تفسير سورة الزمر

زاد المسير
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الزمر وتسمى سورة الغرف.
فصل في نزولها : روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وجابر بن زيد. وروي عن ابن عباس أنه قال : فيها آيتان نزلتا بالمدينة : قوله :﴿ الله نزل أحسن الحديث ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] وقوله :﴿ يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ [ الزمر : ٥٣ ]. وقال مقاتل : فيها من المدني ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ الآية [ الزمر : ٥٣ ]، وقوله :﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ﴾ [ الزمر : ١٠ ]. وفي رواية أخرى عنه قال : فيها آيتان مدنيتان ﴿ يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ [ الزمر : ٥٣ ] وقوله :﴿ يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم ﴾ [ الزمر : ١٠ ]. وقال بعض السلف : فيها ثلاث آيات مدنيات ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ إلى قوله ﴿ وأنتم لا تشعرون ﴾ [ الزمر : ٥٣-٥٥ ].

سورة الزّمر
وتسمّى سورة الغرف

فصل في نزولها:


روى العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكِّيَّة، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وجابر بن زيد. وروي عن ابن عباس أنه قال: فيها آيتان نزلتا بالمدينة:
قوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ «١» وقوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا «٢» وقال مقاتل: فيها من المدنيّ:
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية، وقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ «٣». وفي رواية أخرى عنه قال: فيها آيتان مدنيّتان: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا وقوله: يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ «٤». وقال بعض السّلف: فيها ثلاث آيات مدنيّات: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إلى قوله: وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ «٥».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)
قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ قال الزجاج: الكتاب هاهنا القرآن، ورفع «تنزيلُ» من وجهين:
أحدهما: الابتداء، ويكون الخبر مِنَ اللَّهِ، فالمعنى: نزل من عند الله. والثاني: على إضمار: هذا تنزيل الكتاب ومُخْلِصاً منصوب على الحال فالمعنى: فاعبُدِ الله موحِّداً لا تُشْرِكْ به شيئاً. قوله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ يعني: الخالص من الشِّرك، وما سِواه ليس بِدِين الله الذي أَمر به وقيل:
المعنى: لا يَستحِقُّ الدِّينَ الخالصَ إِلاّ اللُهُ «٦». وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني آلهة، ويدخل
(١) الزمر: ٢٣.
(٢) الزمر: ٥٣.
(٣) الزمر: ١٠.
(٤) الزمر: ١٠.
(٥) الزمر: ٥٣- ٥٥.
(٦) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» : ١٥/ ٢٠٥: قال ابن العربي: هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان، خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان إن الوضوء يكفي من غير نية، وما كان ليكون من الإيمان شطره ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية.
في هؤلاء اليهودُ حين قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ والنصارى لقولهم: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «١»، وجميعُ عُبَّاد الأصنام، ويدُلُّ عليه قولُه بعد ذلك: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. قوله تعالى: ما نَعْبُدُهُمْ أي:
يقولون: ما نعبُدُهم إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أي: إِلاّ لِيَشْفَعوا لنا إِلى الله. والزُّلْفى: القُرْبى، وهو اسم أُقيم مقامَ المصدر، فكأنه قال: إلاّ لِيُقَرِّبونا إِلى الله تقريباً. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي: بين أهل الأديان فيما كانوا يختلفون فيه من أمر الدّين. وذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولا وجه لذلك.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي أي: لا يُرْشِد مَنْ هُوَ كاذِبٌ في قوله: إِن الآلهه تشفع كَفَّارٌ أي: كافر باتِّخاذها آلهة، وهذا إِخبار عمن سبق عليه القضاء بحرمان الهداية.
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي: على ما يزعم من ينسُب ذلك إِلى الله لَاصْطَفى أي: لاختار ممّا يخلُق. قال مقاتل: أي: من الملائكة.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٥]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)
قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي: لم يخلقهما لغير شيء. قوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ قال أبو عبيدة: يُدْخِلُ هذا على هذا. قال ابن قتيبة: وأصلُ التَّكْوِير: اللَّفُّ، ومنه كَوْرُ العِمامة. وقال غيره. التَّكْويرُ: طَرْحُ الشيء بعضه على بعض. قوله تعالى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي: ذلَّلهما للسَّير على ما أراد كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي: إِلى الأجَلَ الذي وقَّت اللهُ للدُّنيا. وقد شرحنا معنى العزيز في البقرة «٢» ومعنى الغفَّار في طه «٣».
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦]
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
قوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي: قَبْلَ خَلْقِكم جعل منها زوجها، لأنّ حَوّاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ الذُّرِيَّة، ومِثْلُه في الكلام أن تقول: قد أعطيتُكَ اليوم شيئاً، ثُمَّ الذي أعطيتُكَ أمس أكثر هذا اختيار الفراء. وقال غيره: ثم أَخبركم أنه خَلَق منها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ أي: خَلَق ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ، وقد بيّنّاها في سورة الأنعام «٤».
قوله تعالى: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ أي: نُطَفاً ثُمَّ عَلَقاً ثم مُضَغاً ثم عَظْماً ثم لَحْماً ثم أنبت الشَّعر، إِلى غير ذلك من تقلُّب الأحوال إِلى إِخراج الأطفال، هذا قول الجمهور. وقال ابن زيد: خَلْقاً في البُطون مِنْ بَعْدِ خَلْقِكم في ظَهْر آدم. قوله تعالى: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ظُلْمة البَطْن، وظُلْمة الرّحم،
(١) التوبة: ٣٠.
(٢) البقرة: ١٢٩.
(٣) طه: ٨٢.
(٤) الأنعام: ١٤٣.
وظُلْمة المَشيمة «١»، قاله الجمهور، وابن زيد معهم. وقال أبو عبيدة: إِنها ظُلْمة صُلْب الأب، وظُلْمة بَطْن المرأة، وظُلْمة الرَّحِم.
قوله تعالى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي: من أين تُصْرَفون عن طريق الحقّ بعد هذا البيان؟!
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
قوله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ أي: عن إِيمانكم وعبادتكم وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ فيه قولان: أحدهما: لا يرضاه للمؤمِنين، قاله ابن عباس. والثاني: لا يرضاه لأحَد وإِن وقع بإرادته، وفرقٌ بين الإِرادة والرِّضى، وقد أشرنا إِلى هذا في البقرة عند قوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ «٢». وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أي: يرضى ذلك الشُّكر لكم، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بما في القلوب.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٨]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨)
قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: في عتبة ابن ربيعة، قاله عطاء. والثاني: في أبي حذيفة بن المغيرة، قاله مقاتل. والضُرُّ: البلاء والشِّدَّة. مُنِيباً إِلَيْهِ أي: راجعاً إليه من شِركه. ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أي: أعطاه وملَّكه نِعْمَةً مِنْهُ بعد البلاء الذي أصابه، كالصِّحَّة بعد المرض، والغنى بعد الفقر نَسِيَ أي: ترك ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: نسي الدُّعاء الذي كان يتضرَّع به إلى الله تعالى. والثاني: نَسِيَ الضُّرَ الذي كان يدعو الله إٍلى كَشْفه. والثالث: نَسِيَ الله الذي كان يتضرَّع إِليه. قال الزجّاج: وقد تَدُلُّ «ما» على الله عزّ وجلّ، كقوله: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وقال الفراء: تَرَكَ ما كان يدعو إِليه. وقد سبق معنى الأنداد «٣» ومعنى لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «٤». قوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ لفظُه لفظُ الأمر ومعناه التهديد، ومثله: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ «٥».
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٩ الى ١٠]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)
(١) في «اللسان» : المشيمة: هي للمرأة التي فيها الولد، والجمع مشيم، وقال ابن الأعرابي: يقال لما يكون فيه الولد المشيمة، والكيس والحوران والقميص.
(٢) البقرة: ٢٠٥، وقال القرطبي رحمه الله في «الجامع» ١٥/ ٢٠٨: وهذا مذهب أهل السنة أن الله تعالى لا يرضى الكفر وإن أراده، فالله تعالى يريد الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس وهو لا يرضاه، فالإرادة غير الرضا.
(٣) البقرة: ٢٢.
(٤) الحج: ٩. [.....]
(٥) النحل: ٥٥.
قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، وأبو جعفر، والمفضل عن عاصم، وزيد عن يعقوب: «أَمَنْ» بالتخفيف وقرأ الباقون: بالتشديد. فأما المشدَّدة، فمعناها: أهذا الذي ذَكَرْنا خيرٌ، أمَّن هو قانتٌ؟ والأصل في «أمَّن» : أَمْ مَنْ، فأدغمت الميم في الميم. وأما المخفَّفة، ففي تقديرها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها بمعنى النداء. قال الفراء: فسَّرها الذين قرءوا بها فقالوا: يا من هو قانتٌ، وهو وجه حسن، والعرب تدعو بالألف كما تدعو بياء، فيقولون: يا زيد أقبل، و: أزيد أَقْبِل، فيكون المعنى: أنه ذَكَر النّاسيَ الكافرَ، ثمَ قصَّ قِصِّةَ الصّالح بالنِّداء، كما تقول: فلان لا يصوم ولا يصلّي، فيا من يصوم أبْشِرْ. والثاني: أن تقديرها: أمَّن هو قانت كمن ليس بقانت؟! والثالث: أمَّن هو قانت كمن جعل لله أنداداً؟! وقد ذكرنا معنى القنوت في سورة البقرة «١» ومعنى آناءَ اللَّيْلِ في آل عمران «٢».
قوله تعالى: ساجِداً وَقائِماً يعني في الصلاة. وفيمن نزلت فيه هذه الآية خمسة أقوال «٣» :
أحدها: أنه أبو بكر الصِّدِّيق، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: عثمان بن عفان، قاله ابن عمر.
والثالث: عمّار بن ياسر، قاله مقاتل. والرابع: ابن مسعود، وعمّار، وصُهَيب، وأبو ذَرّ، قاله ابن السائب. والخامس: أنه رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم، حكاه يحيى بن سلام. قوله تعالى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي:
عذاب الآخرة. وقد قرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وابن عباس، وعروة، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، وأبو عمران: «يحذر عذاب الآخرة» بزيادة «عذاب». وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ فيها قولان: أحدهما:
أنها المغفرة، قاله ابن السائب. والثاني: الجنة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أنَّ ما وعدَ اللهُ من الثواب والعقاب حَقٌّ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. وباقي الآية قد تقدم في الرعد «٤»، وكذلك قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ قد تقدم في النحل «٥». وفي قوله: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ قولان: أحدهما: أنه حَثٌّ لهم على الهِجرة من مكَّة إِلى حيث يأمنون. والثاني: أنها أرض الجَنَّة رغَّبهم فيها. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ الذين صبروا لأجل الله تعالى على ما نالهم بِغَيْرِ حِسابٍ أي: يُعْطَون عطاءً كثيراً أوسعَ من أن يُحْسَب وأعظمَ من أن يُحاطَ به، لا على قدر أعمالهم.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١١ الى ١٨]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)
(١) البقرة: ١١٦.
(٢) آل عمران: ١١٣.
(٣) الصواب أن الآية عامة.
(٤) الرعد: ١٩.
(٥) النحل: ٣٠.
10
قوله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ.
(١٢٢٣) قال مقاتل: وذلك أن كُفّار قريش قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما حَمَلك على الذي أتيتَنا به؟! ألا تنظُر إِلى مِلَّة آبائك فتأخذ بها؟! فنزلت هذه الآية.
والمعنى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي: أُمِرْتُ أن أعبُدَه على التوحيد والإِخلاص السالم من الشّرك، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ من هذه الأُمَّة. قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالرجوع إلى دين آبائي، عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وقد اختلفوا في نسخ هذه الآية كما بيَّنّا في نظيرتها في الأنعام «١». قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي بالتوحيد، فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ، وهذا تهديد، وبعضهم يقول: هو منسوخ بآية السيف، وهذا باطل، لأنه لو كان أمراً كان منسوخاً، فأمّا أن يكون بمعنى الوعيد، فلا وجه لِنَسْخه. قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بأن صاروا إلى النّار وَخسروا أَهْلِيهِمْ فيه ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أنهم خَسِروا الحُور العين اللَّواتي أُعْدِدْنَ لهم في الجنة لو أطاعوا، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: خَسِروا الأهل في النَّار، إِذ لا أهَل لهم فيها، قاله مجاهد، وابن زيد. والثالث:
خَسِروا أهليهم الذين كانوا في الدنيا، إِذ صاروا إلى النّار بكفرهم، وصار أهلوهم إِلى الجَنَّة بإيمانهم، قاله الماوردي. قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وهي الأطباق من النار. وإِنما قال: وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ لأنَّها ظُلَلٌ لِمَنْ تحتَهم ذلِكَ الذي وصف اللهُ من العذاب يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ المؤمنين.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ.
(١٢٢٤) روى ابن زيد عن أبيه أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في ثلاثة نَفَرٍ كانوا في الجاهلية يوحِّدون الله تعالى: زيدِ بن عمرو بن نُفَيل، وأبي ذَرّ، وسلمان الفارسي، رضى الله عنهم قال:
أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ بغير كتاب ولا نبيّ.
وفي المراد بالطّاغوت هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: الشياطين، قاله مجاهد. والثاني: الكهنة، قاله ابن السائب. والثالث: الأوثان، قاله مقاتل، فعلى قول مقاتل هذا: إنما قال: «يعبُدوها» لأنها مؤنَّثة.
وقال الأخفش: إنما قال: «يعبُدوها» لأن الطّاغوت في معنى جماعة، وإن شئت جعلته واحدا مؤنّثا.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يصنع الحديث، فخبره هذا لا شيء.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٣٠١٠٨ عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد، حدثني أبي... وهذا مرسل، وابن زيد هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو متروك، والمتن منكر جدا، والصحيح عموم الآية. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٢٤ وكذلك ابن كثير ٤/ ٥٩ بدون سند.
وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٥٩: والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان، وأناب إلى عبادة الرحمن. فهؤلاء لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
__________
(١) الأنعام: ١٥.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٥٨: قوله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي تفارقوا فلا التقاء لهم أبدا، سواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار، أو أن الجميع أسكنوا النار، ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور اه.
11
قوله تعالى: وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أي: رجَعوا إِليه بالطّاعة لَهُمُ الْبُشْرى بالجنة «فبَشِّر عبادي» بياء، وحرّك الياء أبو عمرو. ثم نعتهم فقال: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ وفيه قولان: أحدها: أنه القرآن، قاله الجمهور. فعلى هذا، في معنى فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أقوال قد شرحناها في الأعراف «١» عند قوله:
وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها. والثاني: أنه جميع الكلام. ثم في المعنى قولان. أحدهما: أنه الرَّجُل يَجْلِس مع القوم فيَسْمَع كلامهم، فيَعمل بالمحاسن ويحدِّث بها، ويكفّ عن المساوئ ولا يظهرها، قاله ابن السائب. والثاني: أنه لمّا ادَّعى مسيلمة أنه قد أتى بقرآن، وأتت الكهنة بالكلام المزخرَف في الأباطيل، فرَّق المؤمنون بين ذلك وبين كلام الله، فاتَّبَعوا كلامَ الله، ورفضوا أباطيل أولئك، قاله أبو سليمان الدمشقي.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)
قوله تعالى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ قال ابن عباس: سبق في عِلْم الله أنَّه في النّار. فإن قيل: كيف اجتمع في هذه الآية استفهامان بلا جواب؟ قيل: أمّا الفراء، فإنه يقول: هذا ممّا يُراد به استفهام واحد، فسبق الاستفهامُ إِلى غير موضعه فَرُدّ إِلى موضعه الذي هو له، فيكون المعنى: أفأنتَ تُنْقِذ مَنْ في النارِ مَنْ حَقَّت عليه كلمة العذاب؟ ومثله: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ «٢» فردّ «أَنَّكُمْ» مرتين، والمعنى: أَيَعِدُكُم أنكم مُخْرَجون إِذا مِتُّم؟ ومثله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا ثم قال: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ «٣» فرَدَّ «تَحْسَبَنَّ» مرتين، والمعنى: لا تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بمفازة من العذاب. وقال الزجاج: يجوز أن يكون في الكلام محذوف، تقديره: أفمن حَقَّ عليه كلمةُ العذاب فيتخلَّص منه أو ينجو، أفأنت تنقذه؟ قال المفسِّرون: أفأنت تخلّصه ممّا قُدِر له فتجعله مؤمناً؟
والمعنى: ما تقدر على ذلك. قال عطاء: يريد بهذه الآية أبا لهب وولده ومن تخلَّف من عشيرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الإِيمان.
قوله تعالى: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا وقرأ أبو المتوكّل، وأبو جعفر «لكِنَّ» بتشديد النون وفتحها. قال الزجاج: والغُرَف: هي المنازل الرفيعة في الجنة، مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ أي: منازل أرفع منها. وَعْدَ اللَّهِ منصوب على المصدر فالمعنى: وعَدَهم اللهُ غُرَفاً وَعْداً. ومن قرأ: «وَعْدُ الله» بالرفع فالمعنى: ذلك وعد الله.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢١]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)
قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً قال الشّعبي: كلّ ما في الأرض فمن السَّماء ينزل فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ قال ابن قتيبة: أي: أدَخَلَه فجعله ينابيعَ، أي: عُيوناً تَنْبُعُ، ثُمَّ يَهِيجُ أي: يَيْبَسُ. قال الأصمعي: يقال للنَّبت إِذا تَمَّ جَفافُه: قد هاجَ يَهِيجُ هَيْجاً. فأمّا الحُطام، فقال أبو عبيد: هو ما يبس
(١) الأعراف: ١٤٥.
(٢) المؤمنون: ٣٥.
(٣) آل عمران: ١٨٨.
فتَحاتَّ من النَّبات، ومثله الرُّفات. قال مقاتل: هذا مثل ضرب للدنيا، بينا ترى النبت أخضر، إذ تغيَّر فَيبِسَ ثُمَّ هَلَكَ، وكذلك الدُّنيا وزينتُها. وقال غيره: هذا البيان للدّلالة على قدرة الله عزّ وجلّ.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٢]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)
قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ قال الزجاج: جوابه متروك، لأنَّ الكلام دالٌّ عليه، تقديره:
أفمن شَرَحَ اللهُ صدره فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يَهْتَد؟ ويُدلُّ على هذا قوله: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ.
(١٢٢٥) وقد روى ابن مسعود أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية، فقلنا: يا رسول الله، وما هذا الشَّرْحُ؟ فذكر حديثا قد ذكرناه في قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «١».
قوله تعالى: فَهُوَ عَلى نُورٍ فيه أربعة أقوال. أحدها: اليقين، قاله ابن عباس. والثاني: كتاب الله يأخذ به وينتهي إليه، قاله قتادة. والثالث: البيان، قاله ابن السائب. والرابع: الهُدى، قاله مقاتل.
وفيمن نزلت هذه الآية؟ فيه ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أنها نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق، وأًبيّ بن خَلَف، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: في عليّ وحمزة وأبي لهب وولده، قاله عطاء. والثالث: في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي أبي جهل، قاله مقاتل.
متن منكر بأسانيد واهية، وهو شبه موضوع. إسناده ضعيف جدا، محمد بن يزيد بن سنان وأبوه ضعيفان، وفي الإسناد مجاهيل. وبهذا الإسناد أخرجه البغوي في «التفسير» ١٨١٧.
وأخرجه الحاكم ٤/ ٣١١ من طريق محمد بن بشر بن مطر، والبيهقي في «الشعب» ١٠٥٥٢ من طريق ابن أبي الدنيا كلاهما عن محمد بن جعفر الوركاني عن عدي بن الفضل عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود به. وإسناده ضعيف، لضعف عدي بن الفضل، وقد سكت عليه الحاكم، وأعله الذهبي بوهن ابن الفضل. هذا وله علة ثانية، المسعودي صدوق إلا أنه اختلط. وأخرجه الطبري ١٣٨٥٩ من وجه آخر عن أبي عبيدة عن أبيه ابن مسعود مرفوعا، وإسناده ضعيف، ففي الإسناد مجاهيل، وعلة ثانية: وهي الإرسال بين أبي عبيدة، وابن مسعود. وأخرجه الطبري أيضا ١٣٨٦١ من وجه آخر عن عبد الرحمن بن عتبة عن ابن مسعود به مرفوعا وهذا إسناد ضعيف، عبد الرحمن عن ابن مسعود معضل. وقد ورد من مرسل أبي جعفر، أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٨٥٢ ومن طريقه الطبري ١٣٨٥٦ و ١٣٨٥٧ و ١٣٨٥٨. وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» ٣١٥ من وجه آخر عن أبي جعفر به، هذا مرسل، ومع إرساله، أبو جعفر هذا متهم بالوضع. قال أحمد: أحاديثه موضوعة. راجع «الميزان» ٤٦٠٨. وأخرجه الطبري ١٣٨٦٠ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٣٢٦ من وجه آخر عن عبد الله بن المسور. وعبد الله هذا هو أبو جعفر المدائني المتقدم ذكره، وهو متروك متهم، فالحديث ضعيف، ولا يصح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وحسبه أن يكون من كلام من دون ابن مسعود، والله أعلم. وأخرجه البيهقي ٣٢٥ من وجه آخر عن أبي جعفر فجعله من قوله، ولم يرفعه وقال: وقد روي في هذا خبر مرفوع. وانظر الحديث المتقدم في سورة الأنعام عند آية:
١٢٥. الخلاصة: المتن منكر كونه مرفوعا، وحسبه أن يكون موقوفا، أو من كلام أبي جعفر المدني فإنه لا يشبه كلام النبوة، بل الأشبه أنه من كلام الصوفية والوعاظ، والله أعلم.
__________
(١) الأنعام: ١٢٥.
(٢) لا حجة في شيء من ذلك، والآية عامة.
قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ قد بيَّنّا معنى القساوة في البقرة «١». فإن قيل: كيف يقسو القلب من ذِكْر الله عزّ وجلّ؟ فالجواب: أنه كُلَّما تُلِيَ عليهم ذِكْرُ الله الذي يكذِّبونَ به، قَسَت قلوبُهم عن الإيمان به. وذهب مقاتل في آخَرِين إِلى أنَّ «مِنْ» هاهنا بمعنى «عَنْ» قال الفراء: كما تقول: أُتْخِمْتُ عن طعام أكلتُه، ومِنْ طعام أكلتُه وإِنما قَسَت قلوبُهم مِنْ ذِكْر الله، لأنهم جعلوه كذباً فأقسى قلوبَهم ومن قال: قست قلوبهم عنه، أراد: أعرضت عنه. وقد قرأ أبيّ بن كعب، وابن أبي عبلة، وأبو عمران: «قُلوبُهم عن ذكر الله» مكان قوله: «من».
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٣]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)
قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني القرآن وقد ذكرنا سبب نزولها في أول يوسف «٢».
قوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً فيه قولان: أحدهما: أن بَعْضهُ يشْبِه بَعْضاً في الآي والحروف، فالآية تُشْبِه الآية، والكَلِمَة تُشْبِه الكَلِمة، والحَرْفُ يُشْبِه الحَرْفَ. والثاني: أن بَعْضَه يصدِّق بَعْضاً، فليس فيه اختلاف ولا تناقض.
وإنما قيل له: مَثانِيَ لأنه كُرِّرت فيه القصص والفرائض والحدود والثَّواب والعقاب.
فإن قيل: ما الحكمة في تكرار القصص، والواحدة قد كانت تكفي؟
فالجواب: أن وفود العرب كانت تَرِدُ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيُقرئهم المسلمون شيئاً من القرآن، فيكون ذلك كافياً لهم، وكان يَبْعَثُ إلى القبائل المتفرِّقة بالسُّوَر المختلفة، فلو لم تكن الأنباء والقصص مثنّاة مكرَّرة، لوقعتْ قصةُ موسى إِلى قوم، وقصةُ عيسى إِلى قوم، وقصةُ نوح إِلى قوم، فأراد الله تعالى أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض ويُلْقِيَها إِلى كل سَمْع. فأمّا فائدة تكرار الكلام من جنس واحد، كقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «٣»، وقوله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ «٤»، وقوله تعالى:
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى «٥» وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ «٦» فسنذكرها في سورة الرّحمن عزّ وجلّ.
قوله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي: تأخذُهم قشعريرة، وهو تغيُّر يحدُث في جِلْد الإِنسان من الوَجَل.
(١٢٢٦) وروى العباس بن عبد المطّلب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِذا اقشعرَّ جِلْد العَبْد من
ضعيف. أخرجه الواحدي في «الوسيط» ٣/ ٥٧٨ والبيهقي في «الشعب» ٨٠٣ والبغوي في «تفسيره» ١٨١٨ من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني من حديث العباس وإسناده ضعيف جدا، يحيى الحماني متروك، متهم بسرقة الحديث، وعبد العزيز هو الدراوردي روى مناكير، وأم كلثوم مجهولة لا تعرف، وقد توبع الحماني، وعلة الحديث جهالة أم كلثوم. وأخرجه البزار ٤/ ٧٤ «كشف» والبيهقي ٨٠٣ من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠/ ٣١٠: وفيه أم كلثوم بنت العباس، ولم أعرفها، وبقية رجاله ثقات. قلت: الدراوردي، وإن وثقه غير واحد، فقد روى مناكير، راجع «الميزان».
__________
(١) البقرة: ٧٤. [.....]
(٢) يوسف: ٣.
(٣) الرحمن: ١٣.
(٤) الكافرون: ٢.
(٥) القيامة: ٣٤.
(٦) الانفطار: ١٧.
14
خَشْية الله، تَحاتَّتْ ذُنوبُه كما يتحاتُّ عن الشجرة اليابسة ورقُها».
وفي معنى الآية ثلاثة أقوال «١» : أحدها: تَقْشَعِرُّ من وَعيده، وتَلين عندَ وعْده، قاله السدي.
والثاني: تَقْشَعِرُّ من الخَوْف، وتَلِينُ من الرَّجاء. والثالث: تَقْشَعِرُّ الجُلود لإِعظامه، وتَلِينُ عند تلاوته، ذكرهما الماوردي. وقال بعض أهل المعاني: مفعول الذّكر في قوله تعالى: إِلى ذِكْرِ اللَّهِ محذوف، لأنه معلوم والمعنى: تَطْمَئنُّ قلوبُهم إِلى ذِكْر اللهِ الجنةَ والثوابَ. قال قتادة: هذا نَعْتُ أولياء الله، تقشَعِرُّ جلودُهم وتَلِينُ قلوبُهم، ولم يَنْعَتْهم بذَهاب عُقولهم والغِشْيان عليهم، إنَّما هذا في أهل البِدَع، وهذا من الشَّيطان.
(١٢٢٧) وقد روى أبو حازم، قال: مَرَّ ابنُ عمر برجُل ساقط من أهل العراق، فقال: ما شأنُه؟
فقالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن يُصيبه هذا، قال: إِنّا لنَخشى اللهَ عزّ وجلّ، وما نَسْقُط.
(١٢٢٨) وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: جئتُ أبي، فقال لي: أين كنتَ؟ فقلت: وجدتُ قوماً، ما رأيت خيراً منهم قَطٌّ، يذكُرون الله عزّ وجلّ فيُرعَد واحدهم حتى يُغْشَى عليه من خَشْية الله عزّ وجلّ، فقعدتُ معهم، فقال: لا تقعُد معهم بعدها أبداً، قال: فرآني كأني لم يأخذ ذلك فيّ، فقال:
رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتلو القرآن، ورأيتُ أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يُصيبُهم هذا من خَشْية الله
وأخرجه أبو يعلى ٦٧٠٣ ومن طريقه البيهقي في «الشعب» ٨٠٤ عن موسى بن محمد عن محمد بن عمر بن عبد الله الرومي قال: حدثني جابر بن يزيد بن رفاعة عن هارون بن أبي الجوزاء. هارون وبقية رجاله وثقوا، على ضعف في محمد بن عمر، وثقه ابن حبان. وأورده الحافظ في «المطالب العالية» ٣/ ٢١٨ و ٢١٩ ونسبه إلى أبي يعلى، ونقل الشيخ حبيب الرحمن عن البوصيري قوله: رواه أبو يعلى والبيهقي بسند ضعيف اه.
وكذا ضعفه العراقي في «تخريج الإحياء» ٤/ ١٦٣، وانظر «الضعيفة» ٢٣٤٢.
موقوف. أخرجه البغوي في «تفسيره» ١٨٢١، بإسناد ضعيف، فيه سعيد الجمحي لم يدرك ابن عمر.
انظر ما بعده.
__________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٦١: وقوله: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، أي هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبّار المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمونه من الوعيد والوعد، والتخويف والتهديد، تقشعر جلودهم من الخشية والخوف. ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ لما يرجون ويؤمّلون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الفجّار من وجوه: أحدها: أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات. الثاني: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدا وبكيا بأدب وخشية، ورجاء ومحبة، وفهم وعلم، كما قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً أي: لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها، بل مصغين إليها، فاهمين بصيرين بمبانيها، فلهذا إنما يعملون بها، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم. الثالث:
يلزمون الأدب عند سماعها كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله. لم يكونوا يتصارخون ولا يتكلفون ما ليس يهم، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك، ولهذا فازوا بالقدح المعلى في الدنيا والآخرة.
15
تعالى، أفتَرَى أنهم أخشى لله من أبي بكر وعمر؟ قال: فرأيت ذلك كذلك. وقال عكرمة: سُئلتْ أسماءُ بنت أبي بكر: هل كان أحد من السَّلَف يُغشى عليه من الخوف؟ قالت: لا، ولكنهم كانوا يبكون.
(١٢٢٩) وقال عبد الله بن عروة بن الزبير: قلت لجَدَّتي أسماءَ بنتِ أبي بكر، كيف كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم اللهُ تعالى، تَدْمَعْ أعيُنُهم وتَقْشَعِرُّ جلودهم. فقلت لها: إنّا ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن، خَرَّ أحدُهم مَغْشِيّاً عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وكان جَوّاب يُرْعَدُ عند الذِّكْر، فقال له إبراهيم النخعي: إن كنت تملكه، فما أُبالي أن لا أعتدَّ بك، وإن كنتَ لا تملكه، فقد خالفتَ من كان قبلك.
قوله تعالى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ في المشار إِليه قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله مقاتل. والثاني: أنه ما يَنْزِلُ بالمؤمنين عند تلاوة القرآن من اقشعرار الجلود عند الوعيد، ولينها عند الوعد، قاله ابن الأنباري.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٨]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
قوله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ أي: شِدَّتَه. قال الزجاج: جوابه محذوف، تقديره: كَمَنْ يدخُل الجنة؟ وجاء في التفسير أن الكافر يُلقى في النار مغلولاً، ولا يتهيَّأ له أن يتّقيها إلّا بوجهه. ثم أخبر عمّا يقول الخَزَنة للكفار بقوله تعالى: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ يعني الكافرين ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي: جزاء كَسْبِكم.
قوله تعالى: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: من قبْل كفار مكة فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي: وهم آمنون غافلون عن العذاب، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ يعني الهوان والعذاب، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ممّا أصابهم في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، ولكنهم لا يعلمون ذلك. وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ أي: وَصَفْنا لهم مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي: من كل شبه يشبه أحوالهم.
قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا قال الزجاج: «عَرَبِيًّا» منصوب على الحال، المعنى: ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيَّته وبيانه، فذكر «قُرْآناً» توكيداً، كما تقول: جاءني زيد رجلاً صالحاً، وجاءني عمرو إِنساناً عاقلاً، فذكر رجلاً وإنساناً توكيداً. قوله تعالى: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: غير مخلوق. وقال غيره: مستقيم غير مختلف.
موقوف. أخرجه البغوي في «التفسير» ١٨٢٠ بسند فيه خلف بن سالم فمن فوقه رجال الصحيح، ومن دونه بعضهم معروف، وبعضهم لم أجد له ترجمة، لكن توبعوا عند سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» ٥/ ٦١٠ فالخبر صحيح.

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٩ الى ٣١]

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)
قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ثم بيَّنه فقال: رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ قال ابن قتيبة: أي:
مختلِفون، يَتَنازعُون ويَتَشاحُّون فيه، يقال: رجُلٌ شَكِسٌ. وقال اليزيدي: الشَّكسِ من الرجال: الضَّيِّق الخُلُق. قال المفسِّرون: وهذا مَثَل ضربه اللهُ للمؤمِن والكافر، فإن الكافر يعبُد آلهةً شتّى، فمثّله بعبد يملكه جماعة يتنافسون في خدمته، ولا يقدر أن يبلُغ رضاهم أجمعين والمؤمن يعبُد اللهَ وحده، فمثَّله بعبدٍ لرجل واحد، قد عَلِم مقاصدَه وعَرَفَ الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاكس الخُلَطاء فيه، فذلك قوله تعالى: سَلَماً لِرَجُلٍ. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو إٍِلاّ عبد الوارث في غير رواية القزَّاز، وأبان عن عاصم: «ورجُلا سالِماً» بألف وكسر اللام وبالنصب والتنوين فيهما والمعنى: ورجُلاً خالصاً لرجُل قد سَلِم له من غير مُنازِع. ورواه عبد الوارث إلاّ القزاز كذلك، إلاّ أنه رفع الاسمين، فقال: «ورجُلٌ سالِمٌ لرجُلٍ»، وقرأ ابن أبي عبلة: «سِلْمُ لِرَجُلٍ» بكسر السين ورفع الميم. وقرأ الباقون: وَرَجُلًا سَلَماً بفتح السين واللام وبالنصب فيهما والتنوين. والسَّلَم، بفتح السين واللام، معناه الصُّلح، والسِّلم، بكسرِ السين مثله. قال الزجاج: من قرأ: «سِلْماً» و «سَلْماً» فهما مصدران وُصِفَ بهما، فالمعنى، ورجُلاً ذا سِلْمٍ لرجُل وذا سَلْمٍ لرجُل فالمعنى: ذا سِلْم والسَّلْم: الصُّلح، والسِّلْم، بكسر السين مِثْلُه. وقال ابن قتيبة: من قرأ «سَلَماً لِرَجُلٍ» أراد: سلَّم إليه فهو سِلْمٌ له. وقال أبو عبيدة: السِّلْم والسَّلم الصُّلح.
قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا هذا استفهام معناه الإِنكار، أي: لا يستويان، لأن الخالص لمالك واحدٍ يَستحقُّ من معونته وإِحسانه ما لا يستحقُّه صاحب الشُّركاء المتشاكسين. وقيل: لا يستويان في باب الرّاحة، لأنّ هذا قد عرف الطريق إِلى رضى مالكه، وذاك متحيّر بين الشُّركاء. قال ثعلب:
وإِنما قال: «هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا» ولم َيُقْل: مَثَلَيْنِ، لأنهما جميعاً ضُرِبا مَثَلاً واحداً، ومِثْلُه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً «١»، ولم يَقُلْ: آيتين، لأن شأنهما واحد. وتم الكلام هاهنا، ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي: له الحمد دون غيره من المعبودِين بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ والمراد بالأكثر الكُلّ. ثم أخبر نبيَّه بما بعد هذا الكلام أنه يموت، وأنّ الذين يكذّبون يموتون، وأنهم يجتمعون للخصومة عند الله عزّ وجلّ، المحقّ والمبطل، والمظلوم والظالم «٢».
(١) المؤمنون: ٥٠.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٦٣: وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق عند موت الرسول صلّى الله عليه وسلّم حتى تحقق الناس موته، مع قوله وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ومعنى هذه الآية: ستنقلون من هذه الدار لا محالة، وستجتمعون عند الله في الدار الآخرة، وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عز وجل فيفصل بينكم، ويفتح بالحقّ وهو الفتاح العليم. فينجي المؤمنين المخلصين الموحّدين، ويعذّب الكافرين الجاحدين المشركين المكذّبين، ثم إن هذه الآية، وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين، وذكر الخصومة بينهم في الدار الآخرة فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة.
(١٢٣٠) وقال ابن عمر: نزلتْ هذه الآية وما ندري ما تفسيرها، وما نرى أنها نزلتْ إلاّ فينا وفي أهل الكتابين، حتى قُتِل عثمان، فعرفتُ أنها فينا نزلتْ. وفي لفظ آخر: حتى وقعت الفتنة بين عليّ ومعاوية.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)
قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بأن دعا له ولداً وشريكاً وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ وهو التوحيد والقرآن أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أي: مَقَامٌ للجاحِدِين؟! وهذا استفهام بمعنى التقرير يعني: إِنه كذلك.
قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ فيه أربعة أقوال «١» : أحدها: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله عليّ بن أبي طالب، وابن عباس، وقتادة، وابن زيد. ثم في الصِّدق الذي جاء به قولان: أحدهما: أنه «لا إِله إِلا الله»، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد ابن جبير. والثاني: القرآن، قاله قتادة.
وفي الذي صدَّق به ثلاثة أقوال: أحدها: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضاً، هو جاء بالصِّدق، وهو صدَّق به، قاله ابن عباس، والشعبي. والثاني: أنه أبو بكر، قاله علي بن أبي طالب. والثالث: أنهم المؤمنون، قاله قتادة، والضحاك، وابن زيد.
والقول الثاني: أن الذي جاء بالصِّدق: أهل القرآن، وهو الصِّدق الذي يُجيبونَ به يوم القيامة، وقد أدّوا حَقّه، فَهُم الذين صدَّقوا به، قاله مجاهد. والثالث: أن الذي جاء بالصِّدق الأنبياء، قاله الربيع، فعلى هذا، يكون الذي صدَّق به: المؤمِنون. والرابع: أن الذي جاء بالصِّدق: جبريل، وصدَّق به: محمد، قاله السدي.
قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أي: الذين اتَّقّوْا الشرك وإِنما قيل: «هُم»، لأن معنى «الذي» معنى الجمع، كذلك قال اللغويون، وأنشد أبو عبيدة، والزّجّاج:
حسن، أخرجه النسائي في «التفسير» ٤٦٧ والطبري ٣٠١٣٩ كلاهما عن ابن عمر، وإسناده حسن، رجاله ثقات معروفون، ويشهد له خبر عن أبي سعيد الخدري مثله. عزاه الشوكاني في «فتح القدير» ٤/ ٥٣٢ لسعيد بن منصور، وعزاه ابن حجر في «تخريجه» ٤/ ٢٧ للثعلبي.
__________
(١) قال الطبري في «تفسيره» ١١/ ٥: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره عنى بقوله وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ كل من دعا إلى توحيد الله، وتصديق رسله، والعمل بما ابتعث به رسوله صلّى الله عليه وسلّم من بين رسل الله وأتباعه والمؤمنين به، وأن يقال الصدق: هو القرآن، وشهادة أن لا إله إلا الله، والمصدّق به:
المؤمنون بالقرآن، من جميع خلق الله كائنا من كان من نبيّ الله وأتباعه. ووافقه ابن كثير. وقال ابن كثير في «تفسيره» ٤/ ٦٥: وهذا القول الذي قاله مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمن يقول الحقّ ويعمل به، والرسول صلّى الله عليه وسلّم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير فإنه جاء بالصدق وصدق المرسلين وآمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.
فإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ... هُمُ القَوْمُ، كُلُّ القَوْمِ، يا أُمَّ خالِدِ «١»
قوله تعالى: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ المعنى: أعطاهم ما شاؤوا ليكفِّر عنهم أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، أي: لِيَسْتُر ذلك بالمغفرة وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بمحاسن أعمالهم، لا بمساوئها.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨)
قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ.
(١٢٣١) ذكر المفسِّرون أن مشركي مكة قالوا: يا محمد، ما تزال تذكرُ آلهتنا وتَعِيبُها، فاتَّق أن تصيبك بسوءٍ، فنزلت هذه الآية. والمراد بعبده هاهنا: محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
وقرأ حمزة، والكسائي: «عِبَادَهُ» على الجمع، وهم الأنبياء، لأن الأمم قصدتْهم بالسُّوء فالمعنى أنه كما كفى الأنبياءَ قَبْلَكَ يكفيك، وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عمران الجوني: «بِكافي» مثبتة الياء «عَبْدِهِ» بكسر الدال والهاء من غير ألف. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو العالية، وأبو الجوزاء، والشعبي مِثْلَه، إِلاّ أنهم أثبتوا الألف في «عِبادِهِ» وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو جعفر، وشيبة، والأعمش:
«بِكافٍ» بالتنوين، «عِبادَهُ» على الجمع. وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء العطاردي: «يُكافِيْ» بياء مرفوعة قبل الكاف وياء ساكنة بعد الفاء «عِبادَهُ» على الجمع.
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي: بالذين يَعْبُدون مِن دونِهِ، وهم الأصنام. ثُمَّ أَعْلَمَ بما بعد هذا أن الإِضلال والهداية إليه تعالى، وأنه منتقم ممن عصاه. ثم أخبر أنهم مع عبادتهم، يُقِرُّونَ أنه الخالق. ثم أمر أن يُحْتَج عليهم بأن ما يعبُدون لا يَمْلِكُ كَشْفَ ضُرٍّ ولا جَلْبَ خَيْرِ. وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «كاشفاتٌ ضُرَّه» و «ممسكاتٌ رحمته» منوَّناً. والباقون: «كاشفاتُ ضُرِّه» و «ممسكات رحمته» على الإضافة.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)
قوله تعالى: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا ذكر بعض المفسرين أنها والآية التي تليها نُسخت بآية السيف.
قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن لِلنَّاسِ أي: لجميع الخَلْقِ بِالْحَقِّ ليس فيه
ضعيف. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٢٦٣٤ عن قتادة قال: قال لي رجل... فذكره، وهو ضعيف لجهالة الرجل.
__________
(١) البيت للأشهب بن رميلة، وهو في «الكتاب» ١/ ٩٦، وقد تقدم في الجزء الأول.
باطل. وتمام الآية مفسَّر في آخر يونس «١»، وذكروا أنه منسوخ بآية السيف.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٢]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)
قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها أي: يَقْبِضُ الأرواحَ حين موت أجسادها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ أي: ويتوفَّى التي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها. فَيُمْسِكُ أي: عن الجسد والنفس الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وقرأ حمزة، والكسائي: «قُضِيَ» بضم القاف وفتح الياء، «الموتُ» بالرفع. وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى الجسد إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو انقضاءُ العُمُر إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في أمر البعث «٢». وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: تلتقي أرواح الأحياء وأرواحُ الأموات في المنام، فيتعارفون ويتساءلون، ثم تُرَدُّ أرواحُ الأَحياءِ إلى أجسادها، فلا يُخطأُ بشيء منها، فذلك قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وقال ابن عباس في رواية أخرى: في ابنِ آدم نَفْسٌ وروحٌ، فبالنَّفس العقلُ والتمييزُ، وبالرُّوح النَّفَس والتحريك، فإذا نام العبدُ، قَبَضَ اللهُ نَفْسَه ولم يَقْبِض روحه «٣». وقال ابن جريج: في الإِنسان روح ونَفْسٌ، بينهما حاجز، فهو تعالى يقبض النّفس عند النّوم ثم يَرُدُّها إِلى الجسد عند الانتباه، فإذا أراد إِماتةَ العبد في نومه، لم يَرُدَّ النَّفْسَ وقَبَض الرُّوح. وقد اختلف العلماء، هل بين النَّفْس والرُّوح فَرْقٌ «٤» ؟ على قولين: قد ذكرتُهما في «الوجوه والنظائر»، وزدتُ هذه الآية شرحاً في
(١) يونس: ١٠٨.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ١٠: وقوله تعالى ذكره: إن في قبض الله نفس النائم والميت وإرساله بعد نفس هذا ترجع إلى جسمها، وحبسه لغيرها عن جسمها لعبرة وعظة لمن تفكر وتدبّر، وبيانا له أن الله يحيى من يشاء من خلقه إذا شاء، ويميت من شاء إذا شاء.
(٣) أثر ابن عباس، قال عنه الحافظ في «تخريجه» ٤/ ١٣١: لم أجده.
قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» ١٥/ ٢٢٨: قال القشيري أبو النصر- رحمه الله-: وفي هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد ولهذا قال: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فإذا يقبض الله الروح في حالين: في حالة النوم وحالة الموت، فما قبضه في حال النوم فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شيء مقبوض، وما قبضه في حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة. وقوله: وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي يزيل الحابس عنه فيعود كما كان.
فتوفي الأنفس في حال النوم بإزالة الحس وخلق الغفلة والآفة في محل الإدراك. وتوفيها في حالة الموت بخلق الموت وإزالة الحس بالكلية.
(٤) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع» ١٥/ ٢٢٩: والأظهر أنهما شيء واحد، وهو الذي تدل عليه الآثار الصحاح على ما نذكره في هذا الباب، من ذلك: حديث أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبي سلمة وقد شقّ بصره فأغمضه، ثم قال: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» أخرجه مسلم ٩٢٠. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره» قال: فذلك حين يتبع بصره نفسه» أخرجه مسلم ٩٢١. وحديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا: اخرجي أيها النفس الطيبة كانت في الجسر الطيب اخرجي حميدة وابشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء». وإسناده صحيح. أخرجه أحمد ٢/ ٢٦٤- ٢٨٨ وابن ماجة ٤٢٦٢. وفي صحيح مسلم ٢٨٧٢ عنه رضي الله عنه قال: «إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها». وقال بلال في حديث الوادي الذي أخرجه مسلم ٢٨٧٢: أخذ بنفسي يا رسول الله الذي بنفسك. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقابلا له في حديث زيد بن أسلم في حديث الوادي- متفق عليه-: «يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردّها إلينا في حين غير هذا». [.....]
«باب التوفّي» في كتاب «النظائر». وذهب بعض العلماء إِلى أَن التوفيّ المذكور في حق النّائم هو نَوْمُه.
وهذا اختيار الفراء وابن الأنباري فعلى هذا، يكون معنى توفّي النائم: قبضُ نَفْسِه عن التصرُّف، وإِرسالُها: إِطلاقُها باليَقَظَة للتّصرّف.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤)
قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا يعني كُفَّارَ مكَّةَ «١». وفي المراد بالشُّفعاءِ قولان: أحدهما: أنَّها الأصنام، زعموا أنها تشفع لهم في حاجاتهم، قاله الأكثرون. والثاني: الملائكة، قاله مقاتل.
قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً من الشفاعة وَلا يَعْقِلُونَ أنَّكم تعبُدونهم؟! وجواب هذا الاستفهام محذوف، تقديره: أوَلَو كانوا بهذه الصفة تتخذونهم؟!.
قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي: لا يَمْلِكُها أَحَدٌ إِلاّ بتمليكه، ولا يشفع عنده أَحَدٌ إلاّ بإذنه.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨)
قوله تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: انقبضتْ عن التوحيد، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: استكبرتْ، قاله قتادة. والثالث:
نَفَرتْ، قاله أبو عبيدة، والزجاج. قوله تعالى: إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون. وما بعد هذا قد تقدّم تفسيره «٢» إلى قوله تعالى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. قال السدي: ظَنَّوا أنّ أعمالَهم حسناتٍ، فبدت لهم سيئات. وقال غيره: عَمِلوا أعمالاً ظنُّوا أنَّها تنفعُهم، فلم تنفع مع شِركهم. قال مقاتل: ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا أنّه نازل بهم فهذا
(١) قال الطبري رحمه الله في «جامع البيان» ١١/ ١٠: يقول تعالى ذكره: أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهتهم التي يعبدونها شفعاء تشفع لهم عند الله في حاجاتهم. وقوله: قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم قل يا محمد لهم: أتتخذون هذه الآلهة شفعاء كما تزعمون ولو كانوا لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا ولا يعقلون شيئا، قل لهم: إن تكونوا تعبدونها لذلك، وتشفع لكم عند الله، فأخلصوا عبادتكم لله. وأفردوه بالألوهة، فإن الشفاعة جميعا له لا يشفع عنده إلا من أذن له، ورضي له قولا، وأنتم متى أخلصتم له العبادة، فدعوتموه، شفعكم لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فاعبدوا الذي له سلطان السموات والأرض وملكها ثم إلى الله مصيركم، وهو معاقبكم على إشراككم به، إن متم على شرككم.
(٢) البقرة: ١١٣، الأنعام: ١٤- ٧٣، الرعد: ١٨.
القول يحمل وجهين: أحدهما: أنَّهم كانوا يرجون القُرْبَ من الله بعبادة الأصنام، فلمّا عُوقِبوا عليها، بدا لهم ما لم يكونوا يحتَسِبون. والثاني: أنَّ البعثَ والجزاءَ لم يكن في حسابهم. وروي عن محمد بن المنكدر أنه جَزِع عند الموت وقال: أخشى هذه الآية أن يبدو لي ما لا أحتَسِب. قوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ أي: نزل بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: ما كانوا ينكرونه ويكذّبون به.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
قوله تعالى: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا قال مقاتل: هو أبو حذيفة بن المغيرة، وقد سبق في هذه السورة نظيرها «١». وإنما كنّى عن النّعمة بقوله تعالى: أُوتِيتُهُ، لأن المراد بالنِّعمة: الإنعام.
عَلى عِلْمٍ عندي، أي: على خيرٍ عَلِمَهُ اللهُ عندي. وقيل: على عِلْمٍ مِنَ الله بأنِّي له أهلٌ، قال الله تعالى: بَلْ هِيَ يعني النِّعمة التي أنعم اللهُ عليه بها فِتْنَةٌ أي: بلوى يُبْتَلى بها العبدُ لِيَشْكُرَ أو يكفُر، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن ذلك استدراج لهم وامتحان. وقيل: «بل هي» أي: المقالة التي قالها «فتنةٌ». قَدْ قالَهَا يعني تلك الكلمة، وهي قوله عزّ وجلّ: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وفيهم قولان: أحدهما: أنَّهم الأًمم الماضية، قاله السدي. والثاني: قارون، قاله مقاتل.
قوله تعالى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ أي: ما دفع عنهم العذاب ما كانُوا يَكْسِبُونَ وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: من الكفر. والثاني: من عبادة الأصنام. والثالث: من الأموال. فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي: جزاءُ سيِّئاتهم، وهو العذاب. ثم أوعد كُفَّار مكَّة، فقال: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: إِنهم لا يُعْجِزونَ الله ولا يَفوتونه. قال مقاتل: ثم وعظهم لِيَعْلَموا وحدانيتَّه حين مُطِروا بعد سبع سنين، فقال: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في بَسْطِ الرِّزق وتقتيره لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥)
قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(١٢٣٢) أحدها: أن ناساً من المشركين كانوا قد قَتلوا فأكثَروا، وزنَوا فأكثَروا، ثم أتَوا رسولَ
صحيح. أخرجه البخاري ٤٨١٠ عن إبراهيم بن موسى بن عن ابن عباس وأخرجه مسلم ١٢٢ وأبو داود
__________
(١) الزمر: ٨.
الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إِنّ الذي تدعو إِليه لَحَسَنٌ، لو تُخبرنا أنّ لِمَا عَمِلنا كفّارةً، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(١٢٣٣) والثاني: أنها نزلت في عَيّاش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونَفَرٍ من المسلمين كانوا قد أسلموا، ثم عُذِّبوا فافتُتِنوا، فكان أصحاب رسول الله يقولون: لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ هؤلاء صَرْفاً ولا عَدْلاً، قومُ تركوا دينهم بعذاب عُذِّبوه فنزلت هذه الآية، فكتبها عمر إلى عَيّاش والوليد وأولئك النَّفَر، فأسلموا وهاجروا وهذا قول ابن عمر.
والثالث: أنها نزلتْ في وحشي وهذا القول ذكرناه مشروحاٍ في آخر الفرقان «١» عن ابن عباس.
(١٢٣٤) والرابع: أنَّ أهل مكَّةَ قالوا: يزعُم محمدٌ أنَّ مَنْ عَبَدَ الأوثانَ وقَتَلَ النَّفْسَ التي حرَّم اللهُ لم يُغْفَر له، فكيف نُهاجِر ونُسْلِم وقد فَعَلْنا ذلك؟! فنزلت هذه الآية وهذا مرويُّ عن ابن عباس أيضاً.
ومعنى أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ارتكَبوا الكبائر. والقنوط بمعنى اليأس. وَأَنِيبُوا بمعنى ارجِعوا إِلى الله من الشِّرك والذًّنوب، وَأَسْلِمُوا لَهُ أي: أخِلصوا له التوحيد. و «تُنْصَرون» بمعنى تُمْنَعون.
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ قد بيَّنّاه في قوله عزّ وجلّ: يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها «٢».
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩)
قوله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ قال المبرِّد: المعنى: بادِروا قَبْلَ أن تقول نَفْسٌ، وحَذَراً من أن تقول نَفْسٌ. وقال الزجاج: خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها هذا القول. ومعنى يا حَسْرَتى يا
٤٢٧٤ والنسائي في «التفسير» ٤٦٩ والحاكم في «المستدرك» ٢/ ٤٠٣ والبيهقي ٩/ ٩٨ والواحدي في «أسباب النزول» ٦٥٨ كلهم من طريق يعلى بن مسلم به. وأخرجه الطبري ٢٦٥١٢ من طريق منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير به.
حسن. أخرجه الحاكم ٢/ ٤٣٥ والطبري ٢٠١٨٢ و ٢٠١٨٣ والواحدي ٧٣٠ من حديث ابن عمر عن عمر به، صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وهو حسن لأجل ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث فانتفت شبهة التدليس. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٥٣١٤ بتخريجنا.
أخرجه الواحدي ٧٢٧ معلقا، ووصله ابن أبي حاتم كما في أسباب النزول للسيوطي ٩٥٥ عن ابن عباس، وصححه السيوطي. والحديث ١٢٣٢ أصح منه. وانظر «تفسير القرطبي» ٥٣١٦ بتخريجنا.
قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ١٧: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك، لأن الله عمّ بقوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ جميع المسرفين، فلم يخصص به مسرفا دون مسرف.
وقال ابن كثير في «تفسيره» ٤/ ٧٠: هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت مثل زبد البحر. ولا يصح حمل هذه على غير توبة، لأن الشرك لا يغفر ما لم يتب منه.
__________
(١) الفرقان: ٦٨.
(٢) الأعراف: ١٤٥.
ندامتا ويا حزنا. والتحسُّر: الاغتمام على ما فات. والألِف في «يا حسرتا» هي ياء المتكلم، والمعنى:
يا حسرتي، على الإِضافة. قال الفراء: والعرب تحوِّل الياء إلى الألِف في كل كلام معناه الاستغاثة ويخرج على لفظ الدُّعاء، وربما أدخلت العربُ الهاء بعد هذه الألف، فيَخْفِضونها مَرَّةً، ويرفعونها أخرى. وقرأ الحسن، وأبو العالية، وأبو عمران، وأبو الجوزاء: «يا حسرتي» بكسر التاء، على الإِضافة إِلى النَّفْس. وقرأ معاذ القارئ، وأبو جعفر: «يا حسرتايَ»، بألف بعد التاء وياء مفتوحة، قال الزجاج:
وزعم الفراء أنه يجوز «يا حسرتاهَ على كذا» بفتح الهاء، و «يا حسرتاهُِ» بالضم والكسر، والنحويّون أجمعون لا يُجيزون أن تُثْبَتَ هذه الهاءُ مع الوصل.
قوله تعالى: فِي جَنْبِ اللَّهِ فيه خمسة أقوال: أحدها: في طاعة الله تعالى، قاله الحسن.
والثاني: في حق الله، قاله سعيد بن جبير. والثالث: في أمْر الله، قاله مجاهد، والزجاج. والرابع: في ذِكْر الله، قاله عكرمة، والضحاك. والخامس: في قٌرْب الله روي عن الفراء أنه قال: الجَنْب: القُرْب، أي: في قُرْب الله وجِواره، يقال: فلان يعيش في جَنْبِ فلان، أي: في قُرْبه وجواره فعلى هذا يكون المعنى: على ما فرَّطْتُ في طلب قُرْب الله تعالى، وهو الجنة.
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي: وما كنتُ إِلاّ من المستهزِئين بالقرآن وبالمؤمنين في الدُّنيا. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي أي: أرشَدني إِلى دينه لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الشِّرك فيقال لهذا القائل: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي قال الزجاج: و «بلى» جواب النفي، وليس في الكلام لفظ النفي، غير أن معنى «لو أن الله هداني» : ما هُديتُ، فقيل: «بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي». وروى ابن أبي سريج عن الكسائي: «جاءتكِ»، «فكذَّبْتِ»، «واسْتَكْبَرْتِ»، «وكُنْتِ»، بكسر التاء فيهنّ، مخاطَبة للنفْس. ومعنى «اسْتَكْبَرْتَ» : تكبَّرتَ عن الإِيمان بها.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)
قوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فزعموا أن له ولداً وشريكاً وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ. وقال الحسن: هم الذين يقولون: إن شئنا فَعَلْنا، وإِن شئنا لم نَفْعَل. وباقي الآية قد ذكرناه آنفا. قوله تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم:
«بِمَفازَتِهِمْ». قال الفراء. وهو كما قد تقول: قد تبيَّن أمرُ القوم وأمورهم، وارتفع الصوت والأصوات، والمعنى واحد. وفيها للمفسرين ثلاثة أقوال: أحدها: بفضائلهم، قاله السدي. والثاني: بأعمالهم، قاله ابن السائب، ومقاتل. والثالث: بفوزهم من النار. قال المبرِّد: المَفازة: مَفْعَلة من الفوز، وإن جُمع فحسن، كقولك: السعادة والسعادات، والمعنى: ينجيهم الله بفوزهم، أي: بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣)
قوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن قتيبة: أي: مفاتيحُها وخزائنُها، لأن مالِكَ المفاتيح مالِك الخزائن، واحدها: إِقليد، وجُمع على غير واحد، كما قالوا: مَذاكير جمع ذَكَر، ويقال: هو
فارسيّ معرَّب. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي: الإِقليد: المفتاح، فارسي معرَّب، قال الراجز:
لَمْ يُؤْذِها الدِّيكُ بصوتِ تَغْرِيدْ ولَمْ تُعالِجْ غَلَقاً باقْليدْ
والمِقْلِيدُ: لغةٌ في الإِقْلِيدِ، والجمع: مَقَالِيد. وللمفسرين في المقاليد قولان: أحدهما: المفاتيح، قاله ابن عباس. والثاني: الخزائن، قاله الضحاك. وقال الزجاج: تفسيره أن كل شيء في السموات والأرض، فهو خالقه وفاتح بابه. قال المفسرون: مفاتيح السموات: المطر، ومفاتيح الأرض: النبات.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ قرأ نافع، وابن عامر: «تأمُرُونِي أعْبُدُ» مخفَّفةً، غير أن نافعاً فتح الياء، ولم يفتحها ابن عامر. وقرأ ابن كثير: «تأمرونّيَ» بتشديد النون وفتح الياء، وقرأ الباقون بسكون الياء. وذلك حين دعَوْه إلى دين آبائه أَيُّهَا الْجاهِلُونَ أي: فيما تأمُرون.
قوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ فيه تقديم وتأخير، تقديره: ولقد أُوحِيَ إِليكَ لئن أشركتَ لَيَحْبَطَنَّ عملُكَ، وكذلك أُوحيَ إِلى الذين مِنْ قَبْلِكَ. قال أبو عبيدة: ومجازها مجاز الأمرين اللَّذَين يُخْبَرُ عن أحدهما ويُكَفُّ عن الآخر. قال ابن عباس: هذا أدبٌ من الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم وتهديد لغيره، لأنّ الله عزّ وجلّ قد عصمه من الشِّرك. وقال غيره: إِنما خاطبه بذلك، لِيَعْرِفَ مَنْ دونَه أن الشِّرك يُحبِطُ الأعمال المتقدِّمة كلَّها ولو وقع من نبيٍّ. وقرأ أبو عمران وابن السميفع ويعقوب:
«لَنُحْبِطَنَّ» بالنون، «عَمَلَكَ»، بالنصب. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ أي: وحّد.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٧]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)
قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
(١٢٣٥) سبب نزولها أن رجلاً من أهل الكتاب أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا أبا القاسم، بلغك أن الله تعالى يَحْمِلُ الخلائقَ على إِصْبع والأَرَضِينَ على إِصْبَع والشَّجَر على إِصْبَع والثَّرى على إِصْبع؟
فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بدت نواجذُه، فأنزل اللهُ تعالى هذه الآية، قاله ابن مسعود. وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين نحوه عن ابن مسعود.
صحيح. وليس فيه سبب نزول الآية. وورد عند الواحدي في «أسباب النزول» ٧٣١ وفيه سبب نزول الآية.
وأخرجه البخاري ٤٨١١ والبغوي في شرح السنة ٤١٩٩ بإسنادهما من حديث ابن مسعود، وأحمد ١/ ٤٥٧ والآجري في «الشريعة» ٧٥١ والبيهقي في «الاعتقاد» ص ٣٣٤ من طريق شيبان به. وأخرجه البخاري ٧٥١٣ ومسلم ٢٧٨٦ ح ٢٠ والنسائي في «التفسير» ٤٧٠ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ٧٨ والآجري في «الشريعة» ٧٥٠ وابن حبان ٧٣٢٦ وابن أبي عاصم في «السنة» ٥٤١ والبيهقي ص ٣٣٥ من طرق عن جرير به. وأخرجه البخاري ٧٤١٤ ومسلم ٢٧٨٦ ح ١٩ والترمذي ٣٢٣٨ و ٣٢٣٩ والنسائي في «التفسير» ٤٧١ والطبري ٣٠٢١٧ وابن خزيمة ص ٧٧ والآجري ٧٥٣ وابن أبي عاصم ٥٤٢ والبيهقي ص ٣٣٥ من طرق عن منصور به. وأخرجه البخاري ٧٤١٥ ومسلم ٢٧٨٦ ح ٢١ و ٢٢ والنسائي ٤٧٢ من طريق الأعمش عن إبراهيم عن علقمة به.
وقد فسَّرنا أول هذه الآية في الأنعام «١». قال ابن عباس: هذه الآية في الكفار، فأمّا مَنْ آمن بأنه على كل شيء قدير، فقد قَدَرَ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ. ثم ذكر عظمته بقوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.
(١٢٣٦) وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«يَقْبِضُ اللهُ الأرض يومَ القيامة ويَطْوي السماءَ بيمينه، ثم يقول: أنا الملِك، أين ملوكُ الأرض؟».
(١٢٣٧) وأخرجا من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يطوي الله عزّ وجلّ السموات يومَ القيامة، ثم يأخذُهُنَّ بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملِك، أين الجبّارون، أين المتكبِّرون؟». قال ابن عباس: الأرضُ والسموات كلُّها بيمينه. وقال سعيد بن جبير: السموات قَبْضَةٌ والأرضون قبضة.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠)
قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري: «فصُعِقَ» بضم الصاد مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي: ماتوا من الفزع وشِدَّة الصَّوت. وقد بيَّنّا هذه الآية والخلاف في الذين استُثنوا في سورة النمل «٢». ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى وهي نفخة البعث فَإِذا هُمْ يعني الخلائق قِيامٌ يَنْظُرُونَ. قوله تعالى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أي: أضاءت. والمراد بالأرض:
عَرَصات القيامة. قوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فيه قولان: أحدهما: كتاب الأعمال، قاله قتادة، ومقاتل. والثاني: الحساب، قاله السدي. وفي الشهداء قولان: أحدهما: أنهم الذين يَشْهَدونَ على الناس بأعمالهم، قاله الجمهور. ثم فيهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم المُرْسَلون من الأنبياء. والثاني:
أمَّة محمد يَشهدونَ للرُّسل بتبليغ الرِّسالة، وتكذيبِ الأُمم إيّاهم، رويا عن ابن عباس رضي الله عنه.
والثالث: الحفظه، قاله عطاء. الرابع: النّبيّون والملائكة وأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم والجوارح، قاله ابن زيد.
والثاني: أنهم الشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله، قاله قتادة، والأول أصح. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي: جزاء عملها وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ أي: لا يَحتاجُ إلى كاتب ولا شاهد.
صحيح. أخرجه البخاري ٦٥١٩ ومسلم ٢٧٨٧ وأبو يعلى ٥٨٥٠ من طريق ابن المبارك به عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري ٧٣٨٢ والنسائي في «التفسير» ٤٧٥ وابن ماجة ١٩٢ من طريق ابن وهب عن يونس به.
وأخرجه البخاري ٤٨١٢ والدارمي ٢/ ٣٢٥ من طريقين عن الزهري: سمعت أبا سلمة، سمعت أبا هريرة...
صحيح. أخرجه مسلم ٢٧٨٨ ح ٢٤ وأبو داود ٤٧٣٢ وأبو يعلى ٥٥٥٨ وابن أبي عاصم في «السنة» ٥٤٧ والطبري ٣٠٢٢٨ وأبو الشيخ في «العظمة» ١٣٩ من طرق عن أبي أسامة به. وذكره البخاري ٧٤١٣ تعليقا عن عمر بن حمزة به. وأخرجه مسلم ٢٧٨٨ وابن ماجة ١٩٨ و ٤٢٧٥ والطبري ٣٠٢٢٣ والطبراني ١٣٣٢٧ وأبو الشيخ في «العظمة» ١٣١ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ٧٢- ٧٣ وابن حبان ٧٣٢٤ من طرق عن أبي حازم عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر به.
__________
(١) الأنعام: ٩١.
(٢) النمل: ٨٧.

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٧١ الى ٧٥]

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً قال أبو عبيدة: الزُّمَر: جماعاتٌ في تفرقة بعضُهم على إِثر بعض، واحدها: زُمْرة. قوله تعالى: رُسُلٌ مِنْكُمْ أي: أنفسكم. وكَلِمَةُ الْعَذابِ هي قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «١». قوله تعالى: فُتِحَتْ أَبْوابُها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «فتّحت» «وفتّحت» مشدَّدتين، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: بالتخفيف. وفي هذه الواو ثلاثة أقوال: أحدها: أنها زائدة، روي عن جماعة من اللُّغويين منهم الفراء. والثاني: أنها واو الحال فالمعنى: جاءوها وقد فُتحتْ أبوابُها، فدخلت الواو لبيان أن الأبواب كانت مفتَّحةٍ قبل مجيئهم، وحذفت من قصة أهل النار لبيان أنها كانت مُغْلَقةً قبل مجيئهم، ووجه الحكمة في ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنّ أهل الجنّة جاءوها وقد فُتحت أبوابُها ليستعجلوا السُّرور والفرح إِذا رأَوا الأبواب مفتَّحةً، وأهل النار يأتونها وأبوابُها مُغلَقة ليكون أشدَّ لحرِّها، ذكره أبو إِسحاق ابن شاقْلا من أصحابنا. والثاني: أن الوقوف على الباب المغلق نوعُ ذُلٍّ، فصِينَ أهلُ الجنة عنه، وجعل في حق أهل النار، ذكره لي بعض مشايخنا والثالث: أنه لو وَجَدَ أهلُ الجنة بابها مُغلَقاً لأثَّر انتظارُ فَتْحه في كمال الكَرَم، ومن كمال الكَرَم غَلْقُ باب النّار إِلى حين مجيء أهلها، لأن الكريم يعجِّل المثوبة، ويؤخِّر العقوبة، وقد قال عزّ وجلّ: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ «٢» قال المصنف: هذا وجهٌ خطر لي. والقول الثالث: أن الواو زِيدتْ، لأنَّ أبواب الجنة ثمانيةٌ، وأبواب النار سبعةٌ، والعرب تَعْطِفُ في العدد بالواو على ما فوق السبعة على ما ذكرناه في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «٣»، حكى هذا القول والذي قبله الثعلبي. واختلف العلماء أين جوابُ هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الجواب محذوف، قاله أبو عبيدة، والمبرِّد، والزجّاج في آخرين. وفي تقدير هذا المحذوف قولان: أحدهما: أن تقديره:
حَتَّى إِذا جاؤُها إِلى آخر الآية سُعِدوا، قاله المبرِّد.
والثاني: حَتَّى إِذا جاؤُها إلى قوله تعالى: فَادْخُلُوها خالِدِينَ.. دخلوها، وإِنما حُذف، لأن في الكلام دليلاًَ عليه، وهذا اختيار الزجاج. والقول الثاني: أن الجواب: قال لهم خزنتُها، والواو زائدة، ذكره الأخفش، قال: ومثله في الشِّعر.
(١) الأعراف: ١٨.
(٢) النساء: ١٤٧.
(٣) الكهف: ٢٢.
27
فإذا وذلكَ يا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ إِلاَ كَلَمَّةِ حالِمٍ بخَيالِ «١»
أي: فإذا ذلك. والثالث: الجواب: حتى إذا جاءوها فُتحتْ أبوابُها، والواو زائدة، حكاه الزجاج عن قوم من أهل اللغة.
وفي قوله تعالى: طِبْتُمْ خمسة أقوال: أحدها: أنهم إذا انْتَهَوا إِلى باب الجنة وَجدوا عند بابها شجرةً يَخرج من تحت ساقها عينان، فيَشربون من إِحداهما، فلا يبقى في بطونهم أذىً ولا قذىً إِلاّ خرج، ويغتَسلون من الأُخرى، فلا تَغْبَرُّ جلودُهم ولا تَشَعَّثُ أشعارُهم أبداً. حتى إِذا انتَهَوْا إِلى باب الجنة قال لهم عند ذلك خزنتها: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ»، رواه عاصم بن ضمرة عن علي رضى الله عنه «٢»، وقد ذكرنا في الأعراف «٣» نحوه عن ابن عباس. والثاني: طاب لكم المقام، قاله ابن عباس.
والثالث: طِبْتُم بطاعة الله، قاله مجاهد. والرابع: أنهم طُيِّبوا قَبْلَ دخول الجنة بالمغفرة، واقتُصَّ من بَعْضِهم لِبَعْض، فلمّا هُذِّبوا قالت لهم الخََزَنَةُ: طِبْتُم، قاله قتادة «٤». والخامس: كنتم طيّبين في الدُّنيا، قاله الزجاج. فلمّا دخَلوها قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بالجنة وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي أرض الجنة نتبوَّأ منها حيثُ نشاء منها أي: نَتَّخِذُ فيها من المنازل ما نشاء. وحكى أبو سليمان الدمشقي أن أُمَّة محمد صلّى الله عليه وسلّم يدخلون الجنة قبل الأمم، فينزلون منها حيث شاؤوا، ثم تنزل الأُمم بعدهم فيها، فلذلك قالوا: نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ يقول الله عزّ وجلّ: فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي: نِعْمَ ثوابُ المُطِيعِينَ في الدُّنيا الجنة.
قوله تعالى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ: أي مُحْدِقِينَ به، يُقال: حَفَّ القومُ بفلانٍ: إِذا أَحْدَقوا به ودخلتْ «مِنْ» للتوكيد، كقولك: ما جاءني من أحدٍ. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قال السدي، ومقاتل: بأَمْرِ ربِّهم. وقال بعضهم: يُسَبِّحونَ بالحمد له حيث دخل الموحِّدون الجنة. وقال ابن جرير: التَّسبيح هاهنا بمعنى الصَّلاة.
قوله تعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: بينَ الخلائق بِالْحَقِّ أي: بالعَدْلِ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هذا قول أهل الجنة شُكْراً لله تعالى على إِنعامه. قال المفسِّرون: ابتدأ اللهُ ذِكْرَ الخَلْق بالحَمْدِ فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «٥» وختم غاية الأمر- وهو استقرار الفريقين في منازلهم- بالحمد لله بهذه الآية، فنبَّه على تحميده في بداية كلّ أمر وخاتمته.
(١) البيت لتميم بن مقبل، وهو في ديوانه ٢٥٩.
(٢) أخرجه الطبري ٣٠٢٥٤ وابن المبارك في «الزهد» ص ٥٠٩- ٥١٠ والبيهقي في «البعث» ٢٧٢ عن عاصم عن علي، وإسناده لا بأس به.
(٣) الأعراف: ٤٤.
(٤) ورد في هذا المعنى حديث أخرجه البخاري ٢٤٤٠ و ٦٥٣٥ وابن أبي عاصم ٨٥ وابن مندة في «الإيمان» ٨٣٨ واستدركه الحاكم ٢/ ٣٥٤ وابن حبان ٧٤٣٤ كلهم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«يخلص المؤمنون من النار منحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا أذن لهم في دخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده لأحدكم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا» لفظ البخاري. وانظر «تفسير القرطبي» ٥٣٤٠ بتخريجنا. [.....]
(٥) الأنعام: ١.
28
سورة الغافر
قال أبو سليمان الدّمشقي: ويقال لها: سورة الطّول «١». وهي مكّيّة! قاله ابن عباس، والحسن:
ومجاهد، وعكرمة، وقتادة. وحكي عن ابن عباس وقتادة أنّ فيها آيتين نزلتا بالمدينة: قوله: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ والتي بعدها «٢». قال الزّجّاج: وذكر أنّ الحواميم كلّها نزلت بمكّة.
قال ابن قتيبة: يقال: إنّ «حم» اسم من أسماء الله أضيفت هذه السّورة إليه. كأنه قيل: سورة الله، لشرفها وفضلها، فقيل: آل حاميم، وإن كان القرآن كلّه سور الله، وإنّ هذا كما يقال: بيت الله، وحرم الله، وناقة الله، قال الكميت:
وجدنا لكم في آل حاميم آية... تأوّلها منّا تقيّ ومعرب «٣»
وقد تجعل «حم» اسما للسّورة، ويدخل الإعراب ولا يصرف، ومن قال هذا في الجميع:
الحواميم، كما يقال: «طس» والطّواسين. وقال محمّد بن القاسم الأنباري: العرب تقول: وقع في الحواميم، وفي آل حميم، أنشد أبو عبيدة:
حلفت بالسّبع اللّواتي طوّلت... وبمئين بعدها قد أمئيت
وبمثان ثنّيت فكررت... وبالطّواسين اللّواتي ثلّثت
وبالحواميم اللّواتي سبّعت
فمن قال: وقع في آل حاميم، جعل حاميم اسما لكلّهنّ ومن قال: وقع في الحواميم، جعل «حم» كأنه حرف واحد بمنزلة قابيل وهابيل.
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: من الخطأ أن تقول: قرأت الحواميم، وليس من كلام العرب، والصّواب أن تقول: قرأت آل حاميم. وفي حديث ابن مسعود: «إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات» «٤»، وقال الكميت:
وجدنا لكم في آل حاميم آية
(١) ويقال لها: سورة المؤمن.
(٢) غافر: ٣٥- ٣٦.
(٣) البيت في «الكتاب» ٢/ ٣٠ و «مجاز القرآن» ٢/ ١٩٣ و «اللسان» - عرب-.
(٤) في «اللسان» الدّمث: المكان اللين ذو رمل.
29
Icon