تفسير سورة التوبة

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه تعيلب . المتوفي سنة 2004 هـ
مدنية وآياتها تسع وعشرين ومائة
لها عدة أسماء‏ :‏ براءة التوبة المقشقشة المبعثرة المشردة المخزية الفاضحة المثيرة الحافرة المنكلة المدمدمة سورة العذاب لأن فيها التوبة على المؤمنين وهي تقشقش من النفاق أي تبرئ منه وتبعثر عن أسرار المنافقين تبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكلهم وتشرد بهم وتخزيهم وتدمدم عليهم‏. ‏ وعن حذيفة رضي الله عنه‏ :‏ إنكم تسمونها سورة التوبة وإنما هي سورة العذاب والله ما تركت أحداً إلا نالت منه‏. ‏ فإن قلت‏ :‏ هلا صدرت بآية التسمية كما في سائر السور قلت‏ :‏ سأل عن ذلك عبد الله بن عباس عثمان رضي اللّه عنهما فقال‏ :‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه السورة أو الآية قال‏ :‏ اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا لن نضعها وكانت قصتها شبيهة بقصتها فلذلك قرنت بينهما وكانتا تدعيان القرينتين‏. ‏ وعن أبي بن كعب‏ :‏ إنما توهموا ذلك لأن في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذ العهود‏. ‏ وسئل ابن عيينة رضي الله عنه فقال‏ :‏ اسم اللّه سلام وأمان فلا يكتب في النبذ والمحاربة قال الله تعالى‏ :‏ ‏ " ‏ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً ‏ " ‏النساء‏ :‏ ٩٤ قيل‏ :‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب‏ :‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏. ‏ قال‏ :‏ إنما ذلك ابتداء يدعوهم ولم ينبذ إليهم ألا تراه يقول‏ :‏ سلام على من اتبع الهدى فمن دعي إلى الله عز وجل فأجاب ودعي إلى الجزية فأجاب فقد اتبع الهدى وأما النبذ فإنما هو البراءة واللعنة وأهل الحرب لا يسلم عليهم ولا يقال‏ :‏ لا تفرق ولا تخف ومترس ولا بأس‏ :‏ هذا أمان كله‏. ‏ وقيل‏ :‏ سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة كلتاهما نزلت في القتال تعدان السابعة من الطُّوَل وهي سبع وما بعدها المئون وهذا قول ظاهر لأنهما معاً مائتان وست فهما بمنزلة إحدى الطول‏. ‏ وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم‏ :‏ الأنفال وبراءة سورة واحدة‏. ‏ وقال بعضهم‏ :‏ هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال‏ :‏ هما سورتان وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال‏ :‏ هما سورة واحدة‏. ‏
﴿ بَرَآءَةٌ ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة و ﴿ مِّنَ ﴾ لابتداء الغاية، متعلق بمحذوف وليس بصلة، كما في قولك : برئت من الدين. والمعنى : هذه براءة واصلة من الله ورسوله ﴿ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ ﴾ كما يقال : كتاب من فلان إلى فلان. ويجوز أن يكون ﴿ بَرَآءَةٌ ﴾ مبتدأ لتخصيصها بصفتها، والخبر ﴿ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ ﴾ كما تقول : رجل من بني تميم في الدار وقرىء «براءة » بالنصب، على : اسمعوا براءة وقرأ أهل نجران «مِن الله » بكسر النون والوجه الفتح مع لام التعريف لكثرته. والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه منبوذ إليهم. فإن قلت : لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين ؟ قلت : قد أذن الله في معاهدة المشركين أوّلاً فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما [ تجّدد ] من ذلك فقيل لهم : اعلموا أنّ الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين.
وروي أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب، فنكثوا إلا ناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فنبذ العهد إلى الناكثين، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاؤا لا يتعرض لهم، وهي الأشهر الحرم في قوله :﴿ فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم ﴾ وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها. وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، فأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه على موسم سنة تسع، ثم أتبعه علياً رضي الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم، فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر رضي الله عنه ؟ فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني، فلما دنا عليّ سمع أبو بكر الرغاء، فوقف، وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما لحقه قال : أمير أو مأمور ؟ قال : مأمور. وروي : أنّ أبا بكر لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام فقال : يا محمد، لا يبلغنّ رسالتك إلا رجل منك، فأرسل علياً، فرجع أبو بكر رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، أشيء نزل من السماء قال : " نعم، فسر وأنت على الموسم، وعليّ ينادي بالآي " فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضي الله عنه وحدثهم عن مناسكهم، وقام علي رضي الله عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس، إني رسول رسول الله إليكم. فقالوا : بماذا ؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية.
وعن مجاهد رضي الله عنه ثلاثة عشرة آية، ثم قال : أمرت بأربع :«أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده » فقالوا عند ذلك يا علي، أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف. وقيل : إنما أمر أن لا يبلغ عنه إلا رجل منه ؛ لأنّ العرب عادتها في نقض عهودها أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها، فلو تولاه أبو بكر رضي الله عنه. لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما يعرف فينا من نقض العهود فأزيحت علتهم بتولية ذلك علياً رضي الله عنه فإن قلت : الأشهر الأربعة ما هي ؟ قلت : عن الزهري رضي الله عنه أنّ براءة نزلت في شوال، فهي أربعة أشهر : شوّال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، وقيل هي عشرون من ذي الحجة، والمحرّم، وصفر، وشهر ربيع الأوّل، وعشر من شهر ربيع الآخر. وكانت حرماً ؛ لأنهم أُومنوا فيها وحرّم قتلهم وقتالهم. أو على التغليب ؛ لأنّ ذا الحجة والمحرّم منها. وقيل : لعشر من ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول ؛ لأنّ الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية من ذي الحجة. فإن قلت ما وجه إطباق أكثر العلماء على جواز مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم وقد صانها الله تعالى عن ذلك ؟ قلت : قالوا قد نسخ وجوب الصيانة وأبيح قتال المشركين فيها ﴿ غَيْرُ مُعْجِزِي الله ﴾ لا تفوتونه وإن أمهلكم، وهو مخزيكم : أي مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب.
﴿ وَأَذَانٌ ﴾ ارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها، ولا وجه لقول من قال : إنه معطوف على براءة، كما لا يقال : عمرو معطوف على زيد، في قولك : زيد قائم، وعمرو قاعد، والأذان : بمعنى الإيذان وهو الإعلام، كما أنّ الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء. فإن قلت : أي فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية ؟ قلت : تلك إخبار بثبوت البراءة. وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت. فإن قلت : لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس ؟ قلت : لأنّ البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأمّا الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث ﴿ يَوْمَ الحج الأكبر ﴾ يوم عرفة. وقيل : يوم النحر ؛ لأنّ فيه تمام الحج ومعظم أفعاله، من الطواف. والنحر، والحلق، والرمي. وعن علي رضي الله عنه : أن رجلاً أخذ بلجام دابته فقال : ما الحج الأكبر ؟ قال يومك هذا. خل عن دابتي. وعن ابن عمر رضي الله عنهما : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال " هذا يوم الحج الأكبر " ووصف الحج بالأكبر لأنّ العمرة تسمى الحج الأصغر، أو جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر لأنه معظم واجباته ؛ لأنه إذا فات فات الحج، وكذلك إن أريد به يوم النحر ؛ لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج - فهو الحج الأكبر. وعن الحسن رضي الله عنه : سمي يوم الحج الأكبر لاجتماع المسلمين والمشركين فيه وموافقته لأعياد أهل الكتاب، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم على قلب كل مؤمن وكافر. حذفت الباء التي هي صلة الأذان تخفيفاً وقرئ «إنّ الله » بالكسر لأنّ الأذان في معنى القول ﴿ وَرَسُولُهُ ﴾ عطف على المنوي في ﴿ بريء ﴾ أو على محل «إن » المكسورة واسمها وقرئ بالنصب، عطفاً على اسم إن أو لأنّ الواو بمعنى مع : أي بريء معه منهم، وبالجرّ على الجوار. وقيل : على القسم، كقوله : لعمرك. ويحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرؤها فقال : إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء، فلببه الرجل إلى عمر، فحكى الأعرابي قراءته، فعندها أمر عمر رضي الله عنه بتعلم العربية ﴿ فَإِن تُبْتُمْ ﴾ من الكفر والغدر ﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ عن التوبة، أو ثبتم على التولي والإعراض عن الإسلام والوفاء فاعلموا أنكم غير سابقين الله تعالى ولا فائتين أخذه وعقابه.
فإن قلت : مم استثنى قوله ﴿ إِلاَّ الذين عاهدتم ﴾ ؟ قلت : وجهه أن يكون مستثنى من قوله :﴿ فَسِيحُواْ فِى الأرض ﴾ [ التوبة : ٢ ] لأن الكلام خطاب للمسلمين. ومعناه : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين. فقولوا لهم سيحوا، إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم والاستثناء بمعنى الاستدراك، وكأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين، ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفيَّ كالغادر ﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين ﴾ يعني أنّ قضية التقوى أن لا يسوّي بين القبيلين فاتقوا الله في ذلك ﴿ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً ﴾ لم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط ﴿ وَلَمْ يظاهروا ﴾ ولم يعاونوا ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾ عدوّاً، كما عدت بنو بكر على خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشد :
لاَهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا حِلْفَ أبِينَا وَأبِيكَ الأتْلَدَا
إن قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا وَنَقَضُوا ذِمَامكَ الْمُؤَكَّدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْحَطِيمِ هُجَّدا وَقَتَلُونَا رُكَّعاً وَسُجَّدَا
فقال عليه الصلاة والسلام : " لا نصرت إن لم أنصركم " وقرئ :«لم ينقضوكم »، بالضاد معجمة أي لم ينقضوا عهدكم. ومعنى ﴿ فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ ﴾ فأدّوه إليهم تامّاً كاملاً. قال ابن عباس رضي الله عنه : بقي لحيّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأتمّ إليهم عهدهم.
انسلخ الشهر، كقولك انجرد الشهر، وسنة جرداء. و ﴿ الاشهر الحرم ﴾ التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا ﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ يعني الذين نقضوكم وظاهروا عليكم ﴿ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ من حلٍّ أو حرم ﴿ وَخُذُوهُمْ ﴾ وأسروهم. والأخيذ : الأسير ﴿ واحصروهم ﴾ وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد. وعن ابن عباس رضي الله عنه : حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام ﴿ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ كلّ ممرّ مجتاز ترصدونهم به، وانتصابه على الظرف كقوله ﴿ لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم ﴾ [ الأعراف : ١٦ ]. ﴿ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ ﴾ فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر. أو فكفوا عنهم ولا تتعرّضوا لهم كقوله :
خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِي الْمَنَارَ بِه ِ***
وعن ابن عباس رضي الله عنه : دعوهم وإتيان المسجد الحرام ﴿ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.
﴿ أَحَدٌ ﴾ مرتفع بفعل الشرط مضمراً يفسره الظاهر، تقديره : وإن استجارك أحد استجارك ولا يرتفع بالابتداء، لأنّ «إن » من عوامل الفعل لا تدخل على غيره. والمعنى : وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه ولا ميثاق، فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن، وتبين ما بعثت له فأمّنه ﴿ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله ﴾ ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر ﴿ ثُمَّ أَبْلِغْهُ ﴾ بعد ذلك داره التي يأمن فيها إن لم يسلم. ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة، وهذا الحكم ثابت في كل وقت. وعن الحسن رضي الله عنه : هي محكمة إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير : جاء رجل من المشركين إلى عليّ رضي الله عنه فقال : إن أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله، أو يأتيه لحاجة قتل ؟ قال : لا، لأنّ الله تعالى يقول :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك ﴾ الآية. وعن السُدّي والضحاك رضي الله عنهما : هي منسوخة بقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ [ التوبة : ٥ ]. ﴿ ذلك ﴾ أي ذلك الأمر، يعني الأمر بالإجارة في قوله :﴿ فَأَجِرْهُ ﴾. ﴿ ب ﴾ سبب ﴿ أَنَّهُمْ ﴾ قوم جهلة ﴿ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، فلا بدّ من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق.
﴿ كَيْفَ ﴾ استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد ؛ لأن يكون للمشركين عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أضداد وغرة صدورهم، يعني : محال أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم. ثم استدرك ذلك بقوله :﴿ إِلاَّ الذين عاهدتم ﴾ أي ولكن الذين عاهدتم منهم ﴿ عِندَ المسجد الحرام ﴾ ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة، فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم ﴿ فَمَا استقاموا لَكُمْ ﴾ على العهد ﴿ فاستقيموا لَهُمْ ﴾ على مثله ﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين ﴾ يعني أن التربص بهم من أعمال المتقين.
﴿ كَيْفَ ﴾ تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، وحذف الفعل لكونه معلوماً كما قال :
وَخَبَّرْتُمَانِي أَنَّمَا الْمَوْتُ بِالْقُرَى فَكَيْف وَهَاتَا هَضْبَة وَقَليبُ
يريد : فكيف مات. أي : كيف يكون لهم عهد ﴿ و ﴾ حالهم أنهم ﴿ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ ﴾ بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولم يبقوا عليكم ﴿ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ ﴾ لا يراعوا حلفاً. وقيل : قرابة. وأنشد لحسان رضي الله عنه :
لَعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيْش كَإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النَّعَامِ
وقيل :﴿ إِلاًّ ﴾ إلها وقرئ :«إيلا »، بمعناه وقيل : جبرئيل، وجبرئل، من ذلك. وقيل : منه اشتق الآل بمعنى القرابة، كما اشتقت الرحم من الرحمن، والوجه ان اشتقاق الإلّ بمعنى الحلف، لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه، من الأل وهو الجؤار، وله أليل : أي أنين يرفع به صوته. ودعت ألليها : إذا ولولت، ثم قيل لكل عهد وميثاق : إلّ. وسميت به القرابة، لأن القرابة عقدت بين الرجلين ما لا يعقده الميثاق ﴿ يُرْضُونَكُم ﴾ كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن، مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد. وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان، لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون ﴾ متمرّدون خلعاء لا مروءة تزعهم، ولا شمائل مرضية تردعهم، كما يوجد ذلك في بعض الكفرة، من التفادي عن الكذب والنكث، والتعفف عما يثلم العرض ويجرّ أحدوثة السوء.
﴿ اشتروا ﴾ استبدلوا ﴿ بآيات الله ﴾ بالقرآن والإسلام ﴿ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ وهو اتباع الأهواء والشهوات ﴿ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم. وقيل : هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم.
﴿ هُمُ المعتدون ﴾ المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة.
﴿ فَإِن تَابُواْ ﴾ عن الكفر ونقض العهد ﴿ فَإِخوَانُكُمْ فِى الدين ﴾ فهم إخوانكم على حذف المبتدأ، كقوله تعالى :﴿ فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم ﴾ [ الأحزاب : ٥ ]، ﴿ وَنُفَصّلُ الآيات ﴾ ونبينها. وهذا اعتراض، كأنه قيل : وإن من تأمّل تفصيلها فهو العالم بعثاً وتحريضاً على تأمّل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين، وعلى المحافظة عليها.
﴿ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ ﴾ وثلبوه وعابوه ﴿ فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر ﴾ فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم : إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمرّداً وطغياناً وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخواناً للمسلمين في الدين، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود، وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون ليس دين محمدبشيء، فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدم فيه، لا يشق كافر غبارهم. وقالوا : إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعناً ظاهراً، جاز قتله ؛ لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمّة ﴿ إِنَّهُمْ لا أيمان لَهُمْ ﴾ جمع يمين :«وقرئ : لا إيمان لهم، أي لا إسلام لهم » أو لا يعطون الأمان بعد الردّة والنكث، ولا سبيل إليه، فإن قلت : كيف أثبت لهم الإيمان في قوله :﴿ وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم ﴾ ثم نفاها عنهم ؟ قلت : أراد أيمانهم التي أظهروها ثم قال لا إيمان لهم على الحقيقة، وأيمانهم ليست بأيمان. وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن يمين الكافر لا تكون يميناً. وعند الشافعي رحمه الله : يمينهم يمين. وقال : معناه أنهم لا يوفون بها، بدليل أنه وصفها بالنكث ﴿ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ﴾ متعلق بقوله ﴿ فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر ﴾ أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عما هم عليه. وهذا من غاية كرمه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد. فإن قلت : كيف لفظ أئمة ؟ قلت : همزة بعدها همزة بين بين، أي : بين مخرج الهمزة والياء. وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة، وإن لم تكن بمقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة. ولا يجوز أن تكون قراءة. ومن صرح بها فهو لاحن محرف.
﴿ أَلاَ تقاتلون ﴾ دخلت الهمزة على ﴿ لاَ تقاتلون ﴾ تقريراً بانتفاء المقاتلة. ومعناه : الحضّ عليها على سبيل المبالغة ﴿ نَّكَثُواْ أيمانهم ﴾ التي حلفوها في المعاهدة ﴿ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول ﴾ من مكة حين تشاوروا في أمره بدار الندوة، حتى أذن الله تعالى له في الهجرة، فخرج بنفسه ﴿ وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ أي : وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المنير وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال فهم البادءون بالقتال والبادئ أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله، وأن تصدموهم بالشرّ كما صدموكم ؟ وبخهم بترك مقاتلتهم وحضّهم عليها، ثم وصفهم بما يوجب الحضّ عليها. ويقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب، حقيق بأن لا تترك مصادمته، وأن يوبخ من فرط فيها ﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ ﴾ تقرير بالخشية منهم وتوبيخ عليها ﴿ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ ﴾ فتقاتلوا أعداءه ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلاّ ربه، ولا يبالي بمن سواه، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله ﴾ [ الأحزاب : ٣٩ ].
[ و ] لما وبخهم الله على ترك القتال، جرّد لهم الأمر به فقال :﴿ قاتلوهم ﴾ ووعدهم - ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم - أنه يعذبهم بأيديهم قتلاً، ويخزيهم أسراً، ويوليهم النصر والغلبة عليهم ﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ ﴾ طائفة من المؤمنين، وهم خزاعة، قال ابن عباس رضي الله عنه : هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديداً، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه، فقال : " أبشروا فإن الفرج قريب ".
﴿ وَيُذْهِبْ غَيْظَ ﴾ قلوبكم لما لقيتم منهم من المكروه، وقد حصّل الله لهم هذه المواعيد كلها، فكان ذلك دليلاً على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته ﴿ وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء ﴾ ابتداء كلام، وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره، وكان ذلك أيضاً، فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم، وقرئ :«ويتوب » بالنصب بإضمار «أن » ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى ﴿ والله عَلِيمٌ ﴾ يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان ﴿ حَكِيمٌ ﴾ لا يفعل إلاّ ما اقتضته الحكمة.
﴿ أَمْ ﴾ منقطعة، ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان. والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، حتى يتبين الخلص منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله، ولم يتخذوا وليجة أي بطانة، من الذين يضادّون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم ﴿ وَلَمَّا ﴾ معناها التوقع، وقد دلّت على أن تبين ذلك، وإيضاحه متوقع كائن، وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين. وقوله :﴿ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ ﴾ معطوف على جاهدوا، داخل في حيز الصلة، كأنه قيل : ولما يعلم الله المجاهدين منكم المخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله. والوليجة : فعيلة من ولج، كالدخيلة من دخل. والمراد بنفي العلم نفي المعلوم، كقول القائل. ما علم الله مني ما قيل فيّ، يريد : ما وجد ذلك مني.
﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ ما صحّ لهم ما استقام ﴿ أَن يَعْمُرُواْ مساجد الله ﴾ يعني المسجد الحرام، لقوله :﴿ وَعِمَارَةَ المسجد الحرام ﴾ وأما القراءة بالجمع ففيها وجهان، أحدهما : أن يراد المسجد الحرام، وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ؛ فعامره كعامر جميع المساجد، ولأن كل بقعة منه مسجد. والثاني : أن يراد جنس المساجد، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها، دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته وهو آكد، لأنّ طريقته طريقة الكناية، كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله، كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك. و ﴿ شاهدين ﴾ حال من الواو في ﴿ يَعْمُرُواْ ﴾ والمعنى : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين : عمارة متعبدات الله، مع الكفر بالله وبعبادته. ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر : ظهور كفرهم وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة ويقولون : لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطاً سجدوا لها. وقيل : هو قولهم لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك. وقيل : قد أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر فعيروهم بالشرك، فطفق عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول. فقال العباس : تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا. فقال : أو لكم محاسن ؟ قالوا : نعم ونحن أفضل منكم أجراً. إنا لنعمر المسجد الحرام. ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج ونفك العاني، فنزلت ﴿ حَبِطَتْ أعمالهم ﴾ التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة. وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها، فما ظنك بالمقارن. وإلى ذلك أشار في قوله :﴿ شاهدين ﴾ حيث جعله حالاً عنهم ودلّ على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة، وذلك محال غير مستقيم.
﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله ﴾ وقرئ بالتوحيد : أي : إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتداً بها، والعمارة تتناول رمّ ما استرمّ منها، وقمها وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، ومن الذكر درس العلم، بل هو أجلّه وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :«( يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة » وفي الحديث :«الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش » وقال عليه [ الصلاة و ] السلام :«قال الله تعالى : إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زوّاري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره » وعنه عليه [ الصلاة و ] السلام :«من ألف المسجد ألفه الله » وقال عليه [ الصلاة و ] السلام :«إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان » وعن أنس رضي الله عنه :( من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه ). فإن قلت : هلاّ ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : لما علم وشهر أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول عليه [ الصلاة و ] السلام لاشتمال كلمة الشهادة والأذان، والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن صاحبه، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول عليه [ الصلاة و ] السلام. وقيل : دلّ عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ؟ فإن قلت : كيف قيل :﴿ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله ﴾ والمؤمن يخشى المحاذير، ولا يتمالك أن لا يخشاها ؟ قلت : هي الخشية والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله غيره لتوقع مخوف، وإذا اعترضه أمران : أحدهما حقّ الله، والآخر حق نفسه أن يخاف الله، فيؤثر حقّ الله على حقّ نفسه. وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها، فأريد نفي تلك الخشية عنهم ﴿ فعسى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين ﴾ تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسن لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها، بأن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع مع استشعار الخشية والتقوى، اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل، فما بال المشركين يقطعون أنهم مهتدون ونائلون عند الله الحسنى. وفي هذا الكلام ونحوه لطف للمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء ورفض الاغترار بالله تعالى.
السقاية والعمارة : مصدران من سقى وعمر، كالصيانة والوقاية. ولا بدّ من مضاف محذوف تقديره ﴿ أَجَعَلْتُمْ ﴾ أهل ﴿ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ ءامَنَ بالله ﴾ تصدقه قراءة ( ابن الزبير وأبي وجزة السعدي ) وكان من القراء :«سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام »، والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وأن يسوي بينهم. وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر. وروي أن المشركين قالوا لليهود : نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه ؟ فقالت لهم اليهود : أنتم أفضل. وقيل : إن علياً رضي الله عنه قال للعباس : يا عمّ ألا تهاجرون، ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : ألست في أفضل من الهجرة : أسقي حاجّ بيت الله، وأعمر المسجد الحرام، فلما نزلت قال العباس : ما أراني إلاّ تارك سقايتنا. فقال عليه السلام : " أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً ".
هم ﴿ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله ﴾ من أهل السقاية والعمارة عندكم ﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون ﴾ لا أنتم والمختصون بالفوز دونكم.
وقرئ :«يبشرهم » بالتخفيف والتثقيل، وتنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرّف. وعن ابن عباس رضي الله عنه : هي في المهاجرين خاصة.
وكان قبل فتح مكة من آمن لم يتمّ إيمانه إلاّ بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم. فقالوا : يا رسول الله : إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا، وبقينا ضائعين، فنزلت، فهاجروا، فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه، ثم رخص لهم بعد ذلك. وقيل : نزلت في التسعة الذين ارتدّوا ولحقوا بمكة فنهى الله تعالى عن موالاتهم. وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحبّ في الله ويبغض في الله : حتى يحبّ في الله أبعد الناس، ويبغض في الله أقرب الناس إليه "
وقرئ :«عشيرتكم » و «عشيراتكم ». وقرأ الحسن : وعشائركم ﴿ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ ﴾ وعبيد عن ابن عباس هو فتح مكة وعن الحسن هي عقوبة عاجلة أو آجلة. وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله ؟ أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها بمصلحته فلا يدري أي طرفيه أطول ؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين، فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره ؟.
مواطن الحرب : مقاماتها ومواقفها قال :
وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلاَيَ طُحْتَ كَمَا هَوَى بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي
وامتناعه من الصرف لأنه جمع، وعلى صيغة لم يأت عليها واحد، والمواطن الكثيرة : وقعات بدر، وقريظة، والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة. فإن قلت : كيف عطف الزمان والمكان وهو ﴿ يَوْمٍ حُنَيْنٍ ﴾ على المواطن ؟ قلت : معناه وموطن يوم حنين. أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين. ويجوز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين، على أنّ الواجب أن يكون يوم حنين منصوباً بفعل مضمر لا بهذالظاهر. وموجب ذلك أنّ قوله :﴿ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾ بدل من يوم حنين، فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصحّ ؛ لأنّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ولم يكونوا كثيراً في جميعها، فبقي أن يكون ناصبه فعلاً خاصاً به، إلاّ إذا نصبت «إذ » بإضمار «اذكر » وحنين : وادٍ بين مكة والطائف، كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً الذين حضروا فتح مكة، منضماً إليهم ألفان من الطلقاء، وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف فيمن ضامّهم من إمداد سائر العرب فكانوا الجمّ الغفير، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة، فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل قائلها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل : أبو بكر رضي الله عنه وذلك قوله :﴿ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ﴾ فاقتتلوا قتالاً شديداً وأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة، وزلّ عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وهو ثابت في مركزه لا يتحلحل، ليس معه إلاّ عمه العباس رضي الله تعالى عنه آخذ بلجام دابته وأبو سفيان بن الحرث ابن عمه، وناهيك بهذه الوحدة شهادة صدق على تناهي شجاعته ورباطة جأشه صلى الله عليه وسلم، وما هي إلاّ من آيات النبوة وقال : يا ربي ائتني بما وعدتني. وقال صلى الله عليه وسلم للعباس - وكان صيتاً : صيح بالناس، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً، ثم نادى : يا أصحاب الشجرة، با أصحاب البقرة، فكرّوا عنقاً واحداً وهم يقولون : لبيك لبيك، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال : هذا حين حمي الوطيس، ثم أخذ كفاً من تراب فرماهم به ثم قال : انهزموا ورب الكعبة فانهزموا، قال العباس : لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض. خلفهم على بغلته ﴿ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ ما مصدرية، والباء بمعنى مع، أي مع رحبها وحقيقته ملتبسة برحبها، على أن الجارّ والمجرور في موضع الحال، كقولك : دخلت عليه بثياب السفر، أي ملتبساً بها لم أحلها، تعني مع ثياب السفر.
والمعنى : لا تجدون موضعاً تستصلحونه لهربكم إليه ونجاتكم لفرط الرعب، فكأنها ضاقت عليكم ﴿ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ﴾ ثم انهزمتم.
﴿ سَكِينَتَهُ ﴾ رحمته التي سكنوا بها وآمنوا ﴿ وَعَلَى المؤمنين ﴾ الذين انهزموا. وقيل : هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب ﴿ وَأَنزَلَ جُنُوداً ﴾ يعني الملائكة، وكانوا ثمانية آلاف، وقيل : خمسة آلاف، وقيل : ستة عشر ألفاً ﴿ وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ ﴾ بالقتل والأسر، وسبي النساء والذراري.
﴿ ثُمَّ يَتُوبُ الله ﴾ أي يسلم بعد ذلك ناس منهم. وروي : أنّ ناساً منهم جاؤوا فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وقالوا : يا رسول الله، أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. قيل : سبي يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الأبل والغنم ما لا يحصى، فقال : إنّ عندي ما تروون، إنّ خير القول أصدقه، اختاروا : إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم. قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :«إنّ هؤلاء جاؤوا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً، فمن كان بيده شيء طابت نفسه أن يردّه فشأنه، ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه. قالوا : رضينا وسلمنا، فقال : إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا.
النجس : مصدر، يقال : نجس نجساً، قذر قذراً. ومعناه ذوو نجس ؛ لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنّهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم. أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها، مبالغة في وصفهم بها. وعن ابن عباس رضي الله عنه : أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وعن الحسن : من صافح مشركاً توضأ. وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين. وقرئ :«نجس »، بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف، كأنه قيل : إنما المشركون جنس نجس، أو ضرب نجس، وأكثر ما جاء تابعاً لرجس وهو تخفيف نجس، نحو : كبد، في كبد ﴿ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام ﴾ فلا يحجوا ولا يعتمروا، كما كانوا يفعلون في الجاهلية ﴿ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا ﴾ بعد حجّ عامهم هذا وهو عام تسع من الهجرة حين أمّر أبو بكر على الموسم، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ويدلّ عليه قول عليّ كرمّ الله وجهه حين نادى ببراءة : ألا لا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك، ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندهم. وعند الشافعي : يمنعون من المسجد الحرام خاصة. وعند مالك : يمنعون منه ومن غيره من المساجد. وعن عطاء رضي الله عنه أن المراد بالمسجد الحرام : الحرم، وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله، ونهي المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه، وقيل : المراد أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحة ويعزلوا عن ذلك ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ﴾ أي فقراً بسبب منع المشركين من الحجّ وما كان لكم في قدومهم عليكم من الأرفاق والمكاسب ﴿ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ ﴾ من عطائه أو من تفضله بوجه آخر، فأرسل السماء عليهم مدراراً، فأغزر بها خيرهم وأكثر ميرهم وأسلم أهل تبالة وجرش فحملوا إلى مكة الطعام وما يعاش به، فكان ذلك أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته. وعن ابن عباس رضي الله عنه : ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال : من أين تأكلون ؟ فأمرهم الله بقتال أهل الكتاب وأغناهم بالجزية. وقيل : بفتح البلاد والغنائم. وقرئ :«عائلة »، بمعنى المصدر كالعافية، أو حالاً عائلة. ومعنى قوله :﴿ إِن شَاء ﴾ الله. إن أوجبت الحكمة إغناءكم وكان مصلحة لكم في دينكم ﴿ إِنَّ الله عَلِيمٌ ﴾ بأحوالكم ﴿ حَكِيمٌ ﴾ لا يعطي ولا يمنع إلاّ عن حكمة وصواب.
﴿ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب ﴾ بيان للذين مع ما في حيزه. نفى عنهم الإيمان بالله لأنّ اليهود مثنية والنصارى مثلثة. وإيمانهم باليوم الآخر لأنهم فيه على خلاف ما يجب وتحريم ما حرّم الله ورسوله ؛ لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة. وعن أبي روق : لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، وأن يدينوا دين الحق، وأن يعتقدوا دين الإسلام الذي هو الحق وما سواه الباطل. وقيل : دين الله، يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده. سميت جزية ؛ لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه، أو لأنّهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل ﴿ عَن يَدٍ ﴾ إما أن يراد يد المعطي أو الآخذ فمعناه على إرادة يد المعطي حتى يعطوها عن يد : أي عن يد مؤاتية غير ممتنعة لأنّ من أبى وامتنع لم يعط يده، بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك قالوا : أعطى بيده. إذا انقاد وأصحب. ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة، كما يقال : خلع ربقة الطاعة عن عنقه، أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة، لا مبعوثاً على يد أحد. ولكن عن يد المعطي إلى يد الأخذ، وأما على إرادة يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية، أو عن إنعام عليهم. لأنّ قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم ﴿ وَهُمْ صاغرون ﴾ أي تؤخذ منهم على الصغار والذل. وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب، ويسلمها وهو قائم - والمتسلم جالس، وأن يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلبيبه، ويقال له : أدّ الجزية، وإن كان يؤدّيها ويزخ في قفاه، وتسقط بالإسلام عند أبي حنيفة ولا يسقط به خراج الأرض. واختلف فيمن تضرب عليه، فعند أبي حنيفة : تضرب على كل كافر من ذمي ومجوسي وصابىء وحربي، إلاّ على مشركي العرب وحدهم. روى الزهري : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على الجزية، إلاّ من كان من العرب وقال لأهل مكّة :«هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم بها العرب وأدّت إليكم العجم الجزية »، وعند الشافعي لا تؤخذ من مشركي العجم. والمأخوذ عند أبي حنيفة في أوّل سنة من الفقير الذي له كسب : اثنا عشر درهماً. ومن المتوسط في الغني : ضعفها، ومن المكثر : ضعف الضعف ثمانية وأربعون، ولا تؤخذ من فقير لا كسب له. وعند الشافعي : يؤخذ في آخر السنة من كل واحد دينار، فقيراً كان أو غنياً، كان له كسب أو لم يكن.
﴿ عُزَيْرٌ ابن الله ﴾ مبتدأ وخبر، كقوله : المسيح ابن الله، وعزير : اسم أعجمي كعازر وعيزار وعزرائيل، ولعجمته وتعريفه : امتنع صرفه. ومن نوّن فقد جعله عربياً. وأمّا قول من قال : سقوط التنوين للالتقاء الساكنين كقراءة من قرأ :«أحد الله » أو لأنّ الابن وقع وصفاً والخبر محذوف وهو معبودنا، فتمحل عنه مندوحة، وهو قول ناس من اليهود ممن كان بالمدينة، وما هو بقول كلهم عن ابن عباس رضي الله عنه : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامُ بنِ مشْكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، فقالوا ذلك. وقيل : قاله فنحاص. وسبب هذا القول أنّ اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض، فأتاه جبريل عليه السلام فقال له : إلى أين تذهب ؟ قال : أطلب العلم فحفظه التوراة. فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفاً، فقالوا ما جمع الله التوراة في صدره وهو غلام إلاّ لأنه ابنه. والدليل على أنّ هذا القول كان فيهم : أنّ الآية تليت عليهم، فما أنكروا ولا كذبوا ؛ مع تهالكهم على التكذيب. فإن قلت : كل قول يقال بالفم فما معنى قوله :﴿ ذلك قَوْلُهُم بأفواههم ﴾ ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما : أن يراد أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلاّ لفظ يفوهون به، فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدلّ على معان. وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب. وما لا معنى له مقول بالفم لا غير. والثاني : أن يراد بالقول المذهب، كقولهم : قول أبي حنيفة، يريدون مذهبه وما يقول به، كأنه قيل : ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم، لأنه لا حجة معه ولا شبهة حتى يؤثر في القلوب، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له لم تبق شبهة في انتفاء الولد ﴿ يضاهون ﴾ لا بدّ فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه ؛ فانقلب مرفوعاً. والمعنى : أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم، يعني أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث. أو يضاهي قول المشركين : الملائكة بنات الله تعالى الله عنه. وقيل : الضمير للنصارى، أي يضاهي قولهم : المسيح ابن الله، قول اليهود : عزير ابن الله، لأنهم أقدم منهم. وقرىء :«يضاهؤن » بالهمز من قولهم : امرأة ضهيأ على فعيل : وهي التي ضاهأت الرجال في أنها لا تحيض وهمزتها مزيدة كما في عرقىء ﴿ قاتلهم الله ﴾ أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا، تعجباً من شناعة قولهم، كما يقال لقوم ركبوا شنعاء : قاتلهم الله ما أعجب فعلهم ﴿ أنى يُؤْفَكُونَ ﴾ كيف يصرفون عن الحق ؟.
اتخاذهم أرباباً : أنهم أطاعوهم في الأمر بالمعاصي وتحليل ما حرَّم الله وتحريم ما حلّله، كما تطاع الأرباب في أوامرهم. ونحوه تسميه أتباع الشيطان فيما يوسوس به : عباده، بل كانوا يعبدون الجنّ ﴿ يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان ﴾ [ مريم : ٤٤ ] وعن عديّ بن حاتم رضي الله عنه : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال : " أليسوا يحرّمون ما أحلّ الله فتحرمونه، ويحلّون ما حرّمه الله فتحلونه " ؟ قلت : بلى. قال :«فتلك عبادتهم ». وعن فضيل رضي الله عنه. ما أبالي أطعت مخلوقاً في معصية الخالق، أو صليت لغير القبلة. وأمّا المسيح فحين جعلوه ابناً لله فقد أهلوه للعبادة. ألا ترى إلى قوله :﴿ قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين ﴾ [ الزخرف : ٨١ ]. ﴿ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا ﴾ أمرتهم بذلك أدلّة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام : أنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ﴿ سبحانه ﴾ تنزيه له عن الإشراك به، واستبعاد له. ويجوز أن يكون الضمير في ﴿ وَمَا أُمِرُواْ ﴾ للمتخذين أرباباً، أي : وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلاّ ليعبدوا الله ويوحدوه، فكيف يصحّ أن يكونوا أرباباً وهم مأمورون مستعبدون مثلهم.
مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق، يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة. ليطفئه بنفخة ويطمسه.
﴿ لِيُظْهِرَهُ ﴾ ليظهر الرسول عليه السلام ﴿ عَلَى الدين كُلّهِ ﴾ على أهل الأديان كلهم. أو ليظهر دين الحق على كل دين. فإن قلت : كيف جاز، أبى الله إلاّ كذا، ولا يقال : كرهت أو أبغضت إلا زيداً ؟ قلت : قد أجرى «أبى » مجرى «لم يرد » ألا ترى كيف قوبل ﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ ﴾ بقوله :﴿ ويأبى الله ﴾ وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلاّ أن يتمّ نوره.
معنى أكل الأموال على وجهين : إما أن يستعار الأكل للأخذ. ألا ترى إلى قولهم : أخد الطعام وتناوله. وإمّا على أن الأحوال يؤكل بها فهي سبب الأكل. ومنه قوله :
إنَّ لَنَا أَحْمِرَةً عِجَافَا يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافَا
يريد : علفاً يشترى بثمن إكاف. ومعنى أكلهم بالباطل : أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام، والتخفيف والمسامحة في الشرائع ﴿ والذين يَكْنِزُونَ ﴾ يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم : أخذ البراطيل، وكنز الأموال، والضنّ بها عن الإنفاق في سبيل الخير. ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين، ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى، تغليظاً ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطي منكم طيب ماله : سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم. وقيل : نسخت الزكاة آية الكنز. وقيل : هي ثابتة، وإنما عني بترك الإنفاق في سبيل الله منع الزكاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أدّى زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً، وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً " وعن عمر رضي الله عنه أنّ رجلاً سأله عن أرض له باعها فقال : أحرز مالك الذي أخذت، احفر له تحت فراش امرأتك. قال : أليس بكنز ؟ قال : ما أدّى زكاته فليس بكنز وعن [ ابن ] عمر رضي الله عنهما : كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم يؤدّ زكاته فهو الذي ذكر الله تعالى وإن كان على ظهر الأرض فإن قلت : فما تصنع بما روى سالم بن [ أبي ] الجعد رضي الله عنهم أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تباً للذهب تباً للفضة " قالها ثلاثاً. فقالوا له : أيّ مال نتخذ ؟ قال : " لساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، وزوجة تعين أحدكم على دينه " وبقوله عليه الصلاة والسلام : " من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها " وتوفي رجل فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كية » وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال :«كيتان » قلت : كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأمّا بعد فرض الزكاة، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالاً من حيث أذن له فيه، ويؤدّي عنه ما أوجب عليه فيه، ثم يعاقبه. ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وعبيد الله رضي الله عنهم يقتنون ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل، وإلاّ دخل في الورع والزهد في الدنيا، والاقتناء مباح موسع لا يذمّ صاحبه، ولكل شيء حدّ.
وما روي عن علي رضي الله عنه : أربعة آلاف فما دونها نفقة، فما زاد فهو كنز. كلام في الأفضل. فإن قلت : لم قيل : ولا ينفقونها، وقد ذكر شيئان ؟ قلت : ذهاباً بالضمير إلى المعنى دون اللفظ : لأن كل واحد منهما جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم، فهو كقوله :﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا ﴾ وقيل : ذهب به إلى الكنوز، وقيل : إلى الأموال. وقيل : معناه ولا ينفقونها والذهب، كما أن معنى قوله :
فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ ***
وقيار كذلك. فإن قلت : لم خصّا بالذكر من بين سائر الأموال ؟ قلت : لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء، ولا يكنزهما إلاّ من فضلا عن حاجته، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما لم يعدم سائر أجناس المال، فكان ذكر كنزهما دليلاً على ما سواهما.
فإن قلت : ما معنى قوله :﴿ يُحْمَى عَلَيْهَا ﴾ ؟ وهلا قيل : تحمى، من قولك : حمى الميسم وأحميته، ولا تقول : أحميت على الحديد ؟ قلت : معناه أن النار تحمى عليها، أي توقد ذات حمى وحرّ شديد، من قوله :﴿ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ [ القارعة : ١١ ] ولو قيل : يوم تحمى، لم يعط هذا المعنى. فإن قلت : فإذا كان الإحماء للنار، فلم ذكر الفعل ؟ قلت : لأنه مسند إلى الجار والمجرور، أصله : يوم تحمى النار عليها، فلما حذفت النار قيل : يحمى عليها، لانتقال الإسناد عن النار إلى عليها، كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير، فإن لم تذكر القصة قلت : رفع إلى الأمير وعن ابن عامر أنه قرأ :«تحمى » بالتاء. وقرأ أبو حيوة :«فيكوى » بالياء. فإن قلت : لم خصّت هذه الأعضاء ؟ قلت : لأنهم لم يطلبوا بأموالهم - حيث لم ينفقوها في سبيل الله - إلاّ الأغراضَ الدنيوية، ومن وجاهة عند الناس، وتقدّم، وأن يكون ماء وجوههم مصوناً عندهم، يتلقون بالجميل، ويحيون بالإكرام، ويبجلون ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم، لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذهب أهل الدثور بالأجور " وقيل : لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم. وقيل : معناه يكون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم ﴿ هذا مَا كَنَزْتُمْ ﴾ على إرادة القول. وقوله :﴿ لأَنفُسِكُمْ ﴾ أي كنزتموه لتنتفع به نفوسكم وتلتذ وتحصل لها الأغراض التي حامت حولها وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم وتتعذب وهو توبيخ لهم ﴿ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾. وقرئ :«تكنزون » بضم النون أي وبال المال الذي كنتم تكنزونه أو وبال كونكم كانزين.
﴿ فِى كتاب الله ﴾ فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصواباً. وقيل في اللوح :﴿ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ ثلاثة سرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، وواحد فرد وهو رجب. ومنه قوله عليه السلام في خطبته في حجة الوداع :«ألا إنَّ الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض » والسنة اثنا عشر شهراً : منها أربعة حرم، ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة، والمحرّم. ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. والمعنى : رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه، وعاد الحج في ذي الحجّة، وبطل النسىء الذي كان في الجاهلية، وقد وافقت حجّة الوداع ذا الحجّة، وكان حجّة أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة ﴿ ذلك الدين القيم ﴾ يعني أنّ تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم، دين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ويحرّمون القتال فيها، حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه، وسموا رجباً : الأصم ومنصل الأسنة، حتى أحدثت النسىء فغيروا ﴿ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ ﴾ في الحرم ﴿ أَنفُسَكُمْ ﴾ أي لا تجعلوا حرامها حلالاً. وعن عطاء : تالله ما يحلّ للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلاّ أن يقاتلوا، وما نسخت، وعن عطاء الخراساني رضي الله عنه : أحلّت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله. وقيل : معناه لا تأتموا فيهن، بياناً لعظم حرمتهن، كما عظم أشهر الحجّ بقوله تعالى :﴿ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ﴾ الآية [ البقرة : ١٩٧ ] وإن كان ذلك محرّماً في سائر الشهور ﴿ كَآفَّةً ﴾ حال من الفاعل أو المفعول ﴿ مَعَ المتقين ﴾ ناصر لهم، حثّهم على التقوى بضمان النصر لأهلها.
والنسيء : تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شقّ عليهم ترك المحاربة، فيحلّونه ويحرّمون مكانه شهر آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرّمون من شقّ شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله تعالى :﴿ لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله ﴾ أي ليوافقوا العدّة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين. وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت. ولذلك قال عزّ وعلا ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْرا ﴾ [ التوبة : ٣٦ ] يعني من غير زيادة زادوها. والضمير في : يحلونه، ويحرّمونه للنسيء. أي إذا أحلّوا شهراً من الأشهر الحرم عاماً، رجعوا فحرّموه في العام القابل، وروي : أنه حدث ذلك في كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعاً في الجاهلية، وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته : إنّ آلهتكم قد أحلّت لكم المحرم فأحلوه، ثم يقوم في القابل فيقول : إنّ آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه. جعل النسيء زيادة في الكفر، لأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفراً، ﴿ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٥ ]، كما أن المؤمن إذا أحدث الطاعة ازداد إيماناً ﴿ فَزَادَتْهُمْ إيمانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [ التوبة : ١٢٤ ]. وقرىء :«يُضِل » على البناء للمفعول، و «يَضَل » بفتح الياء والضاد، و ﴿ يُضَلُّ ﴾ على أن الفعل لله عزّ وجلّ. وقرأ الزهري :«ليوطئوا » بالتشديد. والنسيء مصدر نسأه إذا أخره. يقال نسأه ونسأ ونساء ونسيئاً، كقولك : مسه مساً ومساساً ومسيساً. وقرئ بهنّ جميعاً. وقرىء :«النَسَى » بوزن الندى. و «النِسي » بوزن النهي، وهما تخفيف النسىء والنسء. فإن قلت : ما معنى قوله :﴿ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله ﴾ ؟ قلت : معناه فيحلوا بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرّم الله من القتال، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها ﴿ زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم ﴾ خذلهم الله فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة ﴿ والله لاَ يَهْدِى ﴾ أي لا يلطف بهم بل يخذلهم. وقرئ :«زين لهم سوء أعمالهم » على البناء للفاعل، وهو الله عزّ وجلّ.
﴿ اثاقلتم ﴾ تثاقلتم. وبه قرأ الأعمش، أي تباطأتم وتقاعستم. وضمن معنى الميل والإخلاد فعدي بإلى. والمعنى : ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه، ونحوه :﴿ أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ ﴾ [ الأعراف : ١٧٦ ] وقيل : ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم. وقرىء :«أثاقلتم » ؟ على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ. فإن قلت : فما العامل في «إذا » وحرف الاستفهام مانعة أن يعمل فيه ؟ قلت : ما دلّ عليه قوله :﴿ اثاقلتم ﴾ أو ما في ﴿ مَالَكُمْ ﴾ من معنى الفعل، كأنه قيل : ما تصنعون إذا قيل لكم كما تعمله في الحال إذا قلت : مالك قائماً، وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف. استتفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو، فشقّ عليهم. وقيل : ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلاّ ورّى عنها بغيرها إلاّ في غزوة تبوك ليستعدّ الناس تمام العدة ﴿ مِنَ الاخرة ﴾ أي بدل الآخرة كقوله : لَجَعَلْنَا مِنكُمْ ملائكة [ الزخرف : ٦٠ ]. ﴿ فِى الآخرة ﴾ في جنب الآخرة.
﴿ إِلاَّ تَنفِرُواْ ﴾ سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع، وأنه غني عنهم في نصرة دينه، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً : وقيل : الضمير للرسول : أي ولا تضروه، لأنّ الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره، ووعد الله كائن لا محالة، وقيل : يريد بقوله :﴿ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾ [ التوبة : ٣٩ ] أهل اليمن. وقيل : أبناء فارس، والظاهر مستغن عن التخصيص.
فإن قلت : كيف يكون قوله :﴿ فَقَدْ نَصَرَهُ الله ﴾ جواباً للشرط ؟ قلت : فيه وجهان أحدهما : إلاّ تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلاّ رجل واحد ولا أقل من الواحد، فدلّ بقوله :﴿ فَقَدْ نَصَرَهُ الله ﴾ على أنه ينصره في المستقبل، كما نصره في ذلك الوقت. والثاني : أنه أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت، فلن يخذل من بعده. وأسند الإخراج إلى الكفار كما أسند إليهم في قوله :﴿ مّن قَرْيَتِكَ التى أَخْرَجَتْكَ ﴾ [ محمد : ١٣ ] لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج فكأنهم أخرجوه ﴿ ثَانِيَ اثنين ﴾ أحد اثنين، كقوله :﴿ ثالث ثلاثة ﴾ وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه. يروى :( أنّ جبريل عليه السلام لما أمره بالخروج قال : من يخرج معي ؟ قال : أبو بكر ) وانتصابه على الحال. وقرىء :«ثاني اثنين » بالسكون و ﴿ إِذْ هُمَا ﴾ بدل من إذ أخرجه. والغار : ثقب في أعلى ثور، وهو جبل في يمين مكة على مسيرة ساعة، مكثا فيه ثلاثاً ﴿ إِذْ يَقُولُ ﴾ بدل ثان.
وقيل : طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال : إن تصب اليوم ذهب دين الله، فقال عليه الصلاة والسلام : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " وقيل : لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت فنسجت عليه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللَّهم أعم أبصارهم " فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يفطنون. وقد أخذ الله بأبصارهم عنه. وقالوا : من أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه فقد كفر، لإنكاره كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة ﴿ سَكِينَتَهُ ﴾ ما ألقى في قلبه من الأمنة، التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه، والجنود الملائكة يوم بدر، والأحزاب وحنين. وكلمة الذين كفروا : دعوتهم إلى الكفر ﴿ وَكَلِمَةُ الله ﴾ دعوته إلى الإسلام. وقرئ :«كلمة الله » بالنصب، والرفع أوجه و ﴿ هِىَ ﴾ فصل أو مبتدأ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلوّ، وأنها المختصة به دون سائر الكلم.
﴿ خِفَافًا وَثِقَالاً ﴾ خفافاً في النفور لنشاطكم له، وثقالاً عنه لمشقته عليكم، أو خفافاً لقلة عيالكم وأذيالكم، وثقالاً لكثرتها. أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه. أو ركباناً ومشاة. أو شباباً وشيوخاً. أو مهازيل وسماناً. أو صحاحاً ومراضاً. وعن ابن أمّ مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعليّ أن أنفر ؟ قال : نعم، حتى نزل قوله :﴿ لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ ﴾ [ النور : ٦١ ]. وعن ابن عباس : نسخت بقوله :﴿ لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى ﴾ [ التوبة : ٩١ ] وعن صفوان بن عمرو : كنت والياً على حمص، فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو. فقلت : يا عمّ لقد أعذر الله إليك فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، إلا أنه من يحبه الله يبتله. وعن الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له : إنك عليل صاحب ضرر، فقال : استنفرنا الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكنّي الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع ﴿ وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ ﴾ إيجاب للجهاد بهما إن أمكن، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة.
العرض : ما عرض لك من منافع الدنيا. يقال : الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، أي لو كان ما دعوا إليه غنماً قريباً سهل المنال ﴿ وَسَفَرًا قَاصِدًا ﴾ وسطاً مقارباً ﴿ الشقة ﴾ المسافة الشاقّة. وقرأ عيسى بن عمر :«بعدت عليهم الشقة » بكسر العين والشين ومنه قوله :
يَقُولُونَ لاَ تَبْعُدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَه وَلاَ بُعْدَ إلاَّ مَا تُوَارِي الصَّفَائِحُ
﴿ بالله ﴾ متعلق بسيحلفون، أو هو من جملة كلامهم. والقول مراد في الوجهين، أي سيحلفون بعني المتخلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله ﴿ لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ﴾ أو سيحلفون بالله ويقولون : لو استطعنا، وقوله :﴿ لَخَرَجْنَا ﴾ سدّ مسدّ جوابي القسم ولو جميعاً، والإخبار بما سوف يكون بعد القفول من حلفهم واعتذارهم. وقد كان من جملة المعجزات. ومعنى الاستطاعة : استطاعة العدّة، أو استطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا. وقرئ :«لو استطعنا »، بضم الواو تشبيهاً لها بواو الجمع في قوله :﴿ فَتَمَنَّوُاْ الموت ﴾ [ البقرة : ٩٤ ]. ﴿ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ ﴾ إما أن يكون بدلاً من سيحلفون، أو حالاً بمعنى مهلكين. والمعنى : أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب وما يحلفون عليه من التخلف. ويحتمل أن يكون حالاً من قوله :﴿ لَخَرَجْنَا ﴾ أي لخرجنا معكم، وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها من المسير في تلك الشقة. وجاء به على لفظ الغائب، لأنه مخبر عنهم. ألا ترى أنه لو قيل : سيحلفون بالله لو استطاعوا لخرجوا، لكان سديداً، يقال : حلف بالله ليفعلنّ ولأفعلنّ، فالغيبة على حكم الإخبار، والتكلم على الحكاية.
﴿ عَفَا الله عَنكَ ﴾ كناية عن الجناية، لأن العفو رادف لها. ومعناه : أخطأت وبئس ما فعلت. و ﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ بيان لما كنى عنه بالعفو. ومعناه : مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلوا لك بعللهم وهلاّ استأنيت بالإذن ﴿ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ ﴾ من صدق في عذره ممن كذب فيه. وقيل : شيئان فعلهما رسول الله ولم يؤمر بهما : إذنه للمنافقين وأخذه من الأسارى فعاتبه الله تعالى.
﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ﴾ ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، وكان الخلص من المهاجرين والأنصار يقولون : لا نستأذن النبي أبداً، ولنجاهدنّ أبداً معه بأموالنا وأنفسنا. ومعنى ﴿ أَن يجاهدوا ﴾ في أن يجاهدوا أو كراهة أن يجاهدوا ﴿ والله عَلِيمٌ بالمتقين ﴾ شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين، وعدة لهم بأجزل الثواب.
﴿ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ﴾ يعني المنافقين، وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً ﴿ يَتَرَدَّدُونَ ﴾ عبارة عن التحير، لأنّ التردد ديدن المتحير، كما أن الثبات والاستقرار ديدن المستبصر. وقرىء :«عدة »، بمعنى عدّته فعل بالعدّة ما فعل بالعدة من قال :
وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا ***
من حذف تاء التأنيث، وتعويض المضاف إليه منها.
وقرئ :«عِدة » بكسر العين بغير إضافة، و «عدة » بإضافة. فإن قلت : كيف موقع حرف الاستدراك ؟ قلت : لما كان قوله :﴿ وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج ﴾ معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل :﴿ ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم ﴾ كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول : ما أحسن إليَّ زيد، ولكن أساء إليّ ﴿ فَثَبَّطَهُمْ ﴾ فكسلهم وخذلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث ﴿ وَقِيلَ اقعدوا ﴾ جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود. وقيل : هو قول الشيطان بالوسوسة. وقيل : هو قولهم لأنفسهم. وقيل : هو إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في القعود. فإن قلت : كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة، وتعالى الله عن إلهام القبيح ؟ قلت : خروجهم كان مفسدة، لقوله :﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾.
﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾ فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسناً ومصلحة. فإن قلت : فلم خطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأذن لهم فيما هو مصلحة ؟ قلت : لأنّ إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم لم يكن للنظر في هذه المصلحة ولا علمها إلا بعد القفول بإعلام الله تعالى، ولكن لأنهم استأذنوه في ذلك واعتذروا إليه، فكان عليه أن يتفحص عن كنه معاذيرهم ولا يتجوّز في قبولها، فمن ثم أتاه العتاب ويجوز أن يكون في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن لهم مع تثبيط الله إياهم مصلحة أخرى، فبإذنه لهم فقدت تلك المصلحة، وذلك أنهم إذا ثبطهم الله فلم ينبعثوا وكان قعودهم بغير إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت عليهم الحجّة ولم تبق لهم معذرة. ولقد تدارك الله ذلك حيث هتك أستارهم وكشف أسرارهم وشهد عليهم بالنفاق، وأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. فإن قلت : ما معنى قوله :﴿ مَعَ القاعدين ﴾ ؟ قلت : هو ذمّ لهم وتعجيز، وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون والخالفون والخوالف، ويبينه قوله تعالى :﴿ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف ﴾ [ التوبة : ٨٧، ٩٣ ]. ﴿ إِلاَّ خَبَالاً ﴾ ليس من الاستثناء المنقطع في شيء كما يقولون لأنَّ الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كقولك : ما زادوكم خيراً إلاّ خبالا، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعمّ العام الذي هو الشيء، فكان استثناء متصلاً ؛ لأنّ الخبال بعض أعمّ العام كأن قيل ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً والخبال الفساد والشر ﴿ ولأَوْضَعُواْ خلالكم ﴾ ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين.
يقال : وضع البعير وضعاً إذا أسرع وأوضعته أنا، والمعنى : ولأوضع ركائبهم بينكم، والمراد الإسراع بالنمائم ؛ لأنّ الراكب أسرع من الماشي. وقرأ ابن الزبير رضي الله عنه :«ولأرقصوا » من رقصت الناقة رقصاً إذا أسرعت وأرقصتها قال :
وَالرَّاقِصَاتِ إلَى مِنى فَالْغَبْغَبِ ***
وقرئ :«ولأوفضوا » فإن قلت : كيف خطّ في المصحف : ولا أوضعوا، بزيادة ألف ؟ قلت : كانت الفتحة تكتب إلفاً قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن، وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً، وفتحتها ألفاً أخرى، ونحو : أو لا أذبحنه.
﴿ يَبْغُونَكُمُ الفتنة ﴾ يحاولون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم ﴿ وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ ﴾ أي نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم. أو فيكم قوم يسمعون للمنافقين ويطيعونهم ﴿ وَلَقَدْ ابتغوا الفتنة ﴾ أي العنت ونصب الغوائل والسعي في تشتيت شملك وتفريق أصحابك عنك، كما فعل عبد الله بن أبيّ يوم أحد حين انصرف بمن معه وعن ابن جريج رضي الله عنه : وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلة العقبة وهم اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ من قبل غزوة تبوك ﴿ وَقَلَّبُواْ لَكَ الامور ﴾ ودبروا لك الحيل والمكايد، ودوَّروا الآراء في إبطال أمرك. وقرئ ؛ «وقلبوا » بالتخفيف ﴿ حتى جَاء الحق ﴾ وهو تأييدك ونصرك ﴿ وَظَهَرَ أَمْرُ الله ﴾ وغلب دينه وعلا شرعه.
﴿ ائذن لّي ﴾ في القعود ﴿ وَلاَ تَفْتِنّى ﴾ ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم، بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت. وقيل : ولا تلقني في الهلكة، فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي. وقيل : قال الجدّ بن قيس : قد علمت الأنصار أني مستهتر بالنساء فلا تفتنّي ببنات الأصفر يعني نساء الروم، ولكني أعينك بمال فاتركني. وقرىء :«ولا تفتني » من أفتنه ﴿ أَلا فِى الفتنة سَقَطُواْ ﴾ أي إنّ الفتنة هي التي سقطوا فيها، وهي فتنة التخلف. وفي مصحف أبيّ رضي الله عنه : سقط ؛ لأنّ «من » موحد اللفظ مجموع المعنى ﴿ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين ﴾ يعني أنها تحيط بهم يوم القيامة. أو هي محيطة بهم الآن ؛ لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها.
﴿ إِن تُصِبْكَ ﴾ في بعض الغزوات ﴿ حَسَنَةٌ ﴾ ظفر وغنيمة ﴿ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ ﴾ نكبة وشدّة في بعضها نحو ما جرى في يوم أحد يفرحوا بحالهم في الإنحراف عنك، و ﴿ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا ﴾ أي أمرنا الذي نحن متسمون به، من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ من قبل ما وقع. وتولوا عن مقام التحدّث بذلك والاجتماع له إلى أهاليهم ﴿ وَّهُمْ فَرِحُونَ ﴾ مسرورون. وقيل : تولوا : أعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قرأ ابن مسعود رضي الله عنه :«قل هل يصيبنا ». وقرأ طلحة رضي الله عنه :«هل يصيّبنا »، بتشديد الياء. ووجهه أن يكون «يفعيل » لا «يفعل » لأنه من بنات الواو، كقولهم : الصواب، وصاب السهم يصوب، ومصاوب في جمع مصيبة، فحقّ «يفعل » منه «يصوّب » ألا ترى إلى قولهم : صوّب رأيه، إلاّ أن يكون من لغة من يقول : صاب السهم يصيب. ومن قوله : أسهمي الصائبات والصيب، واللام في قوله :﴿ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا ﴾ مفيدة معنى الاختصاص كأنه قيل : لن يصيبنا إلاّ ما اختصنا الله [ به ] بإثباته وإيجابه من النصرة عليكم أو الشهادة. ألا ترى إلى قوله :﴿ هُوَ مولانا ﴾ أي الذي يتولانا ونتولاه، ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم ﴿ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ﴾ وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله، فليفعلوا ما هو حقهم.
﴿ إِلا إِحْدَى الحسنيين ﴾ إلاّ إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسن العواقب، وهما النصرة والشهادة ﴿ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ ﴾ إحدى السوأتين من العواقب، إمّا ﴿ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ ﴾ وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود ﴿ أَوْ ﴾ بعذاب ﴿ بِأَيْدِينَا ﴾ وهو القتل على الكفر ﴿ فَتَرَبَّصُواْ ﴾ بنا ما ذكرنا من عواقبنا ﴿ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ ﴾ ما هو عاقبتكم، فلا بدّ أن يلقى كلنا ما يتربصه لا يتجاوزه.
﴿ أَنفَقُواْ ﴾ يعني في سبيل الله ووجوه البر ﴿ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾ نصب على الحال، أي طائعين أو مكرهين. فإن قلت : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال :﴿ لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ ﴾ ؟ قلت : هو أمر في معنى الخبر، كقوله تبارك وتعالى :﴿ قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً ﴾ [ مريم : ٧٥ ] ومعناه : لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً. ونحوه قوله تعالى :﴿ استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٨٠ ] وقوله :
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لاَ مَلُومَةً ***
أي لن يغفر الله لهم، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، ولا نلومك - أسأت إلينا أم أحسنت. فإن قلت : متى يجوز نحو هذا ؟ قلت : إذا دلّ الكلام عليه كما جاز عكسه في قولك : رحم الله زيداً وغفر له، فإن قلت : لم فعل ذلك ؟ قلت : لنكتة فيه، وهي أنّ كثيراً كأنه يقول لعزة : امتحني لطف محلك عندي وقوّة محبتي لك، وعامليني بالإساءة. والإحسان، وانظري هل يتفاوت حالي معك مسيئة كنت أو محسنة ؟ وفي معناه قول القائل :
أَخُوكَ الَّذِي إنْ قُمْتَ بِالسَّيْفِ عَامِدا لِتَضْرِبَهُ لَمْ يَسْتَفِثَّكَ فِي الْوُدِّ
وكذلك المعنى : أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم ؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم، وانظر هل ترى اختلافاً بين حال الاستغفار وتركه ؟ فإن قلت : ما الغرض في نفي التقبل ؟ أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله منهم وردّه عليهم ما يبذلون منه ؟ أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى ذاهباً هباء لا ثواب له ؟ قلت : يحتمل الأمرين جميعاً. وقوله :﴿ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾ معناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله، أو ملزمين. وسمي الإلزام إكراهاً، لأنهم منافقون، فكان إلزامهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه. أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم، لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه، أو مكرهين من جهتهم. وروي : أنها نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا مالي أعينك به فاتركني ﴿ إِنَّكُمْ ﴾ تعليل لردّ إنفاقهم. والمراد بالفسق : التمرّد والعتو.
﴿ أَنَّهُمْ ﴾ فاعل منع. وهم، وأن تقبل مفعولاه. وقرئ :«أن تقبل »، بالتاء والياء على البناء للمعفول. ونفقاتهم، ونفقتهم، على الجمع والتوحيد. وقرأ السلمي :«أن يَقْبل منهم نفقاتهم » على أن الفعل لله عزّ وجلّ ﴿ كسالى ﴾ بالضم والفتح، جمع كسلان، نحو سكارى وغيارى، في جمع سكران وغيران، وكسلهم لأنهم لا يرجون بصلاتهم ثواباً، ولا يخشون بتركها عقاباً فهي ثقيلة عليهم كقوله تعالى :﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين ﴾ [ البقرة : ٤٥ ] وقرأت في بعض الأخبار : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كره للمؤمن أن يقول : كسلت، كأنه ذهب إلى هذه الآية، فإنّ الكسل من صفات المنافقين، فما ينبغي أن يسنده المؤمن إلى نفسه. فإن قلت : الكراهية خلاف الطواعية وقد جعلهم الله تعالى طائعين في قوله ﴿ طَوْعاً ﴾ ثم وصفهم بأنهم لا ينفقون إلاّ وهم كارهون. قلت : المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من رؤسائهم، وما طوعهم ذاك إلاّ عن كراهية واضطرار، لا عن رغبة واختيار.
الإعجاب بالشيء : أن يسرّ به سرور راض به متعجب من حسنه. والمعنى : فلا تستحسن ولا تفتنن بما أوتوا من زينة الدنيا، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ﴾ [ طه : ١٣١ ] فإن الله تعالى إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب، بأن عرضه للتغنم والسبي، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير، وهم كارهون له على رغم أنوفهم، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم. فإن قلت : إن صحّ تعليق التعذيب بإرادة الله تعالى، فما بال زهوق أنفسهم ﴿ وَهُمْ كافرون ﴾ ؟ قلت : المراد الاستدراج بالنعم، كقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ﴾ [ آل عمران : ١٧٨ ] كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة.
﴿ لَمِنكُمْ ﴾ لمن جملة المسلمين ﴿ يَفْرَقُونَ ﴾ يخافون القتل وما يفعل بالمشركين، فيتظاهرون بالإسلام تقية.
﴿ مَلْجَئاً ﴾ مكاناً يلتجئون إليه متحصنين به من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة ﴿ أَوْ مغارات ﴾ أو غيراناً. وقرىء بضم الميم، من أغار الرجل وغار إذا دخل الغور. وقيل : هو تعدية غار الشيء وأغرته أنا، يعني : أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم. ويجوز أن يكون من : أغار الثعلب، إذا أسرع، بمعنى مهارب ومفارّ ﴿ أَوْ مُدَّخَلاً ﴾ أو نفقاً يندسون فيه وينجحرون، وهو مفتعل من الدخول. وقرىء مدخلاً من دخل ومدخلاً من أدخل : مكاناً يدخلون فيه أنفسهم. وقرأ أبيّ بن كعب رضي الله عنه : متدخلاً وقرىء : لو ألوا إليه لالتجؤا إليه ﴿ يَجْمَحُونَ ﴾ يسرعون إسراعاً لا يردّهم شيء ؛ من الفرس الجموح، وهو الذي إذا حمل لم يردّه اللجام. وقرأ أنس رضي الله عنه : يجمزون. فسئل فقال : يجمحون ويجمزون ويشتدّون واحد.
﴿ يَلْمِزُكَ ﴾ يعيبك في قسمه الصدقات ويطعن عليك. قيل : هم المؤلفة قلوبهم. وقيل : هو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فقال : اعدل يا رسول الله، فقال صلوات الله عليه وسلامه " ويلك إن لم أعدل فمن يعدل ؟ " وقيل : هو أبو الجواظ، من المنافقين، قال : ألا ترون إلى صاحبكما إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم، وهو يزعم أنه يعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا أبالك أما كان موسى راعياً أما كان داود راعياً » فلما ذهب قال عليه الصلاة والسلام «احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون ». وقرئ : يلمزك بالضم، ويلمزك ويلامزك. التثقيل والبناء على المفاعلة مبالغة في اللمز. ثم وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم، لا للدين وما فيه صلاح أهله، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه. وإذا للمفاجأة : أي وإن لم يعطوا منها فاجؤا للسخط.
جواب «لو » محذوف تقديره : لو أنهم رضوا لكان خيراً لهم. والمعنى : ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قلّ نصيبهم وقالوا : كفانا فضل الله وصنعه، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا الله غنيمة أخرى فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما أتانا اليوم ﴿ إِنَّا إِلَى الله ﴾ في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون.
﴿ إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء ﴾ قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة وأنها مختصة بها، لا تتجاوزها إلى غيرها، كأنه قيل : إنما هي لهم لا لغيرهم. ونحوه قولك : إنما الخلافة لقريش، تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها وأن تصرف إلى بعضها، وعليه مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه. وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أنهم قالوا : في أي صنف منها وضعتها أجزاك. وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحبّ إليّ. وعند الشافعيّ رضي الله عنه، لا بدّ من صرفها إلى الأصناف الثمانية وعن عكرمة رضي الله عنه أنها تفرق في الأصناف الثمانية. وعن الزهري أنه كتب لعمر بن عبد العزيز تفريق الصدقات على الأصناف الثمانية ﴿ والعاملين عَلَيْهَا ﴾ السعاة الذين يقبضونها ﴿ والمؤلفة قُلُوبُهُمْ ﴾ أشراف من العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم على أن يسلموا فيرضخ لهم شيئاً منها حين كان في المسلمين قلة. والرقاب : المكاتبون يعانون منها. وقيل : الأسارى. وقيل : تبتاع الرقاب فتعتق ﴿ والغارمين ﴾ الذين ركبتهم الديون ولا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب. وقيل : الذين تحملوا الحمالات فتداينوا فيها وغرموا ﴿ وَفِى سَبِيلِ الله ﴾ فقراء الغزاة والحجيج المنقطع بهم ﴿ وابن السبيل ﴾ المسافر المنقطع عن ماله فهو فقير حيث هو غنيّ حيث ماله ﴿ فَرِيضَةً مّنَ الله ﴾ في معنى المصدر المؤكد، لأن قوله إنما الصدقات للفقراء معناه فرض الله الصدقات لهم. وقرئ :«فريضة » بالرفع على : تلك فريضة. فإن قلت : لم عدل عن اللام إلى «في » في الأربعة الأخيرة ؟ قلت : للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأن «في » للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصباً، وذلك لما في فكّ الرقاب من الكتابة أو الرقّ أو الأسر، وفي فكّ الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال، وتكرير «في » في قوله :﴿ وَفِى سَبِيلِ الله وابن السبيل ﴾ فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين. فإن قلت : فكيف وقعت هذه الآية في تضاعف ذكر المنافقين ومكايدهم ؟ قلت : دلّ بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم، حسماً لأطماعهم وإشعاراً باستيجابهم الحرمان، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم وما لها ؟ وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه ؟.
الأذن : الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع، كأن جملته أذنٌ سامعة، ونظيره قولهم للربيئة. عين. وإيذاؤهم له : هو قولهم فيه ﴿ هُوَ أُذُنٌ ﴾. وأذن خير، كقولك : رجل صدق، تريد الجودة والصلاح، كأنه قيل : نعم هو أذن، ولكن نعم الأذن. ويجوز أن يريد : هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك ودلّ عليه قراءة حمزة «ورحمةٍ » بالجرّ عطفاً عليه أي : هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله. ثم فسر كونه أذن خير بأنه يصدق بالله، لما قام عنده من الأدلة ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار، وهو رحمة لمن آمن منكم، أي أظهر الإيمان أيها المنافقون حيث يسمع منكم ويقبل إيمانكم الظاهر، ولا يكشف أسراركم ولا يفضحكم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم، فهو أذن كما قلتم، إلاّ أنه أذن خير لكم لا أذن سوء فسلم لهم قولهم فيه، إلا أنه فسر بما هو مدح له وثناء عليه، وإن كانوا قصدوا به المذمّة والتقصير بفطنته وشهامته، وأنه من أهل سلامة القلوب والغرّة. وقيل : إنّ جماعة منهم ذمّوه صلوات الله عليه وسلامه وبلغه ذلك، فاشتغلت قلوبهم فقال بعضهم : لا عليكم فإنما هو أذن سامعة قد سمع كلام المبلغ فأذن، ونحن نأتيه ونعتذر إليه فيسمع عذرنا أيضاً فيرضى، فقيل : هو أذن خير لكم. وقرىء :«أذن خير لكم »، على أن أذن خبر مبتدإ محذوف ؛ وخير كذلك، أي هو أذن هو خير لكم يعني إن كان كما تقولون فهو خير لكم، لأنه يقبل معاذيركم ولا يكافئكم على سوء دخلتكم. وقرأ نافع بتخفيف الذال. فإن قلت : لم عدّي فعل الإيمان بالباء إلى الله تعالى، وإلى المؤمنين باللام ؟ قلت : لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به، فعدّي بالباء وقصد السماع من المؤمنين، وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدّقه، لكونهم صادقين عنده، فعدّي باللام، ألا ترى إلى قوله :﴿ وَما أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صادقين ﴾ [ يوسف : ١٧ ] ما أنبأه عن الباء. ونحوه :﴿ فما آمن لموسى إلاّ ذرية من قومه ﴾ [ يونس : ٨٣ ]، ﴿ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون ﴾ [ الشعراء : ١١١ ]، ﴿ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ ﴾ [ طه : ٧١ ] فإن قلت : ما وجه قراءة ابن أبي عبلة : ورحمة بالنصب ؟ قلت : هي علة معللها محذوف تقديره : ورحمة لكم يأذن لكم، فحذف لأنّ قوله :﴿ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ ﴾ يدلّ عليه.
﴿ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ﴾ الخطاب للمسلمين وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن أو يتخلفون عن الجهاد، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم، فقيل لهم : إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق. وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانا في حكم مرضيّ واحد، كقولك : إحسان زيد وإجماله نعشني وجبر مني. أو والله أحقّ أن يرضوه، ورسوله كذلك.
المحادة مفاعلة من الحدّ كالمشاقة من الشقّ ﴿ فَأَنَّ لَهُ ﴾ على حذف الخبر، أي : فحق أن له ﴿ نَارِ جَهَنَّمَ ﴾ وقيل : معناه فله، وأنّ : تكرير ؛ لأن في قوله :﴿ أَنَّهُ ﴾ تأكيداً، ويجوز أن يكون ﴿ فأَنَّ لَهُ ﴾ معطوفاً على أنه، على أن جواب ﴿ مَن ﴾ محذوف تقديره : ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم. وقرئ :«ألم تعلموا » بالتاء.
كانوا يستهزئون بالإسلام وأهله وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم ؛ حتى قال بعضهم : والله لا أرانا إلاّ شرّ خلق الله، لوددت أني قدمت فجلدت مائة جلدة ؛ وأن لا ينزل فينا شيء يفضحنا. والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين. وفي قلوبهم : للمنافقين. وصحّ ذلك لأن المعنى يقود إليه. ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين ؛ لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم. ومعنى تنبئهم بما في قلوبهم كأنها تقول لهم : في قلوبكم كيت وكيت، يعني أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة فكأنها تخبرهم بها. وقيل : معنى يحذر : الأمر بالحذر، أي ليحذر المنافقون. فإن قلت : الحذر واقع على إنزال السورة في قوله :﴿ يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ﴾ فما معنى قوله :﴿ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴾ ؟ قلت : معناه محصل مبرز إنزال السورة. أو أنّ الله مظهر ما كنتم تحذرونه، أي تحذرون إظهاره من نفاقكم.
بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونه، هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه عليه السلام على ذلك فقال : احبسوا عليّ الركب، فأتاهم فقال : قلتم كذا وكذا، فقالوا : يا نبي الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك، ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر ﴿ أبالله وءاياته وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تستهزئون ﴾ لم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم، وبأنه موجود منهم، حتى وبخوا بأخطائهم موقع الاستهزاء، حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير، وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته.
﴿ لاَ تَعْتَذِرُواْ ﴾ لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة، فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم ﴿ قَدْ كَفَرْتُمْ ﴾ قد ظهر كفركم باستهزائكم ﴿ بَعْدَ إيمانكم ﴾ بعد إظهاركم الإيمان ﴿ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ ﴾ بإحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق ﴿ نُعَذّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ مصرين على النفاق غير تائبين منه. أو أن نعف عن طائفة منكم لم يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستهزئوا فلم نعذبهم في العاجل نعذب في العاجل طائفة بأنهم كانوا مجرمين مؤذين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مستهزئين. وقرأ مجاهد : إن تعف عن طائفة على البناء للمفعول مع التأنيث، والوجه التذكير : لأنّ المسند إليه الظرف، كما تقول : سير بالدابة. ولا تقول : سيرت بالدابة، ولكنه ذهب إلى المعنى، كأنه قيل : إن ترحم طائفة، فأنث لذلك وهو غريب، والجيد قراءة العامّة : إن يعف عن طائفة، بالتذكير. وتعذب طائفة، بالتأنيث. وقرئ : إن يعف عن طائفة يعذب طائفة، على البناء للفاعل وهو الله عزّ وجلّ.
﴿ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ ﴾ أريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيبهم في قولهم :﴿ وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ ﴾ [ التوبة : ٥٦ ] وتقرير قوله :﴿ وَمَا هُم مّنكُمْ ﴾ [ التوبة : ٥٦ ] ثم وصفهم بما يدلّ على مضادة حالهم لحال المؤمنين ﴿ يَأْمُرُونَ بالمنكر ﴾ بالكفر والمعاصي ﴿ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف ﴾ عن الإيمان والطاعات ﴿ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ﴾ شحا بالمبارّ والصدقات والإنفاق في سبيل الله ﴿ نَسُواْ الله ﴾ أغفلوا ذكره ﴿ فَنَسِيَهُمْ ﴾ فتركهم من رحمته وفضله ﴿ هُمُ الفاسقون ﴾ هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرّد في الكفر والانسلاخ عن كل خير، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول كسلت، لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله :﴿ كسالى ﴾ [ النساء : ١٤٢ ] فما ظنك بالفسق.
﴿ خالدين فِيهَا ﴾ مقدّرين الخلود ﴿ هِىَ حَسْبُهُمْ ﴾ دلالة على عظم عذابها، وأنه لا شيء أبلغ منه، وأنه بحيث لا يزاد عليه، نعوذ بالله من سخطه وعذابه ﴿ وَلَعَنَهُمُ الله ﴾ وأهانهم من التعذيب، وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين، كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المكرمين ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ ولهم نوع من العذاب سوى الصلي بالنار، مقيم دائم كعذاب النار. ويجوز أن يريد : ولهم عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون عنه، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق، والظاهر المخالف للباطن، خوفاً من المسلمين وما يحذرونه أبداً من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم.
الكاف محلها رفع على : أنتم مثل الذين من قبلكم. أو نصب على : فعلتم ما فعل الذين من قبلكم وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا. ونحوه قول النمر :
كَالْيَوْمِ مَطْلُوباً وَلاَ طَلَبَا ***
بإضمار «لم أر » وقوله :﴿ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً ﴾ تفسير لتشبيههم بهم، وتمثيل فعلهم بفعلهم. والخلاق : النصيب وهو ما خلق للإنسان، أي قدّر من خير، كما قيل له «قسم » لأنه قسم. ونصيب، لأنه نصب، أي أثبت. والخوض : الدخول في الباطل واللهو ﴿ كالذي خَاضُواْ ﴾ كالفوج الذي خاضوا، وكالخوض الذي خاضوه. فإن قلت : أي فائدة في قوله :﴿ فاستمتعوا بخلاقهم ﴾ وقوله :﴿ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بخلاقهم ﴾ مغن عنه كما أغنى قوله :﴿ كالذي خَاضُواْ ﴾ عن أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا ؟ قلت : فائدته أن يذمّ الأوّلين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الرضى به، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول : أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل فعله. وأما ﴿ وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ ﴾ فمعطوف على ما قبله مستند إلى مستغن باستناده إليه عن تلك التقدمة ﴿ حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والآخرة ﴾ نقيض قوله :﴿ وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ [ العنكبوت : ٢٧ ].
﴿ وأصحاب مَدْيَنَ ﴾ وأهل مدين وهم قوم شعيب ﴿ والمؤتفكات ﴾ مدائن قوم لوط. وقيل : قريات قوم لوط وهود وصالح. وائتفاكهنّ : انقلاب أحوالهنّ عن الخير إلى الشر ﴿ فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ﴾ فما صحّ منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح وأن يعاقبهم بغير جرم، ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقوا عقابه.
﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾ في مقابلة قوله في المنافقين :﴿ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ ﴾. ﴿ سَيَرْحَمُهُمُ الله ﴾ السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد، كما تؤكد الوعيد في قولك : سأنتقم منك يوماً، تعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك، ونحوه ﴿ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً ﴾ [ مريم : ٩٦ ]، ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى ﴾ [ الضحى : ٥ ]، ﴿ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾ [ النساء : ١٥٢ ]. ﴿ عَزِيزٌ ﴾ غالب على كل شيء قادر عليه، فهو يقدر على الثواب والعقاب ﴿ حَكِيمٌ ﴾ واضع كلا موضعه على حسب الاستحقاق.
﴿ ومساكن طَيّبَةً ﴾ عن الحسن : قصوراً من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد. و ﴿ عَدْنٍ ﴾ علم، بدليل قوله :﴿ جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن ﴾ [ مريم : ٦١ ] ويدلّ عليه ما روى أبو الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :«عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة : النبيون، والصدّيقون، والشهداء. يقول الله تعالى طوبى لمن دخلك » وقيل : هي مدينة في الجنة. وقيل : نهر جناته على حافاته ﴿ ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ ﴾ وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله، لأنّ رضاه هو سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم، وإنما تتهنأ له برضاه، كما إذا علم بسخطته تنغصت عليه، ولم يجد لها لذة وإن عظمت. وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة والنفس المرّة من مشايخنا يقول : لا تطمح عيني ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة، كما تطمح وتنازع إلى رضاه عني، وأن أحشر في زمرة المهديين المرضيين عنده ﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما وعد الله، أو إلى الرضوان : أي هو ﴿ الفوز العظيم ﴾ وحده دون ما يعدّه الناس فوزاً. وروى : " أنّ الله عزّ وجلّ يقول لأهل الجنة هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ قالوا : وأي شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً ".
﴿ جاهد الكفار ﴾ بالسيف ﴿ والمنافقين ﴾ بالحجّة ﴿ واغلظ عَلَيْهِمْ ﴾ في الجهادين جميعاً، ولا تحابهم وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه، يجاهد بالحجة، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها، وعن ابن مسعود : إن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه فإن لم يستطع فبقلبه. يريد الكراهة والبغضاء والتبرأ منه. وقد حمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها.
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه منهم، منهم الجلاس بن سويد. فقال الجُلاَس : والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا وأشرافنا، فنحن شرّ من الحمير. فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس : أجل، والله إنّ محمداً لصادق وأنت شرّ من الحمار. وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحضر فحلف بالله ما قال، فرفع عامر يده فقال : اللَّهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق فنزلت ﴿ يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ ﴾ فقال الجلاس : يا رسول الله، لقد عرض الله عليّ التوبة. والله لقد قلته وصدق عامر، فتاب الجلاس وحسنت توبته ﴿ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم ﴾ وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام ﴿ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ ﴾ وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند مرجعه من تبوك : تواثق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون، فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا. وقيل : همّ المنافقون بقتل عامر لردّه على الجلاس. وقيل : أرادوا أن يتوّجوا عبد الله بن أبيّ وإن لم يرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ﴿ وَمَا نَقَمُواْ ﴾ وما أنكروا وما عابوا ﴿ إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله ﴾ وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى ﴿ فَإِن يَتُوبُواْ ﴾ هي الآية التي تاب عندها الجلاس ﴿ فِى الدنيا والآخرة ﴾ بالقتل والنار.
روي : أنّ ثعلبة بن حاطب قال : يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالاً، فقال صلى الله عليه وسلم :«يا ثعلبة، قليل تؤدّي شكره وخير من كثير لا تطيقه » فراجعه وقال : والذي بعثك بالحقّ لئن رزقني الله مالاً لأعطينّ كل ذي حقّ حقّه، فدعا له، فاتخذ غنماً فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة، فنزل وادياً وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : كثر ماله حتى لا يسعه واد. قال :«يا ويح ثعلبة »، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقين لأخذ الصدقات، فاستقبلهما الناس بصدقاتهم، ومرّا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الفرائض، فقال : ما هذه إلاّ جزية، ما هذه إلاّ أخت الجزية، وقال : ارجعا حتى أرى رأيي، فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه :«يا ويح ثعلبة » مرّتين، فنزلت، فجاءه ثعلبة بالصدقة، فقال :«إنّ الله منعني أن أقبل منك، فجعل التراب على رأسه فقال : هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها، وجاء إلى عمر رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها، وهلك في زمان عثمان رضي الله عنه. وقرئ :«لنصدّقن ولنكوننْ » بالنون الخفيفة فيهما ﴿ مّنَ الصالحين ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنه : يريد الحجّ.
﴿ فَأَعْقَبَهُمْ ﴾ عن الحسن وقتادة رضي الله عنهما : أن الضمير للبخل. يعني : فأورثهم البخل ﴿ نِفَاقاً ﴾ متمكناً ﴿ فِى قُلُوبِهِمْ ﴾ لأنه كان سبباً فيه وداعياً إليه. والظاهر أن الضمير لله عزّ وجلّ. والمعنى : فخذلهم حتى نافقوا وتمكن في قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدّق والصلاح وكونهم كاذبين. ومنه : جعل خلف الوعد ثلث النفاق. وقرئ :«يكذبون »، بالتشديد، وألم تعلموا، بالتاء. عن عليّ رضي الله عنه.
﴿ سِرَّهُمْ ونجواهم ﴾ ما أسرّوه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها.
﴿ الذين يَلْمِزُونَ ﴾ محله النصب أو الرفع على الذمّ. ويجوز أن يكون في محل الجرّ بدلاً من الضمير في سرهم ونجواهم. وقرىء :«يلمزون »، بالضم ﴿ المطوعين ﴾ المتطوّعين المتبرعين. روي : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حثّ على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب. وقيل : بأربعة آلاف درهم وقال : كان لي ثمانية آلاف، فأقرضت ربي أربعة وأمسكت أربعة لعيالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت " - فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً - وتصدّق عاصم بن عديّ بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري رضي الله عنه بصاع من تمر فقال : بتّ ليلتي أجرّ بالجرير على صاعين، فتركت صاعاً لعيالي، وجئت بصاع فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصدقات، فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاّ رياء، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل، ولكنه أحبّ أن يذكر بنفسه ليعطي من الصدقات، فنزلت ﴿ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ﴾ إلاّ طاقتهم. قرئ بالفتح والضم ﴿ سَخِرَ الله مِنْهُمْ ﴾ كقوله :﴿ الله يستهزئ بِهِمْ ﴾ [ البقرة : ١٥ ] في أنه دعاء. ألا ترى إلى قوله :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
سأل عبد الله بن عبد الله بن أبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رجلاً صالحاً أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل، فنزلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله قد رخص لي فسأزيد على السبعين " فنزلت :﴿ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ [ المنافقون : ٦ ] وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر، كأنه قيل : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، وإن فيه معنى الشرط، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر، والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير، قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام :
لأصْبَحَنَّ الْعَاصِ وَابْنَ الْعَاصِي سَبْعِينَ أَلْفاً عَاقِدِي النَّوَاصِي
فإن قلت : كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار، كيف وقد تلاه بقوله :﴿ ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ ﴾... الآية فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال :«قد رخص لي ربي فسأزيد على السبعين » قلت : لم يخف عليه ذلك، ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه، كقول إبراهيم عليه السلام ﴿ وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ] وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة : لطف لأمّته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض.
﴿ المخلفون ﴾ الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين فأذن لهم وخلفهم في المدينة في غزوة تبوك، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان ﴿ بِمَقْعَدِهِمْ ﴾ بقعودهم عن الغزو ﴿ خلاف رَسُولِ الله ﴾ خلفه. يقال : أقام خلاف الحي. بمعنى بعدهم ظعنوا ولم يظعن معهم، وتشهد له قراءة أبي حيوة : خلف رسول الله. وقيل : هو بمعنى المخالفة لأنهم خالفوه حيث قعدوا ونهض، وانتصابه على أنه مفعول له أو حال، أي قعدوا لمخالفته أو مخالفين له ﴿ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ ﴾ تعريض بالمؤمنين وبتحملهم المشاقّ العظام لوجه لله تعالى وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض. وكره ذلك المنافقون. وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان ﴿ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا ﴾ استجهال لهم، لأنّ من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصوُّن في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل : ولبعضهم :
مَسَرَّةُ أَحْقَابٍ تَلَقَّيْتُ بَعْدَهَا مَسَاءَةَ يَوْمٍ أَرْيُهَا شِبْهُ الصَّاب
فَكَيْفَ بَأَنْ تَلْقَى مَسَرَّةَ سَاعَة وَرَاءَ تَقَضِّيهَا مَسَاءَة أَحْقَابِ
معناه : فسيضحكون قليلاً، ويبكون كثيراً ﴿ جَزَاءً ﴾ إلاّ أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره. يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا، لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم.
وإنما قال ﴿ إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ ﴾ لأنّ منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف، أو اعتذر بعذر صحيح. وقيل : لم يكن المخلقون كلهم منافقين، فأراد بالطائفة : المنافقين منهم ﴿ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ ﴾ يعني إلى غزوة بعد غزوة تبوك. ﴿ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ هي الخروج إلى غزوة تبوك، وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم الله أنه لم يدعهم إليه إلاّ النفاق، بخلاف غيرهم من المتخلفين ﴿ مَعَ الخالفين ﴾ قد مرّ تفسيره. [ و ] قرأ مالك بن دينار رحمه الله :«مع الخلفين » على قصر الخالفين. فإن قلت :﴿ مَرَّةٍ ﴾ نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات ؟ قلت : أكثر اللغتين : هند أكبر النساء، وهي أكبرهنّ. ثم إنّ قولك : هي كبرى امرأة، لا تكاد تعثر عليه. ولكن هي أكبر امرأة، وأول مرة وآخر مرة. وعن قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً قيل فيهم ما قيل.
روي : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم فلما مرض رأس النفاق عبد الله بن أبيّ بعث إليه ليأتيه، فلما دخل عليه قال : أهلكك حبّ اليهود. فقال : يا رسول الله بعثت إليك لتستغفر لي لا لتؤنبني وسأله أن يكفنه في شعاره الذي يلي جلده ويصلّي عليه، فلما مات دعاه ابنه حباب إلى جنازته، فسأله عن اسمه فقال : أنت عبد الله ابن عبد الله. الحباب : اسم شيطان، فلما همّ بالصلاة عليه قال له عمر : أتصلّي على عدوّ الله، فنزلت وقيل : أراد أن يصلّي عليه فجذبه جبريل. فإن قلت : كيف جازت له تكرمة المنافق وتكفينه في قميصه ؟ قلت : كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له. وذلك أنّ العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ أسيراً ببدر لم يجدوا له قميصاً وكان رجلاً طوالاً، فكساه عبد الله قميصه. وقال له المشركون يوم الحديبية : إنا لا نأذن لمحمد ولكنا نأذن لك، فقال : لا، إن لي في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك، وإجابة له إلى مسئلته إياه، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يردّ سائلاً، وكان يتوفر على دواعي المروءة ويعمل بعادات الكرام، وإكراماً لابنه الرجل الصالح، فقد روي : أنه قال له : أسألك أن تكفنه في بعض قمصانك، وأن تقوم على قبره، ولا يشمت به الأعداء، وعلماً بأن تكفينه في قميصه لا ينفعه مع كفره، فلا فرق بينه وبين غيره من الأكفان، وليكون إلباسه إياه لطفاً لغيره، فقد روي أنه قيل له : لم وجهت إليه بقميصك وهو كافر ؟ فقال :«إنّ قميصي لن يغني عنه من الله شيئاً، وإني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب » فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك ترحمه واستغفاره كان للدعاء إلى التراحم والتعاطف، لأنهم إذا رأوه يترحم على من يظهر الإيمان وباطنه على خلاف ذلك، دعا المسلم إلى أن يتعطف على من واطأ قلبه لسانه ورآه حتماً عليه. فإن قلت : فكيف جازت الصلاة عليه ؟ قلت : لم يتقدم نهي عن الصلاة عليهم، وكانوا يجرون مجرى المسلمين لظاهر إيمانهم، لما في ذلك من المصلحة. وعن ابن عباس رضي الله عنه : ما أدري ما هذه الصلاة، إلاّ أني أعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخادع ﴿ مَّاتَ ﴾ صفة لأحد. وإنما قيل : مات، وماتوا بلفظ الماضي - والمعنى على الاستقبال - على تقدير الكون والوجود ؛ لأنه كائن موجود لا محالة ﴿ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ ﴾ تعليل للنهي.
وقد أعيد قوله :﴿ وَلاَ تُعْجِبْكَ ﴾ لأنّ تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهمّ يفتقر إلى فضل عناية به، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه.
يجوز أن يراد السورة بتمامها، وأن يراد بعضها في قوله :﴿ وَإِذَا نُزّلَتْ سُورَةٌ ﴾ كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه. وقيل : هي براءة، لأنّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد ﴿ أَنْ ءَامِنُوا ﴾ هي أن المفسرة ﴿ أُوْلُو الطول ﴾ ذوو الفضل والسعة، من طال عليه طولاً ﴿ مَعَ القاعدين ﴾ مع الذين لهم علة وعذر في التخلف.
﴿ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الشقاء والهلاك.
﴿ لكن الرسول ﴾ أي إن تخلف هؤلاء فقد نهد إلى الغزو من هو خير منهم وأخلص نية ومعتقداً، كقوله :﴿ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً ﴾ [ الأنعام : ٨٩ ]، ﴿ فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبّكَ ﴾ [ فصلت : ٣٨ ]. ﴿ الخَيْرَاتِ ﴾ تتناول منافع الدارين لإطلاق اللفظ. وقيل : الحور، لقوله :﴿ فِيهِنَّ خيرات ﴾ [ الرحمن : ٧٠ ].
﴿ المعذرون ﴾ من عذر في الأمر، إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدّ : وحقيقته أنه يوهم أن له عذراً فيما يفعل ولا عذر له : أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ويجوز في العربية كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها لإتباع الميم، ولكن لم تثبت بهما قراءة، وهم الذين يعتذرون بالباطل، كقوله :﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴾ وقرئ :«المعذرون » بالتخفيف : وهو الذي يجتهد في العذر ويحتشد فيه. قيل : هم أسد وغطفان. قالوا : إن لنا عيالاً : وإن بنا جهداً فائذن لنا في التخلف. وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيّ على أهالينا ومواشينا، فقال صلى الله عليه وسلم :«سيغنيني الله عنكم ». وعن مجاهد. نفر من غفار، اعتذروا فلم يعذرهم الله تعالى : وعن قتادة : اعتذروا بالكذب. وقرئ :«المعذرون » بتشديد العين والذال، من تعذر بمعنى اعتذر، وهذا غير صحيح ؛ لأنّ التاء لا تدغم في العين إدغامها في الطاء والزاي والصاد، في المطوّعين، وأزكى وأصدق. وقيل : أريد المعتذرون بالصحة، وبه فسر المعذرون والمعذرون، على قراءة ابن عباس رضي الله عنه الذين لم يفرطوا في العذر ﴿ وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ ﴾ هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا، وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان. وقرأ أبيّ :«كذبوا » بالتشديد ﴿ سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ ﴾ من الأعراب ﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار.
﴿ الضعفاء ﴾ الهرمى والزمنى. والذين لا يجدون : الفقراء. وقيل : هم مزينة وجهينة وبنو عذرة. والنصح لله ورسوله : الإيمان بهما، وطاعتهما في السرّ والعلن، وتوليهما، والحبّ والبغض فيهما كما يفعل الموالي الناصح بصاحبه ﴿ عَلَى المحسنين ﴾ على المعذورين الناصحين، ومعنى : لا سبيل عليهم : لا جناح عليهم.
ولا طريق للعاتب عليهم ﴿ قُلْتَ لاَ أَجِدُ ﴾ حال من الكاف في ﴿ أَتَوْكَ ﴾ وقد قبله مضمرة، كما قيل في قوله :﴿ أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ﴾ [ النساء : ٩٠ ] أي إذا ما أتوك قائلاً لا أجد ﴿ تَوَلَّوْاْ ﴾ ولقد حصر الله المعذورين في التخلف الذين ليس لهم في أبدانهم استطاعة، والذين عدموا آلة الخروج، والذين سألوا المعونة فلم يجدوها. وقيل :«المستحملون » أبو موسى الأشعري وأصحابه. وقيل : البكاؤون، وهم ستة نفر من الأنصار ﴿ تَفِيضُ مِنَ الدمع ﴾ كقولك : تفيض دمعاً، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأنّ العين جعلت كأن كلها دمع فائض، و «من » للبيان كقولك : أفديك من رجل، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز ﴿ أَلاَّ يَجِدُواْ ﴾ لئلا يجدوا. ومحله نصب على أنه مفعول له، وناصبه المفعول له الذي هو حزناً.
فإن قلت :﴿ رَضُواْ ﴾ ما موقعه ؟ قلت : هو استئناف، كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء ؟ فقيل : رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف ﴿ وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ ﴾ يعني أن السبب في استئذانهم رضاهم بالدناءة وخذلان الله تعالى إياهم. فإن قلت : فهل يجوز أن يكون قوله :﴿ قُلْتَ لاَ أَجِدُ ﴾ استئنافاً مثله، كأنه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولوا، فقيل : ما لهم تولوا باكين ؟ فقيل : قلت لا أجد ما أحملكم عليه. إلاّ أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض ﴿ قُلْتَ ﴾ نعم.
ويحسن ﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ ﴾ علة للنهي عن الاعتذار ؛ لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به، فإذا علم أنه مكذب وجب عليه الإخلال وقوله :﴿ قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾ علة لانتفاء تصديقهم لأنّ الله عزّ وجلّ إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم من الشرّ والفساد، لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم ﴿ وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ ﴾ أتنيبون أم تثبتون على كفركم ﴿ ثُمَّ تُرَدُّونَ ﴾ إليه وهو عالم كل غيب وشهادة وسرّ وعلانية، فيجازيكم على حسب ذلك.
﴿ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ ﴾ فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم ﴿ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ ﴾ فأعطوهم طلبتهم ﴿ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ﴾ تعليل لترك معاتبتهم، يعني أنّ المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم، إنما يعاتب الأديب ذو البشرة. والمؤمن يوبخ على زلة تفرط منه، ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والاستغفار، وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم ﴿ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ يعني وكفتهم النار عتاباً وتوبيخاً، فلا تتكلفوا عتابهم.
﴿ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ ﴾ أي غرضهم في الحلف بالله طلب رضاكم لينفعهم ذلك في دنياهم ﴿ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ ﴾ فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطاً عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها. وقيل : إنما قيل ذلك لئلا يتوهم متوهم أن رضا المؤمنين يقتضي رضا الله عنهم. وقيل : هم جدّ بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما، وكانوا ثمانين رجلاً منافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة :«لا تجالسوهم ولا تكلموهم » وقيل : جاء عبد الله بن أبيّ يحلف أن لا يتخلف عنه أبداً.
﴿ الاعراب ﴾ أهل البدو ﴿ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا ﴾ من أهل الحضر لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم، ونشئهم في بعد من مشاهدة العلماء ومعرفة الكتاب والسنّة ﴿ وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ ﴾ وأحقّ بجهل حدود الدين وما أنزل الله من الشرائع والأحكام. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :«إنّ الجفاء والقسوة في الفدّادين » ﴿ والله عَلِيمٌ ﴾ يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر ﴿ حَكِيمٌ ﴾ فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم ومخطئهم ومصيبهم من عقابه وثوابه.
﴿ مَغْرَمًا ﴾ غرامة وخسراناً. والغرامة : ما ينفقه الرجل وليس يلزمه، لأنه لا ينفق إلاّ تقية من المسلمين ورياء، لا لوجه الله عزّ وجلّ وابتغاء المثوبة عنده ﴿ وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر ﴾ دوائر الزمان : دوله وعقبه لتذهب غلبتكم عليه ليتخلص من إعطاء الصدقة ﴿ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء ﴾ دعاء معترض، دعا عليهم بنحو ما دعوا به، كقوله عزّ وجلّ :﴿ قَالَتْ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ [ المائدة : ٦٤ ] وقرىء «السُّوء » بالضم وهو العذاب، كما قيل له سيئة. والسوء بالفتح، وهو ذمّ للدائرة، كقولك : رجل سوء، في نقيض قولك : رجل صدق، لأنّ من دارت عليه ذامّ لها ﴿ والله سَمِيعٌ ﴾ لما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بما يضمرون.
وقيل : هم أعراب أسد وغطفان وتميم ﴿ قربات ﴾ مفعول ثان ليتخذ. والمعنى : أنّ ما ينفقه سبب لحصول القربات عند الله ﴿ وصلوات الرسول ﴾ لأنّ الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم، كقوله : " اللَّهم صلّ على آل أبي أوفى " وقال تعالى :﴿ وَصَلّ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ] فلما كان ما ينفق سبباً لذلك قيل : يتخذ ما ينفق قربات وصلوات ﴿ ألا إِنَّهَا ﴾ شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف، مع حرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه، وكذلك ﴿ سَيُدْخِلُهُمُ ﴾ وما في السين من تحقيق الوعد، وما أدلّ هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأن الصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها. وقرئ :«قُربة » بضم الراء. وقيل : هم عبد الله وذو البجادين ورهطه.
﴿ وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ﴾ هم الذين صلّوا إلى القبلتين. وقيل : الذين شهدوا بدراً. وعن الشعبي : من بايع بالحديبية وهي بيعة الرضوان ما بين الهجرتين ﴿ و ﴾ من ﴿ الأنصار ﴾ أهل بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعة نفر، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن. وقرأ عمر رضي الله عنه :«والأنصارُ » بالرفع عطفاً على ( السابقون ). وعن عمر أنه كان يرى أن قوله :﴿ والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ ﴾ بغير واو صفة للأنصار، حتى قال له زيد : إنه بالواو، فقال : ائتوني بأبيّ، فقال تصديق ذلك في أول الجمعة ﴿ وَءاخَرِينَ مِنْهُم ﴾ [ الجمعة : ٣ ] وأوسط الحشر ﴿ والذين جاءوا مّن بَعْدِهِمْ ﴾ [ الحشر : ١٠ ] وآخر الأنفال ﴿ والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ]. وروي : أنه سمع رجلاً يقرؤه بالواو، فقال : من أقرأك ؟ قال : أبيّ، فدعاه فقال : أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك لتبيع القرظ بالبقيع، قال : صدقت، وإن شئت قلت : شهدنا وغبتم، ونصرنا وخذلتم، وآوينا وطردتم. ومن ثم قال عمر : لقد كنت أرانا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، وارتفع السابقون بالابتداء، وخبره ﴿ رَّضِىَ الله عَنْهُمْ ﴾ ومعناه : رضي عنهم لأعمالهم ﴿ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ لما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية وفي مصاحف أهل مكة : تجري من تحتها، وهي قراءة ابن كثير، وفي سائر المصاحف : تحتها، بغير من.
﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم ﴾ يعني حول بلدتكم وهي المدينة ﴿ منافقون ﴾ وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار، كانوا نازلين حولها ﴿ وَمِنْ أَهْلِ المدينة ﴾ عطف على خبر المبتدإ الذي هو ممن حولكم ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدإ والخبر إذا قدّرت : ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق، على أنّ ﴿ مَرَدُواْ ﴾ صفة موصوف محذوف كقوله :
أَنَا ابْنُ جَلاَ............... ***
وعلى الوجه الأول لا يخلو من أن يكون كلاماً مبتدأ أو صفة لمنافقون، فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره ﴿ مَرَدُواْ عَلَى النفاق ﴾ تمهروا فيه، من مرن فلان عمله، ومرد عليه : إذا درب به وضرى، حتى لان عليه ومهر فيه، ودّل على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه بقوله :﴿ لاَ تَعْلَمُهُمْ ﴾ أي يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك، لفرط تنوّقهم في تحامي ما يشكك في أمرهم، ثم قال :﴿ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ﴾ أي لا يعلمهم إلاّ الله، ولا يطلع على سرهم غيره، لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً، ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين، لا تشك معه في إيمانهم، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به، فلهم فيه اليد الطولى ﴿ سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ﴾ قيل : هما القتل وعذاب القبر. وقيل : الفضيحة وعذاب القبر. وعن ابن عباس رضي الله عنه أنهم اختلفوا في هاتين المرّتين، فقال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال :«اخرج يا فلان فإنك منافق، اخرج يا فلان فإنك منافق » فأخرج ناساً وفضحهم )، فهذا العذاب الأوّل، والثاني عذاب القبر. وعن الحسن : أخذ الزكاة من أموالهم ونهك أبدانهم ﴿ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ إلى عذاب النار.
﴿ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ ﴾ أي لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا متذممين نادمين، وكانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام. وقيل : كانوا عشرة، فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم : بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك، فأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل المسجد فصلى ركعتين - وكانت عادته صلى الله عليه وسلم كلما قدم من سفر -فرآهم موثقين، فسأل عنهم، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلهم، فقال : وأنا أقسم أن لا أحلّهم حتى أومر فيهم، فنزلت، فأطلقهم وعذرهم، فقالوا : يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا، فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً، فنزلت : خذ من أموالهم ﴿ عَمَلاً صالحا ﴾ خروجاً إلى الجهاد ﴿ وَءَاخَرَ سَيِّئاً ﴾ تخلفاً عنه. عن الحسن وعن الكلبي : التوبة والإثم. فإن قلت : قد جعل كل واحد منهما مخلوطاً فما المخلوط به ؟ قلت : كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به ؛ لأنّ المعنى خلط كل واحد منهما الآخر، كقولك : خلطت الماء واللبن، تريد : خلطت كل واحد منهما بصاحبه. وفيه ما ليس في قولك : خلطت الماء باللبن ؛ لأنّك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به، وإذا قلته بالواو وجعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما، كأنك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء، ويجوز أن يكون من قولهم : بعت الشاة شاة ودرهماً، بمعنى شاة بدرهم. فإن قلت : كيف قيل :﴿ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ وما ذكرت توبتهم ؟ قلت : إذا ذكر اعترافهم بذنوبهم، وهو دليل على التوبة، فقد ذكرت توبتهم.
﴿ تُطَهّرُهُمْ ﴾ صفة لصدقة. وقرئ :«تطهرهم »، من أطهره بمعنى طهره. و «تطهرهم »، بالجزم جواباً للأمر. ولم يقرأ ﴿ وَتُزَكّيهِمْ ﴾ إلاّ بإثبات الياء. والتاء في ﴿ تُطَهّرُهُمْ ﴾ للخطاب أو لغيبة المؤنث. والتزكية : مبالغة في التطهير وزيادة فيه، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال ﴿ وَصَلّ عَلَيْهِمْ ﴾ واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم، والسنّة أن يدعو المصدق لصاحب الصدقة إذا أخذها. وعن الشافعي رحمه الله : أحب أن يقول الوالي عند أخذ الصدقة : أجرك الله فيما أعطيت، وجعله طهوراً، وبارك لك فيما أبقيت. وقرئ :«إن صلاتك » على التوحيد ﴿ سَكَنٌ لَّهُمْ ﴾ يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم ﴿ والله سَمِيعٌ ﴾ يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بما في ضمائرهم، والغمّ من الندم لما فرط منهم.
قرئ :﴿ أَلَمْ يَعْلَمُواْ ﴾ بالياء والتاء، وفيه وجهان، أحدهما : أن يراد المتوب عليهم، يعني : ألم يعلموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم ﴿ أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة ﴾ إذا صحّت، ويقبل الصدقات إذا صدرت عن خلوص النية، وهو للتخصيص والتأكيد، وأن الله تعالى من شأنه قبول توبة التائبين. وقيل : معنى التخصيص في هو : أن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الله سبحانه هو الذي يقبل التوبة ويردّها، فاقصدوه بها ووجهوها إليه.
﴿ وَقُلِ ﴾ لهؤلاء التائبين ﴿ اعملوا ﴾ فإن عملكم لا يخفى - خيراً كان أو شراً - على الله وعباده كما رأيتم وتبين لكم. والثاني : أن يراد غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة، فقد روي أنهم لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا : هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت. فإن قلت : فما معنى قوله :﴿ وَيَأْخُذُ الصدقات ﴾ قلت : هو مجاز عن قبوله لها، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : إن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل والمعنى : أنه يتقبلها ويضاعف عليها، وقوله :﴿ فَسَيَرَى الله ﴾ وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة.
قرئ :«مرجون » و «مرجؤن » من أرجيته، وأرجأته : إذا أخرته. ومنه المرجئة، يعني : وآخرون من المتخلفين موقوف أمرهم ﴿ إِمَّا يُعَذّبُهُمْ ﴾ إن بقوا على الإصرار ولم يتوبوا ﴿ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ إن تابوا، وهم ثلاثة : كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة ابن الربيع : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم، ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شدّ أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغمّ، فلما علموا أنّ أحداً لا ينظر إليهم فوّضوا أمرهم إلى الله تعالى، وأخلصوا نياتهم، ونصحت توبتهم، فرحمهم الله ﴿ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾. وفي قراءة عبد الله : غفور رحيم. وإمّا للعباد : أي خافوا عليهم العذاب وارجوا لهم الرحمة.
في مصاحف أهل المدينة والشام : الذين اتخذوا بغير واو، لأنها قصة على حيالها. وفي سائرها بالواو على عطف قصة مسجد الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم. روي : أنّ بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي فيه، ويصلّي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام، ليثبت لهم الفضل والزيادة على إخوتهم، وهو الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد : لا أجد قوماً يقاتلوك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج هارباً إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين. أن استعدّوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر وآت بجنود ومخرج محمداً وأصحابه من المدينة، فبنوا مسجداً بجنب مسجد قباء، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، ونحن نحبّ أن تصلّي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة، فقال صلى الله عليه وسلم : إني على جناح سفر وحال شغل. وإذا قدمنا إن شاء الله صلّينا فيه، فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد، فنزلت عليه، فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عديّ وعامر بن السكن ووحشي قاتل حمزة، فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه، ففعلوا، وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين ﴿ ضِرَارًا ﴾ مضارْة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء ومعازة ﴿ وَكُفْراً ﴾ وتقوية للنفاق ﴿ وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين ﴾ لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص بهم، فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم ﴿ وَإِرْصَادًا ﴾ وإعداداً ﴿ ل ﴾ أجل ﴿ منْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ ﴾ وهو الراهب : أعدوه له ليصلّي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل : كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله أو بمال غير طيب، فهو لاحق بمسجد الضرار. وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر ؛ فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد، فقال : لا أحبّ أن أصلّي فيه، فإنّه بني على ضرار، وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فإنّ أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضراراً. وعن عطاء : لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضارّ أحدهما صاحبه، فإن قلت :﴿ والذين اتخذوا ﴾ ما محله من الإعراب ؟ قلت : محله النصب على الاختصاص.
كقوله :﴿ المقيمين الصلاة ﴾ [ النساء : ١٦٢ ] وقيل : هو مبتدأ خبره محذوف، معناه : وفيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله :﴿ والسارق والسارقة ﴾ [ المائدة : ٣٨ ]. فإن قلت : بم يتصل قوله :﴿ مِن قَبْلُ ﴾ ؟ قلت : باتخذوا، أي اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف ﴿ إِنْ أَرَدْنَا ﴾ ما أردنا ببناء هذا المسجد ﴿ إِلاَّ ﴾ إلا الخصلة ﴿ الحسنى ﴾ أو الإرادة الحسنة، وهي الصلاة. وذكر الله والتوسعة على المصلين.
﴿ لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التقوى ﴾ قيل : هو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء، وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وخرج يوم الجمعة، وهو أولى، لأنّ الموازنة بين مسجدي قباء أوقع. وقيل : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وعن أبي سعيد الخدري : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى، فأخذ حصباء فضرب بها الأرض وقال : " هو مسجدكم هذا مسجد المدينة " ﴿ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ﴾ من أول يوم من أيام وجوده ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ ﴾ قيل : لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس فقال : أمؤمنون أنتم ؟ فسكت القوم، ثم أعادها : فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم. فقال صلى الله عليه وسلم :«أترضون بالقضاء ؟ » قالوا : نعم، قال :«أتصبرون على البلاء ؟ » قالوا : نعم. قال :«أتشكرون في الرخاء ؟ » قالوا : نعم. قال صلى الله عليه وسلم :«مؤمنون ورب الكعبة ». فجلس ثم قال : يا معشر الأنصار، إنّ الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط، فقالوا : يا رسول الله، نتبع الغائط الأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار الماء. فتلا النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ ﴾. وقرىء ؛ «أن يطهروا » بالإدغام. وقيل : هو عام في التطهر من النجاسات كلها. وقيل : كانوا لا ينامون الليل على الجنابة، ويتبعون الماء أثر البول. وعن الحسن : هو التطهر من الذنوب بالتوبة. وقيل : يحبّون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم، فحموا عن آخرهم. فإن قلت : ما معنى المحبتين ؟ قلت : محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحبّ للشيء المشتهى له على إيثاره. ومحبة الله تعالى إياهم : أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم، كما يفعل المحبّ بمحبوبه.
قرئ : أسس بنيانه » و «أُسس بنيانه »، على البناء للفاعل والمفعول. وأسس بنيانه، جمع أساس على الأضافة، وأساس بنيانه، بالفتح والكسر : جمع أس ؛ وآساس بنيانه على أفعال، جمع أس أيضاً، وأس بنيانه. والمعنى : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه ﴿ خَيْرٌ أَم مَّنْ ﴾ أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها وأقلها بقاء، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل ﴿ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ﴾ في قلة الثبات والاستمساك، وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى ؛ لأنه جعل مجازاً عما ينافي التقوى. فإن قلت : فما معنى قوله :﴿ فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ ﴾ ؟ قلت : لما جعل الجرف الهائر مجازاً عن الباطل قيل : فانهار به في نار جهنم، على معنى : فطاح به الباطل في نار جهنم، إلاّ أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف، وليصور أنّ المبطل كأنه أسس بنياناً على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها. والشفا : الحرف والشفير. وجرف الوادي : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهياً. والهار : الهائر وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط. ووزنه فعل، قصر عن فاعل، كخلف من خالف. ونظيره : شاك وصات، في شائك وصائت. وألفه ليست بألف فاعل، إنما هي عينه. وأصله هور وشوك وصوت. ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدلّ على حقيقة الباطل وكنه أمره. وقرىء : جرف، بسكون الراء : فإن قلت : فما وجه ما روى سيبويه عن عيسى بن عمر : على تقوىً من الله، بالتنوين ؟ قلت : قد جعل الألف للإلحاق لا للتأنيث، كتترى فيمن نوّن، ألحقها بجعفر. وفي مصحف أبيّ : فانهارت به قواعده. وقيل : حفرت بقعة من مسجد الضرار فرؤي الدخان يخرج منه. وروي أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب في خلافته أن يأذن لمجمع فيؤمهم في مسجدهم فقال : لا، ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضرار ؟ فقال : يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليّ، فوالله لقد صليت بهم والله يعلم أني لا أعلم ما أضمروا فيه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاماً قارئاً للقرآن وكانوا شيوخاً لا يقرؤون من القرآن شيئاً، فعذره وصدّقه وأمره بالصلاة بقومه.
﴿ رِيبَةً ﴾ شكاً في الدين ونفاقاً، وكان القوم منافقين، وإنما حملهم على بناء ذلك المسجد كفرهم ونفاقهم كما قال عزّ وجلّ :﴿ ضِرَارًا وَكُفْرًا ﴾ [ التوبة : ١٠٧ ] فلما هدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا -لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم - تصميماً على النفاق ومقتاً للإسلام، فمعنى قوله :﴿ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ ﴾ لا يزال هدمه سبب شكّ، ونفاق زائد على شكّهم ونفاقهم لا يزول وسمه عن قلوبهم ولا يضمحلّ أثره ﴿ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ﴾ قطعاً وتفرّق أجزاء، فحينئذٍ يسلون عنه. وأمّا ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها. ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار. وقرئ :«يقطع »، بالياء. و «تقطع » بالتخفيف. و «تَقطع » بفتح التاء بمعنى تتقطع. وتقطع قلوبهم، على أن الخطاب للرسول أي إلاّ أن تقطع أنت قلوبهم بقتلهم. وقرأ الحسن : إلى أن، وفي قراءة عبد الله :«ولو قطعت قلوبهم ». وعن طلحة : ولو قطعت قلوبهم على خطاب الرسول أو كل مخاطب. وقيل : معناه إلاّ أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم.
مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشروى. وروى : تاجرهم فأغلى لهم الثمن. وعن عمر رضي الله عنه فجعل لهم الصفقتين جميعاً. وعن الحسن : أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها. وروي : أنّ الأنصار حين بايعوه على العقبة قال عبد الله بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. قال : اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم. قال : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : لكم الجنة. قالوا : ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل. ومرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيّ وهو يقرؤها فقال : كلام من ؟ قال كلام الله. قال : بيع الله مربح لا نقيله ولا نستقيله، فخرج إلى الغزو فاستشهد ﴿ يقاتلون ﴾ فيه معنى الأمر، كقوله :﴿ وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ ﴾ [ الصف : ١١ ]. وقرئ :«فيقتلون » و «يقتلون » على بناء الأوّل للفاعل والثاني للمفعول، وعلى العكس ﴿ وَعْدًا ﴾ مصدر مؤكد. أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته ﴿ فِي التوراة والإنجيل ﴾ كما أثبته في القرآن، ثم قال :﴿ وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله ﴾ لأنّ إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه القبيح قط، ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ.
﴿ التائبون ﴾ رفع على المدح. أي : هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين. ويدلّ عليه قراءة عبد الله وأبيّ رضي الله عنهما :«التائبين » بالياء إلى : والحافظين، نصباً على المدح. ويجوز أن يكون جراً صفة للمؤمنين. وجوّز الزجاج أن يكون مبتدأ خبره محذوف، أي : التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا، كقوله :﴿ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى ﴾ [ النساء : ٩٥ ] وقيل : هو رفع على البدل من الضمير في يقاتلون. ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره العابدون، وما بعده خبر بعد خبر، أي التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال. وعن الحسن : هم الذين تابوا من الشرك وتبرؤا من النفاق. و ﴿ العابدون ﴾ الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة وحرصوا عليها. و ﴿ السائحون ﴾ الصائمون شبهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم. وقيل : هم طلبة العلم يسيحون في الأرض يطلبونه في مظانه.
قيل : قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب :«أنت أعظم الناس عليَّ حقاً، وأحسنهم عندي يداً، فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي »، فأبى فقال :«لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه »، فنزلت. وقيل : لما افتتح مكة سأل أي أبويه أحدث به عهداً ؟ فقيل : أمك آمنة، فزار قبرها بالأبواء، ثم قام مستعبراً فقال : إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فنزلت. وهذا أصحّ لأنّ موت أبي طالب كان قبل الهجرة، وهذا آخر ما نزل بالمدينة. وقيل : استغفر لأبيه. وقيل : قال المسلمون ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا وذوي قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِىّ ﴾ ما صح له الاستغفار في حكم الله وحكمته ﴿ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم ﴾ لأنهم ماتوا على الشرك.
قرأ طلحة وما استغفر إبراهيم لأبيه، وعنه : وما يستغفر إبراهيم، على حكاية الحال الماضية ﴿ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ﴾ أي وعدها إبراهيم أباه، وهو قوله :﴿ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ [ الممتحنة : ٤ ] ويدلّ عليه قراءة الحسن وحماد الراوية : وعدها أباه. فإن قلت : كيف خفي على إبراهيم أن الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده ؟ قلت : يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى منه الإيمان جاز الاستغفار له، على أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي، لأنّ العقل يجوّز أن يغفر الله للكافر. ألا ترى إلى قوله عليه السلام لعمه : لأستغفرنّ لك ما لم أنه. وعن الحسن قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن فلاناً يستغفر لأبائه المشركين، فقال : ونحن نستغفر لهم فنزلت. وعن علي رضي الله عنه : رأيت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له، فقال : أليس قد استغفر إبراهيم فإن قلت : فما معنى قوله :﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ﴾ ؟ قلت : معناه : فلما تبين له من جهة الوحي أنه لن يؤمن وأنه يموت كافراً وانقطع رجاؤه عنه، قطع استغفاره فهو كقوله :﴿ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم ﴾ [ التوبة : ١١٣ ]. ﴿ أَوَّاهٌ ﴾ فعال، من أوه كلأل من اللؤلؤ، وهو الذي يكثر التأوه. ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له، مع شكاسته عليه، وقوله :«لأرجمنك ».
يعني ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محظور لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام، ولا يسميهم ضلالاً، ولا يخذلهم إلاّ إذا أقدموا عليه بعد بيان خطره عليهم وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب. وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم. وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي عنه. وفي هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها : وهي أنّ المهديّ للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله داخل في حكم الإضلال، والمراد بما يتقون : ما يجب اتقاؤه للنهي، فأما ما يعلم بالعقل كالصدق في الخبر، وردّ الوديعة فغير موقوف على التوقيف.
﴿ تَابَ الله على النبى ﴾ كقوله :﴿ لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ [ الفتح : ٢ ] وقوله :﴿ واستغفر لِذَنبِكَ ﴾ وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلاّ وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي والمهاجرون والأنصار، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأن صفة التوابين الأوّابين صفة الأنبياء، كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح. وقيل : معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه، كقوله :﴿ عَفَا الله عَنكَ ﴾ [ التوبة : ٤٣ ]، ﴿ فِى سَاعَةِ العسرة ﴾ في وقتها، والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق، كما استعملت الغداة والعشية واليوم :
غَدَاةً طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ***
وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً عَشِيَّةَ قَارَعْنَا جُذَامَ وَحِمْيَراً
إذَا جَاءَ يَوْماً وَارِثِي يَبْتَغِي الْغِنَى*** يَجِدْ جُمْعَ كَفٍّ غَيْرَ مَلأَى وَلاَ صِفْر
والعسرة : حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة من الظهر : يعتقب العشرة على بعير واحد. وفي عسرة من الزاد : تزوّدوا التمر المدود والشعير المسوّس والإهالة الزنخة، وبلغت بهم الشدّة أن اقتسم التمرة اثنان، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء. وفي عسرة من الماء، حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها. وفي شدّة زمان، من حمارّة القيظ ومن الجدب والقحط والضيقة الشديدة ﴿ كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ﴾ عن الثبات على الإيمان، أو عن اتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه. وفي «كاد » ضمير الشأن، وشبهه سيبويه بقولهم : ليس خلق الله مثله. وقرئ :«يزيغ » بالياء. وفي قراءة عبد الله :«من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم »، يريد المتخلفين من المؤمنين كأبي لبابة وأمثاله ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ﴾ تكرير للتوكيد. ويجوز أن يكون الضمير للفريق : تاب عليهم لكيدودتهم.
﴿ الثلاثة ﴾ كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. ومعنى ﴿ خُلّفُواْ ﴾ خلفوا عن الغزو وقيل عن أبي لبابة وأصحابه حين تيب عليهم بعدهم وقرئ «خلفوا » أي خلفوا الغازين بالمدينة، أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم. وقرأ جعفر الصادق رضي الله عنه :«خالفوا ». وقرأ الأعمش :«وعلى الثلاثة المخلفين » ﴿ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ برحبها، أي : مع سعتها، وهو مثل للحيرة في أمرهم، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرّون فيه قلقاً وجزعاً مما هم فيه ﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ ﴾ أي قلوبهم، لا يسعها أنس ولا سرور ؛ لأنها حرجت من فرط الوحشة والغمّ ﴿ وَظَنُّواْ ﴾ وعلموا ﴿ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ﴾ سخط ﴿ الله إِلاَّ ﴾ إلى استغفاره ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ ﴾ ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرّة بعد أخرى، ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا وليتوبوا أيضاً فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة، علماً منهم أن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة. روي أن ناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. منهم من بدا له وكره مكانه فلحق به. عن الحسن : بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيراً من مائة ألف درهم فقال : يا حائطاه، ما خلفني إلاّ ظلك وانتظار ثمرك، اذهب فأنت في سبيل الله. ولم يكن لآخر إلاّ أهله فقال : يا أهلاه ما بطأني ولا خلفني إلاّ الضنّ بك لا جرم، والله لأكابدنّ المفاوز حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فركب ولحق به. ولم يكن لآخر إلاّ نفسه لا أهل ولا مال، فقال : يا نفس ما خلفني إلاّ حبّ الحياة لك والله لأكابدنّ الشدائد حتى ألحق برسول الله، فتأبط زاده ولحق به. قال الحسن : كذلك والله المؤمن يتوب من ذنوبه ولا يصرّ عليها. وعن أبي ذرّ الغفاري : أن بعيره أبطأ به فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى سواده : كن أبا ذرّ، فقال الناس : هو ذاك، فقال : " رحم الله أبا ذرّ، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده " وعن أبي خيثمة أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء، فرشت له في الظلّ، وبسطت له الحصير، وقرّبت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال : ظلّ ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضحّ والريح. : ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومرّ كالريح، فمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السراب فقال :«كن أبا خيثمة » فكانه. ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له. ومنهم من بقي لم يلحق به. منهم الثلاثة. قال كعب : لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه فردّ عليّ كالمغضب بعد ما ذكرني وقال :«ليت شعري ما خلف كعباً » ؟ فقيل له : ما خلفه إلاّ حسن برديه والنظر في عطفيه. فقال معاذ :[ بئس ما قلت والله يا رسول الله ] ما أعلم إلاّ فضلاً وإسلاماً، ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة، فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهنّ، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع : أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجداً وكنت كما وصفني ربي ﴿ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ ﴾ وتتابعت البشارة، فلبست ثوبي وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمين، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله حتى صافحني وقال : لتهنك توبة الله عليك، فلن أنساها لطلحة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر :( أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك، ثم تلا علينا الآية ). وعن أبي بكر الورّاق أنه سئل عن التوبة النصوح ؟ فقال : أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.
﴿ مَعَ الصادقين ﴾ وقرىء :«من الصادقين » وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولاً وعملاً، أو الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم لله ورسوله على الطاعة من قوله :﴿ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ ﴾ [ الأحزاب : ٢٣ ] وقيل : هم الثلاثة، أي كونوا مثل هؤلاء في صدقهم وثباتهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه : الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب، أي كونوا مع المهاجرين والأنصار، ووافقوهم وانتظموا في جملتهم، واصدقوا مثل صدقهم. وقيل لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك. وعن ابن مسعود رضي الله عنه : لا يصلح الكذب في جدّ ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجزه. اقرءوا إن شئتم : وكونوا مع الصادقين فهل فيها من رخصة ؟ ﴿ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ﴾ أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم في الشدائد ما تلقاه نفسه، علماً بأنها أعزُّ نفس عند الله وأكرمها عليه. فإذا تعرضت مع كرامتها وعزّتها للخوض في شدّة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرّضت له، ولا يكترث لها أصحابها ولا يقيموا لها وزناً، وتكون أخفّ شيء عليهم وأهونه، فضلاً عن أن يربئوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ، مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية ﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما دلّ عليه قوله : ما كان لهم أن يتخلفوا من وجوب مشايعته، كأنه قيل ذلك الوجوب ﴿ ب ﴾ سبب ﴿ إِنَّهُمْ لا يُصِيبَهُم ﴾ شيء من عطش، ولا تعب، ولا مجاعة في طريق الجهاد، ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم. ولا يتصرفون في أرضهم تصرفاً يغيظهم ويضيق صدورهم ﴿ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً ﴾ ولا يرزءونهم شيئاً بقتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة أو غير ذلك ﴿ إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ﴾ واستوجبوا الثواب ونيل الزلفى عند الله، وذلك مما يوجب المشايعة. ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة، لا الوطء بالأقدام والحوافر، كقوله عليه السلام : " آخر وطأة وطئها الله بوج " والموطىء. إما مصدر كالمورد وإما مكان فإن كان مكاناً فمعنى يغيظ الكفار : يغيظهم وطئه والنيل أيضاً يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً، وأن يكون بمنعى المنيل. ويقال : نال منه إذا رزأه ونقصه، وهو عام في كل ما يسؤوهم وينكبهم ويلحق بهم ضرراً. وفيه دليل على أن من قصد خيراً كان سعيه فيه مشكوراً من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك، وكذلك الشرّ. وبهذه الآية استشهد أصحاب أبي حنيفة أنّ المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك لنا الجيش في الغنيمة، لأنّ وطء ديارهم مما يغيظهم وينكي فيهم. ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لابني عامر، وقد قدما بعد تقضي الحرب، وأمدّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه المهاجر بن أبي أمية وزياد بن أبي لبيد بعكرمة بن أبي جهل مع خمسمائة نفس، فلحقوا بعد ما فتحوا فأسهم لهم. [ و ] عند الشافعي : لا يشارك المدد الغانمين، وقرأ عبيد ابن عمير :«ظماء » بالمدح يقال : ظمىء ظماءة وظماء.
﴿ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ﴾ ولو تمرة ولو علاقة سوط ﴿ وَلاَ كَبِيرَةً ﴾ مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة ﴿ وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا ﴾ أي أرضاً في ذهابهم ومجيئهم، والوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل، وهو في الأصل «فاعل » من ودى إذا سال. ومنه الودي. وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض. يقولون : لا تصلّ في وادي غيرك ﴿ إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ ﴾ ذلك من الإنفاق وقطع الوادي : ويجوز أن يرجع الضمير فيه إلى عمل صالح وقوله :﴿ لِيَجْزِيَهُمُ ﴾ متعلق بكتب أي أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء.
اللام لتأكيد النفي. ومعناه أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح ولا ممكن. وفيه أنه لو صحّ وأمكن، ولم يؤدّ إلى مفسدة لوجب التفقه على الكافة، ولأنّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ ﴾ فحين لم يمكن نفير الكافة ولم يكن مصلحة فهلا نفر ﴿ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ ﴾ أي من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير ﴿ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدين ﴾ ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها ﴿ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ ﴾ وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه : إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ويؤمّونها من المقاصد الركيكة، ومن التصدّر والترؤس والتبسط في البلاد، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضاً، وفشوّ داء الضرائر بينهم وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر، أو شرذمة جثوا بين يديه، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم، فما أبعد هؤلاء من قوله عزّ وجلّ :﴿ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأرض وَلاَ فَسَاداً ﴾ [ القصص : ٨٣ ]. ﴿ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملاً صالحاً. ووجه آخر : وهو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث بعثاً - بعد غزوة تبوك وبعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد - استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعاً عن استماع الوحي والتفقه في الدين، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأنّ الجدال بالحجّة أعظم أثراً من الجلاد بالسيف. وقوله :﴿ لّيَتَفَقَّهُواْ ﴾ الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطواف، النافرة من بينهم ﴿ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ ﴾ ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم وعلى الأوّل الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه.
﴿ يَلُونَكُمْ ﴾ يقربون منكم، والقتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب. ونظيره ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين ﴾ [ الشعراء : ٢١٤ ] وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، ثم غيرهم من عرب الحجاز، ثم غزا الشام. وقيل : هم قريظة والنضير وفدك وخيبر. وقيل : الروم، لأنهم كانوا يسكنون الشأم والشأم أقرب إلى المدينة من العراق وغيره، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم، ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى. وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن قتال الديلم ؟ فقال : عليك بالروم. وقرئ :«غلظة » بالحركات الثلاث، فالغلظة كالشدّة، والغلظة كالضغطة، والغلظة كالسخطة ونحوه ﴿ واغلظ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ٧٣ ] ﴿ وَلاَ تَهِنُواْ ﴾ [ آل عمران : ١٣٩ ] وهو يجمع الجرأة والصبر على القتال وشدّة العداوة والعنف في القتل والأسر، ومنه ﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله ﴾ [ النور : ٢ ]. ﴿ مَعَ المتقين ﴾ ينصر من اتقاه فلم يترأف على عدّوه.
﴿ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ﴾ فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض ﴿ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه ﴾ السورة ﴿ إيمانا ﴾ إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به. وأيكم : مرفوع بالابتداء. وقرأ عبيد بن عمير :«أيكم » بالفتح على إضمار فعل يفسره ﴿ زَادَتْهُ ﴾ تقديره : أيكم زادت زادته هذه إيماناً ﴿ فَزَادَتْهُمْ إيمانا ﴾ لأنها أزيد لليقين والثبات، وأثلج للصدر. أو فزادتهم عملاً، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان، لأنّ الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل.
﴿ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ ﴾ كفراً مضموماً إلى كفرهم، لأنهم كلما جدّدوا بتجديد الله الوحي كفراً ونفاقاً، ازداد كفرهم واستحكم وتضاعف عقابهم.
قرئ :«أولا يرون »، بالياء والتاء ﴿ يُفْتَنُونَ ﴾ يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله ثم لا ينتهون ولا يتوبون عن نفاقهم، ولا يذكرون، ولا يعتبرون، ولا ينظرون في أمرهم، أو يبتلون في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل الله عليه من نصرته وتأييده. أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم، ثم لا ينزجرون.
﴿ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ ﴾ تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي وسخرية به قائلين ﴿ هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ ﴾ من المسلمين لننصرف، فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك، فنخاف الافتضاح بينهم. أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لواذا يقولون : هل يراكم من أحد. وقيل : معناه : إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين ﴿ صَرَفَ الله قُلُوبَهُم ﴾ دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح ﴿ قُلُوبَهُم ﴾ بسبب أنهم ﴿ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾ لا يتدبرون حتى يفقهوا.
﴿ مّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ من جنسكم ومن نسبكم عربي قرشي مثلكم، ثم ذكر ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج بقوله :﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ أي شديد عليه شاق - لكونه بعضاً منكم - عنتكم ولقاؤكم المكروه، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة والوقوع في العذاب ﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ﴾ حتى لا يخرج أحد منكم عن اتباعه والاستسعاد بدين الحقّ الذي جاء به ﴿ بالمؤمنين ﴾ منكم ومن غيركم ﴿ رَءوفٌ رَّحِيمٌ ﴾. وقرىء :«من أنْفَسِكم » أي من أشرفكم وأفضلكم. وقيل : هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة وعائشة رضي الله عنهما. وقيل : لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ رَءوفٌ رَّحِيمٌ ﴾.
﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك فاستعن وفوّض إليه، فهو كافيك معرّتهم ولا يضرونك وهو ناصرك عليهم. وقرئ :﴿ العظيم ﴾ بالرفع. وعن ابن عباس رضي الله عنه : العرش لا يقدر أحد قدره. وعن أبيّ ابن كعب : آخر آية نزلت :﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾.
Icon