجلة، بمعنى أن ضرره هو الأوكد في حين ليس هناك أي دليل على نفعه. والله أعلم.
وهذه الآيات انطوت كسابقاتها على تلقين عامّ مستمرّ المدى بتقبيح النفاق والتقلّب في الحقّ وعدم الاستقامة عليه، وجعل الموقف منوطا بالنفع الشخصي العاجل ثباتا وانحرافا، والحثّ على تجنّب هذا الخلق البشع والاستمساك بالحقّ والاستقامة على دين الله في كلّ حال.
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [ ١ ] فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴿ ١١ ﴾ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴿ ١٢ ﴾ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [ ٢ ]﴿ ١٣ ﴾.
وفي هذه الآيات : إشارة تنديدية إلى فريق آخر من الناس يعبد الله على غير اطمئنان وإيمان صادق ؛ ويكون مذبذباً. فإذا أصابه خير اطمأن وابتهج به، وإذا أصابه شرّ انقلب عن موقفه وجحد ما كان عليه وأخذ يدعو غير الله الذي لا ينفعه ولا يضرّه، بل والذي ضرره هو الأوكد. وفي هذا من الخسران الدنيوي والأخروي والضلال البعيد ما فيه. ولبئس المولى مولاه ولبئس العشير عشيره.
وقد روى المفسرون ١ أن الآيات نزلت في أعراب كانوا يفدون على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فيسلمون، فإن أصابهم خير ورخاء بعد إسلامهم أو كان عامهم عام غيث وخصب وولادة حسنة أقاموا على الإسلام، وقالوا : هذا دين صالح ؛ وإن أصابهم مصيبة أو جذب جحدوا وقالوا ليس في هذا الدين خير وارتدوا إلى شركهم. وهناك رواية أخرى ٢ تفيد أنها نزلت في يهودي أسلم ثم تشاءم وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيله من بيعته على الإسلام. وهناك حديث رواه البخاري عن ابن عباس جاء فيه :«كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيلُه قال : هذا دين صالح ؛ وإن لم تلد امرأته ولم تُنتج خيله قال : هذا دين سوء»٣.
وهذه الروايات تقتضي أن تكون الآيات مدنية. ولم يذكر المفسرون ذلك صراحة، وقد تكون في الآيات صورة من صور مواقف المنافقين ومرضى القلوب وهؤلاء كانوا في العهد المدني. غير أننا وقد رجحنا مكية السورة لسنا نرى حكمة في وضع هذه الآيات في سياق مواقف وصور مكية. وأسلوب الآيات بعد مماثل كل المماثلة لأسلوب الآيات السابقة التي تحكي هذه المواقف والصور المكية ؛ لذلك فإننا نرجح أن هذه الآيات استمرار في السياق السابق أو استطراد آخر إلى وصف فريق آخر من الناس في العهد المكي بأسلوب تنديدي، كما وصف الفريقان السابقان. مع احتمال قوي أن يكون هذا الفريق قد أسلم ثم تردّد أو ارتدّ استبطاءً لنصر الله واستحبابا للدنيا. وفي سورة النحل التي فسرناها في الجزء السابق آيات تذكر أن بعض المسلمين في مكة ارتدوا عن دينهم استحباباً في الحياة، حيث يورد هذا كشاهد على صواب القول إن الصورة التي وصفت في الآيات صورة مكية وهي ﴿ مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿ ١٠٦ ﴾ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿ ١٠٧ ﴾. وفي سور عديدة أخرى آيات حكت حالة أناس كانوا يعترفون بالله ويدعونه ويخلصون له الدعاء والدين في الأزمات، ثم ينسونه ويشركون به غيره في الأوقات العادية، منها آية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴿ ٦٥ ﴾ وآيات سورة الروم هذه ﴿ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴿ ٣٣ ﴾ و﴿ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴿ ٣٦ ﴾ ٤ فلعلّ هذه الأيات وأمثالها مما يصحّ أن يدخل في ذلك النطاق. ولعل في الآية [ ١٥ ] التالية لها قرينة على ذلك. وهذا لا ينفي صحة الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس وما فيه من صورة لبعض الناس في العهد المدني. ومن الجدير بالتنبيه أن الحديث لا يذكر أن الآية نزلت في الصورة الواردة فيه.
وقد يبدو أن الآية [ ١٣ ] متناقضة مع الآية [ ١٢ ]، من حيث أن الآية الأولى تجعل الضرر والنفع محتملين من الشركاء مع تغليب الضرر على النفع، في حين أن الثانية تنفي قدرة الشركاء على النفع والضرر. حتى لقد وصف المفسّر البغوي هذا بأنه من مشكلات القرآن. وقد حاول المفسّر وغيره ٥ تخريج ما ظنّوه مشكلة ولم يتوصلوا فيما يتبادر لنا إلى حلّ مقنع. والذي يتبادر لنا أن التعبير أسلوبي على سبيل المساجلة، بمعنى أن ضرره هو الأوكد في حين ليس هناك أي دليل على نفعه. والله أعلم.
وهذه الآيات انطوت كسابقاتها على تلقين عامّ مستمرّ المدى بتقبيح النفاق والتقلّب في الحقّ وعدم الاستقامة عليه، وجعل الموقف منوطا بالنفع الشخصي العاجل ثباتا وانحرافا، والحثّ على تجنّب هذا الخلق البشع والاستمساك بالحقّ والاستقامة على دين الله في كلّ حال.
[ ٢ ] العشير : الصاحب والمعاشر.
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [ ١ ] فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴿ ١١ ﴾ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴿ ١٢ ﴾ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [ ٢ ]﴿ ١٣ ﴾.
وفي هذه الآيات : إشارة تنديدية إلى فريق آخر من الناس يعبد الله على غير اطمئنان وإيمان صادق ؛ ويكون مذبذباً. فإذا أصابه خير اطمأن وابتهج به، وإذا أصابه شرّ انقلب عن موقفه وجحد ما كان عليه وأخذ يدعو غير الله الذي لا ينفعه ولا يضرّه، بل والذي ضرره هو الأوكد. وفي هذا من الخسران الدنيوي والأخروي والضلال البعيد ما فيه. ولبئس المولى مولاه ولبئس العشير عشيره.
وقد روى المفسرون ١ أن الآيات نزلت في أعراب كانوا يفدون على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فيسلمون، فإن أصابهم خير ورخاء بعد إسلامهم أو كان عامهم عام غيث وخصب وولادة حسنة أقاموا على الإسلام، وقالوا : هذا دين صالح ؛ وإن أصابهم مصيبة أو جذب جحدوا وقالوا ليس في هذا الدين خير وارتدوا إلى شركهم. وهناك رواية أخرى ٢ تفيد أنها نزلت في يهودي أسلم ثم تشاءم وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيله من بيعته على الإسلام. وهناك حديث رواه البخاري عن ابن عباس جاء فيه :«كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيلُه قال : هذا دين صالح ؛ وإن لم تلد امرأته ولم تُنتج خيله قال : هذا دين سوء»٣.
وهذه الروايات تقتضي أن تكون الآيات مدنية. ولم يذكر المفسرون ذلك صراحة، وقد تكون في الآيات صورة من صور مواقف المنافقين ومرضى القلوب وهؤلاء كانوا في العهد المدني. غير أننا وقد رجحنا مكية السورة لسنا نرى حكمة في وضع هذه الآيات في سياق مواقف وصور مكية. وأسلوب الآيات بعد مماثل كل المماثلة لأسلوب الآيات السابقة التي تحكي هذه المواقف والصور المكية ؛ لذلك فإننا نرجح أن هذه الآيات استمرار في السياق السابق أو استطراد آخر إلى وصف فريق آخر من الناس في العهد المكي بأسلوب تنديدي، كما وصف الفريقان السابقان. مع احتمال قوي أن يكون هذا الفريق قد أسلم ثم تردّد أو ارتدّ استبطاءً لنصر الله واستحبابا للدنيا. وفي سورة النحل التي فسرناها في الجزء السابق آيات تذكر أن بعض المسلمين في مكة ارتدوا عن دينهم استحباباً في الحياة، حيث يورد هذا كشاهد على صواب القول إن الصورة التي وصفت في الآيات صورة مكية وهي ﴿ مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿ ١٠٦ ﴾ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿ ١٠٧ ﴾. وفي سور عديدة أخرى آيات حكت حالة أناس كانوا يعترفون بالله ويدعونه ويخلصون له الدعاء والدين في الأزمات، ثم ينسونه ويشركون به غيره في الأوقات العادية، منها آية سورة العنكبوت هذه :﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴿ ٦٥ ﴾ وآيات سورة الروم هذه ﴿ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴿ ٣٣ ﴾ و﴿ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴿ ٣٦ ﴾ ٤ فلعلّ هذه الأيات وأمثالها مما يصحّ أن يدخل في ذلك النطاق. ولعل في الآية [ ١٥ ] التالية لها قرينة على ذلك. وهذا لا ينفي صحة الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس وما فيه من صورة لبعض الناس في العهد المدني. ومن الجدير بالتنبيه أن الحديث لا يذكر أن الآية نزلت في الصورة الواردة فيه.
وقد يبدو أن الآية [ ١٣ ] متناقضة مع الآية [ ١٢ ]، من حيث أن الآية الأولى تجعل الضرر والنفع محتملين من الشركاء مع تغليب الضرر على النفع، في حين أن الثانية تنفي قدرة الشركاء على النفع والضرر. حتى لقد وصف المفسّر البغوي هذا بأنه من مشكلات القرآن. وقد حاول المفسّر وغيره ٥ تخريج ما ظنّوه مشكلة ولم يتوصلوا فيما يتبادر لنا إلى حلّ مقنع. والذي يتبادر لنا أن التعبير أسلوبي على سبيل المساجلة، بمعنى أن ضرره هو الأوكد في حين ليس هناك أي دليل على نفعه. والله أعلم.
وهذه الآيات انطوت كسابقاتها على تلقين عامّ مستمرّ المدى بتقبيح النفاق والتقلّب في الحقّ وعدم الاستقامة عليه، وجعل الموقف منوطا بالنفع الشخصي العاجل ثباتا وانحرافا، والحثّ على تجنّب هذا الخلق البشع والاستمساك بالحقّ والاستقامة على دين الله في كلّ حال.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴿ ١٤ ﴾
المتبادر أن هذه الآية جاءت معقبة على الآيات السابقة مباشرة ؛ حيث انطوت على التنويه بالذين آمنوا وأخلصوا وثبتوا في إيمانهم وعملوا الأعمال الصالحة ؛ ووعد لهم بجنات الله الأخروية مقابلة للتنديد الذي احتوته تلك الآيات بالذين يعبدون الله على حرف وبالفريقين اللذين وصفا في الآية الأولى. وهذا من مألوف النظم القرآني. وواضح أنها احتوت حثا على الثبات في الإيمان والإقبال على العمل الصالح وبيانا بأن جزاء ذلك مضمون عند الله، وتوكيدا بتقبيح الأخلاق المنعوتة في الآيات السابقة.
مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ [ ١ ] إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ [ ٢ ] مَا يَغِيظُ ﴿ ١٥ ﴾
[ ١ ] بسبب : بحبل.
[ ٢ ] كيده : هنا بمعنى عمله أو محاولته.
الآية تأمر الذي يظن أن الله لن ينصره في الدنيا والآخرة بتعليق حبل في السقف، وشنق نفسه به ؛ ليرى ما إذا كان هذا العمل يشفي غيظه ويذهب حنقه.
ولقد روى الطبري والبغوي وغيرهما، أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان، الذين كانوا حلفاء لليهود وتباطأوا عن الإسلام وقالوا : نخاف أن لا ينصر محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا. والرواية تقتضي أن تكون الآية مدنية ولم يذكر المفسرون ذلك صراحة. وكما استعدنا الرواية المروية في سياق الآيات [ ١١-١٣ ] والتي تقتضي أن تكون هذه الآيات مدنية لأسباب ذكرناها نستبعد هذه الرواية لنفس الأسباب. وليس من الضرورة أن تكون الصورة صورة مدنية وحسب. وما دام وجد في العهد المكي من يرتدّ عن دينه استحباباً للحياة الدنيا، يصحّ أن يوجد فيه من يظنّ ما ذكرته الآية من ضعاف الإيمان والعصبية من مسلمي هذا العهد أيضا.
ويتبادر لنا : أن الآية جاءت كتعقيب آخر على تلك الآيات التي نددت بالذين يعبدون الله على حرف ويجعلون إخلاصهم رهناً بما يصيبهم من رحمة الله وبرّه. وقد انطوت على توبيخ وتقريع ساخرين، وعلى تقرير كون الإنسان لا يصحّ أن يؤمن إلا على شرط أن لا يناله إلا الخير. وكون الإيمان بالله مسألة مستقلة لا علاقة لها بأعراض الدنيا المتقلّبة على الناس، وكون واجب المؤمن التأميل في رحمة الله ونصره في الدنيا والآخرة ؛ لأن ذلك مما وعده الله به، وكون البطء في تحقق هذا الوعد والجزع والهلع واليأس منه غير متّسق مع معنى الإيمان بالله والثقة به والاعتماد عليه. وعلى من لا يتدبّر ويرعى ويصدق أن يشنق نفسه ! وكما أن شنق الإنسان لنفسه لن يشفيه من غيظه وغير ضارّ بغيره فكذلك المغيظ المحنق المرتدّ بسبب تأخّر نصر الله له لن يضرّ غير نفسه ؛ لأن مصيره إلى عذاب الله وسخطه.
وفي الآية معالجة روحية قوية نافذة من دون ريب في مثل الحالات التي جاءت في صددها.
هذا وإنعام النظر في هذه الآية ومداها يظهر قوة توجيه واحتمال كون الصورة التي احتوتها الآيات [ ١١-١٣ ] صورة مكية على ما قلناه قبل، ويسوغ القول : إنها بسبيل تطمين ومعالجة من تعرّض للأذى والحرمان بسبب إسلامه، والتنديد بالذين لم يثبتوا ويصبروا فخاروا وارتدّوا.
وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ ﴿ ١٦ ﴾
وهذه الآية متصلة بالسياق والموضوع اتصال تعقيب وتنبيه كما هو المتبادر. فالله قد أنزل آيات القرآن واضحة بيّنة، وهو إنما يهدي بها من أراد له السعادة والهدى.
وأسلوب الآية أسلوب تسلية وتطمين، وقد تكرر في مواضع كثيرة من القرآن في مثل هذه المواقف. وعلى ضوء الآيات العديدة التي قررت أن الله إنما يهدي من ينيب إليه ومن يستمع القول فيتبع أحسنه، أي من حسنت نيته وصدقت رغبته في هذا الله، ومنها آيات سورة الرعد [ ٢٧-٢٩ ] والزمر [ ١٨ ] لا يكون محل للالتباس في هذه الآية، بسبب إطلاق الفقرة الأخيرة منها على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿ ١٧ ﴾
تقرّر هذه الآية أن الله هو الشهيد على كلّ شيء في حقيقة أصحاب النحل والمذاهب الموجودة من مؤمنين بالله والنبي، ومن يهود وصابئين ونصارى ومجوس ومشركين. وكونه هو الذي سيفصل بينهم يوم القيامة حيث يؤيّد الحقّ وأصحابه ويزهق الباطل وأصحابه.
والمتبادر أن الصلة غير منقطة بين هذه الآيات وما قبلها وبخاصة الآية السابقة لها مباشرة، وأنها بسبيل توكيد قوّة الدعوة النبوية وصحتها وتطمين المؤمنين بها وتثبيتهم.
والمتبادر أن تعبير ﴿ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ قد شملهم. ولا سيما إن القرآن قد ذكر أن هؤلاء كانوا يعترفون بالله العظيم حيث تكون عبادتهم للأوثان والكواكب إشراكا.
تعليق على تسميات اليهود والنصارى والمجوس والصابئين
هذه التسميات تأتي لأول مرة هنا وبهذه المناسبة نقول :
أولا : إن تعبير ﴿ وَالَّذِينَ هَادُوا ﴾ هو عربي صرف في صيغته وجذره. ويعني اليهود على ما هو متفق عليه، وقد تكرر وروده في السور المدنية، وهو من جذر هاد بمعنى مال وتاب. ومن ذلك جملة ﴿ إِنَّا هُدْناَ إِلَيكَ ﴾ في الآية [ ١٥٦ ] من سورة الأعراف حكاية عن لسان موسى عليه السلام. وما دام أن التعبير يعني اليهود فصار من المناسب الاستطراد إلى هذا الاسم. ولقد تكرر ورود هذا الاسم كثيرا في السور المدنية. وجاء في بعضها مختزلا بصيغة ( هود ) وجاء في بعضها منسوباً ( يهوديا ) وورد في بعض الأحاديث بدون حرف تعريف وغير مصروف كأنه اسم أعجمي حيث روى الترمذي بسند صحيح عن زيد بن ثابت قال :«أمرني رسول الله أن أتعلّم له كتاب يهود قال : والله ما آمن يهود على كتاب. قال فما مرّ بي شهر حتى تعلمته له. فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم »١. ومن المفسرين من يرجع تسمية ( اليهود ) و( يهود ) و( هود ) إلى ذلك الجذر العربي، غير أن الأكثر على أنها تعريب يهوذا اسم أكبر أبناء يعقوب. وأبو السبط الذي منه داود وسليمان وعيسى عليهم السلام. ولقد سميت المملكة التي قامت في بيت المقدس بعد سليمان باسم مملكة يهوذا ؛ لأن سبط يهوذا كان يقيم في منطقة بيت المقدس وكان أكبر وأشهر أسباط بني إسرائيل. ونحن نرجّح ما عليه الأكثر وعدم صرفه في الحديث قد يكون داعما لهذا الترجيح. ونرجّح أن تسمية ( اليهود ) و( يهود ) و( هود ) للذين كانوا يدينون بالدين الموسوي سابقة للبعثة. وأصبحت بذلك جزءاً من اللغة العربية ؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين. وقد غدت كذلك بعد البعثة وصار منها اشتقاق فصار يقال : تهوّد لمن صار يهوديا، ومن ذلك الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه »٢.
وثانيا : إن كلمة ( النصارى ) وردت في السور المدنية كثيراً وبصيغ متعددة مثل ( نصارى ) و( نصرانيا )، فأكثر الأقوال على أن كلمة نصارى هي جمع نصران مثل نشاوى جمع نشوان وسكارى جمع سكران. وروى الطبري بيتين من الشعر الجاهلي ورد فيهما المفرد مذكراً ومؤنثاً :
١- تراه إذا زار العشي محنفاً ويضحى لديه وهو نصران ثامن
٢- فكلتاهما خرت وأسجد رأسها كما سجدت نصرانة لم تحنف
والبيت الثاني صريح الدلالة على أن الكلمة تسمية لامرأة نصرانية.
وهناك بيت جاهلي ثالث يرويه الطبري فيه كلمة أنصار جمعا للنصارى وهو :
لما رأيت نبطاً أنصاراً شمرت عن ركبتي الإزارا
كنت لهم من النصارى جارا
ويقول الطبري : إن هذه الأبيات تدلّ على أنهم سمّوا نصارى لنصرة بعضهم بعضا وتناصرهم بينهم. وهذا يعني أن الكلمة عربية صريحة من جذر نصر. وقد قال الطبري : إن هناك من يقول إن التسمية مقتبسة من جملة قرآنية حيث جاء في آية سورة آل عمران [ ٥٢ ] هذه :﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ ﴾ وهذا القول يتسق مع القول : إن الكلمة من جذر عربي صريح. غير أن الجملة المذكورة هي جملة قرآنية. ونعتقد أن كلمة النصارى للدلالة على معتنقي الديانة المسيحية كانت مستعملة قبل نزول القرآن. وهذا قد يجعل القول بأنها منبثقة من الجملة القرآنية محل نظر، إلا أن يقال إن العرب الصرحاء من النصارى الذين كانوا كتلا كبيرة في الشام والعراق ومشارف الشام واليمن قد تسموا بهذا الاسم على اعتبار عيسى عليه السلام، وأنهم كانوا يتداولون فيما بينهم معنى الحوار الذي أخبر القرآن به بين عيسى والحواريين. وهناك من قال : إن الكلمة مشتقة من اسم الناصرة. وهذا اسم مدينة في فلسطين ذكرت الأناجيل المتداولة أن عيسى عليه السلام كان يعيش فيها أو من أهلها. وقد نسب إليها في الأناجيل فجاء في بعض الإصحاحات تعبير ( يسوع الناصري ) غير أن كلمة ( الناصرة ) عربية الصيغة والمعنى. واسم هذه المدينة لم يكن بهذه الصيغة قبل الإسلام، ولم نطلع على خبر وثيق يجعلنا على يقين بأن هذه الصيغة تعريب سابق للبعثة لاسم المدينة القديم ؛ لأننا كما قلنا نعتقد أن تسمية النصارى سابقة للبعثة. وورودها في القرآن بصيغ مختلفة من الدلائل على ذلك. وقد غدت كلمة عربية وصار يشتق منها فيقال تنصر وينصرانه ومن ذلك الحديث الذي أوردناه آنفا.
وثالثا : إن كلمة المجوس تأتي للمرة الأولى والوحيدة في هذه الآية. وفي القرآن كلمة ( جاسوا ) وكلمة ( تجسسوا ) ولكن كتب اللغة لا تذكر صلة بين هذا الجذر وبين تلك الكلمة التي يتفق المفسرون واللغويون على أنها للدلالة على معتنقي عبادة النار. والمشهور أن هذه الديانة هي ديانة أهل فارس قبل الإسلام. وقد ذكرت كتب التاريخ القديمة أنه كان للفرس معابد تسمّى بيوت النار وكان لها سدنة يهتمون لإدامة اتقادها، وأن ذلك استمرّ إلى ما بعد الفتح الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين. ونحن نرجّح أن الكلمة بدلالتها غير عربية الأصل وأنها كانت مستعملة في اللسان العربي للدلالة على أهل تلك الديانة. وإن لم نستطع العثور على أصلها التي عرّبت عنه.
ولقد كان من العرب من اعتنق اليهودية والنصرانية فتسمّى العرب المتهوّدون والمتنصّرون باسم يهود ونصارى. فجاء اسمهم في القرآن كذلك. وذلك كلمة المجوس في القرآن قد يفيد أن من العرب من كان يعتنق تلك الديانة ويتسمّى بهذه الكلمة. وهناك روايات يمكن الاستئناس بها على ذلك. فقد روى ابن سعد في الجزء الثاني من كتاب الطبقات ٣ أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل كتاب ورسولا إلى ملك البحرين يدعوه وقومه إلى الإسلام فاستجاب، وأرسل إلى النبي يخبره أن عنده جماعة يدينون بالمجوسية واليهودية، وسأله أمره فيهم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم، فإن بقوا على دينهم أن يأخذ منهم الجزية وقد يكون المجوس من هؤلاء عربا. ولقد روى الآلوسي في كتابه " بلوغ الأرب " أن أشتاتا من العرب ومن بطون تميم، الذين كانوا في أنحاء العراق وجزيرة الفرات قبل الإسلام يعبدون النار ومن جملتهم زعماؤهم زرارة بن عدس وابنه حاجب والأقرع بن حابس والأسود بن وكيع. ولقد بسط الفرس سلطانهم على اليمن في أواخر القرن السادس بعد الميلاد، أي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بدّ من أن يكونوا مارسوا ديانتهم في اليمن. وليس من المستبعد أن يكون بعض العرب من أهل اليمن اقتبسوها منهم ٤. ولقد غدت كلمة المجوس بورودها في القرآن عربية على كل حال، وصار ينحت منها اشتقاق تمجّس ويمجّسانه على ما ورد في الحديث الذي أوردناه قبل.
ولقد روى الإمام أبو سيف في كتاب " الخراج " حديثا عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :«سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب » وأنه أخذ الجزية منهم على هذا الاختيار، كما روي عن علي بن أبي طالب رواية تفيد أنهم كانوا أصحاب كتاب سماوي انحرفوا عنه٥، والله تعالى أعلم.
ورابعا : إن كلمة الصابئين وردت مرتين أخريين في سورتي البقرة والمائدة مع المؤمنين واليهود والنصارى فقط كما ترى فيما يلي :
١- ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ { ٦٢ ﴾ } البقرة : ٦٢.
٢- ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ { ٦٩ ﴾ } المائدة : ٦٩.
ولقد تعددت أقوال المفسرين في الصابئين، فمنهم من قال : إنهم فريق من النصارى ؛ ومنهم من قال : إنهم فريق من المجوس ؛ ومنهم من قال إنهم عبدة الكواكب، ومنهم من قال : إن دينهم مزيج من اليهودية والنصرانية يقرّون بالله ويقرأون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلون إلى الكعبة قد أخذوا من كل دين شيئا. ومنهم من قال : إن أصل دينهم هو دين نوح بل ومنهم من قال إنهم الذين لا دين لهم ٦. وهذه الأقوال لا تستند إلى سند وثيق وقد لا تخرج عن حدّ التخمين ؛ كما يؤيد ذلك تعددها وتموّجها. ولقد غاب عن الذين قالوا إنهم مجوس وورد اسم المجوس في آية الحج التي نحن في صددها مع اسم الصابئين. كما غاب عن الذين قالوا إنهم عبدة الملائكة أن هذا يعني أنهم مشركون مع أن اسم المشركين قد ورد أيضا مع اسمهم. وورود اسمهم في آيتي البقرة والمائدة مع المؤمنين واليهود والنصارى، أي مع الموحّدين توحيدا صريحا أو مؤولا، يسوّغ القول إنهم هم الآخرون موحّدون بشكل من الأشكال.
ولقد استقرّ في الأذهان أن هذه التسمية هي للنحلة الموجودة في العراق الآن، والتي يطلق عليها اسم الصُبّة الذي يظن أنه تحريف ( الصبا ) أو ( الصبئة )، بل إن بعض المفسرين قالوا هذا فيما قالوه. ومعروف أن بين رجال الأدب العربي القديم أفراد مشهورون من هذه النحلة احتفظوا بنسبتهم إليها منهم أبو إسحاق الصابي. ولقد أورد بعض المفسرين ٧ قصة حول هذه النحلة، وهي أن المأمون مرّ بقرية فيها طائفة تعبد الكواكب فأراد أن يعتبرها من المشركين وأن لا يقبل منهم الجزية، فقيل له : إنهم ( الصابئون ) المذكورون في القرآن مع اليهود والنصارى وينسحب عليهم ما ينسحب على هؤلاء، فأبقاهم على الذمة وأخذ منهم الجزية. ونعتقد أن الربط بين صبّة العراق والصابئين في عهد المأمون وبعده وبين التسمية القرآنية وَهْم وتجوّز، أو بالأحرى تلفيق مرتجل بعد الإسلام.
إلى جانب هذا نذكر أن الكلمة اشتقاق عربي أصيل من صبا أو صبأ بمعنى مال وانحرف٨، وقد ورد اشتقاق منها في آية سورة يوسف هذه :﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ { ٣٣ ﴾ } بمعنى الميل أو الانحراف، ونذكر كذلك أن العرب في عهد النبي صلى الله
١ التاج، ٥/٢٣٠.
٢ التاج، ٤/١٨٠.
٣ الطبقات الكبرى ٢٧-٢٨.
٤ انظر طبقات الأمم لابن صاعد والخراج لأبي يوسف ص ٧٣-٧٥ والأموال لأبي عبيد ٣٢-٣٤ وطبقات ابن سعد ٢/٢٨ وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ٥/٣٦٢ وما بعدها، والجزء الثالث من تاريخ الطبري وفتوح البلدان للبلاذري والجزء الثاني من بلوغ الأرب في أحوال العرب.
٥ انظر المصدر السابق نفسه.
٦ اقرأ تفسير آية البقرة ٦٢ في كتب تفسير الطبري والنسفي والرازي وأبي السعود والخازن والبيضاوي والطبرسي والبغوي وابن كثير.
٧ المصدر السابق نفسه.
٨ انظر لسان العرب.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴿ ١٨ ﴾
تتضمن الآية :
١- سؤالا للنبي صلى الله عليه وسلم أو للسامع في معنى التقرير والتوكيد بخضوع كلّ من في السموات والأرض، بما في ذلك الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب لله، وبإخلاص كثير من الناس له أيضا في العبادة والخضوع.
٢- وإشارة إلى أن كثيرا من الناس قد استحقّوا عذاب الله بسبب جحودهم وتمرّدهم.
٣- وإنذارا لهذا الفريق بأن الله قضى على أحد بالخزي والهوان بسبب كفره وتمرّده، فلن يكون له من يبدّل هوانه بكرامة وهو الفعّال لما يشاء.
والصلة كذلك غير منقطعة بين هذه الآية وما قبلها وبخاصة الآية السابقة لها مباشرة كما هو المتبادر. وهي بسبيل التدليل على عظمة الله وشمول حكمه، وخضوع من في الكون له، وتوكيد كون الدعوة النبوية هي المتسقة مع واجب الإنسان بالاعتراف بالله وحده والاتجاه إليه وحده. وهي كذلك بسبيل تطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وتثبيتهم، والتنديد بالمنحرفين عن الطريق القويم وإنذارهم بالخزي وسوء العاقبة. وأسلوبها قوي نافذ. وما احتوته من تقرير كون جميع ما في كون الله خاضع له تعالى قد مرّ في سورة سابقة في مناسبات مماثلة وبأساليب متنوعة. ولقد كتبنا تعليقا على آية سورة الإسراء هذه :﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً { ٤٤ ﴾ } ويمكن أن ينسحب هذا التعليق على هذه الآية، وبخاصة بالنسبة لسجود من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب.
﴿ س ﴾ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴿ ١٩ ﴾ يُصْهَرُ [ ١ ] بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴿ ٢٠ ﴾ وَلَهُم مَّقَامِعُ [ ٢ ] مِنْ حَدِيدٍ ﴿ ٢١ ﴾ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿ ٢٢ ﴾ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴿ ٢٣ ﴾‏ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴿ ٢٤ ﴾.
في الآيات إنذار وبشرى لكل من المؤمنين والكفار بالمصير الذي يصيرون إليه يوم القيامة ووصف له. وقد تضمنت التقريرات التالية :
١- إن الناس يوم القيامة فريقان قد اختلفا في موقفهم من الله ربهم ؛ فمنهم من كفر به ومنهم من آمن وعمل الصالحات.
٢- إن مصير الجاحدين رهيب جدا ؛ حيث يهيأ لهم ثياب من نار ويصبّ فوق رؤوسهم الماء الشديد الحرارة الذي يذيب ما في البطون والجلود. ويحث يعدّ لهم مقامع الحديد التي تلهب أجسامهم وتحطّم أطرافهم. وكلّما ظنوا أن عذابهم وهمهم انتهيا، أو كلما أرادوا أن يخلصوا منهما، عادا فتجددا قويين شديدين وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق.
٣- أما المؤمنون الذين يعملون الصالحات فإن الله يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ويتزينون بالأساور الذهبية وباللؤلؤ ويلبسون الثياب الحريرية جزاء لما كان من اهتدائهم إلى أحسن الأقوال، وسيرهم في أحمد الطرق وأضمنها للنجاة.
ولقد روى الطبري والبغوي وغيرهما روايات وتأويلات عديدة في المقصود من الآية الأولى، من ذلك أن أبا ذرّ أقسم بالله أنها نزلت في ستة من قريش حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحرث ( رضي الله عنهم )، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، يوم تبارزوا في بدر. حيث دعا الثلاثة الآخرون أكفاءهم من بني عمومتهم إلى المبارزة قائلين نحن وإياهم أحق بالخصومة، فبرز إليهم الثلاثة الأولون. ومن ذلك عن ابن عباس أن الخصمين هما أهل الكتاب والمسلمون ؛ حيث قال الأولون للآخرين : نحن أولى بالله وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم ؛ وقال الآخرون للأولين : نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب فأنتم تعرفون نبيّنا وكتابنا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً. ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين هما المشركون والمسلمون اختصموا أيّهم على حق. ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين الجنة والنار ؛ حيث قالت الأولى خلقني الله لرحمته، وقالت الثانية : خلقني لعقوبته. والرواية الأولى من مرويات الشيخين ونصّهما هو :«كان أبو ذر يقسم أن هذه الآية نزلت في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في يوم بدر » ١. وقد روى الشيخان كذلك عن علي قوله :«أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس وفيهم نزلت ﴿ هذان خصمان اختصموا في ربّهم ﴾ قال هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة »٢. وقد صوّب الطبري من هذه الروايات رواية كون الآية في صدد الكفارعامة والمؤمنين عامة ؛ حيث يفيد أن ما رواه الشيخان لم يثبت عنده، والروايات الأخرى تفيد هذا أيضا. وتقتضي رواية الشيخين أن تكون الآية مدنية، ولم يرو أحد ذلك بصراحة والأسلوب والطابع المكيان بارزان عليها، والنفس مطمئنة بتصويب الطبري، مع القول أنها بسبيل توكيد ما انطوت عليه الآيات السابقة من صدق الدعوة النبوية وما فيها من حقّ وهدى، والتنويه بالذين استجابوا لها وبشرى لهم، وبسبيل توكيد خطأ الكافرين بها وضلالهم وإنذارهم. وأسلوبها التقريري العام مما يؤيد ذلك حيث تضمّن تقرير كون الناس من الدعوة النبوية فريقين جاحد ضالّ ومؤمن مخلص، ولكل مصيره الذي يستحقه.
ووصف مصير كل فريق نافذ يثير الرغبة والشوق والغبطة من جهة، والفزع والرعب من جهة أخرى. وهذا وذاك مما استهدفته الآيات كأمثالها العديدة.
ولقد حمل الشيعة القول المروي عن علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) بأنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، على كون الخصومة التي يجثو لها هي مع الذين ناوأوه في حقّه من الإمامة، وهذا من غرائب تخريجاتهم، فعلي رضي الله عنه بايع برضائه وتعاون مع أبي بكر وعمر وعثمان ( رضي الله عنهما ) مثل سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما كان ليفعل ذلك لو كان يعتقد أن الله ورسوله قد قررا حقّ التقدم له في خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو أضعف منهم عصبية وشخصية وما كان يمكن أن يقبل ذلك غالبية أصحاب رسول الله بل كلهم. ونحب أن ننزهه عن القول المروي عنه. ونرجّح أن الهوى الحزبي قد لعب دوره فيه. فبالإضافة إلى الغرابة التي تبدو في التخريج، فإن القول بحدّ ذاته يبدو غريبا وغير مفهوم المدى.
ولقد روى الطبري والبغوي، كل بطريقه، عن أبي هريرة في سياق جملة ﴿ يُصبّ من فوق رؤوسهم الحميم يُصهر به ما في بطونهم ﴾ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إن الحميم ليصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلق ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد إلى ما كان ». وأورد ابن كثير في سياق جملة ﴿ ولهم مقامع من حديد ﴾ حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أنّ قمعا من حديد وضع في الأرض اجتمع له الثقلان ما أفلوه من الأرض ». وحديثا آخر رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو ضُرب الجبل بمقمع من حديد لفتّت ثم عاد كما كان، ولو أن دلواً من غسّاق يُهرق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ». والحديث الأول رواه الترمذي أيضا ٣ كما روى الترمذي الشطر الثاني من الحديث الثاني أيضا ٤.
ووصف هول العذاب الأخروي والتخويف منه مما يلمح من الحكمة في الحديثين، وهو ما يلمح من الحكمة في الآيات بالإضافة إلى وجوب الإيمان بما جاء في القرآن وصحّ في الحديث من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى.
١ التاج ٤/١٦٠-١٦١.
٢ المصدر نفسه.
٣ التاج ٥/٣٩٠-٣٩١.
٤ المصدر نفسه.
[ ١ ] يصهر : يذاب.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:﴿ س ﴾ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴿ ١٩ ﴾ يُصْهَرُ [ ١ ] بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴿ ٢٠ ﴾ وَلَهُم مَّقَامِعُ [ ٢ ] مِنْ حَدِيدٍ ﴿ ٢١ ﴾ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿ ٢٢ ﴾ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴿ ٢٣ ﴾‏ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴿ ٢٤ ﴾.
في الآيات إنذار وبشرى لكل من المؤمنين والكفار بالمصير الذي يصيرون إليه يوم القيامة ووصف له. وقد تضمنت التقريرات التالية :

١-
إن الناس يوم القيامة فريقان قد اختلفا في موقفهم من الله ربهم ؛ فمنهم من كفر به ومنهم من آمن وعمل الصالحات.

٢-
إن مصير الجاحدين رهيب جدا ؛ حيث يهيأ لهم ثياب من نار ويصبّ فوق رؤوسهم الماء الشديد الحرارة الذي يذيب ما في البطون والجلود. ويحث يعدّ لهم مقامع الحديد التي تلهب أجسامهم وتحطّم أطرافهم. وكلّما ظنوا أن عذابهم وهمهم انتهيا، أو كلما أرادوا أن يخلصوا منهما، عادا فتجددا قويين شديدين وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق.

٣-
أما المؤمنون الذين يعملون الصالحات فإن الله يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ويتزينون بالأساور الذهبية وباللؤلؤ ويلبسون الثياب الحريرية جزاء لما كان من اهتدائهم إلى أحسن الأقوال، وسيرهم في أحمد الطرق وأضمنها للنجاة.
ولقد روى الطبري والبغوي وغيرهما روايات وتأويلات عديدة في المقصود من الآية الأولى، من ذلك أن أبا ذرّ أقسم بالله أنها نزلت في ستة من قريش حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحرث ( رضي الله عنهم )، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، يوم تبارزوا في بدر. حيث دعا الثلاثة الآخرون أكفاءهم من بني عمومتهم إلى المبارزة قائلين نحن وإياهم أحق بالخصومة، فبرز إليهم الثلاثة الأولون. ومن ذلك عن ابن عباس أن الخصمين هما أهل الكتاب والمسلمون ؛ حيث قال الأولون للآخرين : نحن أولى بالله وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم ؛ وقال الآخرون للأولين : نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب فأنتم تعرفون نبيّنا وكتابنا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً. ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين هما المشركون والمسلمون اختصموا أيّهم على حق. ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين الجنة والنار ؛ حيث قالت الأولى خلقني الله لرحمته، وقالت الثانية : خلقني لعقوبته. والرواية الأولى من مرويات الشيخين ونصّهما هو :«كان أبو ذر يقسم أن هذه الآية نزلت في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في يوم بدر » ١. وقد روى الشيخان كذلك عن علي قوله :«أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس وفيهم نزلت ﴿ هذان خصمان اختصموا في ربّهم ﴾ قال هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة »٢. وقد صوّب الطبري من هذه الروايات رواية كون الآية في صدد الكفارعامة والمؤمنين عامة ؛ حيث يفيد أن ما رواه الشيخان لم يثبت عنده، والروايات الأخرى تفيد هذا أيضا. وتقتضي رواية الشيخين أن تكون الآية مدنية، ولم يرو أحد ذلك بصراحة والأسلوب والطابع المكيان بارزان عليها، والنفس مطمئنة بتصويب الطبري، مع القول أنها بسبيل توكيد ما انطوت عليه الآيات السابقة من صدق الدعوة النبوية وما فيها من حقّ وهدى، والتنويه بالذين استجابوا لها وبشرى لهم، وبسبيل توكيد خطأ الكافرين بها وضلالهم وإنذارهم. وأسلوبها التقريري العام مما يؤيد ذلك حيث تضمّن تقرير كون الناس من الدعوة النبوية فريقين جاحد ضالّ ومؤمن مخلص، ولكل مصيره الذي يستحقه.
ووصف مصير كل فريق نافذ يثير الرغبة والشوق والغبطة من جهة، والفزع والرعب من جهة أخرى. وهذا وذاك مما استهدفته الآيات كأمثالها العديدة.
ولقد حمل الشيعة القول المروي عن علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) بأنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، على كون الخصومة التي يجثو لها هي مع الذين ناوأوه في حقّه من الإمامة، وهذا من غرائب تخريجاتهم، فعلي رضي الله عنه بايع برضائه وتعاون مع أبي بكر وعمر وعثمان ( رضي الله عنهما ) مثل سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما كان ليفعل ذلك لو كان يعتقد أن الله ورسوله قد قررا حقّ التقدم له في خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو أضعف منهم عصبية وشخصية وما كان يمكن أن يقبل ذلك غالبية أصحاب رسول الله بل كلهم. ونحب أن ننزهه عن القول المروي عنه. ونرجّح أن الهوى الحزبي قد لعب دوره فيه. فبالإضافة إلى الغرابة التي تبدو في التخريج، فإن القول بحدّ ذاته يبدو غريبا وغير مفهوم المدى.
ولقد روى الطبري والبغوي، كل بطريقه، عن أبي هريرة في سياق جملة ﴿ يُصبّ من فوق رؤوسهم الحميم يُصهر به ما في بطونهم ﴾ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إن الحميم ليصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلق ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد إلى ما كان ». وأورد ابن كثير في سياق جملة ﴿ ولهم مقامع من حديد ﴾ حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أنّ قمعا من حديد وضع في الأرض اجتمع له الثقلان ما أفلوه من الأرض ». وحديثا آخر رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو ضُرب الجبل بمقمع من حديد لفتّت ثم عاد كما كان، ولو أن دلواً من غسّاق يُهرق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ». والحديث الأول رواه الترمذي أيضا ٣ كما روى الترمذي الشطر الثاني من الحديث الثاني أيضا ٤.
ووصف هول العذاب الأخروي والتخويف منه مما يلمح من الحكمة في الحديثين، وهو ما يلمح من الحكمة في الآيات بالإضافة إلى وجوب الإيمان بما جاء في القرآن وصحّ في الحديث من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى.
١ التاج ٤/١٦٠-١٦١.
٢ المصدر نفسه.
٣ التاج ٥/٣٩٠-٣٩١.
٤ المصدر نفسه.

[ ٢ ] مقامع : سياط مدببة الرؤوس.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:﴿ س ﴾ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴿ ١٩ ﴾ يُصْهَرُ [ ١ ] بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴿ ٢٠ ﴾ وَلَهُم مَّقَامِعُ [ ٢ ] مِنْ حَدِيدٍ ﴿ ٢١ ﴾ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿ ٢٢ ﴾ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴿ ٢٣ ﴾‏ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴿ ٢٤ ﴾.
في الآيات إنذار وبشرى لكل من المؤمنين والكفار بالمصير الذي يصيرون إليه يوم القيامة ووصف له. وقد تضمنت التقريرات التالية :

١-
إن الناس يوم القيامة فريقان قد اختلفا في موقفهم من الله ربهم ؛ فمنهم من كفر به ومنهم من آمن وعمل الصالحات.

٢-
إن مصير الجاحدين رهيب جدا ؛ حيث يهيأ لهم ثياب من نار ويصبّ فوق رؤوسهم الماء الشديد الحرارة الذي يذيب ما في البطون والجلود. ويحث يعدّ لهم مقامع الحديد التي تلهب أجسامهم وتحطّم أطرافهم. وكلّما ظنوا أن عذابهم وهمهم انتهيا، أو كلما أرادوا أن يخلصوا منهما، عادا فتجددا قويين شديدين وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق.

٣-
أما المؤمنون الذين يعملون الصالحات فإن الله يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ويتزينون بالأساور الذهبية وباللؤلؤ ويلبسون الثياب الحريرية جزاء لما كان من اهتدائهم إلى أحسن الأقوال، وسيرهم في أحمد الطرق وأضمنها للنجاة.
ولقد روى الطبري والبغوي وغيرهما روايات وتأويلات عديدة في المقصود من الآية الأولى، من ذلك أن أبا ذرّ أقسم بالله أنها نزلت في ستة من قريش حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحرث ( رضي الله عنهم )، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، يوم تبارزوا في بدر. حيث دعا الثلاثة الآخرون أكفاءهم من بني عمومتهم إلى المبارزة قائلين نحن وإياهم أحق بالخصومة، فبرز إليهم الثلاثة الأولون. ومن ذلك عن ابن عباس أن الخصمين هما أهل الكتاب والمسلمون ؛ حيث قال الأولون للآخرين : نحن أولى بالله وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم ؛ وقال الآخرون للأولين : نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب فأنتم تعرفون نبيّنا وكتابنا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً. ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين هما المشركون والمسلمون اختصموا أيّهم على حق. ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين الجنة والنار ؛ حيث قالت الأولى خلقني الله لرحمته، وقالت الثانية : خلقني لعقوبته. والرواية الأولى من مرويات الشيخين ونصّهما هو :«كان أبو ذر يقسم أن هذه الآية نزلت في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في يوم بدر » ١. وقد روى الشيخان كذلك عن علي قوله :«أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس وفيهم نزلت ﴿ هذان خصمان اختصموا في ربّهم ﴾ قال هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة »٢. وقد صوّب الطبري من هذه الروايات رواية كون الآية في صدد الكفارعامة والمؤمنين عامة ؛ حيث يفيد أن ما رواه الشيخان لم يثبت عنده، والروايات الأخرى تفيد هذا أيضا. وتقتضي رواية الشيخين أن تكون الآية مدنية، ولم يرو أحد ذلك بصراحة والأسلوب والطابع المكيان بارزان عليها، والنفس مطمئنة بتصويب الطبري، مع القول أنها بسبيل توكيد ما انطوت عليه الآيات السابقة من صدق الدعوة النبوية وما فيها من حقّ وهدى، والتنويه بالذين استجابوا لها وبشرى لهم، وبسبيل توكيد خطأ الكافرين بها وضلالهم وإنذارهم. وأسلوبها التقريري العام مما يؤيد ذلك حيث تضمّن تقرير كون الناس من الدعوة النبوية فريقين جاحد ضالّ ومؤمن مخلص، ولكل مصيره الذي يستحقه.
ووصف مصير كل فريق نافذ يثير الرغبة والشوق والغبطة من جهة، والفزع والرعب من جهة أخرى. وهذا وذاك مما استهدفته الآيات كأمثالها العديدة.
ولقد حمل الشيعة القول المروي عن علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) بأنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، على كون الخصومة التي يجثو لها هي مع الذين ناوأوه في حقّه من الإمامة، وهذا من غرائب تخريجاتهم، فعلي رضي الله عنه بايع برضائه وتعاون مع أبي بكر وعمر وعثمان ( رضي الله عنهما ) مثل سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما كان ليفعل ذلك لو كان يعتقد أن الله ورسوله قد قررا حقّ التقدم له في خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو أضعف منهم عصبية وشخصية وما كان يمكن أن يقبل ذلك غالبية أصحاب رسول الله بل كلهم. ونحب أن ننزهه عن القول المروي عنه. ونرجّح أن الهوى الحزبي قد لعب دوره فيه. فبالإضافة إلى الغرابة التي تبدو في التخريج، فإن القول بحدّ ذاته يبدو غريبا وغير مفهوم المدى.
ولقد روى الطبري والبغوي، كل بطريقه، عن أبي هريرة في سياق جملة ﴿ يُصبّ من فوق رؤوسهم الحميم يُصهر به ما في بطونهم ﴾ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إن الحميم ليصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلق ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد إلى ما كان ». وأورد ابن كثير في سياق جملة ﴿ ولهم مقامع من حديد ﴾ حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أنّ قمعا من حديد وضع في الأرض اجتمع له الثقلان ما أفلوه من الأرض ». وحديثا آخر رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو ضُرب الجبل بمقمع من حديد لفتّت ثم عاد كما كان، ولو أن دلواً من غسّاق يُهرق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ». والحديث الأول رواه الترمذي أيضا ٣ كما روى الترمذي الشطر الثاني من الحديث الثاني أيضا ٤.
ووصف هول العذاب الأخروي والتخويف منه مما يلمح من الحكمة في الحديثين، وهو ما يلمح من الحكمة في الآيات بالإضافة إلى وجوب الإيمان بما جاء في القرآن وصحّ في الحديث من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى.
١ التاج ٤/١٦٠-١٦١.
٢ المصدر نفسه.
٣ التاج ٥/٣٩٠-٣٩١.
٤ المصدر نفسه.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:﴿ س ﴾ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴿ ١٩ ﴾ يُصْهَرُ [ ١ ] بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴿ ٢٠ ﴾ وَلَهُم مَّقَامِعُ [ ٢ ] مِنْ حَدِيدٍ ﴿ ٢١ ﴾ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿ ٢٢ ﴾ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴿ ٢٣ ﴾‏ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴿ ٢٤ ﴾.
في الآيات إنذار وبشرى لكل من المؤمنين والكفار بالمصير الذي يصيرون إليه يوم القيامة ووصف له. وقد تضمنت التقريرات التالية :

١-
إن الناس يوم القيامة فريقان قد اختلفا في موقفهم من الله ربهم ؛ فمنهم من كفر به ومنهم من آمن وعمل الصالحات.

٢-
إن مصير الجاحدين رهيب جدا ؛ حيث يهيأ لهم ثياب من نار ويصبّ فوق رؤوسهم الماء الشديد الحرارة الذي يذيب ما في البطون والجلود. ويحث يعدّ لهم مقامع الحديد التي تلهب أجسامهم وتحطّم أطرافهم. وكلّما ظنوا أن عذابهم وهمهم انتهيا، أو كلما أرادوا أن يخلصوا منهما، عادا فتجددا قويين شديدين وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق.

٣-
أما المؤمنون الذين يعملون الصالحات فإن الله يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ويتزينون بالأساور الذهبية وباللؤلؤ ويلبسون الثياب الحريرية جزاء لما كان من اهتدائهم إلى أحسن الأقوال، وسيرهم في أحمد الطرق وأضمنها للنجاة.
ولقد روى الطبري والبغوي وغيرهما روايات وتأويلات عديدة في المقصود من الآية الأولى، من ذلك أن أبا ذرّ أقسم بالله أنها نزلت في ستة من قريش حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحرث ( رضي الله عنهم )، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، يوم تبارزوا في بدر. حيث دعا الثلاثة الآخرون أكفاءهم من بني عمومتهم إلى المبارزة قائلين نحن وإياهم أحق بالخصومة، فبرز إليهم الثلاثة الأولون. ومن ذلك عن ابن عباس أن الخصمين هما أهل الكتاب والمسلمون ؛ حيث قال الأولون للآخرين : نحن أولى بالله وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم ؛ وقال الآخرون للأولين : نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب فأنتم تعرفون نبيّنا وكتابنا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً. ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين هما المشركون والمسلمون اختصموا أيّهم على حق. ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين الجنة والنار ؛ حيث قالت الأولى خلقني الله لرحمته، وقالت الثانية : خلقني لعقوبته. والرواية الأولى من مرويات الشيخين ونصّهما هو :«كان أبو ذر يقسم أن هذه الآية نزلت في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في يوم بدر » ١. وقد روى الشيخان كذلك عن علي قوله :«أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس وفيهم نزلت ﴿ هذان خصمان اختصموا في ربّهم ﴾ قال هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة »٢. وقد صوّب الطبري من هذه الروايات رواية كون الآية في صدد الكفارعامة والمؤمنين عامة ؛ حيث يفيد أن ما رواه الشيخان لم يثبت عنده، والروايات الأخرى تفيد هذا أيضا. وتقتضي رواية الشيخين أن تكون الآية مدنية، ولم يرو أحد ذلك بصراحة والأسلوب والطابع المكيان بارزان عليها، والنفس مطمئنة بتصويب الطبري، مع القول أنها بسبيل توكيد ما انطوت عليه الآيات السابقة من صدق الدعوة النبوية وما فيها من حقّ وهدى، والتنويه بالذين استجابوا لها وبشرى لهم، وبسبيل توكيد خطأ الكافرين بها وضلالهم وإنذارهم. وأسلوبها التقريري العام مما يؤيد ذلك حيث تضمّن تقرير كون الناس من الدعوة النبوية فريقين جاحد ضالّ ومؤمن مخلص، ولكل مصيره الذي يستحقه.
ووصف مصير كل فريق نافذ يثير الرغبة والشوق والغبطة من جهة، والفزع والرعب من جهة أخرى. وهذا وذاك مما استهدفته الآيات كأمثالها العديدة.
ولقد حمل الشيعة القول المروي عن علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) بأنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، على كون الخصومة التي يجثو لها هي مع الذين ناوأوه في حقّه من الإمامة، وهذا من غرائب تخريجاتهم، فعلي رضي الله عنه بايع برضائه وتعاون مع أبي بكر وعمر وعثمان ( رضي الله عنهما ) مثل سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما كان ليفعل ذلك لو كان يعتقد أن الله ورسوله قد قررا حقّ التقدم له في خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو أضعف منهم عصبية وشخصية وما كان يمكن أن يقبل ذلك غالبية أصحاب رسول الله بل كلهم. ونحب أن ننزهه عن القول المروي عنه. ونرجّح أن الهوى الحزبي قد لعب دوره فيه. فبالإضافة إلى الغرابة التي تبدو في التخريج، فإن القول بحدّ ذاته يبدو غريبا وغير مفهوم المدى.
ولقد روى الطبري والبغوي، كل بطريقه، عن أبي هريرة في سياق جملة ﴿ يُصبّ من فوق رؤوسهم الحميم يُصهر به ما في بطونهم ﴾ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إن الحميم ليصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلق ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد إلى ما كان ». وأورد ابن كثير في سياق جملة ﴿ ولهم مقامع من حديد ﴾ حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أنّ قمعا من حديد وضع في الأرض اجتمع له الثقلان ما أفلوه من الأرض ». وحديثا آخر رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو ضُرب الجبل بمقمع من حديد لفتّت ثم عاد كما كان، ولو أن دلواً من غسّاق يُهرق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ». والحديث الأول رواه الترمذي أيضا ٣ كما روى الترمذي الشطر الثاني من الحديث الثاني أيضا ٤.
ووصف هول العذاب الأخروي والتخويف منه مما يلمح من الحكمة في الحديثين، وهو ما يلمح من الحكمة في الآيات بالإضافة إلى وجوب الإيمان بما جاء في القرآن وصحّ في الحديث من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى.
١ التاج ٤/١٦٠-١٦١.
٢ المصدر نفسه.
٣ التاج ٥/٣٩٠-٣٩١.
٤ المصدر نفسه.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:﴿ س ﴾ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴿ ١٩ ﴾ يُصْهَرُ [ ١ ] بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴿ ٢٠ ﴾ وَلَهُم مَّقَامِعُ [ ٢ ] مِنْ حَدِيدٍ ﴿ ٢١ ﴾ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿ ٢٢ ﴾ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴿ ٢٣ ﴾‏ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴿ ٢٤ ﴾.
في الآيات إنذار وبشرى لكل من المؤمنين والكفار بالمصير الذي يصيرون إليه يوم القيامة ووصف له. وقد تضمنت التقريرات التالية :

١-
إن الناس يوم القيامة فريقان قد اختلفا في موقفهم من الله ربهم ؛ فمنهم من كفر به ومنهم من آمن وعمل الصالحات.

٢-
إن مصير الجاحدين رهيب جدا ؛ حيث يهيأ لهم ثياب من نار ويصبّ فوق رؤوسهم الماء الشديد الحرارة الذي يذيب ما في البطون والجلود. ويحث يعدّ لهم مقامع الحديد التي تلهب أجسامهم وتحطّم أطرافهم. وكلّما ظنوا أن عذابهم وهمهم انتهيا، أو كلما أرادوا أن يخلصوا منهما، عادا فتجددا قويين شديدين وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق.

٣-
أما المؤمنون الذين يعملون الصالحات فإن الله يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ويتزينون بالأساور الذهبية وباللؤلؤ ويلبسون الثياب الحريرية جزاء لما كان من اهتدائهم إلى أحسن الأقوال، وسيرهم في أحمد الطرق وأضمنها للنجاة.
ولقد روى الطبري والبغوي وغيرهما روايات وتأويلات عديدة في المقصود من الآية الأولى، من ذلك أن أبا ذرّ أقسم بالله أنها نزلت في ستة من قريش حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحرث ( رضي الله عنهم )، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، يوم تبارزوا في بدر. حيث دعا الثلاثة الآخرون أكفاءهم من بني عمومتهم إلى المبارزة قائلين نحن وإياهم أحق بالخصومة، فبرز إليهم الثلاثة الأولون. ومن ذلك عن ابن عباس أن الخصمين هما أهل الكتاب والمسلمون ؛ حيث قال الأولون للآخرين : نحن أولى بالله وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم ؛ وقال الآخرون للأولين : نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب فأنتم تعرفون نبيّنا وكتابنا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً. ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين هما المشركون والمسلمون اختصموا أيّهم على حق. ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين الجنة والنار ؛ حيث قالت الأولى خلقني الله لرحمته، وقالت الثانية : خلقني لعقوبته. والرواية الأولى من مرويات الشيخين ونصّهما هو :«كان أبو ذر يقسم أن هذه الآية نزلت في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في يوم بدر » ١. وقد روى الشيخان كذلك عن علي قوله :«أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس وفيهم نزلت ﴿ هذان خصمان اختصموا في ربّهم ﴾ قال هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة »٢. وقد صوّب الطبري من هذه الروايات رواية كون الآية في صدد الكفارعامة والمؤمنين عامة ؛ حيث يفيد أن ما رواه الشيخان لم يثبت عنده، والروايات الأخرى تفيد هذا أيضا. وتقتضي رواية الشيخين أن تكون الآية مدنية، ولم يرو أحد ذلك بصراحة والأسلوب والطابع المكيان بارزان عليها، والنفس مطمئنة بتصويب الطبري، مع القول أنها بسبيل توكيد ما انطوت عليه الآيات السابقة من صدق الدعوة النبوية وما فيها من حقّ وهدى، والتنويه بالذين استجابوا لها وبشرى لهم، وبسبيل توكيد خطأ الكافرين بها وضلالهم وإنذارهم. وأسلوبها التقريري العام مما يؤيد ذلك حيث تضمّن تقرير كون الناس من الدعوة النبوية فريقين جاحد ضالّ ومؤمن مخلص، ولكل مصيره الذي يستحقه.
ووصف مصير كل فريق نافذ يثير الرغبة والشوق والغبطة من جهة، والفزع والرعب من جهة أخرى. وهذا وذاك مما استهدفته الآيات كأمثالها العديدة.
ولقد حمل الشيعة القول المروي عن علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) بأنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، على كون الخصومة التي يجثو لها هي مع الذين ناوأوه في حقّه من الإمامة، وهذا من غرائب تخريجاتهم، فعلي رضي الله عنه بايع برضائه وتعاون مع أبي بكر وعمر وعثمان ( رضي الله عنهما ) مثل سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما كان ليفعل ذلك لو كان يعتقد أن الله ورسوله قد قررا حقّ التقدم له في خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو أضعف منهم عصبية وشخصية وما كان يمكن أن يقبل ذلك غالبية أصحاب رسول الله بل كلهم. ونحب أن ننزهه عن القول المروي عنه. ونرجّح أن الهوى الحزبي قد لعب دوره فيه. فبالإضافة إلى الغرابة التي تبدو في التخريج، فإن القول بحدّ ذاته يبدو غريبا وغير مفهوم المدى.
ولقد روى الطبري والبغوي، كل بطريقه، عن أبي هريرة في سياق جملة ﴿ يُصبّ من فوق رؤوسهم الحميم يُصهر به ما في بطونهم ﴾ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إن الحميم ليصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلق ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد إلى ما كان ». وأورد ابن كثير في سياق جملة ﴿ ولهم مقامع من حديد ﴾ حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أنّ قمعا من حديد وضع في الأرض اجتمع له الثقلان ما أفلوه من الأرض ». وحديثا آخر رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو ضُرب الجبل بمقمع من حديد لفتّت ثم عاد كما كان، ولو أن دلواً من غسّاق يُهرق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ». والحديث الأول رواه الترمذي أيضا ٣ كما روى الترمذي الشطر الثاني من الحديث الثاني أيضا ٤.
ووصف هول العذاب الأخروي والتخويف منه مما يلمح من الحكمة في الحديثين، وهو ما يلمح من الحكمة في الآيات بالإضافة إلى وجوب الإيمان بما جاء في القرآن وصحّ في الحديث من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى.
١ التاج ٤/١٦٠-١٦١.
٢ المصدر نفسه.
٣ التاج ٥/٣٩٠-٣٩١.
٤ المصدر نفسه.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:﴿ س ﴾ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴿ ١٩ ﴾ يُصْهَرُ [ ١ ] بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴿ ٢٠ ﴾ وَلَهُم مَّقَامِعُ [ ٢ ] مِنْ حَدِيدٍ ﴿ ٢١ ﴾ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿ ٢٢ ﴾ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴿ ٢٣ ﴾‏ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴿ ٢٤ ﴾.
في الآيات إنذار وبشرى لكل من المؤمنين والكفار بالمصير الذي يصيرون إليه يوم القيامة ووصف له. وقد تضمنت التقريرات التالية :

١-
إن الناس يوم القيامة فريقان قد اختلفا في موقفهم من الله ربهم ؛ فمنهم من كفر به ومنهم من آمن وعمل الصالحات.

٢-
إن مصير الجاحدين رهيب جدا ؛ حيث يهيأ لهم ثياب من نار ويصبّ فوق رؤوسهم الماء الشديد الحرارة الذي يذيب ما في البطون والجلود. ويحث يعدّ لهم مقامع الحديد التي تلهب أجسامهم وتحطّم أطرافهم. وكلّما ظنوا أن عذابهم وهمهم انتهيا، أو كلما أرادوا أن يخلصوا منهما، عادا فتجددا قويين شديدين وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق.

٣-
أما المؤمنون الذين يعملون الصالحات فإن الله يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ويتزينون بالأساور الذهبية وباللؤلؤ ويلبسون الثياب الحريرية جزاء لما كان من اهتدائهم إلى أحسن الأقوال، وسيرهم في أحمد الطرق وأضمنها للنجاة.
ولقد روى الطبري والبغوي وغيرهما روايات وتأويلات عديدة في المقصود من الآية الأولى، من ذلك أن أبا ذرّ أقسم بالله أنها نزلت في ستة من قريش حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحرث ( رضي الله عنهم )، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، يوم تبارزوا في بدر. حيث دعا الثلاثة الآخرون أكفاءهم من بني عمومتهم إلى المبارزة قائلين نحن وإياهم أحق بالخصومة، فبرز إليهم الثلاثة الأولون. ومن ذلك عن ابن عباس أن الخصمين هما أهل الكتاب والمسلمون ؛ حيث قال الأولون للآخرين : نحن أولى بالله وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم ؛ وقال الآخرون للأولين : نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب فأنتم تعرفون نبيّنا وكتابنا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً. ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين هما المشركون والمسلمون اختصموا أيّهم على حق. ومن ذلك عن مجاهد أن الخصمين الجنة والنار ؛ حيث قالت الأولى خلقني الله لرحمته، وقالت الثانية : خلقني لعقوبته. والرواية الأولى من مرويات الشيخين ونصّهما هو :«كان أبو ذر يقسم أن هذه الآية نزلت في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في يوم بدر » ١. وقد روى الشيخان كذلك عن علي قوله :«أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس وفيهم نزلت ﴿ هذان خصمان اختصموا في ربّهم ﴾ قال هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة »٢. وقد صوّب الطبري من هذه الروايات رواية كون الآية في صدد الكفارعامة والمؤمنين عامة ؛ حيث يفيد أن ما رواه الشيخان لم يثبت عنده، والروايات الأخرى تفيد هذا أيضا. وتقتضي رواية الشيخين أن تكون الآية مدنية، ولم يرو أحد ذلك بصراحة والأسلوب والطابع المكيان بارزان عليها، والنفس مطمئنة بتصويب الطبري، مع القول أنها بسبيل توكيد ما انطوت عليه الآيات السابقة من صدق الدعوة النبوية وما فيها من حقّ وهدى، والتنويه بالذين استجابوا لها وبشرى لهم، وبسبيل توكيد خطأ الكافرين بها وضلالهم وإنذارهم. وأسلوبها التقريري العام مما يؤيد ذلك حيث تضمّن تقرير كون الناس من الدعوة النبوية فريقين جاحد ضالّ ومؤمن مخلص، ولكل مصيره الذي يستحقه.
ووصف مصير كل فريق نافذ يثير الرغبة والشوق والغبطة من جهة، والفزع والرعب من جهة أخرى. وهذا وذاك مما استهدفته الآيات كأمثالها العديدة.
ولقد حمل الشيعة القول المروي عن علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) بأنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، على كون الخصومة التي يجثو لها هي مع الذين ناوأوه في حقّه من الإمامة، وهذا من غرائب تخريجاتهم، فعلي رضي الله عنه بايع برضائه وتعاون مع أبي بكر وعمر وعثمان ( رضي الله عنهما ) مثل سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما كان ليفعل ذلك لو كان يعتقد أن الله ورسوله قد قررا حقّ التقدم له في خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو أضعف منهم عصبية وشخصية وما كان يمكن أن يقبل ذلك غالبية أصحاب رسول الله بل كلهم. ونحب أن ننزهه عن القول المروي عنه. ونرجّح أن الهوى الحزبي قد لعب دوره فيه. فبالإضافة إلى الغرابة التي تبدو في التخريج، فإن القول بحدّ ذاته يبدو غريبا وغير مفهوم المدى.
ولقد روى الطبري والبغوي، كل بطريقه، عن أبي هريرة في سياق جملة ﴿ يُصبّ من فوق رؤوسهم الحميم يُصهر به ما في بطونهم ﴾ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إن الحميم ليصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلق ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد إلى ما كان ». وأورد ابن كثير في سياق جملة ﴿ ولهم مقامع من حديد ﴾ حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أنّ قمعا من حديد وضع في الأرض اجتمع له الثقلان ما أفلوه من الأرض ». وحديثا آخر رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو ضُرب الجبل بمقمع من حديد لفتّت ثم عاد كما كان، ولو أن دلواً من غسّاق يُهرق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ». والحديث الأول رواه الترمذي أيضا ٣ كما روى الترمذي الشطر الثاني من الحديث الثاني أيضا ٤.
ووصف هول العذاب الأخروي والتخويف منه مما يلمح من الحكمة في الحديثين، وهو ما يلمح من الحكمة في الآيات بالإضافة إلى وجوب الإيمان بما جاء في القرآن وصحّ في الحديث من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى.
١ التاج ٤/١٦٠-١٦١.
٢ المصدر نفسه.
٣ التاج ٥/٣٩٠-٣٩١.
٤ المصدر نفسه.

[ ١ ] العاكف : هنا بمعنى المقيم، وقد تطلق على الذي يقيم في المسجد للتعبّد.
[ ٢ ] البادي : هنا بمعنى الطارئ الآتي من البادية أو الخارج.
[ ٣ ] بإلحاد بظلم : الباء زائدة. والإلحاد بمعنى الميل. ومعنى الجلة ( ومن يرد فيه الانحراف والميل نحو الظلم والبغي ).
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ [ ١ ] فِيهِ وَالْبَادِ [ ٢ ] وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [ ٣ ] نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿ ٢٥ ﴾ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿ ٢٦ ﴾ وَأَذِّن فِي النَّاسِ [ ٤ ] بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً [ ٥ ] وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [ ٦ ] يَأْتِينَ [ ٧ ] مِن كُلِّ فَجٍّ [ ٨ ] عَمِيقٍ [ ٩ ] ﴿ ٢٧ ﴾ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [ ١٠ ] فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴿ ٢٨ ﴾ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [ ١١ ] وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴿ ٢٩ ﴾

١-
إشارة تنديدية إلى الكفار. فهم بالإضافة إلى كفرهم يمنعون الناس عن سبيل الله والاستجابة إلى دعوته. ويمنعونهم كذلك عن المسجد الحرام الذي جعله الله لجميع الناس على السواء المقيم منهم في جواره والقادم من الخارج.

٢-
وإنذار بالعذاب الرباني الأليم لكل من يقترف الظلم والبغي والعدوان فيه.

٣-
واستطراد تعقيبي على ذلك : فالله قد عيّن لإبراهيم مكان بيته وأمره بعدم الإشراك به، ثم بتطهير هذا المكان وتهيئه للطائفين حوله والقائمين الراكعين الساجدين عنده لله. وبدعوة الناس إلى الحجّ إليه في أيام معينة من السنة ليأتوا إليه من كلّ ناحية ودرب مهما بعد مشاة وركباناً، ويشهدوا منافع جمّة لهم في موسمه ويقرّبوا فيه القرابين من الأنعام التي رزقهم الله إياها، ذاكرين اسمه عليها، ويأكلوا منها ويطعموا البؤساء والفقراء، ويؤدّوا شعائرهم التعبدية من وفاء نذور وطواف حول البيت، ويقضوا حاجاتهم المتنوعة.
تعليقات على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ... ﴾
وما بعدها [ ٢٥-٢٩ ] مع بيان حكمة الإبقاء على تقاليد الحج
فحوى الآيات يحتمل أن تكون مكية كما يحتمل أن تكون مدنية. وفي حالة صحّة الاحتمال الأول يكون في الآيات دلالة على أن الكفار كانوا يمنعون المسلمين من أداء صلاتهم عند الكعبة والحج إليها والطواف حولها.
وقد ذكر هذا المفسّر الطبرسي في سياق تفسيرها. ولقد أشارت إحدى آيات سورة العلق إلى محاولة منع أحد الزعماء النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عندها على ما شرحناه في سياق تفسيرها كما أن بعض الروايات ذكرت محاولات الكفار في ذلك منها رواية عن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) جاء فيها أن المسلمين ما كانوا يجرأون على الصلاة عند الكعبة والطواف حولها إلا بعد إسلام عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) بسبب ضعفهم وصدّ المشركين لهم عن ذلك ١. وفي حالة صحة الاحتمال الثاني الذي انفرد المفسر ابن كثير فيه يكون في الآيات دلالة على أن المسلمين كانوا يأتون من دار هجرتهم إلى مكة بقصد أداء الحج أو العمرة، فيتصدّى لهم كفار قريش ويمنعونهم ويعتدون عليهم ويظلمونهم، وفي سورة الأنفال المدنية آية تذكر صدّ الكفار عن المسجد الحرام والادعاء بأنهم أولياؤه وهي هذه :﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿ ٣٤ ﴾ وفي سورة الفتح المدنية آية أخرى فيها نفس الدلالة وهي هذه :﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ [ ٢٥ ] إلخ. وفي هذه إشارة إلى حادث تاريخي يقيني، وهو رحلة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بقصد زيارة المسجد الحرام وتصدي المشركين لهم ومنعهم. ونحن نرجّح الاحتمال الأول على ضوء ما شرحناه من تناسب بين الآيات وسابقاتها والله أعلم.
والآيات صريحة التقرير بأن تهيئة الكعبة لعبادة الله وتطهيرها والحجّ إليها وجعلها لجميع الناس من مقيمين وغير مقيمين، وإنشاء تقاليد الحجّ متصل بإبراهيم ( عليه السلام ) بأمر الله تعالى، وهذا التقرير تكرر في آيات في سورة البقرة مضافا إليه إن الله قد جعل الكعبة وحرمها مثابة للناس وأمنا وهي هذه :﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿ ١٢٥ ﴾ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿ ١٢٦ ﴾‏ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿ ١٢٧ ﴾ ووردت إشارة ما إلى ذلك في آيات سورة إبراهيم [ ٣٥-٣٨ ] التي مرّ تفسيرها.
وورود هذه الصراحة في الآيات التي احتوت التنديد بمشركي قريش وإنذارهم بسبب صدّهم عن المجسد الحرام وظلمهم فيه وخرقهم بذلك حرمته وقدسيته، يلهم أن هؤلاء كانوا يعرفون ما جاء فيها ويتناقلون ذلك على ما شرحناه في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورتي الأعلى وإبراهيم شرحا يغني عن التكرار.
ولقد بلغ من اهتمامهم لحفظ تقاليد الحجّ وحرمة المسجد الحرام ومنطقته ومنع كل بغي وقتال وسفك دم فيها أن قدّسوا أشهر الحج وحرّموا القتال فيها، حتى الصيد داخل منطقة الحرم وخارجها، وحرّموا القتال في هذه المنطقة في كل وقت. وكانوا يعتبرون خرق ذلك فجاراً، وكانت لهم أيام عرفت بأيام الفجار، بسبيل منع خرقها. وعقدوا فيما بينهم حلفا سمّي حلف الفضول لمنع أي ظلم في الحزم ونصر أي مظلوم فيه ٢.
وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء التابعين والأخبار في الصدر الإسلامي الأول في سياق هذه الآيات. منها ما يتصل بأوّلية الكعبة، وقد أوردناه وعلّقنا عليه في سياق تفسير سورة قريش بما يغني عن التكرار. ومنها ما يتصل بالعبارات الجديدة في الآيات. ومن ذلك أن الله أمر إبراهيم ( عليه السلام ) بعد أن أتمّ بناء البيت مع إسماعيل، أن يؤذن في الناس بالحج، فقال : ربّ وماذا أستطيع أن أبلغ ؟ فقال له عليك النداء وعليّ الإسماع، فهتف قائلا : ألا إن ربكم قد اتخذ بيتا وأمركم أن تحجّوه ؛ فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله أن يحجّ إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك وفي رواية ( ما سمعه يومئذ من إنس وجن وشجر وأكمة وتراب وجبل وماء، ولا أي شيء آخر من خلق الله إلا قال : لبيك اللهم لبيك ).
وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث المعتبرة. والأولى الوقوف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاؤه والإيمان به، مع القول : إن الروايات تؤكد ما قلناه من أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتداولون ذلك قبل الإسلام، ومع الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون لما جاء في الآيات من ذلك حكمة. لعلّ منها تذكير السامعين بما يعرفون، وبأن الله الذي يعترفون به ويقدسون بيته قد جعل هذا البيت مثابة للناس جميعا، ومطهرا من الشرك من لدن إبراهيم الذي ينتسبون إليه بالنبوة، ثم التنديد بهم لمخالفتهم ذلك وصدّهم المسلمين عنه، وخرقهم حرمته وشركهم بالله وإقامة أوثانهم عند بيته المطهر ؛ حيث تستحكم بذلك فيهم الحجة.
ولقد روى الطبري قولين في معنى ﴿ بالبيت العتيق ﴾ أحدهما إنه القديم جدا حيث ورد في آية في سورة آل عمران أنه أول بيت وضع للناس وهي ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴿ ٩٦ ﴾ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿ ٩٧ ﴾. وثانيهما : أنه بمعنى أعتقه الله من الجبابرة. وقد روى الترمذي في هذا المعنى حديثا عن عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبّار» ٣. فإذا صحّ الحديث فمن الحكمة الملموحة فيه توكيد قدسيته وعناية الله به وتحريم البغي والظلم فيه وصدّ الناس عنه، وبهذا يتسق الحديث مع مدى الآيات.
ومع أن الآيات تحكي ما أمر الله به إبراهيم، فإنها تلهم أنها تحكي كذلك ما توطّد من عادة العرب قبل الإسلام من الحجّ للكعبة في أيام معينة ومجيئهم إليها من كلّ صوب قريب وبعيد، وتجشّمهم المشاق بسبيل ذلك ومن الطواف حولها، والنذر لها وتقريب القرابين عندها، وما كان يتيسر لهم في موسمها من منافع ويقضون من حاجات. وكان من ذلك على ما روته الروايات المتواترة قيام أسواق عديدة في موسم الحج يتبادل العرب فيها سلعهم ويقضون حاجاتهم ويعقدون مجالس قضائية لحلّ المشاكل والخلافات، ويقيمون ندوات الشعر والمفاخرة الخ وكان ذلك من أسباب تطور اللغة العربية وتهذيبها وتوحيدها ووصولها إلى ذروة الفصحى التي نزل بها القرآن وغُدُوّها لغة جميع العرب إجمالا على اختلاف منازلهم. كما كان ذلك من مظاهر اتحاد العرب، أو اتحادهم في الاتجاه والتقارب بين مختلف قبائل العرب على اختلاف منازلهم أيضا في داخل الجزيرة وخارجها.
ولقد كانت تقاليد الحجّ راسخة شائعة في العرب، وكان أهل مكة خاصة يخشون الأضرار والأخطار من زوالها نتيجة للدعوة الإسلامية على ما أشير إلى ذلك في آية سورة القصص [ ٥٧ ] وما شرحناه في مناسبتها.
فكان كل هذا فيما يتبادر لنا من حكمة الله في الإبقاء على طقوس وتقاليد الحجّ في الإسلام، مهما بدا في بعضها من غرابة ومن عدم تبيين الناس حكمة لها إلا بعد تجريدها من آثار الوثنية والشرك ومشاهد القبح، مثل الطواف بالعري وجعله فرضا على المستطيعين من المسلمين ولو مرة في العمر ليكون لهم في ذلك فرصة سنوية متجدّدة، فتأتي فئات منهم في كل سنة من كل صوب من أقطار الدنيا إلى مهبط وحي الله وبيته العتيق ليعلنوا خضوعهم له على صعيد واحد، متساوين في كل مظهر وليتقرّبوا إليه بالعبادة والأضاحي والصدقات والنذور، ولينتفعوا بشتى وجوه الانتفاع الروحي، والرياضي، والاجتماعي، والاقتصادي، والشخصي، والسياحي، والتعارفي، والسياسي. ولتكون رابطة دينية متجددة تظل تربط المسلمين في كافة أنحاء الدنيا وفي كلّ ظرف ما دامت الدنيا قائمة بمهبط وحي الله ورسالته على خاتم أنبيائه ورسله كمظهر من مظاهر شكر الله واحترام البلد العربي الذي اختصّه الله بذلك.
ويتراءى لنا في الإبقاء على هذا التقليد بعد تجريده من شوائب الشرك ومشاهد القبح كالطواف في حالة العري تلقين
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ [ ١ ] فِيهِ وَالْبَادِ [ ٢ ] وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [ ٣ ] نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿ ٢٥ ﴾ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿ ٢٦ ﴾ وَأَذِّن فِي النَّاسِ [ ٤ ] بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً [ ٥ ] وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [ ٦ ] يَأْتِينَ [ ٧ ] مِن كُلِّ فَجٍّ [ ٨ ] عَمِيقٍ [ ٩ ] ﴿ ٢٧ ﴾ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [ ١٠ ] فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴿ ٢٨ ﴾ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [ ١١ ] وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴿ ٢٩ ﴾

١-
إشارة تنديدية إلى الكفار. فهم بالإضافة إلى كفرهم يمنعون الناس عن سبيل الله والاستجابة إلى دعوته. ويمنعونهم كذلك عن المسجد الحرام الذي جعله الله لجميع الناس على السواء المقيم منهم في جواره والقادم من الخارج.

٢-
وإنذار بالعذاب الرباني الأليم لكل من يقترف الظلم والبغي والعدوان فيه.

٣-
واستطراد تعقيبي على ذلك : فالله قد عيّن لإبراهيم مكان بيته وأمره بعدم الإشراك به، ثم بتطهير هذا المكان وتهيئه للطائفين حوله والقائمين الراكعين الساجدين عنده لله. وبدعوة الناس إلى الحجّ إليه في أيام معينة من السنة ليأتوا إليه من كلّ ناحية ودرب مهما بعد مشاة وركباناً، ويشهدوا منافع جمّة لهم في موسمه ويقرّبوا فيه القرابين من الأنعام التي رزقهم الله إياها، ذاكرين اسمه عليها، ويأكلوا منها ويطعموا البؤساء والفقراء، ويؤدّوا شعائرهم التعبدية من وفاء نذور وطواف حول البيت، ويقضوا حاجاتهم المتنوعة.
تعليقات على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ... ﴾
وما بعدها [ ٢٥-٢٩ ] مع بيان حكمة الإبقاء على تقاليد الحج
فحوى الآيات يحتمل أن تكون مكية كما يحتمل أن تكون مدنية. وفي حالة صحّة الاحتمال الأول يكون في الآيات دلالة على أن الكفار كانوا يمنعون المسلمين من أداء صلاتهم عند الكعبة والحج إليها والطواف حولها.
وقد ذكر هذا المفسّر الطبرسي في سياق تفسيرها. ولقد أشارت إحدى آيات سورة العلق إلى محاولة منع أحد الزعماء النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عندها على ما شرحناه في سياق تفسيرها كما أن بعض الروايات ذكرت محاولات الكفار في ذلك منها رواية عن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) جاء فيها أن المسلمين ما كانوا يجرأون على الصلاة عند الكعبة والطواف حولها إلا بعد إسلام عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) بسبب ضعفهم وصدّ المشركين لهم عن ذلك ١. وفي حالة صحة الاحتمال الثاني الذي انفرد المفسر ابن كثير فيه يكون في الآيات دلالة على أن المسلمين كانوا يأتون من دار هجرتهم إلى مكة بقصد أداء الحج أو العمرة، فيتصدّى لهم كفار قريش ويمنعونهم ويعتدون عليهم ويظلمونهم، وفي سورة الأنفال المدنية آية تذكر صدّ الكفار عن المسجد الحرام والادعاء بأنهم أولياؤه وهي هذه :﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿ ٣٤ ﴾ وفي سورة الفتح المدنية آية أخرى فيها نفس الدلالة وهي هذه :﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ [ ٢٥ ] إلخ. وفي هذه إشارة إلى حادث تاريخي يقيني، وهو رحلة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بقصد زيارة المسجد الحرام وتصدي المشركين لهم ومنعهم. ونحن نرجّح الاحتمال الأول على ضوء ما شرحناه من تناسب بين الآيات وسابقاتها والله أعلم.
والآيات صريحة التقرير بأن تهيئة الكعبة لعبادة الله وتطهيرها والحجّ إليها وجعلها لجميع الناس من مقيمين وغير مقيمين، وإنشاء تقاليد الحجّ متصل بإبراهيم ( عليه السلام ) بأمر الله تعالى، وهذا التقرير تكرر في آيات في سورة البقرة مضافا إليه إن الله قد جعل الكعبة وحرمها مثابة للناس وأمنا وهي هذه :﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿ ١٢٥ ﴾ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿ ١٢٦ ﴾‏ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿ ١٢٧ ﴾ ووردت إشارة ما إلى ذلك في آيات سورة إبراهيم [ ٣٥-٣٨ ] التي مرّ تفسيرها.
وورود هذه الصراحة في الآيات التي احتوت التنديد بمشركي قريش وإنذارهم بسبب صدّهم عن المجسد الحرام وظلمهم فيه وخرقهم بذلك حرمته وقدسيته، يلهم أن هؤلاء كانوا يعرفون ما جاء فيها ويتناقلون ذلك على ما شرحناه في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورتي الأعلى وإبراهيم شرحا يغني عن التكرار.
ولقد بلغ من اهتمامهم لحفظ تقاليد الحجّ وحرمة المسجد الحرام ومنطقته ومنع كل بغي وقتال وسفك دم فيها أن قدّسوا أشهر الحج وحرّموا القتال فيها، حتى الصيد داخل منطقة الحرم وخارجها، وحرّموا القتال في هذه المنطقة في كل وقت. وكانوا يعتبرون خرق ذلك فجاراً، وكانت لهم أيام عرفت بأيام الفجار، بسبيل منع خرقها. وعقدوا فيما بينهم حلفا سمّي حلف الفضول لمنع أي ظلم في الحزم ونصر أي مظلوم فيه ٢.
وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء التابعين والأخبار في الصدر الإسلامي الأول في سياق هذه الآيات. منها ما يتصل بأوّلية الكعبة، وقد أوردناه وعلّقنا عليه في سياق تفسير سورة قريش بما يغني عن التكرار. ومنها ما يتصل بالعبارات الجديدة في الآيات. ومن ذلك أن الله أمر إبراهيم ( عليه السلام ) بعد أن أتمّ بناء البيت مع إسماعيل، أن يؤذن في الناس بالحج، فقال : ربّ وماذا أستطيع أن أبلغ ؟ فقال له عليك النداء وعليّ الإسماع، فهتف قائلا : ألا إن ربكم قد اتخذ بيتا وأمركم أن تحجّوه ؛ فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله أن يحجّ إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك وفي رواية ( ما سمعه يومئذ من إنس وجن وشجر وأكمة وتراب وجبل وماء، ولا أي شيء آخر من خلق الله إلا قال : لبيك اللهم لبيك ).
وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث المعتبرة. والأولى الوقوف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاؤه والإيمان به، مع القول : إن الروايات تؤكد ما قلناه من أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتداولون ذلك قبل الإسلام، ومع الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون لما جاء في الآيات من ذلك حكمة. لعلّ منها تذكير السامعين بما يعرفون، وبأن الله الذي يعترفون به ويقدسون بيته قد جعل هذا البيت مثابة للناس جميعا، ومطهرا من الشرك من لدن إبراهيم الذي ينتسبون إليه بالنبوة، ثم التنديد بهم لمخالفتهم ذلك وصدّهم المسلمين عنه، وخرقهم حرمته وشركهم بالله وإقامة أوثانهم عند بيته المطهر ؛ حيث تستحكم بذلك فيهم الحجة.
ولقد روى الطبري قولين في معنى ﴿ بالبيت العتيق ﴾ أحدهما إنه القديم جدا حيث ورد في آية في سورة آل عمران أنه أول بيت وضع للناس وهي ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴿ ٩٦ ﴾ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿ ٩٧ ﴾. وثانيهما : أنه بمعنى أعتقه الله من الجبابرة. وقد روى الترمذي في هذا المعنى حديثا عن عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبّار» ٣. فإذا صحّ الحديث فمن الحكمة الملموحة فيه توكيد قدسيته وعناية الله به وتحريم البغي والظلم فيه وصدّ الناس عنه، وبهذا يتسق الحديث مع مدى الآيات.
ومع أن الآيات تحكي ما أمر الله به إبراهيم، فإنها تلهم أنها تحكي كذلك ما توطّد من عادة العرب قبل الإسلام من الحجّ للكعبة في أيام معينة ومجيئهم إليها من كلّ صوب قريب وبعيد، وتجشّمهم المشاق بسبيل ذلك ومن الطواف حولها، والنذر لها وتقريب القرابين عندها، وما كان يتيسر لهم في موسمها من منافع ويقضون من حاجات. وكان من ذلك على ما روته الروايات المتواترة قيام أسواق عديدة في موسم الحج يتبادل العرب فيها سلعهم ويقضون حاجاتهم ويعقدون مجالس قضائية لحلّ المشاكل والخلافات، ويقيمون ندوات الشعر والمفاخرة الخ وكان ذلك من أسباب تطور اللغة العربية وتهذيبها وتوحيدها ووصولها إلى ذروة الفصحى التي نزل بها القرآن وغُدُوّها لغة جميع العرب إجمالا على اختلاف منازلهم. كما كان ذلك من مظاهر اتحاد العرب، أو اتحادهم في الاتجاه والتقارب بين مختلف قبائل العرب على اختلاف منازلهم أيضا في داخل الجزيرة وخارجها.
ولقد كانت تقاليد الحجّ راسخة شائعة في العرب، وكان أهل مكة خاصة يخشون الأضرار والأخطار من زوالها نتيجة للدعوة الإسلامية على ما أشير إلى ذلك في آية سورة القصص [ ٥٧ ] وما شرحناه في مناسبتها.
فكان كل هذا فيما يتبادر لنا من حكمة الله في الإبقاء على طقوس وتقاليد الحجّ في الإسلام، مهما بدا في بعضها من غرابة ومن عدم تبيين الناس حكمة لها إلا بعد تجريدها من آثار الوثنية والشرك ومشاهد القبح، مثل الطواف بالعري وجعله فرضا على المستطيعين من المسلمين ولو مرة في العمر ليكون لهم في ذلك فرصة سنوية متجدّدة، فتأتي فئات منهم في كل سنة من كل صوب من أقطار الدنيا إلى مهبط وحي الله وبيته العتيق ليعلنوا خضوعهم له على صعيد واحد، متساوين في كل مظهر وليتقرّبوا إليه بالعبادة والأضاحي والصدقات والنذور، ولينتفعوا بشتى وجوه الانتفاع الروحي، والرياضي، والاجتماعي، والاقتصادي، والشخصي، والسياحي، والتعارفي، والسياسي. ولتكون رابطة دينية متجددة تظل تربط المسلمين في كافة أنحاء الدنيا وفي كلّ ظرف ما دامت الدنيا قائمة بمهبط وحي الله ورسالته على خاتم أنبيائه ورسله كمظهر من مظاهر شكر الله واحترام البلد العربي الذي اختصّه الله بذلك.
ويتراءى لنا في الإبقاء على هذا التقليد بعد تجريده من شوائب الشرك ومشاهد القبح كالطواف في حالة العري تلقين
[ ٤ ] أذّن في الناس بالحجّ : نادهم واهتف بهم ليأتوا ويحجّوا البيت. وكلمة الحجّ في اللغة بمعنى : القصد والاتجاه إلى الشيء والمكان، ثم صار علما على زيارة الكعبة كطقس ديني قبل الإسلام واستمرّ بعده كذلك.
[ ٥ ] رجالا : مشاة.
[ ٦ ] ضامر : من الضمور بمعنى النحافة. والكلمة وصف للخيل التي يخفف من شحمها لتكون أقدر على الركض.
[ ٧ ] يأتين : الضمير عائد ( لكل ضامر ).
[ ٨ ] فجّ : طريق أو ناحية.
[ ٩ ] عميق : هنا بمعنى بعيد.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ [ ١ ] فِيهِ وَالْبَادِ [ ٢ ] وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [ ٣ ] نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿ ٢٥ ﴾ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿ ٢٦ ﴾ وَأَذِّن فِي النَّاسِ [ ٤ ] بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً [ ٥ ] وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [ ٦ ] يَأْتِينَ [ ٧ ] مِن كُلِّ فَجٍّ [ ٨ ] عَمِيقٍ [ ٩ ] ﴿ ٢٧ ﴾ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [ ١٠ ] فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴿ ٢٨ ﴾ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [ ١١ ] وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴿ ٢٩ ﴾

١-
إشارة تنديدية إلى الكفار. فهم بالإضافة إلى كفرهم يمنعون الناس عن سبيل الله والاستجابة إلى دعوته. ويمنعونهم كذلك عن المسجد الحرام الذي جعله الله لجميع الناس على السواء المقيم منهم في جواره والقادم من الخارج.

٢-
وإنذار بالعذاب الرباني الأليم لكل من يقترف الظلم والبغي والعدوان فيه.

٣-
واستطراد تعقيبي على ذلك : فالله قد عيّن لإبراهيم مكان بيته وأمره بعدم الإشراك به، ثم بتطهير هذا المكان وتهيئه للطائفين حوله والقائمين الراكعين الساجدين عنده لله. وبدعوة الناس إلى الحجّ إليه في أيام معينة من السنة ليأتوا إليه من كلّ ناحية ودرب مهما بعد مشاة وركباناً، ويشهدوا منافع جمّة لهم في موسمه ويقرّبوا فيه القرابين من الأنعام التي رزقهم الله إياها، ذاكرين اسمه عليها، ويأكلوا منها ويطعموا البؤساء والفقراء، ويؤدّوا شعائرهم التعبدية من وفاء نذور وطواف حول البيت، ويقضوا حاجاتهم المتنوعة.
تعليقات على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ... ﴾
وما بعدها [ ٢٥-٢٩ ] مع بيان حكمة الإبقاء على تقاليد الحج
فحوى الآيات يحتمل أن تكون مكية كما يحتمل أن تكون مدنية. وفي حالة صحّة الاحتمال الأول يكون في الآيات دلالة على أن الكفار كانوا يمنعون المسلمين من أداء صلاتهم عند الكعبة والحج إليها والطواف حولها.
وقد ذكر هذا المفسّر الطبرسي في سياق تفسيرها. ولقد أشارت إحدى آيات سورة العلق إلى محاولة منع أحد الزعماء النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عندها على ما شرحناه في سياق تفسيرها كما أن بعض الروايات ذكرت محاولات الكفار في ذلك منها رواية عن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) جاء فيها أن المسلمين ما كانوا يجرأون على الصلاة عند الكعبة والطواف حولها إلا بعد إسلام عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) بسبب ضعفهم وصدّ المشركين لهم عن ذلك ١. وفي حالة صحة الاحتمال الثاني الذي انفرد المفسر ابن كثير فيه يكون في الآيات دلالة على أن المسلمين كانوا يأتون من دار هجرتهم إلى مكة بقصد أداء الحج أو العمرة، فيتصدّى لهم كفار قريش ويمنعونهم ويعتدون عليهم ويظلمونهم، وفي سورة الأنفال المدنية آية تذكر صدّ الكفار عن المسجد الحرام والادعاء بأنهم أولياؤه وهي هذه :﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿ ٣٤ ﴾ وفي سورة الفتح المدنية آية أخرى فيها نفس الدلالة وهي هذه :﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ [ ٢٥ ] إلخ. وفي هذه إشارة إلى حادث تاريخي يقيني، وهو رحلة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بقصد زيارة المسجد الحرام وتصدي المشركين لهم ومنعهم. ونحن نرجّح الاحتمال الأول على ضوء ما شرحناه من تناسب بين الآيات وسابقاتها والله أعلم.
والآيات صريحة التقرير بأن تهيئة الكعبة لعبادة الله وتطهيرها والحجّ إليها وجعلها لجميع الناس من مقيمين وغير مقيمين، وإنشاء تقاليد الحجّ متصل بإبراهيم ( عليه السلام ) بأمر الله تعالى، وهذا التقرير تكرر في آيات في سورة البقرة مضافا إليه إن الله قد جعل الكعبة وحرمها مثابة للناس وأمنا وهي هذه :﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿ ١٢٥ ﴾ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿ ١٢٦ ﴾‏ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿ ١٢٧ ﴾ ووردت إشارة ما إلى ذلك في آيات سورة إبراهيم [ ٣٥-٣٨ ] التي مرّ تفسيرها.
وورود هذه الصراحة في الآيات التي احتوت التنديد بمشركي قريش وإنذارهم بسبب صدّهم عن المجسد الحرام وظلمهم فيه وخرقهم بذلك حرمته وقدسيته، يلهم أن هؤلاء كانوا يعرفون ما جاء فيها ويتناقلون ذلك على ما شرحناه في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورتي الأعلى وإبراهيم شرحا يغني عن التكرار.
ولقد بلغ من اهتمامهم لحفظ تقاليد الحجّ وحرمة المسجد الحرام ومنطقته ومنع كل بغي وقتال وسفك دم فيها أن قدّسوا أشهر الحج وحرّموا القتال فيها، حتى الصيد داخل منطقة الحرم وخارجها، وحرّموا القتال في هذه المنطقة في كل وقت. وكانوا يعتبرون خرق ذلك فجاراً، وكانت لهم أيام عرفت بأيام الفجار، بسبيل منع خرقها. وعقدوا فيما بينهم حلفا سمّي حلف الفضول لمنع أي ظلم في الحزم ونصر أي مظلوم فيه ٢.
وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء التابعين والأخبار في الصدر الإسلامي الأول في سياق هذه الآيات. منها ما يتصل بأوّلية الكعبة، وقد أوردناه وعلّقنا عليه في سياق تفسير سورة قريش بما يغني عن التكرار. ومنها ما يتصل بالعبارات الجديدة في الآيات. ومن ذلك أن الله أمر إبراهيم ( عليه السلام ) بعد أن أتمّ بناء البيت مع إسماعيل، أن يؤذن في الناس بالحج، فقال : ربّ وماذا أستطيع أن أبلغ ؟ فقال له عليك النداء وعليّ الإسماع، فهتف قائلا : ألا إن ربكم قد اتخذ بيتا وأمركم أن تحجّوه ؛ فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله أن يحجّ إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك وفي رواية ( ما سمعه يومئذ من إنس وجن وشجر وأكمة وتراب وجبل وماء، ولا أي شيء آخر من خلق الله إلا قال : لبيك اللهم لبيك ).
وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث المعتبرة. والأولى الوقوف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاؤه والإيمان به، مع القول : إن الروايات تؤكد ما قلناه من أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتداولون ذلك قبل الإسلام، ومع الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون لما جاء في الآيات من ذلك حكمة. لعلّ منها تذكير السامعين بما يعرفون، وبأن الله الذي يعترفون به ويقدسون بيته قد جعل هذا البيت مثابة للناس جميعا، ومطهرا من الشرك من لدن إبراهيم الذي ينتسبون إليه بالنبوة، ثم التنديد بهم لمخالفتهم ذلك وصدّهم المسلمين عنه، وخرقهم حرمته وشركهم بالله وإقامة أوثانهم عند بيته المطهر ؛ حيث تستحكم بذلك فيهم الحجة.
ولقد روى الطبري قولين في معنى ﴿ بالبيت العتيق ﴾ أحدهما إنه القديم جدا حيث ورد في آية في سورة آل عمران أنه أول بيت وضع للناس وهي ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴿ ٩٦ ﴾ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿ ٩٧ ﴾. وثانيهما : أنه بمعنى أعتقه الله من الجبابرة. وقد روى الترمذي في هذا المعنى حديثا عن عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبّار» ٣. فإذا صحّ الحديث فمن الحكمة الملموحة فيه توكيد قدسيته وعناية الله به وتحريم البغي والظلم فيه وصدّ الناس عنه، وبهذا يتسق الحديث مع مدى الآيات.
ومع أن الآيات تحكي ما أمر الله به إبراهيم، فإنها تلهم أنها تحكي كذلك ما توطّد من عادة العرب قبل الإسلام من الحجّ للكعبة في أيام معينة ومجيئهم إليها من كلّ صوب قريب وبعيد، وتجشّمهم المشاق بسبيل ذلك ومن الطواف حولها، والنذر لها وتقريب القرابين عندها، وما كان يتيسر لهم في موسمها من منافع ويقضون من حاجات. وكان من ذلك على ما روته الروايات المتواترة قيام أسواق عديدة في موسم الحج يتبادل العرب فيها سلعهم ويقضون حاجاتهم ويعقدون مجالس قضائية لحلّ المشاكل والخلافات، ويقيمون ندوات الشعر والمفاخرة الخ وكان ذلك من أسباب تطور اللغة العربية وتهذيبها وتوحيدها ووصولها إلى ذروة الفصحى التي نزل بها القرآن وغُدُوّها لغة جميع العرب إجمالا على اختلاف منازلهم. كما كان ذلك من مظاهر اتحاد العرب، أو اتحادهم في الاتجاه والتقارب بين مختلف قبائل العرب على اختلاف منازلهم أيضا في داخل الجزيرة وخارجها.
ولقد كانت تقاليد الحجّ راسخة شائعة في العرب، وكان أهل مكة خاصة يخشون الأضرار والأخطار من زوالها نتيجة للدعوة الإسلامية على ما أشير إلى ذلك في آية سورة القصص [ ٥٧ ] وما شرحناه في مناسبتها.
فكان كل هذا فيما يتبادر لنا من حكمة الله في الإبقاء على طقوس وتقاليد الحجّ في الإسلام، مهما بدا في بعضها من غرابة ومن عدم تبيين الناس حكمة لها إلا بعد تجريدها من آثار الوثنية والشرك ومشاهد القبح، مثل الطواف بالعري وجعله فرضا على المستطيعين من المسلمين ولو مرة في العمر ليكون لهم في ذلك فرصة سنوية متجدّدة، فتأتي فئات منهم في كل سنة من كل صوب من أقطار الدنيا إلى مهبط وحي الله وبيته العتيق ليعلنوا خضوعهم له على صعيد واحد، متساوين في كل مظهر وليتقرّبوا إليه بالعبادة والأضاحي والصدقات والنذور، ولينتفعوا بشتى وجوه الانتفاع الروحي، والرياضي، والاجتماعي، والاقتصادي، والشخصي، والسياحي، والتعارفي، والسياسي. ولتكون رابطة دينية متجددة تظل تربط المسلمين في كافة أنحاء الدنيا وفي كلّ ظرف ما دامت الدنيا قائمة بمهبط وحي الله ورسالته على خاتم أنبيائه ورسله كمظهر من مظاهر شكر الله واحترام البلد العربي الذي اختصّه الله بذلك.
ويتراءى لنا في الإبقاء على هذا التقليد بعد تجريده من شوائب الشرك ومشاهد القبح كالطواف في حالة العري تلقين
[ ١٠ ] ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام : القصد من الجملة ذكر الله عند ذبح القرابين من الأنعام.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ [ ١ ] فِيهِ وَالْبَادِ [ ٢ ] وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [ ٣ ] نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿ ٢٥ ﴾ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿ ٢٦ ﴾ وَأَذِّن فِي النَّاسِ [ ٤ ] بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً [ ٥ ] وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [ ٦ ] يَأْتِينَ [ ٧ ] مِن كُلِّ فَجٍّ [ ٨ ] عَمِيقٍ [ ٩ ] ﴿ ٢٧ ﴾ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [ ١٠ ] فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴿ ٢٨ ﴾ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [ ١١ ] وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴿ ٢٩ ﴾

١-
إشارة تنديدية إلى الكفار. فهم بالإضافة إلى كفرهم يمنعون الناس عن سبيل الله والاستجابة إلى دعوته. ويمنعونهم كذلك عن المسجد الحرام الذي جعله الله لجميع الناس على السواء المقيم منهم في جواره والقادم من الخارج.

٢-
وإنذار بالعذاب الرباني الأليم لكل من يقترف الظلم والبغي والعدوان فيه.

٣-
واستطراد تعقيبي على ذلك : فالله قد عيّن لإبراهيم مكان بيته وأمره بعدم الإشراك به، ثم بتطهير هذا المكان وتهيئه للطائفين حوله والقائمين الراكعين الساجدين عنده لله. وبدعوة الناس إلى الحجّ إليه في أيام معينة من السنة ليأتوا إليه من كلّ ناحية ودرب مهما بعد مشاة وركباناً، ويشهدوا منافع جمّة لهم في موسمه ويقرّبوا فيه القرابين من الأنعام التي رزقهم الله إياها، ذاكرين اسمه عليها، ويأكلوا منها ويطعموا البؤساء والفقراء، ويؤدّوا شعائرهم التعبدية من وفاء نذور وطواف حول البيت، ويقضوا حاجاتهم المتنوعة.
تعليقات على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ... ﴾
وما بعدها [ ٢٥-٢٩ ] مع بيان حكمة الإبقاء على تقاليد الحج
فحوى الآيات يحتمل أن تكون مكية كما يحتمل أن تكون مدنية. وفي حالة صحّة الاحتمال الأول يكون في الآيات دلالة على أن الكفار كانوا يمنعون المسلمين من أداء صلاتهم عند الكعبة والحج إليها والطواف حولها.
وقد ذكر هذا المفسّر الطبرسي في سياق تفسيرها. ولقد أشارت إحدى آيات سورة العلق إلى محاولة منع أحد الزعماء النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عندها على ما شرحناه في سياق تفسيرها كما أن بعض الروايات ذكرت محاولات الكفار في ذلك منها رواية عن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) جاء فيها أن المسلمين ما كانوا يجرأون على الصلاة عند الكعبة والطواف حولها إلا بعد إسلام عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) بسبب ضعفهم وصدّ المشركين لهم عن ذلك ١. وفي حالة صحة الاحتمال الثاني الذي انفرد المفسر ابن كثير فيه يكون في الآيات دلالة على أن المسلمين كانوا يأتون من دار هجرتهم إلى مكة بقصد أداء الحج أو العمرة، فيتصدّى لهم كفار قريش ويمنعونهم ويعتدون عليهم ويظلمونهم، وفي سورة الأنفال المدنية آية تذكر صدّ الكفار عن المسجد الحرام والادعاء بأنهم أولياؤه وهي هذه :﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿ ٣٤ ﴾ وفي سورة الفتح المدنية آية أخرى فيها نفس الدلالة وهي هذه :﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ [ ٢٥ ] إلخ. وفي هذه إشارة إلى حادث تاريخي يقيني، وهو رحلة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بقصد زيارة المسجد الحرام وتصدي المشركين لهم ومنعهم. ونحن نرجّح الاحتمال الأول على ضوء ما شرحناه من تناسب بين الآيات وسابقاتها والله أعلم.
والآيات صريحة التقرير بأن تهيئة الكعبة لعبادة الله وتطهيرها والحجّ إليها وجعلها لجميع الناس من مقيمين وغير مقيمين، وإنشاء تقاليد الحجّ متصل بإبراهيم ( عليه السلام ) بأمر الله تعالى، وهذا التقرير تكرر في آيات في سورة البقرة مضافا إليه إن الله قد جعل الكعبة وحرمها مثابة للناس وأمنا وهي هذه :﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿ ١٢٥ ﴾ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿ ١٢٦ ﴾‏ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿ ١٢٧ ﴾ ووردت إشارة ما إلى ذلك في آيات سورة إبراهيم [ ٣٥-٣٨ ] التي مرّ تفسيرها.
وورود هذه الصراحة في الآيات التي احتوت التنديد بمشركي قريش وإنذارهم بسبب صدّهم عن المجسد الحرام وظلمهم فيه وخرقهم بذلك حرمته وقدسيته، يلهم أن هؤلاء كانوا يعرفون ما جاء فيها ويتناقلون ذلك على ما شرحناه في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورتي الأعلى وإبراهيم شرحا يغني عن التكرار.
ولقد بلغ من اهتمامهم لحفظ تقاليد الحجّ وحرمة المسجد الحرام ومنطقته ومنع كل بغي وقتال وسفك دم فيها أن قدّسوا أشهر الحج وحرّموا القتال فيها، حتى الصيد داخل منطقة الحرم وخارجها، وحرّموا القتال في هذه المنطقة في كل وقت. وكانوا يعتبرون خرق ذلك فجاراً، وكانت لهم أيام عرفت بأيام الفجار، بسبيل منع خرقها. وعقدوا فيما بينهم حلفا سمّي حلف الفضول لمنع أي ظلم في الحزم ونصر أي مظلوم فيه ٢.
وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء التابعين والأخبار في الصدر الإسلامي الأول في سياق هذه الآيات. منها ما يتصل بأوّلية الكعبة، وقد أوردناه وعلّقنا عليه في سياق تفسير سورة قريش بما يغني عن التكرار. ومنها ما يتصل بالعبارات الجديدة في الآيات. ومن ذلك أن الله أمر إبراهيم ( عليه السلام ) بعد أن أتمّ بناء البيت مع إسماعيل، أن يؤذن في الناس بالحج، فقال : ربّ وماذا أستطيع أن أبلغ ؟ فقال له عليك النداء وعليّ الإسماع، فهتف قائلا : ألا إن ربكم قد اتخذ بيتا وأمركم أن تحجّوه ؛ فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله أن يحجّ إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك وفي رواية ( ما سمعه يومئذ من إنس وجن وشجر وأكمة وتراب وجبل وماء، ولا أي شيء آخر من خلق الله إلا قال : لبيك اللهم لبيك ).
وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث المعتبرة. والأولى الوقوف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاؤه والإيمان به، مع القول : إن الروايات تؤكد ما قلناه من أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتداولون ذلك قبل الإسلام، ومع الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون لما جاء في الآيات من ذلك حكمة. لعلّ منها تذكير السامعين بما يعرفون، وبأن الله الذي يعترفون به ويقدسون بيته قد جعل هذا البيت مثابة للناس جميعا، ومطهرا من الشرك من لدن إبراهيم الذي ينتسبون إليه بالنبوة، ثم التنديد بهم لمخالفتهم ذلك وصدّهم المسلمين عنه، وخرقهم حرمته وشركهم بالله وإقامة أوثانهم عند بيته المطهر ؛ حيث تستحكم بذلك فيهم الحجة.
ولقد روى الطبري قولين في معنى ﴿ بالبيت العتيق ﴾ أحدهما إنه القديم جدا حيث ورد في آية في سورة آل عمران أنه أول بيت وضع للناس وهي ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴿ ٩٦ ﴾ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿ ٩٧ ﴾. وثانيهما : أنه بمعنى أعتقه الله من الجبابرة. وقد روى الترمذي في هذا المعنى حديثا عن عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبّار» ٣. فإذا صحّ الحديث فمن الحكمة الملموحة فيه توكيد قدسيته وعناية الله به وتحريم البغي والظلم فيه وصدّ الناس عنه، وبهذا يتسق الحديث مع مدى الآيات.
ومع أن الآيات تحكي ما أمر الله به إبراهيم، فإنها تلهم أنها تحكي كذلك ما توطّد من عادة العرب قبل الإسلام من الحجّ للكعبة في أيام معينة ومجيئهم إليها من كلّ صوب قريب وبعيد، وتجشّمهم المشاق بسبيل ذلك ومن الطواف حولها، والنذر لها وتقريب القرابين عندها، وما كان يتيسر لهم في موسمها من منافع ويقضون من حاجات. وكان من ذلك على ما روته الروايات المتواترة قيام أسواق عديدة في موسم الحج يتبادل العرب فيها سلعهم ويقضون حاجاتهم ويعقدون مجالس قضائية لحلّ المشاكل والخلافات، ويقيمون ندوات الشعر والمفاخرة الخ وكان ذلك من أسباب تطور اللغة العربية وتهذيبها وتوحيدها ووصولها إلى ذروة الفصحى التي نزل بها القرآن وغُدُوّها لغة جميع العرب إجمالا على اختلاف منازلهم. كما كان ذلك من مظاهر اتحاد العرب، أو اتحادهم في الاتجاه والتقارب بين مختلف قبائل العرب على اختلاف منازلهم أيضا في داخل الجزيرة وخارجها.
ولقد كانت تقاليد الحجّ راسخة شائعة في العرب، وكان أهل مكة خاصة يخشون الأضرار والأخطار من زوالها نتيجة للدعوة الإسلامية على ما أشير إلى ذلك في آية سورة القصص [ ٥٧ ] وما شرحناه في مناسبتها.
فكان كل هذا فيما يتبادر لنا من حكمة الله في الإبقاء على طقوس وتقاليد الحجّ في الإسلام، مهما بدا في بعضها من غرابة ومن عدم تبيين الناس حكمة لها إلا بعد تجريدها من آثار الوثنية والشرك ومشاهد القبح، مثل الطواف بالعري وجعله فرضا على المستطيعين من المسلمين ولو مرة في العمر ليكون لهم في ذلك فرصة سنوية متجدّدة، فتأتي فئات منهم في كل سنة من كل صوب من أقطار الدنيا إلى مهبط وحي الله وبيته العتيق ليعلنوا خضوعهم له على صعيد واحد، متساوين في كل مظهر وليتقرّبوا إليه بالعبادة والأضاحي والصدقات والنذور، ولينتفعوا بشتى وجوه الانتفاع الروحي، والرياضي، والاجتماعي، والاقتصادي، والشخصي، والسياحي، والتعارفي، والسياسي. ولتكون رابطة دينية متجددة تظل تربط المسلمين في كافة أنحاء الدنيا وفي كلّ ظرف ما دامت الدنيا قائمة بمهبط وحي الله ورسالته على خاتم أنبيائه ورسله كمظهر من مظاهر شكر الله واحترام البلد العربي الذي اختصّه الله بذلك.
ويتراءى لنا في الإبقاء على هذا التقليد بعد تجريده من شوائب الشرك ومشاهد القبح كالطواف في حالة العري تلقين
[ ١١ ] ليقضوا تفثهم : قيل : إنها بمعنى ليزيلو أوساخهم أو يحلقوا شعرهم ويقلموا أظفارهم ؛ وذلك حينما يتحلّلون من الإحرام وقيل إنها بمعنى ليقضوا ما عليهم من واجبات ومناسك، أو ليقضوا ما لهم من حاجات.
في هذه الآيات :
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ [ ١ ] فِيهِ وَالْبَادِ [ ٢ ] وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [ ٣ ] نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿ ٢٥ ﴾ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿ ٢٦ ﴾ وَأَذِّن فِي النَّاسِ [ ٤ ] بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً [ ٥ ] وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [ ٦ ] يَأْتِينَ [ ٧ ] مِن كُلِّ فَجٍّ [ ٨ ] عَمِيقٍ [ ٩ ] ﴿ ٢٧ ﴾ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [ ١٠ ] فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴿ ٢٨ ﴾ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [ ١١ ] وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴿ ٢٩ ﴾

١-
إشارة تنديدية إلى الكفار. فهم بالإضافة إلى كفرهم يمنعون الناس عن سبيل الله والاستجابة إلى دعوته. ويمنعونهم كذلك عن المسجد الحرام الذي جعله الله لجميع الناس على السواء المقيم منهم في جواره والقادم من الخارج.

٢-
وإنذار بالعذاب الرباني الأليم لكل من يقترف الظلم والبغي والعدوان فيه.

٣-
واستطراد تعقيبي على ذلك : فالله قد عيّن لإبراهيم مكان بيته وأمره بعدم الإشراك به، ثم بتطهير هذا المكان وتهيئه للطائفين حوله والقائمين الراكعين الساجدين عنده لله. وبدعوة الناس إلى الحجّ إليه في أيام معينة من السنة ليأتوا إليه من كلّ ناحية ودرب مهما بعد مشاة وركباناً، ويشهدوا منافع جمّة لهم في موسمه ويقرّبوا فيه القرابين من الأنعام التي رزقهم الله إياها، ذاكرين اسمه عليها، ويأكلوا منها ويطعموا البؤساء والفقراء، ويؤدّوا شعائرهم التعبدية من وفاء نذور وطواف حول البيت، ويقضوا حاجاتهم المتنوعة.
تعليقات على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ... ﴾
وما بعدها [ ٢٥-٢٩ ] مع بيان حكمة الإبقاء على تقاليد الحج
فحوى الآيات يحتمل أن تكون مكية كما يحتمل أن تكون مدنية. وفي حالة صحّة الاحتمال الأول يكون في الآيات دلالة على أن الكفار كانوا يمنعون المسلمين من أداء صلاتهم عند الكعبة والحج إليها والطواف حولها.
وقد ذكر هذا المفسّر الطبرسي في سياق تفسيرها. ولقد أشارت إحدى آيات سورة العلق إلى محاولة منع أحد الزعماء النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عندها على ما شرحناه في سياق تفسيرها كما أن بعض الروايات ذكرت محاولات الكفار في ذلك منها رواية عن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) جاء فيها أن المسلمين ما كانوا يجرأون على الصلاة عند الكعبة والطواف حولها إلا بعد إسلام عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) بسبب ضعفهم وصدّ المشركين لهم عن ذلك ١. وفي حالة صحة الاحتمال الثاني الذي انفرد المفسر ابن كثير فيه يكون في الآيات دلالة على أن المسلمين كانوا يأتون من دار هجرتهم إلى مكة بقصد أداء الحج أو العمرة، فيتصدّى لهم كفار قريش ويمنعونهم ويعتدون عليهم ويظلمونهم، وفي سورة الأنفال المدنية آية تذكر صدّ الكفار عن المسجد الحرام والادعاء بأنهم أولياؤه وهي هذه :﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿ ٣٤ ﴾ وفي سورة الفتح المدنية آية أخرى فيها نفس الدلالة وهي هذه :﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ [ ٢٥ ] إلخ. وفي هذه إشارة إلى حادث تاريخي يقيني، وهو رحلة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بقصد زيارة المسجد الحرام وتصدي المشركين لهم ومنعهم. ونحن نرجّح الاحتمال الأول على ضوء ما شرحناه من تناسب بين الآيات وسابقاتها والله أعلم.
والآيات صريحة التقرير بأن تهيئة الكعبة لعبادة الله وتطهيرها والحجّ إليها وجعلها لجميع الناس من مقيمين وغير مقيمين، وإنشاء تقاليد الحجّ متصل بإبراهيم ( عليه السلام ) بأمر الله تعالى، وهذا التقرير تكرر في آيات في سورة البقرة مضافا إليه إن الله قد جعل الكعبة وحرمها مثابة للناس وأمنا وهي هذه :﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿ ١٢٥ ﴾ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿ ١٢٦ ﴾‏ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿ ١٢٧ ﴾ ووردت إشارة ما إلى ذلك في آيات سورة إبراهيم [ ٣٥-٣٨ ] التي مرّ تفسيرها.
وورود هذه الصراحة في الآيات التي احتوت التنديد بمشركي قريش وإنذارهم بسبب صدّهم عن المجسد الحرام وظلمهم فيه وخرقهم بذلك حرمته وقدسيته، يلهم أن هؤلاء كانوا يعرفون ما جاء فيها ويتناقلون ذلك على ما شرحناه في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورتي الأعلى وإبراهيم شرحا يغني عن التكرار.
ولقد بلغ من اهتمامهم لحفظ تقاليد الحجّ وحرمة المسجد الحرام ومنطقته ومنع كل بغي وقتال وسفك دم فيها أن قدّسوا أشهر الحج وحرّموا القتال فيها، حتى الصيد داخل منطقة الحرم وخارجها، وحرّموا القتال في هذه المنطقة في كل وقت. وكانوا يعتبرون خرق ذلك فجاراً، وكانت لهم أيام عرفت بأيام الفجار، بسبيل منع خرقها. وعقدوا فيما بينهم حلفا سمّي حلف الفضول لمنع أي ظلم في الحزم ونصر أي مظلوم فيه ٢.
وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء التابعين والأخبار في الصدر الإسلامي الأول في سياق هذه الآيات. منها ما يتصل بأوّلية الكعبة، وقد أوردناه وعلّقنا عليه في سياق تفسير سورة قريش بما يغني عن التكرار. ومنها ما يتصل بالعبارات الجديدة في الآيات. ومن ذلك أن الله أمر إبراهيم ( عليه السلام ) بعد أن أتمّ بناء البيت مع إسماعيل، أن يؤذن في الناس بالحج، فقال : ربّ وماذا أستطيع أن أبلغ ؟ فقال له عليك النداء وعليّ الإسماع، فهتف قائلا : ألا إن ربكم قد اتخذ بيتا وأمركم أن تحجّوه ؛ فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله أن يحجّ إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك وفي رواية ( ما سمعه يومئذ من إنس وجن وشجر وأكمة وتراب وجبل وماء، ولا أي شيء آخر من خلق الله إلا قال : لبيك اللهم لبيك ).
وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث المعتبرة. والأولى الوقوف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاؤه والإيمان به، مع القول : إن الروايات تؤكد ما قلناه من أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتداولون ذلك قبل الإسلام، ومع الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون لما جاء في الآيات من ذلك حكمة. لعلّ منها تذكير السامعين بما يعرفون، وبأن الله الذي يعترفون به ويقدسون بيته قد جعل هذا البيت مثابة للناس جميعا، ومطهرا من الشرك من لدن إبراهيم الذي ينتسبون إليه بالنبوة، ثم التنديد بهم لمخالفتهم ذلك وصدّهم المسلمين عنه، وخرقهم حرمته وشركهم بالله وإقامة أوثانهم عند بيته المطهر ؛ حيث تستحكم بذلك فيهم الحجة.
ولقد روى الطبري قولين في معنى ﴿ بالبيت العتيق ﴾ أحدهما إنه القديم جدا حيث ورد في آية في سورة آل عمران أنه أول بيت وضع للناس وهي ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴿ ٩٦ ﴾ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿ ٩٧ ﴾. وثانيهما : أنه بمعنى أعتقه الله من الجبابرة. وقد روى الترمذي في هذا المعنى حديثا عن عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبّار» ٣. فإذا صحّ الحديث فمن الحكمة الملموحة فيه توكيد قدسيته وعناية الله به وتحريم البغي والظلم فيه وصدّ الناس عنه، وبهذا يتسق الحديث مع مدى الآيات.
ومع أن الآيات تحكي ما أمر الله به إبراهيم، فإنها تلهم أنها تحكي كذلك ما توطّد من عادة العرب قبل الإسلام من الحجّ للكعبة في أيام معينة ومجيئهم إليها من كلّ صوب قريب وبعيد، وتجشّمهم المشاق بسبيل ذلك ومن الطواف حولها، والنذر لها وتقريب القرابين عندها، وما كان يتيسر لهم في موسمها من منافع ويقضون من حاجات. وكان من ذلك على ما روته الروايات المتواترة قيام أسواق عديدة في موسم الحج يتبادل العرب فيها سلعهم ويقضون حاجاتهم ويعقدون مجالس قضائية لحلّ المشاكل والخلافات، ويقيمون ندوات الشعر والمفاخرة الخ وكان ذلك من أسباب تطور اللغة العربية وتهذيبها وتوحيدها ووصولها إلى ذروة الفصحى التي نزل بها القرآن وغُدُوّها لغة جميع العرب إجمالا على اختلاف منازلهم. كما كان ذلك من مظاهر اتحاد العرب، أو اتحادهم في الاتجاه والتقارب بين مختلف قبائل العرب على اختلاف منازلهم أيضا في داخل الجزيرة وخارجها.
ولقد كانت تقاليد الحجّ راسخة شائعة في العرب، وكان أهل مكة خاصة يخشون الأضرار والأخطار من زوالها نتيجة للدعوة الإسلامية على ما أشير إلى ذلك في آية سورة القصص [ ٥٧ ] وما شرحناه في مناسبتها.
فكان كل هذا فيما يتبادر لنا من حكمة الله في الإبقاء على طقوس وتقاليد الحجّ في الإسلام، مهما بدا في بعضها من غرابة ومن عدم تبيين الناس حكمة لها إلا بعد تجريدها من آثار الوثنية والشرك ومشاهد القبح، مثل الطواف بالعري وجعله فرضا على المستطيعين من المسلمين ولو مرة في العمر ليكون لهم في ذلك فرصة سنوية متجدّدة، فتأتي فئات منهم في كل سنة من كل صوب من أقطار الدنيا إلى مهبط وحي الله وبيته العتيق ليعلنوا خضوعهم له على صعيد واحد، متساوين في كل مظهر وليتقرّبوا إليه بالعبادة والأضاحي والصدقات والنذور، ولينتفعوا بشتى وجوه الانتفاع الروحي، والرياضي، والاجتماعي، والاقتصادي، والشخصي، والسياحي، والتعارفي، والسياسي. ولتكون رابطة دينية متجددة تظل تربط المسلمين في كافة أنحاء الدنيا وفي كلّ ظرف ما دامت الدنيا قائمة بمهبط وحي الله ورسالته على خاتم أنبيائه ورسله كمظهر من مظاهر شكر الله واحترام البلد العربي الذي اختصّه الله بذلك.
ويتراءى لنا في الإبقاء على هذا التقليد بعد تجريده من شوائب الشرك ومشاهد القبح كالطواف في حالة العري تلقين
تعليق على موضوع النذر
وبمناسبة الإشارة إلى وفاء الحجاج بنذورهم في الآية الأخيرة من هذه الآيات نقول : إن النذر عهد يقطعه الإنسان على نفسه بتقديم قربان ما للمعبود، أو فعل فعل ما يظن أنه يرضى به المعبود تقرّبا إليه واسترضاء له ورغبة في قضاء مطلب من دفع شر وضر وخطر أو جلب خير ونفع، أو تعبيرا عن الشكر إذا تحقق له مثل هذا الطلب. وقد اعتاد البشر ذلك منذ أقدم الأزمنة وعلى اختلاف بيئاتهم وعقائدهم. والآية التي نحن في صددها تدلّ على أن العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره لم يخرجوا عن ذلك. وفي الكتب العربية روايات كثيرة تفيد هذا بالنسبة للعرب في غير بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره كما كان شأن سائر البشر. وليست هذه الآية أولى الآيات التي ذكر فيها النذر، ففي سورة مريم آية فيها حكاية قول عيسى ( عليه السلام ) لأمه عقب ولادته وحينما خافت من عاقبة هذه الولادة وهي ﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً { ٢٦ ﴾ }. وقد رأينا أن التعليق على هذا الموضوع في مناسبة آية سورة الحج أكثر ملاءمة ؛ لأن الآية قد تفيد أنها بسبيل حكاية ما كان يفعله العرب ثم المسلمون بعد البعثة من وفاء نذورهم.
وفي القرآن آيات أخرى منها ما هو حكاية عن أم مريم قبل الإسلام وهي آية سورة آل عمران هذه :﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { ٣٥ ﴾ } وفي هذه الآية، كما في آية مريم بيان لمدى النذر في نطاق ما قلناه. ومنها ما فيه ثناء على الأبرار الذين يوفون بالنذر. ويمكن أن يكون شاملا للمؤمنين المخلصين قبل البعثة النبوية وبعدها، وهي آية سورة الإنسان هذه ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً { ٧ ﴾ }، ومنها ما ينطوي فيه إقرار للنذر في الإسلام وإيجاب للوفاء به ووعد بالثواب عليه، وهي آية سورة البقرة هذه :﴿ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ { ٢٧٠ ﴾ }.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة في النذر وردت في كتب الأحاديث الصحيحة١، فيها دلالة على شيوع النذر عند العرب، وتشريع لما سكت عنه القرآن في موضوعه، ولا يجزئ إيراد بعضها لأن فيها صورا متنوعة وتشريعات وتلقينات متنوعة تبعا لها فرأينا إيرادها كلها على كثرتها :
١- عن ابن عمر قال :«نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر، وقال : إنه لا يردّ شيئا ولكنه يُستخرج به من البخيل ».
٢- عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن النذر لا يقرّب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدّره له، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج ». روى الحديثين البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي.
٣- عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه » رواه الخمسة إلا مسلما.
٤- عن عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«خيركم قرني ثم الذين يلونهم، لا أدري ذكر اثنين أو ثلاثة بعد قرنه ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السِّمن » رواه البخاري والنسائي.
٥- جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال : يا رسول الله :«إني نذرت لله إن فتح عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال : صلّ ههنا ثم أعاد عليه فقال : صلّ ههنا ثم أعاد عليه فقال : شأنك إذا، وزاد في رواية والذي بعث محمدا بالحق لو صلّيت ههنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس ». رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه.
٦- وأتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدّف قال : أوفي بنذرك. قالت : إني نذرت أن أنحر بمكان كذا وكذا قال : لصنم قالت : لا، قال : لوثن قالت : لا، قال أوفي بنذرك. رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح.
٧- عن ابن عباس قال : استفتى سعد بن عبادة رسول الله في نذر كان على أمه توفيت قبل قضائه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فاقضه عنها » رواه الخمسة.
٨- وعنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :«إن أختي نذرت أن تحجّ وقد ماتت فقال النبي : لو كان عليها دين أكنت قاضيه، قال : نعم، قال : فاقض الله فهو أحق بالقضاء ». رواه البخاري والنسائي.
٩- وعنه أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن نجّاها الله أن تصوم شهرا فنجّاها الله، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت ابنتها أو أختها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تصوم عنها. رواه أبو داود والنسائي.
١٠- وعنه «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم مُرْهُ فليتكلّم وليستظل وليقعد وليتم صومه. رواه الخمسة.
١١- عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك شيخا يمشي بين ابنيه يتوكّأ عليهما فسأل ما شأنه قال ابنها : يا رسول الله كان عليه نذر المشي إلى بيت الله فقال : اركب أيها الشيخ فإن الله غني عنك وعن نذرك. رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
١٢- عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله يقول : لا يمين عليك ولا نذر في معصية الربّ ولا قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك. رواه أبو داود والنسائي.
١٣- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من نذر نذرا لم يسمّه فكفّارته كفّارة يمين، ومن نذر نذرا في معصية فكفّارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفّارته كفارة يمين ومن نذر نذرا أطاقه فليف به. رواه أبو داود.
١٤- عن كعب بن مالك قال : إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال النبي : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وفي رواية أنه قال له يجزي عنك الثلث ٢.
١٥- عن عمر بن الخطاب قال : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك فاعتكف ليلة. رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبو داود ٣. وقد روي أن امرأة بدوية جاءت في صدر الإسلام إلى المدينة تذكر أنها نذرت نحر ابنها عند الكعبة إن هي فعلت أمرا ففعلته وتستفتي في وفاء نذرها فقيل لها : إن الله قد حرّم ذلك وإنّ عليها أن تقدّم فدية كما فعل عبد المطلب جدّ النبي صلى الله عليه وسلم ٤.
وفي كل حديث من الأحاديث النبوية كما قلنا تشريع وتلقين وحكمة، ولا تعارض فيها. فلا ينبغي أن يعتقد المسلم أن للنذر تأثيرا في ما يصيبه وما لا يصيبه. ومع ذلك فإذا نذر المسلم أن يؤدي لله عبادة أو يفعل خيرا إذا تحقق له مطلب أو أراد أن يشكر الله على تحقيق مطلب له أو أراد أن يتقرّب إلى الله فهو عهد يجب الوفاء به على أن لا يكون في معصية أو فيه مشقة وعناء وتزمّت وغرابة.
١ انظر التاج ٣/٧٣-٧٨.
٢ كعب هو أحد الثلاثة الذين تخلفوا بدون عذر عن غزوة تبوك وتاب الله عليهم في آية سورة التوبة هذه ﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {١١٨﴾}.
٣ هذا الحديث في الجزء الثاني من التاج ص ٩٦.
٤ تاريخ العرب قبل الإسلام ٥/٢٠٠.
[ ١ ] حرمات الله : قيل إنها ما حرّم الله هتكه ونقضه بصورة عامة. وقيل : إنها المحرّمات المتصلة بتقاليد الحجّ وهي : المسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والصيد في الحرم، والأشهر الحرم، والهدي الذي يهديه الحجّاج من الأنعام قربانا لله. وكلا القولين وجيه، ونحن نرجّح القول الأول ؛ لأننا نراه يتسق أكثر مع روح الآيات.
ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ [ ١ ] فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴿ ٣٠ ﴾‏ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴿ ٣١ ﴾

في هاتين الآيتين :


١-
تعقيب على الآيات السابقة : ففي ذلك الكلام السابق بيان كاف عن حرمات الله ووجوب تعظيمها والوقوف عندها. ومن يفعل ذلك فإنه يضمن لنفسه الخير عند ربه.

٢-
واستدراك وجه الخطاب فيه للمؤمنين بخاصة، بأن الله قد أحلّ لهم أكل الأنعام باستثناء ما نهوا عنه من ذلك في القرآن.

٣-
وتحذير وأمر للمؤمنين بخاصة باجتناب الأوثان الرجسة واجتناب قول الزور والإفك، وبأن يكون اتجاههم إلى الله وحده غير مشركين به شيئا، إن مثل من يشرك به كمثل من تردّى من علوّ شاهق حيث يتحطم وتتمزّق أشلاؤه فتتخاطفها الطيور، أو تطوّح به الريح إلى المهاوي السحيقة.
والآيتان متصلتان كما هو واضح بسابقاتهما سياقا وموضوعا. وما قلناه من احتمال كون الآيات السابقة لهما مكية أو مدنية ينسحب عليهما أيضا لأنها سلسلة واحدة.
والمتبادر أن تعبير ﴿ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ يعني إلا ما ذكر تحريمه من قبل في القرآن. وقد ذكر في سورتي الأنعام والنحل تحريم أكل الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها والميتة ولحم الخنزير والدم المسفوح.
وقد قال المفسرون ١ في صدد تعبير ﴿ قَوْلَ الزُّورِ ﴾ : إن المشركين كانوا يقولون هذه الصيغة في تلبيتهم بالحج ( لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك )، وأن التحذير متّصل بذلك. وورود التعبير في سياق النهي عن الشرك والأوثان وذكر تقاليد الحج قد يدل على أنه في صدد التحذير من شيء مثل هذا إن لم يكن هو نفسه. ولا سيما أن الصيغة متّسقة مع ما حكاه القرآن عن عقيدتهم بالله واعتبارهم الشركاء وبتعبير آخر اعتبارهم شركاءهم ملكا لله وخاضعين له. ولقد صارت التلبية التي كانت شركية قبل الإسلام التي ذكرناها قبل في الإسلام خالصة لله عز وجل ( لبيك اللهم. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ).
تعليق على الأمر باجتناب قول الزور
على أن بعض المفسرين ٢ أخذوا الأمر باجتناب قول الزور على عموميته، ونبّهوا على عظم الإثم الذي ينطوي في قول الزور، وشهادة الزور، وأوردوا في صدد ذلك، وفي سياق هذه الآية أحاديث نبوية منها حديث قال راويه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبا فقال :«أيها الناس عدلت شهادة الزور بالشرك مرتين ثم قرأ ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾». ومنها حديث ورد في الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله، قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال : ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور فما زال يكرّرها حتى قلنا ليته سكت»٣.
وبعض الذين نقلوا هذا من المفسرين من قال : إن جملة ﴿ قول الزور ﴾ هي صيغة تلبية المشركين المذكورة آنفا.
ومهما يكن من أمر فإن الإطلاق في عبارة الأمر يجعل عمومية الأمر باجتناب قول الزور وجيهة، حتى ولو صحّ أن الجملة من الوجهة الزمنية ومقام ورودها قد عنت تلك الصيغة، ويوجب على المسلم أن يتجنب الزور وقول الزور وشهادة الزور في كل ظرف ومكان لما في ذلك من عظيم البغي والضرر والشرّ، حتى استحقّ وصف الرسول الأعظم له بأنه من أكبر الكبائر وبأنه يعدل الشرك.
استدلال على ممارسة المسلمين الحجّ
قبل فتح مكة
والمتبادر من الأمر باجتناب الأوثان في هذا المقام أنه يقصد اجتناب الأوثان التي كانت في فناء الكعبة والصفا والمروة، والتي كان المشركون يقومون بطقوسهم ويقرّبون قرابينهم عندها على ما تواترت فيه الروايات٤. وإذا صح ذلك فإن الآيات تلهم أنه كان يتسنى لبعض المسلمين أن يمارسوا مناسك الحج، فاقتضت حكمة التنزيل تنبيههم إلى وجوب اجتناب الأوثان في أثناء ذلك، وجعل حجّهم خالصا لله مجردا من شوائب الشرك ومظاهره مطلقا. وإذا صحّ احتمال كون الآيات مدنية فمعنى ذلك أن بعض المسلمين كانوا يفدون إلى مكة، ويتسنى لهم دخولها في أثناء موسم الحجّ.
دلالة تعبير حنفاء لله في هذا المقام
وورود تعبير ﴿ حنفاء لله ﴾ في هذه المناسبة قرينة قد تكون حاسمة على أن تعبيري ﴿ حنيف ﴾ و﴿ حنفاء ﴾ ليست كما وهم المستشرقون بمعنى نحلة معينة خاصة قبل البعثة على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس، وإنما هما تعبيران لغويان بمعنى الميل عن الشرك والوثنية إلى الله ؛ لأن ﴿ حنفاء ﴾ هنا أطلقت على المسلمين أو حثتهم على التمسك بكل مظاهر التوحيد وعدم الانحراف عنها إلى أي مظهر من مظاهر الشرك.
ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ [ ١ ] فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴿ ٣٠ ﴾‏ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴿ ٣١ ﴾

في هاتين الآيتين :


١-
تعقيب على الآيات السابقة : ففي ذلك الكلام السابق بيان كاف عن حرمات الله ووجوب تعظيمها والوقوف عندها. ومن يفعل ذلك فإنه يضمن لنفسه الخير عند ربه.

٢-
واستدراك وجه الخطاب فيه للمؤمنين بخاصة، بأن الله قد أحلّ لهم أكل الأنعام باستثناء ما نهوا عنه من ذلك في القرآن.

٣-
وتحذير وأمر للمؤمنين بخاصة باجتناب الأوثان الرجسة واجتناب قول الزور والإفك، وبأن يكون اتجاههم إلى الله وحده غير مشركين به شيئا، إن مثل من يشرك به كمثل من تردّى من علوّ شاهق حيث يتحطم وتتمزّق أشلاؤه فتتخاطفها الطيور، أو تطوّح به الريح إلى المهاوي السحيقة.
والآيتان متصلتان كما هو واضح بسابقاتهما سياقا وموضوعا. وما قلناه من احتمال كون الآيات السابقة لهما مكية أو مدنية ينسحب عليهما أيضا لأنها سلسلة واحدة.
والمتبادر أن تعبير ﴿ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ يعني إلا ما ذكر تحريمه من قبل في القرآن. وقد ذكر في سورتي الأنعام والنحل تحريم أكل الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها والميتة ولحم الخنزير والدم المسفوح.
وقد قال المفسرون ١ في صدد تعبير ﴿ قَوْلَ الزُّورِ ﴾ : إن المشركين كانوا يقولون هذه الصيغة في تلبيتهم بالحج ( لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك )، وأن التحذير متّصل بذلك. وورود التعبير في سياق النهي عن الشرك والأوثان وذكر تقاليد الحج قد يدل على أنه في صدد التحذير من شيء مثل هذا إن لم يكن هو نفسه. ولا سيما أن الصيغة متّسقة مع ما حكاه القرآن عن عقيدتهم بالله واعتبارهم الشركاء وبتعبير آخر اعتبارهم شركاءهم ملكا لله وخاضعين له. ولقد صارت التلبية التي كانت شركية قبل الإسلام التي ذكرناها قبل في الإسلام خالصة لله عز وجل ( لبيك اللهم. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ).
تعليق على الأمر باجتناب قول الزور
على أن بعض المفسرين ٢ أخذوا الأمر باجتناب قول الزور على عموميته، ونبّهوا على عظم الإثم الذي ينطوي في قول الزور، وشهادة الزور، وأوردوا في صدد ذلك، وفي سياق هذه الآية أحاديث نبوية منها حديث قال راويه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبا فقال :«أيها الناس عدلت شهادة الزور بالشرك مرتين ثم قرأ ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾». ومنها حديث ورد في الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله، قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال : ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور فما زال يكرّرها حتى قلنا ليته سكت»٣.
وبعض الذين نقلوا هذا من المفسرين من قال : إن جملة ﴿ قول الزور ﴾ هي صيغة تلبية المشركين المذكورة آنفا.
ومهما يكن من أمر فإن الإطلاق في عبارة الأمر يجعل عمومية الأمر باجتناب قول الزور وجيهة، حتى ولو صحّ أن الجملة من الوجهة الزمنية ومقام ورودها قد عنت تلك الصيغة، ويوجب على المسلم أن يتجنب الزور وقول الزور وشهادة الزور في كل ظرف ومكان لما في ذلك من عظيم البغي والضرر والشرّ، حتى استحقّ وصف الرسول الأعظم له بأنه من أكبر الكبائر وبأنه يعدل الشرك.
استدلال على ممارسة المسلمين الحجّ
قبل فتح مكة
والمتبادر من الأمر باجتناب الأوثان في هذا المقام أنه يقصد اجتناب الأوثان التي كانت في فناء الكعبة والصفا والمروة، والتي كان المشركون يقومون بطقوسهم ويقرّبون قرابينهم عندها على ما تواترت فيه الروايات٤. وإذا صح ذلك فإن الآيات تلهم أنه كان يتسنى لبعض المسلمين أن يمارسوا مناسك الحج، فاقتضت حكمة التنزيل تنبيههم إلى وجوب اجتناب الأوثان في أثناء ذلك، وجعل حجّهم خالصا لله مجردا من شوائب الشرك ومظاهره مطلقا. وإذا صحّ احتمال كون الآيات مدنية فمعنى ذلك أن بعض المسلمين كانوا يفدون إلى مكة، ويتسنى لهم دخولها في أثناء موسم الحجّ.
دلالة تعبير حنفاء لله في هذا المقام
وورود تعبير ﴿ حنفاء لله ﴾ في هذه المناسبة قرينة قد تكون حاسمة على أن تعبيري ﴿ حنيف ﴾ و﴿ حنفاء ﴾ ليست كما وهم المستشرقون بمعنى نحلة معينة خاصة قبل البعثة على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس، وإنما هما تعبيران لغويان بمعنى الميل عن الشرك والوثنية إلى الله ؛ لأن ﴿ حنفاء ﴾ هنا أطلقت على المسلمين أو حثتهم على التمسك بكل مظاهر التوحيد وعدم الانحراف عنها إلى أي مظهر من مظاهر الشرك.
ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴿ ٣٢ ﴾ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا [ ١ ] إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴿ ٣٣ ﴾
قال المفسرون ١ في صدد كلمة ﴿ شعائر ﴾ استنادا إلى الروايات واستلهاما من القرينة التي احتوتها الآية الثانية : إن العرب كانوا يجرحون بهيمة الأنعام التي يسوقونها هديا إلى الحج لتكون قربانا جرحا خفيفا، فيسيل دمها، ويكون ذلك علامة على أنها قد خصصت قربانا فيتحاشاها الناس. وإنهم كانوا يسمّون هذه العملية ( إشعاراً ) و( شعيرة ) ويسمّون الأنعام المعلّمة بهذه العلامة ( شعائر ). ورووا عن أصحاب رسول الله وتابعيهم في تأويل ﴿ ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ﴾ أن تعظيمها هو استسمانها واختيار الصالح السليم دون الهزيل والمشوّه٢. ورووا في هذا المعنى أحاديث عديدة، ففي تفسير ابن كثير رواية البخاري عن أبي أمامة قال :«كنا نسمّن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمّنون ». وحديث رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن علي ( رضي الله عنه ) قال :«أمرنا رسول الله أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء »٣. وحديث رواه الأئمة أنفسهم جاء فيه «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضحي بأعضب القرنين أو الأذن » ٤. وحديث رواه الأئمة أنفسهم عن البراء قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يجوز في الأضاحي العوراء البيّن عورُها والمريضة البيّن مرضها والعرجاء البيّن عرجها والكسيرة التي لا تتقى ». ومع ذلك فإن البغوي قال :«وقيل : إن شعائر الله هي أعلام دينه بصورة عامة ». ومع أن هناك آيات مؤيدة لهذا القول مثل آية سورة البقرة هذه :﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ { ١٥٨ ﴾ }، وآية سورة المائدة هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ { ٢ ﴾ }، فإن الآية التي تأتي بعد الجملة تجعل التأويل الأول هو الأوجه في مقامها. ولقد روى المفسرون في تأويل ﴿ لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ﴾ أن في الجملة إباحة للانتفاع من الأنعام المعدّة للتضحية في المدة التي تنقضي بين إشعارها ونحرها، مثل شرب حليبها وجز صوفها ووبرها وتحميلها وركوبها والاحتفاظ بما تلده. ورووا في تأويل جملة ﴿ محلّها إلى البيت العتيق ﴾ أن في الجملة تعيين المكان الذي يحلّ أن تنحر فيه الشعائر، وهو الكعبة أو منطقتها أو فناؤها وفي هذه التأويلات السداد والصواب.
والآيتان متصلتان بالسياق والموضوع كما هو واضح. واحتمال مكيتهما ومدنيتهما واردان تبعاً لورودهما في سياق واحد مع الآيات السابقة التي تحتمل ذلك كما هو المتبادر.
١ انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير.
٢ انظر الطبري وابن كثير والبغوي وغيرهم.
٣ المقابلة التي قطع مقدم أذنها، والمدابرة التي قطع مؤخر أذنها، والشرقاء التي قطعت أذنها طولا، والخرقاء المخروقة الأذن.
٤ الأعضب: المكسور.
[ ١ ] محلّها : المكان الذي يحل فيه نحرها وهو الكعبة التي عبر عنها بتعبير ﴿ البيت العتيق ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٢:ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴿ ٣٢ ﴾ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا [ ١ ] إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴿ ٣٣ ﴾
قال المفسرون ١ في صدد كلمة ﴿ شعائر ﴾ استنادا إلى الروايات واستلهاما من القرينة التي احتوتها الآية الثانية : إن العرب كانوا يجرحون بهيمة الأنعام التي يسوقونها هديا إلى الحج لتكون قربانا جرحا خفيفا، فيسيل دمها، ويكون ذلك علامة على أنها قد خصصت قربانا فيتحاشاها الناس. وإنهم كانوا يسمّون هذه العملية ( إشعاراً ) و( شعيرة ) ويسمّون الأنعام المعلّمة بهذه العلامة ( شعائر ). ورووا عن أصحاب رسول الله وتابعيهم في تأويل ﴿ ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ﴾ أن تعظيمها هو استسمانها واختيار الصالح السليم دون الهزيل والمشوّه٢. ورووا في هذا المعنى أحاديث عديدة، ففي تفسير ابن كثير رواية البخاري عن أبي أمامة قال :«كنا نسمّن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمّنون ». وحديث رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن علي ( رضي الله عنه ) قال :«أمرنا رسول الله أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء »٣. وحديث رواه الأئمة أنفسهم جاء فيه «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضحي بأعضب القرنين أو الأذن » ٤. وحديث رواه الأئمة أنفسهم عن البراء قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يجوز في الأضاحي العوراء البيّن عورُها والمريضة البيّن مرضها والعرجاء البيّن عرجها والكسيرة التي لا تتقى ». ومع ذلك فإن البغوي قال :«وقيل : إن شعائر الله هي أعلام دينه بصورة عامة ». ومع أن هناك آيات مؤيدة لهذا القول مثل آية سورة البقرة هذه :﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴿ ١٥٨ ﴾، وآية سورة المائدة هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿ ٢ ﴾، فإن الآية التي تأتي بعد الجملة تجعل التأويل الأول هو الأوجه في مقامها. ولقد روى المفسرون في تأويل ﴿ لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ﴾ أن في الجملة إباحة للانتفاع من الأنعام المعدّة للتضحية في المدة التي تنقضي بين إشعارها ونحرها، مثل شرب حليبها وجز صوفها ووبرها وتحميلها وركوبها والاحتفاظ بما تلده. ورووا في تأويل جملة ﴿ محلّها إلى البيت العتيق ﴾ أن في الجملة تعيين المكان الذي يحلّ أن تنحر فيه الشعائر، وهو الكعبة أو منطقتها أو فناؤها وفي هذه التأويلات السداد والصواب.
والآيتان متصلتان بالسياق والموضوع كما هو واضح. واحتمال مكيتهما ومدنيتهما واردان تبعاً لورودهما في سياق واحد مع الآيات السابقة التي تحتمل ذلك كما هو المتبادر.
١ انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير.
٢ انظر الطبري وابن كثير والبغوي وغيرهم.
٣ المقابلة التي قطع مقدم أذنها، والمدابرة التي قطع مؤخر أذنها، والشرقاء التي قطعت أذنها طولا، والخرقاء المخروقة الأذن.
٤ الأعضب: المكسور.

[ ١ ] منسك : على وزن مفعل بمعنى محلّ نسك أو واجب نسك. ومن معاني النسك في اللغة القربان. وقد ورد بهذا المعنى في آية سورة البقرة هذه :﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾[ ١٩٦ ].
[ ٢ ] المخبتين : المتواضعين أو الخاشعين أو الخاضعين. وقيل : إنها بمعنى المطمئن أيضا والمعاني الأولى أوجه ويؤيدها آية سورة هود هذه :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ { ٢٣ ﴾ }.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً [ ١ ] لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [ ٢ ] ﴿ ٣٤ ﴾ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿ ٣٥ ﴾

وفي هاتين الآيتين :


١-
تنبيه على أن الله تعالى قد أوجب على كل أمة واجبات في صدد ذبح القرابين أمكنة وأشكالا، ليذكروا اسمه عند ذبح الأنعام شكرا له على تسخيرها لهم.

٢-
وتعقيب على هذا التنبيه : فإن إله الناس جميعا هو واحد لا يصحّ عليه التعدد، وإن من واجبهم الإسلام والإخلاص والخضوع له.

٣-
وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتبشير المخلصين الخاضعين الذين إذا ذكروا الله استشعرت قلوبهم هيبته، وإذا ما أصابتهم مصيبة صبروا وتحمّلوا، والذين يواظبون على إقامة الصلاة له والإنفاق مما رزقهم.
والآيتان استمرار في السياق والموضوع أيضا كما هو واضح. ويبدو أنهما استهدفتا بيان كون ما أوجبه الله في الآيات السابقة من حدود وواجبات ليس بدعا وإنما هو سنة سنّها الله لكل أمة وأوجبها عليهم. وإن هذا متّسق مع بديهة وحدة الله وعدم تعدده. واستهدفنا كذلك الحثّ على التزامها وممارستها خالصة لوجهه. والتنويه بالمؤمنين الصالحين الخاضعين له الملتزمين لحدوده المعظمين لحرماته القائمين بواجباتهم نحوه المنفذين أوامره بالإنفاق مما رزقهم.
ولعل سؤالا أورد على النبي صلى الله عليه وسلم بتعلّق بالقرابين فرعيا أو أصليا، فاقتضت الحكمة تنزيل الآيتين في سياق متصل بالقرابين.
واحتمالا مدنية الآيتين ومكيتهما أيضا واردان لأنهما والآيات السابقة سلسلة واحدة في موضوع واحد.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً [ ١ ] لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [ ٢ ] ﴿ ٣٤ ﴾ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿ ٣٥ ﴾

وفي هاتين الآيتين :


١-
تنبيه على أن الله تعالى قد أوجب على كل أمة واجبات في صدد ذبح القرابين أمكنة وأشكالا، ليذكروا اسمه عند ذبح الأنعام شكرا له على تسخيرها لهم.

٢-
وتعقيب على هذا التنبيه : فإن إله الناس جميعا هو واحد لا يصحّ عليه التعدد، وإن من واجبهم الإسلام والإخلاص والخضوع له.

٣-
وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتبشير المخلصين الخاضعين الذين إذا ذكروا الله استشعرت قلوبهم هيبته، وإذا ما أصابتهم مصيبة صبروا وتحمّلوا، والذين يواظبون على إقامة الصلاة له والإنفاق مما رزقهم.
والآيتان استمرار في السياق والموضوع أيضا كما هو واضح. ويبدو أنهما استهدفتا بيان كون ما أوجبه الله في الآيات السابقة من حدود وواجبات ليس بدعا وإنما هو سنة سنّها الله لكل أمة وأوجبها عليهم. وإن هذا متّسق مع بديهة وحدة الله وعدم تعدده. واستهدفنا كذلك الحثّ على التزامها وممارستها خالصة لوجهه. والتنويه بالمؤمنين الصالحين الخاضعين له الملتزمين لحدوده المعظمين لحرماته القائمين بواجباتهم نحوه المنفذين أوامره بالإنفاق مما رزقهم.
ولعل سؤالا أورد على النبي صلى الله عليه وسلم بتعلّق بالقرابين فرعيا أو أصليا، فاقتضت الحكمة تنزيل الآيتين في سياق متصل بالقرابين.
واحتمالا مدنية الآيتين ومكيتهما أيضا واردان لأنهما والآيات السابقة سلسلة واحدة في موضوع واحد.
[ ١ ] البُدن : جمع بَدنة. وهي الإبل والبقر من الأنعام التي تقرّب قربانا وسمّيت كذلك لعظم جثتها أو بدنها.
[ ٢ ] صوافّ : صافات أقدامهن وأيديهن، أي واقفات وقرئت صوافن بمعنى عقل إحدى يديها وإبقائها قائمة على اليد الثانية والرجلين. وقرئت صوافي بمعنى صافية خالصة لله تعالى.
[ ٣ ] وجبت : سقطت أو انطرحت أو سكنت أنفاسها، أو بمعنى ماتت بعد الذبح.
[ ٤ ] القانع : المحتاج المتعفف عن الطلب.
[ ٥ ] المعترّ : المحتاج الذي يطلب.
وَالْبُدْنَ [ ١ ] جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [ ٢ ] فَإِذَا وَجَبَتْ [ ٣ ] جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ [ ٤ ] وَالْمُعْتَرَّ [ ٥ ] كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٣٦ ﴾ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ٣٧ ﴾

في الآية الأولى :


١-
تنبيه موجّه للمسلمين على أن الله تعالى قد جعل الإبل والبقر المسمّاة بالبدن مما يصحّ أن تكون شعائر له، أي أن تعلم بالدم وتنذر لتكون قرابين له، وأن لهم فيها خيرا وبركة.

٢-
وبيان بكيفية ذبحها والتصرف فيها ؛ حيث تنحر وهي صافة أي قائمة مع ذكر اسم الله. وحينما تنطرح على الأرض يتمّ ذبحها ثم توزع لحومها فيأكل منها صاحبها ويطعم المحتاجين سواء منهم المتعفف أو السائل.

٣-
وتنبيه على أن الله إنما سخّرها لهم وأحلّها على هذا الوجه ليشعروا بفضله ورحمته ويشكروه عليهما.

وفي الآية الثانية :


١-
تنبيه على أن الله تعالى، وهو يوجب عليهم واجب القربان له، إنما يتوخى آثاره في قلوبهم وحملهم على التزام حدوده وأوامره. وأنه لا ينتفع بلحوم القرابين ولا بدمائها، وأنه إنما سخّرها لهم وبيّن لهم تلك الحدود والواجبات في شأنها ليشكروه ويعظموه على هدايتهم وإرشادهم إلى ما هو الأقوم.

٢-
وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتبشير الذين يحسنون أداء الواجبات المفروضة عليهم ويتحرون أحسن الطرق لأدائها.
والآيتان كذلك استمرار في السياق والموضوع، واحتمالا مكيتهما ومدنيتهما واردان لأنهما من السلسلة.
وروحهما تلهم أنهما احتوتا حثا على تخصيص البقر والإبل بالتعليم بالدم وعلى تفضيلهما، ولعلّ العرب كانوا يعلّمون الغنم بالدم أيضا فنبّه المسلمين إلى ما هو الأفضل والأنفع.
وقد قال المفسرون : إن العرب لم يكونوا يأكلون من لحم البدن التي يقربونها فأحلّت جملة ﴿ فكلوا منها ﴾ ذلك للمسلمين كما قالوا مثل هذا في المناسبة السابقة وهو وجيه. ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن الأمر بالأكل هو على سبيل الرخصة والإباحة وحسب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على خطورة أمر القوانين
قبل الإسلام وحكمة الإبقاء عيها
هذا، وتكرر الكلام حول القرابين بالصورة التي ورد بها، يلهم أنه كان لها في موسم الحجّ قبل البعثة خطورة عظمى، لعلّ من أهمها ما كان من انتفاع جماهير العرب الفقراء المحرومين من لحومها وجلودها. ومن هنا نلحظ حكمة إبقاء هذه العادة في الإسلام مع تنقيتها من مظاهر الشرك ذبحا ومكانا، ومع التخفيف في أمر التصرّف بلحومها والانتفاع بها، وتوسيع دائرة هذا الانتفاع حتى شمل أصحاب القرابين والفقراء والمحتاجين سواء منهم المتعففون والسائلون، وهذا كله متّسق مع أسلوب التشريع القرآني الذي له علاقة بالتقاليد السابقة بوجه عام. ولقد جاء في سورة المائدة هذه :﴿ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ﴾ [ ٩٧ ]. والهدي والقلائد هي ما كان يقدم من الأنعام قرابين لله في موسم الحج. وقد سلكت الآية ذلك في عداد البيت الحرام والشهر الحرام ونوّهت بما كان في كل ذلك من أسباب حياة الناس.
هذا، وهناك بيانات ومأثورات في صدد مناسك الحجّ المختلفة، رأينا أن نؤجّل إيرادها وشرحها إلى مناسبة أكثر ملاءمة، وهي آيات سورة البقرة التي فيها تشريع الحجّ ومناسكه.

وَالْبُدْنَ [ ١ ] جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [ ٢ ] فَإِذَا وَجَبَتْ [ ٣ ] جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ [ ٤ ] وَالْمُعْتَرَّ [ ٥ ] كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٣٦ ﴾ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ٣٧ ﴾

في الآية الأولى :


١-
تنبيه موجّه للمسلمين على أن الله تعالى قد جعل الإبل والبقر المسمّاة بالبدن مما يصحّ أن تكون شعائر له، أي أن تعلم بالدم وتنذر لتكون قرابين له، وأن لهم فيها خيرا وبركة.

٢-
وبيان بكيفية ذبحها والتصرف فيها ؛ حيث تنحر وهي صافة أي قائمة مع ذكر اسم الله. وحينما تنطرح على الأرض يتمّ ذبحها ثم توزع لحومها فيأكل منها صاحبها ويطعم المحتاجين سواء منهم المتعفف أو السائل.

٣-
وتنبيه على أن الله إنما سخّرها لهم وأحلّها على هذا الوجه ليشعروا بفضله ورحمته ويشكروه عليهما.

وفي الآية الثانية :


١-
تنبيه على أن الله تعالى، وهو يوجب عليهم واجب القربان له، إنما يتوخى آثاره في قلوبهم وحملهم على التزام حدوده وأوامره. وأنه لا ينتفع بلحوم القرابين ولا بدمائها، وأنه إنما سخّرها لهم وبيّن لهم تلك الحدود والواجبات في شأنها ليشكروه ويعظموه على هدايتهم وإرشادهم إلى ما هو الأقوم.

٢-
وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتبشير الذين يحسنون أداء الواجبات المفروضة عليهم ويتحرون أحسن الطرق لأدائها.
والآيتان كذلك استمرار في السياق والموضوع، واحتمالا مكيتهما ومدنيتهما واردان لأنهما من السلسلة.
وروحهما تلهم أنهما احتوتا حثا على تخصيص البقر والإبل بالتعليم بالدم وعلى تفضيلهما، ولعلّ العرب كانوا يعلّمون الغنم بالدم أيضا فنبّه المسلمين إلى ما هو الأفضل والأنفع.
وقد قال المفسرون : إن العرب لم يكونوا يأكلون من لحم البدن التي يقربونها فأحلّت جملة ﴿ فكلوا منها ﴾ ذلك للمسلمين كما قالوا مثل هذا في المناسبة السابقة وهو وجيه. ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن الأمر بالأكل هو على سبيل الرخصة والإباحة وحسب.
تعليق على جملة
﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾
وقد قال المفسرون في صدد هذه الجملة، واستناداً إلى الروايات، إن العرب كانوا يلطّخون جدران الكعبة بدماء القرابين. وإن هذه الجملة لصرف المسلمين عن هذه العادة الجاهلية. ولا نستبعد ذلك، كما أنه ليس من المستبعد أن تكون تعبيرا أسلوبيا لبيان كون هدف وصايا الله وحدوده في شعائر القرابين وغيرها، إنما هو إثارة التقوى في قلوب عباده حتى يجتنبوا الآثام والمحظورات ويقبلوا على الأعمال الصالحة المفيدة.
ومهما يكن قصد الآية، فإنها قد احتوت تنبيها بليغا فيه إشارة إلى جوهر وهدف الشريعة الإسلامية. فالله لا ينتفع بصلاة الناس ولا بصومهم ولا بقرابينهم ولا بتوجيه وجوههم قبل مشرق أو مغرب. وإنما يتوخّى من كل ما يأمر به من هذه الأشكال إثارة التقوى في قلوبهم، وحملهم على تحرّي الخير والبرّ والعمل الصالح، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا صحيحا جاء فيه :«إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ». وهذا الحديث ورد في التاج معزوّا إلى أبي هريرة ومن رواية مسلم وابن ماجه وبفرق هو بدل ألوانكم وأموالكم١. وينطوي في الحديث تلقين متساوق مع التلقين المنطوي في الآية كما هو واضح.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على خطورة أمر القوانين
قبل الإسلام وحكمة الإبقاء عيها
هذا، وتكرر الكلام حول القرابين بالصورة التي ورد بها، يلهم أنه كان لها في موسم الحجّ قبل البعثة خطورة عظمى، لعلّ من أهمها ما كان من انتفاع جماهير العرب الفقراء المحرومين من لحومها وجلودها. ومن هنا نلحظ حكمة إبقاء هذه العادة في الإسلام مع تنقيتها من مظاهر الشرك ذبحا ومكانا، ومع التخفيف في أمر التصرّف بلحومها والانتفاع بها، وتوسيع دائرة هذا الانتفاع حتى شمل أصحاب القرابين والفقراء والمحتاجين سواء منهم المتعففون والسائلون، وهذا كله متّسق مع أسلوب التشريع القرآني الذي له علاقة بالتقاليد السابقة بوجه عام. ولقد جاء في سورة المائدة هذه :﴿ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ﴾ [ ٩٧ ]. والهدي والقلائد هي ما كان يقدم من الأنعام قرابين لله في موسم الحج. وقد سلكت الآية ذلك في عداد البيت الحرام والشهر الحرام ونوّهت بما كان في كل ذلك من أسباب حياة الناس.
هذا، وهناك بيانات ومأثورات في صدد مناسك الحجّ المختلفة، رأينا أن نؤجّل إيرادها وشرحها إلى مناسبة أكثر ملاءمة، وهي آيات سورة البقرة التي فيها تشريع الحجّ ومناسكه.


١ التاج ١/٤٧.
[ ١ ] خوّان : صيغة مبالغة من الخيانة.
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ [ ١ ] كَفُورٍ ﴿ ٣٨ ﴾‏ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [ ٢ ] وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿ ٣٩ ﴾ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [ ٣ ] إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ [ ٤ ] وَبِيَعٌ [ ٥ ] وَصَلَوَاتٌ [ ٦ ] وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿ ٤٠ ﴾ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿ ٤١ ﴾

في هذه الآيات :


١-
تطمين رباني للمؤمنين بأن الله تعالى يدافع عنهم ويحميهم، وأنه لا يمكن أن يحبّ ويسعد ويوفق الخوّانين للأمانات والعهود الكفورين بنعمة الله وألوهيته.

٢-
وتقرير وإيذان بأن الذين يؤذون ويقاتلون من المسلمين والذين أخرجوا من وطنهم بدون سبب مبرر إلا إعلانهم بأن ربّهم هو الله، هم في موقف المظلوم المبغى عليه، وتطمين بأن الله قادر على نصرهم لأنه آلى على نفسه أن ينصر من ينصر دينه وهو القوي العزيز الذي لا غالب له.

٣-
وتبرير للدفاع عن النفس إزاء الظلم والبغي : فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، أي إلهامه المبغى عليهم بالوقوف في وجه البغاة ومقابلتهم والدفاع عن أنفسهم لانتشر الظلم والفساد في الأرض، ولما ذكر الله أحد، ولهدمت معابده المتنوعة التي يذكر اسمه فيها من إسلامية ويهودية ونصرانية.

٤-
وبيان لما يترتب على نصر الله للمؤمنين وتمكينه لهم في الأرض من نتائج عظمى. فإنهم وقد آمنوا بالله وجعلوا الحق والعدل والخير هدفهم وفقا لما شرّع لهم وأوجب عليهم إذا مكّن الله لهم في الأرض وجعل لهم القوة والسلطان فيها أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.

٥-
وتعقيب نهائي بسبيل توكيد تحقيق وعد الله ونصره : فإن كل شيء مسيّر بأمر الله، وإن عاقبة كل أمر هي إلى الله.
تعليقات على الآية
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾
والآيات الأربع التالية لها
والآيات على ما يبدو فصل جديد مستقل. وقد روى المفسرون أقوالا في صدد نزولها. فمماّ رواه الطبري عن سعيد بن جبير وابن عباس أنه لما أخرج النبي من مكة قال رجل، أو قال أبو بكر : أخرجوا نبيّهم فأنزل الله الآيات. وعن مجاهد أنها نزلت في جماعة من المسلمين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فمنعهم المشركون فأنزل الله الآيات لتبرير دفاع المسلمين عن أنفسهم. وعن الضحاك أن أصحاب رسول الله لما اشتدّ عليهم أذى الكفار استأذنوا رسول الله في قتال الكفار وقتلهم، فأنزل الله الآية الأولى فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أنزل الآيات التالية لها. ومما ورد في تفسير البغوي :«قال المفسرون كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله، فلا يزالون محزونين بين مضروب ومشجوج ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم اصبروا فإني لم أومر بالقتال، حتى هاجر رسول الله فأنزل الله الآيات وهي أول آيات أذن الله فيها بالقتال». ورواية ما قاله أبو بكر قد وردت في سنن الترمذي بهذه الصيغة :«قال ابن عباس لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر أخرجوا نبيّهم ليهلكنّ فأنزل الله :﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿ ٣٩ ﴾ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾، فقال أبو بكر : لقد علمت أنه سيكون»١. ولم تخرج روايات المفسرين الآخرين عن هذا٢. ورواية الطبرسي عن مجاهد تقتضي أن تكون الآية الأولى نزلت لحدتها وقد توقف الطبري في ذلك وتوقفه في محلّه ؛ لأن الآية الأولى هي كما يبدو استهلال أو مقدمة لما بعدها.
ومضمون الآيات والروايات معا قد يسوغ القول إن الآيات مدنية، ومع أنها لا تحتوي الإذن بالقتال.
والآية الأولى صريحة في أن المسلمين كانوا يقاتلون، في حين أننا لم نطلع على رواية ما تذكر أنه كان عدوان حربي جماعي من مشركي قريش على المسلمين حينما كانوا في مكة، أو أنهم بدأوا بحركات هجومية على المسلمين بعد خروجهم من مكة. فإما أن تكون الآية عنت بهذا التعبير ما كان ينال ضعفاء المسلمين في مكة من عدوان وأذى فردي يصل أحيانا إلى إزهاق الروح، وإما أن يكون المشركون قد اعتدوا على فريق من المسلمين عدوانا حربيا بعد الهجرة لم يرد بيانه في الروايات. وفي هذه السورة آية تنوّه بالذين هاجروا في سبيل الله ثم ماتوا أو قتلوا. واحتمال مدنية الآية وتبكير نزولها قويان، فمن المحتمل بالتبعية أن تكون قد تضمنت إشارة ما إلى مثل ذلك العدوان.
وإذا صح ترجيحنا بأن هذه الآيات مدنية فتكون قد وضعت في السياق الذي وضعت فيه بمثابة استطراد آخر لذكر مواقف الكفار بعد الهجرة بمناسبة ذكر مواقفهم قبلها.
ومع ما قلناه من ترجيح مدنية الآيات، فإن من المحتمل أن تكون مكية تبعا لاحتمال مكية السورة جميعها. وفي هذه الحالة يكون ما احتوته من تقرير مظلومية المسلمين في ما يقع عليهم من أذى الكفار لهم ومدافعة الله عنهم، هو تقرير تطميني وتثبيتي لهم معا، وتكون الإشارة إلى إخراجهم من ديارهم عنت هجرتهم إلى الحبشة بسبب ما كان من ضغط الكفار وأذاهم. ومع ذلك فإن روح الآيات حتى في حالة احتمال مكيتها، تلهم أنها تضمنت ترشيح المؤمنين لقتال الكفار المعتدين، وتضمنت أن المرشحين لذلك في الخطوات الأولى حينما تسنح الفرصة هم بخاصة المهاجرون، والله أعلم.
وروايات السيرة ٣ تذكر أن سرايا الجهاد الأولى التي سيّرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استقرّ في المدينة والتي سبقت وقعة بدر، تتألف من المهاجرين. وقد يدلّ هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرين قد فهموا أيضا من الآيات أنهم هم المرشحون لقتال مشركي مكة ؛ لأنهم هم الذين كان يقع عليهم أذاهم وظلمهم وهم الذين أذن الله أنهم ظلموا ووعد بنصرهم.
وفي سورة البقرة آية تؤيد تلك الروايات وهي هذه :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٢١٨ ﴾ وقد نزلت في سياق حادث اشتباك حربي بين سرية من المسلمين كانت بقيادة عبد الله بن جحش والمشركين في حدود مكة في بطن نخلة في يوم اشتبه بأنه من أيام رجب أحد الشهور المحرمة ٤، فأخذ المشركون يشغبون على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويتهمونهم بخرق حرمة الشهر الحرام فأنزل الله هذه الآية، وأنزل قبلها آية تبرر ما وقع لأن المشركين آذوا المسلمين وفتنوهم في المسجد الحرام والشهر الحرام حينما كانوا في مكة وهي :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٢١٧ ﴾ [ البقرة ٢١٧ ]
وننبه على أن هذا الشرح ليس من شأنه أن يذهب باحتمال مكية الآيات ؛ حيث يكون المسلمون قد استندوا إليها فيما أخذوا يقومون به من حركات انتقامية من مشركي مكة بعد أن هاجروا إلى المدينة.
ولقد توقف الطبري وغيره عند جمع المساجد مع معابد اليهود والنصارى، فقال الطبري : إن جملة ﴿ يذكر فيها اسم الله كثيراً ﴾ عائدة إلى المساجد التي هي الأقرب ذكراً. وقال ابن كثير : قال بعض العلماء : إن في الجملة ترقّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر إعماراً وأكثر عباداً وهم ذووا القصد الصحيح. وقال البغوي : إن معنى الجملة ﴿ لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ﴾ لهدم في حقبة كل نبي مكان عبادة أتباعه، فهدمت في زمن موسى صلوات اليهود وفي زمن عيسى بيع النصارى وصوامعهم، وفي زمن محمد مساجد المسلمين وقال الزمخشري قولا متفقا مع البغوي بأسلوب أقوى فقال : إن المعنى لولا تسليط المؤمنين على الكافرين بالمجاهدة لاستولى الكافرون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى معابدهم، فهدموها ولم يتركوا معابد لليهود ولا للنصارى ولا للمسلمين. وفي كل من هذه الأقوال وجاهة ما، مع القول : إن كلام الزمخشري أكثر قوة ووجاهة. ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن العبارة أسلوبية بقصد بيان ما يمكن أن يترتب عن عدوان الكفار على المؤمنين ومعابدهم، لولا حكمة الله التي اقتضت أن يلهم المؤمنين ويقويهم على دفع عدوان الكفار وإيقافهم عند حدّهم في كل وقت ومكان. والله تعالى أعلم.
التلقينات البليغة المنطوية في هذه الآيات
ولقد انطوى في الآيات تلقينات وقواعد ونتائج اجتماعية عامة، رائعة بليغة مستمرة المدى كما انطوى فيها بيان ما سوف يكون عليه المجتمع الإنساني في ظل الإسلام من صورة فاضلة ؛ حيث انطوى فيها :

١-
تقرير حقّ المظلوم وحقّ المعتدى على حريته وحقوقه وكرامته بالانتصار والدفاع، حتى يزول عنه الظلم وتضمن حقوقه وحريته وكرامته.

٢-
وتقرير كون دفع البغي والظلم والتضامن فيه ضرورة اجتماعية لا بدّ منها لأجل ضمان سيادة الحرية والحق والعدل والطمأنينة التامة لأي مجتمع.

٣-
وتقرير كون كل حرب غير دفاعية أصلا أو نتيجة هي حرب باغية مخلّة بحقوق الناس وأمنهم ومصالحهم.

٤-
وتطمين المؤمنين الصالحين بأن الله ناصرهم ومؤيدهم، وممكّن لهم في الأرض تمكينا لا يتوخّى في استعلاء ولا استغلال ولا ابتزاز ولا استكبار، ولا يكون فيه ظلم وبغي وتحكّم واستبعاد وإنما يتوخى فيه إقامة الدين والصلاة لله وحده وإعطاء الزكاة للفقراء والمحتاجين مما يتحقق به العدل الاجتماعي، ثم الأمر بكل ما هو معروف فيه الخير والبرّ والصلاح والحقّ والعدل والكرامة والمساواة والنهي عن كل ما هو منكر فيه الشر والفساد والبغي والكسل والبطالة والجور والهوان والظلم والفجور والرجس، وبكلمة أخرى تمكينا يقوم في ظله المجتمع الإنساني الفاضل.
وبالإضافة إلى هذا فإنه ينطوي في فحوى الآية الأخيرة وروحها تقرير كون ما يفعله المسلمون حينما يمكّنهم الله في الأرض هو من الخصائص التي أهّلهم دين الله لها. وينطوي في هذا تقرير كون المسلمين الذين لا يفعلون ذلك حينما يمكّنهم الله في الأرض قد أخلّوا بتلك الخصائص، فخرجوا بذلك عن حدود ما رسمه اله للمسلمين المخلصين الصادقين وجعله من خصائصهم، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
[ ٢ ] أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا : أي قرّر الله بأن الذين يقاتلون من المؤمنين هم في موقف المظلوم، أو أذن لهم أن يقابلوا بالمثل لأنهم في موقف المظلوم.
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ [ ١ ] كَفُورٍ ﴿ ٣٨ ﴾‏ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [ ٢ ] وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿ ٣٩ ﴾ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [ ٣ ] إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ [ ٤ ] وَبِيَعٌ [ ٥ ] وَصَلَوَاتٌ [ ٦ ] وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿ ٤٠ ﴾ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿ ٤١ ﴾

في هذه الآيات :


١-
تطمين رباني للمؤمنين بأن الله تعالى يدافع عنهم ويحميهم، وأنه لا يمكن أن يحبّ ويسعد ويوفق الخوّانين للأمانات والعهود الكفورين بنعمة الله وألوهيته.

٢-
وتقرير وإيذان بأن الذين يؤذون ويقاتلون من المسلمين والذين أخرجوا من وطنهم بدون سبب مبرر إلا إعلانهم بأن ربّهم هو الله، هم في موقف المظلوم المبغى عليه، وتطمين بأن الله قادر على نصرهم لأنه آلى على نفسه أن ينصر من ينصر دينه وهو القوي العزيز الذي لا غالب له.

٣-
وتبرير للدفاع عن النفس إزاء الظلم والبغي : فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، أي إلهامه المبغى عليهم بالوقوف في وجه البغاة ومقابلتهم والدفاع عن أنفسهم لانتشر الظلم والفساد في الأرض، ولما ذكر الله أحد، ولهدمت معابده المتنوعة التي يذكر اسمه فيها من إسلامية ويهودية ونصرانية.

٤-
وبيان لما يترتب على نصر الله للمؤمنين وتمكينه لهم في الأرض من نتائج عظمى. فإنهم وقد آمنوا بالله وجعلوا الحق والعدل والخير هدفهم وفقا لما شرّع لهم وأوجب عليهم إذا مكّن الله لهم في الأرض وجعل لهم القوة والسلطان فيها أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.

٥-
وتعقيب نهائي بسبيل توكيد تحقيق وعد الله ونصره : فإن كل شيء مسيّر بأمر الله، وإن عاقبة كل أمر هي إلى الله.
تعليقات على الآية
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾
والآيات الأربع التالية لها
والآيات على ما يبدو فصل جديد مستقل. وقد روى المفسرون أقوالا في صدد نزولها. فمماّ رواه الطبري عن سعيد بن جبير وابن عباس أنه لما أخرج النبي من مكة قال رجل، أو قال أبو بكر : أخرجوا نبيّهم فأنزل الله الآيات. وعن مجاهد أنها نزلت في جماعة من المسلمين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فمنعهم المشركون فأنزل الله الآيات لتبرير دفاع المسلمين عن أنفسهم. وعن الضحاك أن أصحاب رسول الله لما اشتدّ عليهم أذى الكفار استأذنوا رسول الله في قتال الكفار وقتلهم، فأنزل الله الآية الأولى فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أنزل الآيات التالية لها. ومما ورد في تفسير البغوي :«قال المفسرون كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله، فلا يزالون محزونين بين مضروب ومشجوج ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم اصبروا فإني لم أومر بالقتال، حتى هاجر رسول الله فأنزل الله الآيات وهي أول آيات أذن الله فيها بالقتال». ورواية ما قاله أبو بكر قد وردت في سنن الترمذي بهذه الصيغة :«قال ابن عباس لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر أخرجوا نبيّهم ليهلكنّ فأنزل الله :﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿ ٣٩ ﴾ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾، فقال أبو بكر : لقد علمت أنه سيكون»١. ولم تخرج روايات المفسرين الآخرين عن هذا٢. ورواية الطبرسي عن مجاهد تقتضي أن تكون الآية الأولى نزلت لحدتها وقد توقف الطبري في ذلك وتوقفه في محلّه ؛ لأن الآية الأولى هي كما يبدو استهلال أو مقدمة لما بعدها.
ومضمون الآيات والروايات معا قد يسوغ القول إن الآيات مدنية، ومع أنها لا تحتوي الإذن بالقتال.
والآية الأولى صريحة في أن المسلمين كانوا يقاتلون، في حين أننا لم نطلع على رواية ما تذكر أنه كان عدوان حربي جماعي من مشركي قريش على المسلمين حينما كانوا في مكة، أو أنهم بدأوا بحركات هجومية على المسلمين بعد خروجهم من مكة. فإما أن تكون الآية عنت بهذا التعبير ما كان ينال ضعفاء المسلمين في مكة من عدوان وأذى فردي يصل أحيانا إلى إزهاق الروح، وإما أن يكون المشركون قد اعتدوا على فريق من المسلمين عدوانا حربيا بعد الهجرة لم يرد بيانه في الروايات. وفي هذه السورة آية تنوّه بالذين هاجروا في سبيل الله ثم ماتوا أو قتلوا. واحتمال مدنية الآية وتبكير نزولها قويان، فمن المحتمل بالتبعية أن تكون قد تضمنت إشارة ما إلى مثل ذلك العدوان.
وإذا صح ترجيحنا بأن هذه الآيات مدنية فتكون قد وضعت في السياق الذي وضعت فيه بمثابة استطراد آخر لذكر مواقف الكفار بعد الهجرة بمناسبة ذكر مواقفهم قبلها.
ومع ما قلناه من ترجيح مدنية الآيات، فإن من المحتمل أن تكون مكية تبعا لاحتمال مكية السورة جميعها. وفي هذه الحالة يكون ما احتوته من تقرير مظلومية المسلمين في ما يقع عليهم من أذى الكفار لهم ومدافعة الله عنهم، هو تقرير تطميني وتثبيتي لهم معا، وتكون الإشارة إلى إخراجهم من ديارهم عنت هجرتهم إلى الحبشة بسبب ما كان من ضغط الكفار وأذاهم. ومع ذلك فإن روح الآيات حتى في حالة احتمال مكيتها، تلهم أنها تضمنت ترشيح المؤمنين لقتال الكفار المعتدين، وتضمنت أن المرشحين لذلك في الخطوات الأولى حينما تسنح الفرصة هم بخاصة المهاجرون، والله أعلم.
وروايات السيرة ٣ تذكر أن سرايا الجهاد الأولى التي سيّرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استقرّ في المدينة والتي سبقت وقعة بدر، تتألف من المهاجرين. وقد يدلّ هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرين قد فهموا أيضا من الآيات أنهم هم المرشحون لقتال مشركي مكة ؛ لأنهم هم الذين كان يقع عليهم أذاهم وظلمهم وهم الذين أذن الله أنهم ظلموا ووعد بنصرهم.
وفي سورة البقرة آية تؤيد تلك الروايات وهي هذه :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٢١٨ ﴾ وقد نزلت في سياق حادث اشتباك حربي بين سرية من المسلمين كانت بقيادة عبد الله بن جحش والمشركين في حدود مكة في بطن نخلة في يوم اشتبه بأنه من أيام رجب أحد الشهور المحرمة ٤، فأخذ المشركون يشغبون على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويتهمونهم بخرق حرمة الشهر الحرام فأنزل الله هذه الآية، وأنزل قبلها آية تبرر ما وقع لأن المشركين آذوا المسلمين وفتنوهم في المسجد الحرام والشهر الحرام حينما كانوا في مكة وهي :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٢١٧ ﴾ [ البقرة ٢١٧ ]
وننبه على أن هذا الشرح ليس من شأنه أن يذهب باحتمال مكية الآيات ؛ حيث يكون المسلمون قد استندوا إليها فيما أخذوا يقومون به من حركات انتقامية من مشركي مكة بعد أن هاجروا إلى المدينة.
ولقد توقف الطبري وغيره عند جمع المساجد مع معابد اليهود والنصارى، فقال الطبري : إن جملة ﴿ يذكر فيها اسم الله كثيراً ﴾ عائدة إلى المساجد التي هي الأقرب ذكراً. وقال ابن كثير : قال بعض العلماء : إن في الجملة ترقّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر إعماراً وأكثر عباداً وهم ذووا القصد الصحيح. وقال البغوي : إن معنى الجملة ﴿ لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ﴾ لهدم في حقبة كل نبي مكان عبادة أتباعه، فهدمت في زمن موسى صلوات اليهود وفي زمن عيسى بيع النصارى وصوامعهم، وفي زمن محمد مساجد المسلمين وقال الزمخشري قولا متفقا مع البغوي بأسلوب أقوى فقال : إن المعنى لولا تسليط المؤمنين على الكافرين بالمجاهدة لاستولى الكافرون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى معابدهم، فهدموها ولم يتركوا معابد لليهود ولا للنصارى ولا للمسلمين. وفي كل من هذه الأقوال وجاهة ما، مع القول : إن كلام الزمخشري أكثر قوة ووجاهة. ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن العبارة أسلوبية بقصد بيان ما يمكن أن يترتب عن عدوان الكفار على المؤمنين ومعابدهم، لولا حكمة الله التي اقتضت أن يلهم المؤمنين ويقويهم على دفع عدوان الكفار وإيقافهم عند حدّهم في كل وقت ومكان. والله تعالى أعلم.
التلقينات البليغة المنطوية في هذه الآيات
ولقد انطوى في الآيات تلقينات وقواعد ونتائج اجتماعية عامة، رائعة بليغة مستمرة المدى كما انطوى فيها بيان ما سوف يكون عليه المجتمع الإنساني في ظل الإسلام من صورة فاضلة ؛ حيث انطوى فيها :

١-
تقرير حقّ المظلوم وحقّ المعتدى على حريته وحقوقه وكرامته بالانتصار والدفاع، حتى يزول عنه الظلم وتضمن حقوقه وحريته وكرامته.

٢-
وتقرير كون دفع البغي والظلم والتضامن فيه ضرورة اجتماعية لا بدّ منها لأجل ضمان سيادة الحرية والحق والعدل والطمأنينة التامة لأي مجتمع.

٣-
وتقرير كون كل حرب غير دفاعية أصلا أو نتيجة هي حرب باغية مخلّة بحقوق الناس وأمنهم ومصالحهم.

٤-
وتطمين المؤمنين الصالحين بأن الله ناصرهم ومؤيدهم، وممكّن لهم في الأرض تمكينا لا يتوخّى في استعلاء ولا استغلال ولا ابتزاز ولا استكبار، ولا يكون فيه ظلم وبغي وتحكّم واستبعاد وإنما يتوخى فيه إقامة الدين والصلاة لله وحده وإعطاء الزكاة للفقراء والمحتاجين مما يتحقق به العدل الاجتماعي، ثم الأمر بكل ما هو معروف فيه الخير والبرّ والصلاح والحقّ والعدل والكرامة والمساواة والنهي عن كل ما هو منكر فيه الشر والفساد والبغي والكسل والبطالة والجور والهوان والظلم والفجور والرجس، وبكلمة أخرى تمكينا يقوم في ظله المجتمع الإنساني الفاضل.
وبالإضافة إلى هذا فإنه ينطوي في فحوى الآية الأخيرة وروحها تقرير كون ما يفعله المسلمون حينما يمكّنهم الله في الأرض هو من الخصائص التي أهّلهم دين الله لها. وينطوي في هذا تقرير كون المسلمين الذين لا يفعلون ذلك حينما يمكّنهم الله في الأرض قد أخلّوا بتلك الخصائص، فخرجوا بذلك عن حدود ما رسمه اله للمسلمين المخلصين الصادقين وجعله من خصائصهم، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
[ ٣ ] الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ : المتبادر أن الجملة هي بمعنى الذين ألجئوا أو اضطروا إلى الخروج لشدّة الأذى والاضطهاد والضغط.
[ ٤ ] صوامع : جمع صومعة، وهي مكان عبادة كان يتخذه رهبان النصارى في الأماكن المنعزلة.
[ ٥ ] بيع : جمع بيعة، وكانت تطلق على كنائس النصارى.
[ ٦ ] صلوات : تعريب صلوتا العبرانية التي تعني معابد اليهود.
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ [ ١ ] كَفُورٍ ﴿ ٣٨ ﴾‏ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [ ٢ ] وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿ ٣٩ ﴾ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [ ٣ ] إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ [ ٤ ] وَبِيَعٌ [ ٥ ] وَصَلَوَاتٌ [ ٦ ] وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿ ٤٠ ﴾ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿ ٤١ ﴾

في هذه الآيات :


١-
تطمين رباني للمؤمنين بأن الله تعالى يدافع عنهم ويحميهم، وأنه لا يمكن أن يحبّ ويسعد ويوفق الخوّانين للأمانات والعهود الكفورين بنعمة الله وألوهيته.

٢-
وتقرير وإيذان بأن الذين يؤذون ويقاتلون من المسلمين والذين أخرجوا من وطنهم بدون سبب مبرر إلا إعلانهم بأن ربّهم هو الله، هم في موقف المظلوم المبغى عليه، وتطمين بأن الله قادر على نصرهم لأنه آلى على نفسه أن ينصر من ينصر دينه وهو القوي العزيز الذي لا غالب له.

٣-
وتبرير للدفاع عن النفس إزاء الظلم والبغي : فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، أي إلهامه المبغى عليهم بالوقوف في وجه البغاة ومقابلتهم والدفاع عن أنفسهم لانتشر الظلم والفساد في الأرض، ولما ذكر الله أحد، ولهدمت معابده المتنوعة التي يذكر اسمه فيها من إسلامية ويهودية ونصرانية.

٤-
وبيان لما يترتب على نصر الله للمؤمنين وتمكينه لهم في الأرض من نتائج عظمى. فإنهم وقد آمنوا بالله وجعلوا الحق والعدل والخير هدفهم وفقا لما شرّع لهم وأوجب عليهم إذا مكّن الله لهم في الأرض وجعل لهم القوة والسلطان فيها أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.

٥-
وتعقيب نهائي بسبيل توكيد تحقيق وعد الله ونصره : فإن كل شيء مسيّر بأمر الله، وإن عاقبة كل أمر هي إلى الله.
تعليقات على الآية
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾
والآيات الأربع التالية لها
والآيات على ما يبدو فصل جديد مستقل. وقد روى المفسرون أقوالا في صدد نزولها. فمماّ رواه الطبري عن سعيد بن جبير وابن عباس أنه لما أخرج النبي من مكة قال رجل، أو قال أبو بكر : أخرجوا نبيّهم فأنزل الله الآيات. وعن مجاهد أنها نزلت في جماعة من المسلمين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فمنعهم المشركون فأنزل الله الآيات لتبرير دفاع المسلمين عن أنفسهم. وعن الضحاك أن أصحاب رسول الله لما اشتدّ عليهم أذى الكفار استأذنوا رسول الله في قتال الكفار وقتلهم، فأنزل الله الآية الأولى فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أنزل الآيات التالية لها. ومما ورد في تفسير البغوي :«قال المفسرون كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله، فلا يزالون محزونين بين مضروب ومشجوج ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم اصبروا فإني لم أومر بالقتال، حتى هاجر رسول الله فأنزل الله الآيات وهي أول آيات أذن الله فيها بالقتال». ورواية ما قاله أبو بكر قد وردت في سنن الترمذي بهذه الصيغة :«قال ابن عباس لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر أخرجوا نبيّهم ليهلكنّ فأنزل الله :﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿ ٣٩ ﴾ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾، فقال أبو بكر : لقد علمت أنه سيكون»١. ولم تخرج روايات المفسرين الآخرين عن هذا٢. ورواية الطبرسي عن مجاهد تقتضي أن تكون الآية الأولى نزلت لحدتها وقد توقف الطبري في ذلك وتوقفه في محلّه ؛ لأن الآية الأولى هي كما يبدو استهلال أو مقدمة لما بعدها.
ومضمون الآيات والروايات معا قد يسوغ القول إن الآيات مدنية، ومع أنها لا تحتوي الإذن بالقتال.
والآية الأولى صريحة في أن المسلمين كانوا يقاتلون، في حين أننا لم نطلع على رواية ما تذكر أنه كان عدوان حربي جماعي من مشركي قريش على المسلمين حينما كانوا في مكة، أو أنهم بدأوا بحركات هجومية على المسلمين بعد خروجهم من مكة. فإما أن تكون الآية عنت بهذا التعبير ما كان ينال ضعفاء المسلمين في مكة من عدوان وأذى فردي يصل أحيانا إلى إزهاق الروح، وإما أن يكون المشركون قد اعتدوا على فريق من المسلمين عدوانا حربيا بعد الهجرة لم يرد بيانه في الروايات. وفي هذه السورة آية تنوّه بالذين هاجروا في سبيل الله ثم ماتوا أو قتلوا. واحتمال مدنية الآية وتبكير نزولها قويان، فمن المحتمل بالتبعية أن تكون قد تضمنت إشارة ما إلى مثل ذلك العدوان.
وإذا صح ترجيحنا بأن هذه الآيات مدنية فتكون قد وضعت في السياق الذي وضعت فيه بمثابة استطراد آخر لذكر مواقف الكفار بعد الهجرة بمناسبة ذكر مواقفهم قبلها.
ومع ما قلناه من ترجيح مدنية الآيات، فإن من المحتمل أن تكون مكية تبعا لاحتمال مكية السورة جميعها. وفي هذه الحالة يكون ما احتوته من تقرير مظلومية المسلمين في ما يقع عليهم من أذى الكفار لهم ومدافعة الله عنهم، هو تقرير تطميني وتثبيتي لهم معا، وتكون الإشارة إلى إخراجهم من ديارهم عنت هجرتهم إلى الحبشة بسبب ما كان من ضغط الكفار وأذاهم. ومع ذلك فإن روح الآيات حتى في حالة احتمال مكيتها، تلهم أنها تضمنت ترشيح المؤمنين لقتال الكفار المعتدين، وتضمنت أن المرشحين لذلك في الخطوات الأولى حينما تسنح الفرصة هم بخاصة المهاجرون، والله أعلم.
وروايات السيرة ٣ تذكر أن سرايا الجهاد الأولى التي سيّرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استقرّ في المدينة والتي سبقت وقعة بدر، تتألف من المهاجرين. وقد يدلّ هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرين قد فهموا أيضا من الآيات أنهم هم المرشحون لقتال مشركي مكة ؛ لأنهم هم الذين كان يقع عليهم أذاهم وظلمهم وهم الذين أذن الله أنهم ظلموا ووعد بنصرهم.
وفي سورة البقرة آية تؤيد تلك الروايات وهي هذه :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٢١٨ ﴾ وقد نزلت في سياق حادث اشتباك حربي بين سرية من المسلمين كانت بقيادة عبد الله بن جحش والمشركين في حدود مكة في بطن نخلة في يوم اشتبه بأنه من أيام رجب أحد الشهور المحرمة ٤، فأخذ المشركون يشغبون على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويتهمونهم بخرق حرمة الشهر الحرام فأنزل الله هذه الآية، وأنزل قبلها آية تبرر ما وقع لأن المشركين آذوا المسلمين وفتنوهم في المسجد الحرام والشهر الحرام حينما كانوا في مكة وهي :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٢١٧ ﴾ [ البقرة ٢١٧ ]
وننبه على أن هذا الشرح ليس من شأنه أن يذهب باحتمال مكية الآيات ؛ حيث يكون المسلمون قد استندوا إليها فيما أخذوا يقومون به من حركات انتقامية من مشركي مكة بعد أن هاجروا إلى المدينة.
ولقد توقف الطبري وغيره عند جمع المساجد مع معابد اليهود والنصارى، فقال الطبري : إن جملة ﴿ يذكر فيها اسم الله كثيراً ﴾ عائدة إلى المساجد التي هي الأقرب ذكراً. وقال ابن كثير : قال بعض العلماء : إن في الجملة ترقّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر إعماراً وأكثر عباداً وهم ذووا القصد الصحيح. وقال البغوي : إن معنى الجملة ﴿ لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ﴾ لهدم في حقبة كل نبي مكان عبادة أتباعه، فهدمت في زمن موسى صلوات اليهود وفي زمن عيسى بيع النصارى وصوامعهم، وفي زمن محمد مساجد المسلمين وقال الزمخشري قولا متفقا مع البغوي بأسلوب أقوى فقال : إن المعنى لولا تسليط المؤمنين على الكافرين بالمجاهدة لاستولى الكافرون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى معابدهم، فهدموها ولم يتركوا معابد لليهود ولا للنصارى ولا للمسلمين. وفي كل من هذه الأقوال وجاهة ما، مع القول : إن كلام الزمخشري أكثر قوة ووجاهة. ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن العبارة أسلوبية بقصد بيان ما يمكن أن يترتب عن عدوان الكفار على المؤمنين ومعابدهم، لولا حكمة الله التي اقتضت أن يلهم المؤمنين ويقويهم على دفع عدوان الكفار وإيقافهم عند حدّهم في كل وقت ومكان. والله تعالى أعلم.
التلقينات البليغة المنطوية في هذه الآيات
ولقد انطوى في الآيات تلقينات وقواعد ونتائج اجتماعية عامة، رائعة بليغة مستمرة المدى كما انطوى فيها بيان ما سوف يكون عليه المجتمع الإنساني في ظل الإسلام من صورة فاضلة ؛ حيث انطوى فيها :

١-
تقرير حقّ المظلوم وحقّ المعتدى على حريته وحقوقه وكرامته بالانتصار والدفاع، حتى يزول عنه الظلم وتضمن حقوقه وحريته وكرامته.

٢-
وتقرير كون دفع البغي والظلم والتضامن فيه ضرورة اجتماعية لا بدّ منها لأجل ضمان سيادة الحرية والحق والعدل والطمأنينة التامة لأي مجتمع.

٣-
وتقرير كون كل حرب غير دفاعية أصلا أو نتيجة هي حرب باغية مخلّة بحقوق الناس وأمنهم ومصالحهم.

٤-
وتطمين المؤمنين الصالحين بأن الله ناصرهم ومؤيدهم، وممكّن لهم في الأرض تمكينا لا يتوخّى في استعلاء ولا استغلال ولا ابتزاز ولا استكبار، ولا يكون فيه ظلم وبغي وتحكّم واستبعاد وإنما يتوخى فيه إقامة الدين والصلاة لله وحده وإعطاء الزكاة للفقراء والمحتاجين مما يتحقق به العدل الاجتماعي، ثم الأمر بكل ما هو معروف فيه الخير والبرّ والصلاح والحقّ والعدل والكرامة والمساواة والنهي عن كل ما هو منكر فيه الشر والفساد والبغي والكسل والبطالة والجور والهوان والظلم والفجور والرجس، وبكلمة أخرى تمكينا يقوم في ظله المجتمع الإنساني الفاضل.
وبالإضافة إلى هذا فإنه ينطوي في فحوى الآية الأخيرة وروحها تقرير كون ما يفعله المسلمون حينما يمكّنهم الله في الأرض هو من الخصائص التي أهّلهم دين الله لها. وينطوي في هذا تقرير كون المسلمين الذين لا يفعلون ذلك حينما يمكّنهم الله في الأرض قد أخلّوا بتلك الخصائص، فخرجوا بذلك عن حدود ما رسمه اله للمسلمين المخلصين الصادقين وجعله من خصائصهم، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ﴿ ٤٢ ﴾ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ﴿ ٤٣ ﴾ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴿ ٤٤ ﴾ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ [ ١ ] عَلَى عُرُوشِهَا [ ٢ ] وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ [ ٣ ] وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ [ ٤ ] ﴿ ٤٥ ﴾ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴿ ٤٦ ﴾
في هذه الآيات :
١- خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فإذا كان الكفار يقفون منه موقف التكذيب والجحود فقد كذّب قبلهم أمثالهم من أقوام نوح وعاد وثمود وإبراهيم ولوط ومدين أنبياءهم كما كذب موسى. فأمهل الله الكافرين قليلا ثم أخذهم وكان نكاله فيهم شديدا خالد الأثر.
٢- تذكير ينطوي على الزجر : فلكم أهلك الله من أهل القرى الظالمة خلقاً فخرّت قراهم على عروشها وتدمّرت. ولكم تعطل نتيجة لذلك آبار كانت عامرة بورّادها، وخلت قصور مزينة شاهقة كان أهلها يرفلون فيها بالهناء ؟
٣- وتساؤل يتضمن الإنكار والتنديد عمّا إذا كان الكفار يكذّبون النبي لم يسيروا في الأرض ويروا آثار نكال الله وتدميره في منازل الظالمين السابقين أمثالهم ويسمعوا أخبارها فيتعظوا ويعتبروا. والإنكار والتنديد ينطويان على تقرير بأن السامعين العرب كانوا يعرفون مساكن الأمم السابقة البائدة ورأوا فيها آثار التدمير، وكانوا يعلمون أنها آثار تدمير رباني.
٤- وبيان لسبب عدم اعتبارهم واتّعاظهم يتضمن التقريع والتعقيب : فإن قلوبهم هي المتعامية عن الحقيقة المنصرفة عن الحق. ومن كان قلبه كذلك فلا يجدي إبصاره ورؤيته شيئا.
ولم نطلع على مناسبة خاصة للآيات. ولا تحتوي موضوعا مستقلا كما هو واضح. وإنما تعطف الكلام إلى الكفار منددة مذكّرة لهم ومسلّية للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء موقفهم وتكذيبهم. والطابع المكي عليها وعلى ما بعدها بارز. ويتبادر لنا أنها استئناف واستمرار للكلام الذي سبق الآية [ ٢٤ ] وما بعدها، وقد تضمن هذا الكلام موضوعا من مواضيع الدعوة الرئيسية وهو الإنذار بالبعث والتنديد بفئات الناس المنحرفين الذين يتبعون وساوس الشياطين أو يلتمسون مصالحهم الخاصة من وراء الإيمان بالله. ووصفا لمصير الكفار والمؤمنين في الآخرة، وأن الآيات [ ٢٤ ] وما بعدها قد جاءت بمثابة استطراد سواء أكانت مدنية أو مكية. وهذا مما تكرر في النظم القرآني المكي.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ﴿ ٤٢ ﴾ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ﴿ ٤٣ ﴾ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴿ ٤٤ ﴾ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ [ ١ ] عَلَى عُرُوشِهَا [ ٢ ] وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ [ ٣ ] وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ [ ٤ ] ﴿ ٤٥ ﴾ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴿ ٤٦ ﴾

في هذه الآيات :


١-
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فإذا كان الكفار يقفون منه موقف التكذيب والجحود فقد كذّب قبلهم أمثالهم من أقوام نوح وعاد وثمود وإبراهيم ولوط ومدين أنبياءهم كما كذب موسى. فأمهل الله الكافرين قليلا ثم أخذهم وكان نكاله فيهم شديدا خالد الأثر.

٢-
تذكير ينطوي على الزجر : فلكم أهلك الله من أهل القرى الظالمة خلقاً فخرّت قراهم على عروشها وتدمّرت. ولكم تعطل نتيجة لذلك آبار كانت عامرة بورّادها، وخلت قصور مزينة شاهقة كان أهلها يرفلون فيها بالهناء ؟

٣-
وتساؤل يتضمن الإنكار والتنديد عمّا إذا كان الكفار يكذّبون النبي لم يسيروا في الأرض ويروا آثار نكال الله وتدميره في منازل الظالمين السابقين أمثالهم ويسمعوا أخبارها فيتعظوا ويعتبروا. والإنكار والتنديد ينطويان على تقرير بأن السامعين العرب كانوا يعرفون مساكن الأمم السابقة البائدة ورأوا فيها آثار التدمير، وكانوا يعلمون أنها آثار تدمير رباني.

٤-
وبيان لسبب عدم اعتبارهم واتّعاظهم يتضمن التقريع والتعقيب : فإن قلوبهم هي المتعامية عن الحقيقة المنصرفة عن الحق. ومن كان قلبه كذلك فلا يجدي إبصاره ورؤيته شيئا.
ولم نطلع على مناسبة خاصة للآيات. ولا تحتوي موضوعا مستقلا كما هو واضح. وإنما تعطف الكلام إلى الكفار منددة مذكّرة لهم ومسلّية للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء موقفهم وتكذيبهم. والطابع المكي عليها وعلى ما بعدها بارز. ويتبادر لنا أنها استئناف واستمرار للكلام الذي سبق الآية [ ٢٤ ] وما بعدها، وقد تضمن هذا الكلام موضوعا من مواضيع الدعوة الرئيسية وهو الإنذار بالبعث والتنديد بفئات الناس المنحرفين الذين يتبعون وساوس الشياطين أو يلتمسون مصالحهم الخاصة من وراء الإيمان بالله. ووصفا لمصير الكفار والمؤمنين في الآخرة، وأن الآيات [ ٢٤ ] وما بعدها قد جاءت بمثابة استطراد سواء أكانت مدنية أو مكية. وهذا مما تكرر في النظم القرآني المكي.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ﴿ ٤٢ ﴾ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ﴿ ٤٣ ﴾ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴿ ٤٤ ﴾ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ [ ١ ] عَلَى عُرُوشِهَا [ ٢ ] وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ [ ٣ ] وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ [ ٤ ] ﴿ ٤٥ ﴾ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴿ ٤٦ ﴾

في هذه الآيات :


١-
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فإذا كان الكفار يقفون منه موقف التكذيب والجحود فقد كذّب قبلهم أمثالهم من أقوام نوح وعاد وثمود وإبراهيم ولوط ومدين أنبياءهم كما كذب موسى. فأمهل الله الكافرين قليلا ثم أخذهم وكان نكاله فيهم شديدا خالد الأثر.

٢-
تذكير ينطوي على الزجر : فلكم أهلك الله من أهل القرى الظالمة خلقاً فخرّت قراهم على عروشها وتدمّرت. ولكم تعطل نتيجة لذلك آبار كانت عامرة بورّادها، وخلت قصور مزينة شاهقة كان أهلها يرفلون فيها بالهناء ؟

٣-
وتساؤل يتضمن الإنكار والتنديد عمّا إذا كان الكفار يكذّبون النبي لم يسيروا في الأرض ويروا آثار نكال الله وتدميره في منازل الظالمين السابقين أمثالهم ويسمعوا أخبارها فيتعظوا ويعتبروا. والإنكار والتنديد ينطويان على تقرير بأن السامعين العرب كانوا يعرفون مساكن الأمم السابقة البائدة ورأوا فيها آثار التدمير، وكانوا يعلمون أنها آثار تدمير رباني.

٤-
وبيان لسبب عدم اعتبارهم واتّعاظهم يتضمن التقريع والتعقيب : فإن قلوبهم هي المتعامية عن الحقيقة المنصرفة عن الحق. ومن كان قلبه كذلك فلا يجدي إبصاره ورؤيته شيئا.
ولم نطلع على مناسبة خاصة للآيات. ولا تحتوي موضوعا مستقلا كما هو واضح. وإنما تعطف الكلام إلى الكفار منددة مذكّرة لهم ومسلّية للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء موقفهم وتكذيبهم. والطابع المكي عليها وعلى ما بعدها بارز. ويتبادر لنا أنها استئناف واستمرار للكلام الذي سبق الآية [ ٢٤ ] وما بعدها، وقد تضمن هذا الكلام موضوعا من مواضيع الدعوة الرئيسية وهو الإنذار بالبعث والتنديد بفئات الناس المنحرفين الذين يتبعون وساوس الشياطين أو يلتمسون مصالحهم الخاصة من وراء الإيمان بالله. ووصفا لمصير الكفار والمؤمنين في الآخرة، وأن الآيات [ ٢٤ ] وما بعدها قد جاءت بمثابة استطراد سواء أكانت مدنية أو مكية. وهذا مما تكرر في النظم القرآني المكي.

[ ١ ] خاوية : ساقطة أو خارّة.
[ ٢ ] عروشها : قال الزمخشري في الكشاف : كل مرتفع أظلّك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش. وجملة ﴿ خاوية على عروشها ﴾ بمعنى خرّت سقوفها على الأرض.
[ ٣ ] معطلة : متروكة لا يرد الورّاد إليها.
[ ٤ ] مشيد : قيل إن الكلمة بمعنى المنيف العالي، وقيل : إنها بمعنى المزين بالجص الأبيض وقيل : إنها بمعنى الجفصين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ﴿ ٤٢ ﴾ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ﴿ ٤٣ ﴾ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴿ ٤٤ ﴾ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ [ ١ ] عَلَى عُرُوشِهَا [ ٢ ] وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ [ ٣ ] وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ [ ٤ ] ﴿ ٤٥ ﴾ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴿ ٤٦ ﴾

في هذه الآيات :


١-
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فإذا كان الكفار يقفون منه موقف التكذيب والجحود فقد كذّب قبلهم أمثالهم من أقوام نوح وعاد وثمود وإبراهيم ولوط ومدين أنبياءهم كما كذب موسى. فأمهل الله الكافرين قليلا ثم أخذهم وكان نكاله فيهم شديدا خالد الأثر.

٢-
تذكير ينطوي على الزجر : فلكم أهلك الله من أهل القرى الظالمة خلقاً فخرّت قراهم على عروشها وتدمّرت. ولكم تعطل نتيجة لذلك آبار كانت عامرة بورّادها، وخلت قصور مزينة شاهقة كان أهلها يرفلون فيها بالهناء ؟

٣-
وتساؤل يتضمن الإنكار والتنديد عمّا إذا كان الكفار يكذّبون النبي لم يسيروا في الأرض ويروا آثار نكال الله وتدميره في منازل الظالمين السابقين أمثالهم ويسمعوا أخبارها فيتعظوا ويعتبروا. والإنكار والتنديد ينطويان على تقرير بأن السامعين العرب كانوا يعرفون مساكن الأمم السابقة البائدة ورأوا فيها آثار التدمير، وكانوا يعلمون أنها آثار تدمير رباني.

٤-
وبيان لسبب عدم اعتبارهم واتّعاظهم يتضمن التقريع والتعقيب : فإن قلوبهم هي المتعامية عن الحقيقة المنصرفة عن الحق. ومن كان قلبه كذلك فلا يجدي إبصاره ورؤيته شيئا.
ولم نطلع على مناسبة خاصة للآيات. ولا تحتوي موضوعا مستقلا كما هو واضح. وإنما تعطف الكلام إلى الكفار منددة مذكّرة لهم ومسلّية للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء موقفهم وتكذيبهم. والطابع المكي عليها وعلى ما بعدها بارز. ويتبادر لنا أنها استئناف واستمرار للكلام الذي سبق الآية [ ٢٤ ] وما بعدها، وقد تضمن هذا الكلام موضوعا من مواضيع الدعوة الرئيسية وهو الإنذار بالبعث والتنديد بفئات الناس المنحرفين الذين يتبعون وساوس الشياطين أو يلتمسون مصالحهم الخاصة من وراء الإيمان بالله. ووصفا لمصير الكفار والمؤمنين في الآخرة، وأن الآيات [ ٢٤ ] وما بعدها قد جاءت بمثابة استطراد سواء أكانت مدنية أو مكية. وهذا مما تكرر في النظم القرآني المكي.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ﴿ ٤٢ ﴾ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ﴿ ٤٣ ﴾ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴿ ٤٤ ﴾ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ [ ١ ] عَلَى عُرُوشِهَا [ ٢ ] وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ [ ٣ ] وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ [ ٤ ] ﴿ ٤٥ ﴾ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴿ ٤٦ ﴾

في هذه الآيات :


١-
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فإذا كان الكفار يقفون منه موقف التكذيب والجحود فقد كذّب قبلهم أمثالهم من أقوام نوح وعاد وثمود وإبراهيم ولوط ومدين أنبياءهم كما كذب موسى. فأمهل الله الكافرين قليلا ثم أخذهم وكان نكاله فيهم شديدا خالد الأثر.

٢-
تذكير ينطوي على الزجر : فلكم أهلك الله من أهل القرى الظالمة خلقاً فخرّت قراهم على عروشها وتدمّرت. ولكم تعطل نتيجة لذلك آبار كانت عامرة بورّادها، وخلت قصور مزينة شاهقة كان أهلها يرفلون فيها بالهناء ؟

٣-
وتساؤل يتضمن الإنكار والتنديد عمّا إذا كان الكفار يكذّبون النبي لم يسيروا في الأرض ويروا آثار نكال الله وتدميره في منازل الظالمين السابقين أمثالهم ويسمعوا أخبارها فيتعظوا ويعتبروا. والإنكار والتنديد ينطويان على تقرير بأن السامعين العرب كانوا يعرفون مساكن الأمم السابقة البائدة ورأوا فيها آثار التدمير، وكانوا يعلمون أنها آثار تدمير رباني.

٤-
وبيان لسبب عدم اعتبارهم واتّعاظهم يتضمن التقريع والتعقيب : فإن قلوبهم هي المتعامية عن الحقيقة المنصرفة عن الحق. ومن كان قلبه كذلك فلا يجدي إبصاره ورؤيته شيئا.
ولم نطلع على مناسبة خاصة للآيات. ولا تحتوي موضوعا مستقلا كما هو واضح. وإنما تعطف الكلام إلى الكفار منددة مذكّرة لهم ومسلّية للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء موقفهم وتكذيبهم. والطابع المكي عليها وعلى ما بعدها بارز. ويتبادر لنا أنها استئناف واستمرار للكلام الذي سبق الآية [ ٢٤ ] وما بعدها، وقد تضمن هذا الكلام موضوعا من مواضيع الدعوة الرئيسية وهو الإنذار بالبعث والتنديد بفئات الناس المنحرفين الذين يتبعون وساوس الشياطين أو يلتمسون مصالحهم الخاصة من وراء الإيمان بالله. ووصفا لمصير الكفار والمؤمنين في الآخرة، وأن الآيات [ ٢٤ ] وما بعدها قد جاءت بمثابة استطراد سواء أكانت مدنية أو مكية. وهذا مما تكرر في النظم القرآني المكي.

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴿ ٤٧ ﴾ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴿ ٤٨ ﴾

١-
حكاية لاستعجال الكفار عذاب الله الموعد به.

٢-
وتوكيد بتحقيق الله وعده بسبيل الردّ عليهم.

٣-
وتنبيه بأن اليوم الواحد عند الله مثل ألف سنة عند الناس.

٤-
وتذكير للكفار على سبيل الإنذار، فكم من أمم كثيرة قبلهم وقفت موقف البغي والجحود مثلهم فأمهلها الله قليلا ثم أخذها. وإن مصير كل شيء ومرجعه إليه أولا وآخراً.
والمتبادر أن الآيتين متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا، وأن استعجال الكفار المحكي عنهم هو من قبيل التحدّي. وقد تكرر حكاية ذلك عنهم في السور المكية وتكرر الردّ عليهم بمثل ما احتوته الآيات من إنذار وتذكير وتنديد.
تعليق على جملة
﴿ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾
جاء هذا التعبير في إحدى آيات سورة السجدة في صدد بيان كون الله تعالى يعرج من الأرض إلى السماء في يوم مقداره ألف سنة. غير أن الجملة هنا قد جاءت لمقصد آخر. ولقد روى المفسرون ١ عن أهل التأويل عدّة أقوال في صددها منها عزواً إلى ابن عباس أنه اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. ومنها عزوا إلى عكرمة ومجاهد أنه من أيام الآخرة. وساقوا في التدليل على هذا القول قولا مرويا عن أبي هريرة جاء فيه :«يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم، قيل له : وما نصف يوم ؟ قال : وما تقرأ القرآن ؟ قال : بلى قال : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدّون ». وحديثا عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبشروا يا معاشر صعاليك المهاجرين بالنور القادم يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة ». ومنها عزوا إلى ابن عباس أن معنى الجملة هو أن يوما وألف سنة في الإمهال سواء على الله وأن البطيء عندهم قريب عنده وأنه قادر على أخذهم متى شاء لا يفوته شيء بالتأخير، فيستوي في قدرته الصحيحة. والقول الأخير هو أوجه الأقوال فيما يتبادر لنا. والله أعلم.
وقد انطوى في الآية الثانية ردّ على تحدّيهم : فإذا كان عذاب الله تأخّر عنهم ورأوا أن أسباب القوة والسلامة توفرت لهم فليس معنى ذلك أن الله قد أخلف وعده، فقد كان هذا شأنه مع كفار الأمم السابقة حيث أملى لهم ثم أخذهم.
وأسلوب الآيتين قد يدل على أنهما وسابقاتهما بسبيل مشهد جدلي من المشاهد التي كانت تتكرر بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار، والتي حكت الآيات المكية كثيرا منها.
١ انظر الطبري والبغوي وغيرهما.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴿ ٤٧ ﴾ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴿ ٤٨ ﴾

١-
حكاية لاستعجال الكفار عذاب الله الموعد به.

٢-
وتوكيد بتحقيق الله وعده بسبيل الردّ عليهم.

٣-
وتنبيه بأن اليوم الواحد عند الله مثل ألف سنة عند الناس.

٤-
وتذكير للكفار على سبيل الإنذار، فكم من أمم كثيرة قبلهم وقفت موقف البغي والجحود مثلهم فأمهلها الله قليلا ثم أخذها. وإن مصير كل شيء ومرجعه إليه أولا وآخراً.
والمتبادر أن الآيتين متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا، وأن استعجال الكفار المحكي عنهم هو من قبيل التحدّي. وقد تكرر حكاية ذلك عنهم في السور المكية وتكرر الردّ عليهم بمثل ما احتوته الآيات من إنذار وتذكير وتنديد.
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿ ٤٩ ﴾ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿ ٥٠ ﴾ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿ ٥١ ﴾
وفي هذه الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يهتف بالناس مذكرا بجوهر مهمته، فهو ليس إلا منذرا ليبين لهم طريق الهدى وليحذرهم من الضلال والغواية. فالمهتدون المستجيبون المؤمنون الصالحون لهم من الله المغفرة والرزق الكريم. أما الذين يقفون من الدعوة إلى الله وآياته ورسالة رسوله موقف التعجيز والتعطيل والشقاق فهم أصحاب الجحيم.
والآيات متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. والهتاف الذي فيها قد تكرر كثيرا في السور المكية لتكرر وتجدد المواقف والمناسبات.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٩:قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿ ٤٩ ﴾ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿ ٥٠ ﴾ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿ ٥١ ﴾
وفي هذه الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يهتف بالناس مذكرا بجوهر مهمته، فهو ليس إلا منذرا ليبين لهم طريق الهدى وليحذرهم من الضلال والغواية. فالمهتدون المستجيبون المؤمنون الصالحون لهم من الله المغفرة والرزق الكريم. أما الذين يقفون من الدعوة إلى الله وآياته ورسالة رسوله موقف التعجيز والتعطيل والشقاق فهم أصحاب الجحيم.
والآيات متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. والهتاف الذي فيها قد تكرر كثيرا في السور المكية لتكرر وتجدد المواقف والمناسبات.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٩:قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿ ٤٩ ﴾ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿ ٥٠ ﴾ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿ ٥١ ﴾
وفي هذه الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يهتف بالناس مذكرا بجوهر مهمته، فهو ليس إلا منذرا ليبين لهم طريق الهدى وليحذرهم من الضلال والغواية. فالمهتدون المستجيبون المؤمنون الصالحون لهم من الله المغفرة والرزق الكريم. أما الذين يقفون من الدعوة إلى الله وآياته ورسالة رسوله موقف التعجيز والتعطيل والشقاق فهم أصحاب الجحيم.
والآيات متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. والهتاف الذي فيها قد تكرر كثيرا في السور المكية لتكرر وتجدد المواقف والمناسبات.

[ ١ ] تمنّى : حدّث نفسه بالرغبة فيما يشتهي، أو رجا تحقيق ما يشتهي.
[ ٢ ] الأمنية : هي الرغبة في تحقيق ما يشتهيه الإنسان ويحبه.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [ ١ ] أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [ ٢ ] فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [ ٣ ] ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿ ٥٢ ﴾ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴿ ٥٣ ﴾ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ [ ٤ ] لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿ ٥٤ ﴾ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [ ٥ ] ﴿ ٥٥ ﴾‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿ ٥٦ ﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿ ٥٧ ﴾
الآيات تقريرية الأسلوب، وقد وجّه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتضمنت فيما هو المتبادر تقرير ما يلي :

١-
إن الله لم يرسل من قبله رسولا أو نبيا وتمنى أمرا إلا وقف الشيطان في طريق تحقيق أمنيته.

٢-
ولكن الله تعالى يؤيد رسوله أو نبيّه ويحكم آياته ويحبط دسائس الشيطان ووساوسه.

٣-
ولا يستطيع الشيطان إغواء غير مرضى القلوب وقساتها ؛ حيث يكون إلقاؤه لهم من قبيل الابتلاء فيتلقّونه بالقبول بسبب خبث سرائرهم ومرض قلوبهم. والظالمون أمثالهم يكونون في العادة شديدي المشاققة والعناد.

٤-
أما الذين أوتوا العلم والفهم فيدركون أن ما جاء من آيات الله المحكمة على لسان نبيه ورسوله إنما هو الحق من ربّه فيؤمنون ويهتدون وتخشع قلوبهم.

٥-
والله سبحانه إنما يهدي إلى صراطه المستقيم المؤمنين المستجيبين لدعوته نتيجة لما أتوه من علم وفهم وما هم عليه من نيّة حسنة ورغبة صادقة وقلوب سليمة. أما الكافرون المشاقون فيظلون في ريبتهم وشكوكهم ومشاققتهم حتى تأتيهم ساعتهم –أي أجلهم- بغتة أو يأتيهم عذاب الله المنقطع النظير في هوله والذي لا فرصة لهم بعده في يومه الموعود.

٦-
وحينئذ يكون الحكم والسلطان والقضاء لله تعالى فيقضي بين الناس قضاءه الأخير : فمن كان آمن وعمل صالحا فينزله جنات النعيم، ومن كان كفر وكذّب بآيات الله فله العذاب المهين.
تعليق على الآيات
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى... ﴾
من الآية [ ٥٢ ] إلى الآية [ ٥٧ ]
لقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة الإسراء [ ٥٣-٥٧ ] الرواية التي يرويها المفسرون في سياق آيات الحج التي نحن في صددها وعلقنا عليها وانتهينا بتعليقنا إلى نفيها بما يغني عن التكرار. ولقد روى المفسرون أن ابن عباس أوّلَ كلمة تمنّى بمعنى قرأ، وكلمة أمنية بمعنى قراءة استنباطا من آية سورة البقرة هذه ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴿ ٧٨ ﴾. وقالوا : إن ذلك متصل برواية إلقاء الشيطان ما ألقاه حينما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم على ما فصلناه في سياق تفسير آيات الإسراء المذكورة آنفا. وتبعا لنفي تلك الرواية ننفي صدور هذا التأويل عن ابن عباس أيضا، ونرجح أن الذين دسّوا تلك الرواية من أعداء الإسلام الهدّامين في القرن الثاني أو الثالث قد دسّوا هذا القول ليكون مرتكزا لها. وفي تأويل الكلمتين بالقراءة تكلّف ظاهر وتأويلنا لكلمتي تمنّى وأمنية هو الأكثر وجاهة وهو متّسق مع تأويل جمهرة المفسرين.
وكل هذا يجعلنا نرجو أن يكون الشرح الذي شرحناه للآيات هو الوجه الصواب. ويجعلنا نرى أن الآيات غير منقطعة عن سابقاتها، وأنها متصلة بها اتصال تعقيب وتطمين وتسلية وتنديد وبشرى. فقد حكت الآيات السابقة مواقف الكفار وتكذيبهم وتحدّيهم ثم انتهت بتقرير مهمة النبي صلى الله عليه وسلم وهي الإنذار والتبشير. فجاءت هذه الآيات معقبة عليها ؛ لتقرر أن كل نبي ورسول يتمنى أن يؤمن الناس برسالته كما كان يتمنى النبي صلى الله عليه وسلم، ويشتدّ به الحزن لعدم تحقق أمنيته أو تأخرها مما حكته آيات كثيرة، وأن الشيطان يقف في طريق هذه الأمنية بوساوسه للناس، وأن ما كان من مواقف الكفار الشقاقية والتعجيزية والجحودية من أثر ذلك، ولتنبه مع ذلك على أن الشيطان إنما يؤثر في الخبثاء المجرمين فقط، وأنه ليس له سلطان على ذوي النوايا الحسنة الذين يرون نور الرسالة النبوية فيهتدون به. وهكذا تكون الآيات بسبيل تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت للمسلمين وتنديد وإنذار للمكذّبين.
وتأتي بعد هذه الآيات آيات تعد الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا بالرزق الحسن والمدخل المرضي ؛ حيث يخطر بالبال أن تكون الآيات التي نحن في صددها قد نزلت في ظروف حركة الهجرة إلى المدينة بعد أن يئس النبي صلى الله عليه وسلم من قريش وناله هو والمسلمين ما نالهم منهم من أذى واضطهاد. ولقد كان يشعر –كما قلنا قبل- بحزن شديد من إخفاق جهوده العظيمة في سبيل هدايتهم مع شدّة رغبته في ذلك وتمنّيه وحرصه، فجاءت الآيات لتسلّيه وتهوّن عليه وتذكره أن له أسوة بالرسل والأنبياء من قبله لتبثّ فيه الأمل والرجاء في الفئة الصالحة العاقلة من الناس الذين وهبوا العقل والعلم وحسن السريرة فآمنوا وخبتت قلوبهم. حتى لو لم يصحّ هذا الخاطر فإن الذي نرجّحه أنها نزلت في ظروف ألمّت بالنبي صلى الله عليه وسلم من جراء موقف شديد وقفته قريش تجاهه أو تجاه أصحابه فجاءت الآيات من أجل الأهداف المذكورة. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن هذه الآيات أو بتعبير أدق الآيات [ ٥٢-٥٥ ] منها نزلت بين مكة والمدينة. أي في طريق هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ولم نطلع على ما يؤيد هذه الرواية. فإن صحّت فيمكن الاستئناس بها على صحة ما ذهبنا إليه، بل وقد يكون ما ذهبنا إليه مما يجعل صحة الرواية قوية الاحتمال. وفضلا عن هذا فالرواية في حالة صحتها تنطوي على دليل جديد على عدم صحة رواية الغرانيق ؛ لأنها تبعد وقت نزولها كثيرا عن وقت وقوع الحادث الذي ذكر في رواية الغرانيق والله تعالى أعلم.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [ ١ ] أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [ ٢ ] فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [ ٣ ] ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿ ٥٢ ﴾ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴿ ٥٣ ﴾ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ [ ٤ ] لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿ ٥٤ ﴾ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [ ٥ ] ﴿ ٥٥ ﴾‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿ ٥٦ ﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿ ٥٧ ﴾
الآيات تقريرية الأسلوب، وقد وجّه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتضمنت فيما هو المتبادر تقرير ما يلي :

١-
إن الله لم يرسل من قبله رسولا أو نبيا وتمنى أمرا إلا وقف الشيطان في طريق تحقيق أمنيته.

٢-
ولكن الله تعالى يؤيد رسوله أو نبيّه ويحكم آياته ويحبط دسائس الشيطان ووساوسه.

٣-
ولا يستطيع الشيطان إغواء غير مرضى القلوب وقساتها ؛ حيث يكون إلقاؤه لهم من قبيل الابتلاء فيتلقّونه بالقبول بسبب خبث سرائرهم ومرض قلوبهم. والظالمون أمثالهم يكونون في العادة شديدي المشاققة والعناد.

٤-
أما الذين أوتوا العلم والفهم فيدركون أن ما جاء من آيات الله المحكمة على لسان نبيه ورسوله إنما هو الحق من ربّه فيؤمنون ويهتدون وتخشع قلوبهم.

٥-
والله سبحانه إنما يهدي إلى صراطه المستقيم المؤمنين المستجيبين لدعوته نتيجة لما أتوه من علم وفهم وما هم عليه من نيّة حسنة ورغبة صادقة وقلوب سليمة. أما الكافرون المشاقون فيظلون في ريبتهم وشكوكهم ومشاققتهم حتى تأتيهم ساعتهم –أي أجلهم- بغتة أو يأتيهم عذاب الله المنقطع النظير في هوله والذي لا فرصة لهم بعده في يومه الموعود.

٦-
وحينئذ يكون الحكم والسلطان والقضاء لله تعالى فيقضي بين الناس قضاءه الأخير : فمن كان آمن وعمل صالحا فينزله جنات النعيم، ومن كان كفر وكذّب بآيات الله فله العذاب المهين.
تعليق على الآيات
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى... ﴾
من الآية [ ٥٢ ] إلى الآية [ ٥٧ ]
لقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة الإسراء [ ٥٣-٥٧ ] الرواية التي يرويها المفسرون في سياق آيات الحج التي نحن في صددها وعلقنا عليها وانتهينا بتعليقنا إلى نفيها بما يغني عن التكرار. ولقد روى المفسرون أن ابن عباس أوّلَ كلمة تمنّى بمعنى قرأ، وكلمة أمنية بمعنى قراءة استنباطا من آية سورة البقرة هذه ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴿ ٧٨ ﴾. وقالوا : إن ذلك متصل برواية إلقاء الشيطان ما ألقاه حينما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم على ما فصلناه في سياق تفسير آيات الإسراء المذكورة آنفا. وتبعا لنفي تلك الرواية ننفي صدور هذا التأويل عن ابن عباس أيضا، ونرجح أن الذين دسّوا تلك الرواية من أعداء الإسلام الهدّامين في القرن الثاني أو الثالث قد دسّوا هذا القول ليكون مرتكزا لها. وفي تأويل الكلمتين بالقراءة تكلّف ظاهر وتأويلنا لكلمتي تمنّى وأمنية هو الأكثر وجاهة وهو متّسق مع تأويل جمهرة المفسرين.
وكل هذا يجعلنا نرجو أن يكون الشرح الذي شرحناه للآيات هو الوجه الصواب. ويجعلنا نرى أن الآيات غير منقطعة عن سابقاتها، وأنها متصلة بها اتصال تعقيب وتطمين وتسلية وتنديد وبشرى. فقد حكت الآيات السابقة مواقف الكفار وتكذيبهم وتحدّيهم ثم انتهت بتقرير مهمة النبي صلى الله عليه وسلم وهي الإنذار والتبشير. فجاءت هذه الآيات معقبة عليها ؛ لتقرر أن كل نبي ورسول يتمنى أن يؤمن الناس برسالته كما كان يتمنى النبي صلى الله عليه وسلم، ويشتدّ به الحزن لعدم تحقق أمنيته أو تأخرها مما حكته آيات كثيرة، وأن الشيطان يقف في طريق هذه الأمنية بوساوسه للناس، وأن ما كان من مواقف الكفار الشقاقية والتعجيزية والجحودية من أثر ذلك، ولتنبه مع ذلك على أن الشيطان إنما يؤثر في الخبثاء المجرمين فقط، وأنه ليس له سلطان على ذوي النوايا الحسنة الذين يرون نور الرسالة النبوية فيهتدون به. وهكذا تكون الآيات بسبيل تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت للمسلمين وتنديد وإنذار للمكذّبين.
وتأتي بعد هذه الآيات آيات تعد الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا بالرزق الحسن والمدخل المرضي ؛ حيث يخطر بالبال أن تكون الآيات التي نحن في صددها قد نزلت في ظروف حركة الهجرة إلى المدينة بعد أن يئس النبي صلى الله عليه وسلم من قريش وناله هو والمسلمين ما نالهم منهم من أذى واضطهاد. ولقد كان يشعر –كما قلنا قبل- بحزن شديد من إخفاق جهوده العظيمة في سبيل هدايتهم مع شدّة رغبته في ذلك وتمنّيه وحرصه، فجاءت الآيات لتسلّيه وتهوّن عليه وتذكره أن له أسوة بالرسل والأنبياء من قبله لتبثّ فيه الأمل والرجاء في الفئة الصالحة العاقلة من الناس الذين وهبوا العقل والعلم وحسن السريرة فآمنوا وخبتت قلوبهم. حتى لو لم يصحّ هذا الخاطر فإن الذي نرجّحه أنها نزلت في ظروف ألمّت بالنبي صلى الله عليه وسلم من جراء موقف شديد وقفته قريش تجاهه أو تجاه أصحابه فجاءت الآيات من أجل الأهداف المذكورة. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن هذه الآيات أو بتعبير أدق الآيات [ ٥٢-٥٥ ] منها نزلت بين مكة والمدينة. أي في طريق هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ولم نطلع على ما يؤيد هذه الرواية. فإن صحّت فيمكن الاستئناس بها على صحة ما ذهبنا إليه، بل وقد يكون ما ذهبنا إليه مما يجعل صحة الرواية قوية الاحتمال. وفضلا عن هذا فالرواية في حالة صحتها تنطوي على دليل جديد على عدم صحة رواية الغرانيق ؛ لأنها تبعد وقت نزولها كثيرا عن وقت وقوع الحادث الذي ذكر في رواية الغرانيق والله تعالى أعلم.
[ ٤ ] فتخبت : فتخشع وتذعن.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [ ١ ] أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [ ٢ ] فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [ ٣ ] ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿ ٥٢ ﴾ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴿ ٥٣ ﴾ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ [ ٤ ] لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿ ٥٤ ﴾ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [ ٥ ] ﴿ ٥٥ ﴾‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿ ٥٦ ﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿ ٥٧ ﴾
الآيات تقريرية الأسلوب، وقد وجّه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتضمنت فيما هو المتبادر تقرير ما يلي :

١-
إن الله لم يرسل من قبله رسولا أو نبيا وتمنى أمرا إلا وقف الشيطان في طريق تحقيق أمنيته.

٢-
ولكن الله تعالى يؤيد رسوله أو نبيّه ويحكم آياته ويحبط دسائس الشيطان ووساوسه.

٣-
ولا يستطيع الشيطان إغواء غير مرضى القلوب وقساتها ؛ حيث يكون إلقاؤه لهم من قبيل الابتلاء فيتلقّونه بالقبول بسبب خبث سرائرهم ومرض قلوبهم. والظالمون أمثالهم يكونون في العادة شديدي المشاققة والعناد.

٤-
أما الذين أوتوا العلم والفهم فيدركون أن ما جاء من آيات الله المحكمة على لسان نبيه ورسوله إنما هو الحق من ربّه فيؤمنون ويهتدون وتخشع قلوبهم.

٥-
والله سبحانه إنما يهدي إلى صراطه المستقيم المؤمنين المستجيبين لدعوته نتيجة لما أتوه من علم وفهم وما هم عليه من نيّة حسنة ورغبة صادقة وقلوب سليمة. أما الكافرون المشاقون فيظلون في ريبتهم وشكوكهم ومشاققتهم حتى تأتيهم ساعتهم –أي أجلهم- بغتة أو يأتيهم عذاب الله المنقطع النظير في هوله والذي لا فرصة لهم بعده في يومه الموعود.

٦-
وحينئذ يكون الحكم والسلطان والقضاء لله تعالى فيقضي بين الناس قضاءه الأخير : فمن كان آمن وعمل صالحا فينزله جنات النعيم، ومن كان كفر وكذّب بآيات الله فله العذاب المهين.
تعليق على الآيات
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى... ﴾
من الآية [ ٥٢ ] إلى الآية [ ٥٧ ]
لقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة الإسراء [ ٥٣-٥٧ ] الرواية التي يرويها المفسرون في سياق آيات الحج التي نحن في صددها وعلقنا عليها وانتهينا بتعليقنا إلى نفيها بما يغني عن التكرار. ولقد روى المفسرون أن ابن عباس أوّلَ كلمة تمنّى بمعنى قرأ، وكلمة أمنية بمعنى قراءة استنباطا من آية سورة البقرة هذه ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴿ ٧٨ ﴾. وقالوا : إن ذلك متصل برواية إلقاء الشيطان ما ألقاه حينما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم على ما فصلناه في سياق تفسير آيات الإسراء المذكورة آنفا. وتبعا لنفي تلك الرواية ننفي صدور هذا التأويل عن ابن عباس أيضا، ونرجح أن الذين دسّوا تلك الرواية من أعداء الإسلام الهدّامين في القرن الثاني أو الثالث قد دسّوا هذا القول ليكون مرتكزا لها. وفي تأويل الكلمتين بالقراءة تكلّف ظاهر وتأويلنا لكلمتي تمنّى وأمنية هو الأكثر وجاهة وهو متّسق مع تأويل جمهرة المفسرين.
وكل هذا يجعلنا نرجو أن يكون الشرح الذي شرحناه للآيات هو الوجه الصواب. ويجعلنا نرى أن الآيات غير منقطعة عن سابقاتها، وأنها متصلة بها اتصال تعقيب وتطمين وتسلية وتنديد وبشرى. فقد حكت الآيات السابقة مواقف الكفار وتكذيبهم وتحدّيهم ثم انتهت بتقرير مهمة النبي صلى الله عليه وسلم وهي الإنذار والتبشير. فجاءت هذه الآيات معقبة عليها ؛ لتقرر أن كل نبي ورسول يتمنى أن يؤمن الناس برسالته كما كان يتمنى النبي صلى الله عليه وسلم، ويشتدّ به الحزن لعدم تحقق أمنيته أو تأخرها مما حكته آيات كثيرة، وأن الشيطان يقف في طريق هذه الأمنية بوساوسه للناس، وأن ما كان من مواقف الكفار الشقاقية والتعجيزية والجحودية من أثر ذلك، ولتنبه مع ذلك على أن الشيطان إنما يؤثر في الخبثاء المجرمين فقط، وأنه ليس له سلطان على ذوي النوايا الحسنة الذين يرون نور الرسالة النبوية فيهتدون به. وهكذا تكون الآيات بسبيل تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت للمسلمين وتنديد وإنذار للمكذّبين.
وتأتي بعد هذه الآيات آيات تعد الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا بالرزق الحسن والمدخل المرضي ؛ حيث يخطر بالبال أن تكون الآيات التي نحن في صددها قد نزلت في ظروف حركة الهجرة إلى المدينة بعد أن يئس النبي صلى الله عليه وسلم من قريش وناله هو والمسلمين ما نالهم منهم من أذى واضطهاد. ولقد كان يشعر –كما قلنا قبل- بحزن شديد من إخفاق جهوده العظيمة في سبيل هدايتهم مع شدّة رغبته في ذلك وتمنّيه وحرصه، فجاءت الآيات لتسلّيه وتهوّن عليه وتذكره أن له أسوة بالرسل والأنبياء من قبله لتبثّ فيه الأمل والرجاء في الفئة الصالحة العاقلة من الناس الذين وهبوا العقل والعلم وحسن السريرة فآمنوا وخبتت قلوبهم. حتى لو لم يصحّ هذا الخاطر فإن الذي نرجّحه أنها نزلت في ظروف ألمّت بالنبي صلى الله عليه وسلم من جراء موقف شديد وقفته قريش تجاهه أو تجاه أصحابه فجاءت الآيات من أجل الأهداف المذكورة. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن هذه الآيات أو بتعبير أدق الآيات [ ٥٢-٥٥ ] منها نزلت بين مكة والمدينة. أي في طريق هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ولم نطلع على ما يؤيد هذه الرواية. فإن صحّت فيمكن الاستئناس بها على صحة ما ذهبنا إليه، بل وقد يكون ما ذهبنا إليه مما يجعل صحة الرواية قوية الاحتمال. وفضلا عن هذا فالرواية في حالة صحتها تنطوي على دليل جديد على عدم صحة رواية الغرانيق ؛ لأنها تبعد وقت نزولها كثيرا عن وقت وقوع الحادث الذي ذكر في رواية الغرانيق والله تعالى أعلم.
[ ٥ ] يوم عقيم : يوم لا يأتي مثله بعده. وهو كناية عن يوم القيامة وبسبيل وصف هوله المنقطع النظير. وقال بعض المفسرين : إنه كناية عن يوم حرب طاحنة للكفار ١، وقال بعضهم : إنه كناية عن يوم بدر٢. وأكثر المفسرين مع القول الأول وهو الأكثر اتساقا مع الآيات.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [ ١ ] أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [ ٢ ] فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [ ٣ ] ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿ ٥٢ ﴾ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴿ ٥٣ ﴾ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ [ ٤ ] لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿ ٥٤ ﴾ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [ ٥ ] ﴿ ٥٥ ﴾‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿ ٥٦ ﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿ ٥٧ ﴾
الآيات تقريرية الأسلوب، وقد وجّه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتضمنت فيما هو المتبادر تقرير ما يلي :

١-
إن الله لم يرسل من قبله رسولا أو نبيا وتمنى أمرا إلا وقف الشيطان في طريق تحقيق أمنيته.

٢-
ولكن الله تعالى يؤيد رسوله أو نبيّه ويحكم آياته ويحبط دسائس الشيطان ووساوسه.

٣-
ولا يستطيع الشيطان إغواء غير مرضى القلوب وقساتها ؛ حيث يكون إلقاؤه لهم من قبيل الابتلاء فيتلقّونه بالقبول بسبب خبث سرائرهم ومرض قلوبهم. والظالمون أمثالهم يكونون في العادة شديدي المشاققة والعناد.

٤-
أما الذين أوتوا العلم والفهم فيدركون أن ما جاء من آيات الله المحكمة على لسان نبيه ورسوله إنما هو الحق من ربّه فيؤمنون ويهتدون وتخشع قلوبهم.

٥-
والله سبحانه إنما يهدي إلى صراطه المستقيم المؤمنين المستجيبين لدعوته نتيجة لما أتوه من علم وفهم وما هم عليه من نيّة حسنة ورغبة صادقة وقلوب سليمة. أما الكافرون المشاقون فيظلون في ريبتهم وشكوكهم ومشاققتهم حتى تأتيهم ساعتهم –أي أجلهم- بغتة أو يأتيهم عذاب الله المنقطع النظير في هوله والذي لا فرصة لهم بعده في يومه الموعود.

٦-
وحينئذ يكون الحكم والسلطان والقضاء لله تعالى فيقضي بين الناس قضاءه الأخير : فمن كان آمن وعمل صالحا فينزله جنات النعيم، ومن كان كفر وكذّب بآيات الله فله العذاب المهين.
تعليق على الآيات
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى... ﴾
من الآية [ ٥٢ ] إلى الآية [ ٥٧ ]
لقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة الإسراء [ ٥٣-٥٧ ] الرواية التي يرويها المفسرون في سياق آيات الحج التي نحن في صددها وعلقنا عليها وانتهينا بتعليقنا إلى نفيها بما يغني عن التكرار. ولقد روى المفسرون أن ابن عباس أوّلَ كلمة تمنّى بمعنى قرأ، وكلمة أمنية بمعنى قراءة استنباطا من آية سورة البقرة هذه ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴿ ٧٨ ﴾. وقالوا : إن ذلك متصل برواية إلقاء الشيطان ما ألقاه حينما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم على ما فصلناه في سياق تفسير آيات الإسراء المذكورة آنفا. وتبعا لنفي تلك الرواية ننفي صدور هذا التأويل عن ابن عباس أيضا، ونرجح أن الذين دسّوا تلك الرواية من أعداء الإسلام الهدّامين في القرن الثاني أو الثالث قد دسّوا هذا القول ليكون مرتكزا لها. وفي تأويل الكلمتين بالقراءة تكلّف ظاهر وتأويلنا لكلمتي تمنّى وأمنية هو الأكثر وجاهة وهو متّسق مع تأويل جمهرة المفسرين.
وكل هذا يجعلنا نرجو أن يكون الشرح الذي شرحناه للآيات هو الوجه الصواب. ويجعلنا نرى أن الآيات غير منقطعة عن سابقاتها، وأنها متصلة بها اتصال تعقيب وتطمين وتسلية وتنديد وبشرى. فقد حكت الآيات السابقة مواقف الكفار وتكذيبهم وتحدّيهم ثم انتهت بتقرير مهمة النبي صلى الله عليه وسلم وهي الإنذار والتبشير. فجاءت هذه الآيات معقبة عليها ؛ لتقرر أن كل نبي ورسول يتمنى أن يؤمن الناس برسالته كما كان يتمنى النبي صلى الله عليه وسلم، ويشتدّ به الحزن لعدم تحقق أمنيته أو تأخرها مما حكته آيات كثيرة، وأن الشيطان يقف في طريق هذه الأمنية بوساوسه للناس، وأن ما كان من مواقف الكفار الشقاقية والتعجيزية والجحودية من أثر ذلك، ولتنبه مع ذلك على أن الشيطان إنما يؤثر في الخبثاء المجرمين فقط، وأنه ليس له سلطان على ذوي النوايا الحسنة الذين يرون نور الرسالة النبوية فيهتدون به. وهكذا تكون الآيات بسبيل تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت للمسلمين وتنديد وإنذار للمكذّبين.
وتأتي بعد هذه الآيات آيات تعد الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا بالرزق الحسن والمدخل المرضي ؛ حيث يخطر بالبال أن تكون الآيات التي نحن في صددها قد نزلت في ظروف حركة الهجرة إلى المدينة بعد أن يئس النبي صلى الله عليه وسلم من قريش وناله هو والمسلمين ما نالهم منهم من أذى واضطهاد. ولقد كان يشعر –كما قلنا قبل- بحزن شديد من إخفاق جهوده العظيمة في سبيل هدايتهم مع شدّة رغبته في ذلك وتمنّيه وحرصه، فجاءت الآيات لتسلّيه وتهوّن عليه وتذكره أن له أسوة بالرسل والأنبياء من قبله لتبثّ فيه الأمل والرجاء في الفئة الصالحة العاقلة من الناس الذين وهبوا العقل والعلم وحسن السريرة فآمنوا وخبتت قلوبهم. حتى لو لم يصحّ هذا الخاطر فإن الذي نرجّحه أنها نزلت في ظروف ألمّت بالنبي صلى الله عليه وسلم من جراء موقف شديد وقفته قريش تجاهه أو تجاه أصحابه فجاءت الآيات من أجل الأهداف المذكورة. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن هذه الآيات أو بتعبير أدق الآيات [ ٥٢-٥٥ ] منها نزلت بين مكة والمدينة. أي في طريق هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ولم نطلع على ما يؤيد هذه الرواية. فإن صحّت فيمكن الاستئناس بها على صحة ما ذهبنا إليه، بل وقد يكون ما ذهبنا إليه مما يجعل صحة الرواية قوية الاحتمال. وفضلا عن هذا فالرواية في حالة صحتها تنطوي على دليل جديد على عدم صحة رواية الغرانيق ؛ لأنها تبعد وقت نزولها كثيرا عن وقت وقوع الحادث الذي ذكر في رواية الغرانيق والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير القاسمي.
٢ انظر تفسير الخازن والبغوي وابن كثير.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [ ١ ] أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [ ٢ ] فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [ ٣ ] ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿ ٥٢ ﴾ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴿ ٥٣ ﴾ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ [ ٤ ] لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿ ٥٤ ﴾ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [ ٥ ] ﴿ ٥٥ ﴾‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿ ٥٦ ﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿ ٥٧ ﴾
الآيات تقريرية الأسلوب، وقد وجّه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتضمنت فيما هو المتبادر تقرير ما يلي :

١-
إن الله لم يرسل من قبله رسولا أو نبيا وتمنى أمرا إلا وقف الشيطان في طريق تحقيق أمنيته.

٢-
ولكن الله تعالى يؤيد رسوله أو نبيّه ويحكم آياته ويحبط دسائس الشيطان ووساوسه.

٣-
ولا يستطيع الشيطان إغواء غير مرضى القلوب وقساتها ؛ حيث يكون إلقاؤه لهم من قبيل الابتلاء فيتلقّونه بالقبول بسبب خبث سرائرهم ومرض قلوبهم. والظالمون أمثالهم يكونون في العادة شديدي المشاققة والعناد.

٤-
أما الذين أوتوا العلم والفهم فيدركون أن ما جاء من آيات الله المحكمة على لسان نبيه ورسوله إنما هو الحق من ربّه فيؤمنون ويهتدون وتخشع قلوبهم.

٥-
والله سبحانه إنما يهدي إلى صراطه المستقيم المؤمنين المستجيبين لدعوته نتيجة لما أتوه من علم وفهم وما هم عليه من نيّة حسنة ورغبة صادقة وقلوب سليمة. أما الكافرون المشاقون فيظلون في ريبتهم وشكوكهم ومشاققتهم حتى تأتيهم ساعتهم –أي أجلهم- بغتة أو يأتيهم عذاب الله المنقطع النظير في هوله والذي لا فرصة لهم بعده في يومه الموعود.

٦-
وحينئذ يكون الحكم والسلطان والقضاء لله تعالى فيقضي بين الناس قضاءه الأخير : فمن كان آمن وعمل صالحا فينزله جنات النعيم، ومن كان كفر وكذّب بآيات الله فله العذاب المهين.
تعليق على الآيات
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى... ﴾
من الآية [ ٥٢ ] إلى الآية [ ٥٧ ]
لقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة الإسراء [ ٥٣-٥٧ ] الرواية التي يرويها المفسرون في سياق آيات الحج التي نحن في صددها وعلقنا عليها وانتهينا بتعليقنا إلى نفيها بما يغني عن التكرار. ولقد روى المفسرون أن ابن عباس أوّلَ كلمة تمنّى بمعنى قرأ، وكلمة أمنية بمعنى قراءة استنباطا من آية سورة البقرة هذه ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴿ ٧٨ ﴾. وقالوا : إن ذلك متصل برواية إلقاء الشيطان ما ألقاه حينما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم على ما فصلناه في سياق تفسير آيات الإسراء المذكورة آنفا. وتبعا لنفي تلك الرواية ننفي صدور هذا التأويل عن ابن عباس أيضا، ونرجح أن الذين دسّوا تلك الرواية من أعداء الإسلام الهدّامين في القرن الثاني أو الثالث قد دسّوا هذا القول ليكون مرتكزا لها. وفي تأويل الكلمتين بالقراءة تكلّف ظاهر وتأويلنا لكلمتي تمنّى وأمنية هو الأكثر وجاهة وهو متّسق مع تأويل جمهرة المفسرين.
وكل هذا يجعلنا نرجو أن يكون الشرح الذي شرحناه للآيات هو الوجه الصواب. ويجعلنا نرى أن الآيات غير منقطعة عن سابقاتها، وأنها متصلة بها اتصال تعقيب وتطمين وتسلية وتنديد وبشرى. فقد حكت الآيات السابقة مواقف الكفار وتكذيبهم وتحدّيهم ثم انتهت بتقرير مهمة النبي صلى الله عليه وسلم وهي الإنذار والتبشير. فجاءت هذه الآيات معقبة عليها ؛ لتقرر أن كل نبي ورسول يتمنى أن يؤمن الناس برسالته كما كان يتمنى النبي صلى الله عليه وسلم، ويشتدّ به الحزن لعدم تحقق أمنيته أو تأخرها مما حكته آيات كثيرة، وأن الشيطان يقف في طريق هذه الأمنية بوساوسه للناس، وأن ما كان من مواقف الكفار الشقاقية والتعجيزية والجحودية من أثر ذلك، ولتنبه مع ذلك على أن الشيطان إنما يؤثر في الخبثاء المجرمين فقط، وأنه ليس له سلطان على ذوي النوايا الحسنة الذين يرون نور الرسالة النبوية فيهتدون به. وهكذا تكون الآيات بسبيل تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت للمسلمين وتنديد وإنذار للمكذّبين.
وتأتي بعد هذه الآيات آيات تعد الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا بالرزق الحسن والمدخل المرضي ؛ حيث يخطر بالبال أن تكون الآيات التي نحن في صددها قد نزلت في ظروف حركة الهجرة إلى المدينة بعد أن يئس النبي صلى الله عليه وسلم من قريش وناله هو والمسلمين ما نالهم منهم من أذى واضطهاد. ولقد كان يشعر –كما قلنا قبل- بحزن شديد من إخفاق جهوده العظيمة في سبيل هدايتهم مع شدّة رغبته في ذلك وتمنّيه وحرصه، فجاءت الآيات لتسلّيه وتهوّن عليه وتذكره أن له أسوة بالرسل والأنبياء من قبله لتبثّ فيه الأمل والرجاء في الفئة الصالحة العاقلة من الناس الذين وهبوا العقل والعلم وحسن السريرة فآمنوا وخبتت قلوبهم. حتى لو لم يصحّ هذا الخاطر فإن الذي نرجّحه أنها نزلت في ظروف ألمّت بالنبي صلى الله عليه وسلم من جراء موقف شديد وقفته قريش تجاهه أو تجاه أصحابه فجاءت الآيات من أجل الأهداف المذكورة. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن هذه الآيات أو بتعبير أدق الآيات [ ٥٢-٥٥ ] منها نزلت بين مكة والمدينة. أي في طريق هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ولم نطلع على ما يؤيد هذه الرواية. فإن صحّت فيمكن الاستئناس بها على صحة ما ذهبنا إليه، بل وقد يكون ما ذهبنا إليه مما يجعل صحة الرواية قوية الاحتمال. وفضلا عن هذا فالرواية في حالة صحتها تنطوي على دليل جديد على عدم صحة رواية الغرانيق ؛ لأنها تبعد وقت نزولها كثيرا عن وقت وقوع الحادث الذي ذكر في رواية الغرانيق والله تعالى أعلم.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [ ١ ] أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [ ٢ ] فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [ ٣ ] ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿ ٥٢ ﴾ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴿ ٥٣ ﴾ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ [ ٤ ] لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿ ٥٤ ﴾ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [ ٥ ] ﴿ ٥٥ ﴾‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿ ٥٦ ﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿ ٥٧ ﴾
الآيات تقريرية الأسلوب، وقد وجّه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتضمنت فيما هو المتبادر تقرير ما يلي :

١-
إن الله لم يرسل من قبله رسولا أو نبيا وتمنى أمرا إلا وقف الشيطان في طريق تحقيق أمنيته.

٢-
ولكن الله تعالى يؤيد رسوله أو نبيّه ويحكم آياته ويحبط دسائس الشيطان ووساوسه.

٣-
ولا يستطيع الشيطان إغواء غير مرضى القلوب وقساتها ؛ حيث يكون إلقاؤه لهم من قبيل الابتلاء فيتلقّونه بالقبول بسبب خبث سرائرهم ومرض قلوبهم. والظالمون أمثالهم يكونون في العادة شديدي المشاققة والعناد.

٤-
أما الذين أوتوا العلم والفهم فيدركون أن ما جاء من آيات الله المحكمة على لسان نبيه ورسوله إنما هو الحق من ربّه فيؤمنون ويهتدون وتخشع قلوبهم.

٥-
والله سبحانه إنما يهدي إلى صراطه المستقيم المؤمنين المستجيبين لدعوته نتيجة لما أتوه من علم وفهم وما هم عليه من نيّة حسنة ورغبة صادقة وقلوب سليمة. أما الكافرون المشاقون فيظلون في ريبتهم وشكوكهم ومشاققتهم حتى تأتيهم ساعتهم –أي أجلهم- بغتة أو يأتيهم عذاب الله المنقطع النظير في هوله والذي لا فرصة لهم بعده في يومه الموعود.

٦-
وحينئذ يكون الحكم والسلطان والقضاء لله تعالى فيقضي بين الناس قضاءه الأخير : فمن كان آمن وعمل صالحا فينزله جنات النعيم، ومن كان كفر وكذّب بآيات الله فله العذاب المهين.
تعليق على الآيات
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى... ﴾
من الآية [ ٥٢ ] إلى الآية [ ٥٧ ]
لقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة الإسراء [ ٥٣-٥٧ ] الرواية التي يرويها المفسرون في سياق آيات الحج التي نحن في صددها وعلقنا عليها وانتهينا بتعليقنا إلى نفيها بما يغني عن التكرار. ولقد روى المفسرون أن ابن عباس أوّلَ كلمة تمنّى بمعنى قرأ، وكلمة أمنية بمعنى قراءة استنباطا من آية سورة البقرة هذه ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴿ ٧٨ ﴾. وقالوا : إن ذلك متصل برواية إلقاء الشيطان ما ألقاه حينما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم على ما فصلناه في سياق تفسير آيات الإسراء المذكورة آنفا. وتبعا لنفي تلك الرواية ننفي صدور هذا التأويل عن ابن عباس أيضا، ونرجح أن الذين دسّوا تلك الرواية من أعداء الإسلام الهدّامين في القرن الثاني أو الثالث قد دسّوا هذا القول ليكون مرتكزا لها. وفي تأويل الكلمتين بالقراءة تكلّف ظاهر وتأويلنا لكلمتي تمنّى وأمنية هو الأكثر وجاهة وهو متّسق مع تأويل جمهرة المفسرين.
وكل هذا يجعلنا نرجو أن يكون الشرح الذي شرحناه للآيات هو الوجه الصواب. ويجعلنا نرى أن الآيات غير منقطعة عن سابقاتها، وأنها متصلة بها اتصال تعقيب وتطمين وتسلية وتنديد وبشرى. فقد حكت الآيات السابقة مواقف الكفار وتكذيبهم وتحدّيهم ثم انتهت بتقرير مهمة النبي صلى الله عليه وسلم وهي الإنذار والتبشير. فجاءت هذه الآيات معقبة عليها ؛ لتقرر أن كل نبي ورسول يتمنى أن يؤمن الناس برسالته كما كان يتمنى النبي صلى الله عليه وسلم، ويشتدّ به الحزن لعدم تحقق أمنيته أو تأخرها مما حكته آيات كثيرة، وأن الشيطان يقف في طريق هذه الأمنية بوساوسه للناس، وأن ما كان من مواقف الكفار الشقاقية والتعجيزية والجحودية من أثر ذلك، ولتنبه مع ذلك على أن الشيطان إنما يؤثر في الخبثاء المجرمين فقط، وأنه ليس له سلطان على ذوي النوايا الحسنة الذين يرون نور الرسالة النبوية فيهتدون به. وهكذا تكون الآيات بسبيل تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت للمسلمين وتنديد وإنذار للمكذّبين.
وتأتي بعد هذه الآيات آيات تعد الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا بالرزق الحسن والمدخل المرضي ؛ حيث يخطر بالبال أن تكون الآيات التي نحن في صددها قد نزلت في ظروف حركة الهجرة إلى المدينة بعد أن يئس النبي صلى الله عليه وسلم من قريش وناله هو والمسلمين ما نالهم منهم من أذى واضطهاد. ولقد كان يشعر –كما قلنا قبل- بحزن شديد من إخفاق جهوده العظيمة في سبيل هدايتهم مع شدّة رغبته في ذلك وتمنّيه وحرصه، فجاءت الآيات لتسلّيه وتهوّن عليه وتذكره أن له أسوة بالرسل والأنبياء من قبله لتبثّ فيه الأمل والرجاء في الفئة الصالحة العاقلة من الناس الذين وهبوا العقل والعلم وحسن السريرة فآمنوا وخبتت قلوبهم. حتى لو لم يصحّ هذا الخاطر فإن الذي نرجّحه أنها نزلت في ظروف ألمّت بالنبي صلى الله عليه وسلم من جراء موقف شديد وقفته قريش تجاهه أو تجاه أصحابه فجاءت الآيات من أجل الأهداف المذكورة. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن هذه الآيات أو بتعبير أدق الآيات [ ٥٢-٥٥ ] منها نزلت بين مكة والمدينة. أي في طريق هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ولم نطلع على ما يؤيد هذه الرواية. فإن صحّت فيمكن الاستئناس بها على صحة ما ذهبنا إليه، بل وقد يكون ما ذهبنا إليه مما يجعل صحة الرواية قوية الاحتمال. وفضلا عن هذا فالرواية في حالة صحتها تنطوي على دليل جديد على عدم صحة رواية الغرانيق ؛ لأنها تبعد وقت نزولها كثيرا عن وقت وقوع الحادث الذي ذكر في رواية الغرانيق والله تعالى أعلم.
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴿ ٥٩ ﴾ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ [ ١ ] ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴿ ٦٠ ﴾
في هذه الآيات :
١- تطمين وبشرى للمهاجرين : فالذين هاجروا تمسكا بدينهم الحقّ فقتلوا أو ماتوا، لهم من الله أعظم الأجر والكرامة وليرزقنهم الله أحسن الرزق وهو خير من يستطيع ذلك. وليدخلنهم المدخل الذي يرضونه وتقرّ به أعينهم، وهو العالم بنوايا الناس وأعمالهم والذي يعاملهم بمقتضى حلمه الواسع.
٢- وعد رباني بتأييد ونصر الذين يبغي الناس عليهم ويظلمونهم. إذا استعملوا حقّهم المشروع بمقابلة البغي والأذى بالمثل. وتثبيت لهم على موقفهم. فالله العفوّ الغفور يشملهم بعفوه وغفرانه.
ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيتين الأوليين. أما الآية الثالثة فقد روى المفسرون ١ أنها نزلت في سرية من المسلمين المهاجرين التقت بجماعة من المشركين، وكان الوقت في الشهر الحرام فناشدهم المسلمون بأن لا يقاتلوهم فأبوا وهاجموهم فقابلوهم وانتصروا عليهم.
وقد يبدو على ضوء هذه الرواية المتّسقة مع الآيات ثم على ضوء مضمون الآيات أن الآيات الثلاث مدنية، وأنها مترابطة مع بعضها ونزلت معاً، وأن من المحتمل أن يكون بعض المهاجرين قد قتلوا في الاشتباك، وأن بعض الناس قد لاموا المهاجرين لاشتباكهم مع المشركين في الشهر الحرام فجاءت الآيات على سبيل التثبيت والتطمين والتهدئة والتبرير. ونرجّح أن هذه الحادثة هي غير حادثة سرية عبد الله بن جحش التي ذكرناه في سياق تفسير الآيات [ ٣٨-٤١ ] من هذه السورة ؛ لأن هذه الحادثة قد أشير إليها في آيات سورة البقرة هذه :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ { ٢١٧ ﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٢١٨ ﴾ }.
وإذا كان ما خمّنّاه من أن الآيات السابقة قد نزلت بين يدي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فيكون وضع الآيات بعدها متصلا بذلك والله أعلم.
تلقين الآية
﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا... ﴾
والآيتين التاليتين لها
ومع خصوصية موضوع الآيات الثلاث الزمنية على ضوء ما شرحناه فإن فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى بالحثّ على الهجرة في سبيل الله من البلد الظالم أهلها وحكامها. وبالبشرى للمهاجرين بحسن العاقبة على كلّ حال سواء أقتلوا أم ماتوا أم ضلوا أحياء، وما في ذلك من حفز على عدم رضاء المسلم بالإقامة في دار الظلم والذلّ والهوان. وبتبرير مقابلة العدوان بمثله وتشجيع المدافع عن نفسه والمقابلة على العدوان بالمثل. وببثّ الطمأنينة فيه بوعده بتأييد الله ونصره لأنه في موقف المظلوم المبغى عليه مع تقرير كون العقوبة أي المقابلة والقتال لا يصح أن تكون إلا دفاعا عن النفس ومقابلة للعدوان بالمثل وحسب.
وقد تكرر هذا في آيات عديدة مكية ومدنية مرّ منها بعض الأمثلة مثل آية سورة النحل [ ١٢٦ ] وآيات سورة الشورى [ ٣٦-٤٣ ] وآيات سورة البقرة هذه :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ { ١٩٠ ﴾‏ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ﴿ ١٩١ ﴾ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٩٢ ﴾ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴿ ١٩٣ ﴾ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴿ ١٩٤ ﴾ } ٢. وفي سورة النساء آيات فيها تنديد شديد بمن يقبل الإقامة في دار الظلم ولم يهاجر منها وبيان تشجيعي بما يمكن أن يكون في الهجرة في مثل هذه الحالة من مجال لإرغام الظالم مع وعد رباني بعفو الله ومغفرته لمن يموت في سبيل ذلك وهي :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً { ٩٧ ﴾ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ﴿ ٩٨ ﴾ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ﴿ ٩٩ ﴾ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴿ ١٠٠ ﴾ }
ولقد أورد ابن كثير حديثين في سياق هذه الآيات رواهما ابن أبي حاتم واحد منهما عن سلمان الفارسي قال :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتّانين. واقرأوا إذا شئتم :{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴿ ٥٩ ﴾ }. وثانيهما عن ربيعة بن سيف قال :«كنّا برودوس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرّ بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفى، فمال الناس على القتيل فقال فضالة : ما لي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا ؟ فقالوا : هذا القتيل في سبيل الله، فقال : والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا ﴾ حتى بلغ آخر الآية ».
والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وصحتهما محتملة وفيهما تفسير للآية الأولى فيه تأييد لما ذهبنا إليه من عموم تلقينها.
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.
٢ سوف نشرح مدى الآيات في مناسباتها ونرد على ما يقال من نسخ هذه الآيات.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٨:وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴿ ٥٩ ﴾ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ [ ١ ] ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴿ ٦٠ ﴾

في هذه الآيات :


١-
تطمين وبشرى للمهاجرين : فالذين هاجروا تمسكا بدينهم الحقّ فقتلوا أو ماتوا، لهم من الله أعظم الأجر والكرامة وليرزقنهم الله أحسن الرزق وهو خير من يستطيع ذلك. وليدخلنهم المدخل الذي يرضونه وتقرّ به أعينهم، وهو العالم بنوايا الناس وأعمالهم والذي يعاملهم بمقتضى حلمه الواسع.

٢-
وعد رباني بتأييد ونصر الذين يبغي الناس عليهم ويظلمونهم. إذا استعملوا حقّهم المشروع بمقابلة البغي والأذى بالمثل. وتثبيت لهم على موقفهم. فالله العفوّ الغفور يشملهم بعفوه وغفرانه.
ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيتين الأوليين. أما الآية الثالثة فقد روى المفسرون ١ أنها نزلت في سرية من المسلمين المهاجرين التقت بجماعة من المشركين، وكان الوقت في الشهر الحرام فناشدهم المسلمون بأن لا يقاتلوهم فأبوا وهاجموهم فقابلوهم وانتصروا عليهم.
وقد يبدو على ضوء هذه الرواية المتّسقة مع الآيات ثم على ضوء مضمون الآيات أن الآيات الثلاث مدنية، وأنها مترابطة مع بعضها ونزلت معاً، وأن من المحتمل أن يكون بعض المهاجرين قد قتلوا في الاشتباك، وأن بعض الناس قد لاموا المهاجرين لاشتباكهم مع المشركين في الشهر الحرام فجاءت الآيات على سبيل التثبيت والتطمين والتهدئة والتبرير. ونرجّح أن هذه الحادثة هي غير حادثة سرية عبد الله بن جحش التي ذكرناه في سياق تفسير الآيات [ ٣٨-٤١ ] من هذه السورة ؛ لأن هذه الحادثة قد أشير إليها في آيات سورة البقرة هذه :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٢١٧ ﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٢١٨ ﴾.
وإذا كان ما خمّنّاه من أن الآيات السابقة قد نزلت بين يدي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فيكون وضع الآيات بعدها متصلا بذلك والله أعلم.
تلقين الآية
﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا... ﴾
والآيتين التاليتين لها
ومع خصوصية موضوع الآيات الثلاث الزمنية على ضوء ما شرحناه فإن فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى بالحثّ على الهجرة في سبيل الله من البلد الظالم أهلها وحكامها. وبالبشرى للمهاجرين بحسن العاقبة على كلّ حال سواء أقتلوا أم ماتوا أم ضلوا أحياء، وما في ذلك من حفز على عدم رضاء المسلم بالإقامة في دار الظلم والذلّ والهوان. وبتبرير مقابلة العدوان بمثله وتشجيع المدافع عن نفسه والمقابلة على العدوان بالمثل. وببثّ الطمأنينة فيه بوعده بتأييد الله ونصره لأنه في موقف المظلوم المبغى عليه مع تقرير كون العقوبة أي المقابلة والقتال لا يصح أن تكون إلا دفاعا عن النفس ومقابلة للعدوان بالمثل وحسب.
وقد تكرر هذا في آيات عديدة مكية ومدنية مرّ منها بعض الأمثلة مثل آية سورة النحل [ ١٢٦ ] وآيات سورة الشورى [ ٣٦-٤٣ ] وآيات سورة البقرة هذه :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴿ ١٩٠ ﴾‏ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ﴿ ١٩١ ﴾ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٩٢ ﴾ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴿ ١٩٣ ﴾ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴿ ١٩٤ ﴾ ٢. وفي سورة النساء آيات فيها تنديد شديد بمن يقبل الإقامة في دار الظلم ولم يهاجر منها وبيان تشجيعي بما يمكن أن يكون في الهجرة في مثل هذه الحالة من مجال لإرغام الظالم مع وعد رباني بعفو الله ومغفرته لمن يموت في سبيل ذلك وهي :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً ﴿ ٩٧ ﴾ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ﴿ ٩٨ ﴾ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ﴿ ٩٩ ﴾ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴿ ١٠٠ ﴾
ولقد أورد ابن كثير حديثين في سياق هذه الآيات رواهما ابن أبي حاتم واحد منهما عن سلمان الفارسي قال :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتّانين. واقرأوا إذا شئتم :﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴿ ٥٩ ﴾. وثانيهما عن ربيعة بن سيف قال :«كنّا برودوس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرّ بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفى، فمال الناس على القتيل فقال فضالة : ما لي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا ؟ فقالوا : هذا القتيل في سبيل الله، فقال : والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا ﴾ حتى بلغ آخر الآية ».
والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وصحتهما محتملة وفيهما تفسير للآية الأولى فيه تأييد لما ذهبنا إليه من عموم تلقينها.
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.
٢ سوف نشرح مدى الآيات في مناسباتها ونرد على ما يقال من نسخ هذه الآيات.

[ ١ ] ومن عاقب بمثل ما عوقب به : ومن قابل البغي والعدوان والأذى بالمثل.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٨:وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴿ ٥٩ ﴾ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ [ ١ ] ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴿ ٦٠ ﴾

في هذه الآيات :


١-
تطمين وبشرى للمهاجرين : فالذين هاجروا تمسكا بدينهم الحقّ فقتلوا أو ماتوا، لهم من الله أعظم الأجر والكرامة وليرزقنهم الله أحسن الرزق وهو خير من يستطيع ذلك. وليدخلنهم المدخل الذي يرضونه وتقرّ به أعينهم، وهو العالم بنوايا الناس وأعمالهم والذي يعاملهم بمقتضى حلمه الواسع.

٢-
وعد رباني بتأييد ونصر الذين يبغي الناس عليهم ويظلمونهم. إذا استعملوا حقّهم المشروع بمقابلة البغي والأذى بالمثل. وتثبيت لهم على موقفهم. فالله العفوّ الغفور يشملهم بعفوه وغفرانه.
ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيتين الأوليين. أما الآية الثالثة فقد روى المفسرون ١ أنها نزلت في سرية من المسلمين المهاجرين التقت بجماعة من المشركين، وكان الوقت في الشهر الحرام فناشدهم المسلمون بأن لا يقاتلوهم فأبوا وهاجموهم فقابلوهم وانتصروا عليهم.
وقد يبدو على ضوء هذه الرواية المتّسقة مع الآيات ثم على ضوء مضمون الآيات أن الآيات الثلاث مدنية، وأنها مترابطة مع بعضها ونزلت معاً، وأن من المحتمل أن يكون بعض المهاجرين قد قتلوا في الاشتباك، وأن بعض الناس قد لاموا المهاجرين لاشتباكهم مع المشركين في الشهر الحرام فجاءت الآيات على سبيل التثبيت والتطمين والتهدئة والتبرير. ونرجّح أن هذه الحادثة هي غير حادثة سرية عبد الله بن جحش التي ذكرناه في سياق تفسير الآيات [ ٣٨-٤١ ] من هذه السورة ؛ لأن هذه الحادثة قد أشير إليها في آيات سورة البقرة هذه :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٢١٧ ﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٢١٨ ﴾.
وإذا كان ما خمّنّاه من أن الآيات السابقة قد نزلت بين يدي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فيكون وضع الآيات بعدها متصلا بذلك والله أعلم.
تلقين الآية
﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا... ﴾
والآيتين التاليتين لها
ومع خصوصية موضوع الآيات الثلاث الزمنية على ضوء ما شرحناه فإن فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى بالحثّ على الهجرة في سبيل الله من البلد الظالم أهلها وحكامها. وبالبشرى للمهاجرين بحسن العاقبة على كلّ حال سواء أقتلوا أم ماتوا أم ضلوا أحياء، وما في ذلك من حفز على عدم رضاء المسلم بالإقامة في دار الظلم والذلّ والهوان. وبتبرير مقابلة العدوان بمثله وتشجيع المدافع عن نفسه والمقابلة على العدوان بالمثل. وببثّ الطمأنينة فيه بوعده بتأييد الله ونصره لأنه في موقف المظلوم المبغى عليه مع تقرير كون العقوبة أي المقابلة والقتال لا يصح أن تكون إلا دفاعا عن النفس ومقابلة للعدوان بالمثل وحسب.
وقد تكرر هذا في آيات عديدة مكية ومدنية مرّ منها بعض الأمثلة مثل آية سورة النحل [ ١٢٦ ] وآيات سورة الشورى [ ٣٦-٤٣ ] وآيات سورة البقرة هذه :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴿ ١٩٠ ﴾‏ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ﴿ ١٩١ ﴾ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٩٢ ﴾ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴿ ١٩٣ ﴾ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴿ ١٩٤ ﴾ ٢. وفي سورة النساء آيات فيها تنديد شديد بمن يقبل الإقامة في دار الظلم ولم يهاجر منها وبيان تشجيعي بما يمكن أن يكون في الهجرة في مثل هذه الحالة من مجال لإرغام الظالم مع وعد رباني بعفو الله ومغفرته لمن يموت في سبيل ذلك وهي :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً ﴿ ٩٧ ﴾ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ﴿ ٩٨ ﴾ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ﴿ ٩٩ ﴾ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴿ ١٠٠ ﴾
ولقد أورد ابن كثير حديثين في سياق هذه الآيات رواهما ابن أبي حاتم واحد منهما عن سلمان الفارسي قال :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتّانين. واقرأوا إذا شئتم :﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴿ ٥٩ ﴾. وثانيهما عن ربيعة بن سيف قال :«كنّا برودوس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرّ بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفى، فمال الناس على القتيل فقال فضالة : ما لي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا ؟ فقالوا : هذا القتيل في سبيل الله، فقال : والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا ﴾ حتى بلغ آخر الآية ».
والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وصحتهما محتملة وفيهما تفسير للآية الأولى فيه تأييد لما ذهبنا إليه من عموم تلقينها.
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.
٢ سوف نشرح مدى الآيات في مناسباتها ونرد على ما يقال من نسخ هذه الآيات.

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿ ٦١ ﴾ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴿ ٦٢ ﴾
أسلوب الآيتين قد يلهم أنهما متصلتان بالآيات السابقة اتصال تعقيب وتدعيم وتدليل. وهو أسلوب قوي نافذ ولا سيما في المناسبة التي جاءت فيها :
١- فالله قادر على تحقيق ما يعد، فهو الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل. وفي ذلك ما فيه من آيات عظمته ومطلق تصرّفه في الكون.
٢- وهو المحيط بكلّ شيء، السميع لكل ما يقال، البصير بكل ما يجري. وهو الحق في ذاته وفي دعوته وفي قضائه. وهو العليّ الكبير الذي لا يدانيه في علوه وكبره شيء، في حين أن ما يدعوه المشركون من دونه هو باطل في أصله وفرعه ومظهره ومخبره.
وإذا كنا قلنا : إن الآيتين متصلتان بسابقاتهما فلا يقتضي هذا أن تكونا مدنيتين إذا صحّ تخمين مدنية هذه السابقات، فالمناسبة في المعنى قائمة. تظهر منها حكمة وضعها بعدها. والطابع المكي قوي البروز عليهما. وفي سورة لقمان التي مرّ تفسيرها آيتان مشابهتان لهما.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦١:ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿ ٦١ ﴾ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴿ ٦٢ ﴾
أسلوب الآيتين قد يلهم أنهما متصلتان بالآيات السابقة اتصال تعقيب وتدعيم وتدليل. وهو أسلوب قوي نافذ ولا سيما في المناسبة التي جاءت فيها :

١-
فالله قادر على تحقيق ما يعد، فهو الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل. وفي ذلك ما فيه من آيات عظمته ومطلق تصرّفه في الكون.

٢-
وهو المحيط بكلّ شيء، السميع لكل ما يقال، البصير بكل ما يجري. وهو الحق في ذاته وفي دعوته وفي قضائه. وهو العليّ الكبير الذي لا يدانيه في علوه وكبره شيء، في حين أن ما يدعوه المشركون من دونه هو باطل في أصله وفرعه ومظهره ومخبره.
وإذا كنا قلنا : إن الآيتين متصلتان بسابقاتهما فلا يقتضي هذا أن تكونا مدنيتين إذا صحّ تخمين مدنية هذه السابقات، فالمناسبة في المعنى قائمة. تظهر منها حكمة وضعها بعدها. والطابع المكي قوي البروز عليهما. وفي سورة لقمان التي مرّ تفسيرها آيتان مشابهتان لهما.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴿ ٦٣ ﴾ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿ ٦٤ ﴾‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٦٥ ﴾ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ ﴿ ٦٦ ﴾.
في هذه الآيات سؤالان ينطويان على معنى التقرير، ولفت النظر عما إذا كان الرائي لا يرى آثار قدرة الله تعالى في كونه ويقنع بقدرته على تحقيق ما يعد :
١- فالله هو الذي ينزل من السماء الماء فلا تلبث الأرض أن تصبح مخضرّة بعد الاربداد والجفاف.
٢- والله سخّر للناس ما في الأرض ليتمتعوا به وسخّر لهم البحر لتجري فيه الفلك أيضا، وفي ذلك ما فيه من منافع لهم.
٣-وهو الذي يمسك السماء بتدبيره وقدرته وما أودعه فيها من ناموس فلا تقع على الأرض. وفي ذلك من آثار رأفته بالناس وحكمته ورحمته ما هو ظاهر.
٤- وهو الذي أحيا الناس من العدم وهو الذي يميتهم. وهو الذي يحييهم ثانية. فإن له ما في السموات وما في الأرض. وكل شيء خاضع له، وهو غني عن كل شيء حميد لما يبدو من عباده من الإخلاص والعبودية له.
وانتهت الآيات بفقرة تنديدية بجحود الإنسان لنعم الله. وتعاميه عن آثار عظمته، وشكّه في قدرته ومطلق تصرفه أمام ساطع الآيات وباهر البراهين.
والآيات كما هو المتبادر متصلة بسابقاتها سياقا وهدفا. والطابع المكي قوي البروز عليها. وأسلوبها متّسق مع أسلوب أمثالها الكثيرة في القرآن المكي. ومستهدفة ما استهدفته من لفت نظر الناس جميعا إلى ما يقع تحت مشاهدتهم من آثار عظمة الله وقدرته في كونه سماء وأرضا وبحرا، وما يتمتعون به من نعم الله وتيسيره للتدليل على وجوده وعظمته ومطلق تصرفه. وللتنديد بالشك في صدق ما يعد به وقدرته على تحقيقه. والجحود بنعمه وعدم الاستشعار بخشيته والخضوع التامّ له وحده ونبذ ما سواه.
ولقد شرحنا في سورة لقمان مدى ومعنى تسخير الله ما في السموات والأرض للناس فنكتفي بالإشارة إلى ذلك في مناسبة ما جاء هنا من مثله.
وللصوفيين تفسير عجيب للآية [ ٦٣ ] جاء فيه أن معناها :( أنزل الله مياه الرحمة من سحائب القربة، وفتح إلى قلوب عباده عيونا من ماء الرحمة، فأنبتت فاخضرّت بزينة المعرفة، وأثمرت الإيمان وأينعت التوحيد. وأضاءت بالمحبة فهامت إلى سيّدها واشتاقت إلى ربّها فطارت بهمّتها. وأناخت بين يديه وعكفت فأقبلت عليه. وانقطعت عن الأكوان أجمع. إذ ذاك آواها الحقّ إليه، وفتح لها خزائن أنواره وأطلق لها الخيرة في بساتين الأنس ورياض الشوق والقدس ) ١ وفي هذا ما فيه من شطح...
١ التفسير والمفسرون للذهبي ٣/٥٤.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٣:أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴿ ٦٣ ﴾ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿ ٦٤ ﴾‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٦٥ ﴾ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ ﴿ ٦٦ ﴾.
في هذه الآيات سؤالان ينطويان على معنى التقرير، ولفت النظر عما إذا كان الرائي لا يرى آثار قدرة الله تعالى في كونه ويقنع بقدرته على تحقيق ما يعد :

١-
فالله هو الذي ينزل من السماء الماء فلا تلبث الأرض أن تصبح مخضرّة بعد الاربداد والجفاف.

٢-
والله سخّر للناس ما في الأرض ليتمتعوا به وسخّر لهم البحر لتجري فيه الفلك أيضا، وفي ذلك ما فيه من منافع لهم.

٣-
وهو الذي يمسك السماء بتدبيره وقدرته وما أودعه فيها من ناموس فلا تقع على الأرض. وفي ذلك من آثار رأفته بالناس وحكمته ورحمته ما هو ظاهر.

٤-
وهو الذي أحيا الناس من العدم وهو الذي يميتهم. وهو الذي يحييهم ثانية. فإن له ما في السموات وما في الأرض. وكل شيء خاضع له، وهو غني عن كل شيء حميد لما يبدو من عباده من الإخلاص والعبودية له.
وانتهت الآيات بفقرة تنديدية بجحود الإنسان لنعم الله. وتعاميه عن آثار عظمته، وشكّه في قدرته ومطلق تصرفه أمام ساطع الآيات وباهر البراهين.
والآيات كما هو المتبادر متصلة بسابقاتها سياقا وهدفا. والطابع المكي قوي البروز عليها. وأسلوبها متّسق مع أسلوب أمثالها الكثيرة في القرآن المكي. ومستهدفة ما استهدفته من لفت نظر الناس جميعا إلى ما يقع تحت مشاهدتهم من آثار عظمة الله وقدرته في كونه سماء وأرضا وبحرا، وما يتمتعون به من نعم الله وتيسيره للتدليل على وجوده وعظمته ومطلق تصرفه. وللتنديد بالشك في صدق ما يعد به وقدرته على تحقيقه. والجحود بنعمه وعدم الاستشعار بخشيته والخضوع التامّ له وحده ونبذ ما سواه.
ولقد شرحنا في سورة لقمان مدى ومعنى تسخير الله ما في السموات والأرض للناس فنكتفي بالإشارة إلى ذلك في مناسبة ما جاء هنا من مثله.
وللصوفيين تفسير عجيب للآية [ ٦٣ ] جاء فيه أن معناها :( أنزل الله مياه الرحمة من سحائب القربة، وفتح إلى قلوب عباده عيونا من ماء الرحمة، فأنبتت فاخضرّت بزينة المعرفة، وأثمرت الإيمان وأينعت التوحيد. وأضاءت بالمحبة فهامت إلى سيّدها واشتاقت إلى ربّها فطارت بهمّتها. وأناخت بين يديه وعكفت فأقبلت عليه. وانقطعت عن الأكوان أجمع. إذ ذاك آواها الحقّ إليه، وفتح لها خزائن أنواره وأطلق لها الخيرة في بساتين الأنس ورياض الشوق والقدس ) ١ وفي هذا ما فيه من شطح...
١ التفسير والمفسرون للذهبي ٣/٥٤.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٣:أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴿ ٦٣ ﴾ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿ ٦٤ ﴾‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٦٥ ﴾ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ ﴿ ٦٦ ﴾.
في هذه الآيات سؤالان ينطويان على معنى التقرير، ولفت النظر عما إذا كان الرائي لا يرى آثار قدرة الله تعالى في كونه ويقنع بقدرته على تحقيق ما يعد :

١-
فالله هو الذي ينزل من السماء الماء فلا تلبث الأرض أن تصبح مخضرّة بعد الاربداد والجفاف.

٢-
والله سخّر للناس ما في الأرض ليتمتعوا به وسخّر لهم البحر لتجري فيه الفلك أيضا، وفي ذلك ما فيه من منافع لهم.

٣-
وهو الذي يمسك السماء بتدبيره وقدرته وما أودعه فيها من ناموس فلا تقع على الأرض. وفي ذلك من آثار رأفته بالناس وحكمته ورحمته ما هو ظاهر.

٤-
وهو الذي أحيا الناس من العدم وهو الذي يميتهم. وهو الذي يحييهم ثانية. فإن له ما في السموات وما في الأرض. وكل شيء خاضع له، وهو غني عن كل شيء حميد لما يبدو من عباده من الإخلاص والعبودية له.
وانتهت الآيات بفقرة تنديدية بجحود الإنسان لنعم الله. وتعاميه عن آثار عظمته، وشكّه في قدرته ومطلق تصرفه أمام ساطع الآيات وباهر البراهين.
والآيات كما هو المتبادر متصلة بسابقاتها سياقا وهدفا. والطابع المكي قوي البروز عليها. وأسلوبها متّسق مع أسلوب أمثالها الكثيرة في القرآن المكي. ومستهدفة ما استهدفته من لفت نظر الناس جميعا إلى ما يقع تحت مشاهدتهم من آثار عظمة الله وقدرته في كونه سماء وأرضا وبحرا، وما يتمتعون به من نعم الله وتيسيره للتدليل على وجوده وعظمته ومطلق تصرفه. وللتنديد بالشك في صدق ما يعد به وقدرته على تحقيقه. والجحود بنعمه وعدم الاستشعار بخشيته والخضوع التامّ له وحده ونبذ ما سواه.
ولقد شرحنا في سورة لقمان مدى ومعنى تسخير الله ما في السموات والأرض للناس فنكتفي بالإشارة إلى ذلك في مناسبة ما جاء هنا من مثله.
وللصوفيين تفسير عجيب للآية [ ٦٣ ] جاء فيه أن معناها :( أنزل الله مياه الرحمة من سحائب القربة، وفتح إلى قلوب عباده عيونا من ماء الرحمة، فأنبتت فاخضرّت بزينة المعرفة، وأثمرت الإيمان وأينعت التوحيد. وأضاءت بالمحبة فهامت إلى سيّدها واشتاقت إلى ربّها فطارت بهمّتها. وأناخت بين يديه وعكفت فأقبلت عليه. وانقطعت عن الأكوان أجمع. إذ ذاك آواها الحقّ إليه، وفتح لها خزائن أنواره وأطلق لها الخيرة في بساتين الأنس ورياض الشوق والقدس ) ١ وفي هذا ما فيه من شطح...
١ التفسير والمفسرون للذهبي ٣/٥٤.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٣:أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴿ ٦٣ ﴾ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿ ٦٤ ﴾‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٦٥ ﴾ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ ﴿ ٦٦ ﴾.
في هذه الآيات سؤالان ينطويان على معنى التقرير، ولفت النظر عما إذا كان الرائي لا يرى آثار قدرة الله تعالى في كونه ويقنع بقدرته على تحقيق ما يعد :

١-
فالله هو الذي ينزل من السماء الماء فلا تلبث الأرض أن تصبح مخضرّة بعد الاربداد والجفاف.

٢-
والله سخّر للناس ما في الأرض ليتمتعوا به وسخّر لهم البحر لتجري فيه الفلك أيضا، وفي ذلك ما فيه من منافع لهم.

٣-
وهو الذي يمسك السماء بتدبيره وقدرته وما أودعه فيها من ناموس فلا تقع على الأرض. وفي ذلك من آثار رأفته بالناس وحكمته ورحمته ما هو ظاهر.

٤-
وهو الذي أحيا الناس من العدم وهو الذي يميتهم. وهو الذي يحييهم ثانية. فإن له ما في السموات وما في الأرض. وكل شيء خاضع له، وهو غني عن كل شيء حميد لما يبدو من عباده من الإخلاص والعبودية له.
وانتهت الآيات بفقرة تنديدية بجحود الإنسان لنعم الله. وتعاميه عن آثار عظمته، وشكّه في قدرته ومطلق تصرفه أمام ساطع الآيات وباهر البراهين.
والآيات كما هو المتبادر متصلة بسابقاتها سياقا وهدفا. والطابع المكي قوي البروز عليها. وأسلوبها متّسق مع أسلوب أمثالها الكثيرة في القرآن المكي. ومستهدفة ما استهدفته من لفت نظر الناس جميعا إلى ما يقع تحت مشاهدتهم من آثار عظمة الله وقدرته في كونه سماء وأرضا وبحرا، وما يتمتعون به من نعم الله وتيسيره للتدليل على وجوده وعظمته ومطلق تصرفه. وللتنديد بالشك في صدق ما يعد به وقدرته على تحقيقه. والجحود بنعمه وعدم الاستشعار بخشيته والخضوع التامّ له وحده ونبذ ما سواه.
ولقد شرحنا في سورة لقمان مدى ومعنى تسخير الله ما في السموات والأرض للناس فنكتفي بالإشارة إلى ذلك في مناسبة ما جاء هنا من مثله.
وللصوفيين تفسير عجيب للآية [ ٦٣ ] جاء فيه أن معناها :( أنزل الله مياه الرحمة من سحائب القربة، وفتح إلى قلوب عباده عيونا من ماء الرحمة، فأنبتت فاخضرّت بزينة المعرفة، وأثمرت الإيمان وأينعت التوحيد. وأضاءت بالمحبة فهامت إلى سيّدها واشتاقت إلى ربّها فطارت بهمّتها. وأناخت بين يديه وعكفت فأقبلت عليه. وانقطعت عن الأكوان أجمع. إذ ذاك آواها الحقّ إليه، وفتح لها خزائن أنواره وأطلق لها الخيرة في بساتين الأنس ورياض الشوق والقدس ) ١ وفي هذا ما فيه من شطح...
١ التفسير والمفسرون للذهبي ٣/٥٤.

[ ١ ] منسكا : قيل إن الكلمة هنا بمعنى شريعة. وقيل إنها بمعنى مكان العبادة أو مكان تقريب القرابين. ونحن نرجّح الأول.
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً [ ١ ] هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ﴿ ٦٧ ﴾ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿ ٦٨ ﴾ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿ ٦٩ ﴾ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿ ٧٠ ﴾
وجّه الخطاب في هذه الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمنة تقرير ما يلي :

١-
إن الله قد جعل لكل أمة مناسك وطرائق. فليس للكفار أن ينازعوه ويجادلوه فيما رسمه الله له من ذلك.

٢-
وعليه أن يستمرّ في الدعوة إلى ربّه والتمسك بالمناسك والطرائق التي رسمها له. وليكن على ثقة بأنه على الطريق المستقيم.

٣-
وإذا ما حاول الكفار الجدل والمكابرة فليقل لهم : إن الله أعلم بما يعمله كل منا، وإنه سيحكم بيننا يوم القيامة فيما نحن فيه من خلاف فيؤيد الحقّ ويزهق الباطل.

٤-
وتعقيب على ما تقدم بسؤال موجّه إلى النبي أيضا يتضمن معنى التقرير عما إذا كان لا يعلم أن الله يعلم كل ما يقع في السماء والأرض وأن كل شيء محصي عنده وأن ذلك من الأمور اليسيرة عليه.
وقد روى المفسرون ١ أن الآيات نزلت بمناسبة اعتراض وجّهه بعض مشركي مكة على ما حرّم وحلّل في القرآن. وقولهم لبعض المسلمين ما لكم لا تأكلون مما قتله الله وتأكلون مما تقتلون بأيديكم. ويقصدون على ما يبدو تحريم الميتة.
والآيات على ما يبدو فصل مستقل. وقد حكت آيات قرآنية عديدة مكية مواقف جدلية بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين حول بعض الطقوس والتشريعات والمحرّمات والمحلّلات مما مرّ منه أمثلة عديدة في سور الأعراف والأنعام والنحل وغيرها. وروح الآيات قد تلهم صحة الرواية، وقد تلهم أيضا أنها نزلت في صدد مشهد جدلي بدءا وجوابا وأن هذا المشهد لم يكن من المشاهد العنيفة. وهذا النوع من المشاهد كان مما يقع أحيانا بين النبي صلى الله عليه وسلم ومعتدلي المشركين على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة في سورتي الأنعام والقصص وغيرهما.
ولقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أن ﴿ كِتَابٍ ﴾ في الآية [ ٧٠ ] كناية عن اللوح المحفوظ الذي أمر الله القلم أن يكتب عليه ما هو كائن من خلقه، وأوردوا بعض الأحاديث في صدد ذلك، منها حديث أورده ابن كثير وقال : إنه وارد في السنن من حديث جماعة من أصحاب رسول الله أن رسول الله قال :«أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب. قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة». ومع ذلك فقد روى الطبري في سياق الآية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن ﴿ أم الكتاب ﴾ [ الرعد : ٣٩ ] فقال :( علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون فقال لعلمه : كن كتابا ). ولقد أوردنا هذه الأحاديث وغيرها وعلّقنا عليها وعلى موضوع القلم واللوح وأم الكتاب في سياق تفسير سور القلم والبروج والرعد بما يغني عن التكرار.
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً [ ١ ] هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ﴿ ٦٧ ﴾ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿ ٦٨ ﴾ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿ ٦٩ ﴾ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿ ٧٠ ﴾
وجّه الخطاب في هذه الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمنة تقرير ما يلي :

١-
إن الله قد جعل لكل أمة مناسك وطرائق. فليس للكفار أن ينازعوه ويجادلوه فيما رسمه الله له من ذلك.

٢-
وعليه أن يستمرّ في الدعوة إلى ربّه والتمسك بالمناسك والطرائق التي رسمها له. وليكن على ثقة بأنه على الطريق المستقيم.

٣-
وإذا ما حاول الكفار الجدل والمكابرة فليقل لهم : إن الله أعلم بما يعمله كل منا، وإنه سيحكم بيننا يوم القيامة فيما نحن فيه من خلاف فيؤيد الحقّ ويزهق الباطل.

٤-
وتعقيب على ما تقدم بسؤال موجّه إلى النبي أيضا يتضمن معنى التقرير عما إذا كان لا يعلم أن الله يعلم كل ما يقع في السماء والأرض وأن كل شيء محصي عنده وأن ذلك من الأمور اليسيرة عليه.
وقد روى المفسرون ١ أن الآيات نزلت بمناسبة اعتراض وجّهه بعض مشركي مكة على ما حرّم وحلّل في القرآن. وقولهم لبعض المسلمين ما لكم لا تأكلون مما قتله الله وتأكلون مما تقتلون بأيديكم. ويقصدون على ما يبدو تحريم الميتة.
والآيات على ما يبدو فصل مستقل. وقد حكت آيات قرآنية عديدة مكية مواقف جدلية بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين حول بعض الطقوس والتشريعات والمحرّمات والمحلّلات مما مرّ منه أمثلة عديدة في سور الأعراف والأنعام والنحل وغيرها. وروح الآيات قد تلهم صحة الرواية، وقد تلهم أيضا أنها نزلت في صدد مشهد جدلي بدءا وجوابا وأن هذا المشهد لم يكن من المشاهد العنيفة. وهذا النوع من المشاهد كان مما يقع أحيانا بين النبي صلى الله عليه وسلم ومعتدلي المشركين على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة في سورتي الأنعام والقصص وغيرهما.
ولقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أن ﴿ كِتَابٍ ﴾ في الآية [ ٧٠ ] كناية عن اللوح المحفوظ الذي أمر الله القلم أن يكتب عليه ما هو كائن من خلقه، وأوردوا بعض الأحاديث في صدد ذلك، منها حديث أورده ابن كثير وقال : إنه وارد في السنن من حديث جماعة من أصحاب رسول الله أن رسول الله قال :«أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب. قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة». ومع ذلك فقد روى الطبري في سياق الآية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن ﴿ أم الكتاب ﴾ [ الرعد : ٣٩ ] فقال :( علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون فقال لعلمه : كن كتابا ). ولقد أوردنا هذه الأحاديث وغيرها وعلّقنا عليها وعلى موضوع القلم واللوح وأم الكتاب في سياق تفسير سور القلم والبروج والرعد بما يغني عن التكرار.
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً [ ١ ] هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ﴿ ٦٧ ﴾ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿ ٦٨ ﴾ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿ ٦٩ ﴾ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿ ٧٠ ﴾
وجّه الخطاب في هذه الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمنة تقرير ما يلي :

١-
إن الله قد جعل لكل أمة مناسك وطرائق. فليس للكفار أن ينازعوه ويجادلوه فيما رسمه الله له من ذلك.

٢-
وعليه أن يستمرّ في الدعوة إلى ربّه والتمسك بالمناسك والطرائق التي رسمها له. وليكن على ثقة بأنه على الطريق المستقيم.

٣-
وإذا ما حاول الكفار الجدل والمكابرة فليقل لهم : إن الله أعلم بما يعمله كل منا، وإنه سيحكم بيننا يوم القيامة فيما نحن فيه من خلاف فيؤيد الحقّ ويزهق الباطل.

٤-
وتعقيب على ما تقدم بسؤال موجّه إلى النبي أيضا يتضمن معنى التقرير عما إذا كان لا يعلم أن الله يعلم كل ما يقع في السماء والأرض وأن كل شيء محصي عنده وأن ذلك من الأمور اليسيرة عليه.
وقد روى المفسرون ١ أن الآيات نزلت بمناسبة اعتراض وجّهه بعض مشركي مكة على ما حرّم وحلّل في القرآن. وقولهم لبعض المسلمين ما لكم لا تأكلون مما قتله الله وتأكلون مما تقتلون بأيديكم. ويقصدون على ما يبدو تحريم الميتة.
والآيات على ما يبدو فصل مستقل. وقد حكت آيات قرآنية عديدة مكية مواقف جدلية بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين حول بعض الطقوس والتشريعات والمحرّمات والمحلّلات مما مرّ منه أمثلة عديدة في سور الأعراف والأنعام والنحل وغيرها. وروح الآيات قد تلهم صحة الرواية، وقد تلهم أيضا أنها نزلت في صدد مشهد جدلي بدءا وجوابا وأن هذا المشهد لم يكن من المشاهد العنيفة. وهذا النوع من المشاهد كان مما يقع أحيانا بين النبي صلى الله عليه وسلم ومعتدلي المشركين على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة في سورتي الأنعام والقصص وغيرهما.
ولقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أن ﴿ كِتَابٍ ﴾ في الآية [ ٧٠ ] كناية عن اللوح المحفوظ الذي أمر الله القلم أن يكتب عليه ما هو كائن من خلقه، وأوردوا بعض الأحاديث في صدد ذلك، منها حديث أورده ابن كثير وقال : إنه وارد في السنن من حديث جماعة من أصحاب رسول الله أن رسول الله قال :«أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب. قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة». ومع ذلك فقد روى الطبري في سياق الآية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن ﴿ أم الكتاب ﴾ [ الرعد : ٣٩ ] فقال :( علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون فقال لعلمه : كن كتابا ). ولقد أوردنا هذه الأحاديث وغيرها وعلّقنا عليها وعلى موضوع القلم واللوح وأم الكتاب في سياق تفسير سور القلم والبروج والرعد بما يغني عن التكرار.
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً [ ١ ] هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ﴿ ٦٧ ﴾ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿ ٦٨ ﴾ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿ ٦٩ ﴾ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿ ٧٠ ﴾
وجّه الخطاب في هذه الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمنة تقرير ما يلي :

١-
إن الله قد جعل لكل أمة مناسك وطرائق. فليس للكفار أن ينازعوه ويجادلوه فيما رسمه الله له من ذلك.

٢-
وعليه أن يستمرّ في الدعوة إلى ربّه والتمسك بالمناسك والطرائق التي رسمها له. وليكن على ثقة بأنه على الطريق المستقيم.

٣-
وإذا ما حاول الكفار الجدل والمكابرة فليقل لهم : إن الله أعلم بما يعمله كل منا، وإنه سيحكم بيننا يوم القيامة فيما نحن فيه من خلاف فيؤيد الحقّ ويزهق الباطل.

٤-
وتعقيب على ما تقدم بسؤال موجّه إلى النبي أيضا يتضمن معنى التقرير عما إذا كان لا يعلم أن الله يعلم كل ما يقع في السماء والأرض وأن كل شيء محصي عنده وأن ذلك من الأمور اليسيرة عليه.
وقد روى المفسرون ١ أن الآيات نزلت بمناسبة اعتراض وجّهه بعض مشركي مكة على ما حرّم وحلّل في القرآن. وقولهم لبعض المسلمين ما لكم لا تأكلون مما قتله الله وتأكلون مما تقتلون بأيديكم. ويقصدون على ما يبدو تحريم الميتة.
والآيات على ما يبدو فصل مستقل. وقد حكت آيات قرآنية عديدة مكية مواقف جدلية بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين حول بعض الطقوس والتشريعات والمحرّمات والمحلّلات مما مرّ منه أمثلة عديدة في سور الأعراف والأنعام والنحل وغيرها. وروح الآيات قد تلهم صحة الرواية، وقد تلهم أيضا أنها نزلت في صدد مشهد جدلي بدءا وجوابا وأن هذا المشهد لم يكن من المشاهد العنيفة. وهذا النوع من المشاهد كان مما يقع أحيانا بين النبي صلى الله عليه وسلم ومعتدلي المشركين على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة في سورتي الأنعام والقصص وغيرهما.
ولقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أن ﴿ كِتَابٍ ﴾ في الآية [ ٧٠ ] كناية عن اللوح المحفوظ الذي أمر الله القلم أن يكتب عليه ما هو كائن من خلقه، وأوردوا بعض الأحاديث في صدد ذلك، منها حديث أورده ابن كثير وقال : إنه وارد في السنن من حديث جماعة من أصحاب رسول الله أن رسول الله قال :«أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب. قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة». ومع ذلك فقد روى الطبري في سياق الآية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن ﴿ أم الكتاب ﴾ [ الرعد : ٣٩ ] فقال :( علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون فقال لعلمه : كن كتابا ). ولقد أوردنا هذه الأحاديث وغيرها وعلّقنا عليها وعلى موضوع القلم واللوح وأم الكتاب في سياق تفسير سور القلم والبروج والرعد بما يغني عن التكرار.
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴿ ٧١ ﴾ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿ ٧٢ ﴾‏.
في هذه الآيات :
١- تنديد بعقائد الكفار المشركين ووهن أساسها. فهم يعبدون آلهة غير الله ويشركونها معه من دون برهان وبيّنة وعلم، فهم ظالمون لأنفسهم جانون عليها وليس للظالمين من نصير.
٢- ووصف فيه معنى التعقيب والتوبيخ لشدة مكابرتهم وغيظهم. فبينما تكون عقائدهم واهية الأساس فإنهم إذا تليت عليهم آيات الله البينات التي تحتوي البرهان الساطع تجهّمت وجوههم واربدّت، وبدا عليها أمارات الغيظ والشرّ حتى ليكادون يبطشون بالذين يتلون عليهم هذه الآيات.
٣- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال هؤلاء سؤالا ينطوي على التحدّي والتقريع عما إذا كانوا يودّون أن ينبئهم بما هو أشدّ إثارة وغيظا لهم وهو وعد الله للكافرين بالنار وبئست هي من مصير لهم.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير جملة ﴿ قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ ﴾ عزوا إلى مجاهد أن بعضهم قال : إن المشركين قالوا والله إن محمدا وأصحابه لشرّ خلق الله، فأمر في الجملة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يردّ عليهم قولهم ويخبرهم أن الكافرين هم شرّ خلق الله.
والمتبادر من الآيتين أنهما وحدة وأن مضمونهما لا يتحمّل صحة هذا القول الذي لم يوثق بسند ما، وأن الأوجه في تأويل الجملة هو ما ذكرناه في الفقرة الثالثة من الشرح إن شاء الله.
والمتبادر كذلك أن الصلة غير منقطعة بينها وبين الآيات السابقة التي كان موضوعها الكفار، وقد حكت الآيات السابقة موقف مشركين معتدلين فجاءت هذه الآيات لتحكي موقف مشركين عنيفين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴿ ٧١ ﴾ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿ ٧٢ ﴾‏.

في هذه الآيات :


١-
تنديد بعقائد الكفار المشركين ووهن أساسها. فهم يعبدون آلهة غير الله ويشركونها معه من دون برهان وبيّنة وعلم، فهم ظالمون لأنفسهم جانون عليها وليس للظالمين من نصير.

٢-
ووصف فيه معنى التعقيب والتوبيخ لشدة مكابرتهم وغيظهم. فبينما تكون عقائدهم واهية الأساس فإنهم إذا تليت عليهم آيات الله البينات التي تحتوي البرهان الساطع تجهّمت وجوههم واربدّت، وبدا عليها أمارات الغيظ والشرّ حتى ليكادون يبطشون بالذين يتلون عليهم هذه الآيات.

٣-
وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال هؤلاء سؤالا ينطوي على التحدّي والتقريع عما إذا كانوا يودّون أن ينبئهم بما هو أشدّ إثارة وغيظا لهم وهو وعد الله للكافرين بالنار وبئست هي من مصير لهم.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير جملة ﴿ قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ ﴾ عزوا إلى مجاهد أن بعضهم قال : إن المشركين قالوا والله إن محمدا وأصحابه لشرّ خلق الله، فأمر في الجملة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يردّ عليهم قولهم ويخبرهم أن الكافرين هم شرّ خلق الله.
والمتبادر من الآيتين أنهما وحدة وأن مضمونهما لا يتحمّل صحة هذا القول الذي لم يوثق بسند ما، وأن الأوجه في تأويل الجملة هو ما ذكرناه في الفقرة الثالثة من الشرح إن شاء الله.
والمتبادر كذلك أن الصلة غير منقطعة بينها وبين الآيات السابقة التي كان موضوعها الكفار، وقد حكت الآيات السابقة موقف مشركين معتدلين فجاءت هذه الآيات لتحكي موقف مشركين عنيفين.


تعليق على مدى الوصف الذي احتوته الآية ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ﴾ الخ ومدى جرأة النبي صلى الله عليه وسلم في ما كان يبلغه عن الله من الزواجر القاصمة دون مبالاة بعنف الكفار وقوّتهم
والوصف الذي احتوته الآيات يدلّ على شدّة عناد فريق من المشركين وعنفهم وما كانت تحدثه فيهم تلاوة القرآن ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم من غيظ وثورة نفس مما فيه صورة من صور السيرة النبوية في مكة. ويتجلى في الآيات قوّة التنديد بهذا الفريق من جهة وقوة الاستهانة بغيظهم وثورة نفوسهم من جهة أخرى ؛ حيث يقابلون بما هو أشد إثارة وأبعث على الغيظ وأصك للسمع. وفي خلال ذلك تتجلى جرأة النبي صلى الله عليه وسلم واستغراقه في مهمته العظمى في إبلاغ الآيات وإسماعها لأناس شديدي العناد والغيظ يكادون يبطشون به حينما يدعوهم إلى الله ويتلو عليهم آيات القرآن. غير مبال بعنادهم وثورة نفوسهم وسورة غضبهم. وقد تجلت هذه الصفات النبوية الرائعة في مواقف كثيرة مماثلة حكتها آيات عديدة أخرى على ما نبّهنا إليه في مناسباته.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴿ ٧٣ ﴾
وفي هذه الآية هتاف بالناس، والمقصود منهم المشركون، على ما يفيده فحواها ليستمعوا إلى ما يقال لهم ويتدبّروه : فالذين يدعونهم من دون الله ويشركونهم معه لن يخلقوا شيئا مهما تفه كالذباب، ولو اجتمعوا وظاهر بعضهم بعضا. بل إنّ عجزهم لا يقف عند هذا فإن الذباب الذي هو من أتفه وأضعف مخلوقات الله لو هبط على آلهتهم وامتص ما يعلوها من المواد لعجزوا عن منعه من ذلك واستنفاذ ما امتصّه منهم ومنعه عن أنفسهم. وإن في هذا الواقع لتتجلّى شدّة عجز الشركاء وشدّة سخف الذين يشركونهم مع الله.
والآية متصلة على ما هو المتبادر بما سبقها اتصال تعقيب وتسفيه وتنديد وتحدّ وسخرية وهي قوية لاذعة في كل ذلك وفي صكّ أسماع المشركين بها، وفي الاستهانة بما ستحدثه فيهم من غيظ وثورة نفس ويتجلى خلالها ما تجلى خلال سابقاتها من عظمة موقف النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته أيضا.
وفحوى الآية يفيد أن المقصود من الشركاء هم الأصنام والأوثان وفي ذلك تتضاعف قوّة التحدّي والسخرية وإبراز الضعف والعجز.
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿ ٧٤ ﴾
وهذه الآية متصلة بالسياق اتصال تعقيب وتنديد أيضا : فالمشركون لم يقدروا الله حق قدره ولم يفهموه واجب فهمه فسخفوا وضلّوا مع أنه هو القوي الذي لا يباريه في قوته شيء والعزيز الذي لا يدانيه في عزّته أحد.
وإذا لاحظنا أن المشركين يعترفون بصفاته المذكورة ظهرت قوة التناقض والتنديد والتسخيف التي انطوت في الآية.
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿ ٧٥ ﴾ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴿ ٧٦ ﴾
وهاتان الآيتان أيضا متصلتان بالسياق على ما يتبادر لنا. وتضمّنتا تقرير ما جرت سنّة الله عليه من اصطفاء رسله من الملائكة ومن الناس. وهو السميع لما يقال البصير لما يقع العليم بما يكون منهم ويدور حولهم ظاهرا أو خفيا، حاضرا ومستقبلا، وإليه مصير الأمور والتصرّف فيها أولا وآخرا.
واتصال الآيتين بالسياق قائم فيما احتوته الفصول السابقة القريبة وحكته من مواقف وأمرته للنبي من أوامر وسؤالات يبلغها ويوجهها ويعمل بها. وهما من هذا الاعتبار قد احتوتا تأييداً للنبي وتثبيتا له. فليس في رسالته –وهو بشر- بدع فإن ذلك من سنن الله الجارية.
وهذا المعنى قد تكرر تقريره كثيرا في السور المكية بسبيل الاحتجاج والردّ على المشركين. أما رسالة الملائكة فقد ذكرت أيضا في آيات عديدة مرّت في سور سابقة مثل سورة النحل وسورة فاطر وسورة غافر يستلهم منها أنها بسبيل تقرير كونها خاصة بين الله وبين الذين يصطفيهم من البشر لدعوة البشر وهدايتهم، أو لبشاراته إليهم وعنايته بهم في حالة لا يدركها إلا هؤلاء المصطفون، وتدخل في نطاق المغيبات عن عامة الناس كما تدخل في نطاق الحقائق الإيمانية التي يجب الإيمان بها غيبا ؛ لأنها مما قرره القرآن.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٥:اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿ ٧٥ ﴾ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴿ ٧٦ ﴾
وهاتان الآيتان أيضا متصلتان بالسياق على ما يتبادر لنا. وتضمّنتا تقرير ما جرت سنّة الله عليه من اصطفاء رسله من الملائكة ومن الناس. وهو السميع لما يقال البصير لما يقع العليم بما يكون منهم ويدور حولهم ظاهرا أو خفيا، حاضرا ومستقبلا، وإليه مصير الأمور والتصرّف فيها أولا وآخرا.
واتصال الآيتين بالسياق قائم فيما احتوته الفصول السابقة القريبة وحكته من مواقف وأمرته للنبي من أوامر وسؤالات يبلغها ويوجهها ويعمل بها. وهما من هذا الاعتبار قد احتوتا تأييداً للنبي وتثبيتا له. فليس في رسالته –وهو بشر- بدع فإن ذلك من سنن الله الجارية.
وهذا المعنى قد تكرر تقريره كثيرا في السور المكية بسبيل الاحتجاج والردّ على المشركين. أما رسالة الملائكة فقد ذكرت أيضا في آيات عديدة مرّت في سور سابقة مثل سورة النحل وسورة فاطر وسورة غافر يستلهم منها أنها بسبيل تقرير كونها خاصة بين الله وبين الذين يصطفيهم من البشر لدعوة البشر وهدايتهم، أو لبشاراته إليهم وعنايته بهم في حالة لا يدركها إلا هؤلاء المصطفون، وتدخل في نطاق المغيبات عن عامة الناس كما تدخل في نطاق الحقائق الإيمانية التي يجب الإيمان بها غيبا ؛ لأنها مما قرره القرآن.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿ ٧٧ ﴾ ﴿ س ﴾ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴿ ٧٨ ﴾
في هاتين الآيتين :
١- هتاف ربّاني بالمؤمنين بأن يعبدوا الله ويسجدوا ويركعوا له ويفعلوا الخير. ففي ذلك فوزهم ونجاحهم.
٢- وأمر لهم بأن يجاهدوا كذلك في سبيل الله ودينه حق الجهاد.
٣- وتنويه بالمنزلة والعناية الكبيرتين اللتين اختصّهم بهما : فقد اجتابهم واصطفاهم وهداهم إلى دينه القويم. ولم يجعل عليهم فيه حرجا ولا إعناتاً. وهو ملّة أبيهم إبراهيم وقد سمّاهم المسلمين من قبل وفي القرآن الآن. وأعدّهم بذلك كله ليكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيدا.
وهذه مكانة خطيرة وعناية كريمة تقتضيان منهم الشكر والاجتهاد في أداء ما ترتّب عليهم من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والتمسّك بأهداب دين الله والاعتصام بحبله. وهو مولاهم ونعم هو من مولى ونصير لهم.
تعليقات على الآيتين الأخيرتين من السورة
وما فيهما من تلقين وخطورة
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين. ويتبادر لنا أنهما متصلتان بالسياق السابق كله في الآيات السابقة كما ثبتت النبي صلى الله عليه وسلم في ما هو عليه من مناسك وشريعة، وأكدت له أنه على الحق والهدى، وندّدت بالمشركين وعقائدهم، فجاءت هاتان الآيتان على الأثر تختتمان الكلام بالالتفات إلى المسلمين فتهتفان بهم بما تهتفان، وتعظانهم بما تعظان وتبثّان فيهم روح الطمأنينة والسكينة والاغتباط، وتنوّهان بالملّة السمحاء التي هداهم الله إليها وبالعناية الكبرى التي خصّهم بها وتنبّهانهم إلى ما أوجبه عليهم من الجهاد في سبيل دينه وما أعدّهم له من رفعة الشأن بين الأمم والملل إذا هم اعتصموا بالله وتمسّكوا بدينهم وجاهدوا في سبيله حق الجهاد.
ولقد قال المفسرون ١ إن جملة إن جملة ﴿ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ﴾ في صدد يوم القيامة، حيث يكون النبي صلى الله عليه وسلم شهيدا على المسلمين بأنه بلّغهم رسالة ربّه، وحيث يكونون هم شهداء على الناس بدورهم بأنهم بلّغوها إليهم ؛ لأنه الدين الذي ارتضاه الله للبشرية على يد خاتم أنبيائه. ومع وجاهة هذا القول من الناحية الموضوعية، فالذي يتبادر لنا أنها تلهم أيضا كون المسلمين الذين اجتباهم الله وهداهم إلى ذلك الدين قد تأهلوا بنوره ومبادئه وروحانيته وتلقيناته وتشريعاته ليكونوا شهداء على الناس بصفة هداة ومرشدين. وجملة ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾ التي تبتدئ بها الآية التي فيها الجملة وكلمة ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ﴾ من القرائن القوية على ذلك. ولقد جاءت هذه الجملة في آية سورة البقرة هذه :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ [ ١٤٣ ] وكلمة وسط بمعنى العدول والخيار والمتّصف بالاعتدال وعدم الغلوّ والتفريط والإفراط في كل أمر. وهي في هذه الجملة تبرّر جعل المسلمين شهداء على الناس في مقام ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ﴾ في جملة سورة الحج. وهذا الوصف أو هذا التبرير قرينة على أن لهم مهمّة في الدنيا وهي إرشاد الناس وهدايتهم أيضا.
وتعبير ﴿ أبيكم إبراهيم ﴾ قد قصد به العرب ولا يمكن أن ينصرف إلى غيرهم ؛ حيث كانوا يتناقلون ويعرفون نسبتهم بالأبوة إلى إبراهيم وإسماعيل على ما شرحناه في مناسبات سابقة شرحا يغني عن التكرار. ولقد جاء هذا في آيات سورة إبراهيم [ ٣٥-٤١ ] التي مرّ تفسيرها قوي الدلالة، ثم جاء في هذه الآيات بهذه الصراحة الحاسمة.
وفي سورة البقرة آيات قوية الدلالة والحسم وهي :﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { ١٢٧ ﴾ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿ ١٢٨ ﴾ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴿ ١٢٩ ﴾ } وذكر إسماعيل مع إبراهيم مانع لانصراف كلمة الذرية هنا إلى بني إسرائيل لأنهم ليسوا من ذرية إسماعيل عليهم السلام.
والمتبادر أنه قد استهدف بالتعبير تثبيت الذين أسلموا من العرب، وتدعيم الرسالة المحمدية إزاء العرب بوجه عام. فالملّة التي يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم واعتنقها من اعتنقها منهم هي الملة الصحيحة الصادقة لإبراهيم الذي ينتسبون إليه بالأبوة ويعزون إليه تقاليدهم. فهم أولى الناس بها. وهذا المعنى هو الذي استهدفته الآيات المكية التي احتوت ذكر إبراهيم وملّته وقصصه التي لم ترد في سفر التكوين المتداول على ما نبّهنا إليه في مناسبات عديدة سابقة.
ومع خصوصية الآيتين الزمنية على ضوء هذه الشروح وصلتها بالسياق السابق فإنهما احتوتا بأسلوبهما القوي ومضامينهما الواعظة المنبّهة المنوّهة تلقينات خطيرة تظل مستمرة التلقين والفيض والمدد والنفحات للمسلمين عامة والعرب خاصة بحيث يمكن أن يقال : إنها قد جعلت للعرب المسلمين في المجتمع الإسلامي شأنا خاصا وحملتهم مهمة كبرى ونبّهتهم إلى أن الله قد اجتباهم وجعلهم وسطا وعدولا وهداة ليرشدوا الناس ويهدوهم بهدى دينه الذي ارتضاه لهم والذي رشّحه ليكون دين الإنسانية عامة. وهذا المعنى مندمج في آية سورة الزخرف هذه :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ { ٤٤ ﴾ } على ما شرحناه في سياق تفسيرها. وجملة ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾ تنطوي على تقرير ما حمّله الله تعالى للمسلمين عامة والعرب خاصة من مهمة الجهاد وبذل الجهود في سبيل نشر دين الله والدفاع عنه ؛ حيث يزيد هذا في سعة التلقين وخطورته. وجملة ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ خطيرة في مقامها حيث تأمر المسلمين والعرب بأن يعتصموا بالله ويجعلوا اعتمادهم عليه في أداء هذه المهمة الخطيرة وتبثّ فيهم الثقة والأمل في نصره لهم فيها.
ولقد أورد ابن كثير حديثا في سياق الآية [ ١٢٣ ] من سورة الأنعام رواه الإمام أحمد عن سلمان، وليس فيه ما يمنع صحّة صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك ؟ قلت يا رسول الله كيف أبغضك، وبك هدانا الله قال : تبغض العرب فتبغضني ». وفي الحديث توكيد لشأن العرب في الدعوة الإسلامية مستمدّ من شرف ظهور رسولها العظيم منهم وأعظم به من شرف.
ومن الجدير بالتنبّه أن شأنية العرب في الإسلام لا تعني تميّزا ولا تغلّبا ولا استعلاء ولا استغلالا ولا مختارية من نوع " الشعب المختار " بالنسبة لعقيدة بني إسرائيل واليهود في أنفسهم الذي جعلهم يعتبرون ما عداهم عبيداً يملكونهم وما يملكون ويكون لهم أن يحققوا ذلك، ولا يقبلون من أحد أن يرتفع إلى مستواهم دينيا أو اجتماعيا ما استطاعوا ٢. في حين أن الإسلام قد سوى بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم في جميع الحقوق والواجبات وجميع شؤون الدين والدنيا تسوية تامة وسمّاهم أخوة. كما جاء في آيات عديدة منها آية سورة الحجرات هذه ﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ [ ١٠ ] وكما جاء في أحاديث عديدة منها هذا الحديث الذي رواه الأربعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبغ بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا –ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقّر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه »٣. فليس لغير المسلمين والحالة هذه أن يروا غضاضة في هذه الشأنية للعرب في الإسلام في نطاق المدى المشروح آنفاً.
وما قلناه من انصراف الآية في الدرجة الأولى إلى العرب سواء أفي ما احتوته من دلالة لفظية أم في كونها كانت توجّه الخطاب إليهم لا يتعارض مع معنى آخر يمكن أن يتبادر من إطلاق تعبير ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ وهو أن غير العرب من المسلمين يدخلون في شمولها أيضا. فقد غدوا بانتمائهم إلى الإسلام أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس وهداة لهم بدورهم. وصاروا مطالبين بأن يجاهدوا في الله حقّ جهاده.
ومع أن هناك من روى عن أهل التأويل أن جملة ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾ ما عنت الجهاد الحربي في سبيل الله. فإن هناك من قال إنها عنت بذل الجهد واستفراغ الطاقة في نشر دين الله ومجاهدة النفس. وهناك من قال : إنها بمعنى بذلك كل جهد في سبيل الله بدون أدنى خوف من أي شيء. ومكية الآية تجعل التأويل الثاني هو الأوجه. وسبيل الله أشمل من الجهاد الحربي وهي الدعوة الإسلامية على ما جاء في آيات عديدة مرّ بعضها مثل آية سورة النحل [ ١٢٥ ] وفي القرآن المكي بخاصة آيات عديدة وردت فيها كلمة الجهاد في غير معنى الحرب مرّت أمثلة منها مثل آية سورة الفرقان [ ٥٢ ] ومثل آية سورة العنكبوت [ ٦٩ ]. ولقد اختلفت أقوال أهل التأويل من التابعين التي يرويها المفسرون في مرجع ضمير الفاعل في ﴿ سمّاكم ﴾ فمنهم من قال : إنه إبراهيم، ومنهم من قال : إنه ( لله ) ونحن نرى القول الثاني هو الأوجه بقرينة ﴿ وفي هذا ﴾ فإن هذا التعبير مصروف إلى القرآن والحال الحضر ولا علاقة لإبراهيم بذلك. وهذا ما رجّحه الطبري الذي قال : إنه لا وجه للقول الأول ؛ لأنه معلوم أن إبراهيم لم يسمّ أمة محمد مسلمين في القرآن ؛ لأن القرآن أنزل بعده بدهر طويل وإن الذي سمّاهم المسلمين هو الله تعالى في القرآن وفي غيره من كتبه السابقة. وعلى هذا فتكون تسميته الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبعوه بالمسلمين هي تسمية قرآنية ربانية. وقد خوطبوا بها في آيات قرآنية عديدة أيضا مثل آية الزخرف هذه ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ { ٦٩ ﴾ } وآية النحل هذه :﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ { ١٠٢ ﴾ } وآية سورة الزمر هذه :﴿ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ { ١٢ ﴾ } وآية سورة فصلت هذه :﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ { ٣٣ ﴾ } وآية
١ انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم.
٢ لما أراد بنو إسرائيل أن يعيدوا بناء معبدهم في القدس بعد عودتهم من السبي من بابل، جاء السامريون الذين كانوا يدينون بديانة اليهود فقالوا لهم: نبني معكم لأن ربنا واحد. فقالوا لهم: لا، ليس البيت الذي نبنيه لنا ولكم، وإنما نبنيه للربّ إله إسرائيل. سفر عزرا، الإصحاح ٤.
٣ التاج ٥/٣٥.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٧:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿ ٧٧ ﴾ ﴿ س ﴾ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴿ ٧٨ ﴾

في هاتين الآيتين :


١-
هتاف ربّاني بالمؤمنين بأن يعبدوا الله ويسجدوا ويركعوا له ويفعلوا الخير. ففي ذلك فوزهم ونجاحهم.

٢-
وأمر لهم بأن يجاهدوا كذلك في سبيل الله ودينه حق الجهاد.

٣-
وتنويه بالمنزلة والعناية الكبيرتين اللتين اختصّهم بهما : فقد اجتابهم واصطفاهم وهداهم إلى دينه القويم. ولم يجعل عليهم فيه حرجا ولا إعناتاً. وهو ملّة أبيهم إبراهيم وقد سمّاهم المسلمين من قبل وفي القرآن الآن. وأعدّهم بذلك كله ليكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيدا.
وهذه مكانة خطيرة وعناية كريمة تقتضيان منهم الشكر والاجتهاد في أداء ما ترتّب عليهم من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والتمسّك بأهداب دين الله والاعتصام بحبله. وهو مولاهم ونعم هو من مولى ونصير لهم.
تعليقات على الآيتين الأخيرتين من السورة
وما فيهما من تلقين وخطورة
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين. ويتبادر لنا أنهما متصلتان بالسياق السابق كله في الآيات السابقة كما ثبتت النبي صلى الله عليه وسلم في ما هو عليه من مناسك وشريعة، وأكدت له أنه على الحق والهدى، وندّدت بالمشركين وعقائدهم، فجاءت هاتان الآيتان على الأثر تختتمان الكلام بالالتفات إلى المسلمين فتهتفان بهم بما تهتفان، وتعظانهم بما تعظان وتبثّان فيهم روح الطمأنينة والسكينة والاغتباط، وتنوّهان بالملّة السمحاء التي هداهم الله إليها وبالعناية الكبرى التي خصّهم بها وتنبّهانهم إلى ما أوجبه عليهم من الجهاد في سبيل دينه وما أعدّهم له من رفعة الشأن بين الأمم والملل إذا هم اعتصموا بالله وتمسّكوا بدينهم وجاهدوا في سبيله حق الجهاد.
ولقد قال المفسرون ١ إن جملة إن جملة ﴿ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ﴾ في صدد يوم القيامة، حيث يكون النبي صلى الله عليه وسلم شهيدا على المسلمين بأنه بلّغهم رسالة ربّه، وحيث يكونون هم شهداء على الناس بدورهم بأنهم بلّغوها إليهم ؛ لأنه الدين الذي ارتضاه الله للبشرية على يد خاتم أنبيائه. ومع وجاهة هذا القول من الناحية الموضوعية، فالذي يتبادر لنا أنها تلهم أيضا كون المسلمين الذين اجتباهم الله وهداهم إلى ذلك الدين قد تأهلوا بنوره ومبادئه وروحانيته وتلقيناته وتشريعاته ليكونوا شهداء على الناس بصفة هداة ومرشدين. وجملة ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾ التي تبتدئ بها الآية التي فيها الجملة وكلمة ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ﴾ من القرائن القوية على ذلك. ولقد جاءت هذه الجملة في آية سورة البقرة هذه :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ [ ١٤٣ ] وكلمة وسط بمعنى العدول والخيار والمتّصف بالاعتدال وعدم الغلوّ والتفريط والإفراط في كل أمر. وهي في هذه الجملة تبرّر جعل المسلمين شهداء على الناس في مقام ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ﴾ في جملة سورة الحج. وهذا الوصف أو هذا التبرير قرينة على أن لهم مهمّة في الدنيا وهي إرشاد الناس وهدايتهم أيضا.
وتعبير ﴿ أبيكم إبراهيم ﴾ قد قصد به العرب ولا يمكن أن ينصرف إلى غيرهم ؛ حيث كانوا يتناقلون ويعرفون نسبتهم بالأبوة إلى إبراهيم وإسماعيل على ما شرحناه في مناسبات سابقة شرحا يغني عن التكرار. ولقد جاء هذا في آيات سورة إبراهيم [ ٣٥-٤١ ] التي مرّ تفسيرها قوي الدلالة، ثم جاء في هذه الآيات بهذه الصراحة الحاسمة.
وفي سورة البقرة آيات قوية الدلالة والحسم وهي :﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿ ١٢٧ ﴾ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿ ١٢٨ ﴾ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴿ ١٢٩ ﴾ وذكر إسماعيل مع إبراهيم مانع لانصراف كلمة الذرية هنا إلى بني إسرائيل لأنهم ليسوا من ذرية إسماعيل عليهم السلام.
والمتبادر أنه قد استهدف بالتعبير تثبيت الذين أسلموا من العرب، وتدعيم الرسالة المحمدية إزاء العرب بوجه عام. فالملّة التي يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم واعتنقها من اعتنقها منهم هي الملة الصحيحة الصادقة لإبراهيم الذي ينتسبون إليه بالأبوة ويعزون إليه تقاليدهم. فهم أولى الناس بها. وهذا المعنى هو الذي استهدفته الآيات المكية التي احتوت ذكر إبراهيم وملّته وقصصه التي لم ترد في سفر التكوين المتداول على ما نبّهنا إليه في مناسبات عديدة سابقة.
ومع خصوصية الآيتين الزمنية على ضوء هذه الشروح وصلتها بالسياق السابق فإنهما احتوتا بأسلوبهما القوي ومضامينهما الواعظة المنبّهة المنوّهة تلقينات خطيرة تظل مستمرة التلقين والفيض والمدد والنفحات للمسلمين عامة والعرب خاصة بحيث يمكن أن يقال : إنها قد جعلت للعرب المسلمين في المجتمع الإسلامي شأنا خاصا وحملتهم مهمة كبرى ونبّهتهم إلى أن الله قد اجتباهم وجعلهم وسطا وعدولا وهداة ليرشدوا الناس ويهدوهم بهدى دينه الذي ارتضاه لهم والذي رشّحه ليكون دين الإنسانية عامة. وهذا المعنى مندمج في آية سورة الزخرف هذه :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴿ ٤٤ ﴾ على ما شرحناه في سياق تفسيرها. وجملة ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾ تنطوي على تقرير ما حمّله الله تعالى للمسلمين عامة والعرب خاصة من مهمة الجهاد وبذل الجهود في سبيل نشر دين الله والدفاع عنه ؛ حيث يزيد هذا في سعة التلقين وخطورته. وجملة ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ خطيرة في مقامها حيث تأمر المسلمين والعرب بأن يعتصموا بالله ويجعلوا اعتمادهم عليه في أداء هذه المهمة الخطيرة وتبثّ فيهم الثقة والأمل في نصره لهم فيها.
ولقد أورد ابن كثير حديثا في سياق الآية [ ١٢٣ ] من سورة الأنعام رواه الإمام أحمد عن سلمان، وليس فيه ما يمنع صحّة صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك ؟ قلت يا رسول الله كيف أبغضك، وبك هدانا الله قال : تبغض العرب فتبغضني ». وفي الحديث توكيد لشأن العرب في الدعوة الإسلامية مستمدّ من شرف ظهور رسولها العظيم منهم وأعظم به من شرف.
ومن الجدير بالتنبّه أن شأنية العرب في الإسلام لا تعني تميّزا ولا تغلّبا ولا استعلاء ولا استغلالا ولا مختارية من نوع " الشعب المختار " بالنسبة لعقيدة بني إسرائيل واليهود في أنفسهم الذي جعلهم يعتبرون ما عداهم عبيداً يملكونهم وما يملكون ويكون لهم أن يحققوا ذلك، ولا يقبلون من أحد أن يرتفع إلى مستواهم دينيا أو اجتماعيا ما استطاعوا ٢. في حين أن الإسلام قد سوى بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم في جميع الحقوق والواجبات وجميع شؤون الدين والدنيا تسوية تامة وسمّاهم أخوة. كما جاء في آيات عديدة منها آية سورة الحجرات هذه ﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ [ ١٠ ] وكما جاء في أحاديث عديدة منها هذا الحديث الذي رواه الأربعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبغ بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا –ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقّر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه »٣. فليس لغير المسلمين والحالة هذه أن يروا غضاضة في هذه الشأنية للعرب في الإسلام في نطاق المدى المشروح آنفاً.
وما قلناه من انصراف الآية في الدرجة الأولى إلى العرب سواء أفي ما احتوته من دلالة لفظية أم في كونها كانت توجّه الخطاب إليهم لا يتعارض مع معنى آخر يمكن أن يتبادر من إطلاق تعبير ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ وهو أن غير العرب من المسلمين يدخلون في شمولها أيضا. فقد غدوا بانتمائهم إلى الإسلام أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس وهداة لهم بدورهم. وصاروا مطالبين بأن يجاهدوا في الله حقّ جهاده.
ومع أن هناك من روى عن أهل التأويل أن جملة ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾ ما عنت الجهاد الحربي في سبيل الله. فإن هناك من قال إنها عنت بذل الجهد واستفراغ الطاقة في نشر دين الله ومجاهدة النفس. وهناك من قال : إنها بمعنى بذلك كل جهد في سبيل الله بدون أدنى خوف من أي شيء. ومكية الآية تجعل التأويل الثاني هو الأوجه. وسبيل الله أشمل من الجهاد الحربي وهي الدعوة الإسلامية على ما جاء في آيات عديدة مرّ بعضها مثل آية سورة النحل [ ١٢٥ ] وفي القرآن المكي بخاصة آيات عديدة وردت فيها كلمة الجهاد في غير معنى الحرب مرّت أمثلة منها مثل آية سورة الفرقان [ ٥٢ ] ومثل آية سورة العنكبوت [ ٦٩ ]. ولقد اختلفت أقوال أهل التأويل من التابعين التي يرويها المفسرون في مرجع ضمير الفاعل في ﴿ سمّاكم ﴾ فمنهم من قال : إنه إبراهيم، ومنهم من قال : إنه ( لله ) ونحن نرى القول الثاني هو الأوجه بقرينة ﴿ وفي هذا ﴾ فإن هذا التعبير مصروف إلى القرآن والحال الحضر ولا علاقة لإبراهيم بذلك. وهذا ما رجّحه الطبري الذي قال : إنه لا وجه للقول الأول ؛ لأنه معلوم أن إبراهيم لم يسمّ أمة محمد مسلمين في القرآن ؛ لأن القرآن أنزل بعده بدهر طويل وإن الذي سمّاهم المسلمين هو الله تعالى في القرآن وفي غيره من كتبه السابقة. وعلى هذا فتكون تسميته الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبعوه بالمسلمين هي تسمية قرآنية ربانية. وقد خوطبوا بها في آيات قرآنية عديدة أيضا مثل آية الزخرف هذه ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ﴿ ٦٩ ﴾ وآية النحل هذه :﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴿ ١٠٢ ﴾ وآية سورة الزمر هذه :﴿ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ﴿ ١٢ ﴾ وآية سورة فصلت هذه :﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿ ٣٣ ﴾ وآية
١ انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم.
٢ لما أراد بنو إسرائيل أن يعيدوا بناء معبدهم في القدس بعد عودتهم من السبي من بابل، جاء السامريون الذين كانوا يدينون بديانة اليهود فقالوا لهم: نبني معكم لأن ربنا واحد. فقالوا لهم: لا، ليس البيت الذي نبنيه لنا ولكم، وإنما نبنيه للربّ إله إسرائيل. سفر عزرا، الإصحاح ٤.
٣ التاج ٥/٣٥.


تعليق على جملة
﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في مدى هذه الجملة. منها أنها بمعنى أنه ما من ذنب يذنبه المسلمون إلا جعل الله لهم منه مخرجا من توبة أو كفّارة. ومنها أن ذلك في هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس عليهم وأمثال ذلك. ومنها أن الله قد جعل الدين واسعا ولم يجعله ضيّقا بصورة عامة. ومنها ما جعله الله من رخص للمسلمين في العبادات وغيرها عند الضرورات. ومنها إيذان بأن الله قد رفع عنهم ما وضعه على بني إسرائيل من تكاليف فيها مشقة وحرج. والجملة تتحمّل كل هذه الأقوال حيث يبدو بذلك ما لها من خطورة بالغة تستدعي التنويه من حيث إنها تتضمن تقرير كون الله عز وجل قد يسّر على المسلمين الأمور فلم يحملهم في دينهم ما لا يطيقون ولم يجعل عليهم فيه إعناتا وشدّة وجعل لهم فيه لكلّ ضيق فرجا ولكل عسر يسراً. وهذا المعنى قد تكرر في سور عديدة بحيث يصحّ أن يقال إنه مما امتازت به الشريعة الإسلامية عما قبلها. وقد أشير إلى هذا المعنى في آية سورة الأعراف هذه :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { ١٥٧ ﴾ } ومما يصح أن يذكر في صدد ذلك باب التنويه الذي فتحه الله على مصراعيه لكل الناس وفي كلّ حال على ما شرحناه في سياق سورة الفرقان. ثم تحليل الأطعمة المحرّمة عند الاضطرار والرخص الكثيرة المتنوعة كالتيمم وصلاة الخوف وتحلّة اليمين. ثم إباحة الاستمتاع بزينة الحياة الدنيا والطيبات من الرزق. وحصر المحظورات في الخبائث والفواحش والبغي والشرك والمنكرات من الأخلاق الشخصية والاجتماعية وإباحة كل عمل وتصرف للمسلم خارجا عن هذا النطاق. وقد أشير إلى ذلك في آيات سورة الأعراف [ ٣١-٣٣ و٤٢ ] وعلّقنا عليه تعليقا يغني عن التكرار. ولقد أراد فريق من المؤمنين المخلصين نبذ الطيبات التي أحلّها الله زهدا وتورّعا وتقرّبا إلى الله فنهاهم الله عن ذلك في آيات سورة المائدة هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ { ٨٧ ﴾ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴿ ٨٨ ﴾ } وقد كانوا تعاهدوا فيما بينهم وحلفوا فأنزل الله الآية لإخراجهم من عهدة يمين حلفوها بتحريم ما أحلّ الله على أنفسهم ولو كان تورّعا وزهداً :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { ٨٩ ﴾ } وفي سورة البقرة آية قررت أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وأن الإنسان لا يسأل إلا عما صدر منه فعلا. وعلّمت المسلمين الدعاء لله بعدم مؤاخذتهم بما يصدر عنهم من عمل مغاير لما أمر به بسائق النسيان والخطأ، وبعدم تكليفهم تكاليف شديدة وإلزامهم بإلزامات محرجة كما كان شأن الذين من قبلهم وبعدم تحميلهم فوق طاقتهم وهي هذه :﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ { ٢٨٦ ﴾‏ }. ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي حديثا في سياق هذه الآية وما قبلها، يفيد أن الله عز وجل آذن المسلمين أنه يستجيب لهذا الدعاء الذي علّمهم إياه. والحديث مروي عن أبي هريرة قال :«لما نزلت آية ﴿ لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { ٢٨٤ ﴾ } [ البقرة : ٢٨٤ ] اشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأتوه ثم بركوا على الركب، فقالوا : أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها ١. فقال رسول الله : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، قالها مرّتين فلما اقترأها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ { ٢٨٥ ﴾ } [ البقرة : ٢٨٥ ] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل عز وجل :﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] قال نعم ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] قال نعم ﴿ وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ]. قال نعم ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ قال نعم ٢. وفي سورة البقرة في سياق آيات الصيام هذه الجملة ﴿ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [ ١٨٥ ] وفي سورة المائدة في سياق آيات الوضوء هذه الجملة ﴿ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { ٦ ﴾ } حيث يتساوق بذلك التلقين القرآني الجليل الذي انطوى في هذه الآية كما هو ظاهر.
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة وردت في كتب الأحاديث الصحيحة متصلة بمدى الجملة منها حديث رواه الشيخان جاء فيه «يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا »٣.
وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه :«ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم »٤. وحديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة جاء فيه :«عليكم بما تطيقون. فوالله لا يملّ الله حتى تملّوا وكان أحب الدين إلى الله ما داوم عليه صاحبه »٥. ومنها حديث عن عبد الله بن عمر رواه مسلم جاء فيه :«ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار ؟ قلت : إني أفعل ذلك. قال : فإنك إن فعلت ذلك هجمت عيناك ونفِهت نفسك، ولعينك حق، ولنفسك حق ولأهلك حق وقم ونم وصم وأفطر ». ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الشيخان جاء فيه ٦ :«إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه. فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة »٧. وحديث رواه ابن ماجة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :«إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه »٨. وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به نفسها ما لم يتكلّموا أو يعملوا به »٩. وحديث رواه الإمام أحمد عن عروة الفقيمي قال :«جعل الناس يسألون رسول الله أعلينا حرج في كذا ؟ فقال : أيها الناس إن دين الله عز وجل يسر قالها ثلاثا »١٠. وحديث آخر رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة جاء فيه :«قال رجل : إني مررت بغار محمد فحدثتني نفسي أن أقيم فيه وأتخلّى عن الدنيا، فقال له رسول الله :«إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية لكن بعثت بالحنفية السمحة »١١.
وهكذا يكون التساوق تاما بين التلقين القرآني والتلقين النبوي ؛ ويصبح المعنى الذي احتوته الجملة من المبادئ المحكمة في الإسلام. ولقد روي عن ابن زيد أحد علماء التابعين قوله في مدى الجملة :( ما من ذنب يذنبه المسلمون إلا ولهم مخرج منه من توبة أو كفّارة ). وعن ابن عباس تأويله لكلمة حرج بالضيق وقوله :( إن مدى الجملة ينطبق على هلال شهر رمضان وذي الحجة إذا شك الناس فيه أو التبس عليهم أو أشباه ذلك ). مما فيه صور تطبيقية وجيهة لمدى هذه الجملة.
تعليق على جملة ﴿ وافعلوا الخير ﴾
كذلك فإن جملة ﴿ وافعلوا الخير ﴾ جديرة بالتنويه من حيث إنها تحث على فعل الخير انطلاقا. والخير هو كل عمل نافع ومفيد قولا وفعلا. والإطلاق يفيد الحثّ على عمل الخير في كل ظرف ولكل الناس بدون قيد وشرط مما فيه رائع التلقين.
ولقد تكرر ذلك في آيات عديدة مما يزيد الروعة. منها آية سورة البقرة هذه ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { ١٤٨ ﴾ } حيث انطوت على حث على التسابق إلى فعل الخير وآية سورة آل عمران هذه :﴿ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ { ١١٤ ﴾ } حيث انطوت على التنويه بالمسارعين في الخيرات. ومنها آية آل عمران هذه :﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { ١٠٤ ﴾ } وهذه الآية أقوى تلقينا حيث لا يكتفي فيها بالحث على فعل الخير بل توجب الدعوة إليه دائما مثل ما توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث إذا لم يكن فئة من الناس في وقت من الأوقات لا يقومون بهذا الواجب أثم جميع المسلمين.
ولقد نددت آيات عديدة باللذين يمنعون الخير أو يشحّون عليه تنديدا شديدا. من ذلك آية سورة القلم هذه :﴿ منّاع للخير معتدٍ أثِيم { ١٢ ﴾ } وآية سورة ( ق ) هذه :﴿ منّاع للخير معتد مُّرِيب { ٢٥ ﴾ }، وهذه الجملة في آية من سورة الأحزاب ﴿ أشِحَّة على الخير ﴾ [ ١٩
١ يريدون أنهم لا يطيقون أن يحاسبهم الله بما يخفون في أنفسهم.
٢ التاج ٤/ ٦٢-٦٤.
٣ التاج ٤/٦٢.
٤ التاج ١/٣٧.
٥ نفسه ص: ٤١.
٦ نفسه ص ٤١.
٧ نفسه ٤١-٤٢.
٨ نفسه ٢٩.
٩ نفسه ٢٨.
١٠ تفسير القاسمي لآية البقرة ١٥٨.
١١ نفسه.
Icon