تفسير سورة النحل

تفسير الإمام مالك
تفسير سورة سورة النحل من كتاب تفسير الإمام مالك .
لمؤلفه مالك بن أنس . المتوفي سنة 179 هـ

الآية الأولى : قوله تعالى :﴿ ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ﴾ [ النحل : ٦ ].
٥٦١- ابن العربي : روى أشهب، عن مالك، قال : يقول الله تعالى :﴿ ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ﴾، ذلك في المواشي تروح إلى المرعى وتسرح عليه. ١
١ - أحكام القرآن لابن العربي: ٣/١١٤٢. وينظر: الجامع: ١٠/٧١، والجواهر الحسان: ٢/٣٠٣..
الآية الثانية : قوله تعالى :﴿ والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون ﴾ [ النحل : ٨ ].
٥٦٢- يحيى : عن مالك : أن أحسن ما سمع في الخيل والبغال والحمير، أنها لا تؤكل. لأن الله تبارك وتعالى قال :﴿ والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ﴾. وقال تبارك وتعالى في الأنعام :﴿ لتركبوا منها ومنها تأكلون ﴾١. وقال تبارك وتعالى :﴿ فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ﴾٢. ٣
قال مالك : وسمعت أن البائس٤ هو الفقير، وأن المعتر هو الزائر.
قال مالك : فذكر الله الخيل، والبغال، والحمير، للركوب والزينة. وذكر الأنعام للركوب والأكل.
قال مالك : والقانع٥ : هو الفقير أيضا.
١ - سورة غافر، آية: ٧٩..
٢ -سورة الحج، الآية: ٣٦..
٣ -الموطأ: ٢/٤٩٧. كتاب الصيد، باب ما يكره في أكل الدواب. وقال ابن العربي في أحكام القرآن: "ففهم مالك رحمه الله وجه إيراد النعم، وما أعد الله له في كل نعمة من الانتفاع، فاقتصرت كل منفعة على وجه منفعتها التي عين الله له، ورتبها فيه": ٣/١١٤٤.
وفي موطأ مالك برواية زياد: "قال مالك: أحسن ما سمعت في أكل الدواب: الخيل، والبغال، والحمير، أنها لا تؤكل. قال الله: ﴿والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة﴾ [النحل: ٨]. وفي الأنعام: ﴿أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم﴾ [المائدة: ١].
وقال: ﴿ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير﴾ [الحج: ٢٨].
وقال: ﴿الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون﴾ [غافر: ٧٩]. فذكر الخيل، والبغال، والحمير، للركوب والزينة، وذكر الأنعام للركوب والأكل.
قال مالك: "وعلى ذلك الأمر عندنا": ١٧٩.
قال الشيخ النفير: ومعنى قول مالك "وذلك" أي ما تقدم من تحريم الخيل والبغال والحمير هو الأمر عندنا بالمدينة أي أنهم أجمعوا عليه. وينظر: المنتقى: ٣/١٣٢، والجامع: ١٠/٧٦..

٤ - البائس: ومنه البؤس: الخضوع والفقر. ويجوز أن يكون أمرا وخبرا. يقال: بئس يبأس بؤسا وبأسا: افتقر واشتدت حاجته، والاسم منه بائس. والنهاية: ١/٨٩..
٥ - القانع: الخادم والتابع، ترد شهادته للتهمة بجلب النفع إلى نفسه. والقانع في الأصل: السائل. النهاية: ٤/١١٤..
الآية الثالثة : قوله تعالى :﴿ ومنه شجر فيه تسيمون ﴾ [ النحل : ١٠ ].
٥٦٣- ابن رشد : قال مالك :﴿ ومنه شجر فيه تسيمون ﴾ يقول : فيه يرعون. ١
١ - البيان والتحصيل: ٢/٤٣٦..
الآية الرابعة : قوله تعالى :﴿ وعلامات بالنجم هم يهتدون ﴾ [ النحل : ١٦ ].
٥٦٤- ابن العربي : قال المخزومي : سمعت مالكا يقول : في فوله :﴿ وعلامات ﴾ : قال : يقولون : وهي الجبال، منهم ابن عباس. ١
١ - القبس: ٣/١٠٧١، كتاب التفسير. وزاد ابن العربي موضحا هذه المسألة: "وقال آخرون: أراد بذلك النجوم الثمانية: وهي الجدي والفرقان يهتدي بها في الفيافي التي لا أعلام فيها، وفي البحار عند دخول الليل على راكبها، وقال آخرون: يقول المراد بالنجم: الثريا، وقد كان اطلع مالك على ذلك كله ولكنه، اختار قول ابن عباس في أن معناه: الجبال لأنه مساق الآية". وينظر: تفسير ابن كثير: ٢/٥٦٦..
الآية الخامسة : قوله تعالى :﴿ أو يأخذهم على تخوف ﴾ [ النحل : ٤٧ ].
٥٦٥- مكي : روى مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية فقال : ما التخوف ؟ فأقام بذلك أياما، فأتاه غلام من أعراب قيس١ فقال : يا أمير المؤمنين أراني يتخوفني مالي. فقال له عمر : كيف يتخوف مالك ؟ فقال : ينقصني مالي. فقال عمر :﴿ أو يأخذهم على تخوف ﴾ على تنقص. ٢
١ - قيس: جزيرة ببحر عمان. القاموس..
٢ - الهداية: ١٩١م. خ ع ق ٥٨. وورد هذا الأثر عن عمر بن الخطاب بطرق أخرى، مع بعض الاختلاف. ينظر: معاني الزجاج: ٣/٢٠١، والكشاف: ٢/٤١١، والتفسير الكبير: ١٠/٤٠ والجامع: ١٠/٧٣..
الآية السادسة : قوله تعالى :﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ﴾ [ النحل : ٦٧ ].
٥٦٦- يحيى : قال مالك : والسنة عندنا، أن كل من شرب شرابا مسكرا، فسكر أو لم يسكر، فقد وجب عليه الحد. ١
١ - الموطأ: ٢/ ٨٤٣، كتاب الأشربة، باب الحد في الخمر. وينظر: تفسير ابن كثير: ٢/٥٧٥. وفي النهاية لابن الأثير: "سئل مالك عن عجين يعجن بدردي، فقال: إن كان يسكر فلا". ٢/٥٧..
الآية السابعة : قوله تعالى :﴿ بنين وحفدة ﴾ [ النحل : ٧٢ ].
٥٦٧- ابن رشد : قال ابن القاسم : وسمعت مالكا يقول في تفسير قوله عز وجل :﴿ بنين وحفدة ﴾ : قال : الحفدة : الخدام والتباع. ١
٥٦٨- ابن العربي : روى ابن القاسم عن مالك قال : وسألته عن قول الله، ﴿ بنين وحفدة ﴾ ؟ قال : الخدام والأعوان في رأيي. ٢
١ - البيان والتحصيل: ١٧/٣٤٤. قال محمد بن رشد معقبا على تفسير مالك: "تفسير مالك للحفدة أنهم: الخدام والتباع صحيح بين، وقد روي عن ابن مسعود، أنه قال: الحفدة الأختان، وليس ذلك بمخالف لما قاله مالك، لأن الأختان، من الخدمة والتباع، لأنهم: يتصلون به بسبب الصهر فيحفون به ويشاركونه في أموره ويعينونه فيها.
وأورد ابن العربي في القبس هذا النص وعقب عليه قائلا: "وقال آخرون: هم بنو البنين، وقالت طائفة أخرى: هم البنات، والذي قاله مالك أصح: ٢/١٦٨، كتاب التفسير..

٢ - أحكام القرآن لابن العربي: ٣/١١٦٢. وينظر: الجامع: ١٠/١٤٣..
الآية الثامنة : قوله تعالى :﴿ ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ﴾ [ النحل : ٩١ ].
٥٦٩- يحيى : قال مالك : فأما التوكيد، فهو حلف الإنسان في الشيء الواحد مرارا، يردد فيه الأيمان يمينا بعد يمين كقوله : والله لا أنقصه من كذا وكذا، يحلف بذلك مرارا، ثلاثا أو أكثر من ذلك. قال : فكفارة ذلك كفارة واحدة. مثل كفارة اليمين. ١
قال مالك : أحسن ما سمعت في الذي يكفر عن يمينه بالكسوة. أنه، إن كسا الرجال، كساهم ثوبا ثوبا. وإن كسا النساء، كساهن ثوبين ثوبين. ذرعا٢ وخمارا٣. وذلك أدنى ما يجزي كلا في صلاته.
١ - الموطأ: ٢/٤٧٨- ٤٨٠ كتاب النذور والأيمان. وذكر ابن العربي هذا النص في أحكام القرآن، عن ابن وهب، وابن القاسم، عن مالك. وزاد بعده قائلا: "عول مالك على أنه إذا قصد الكفارة فيلزمه ما التزم، وأما إذا لم يقصد الكفارة، وإنما قصد إلى تثنية اليمين فلا يفتقر إلى كفارتين كما لو حلف بيمين واحدة على معنيين أو شيئين، فإن كفارة واحدة تجزيه": ٣/١١٧٤. ينظر: الجامع: ١٠/١٧٠..
٢ - الذرع: الزردية. النهاية: ٢/١١٤..
٣ - الخمار: هو ما تغطي به المرأة رأسها. والتخمير: التغطية. والخمر: بالتحريك: كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره والخمرة: هيأة الاختمار. النهاية: ٢/٧٧..
الآية التاسعة : قوله تعالى :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾ [ النحل : ٩٨ ].
٥٧٠- ابن العربي : قال مالك :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾، قال : وذلك بعد قراءة أم القرآن، لمن قرأ في الصلاة. ١
وقال مالك : لا يتعوذ في الفريضة، ويتعوذ في النافلة، وفي رواية : في قيام رمضان.
١ - أحكام القرآن لابن العربي: ٣/١١٧٦. وزاد ابن العربي معلقا على تفسير مالك: "ومن أغرب ما وجدناه، قول مالك في المجموعة. في تفسير هذه الآية: ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم﴾ قال: ذلك بعد قراءة أم القرآن لمن قرأ في الصلاة، وهذا قول لم يرد به أثر. ولا يعضده نظر، فإنا قد بينا حكم الآية وحقيقتها فيما تقدم، ولو كان هذا كما قال بعض الناس، إن الاستعاذة بعد القراءة لكانت تخصيص ذلك بقراءة أم القرآن في الصلاة دعوى عريضة لا تشبه أصول مالك، ولا فهمه، والله أعلم بسر هذه الرواية.
وكان مالك يقول في خاصة نفسه: ﴿سبحانك اللهم وبحمدك﴾ قبل القراءة في الصلاة. وتعلق من أخذ بظاهر المدونة بما كان في المدينة من العمل، ولم يثبت عندنا أن أحدا من أئمة الأمة ترك الاستعاذة فإنه أمر يفعل سرا، فكيف يعرف جهرا. وينظر: أحكام القرآن للجصاص: ٣/١٩١، وروح المعاني: م٥ ج١٤/٢٢٩، ولباب التأويل: ٤/١١٣..

الآية العاشرة : قوله تعالى :﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾ [ النحل : ١٠٦ ].
٥٧١- ابن عطية : قال مالك : والقيد إكراه، والسجن إكراه، والوعيد المخوف إكراه، إن لم يقع إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي وإنقاذه لما يتوعد. ١
١ -المحرر: ١٠/٢٣٦. وفي الجامع للقرطبي: "روى ابن القاسم عن مالك أن من أكره على شرب الخمر، وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان، أن الإثم عنه مرفوع" وقال أيضا: "الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسر الإيمان": ١٠/١٨٣..
الآية الحادية عشرة : قوله تعالى :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ﴾ [ النحل : ١١٢ ].
٥٧٢- ابن كثير : قال مالك عن الزهري، هذا المثل، ضرب لأهل مكة. ١
١ - تفسير القرآن العظيم: ٢/٥٩٠..
الآية الثانية عشرة : قوله تعالى :﴿ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ﴾ [ النحل : ١١٥ ].
٥٧٣- يحيى : عن مالك، أن أحسن ما سمع في الرجل، يضطر إلى الميتة : أنه يأكل منها حتى يشبع، ويتزود منها، فإن وجد عنها غنى طرحها. ١
وسئل مالك، عن الرجل يضطر إلى الميتة، أيأكل منها، وهو يجد ثمر القوم أو زرعا أو غنما بمكانه ذلك ؟.
قال مالك : إن ظن أن أهل ذلك الثمر، أو الزرع، أو الغنم، يصدقونه بضرورته، حتى لا يعد سارقا فتقطع يده، رأيت أن يأكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه، ولا يحمل منه شيئا. وذلك أحب إلي من أن يأكل الميتة. وإن هو خشي أن لا يصدقوه، وأن يعد سارقا بما أصاب من ذلك فإن أكل الميتة خير له عندي. وله في أكل الميتة على هذا الوجه سعة. مع أني أخاف أن يعدو عاد ممن لم يضطر إلى الميتة، يريد استجازة أخذ أموال الناس. وزروعهم وثمارهم بذلك بدون اضطرار. قال مالك : وهذا أحسن ما سمعت.
١ - الموطأ: ٢/٤٩٩. كتاب الصيد، باب ما جاء فيمن اضطر إلى أكل الميتة. وفي موطأ زياد: ١٦٩..
الآية الثالثة عشرة : قوله تعالى :﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام ﴾ [ النحل : ١١٦ ].
٥٧٤- ابن العربي : قال ابن وهب : قال لي مالك : لم يكن من فتيا١ المسلمين أن يقولوا : هذا حرام وهذا حلال، ولكن يقولون : إنا نكره هذا، ولم أكن لأصنع هذا فكان الناس يطيعون ذلك، ويرضون به. ٢
٥٧٥- ابن العربي : روى ابن القاسم عن مالك : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في اليوم الذي مات فيه : " لا يتكل الناس على شيء لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه، يا فاطمة بنت رسول الله، يا صفية عمة رسول الله، اعملا لما عند الله فإني لا أغني عنكما من الله شيئا ". ٣
٥٧٦- الشاطبي : قال مالك : ما شيء أشد علي، من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام ؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله، ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كان الموت أشرف عليه. ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا. ٤
١ -الفتيا: بيان حكم المسألة، التعريفات: ٣٢..
٢ -أحكام القرآن لابن العربي: ٣/١١٨٣ وزاد ابن العربي معقبا: "ومعنى هذا أن التحريم والتحليل إنما هو لله كما تقدم بيانه، فليس لأحد أن يصرح بهذا في عين من الأعيان، إلا أن يكون الباري يخبر بذلك عنه، وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول: إني أكره كذا، وكذلك كان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى.
فإن قيل: فقد قال فيمن قال لزوجته: أنت علي حرام- أنها حرام- وتكون ثلاثا، قلنا: سيأتي بيان ذلك في سورة التحريم إن شاء الله. ونقول هاهنا: إن الرجل هو الذي ألزم ذلك لنفسه فألزمه مالك ما التزم.
جواب آخر وهو أقوى، وذلك أن مالكا لما سمع علي بن أبي طالب يقول: "أنها حرام أفتى بذلك اقتداء به". وينظر: الجامع: ١٠/ ١٩٦، والموافقات: ٤/٢٨٧، وروح المعاني: م٥ ج١٤/٢٤٨، والجواهر الحسان: ٢/٣٢٥..

٣ - أحكام القرآن لابن العربي: ٣/ ١٤٣٨..
٤ - الموافقات: ٤/٢٨٧. وقد أورد الإمام الشاطبي مجموعة من المواقف للإمام مالك تتعلق بهذه المسألة نورد منها للاستفادة ما يلي:
قال الشاطبي: قال موسى بن داود: ما رأيت أحدا من العلماء أكثر أن يقول: "لا أحسن" من مالك؟ وربما سمعته يقول: ليس نبتلي بهذا الأمر، ليس هذا ببلدان، وكان يقول للرجل يسأله: اذهب حتى أنظر في أمرك، قال الراوي: فقلت: إن الفقه من باله وما رفعه الله إلا بالتقوى. وسأل رجل مالكا: عن مسألة، وذكر أنه أرسل من مسيرة ستة أشهر من المغرب فقال له: أخبر الذي أرسلك أن لا علم لي بها. قال: ومن يعلمها؟ قال: من علمه الله. وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب، فقال: ما أدري ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا، ولا سمعنا أحدا من أشياخنا تكلم فيها، ولكن تعود. فلما كان من الغد جاء وقد حمل ثقله على بغله يقوده، فقال: مسألتي! فقال: ما أدري ما هي؟ فقال الرجل: يا أبا عبد الله تركت خلفي من يقول: ليس على وجه الأرض أعلم منك، فقال مالك غير مستوحش: إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن، وسأله آخر فلم يجبه، فقال له: يا أبا عبد الله أجبني؟ فقال: ويحك تريد أتجعلني حجة بينك وبين الله، فأحتاج أنا أولا أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك.
وسئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنين وثلاثين منها: لا أدري. وسئل من العراق عن أربعين مسألة فما أجاب منها إلا في خمس وقال: قال ابن عجلان إذا أخطأ العالم "لا أدري" أصيبت مقاتله. ويروى هذا الكلام عن ابن عباس.
وقال – يعني مالكا- سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول "لا أدري" وكان يقول في أكثر ما يسأل عنه: لا أدري، قال عمر بن يزيد فقلت لمالك في ذلك، فقال: يرجع أهل الشام إلى شامهم، وأهل العراق إلى عراقهم، وأهل مصر إلى مصرهم، ثم لعلي أرجع عما أرجع أفتيهم به قال: فأخبرت الليث بذلك، فبكى وقال: مالك والله أقوى من الليث.
وسئل مرة عن نيف وعشرين مسألة، فما أجاب منها إلا في واحدة، وربما سئل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر، ويقول في الباقي: لا أدري.
وقال أبو مصعب: قال المغيرة: تعالوا نجمع كل ما بقي علينا ما نريد أن نسأل عنه مالكا. فمكثنا نجمع ذلك، وكتبناه، في قنداق ووجه به المغيرة إليه، وسأله الجواب، فأجاب في بعضه وكتب في الكثير منه: لا أدري. فقال المغيرة: يا قوم لا والله ما رفع الله هذا الرجل إلا بالتقوى من كان منكم يسأل عن هذا فيرضى أن يقول لا أدري؟
والروايات في "لا أدري" و"لا أحسن" كثيرة، حتى قيل لو شاء رجلا أن يملأ صحيفته من قول مالك، "لا أدري" لفعل قبل أن يجيب في مسألة. وقيل له: إذا قلت أنت يا أبا عبد الله لا أدري فمن يدري؟ قال: ويحك! أعرفتني؟ ومن أنا؟ وأين منزلتي حتى أدري ما لا تدرون ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر. وقال: هذا ابن عمر يقول: لا أدري فمن أنا؟ وإنما أهلك الناس العجب وصلب الرياسة، وهذا يضمحل عن قليل.
قال ابن وهب: سمعته يعيب كثرة الجواب من العالم حين يسأل. قال: وسمعته عندما يكثر عليه من السؤال يكف ويقول: حسبكم! من أكثر أخطأ. وكان يعيب كثرة ذلك": ٤/٢٨٧-٢٨٨.
وفي نفس المصدر أيضا: "قال ابن وهب: قال لي مالك: وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل يا عبد الله ما علمته فقل به ودل عليه، وما لم تعلم، فأسكت عنه، وإياك أن تتقلد للناس قلادة سوء": ٤/٣١٦-٣١٧. وينظر: فتاوي الإمام الشاطبي: ٨٠-٨١، والاعتصام: ٢/٥٥..

الآية الرابعة عشرة : قوله تعالى :﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ﴾ [ النحل : ١٢٠ ].
٥٧٧- ابن العربي : قال ابن وهب، وابن القاسم كلاهما عن مالك، قال : بلغني أن عبد الله بن مسعود قال : يرحم الله معاذ بن جبل، كان أمة قانتا١ لله، فقيل : يا أبا عبد الرحمن، إنما ذكر الله بهذا إبراهيم ! فقال ابن مسعود : إن الأمة الذي يعلم الإنسان الخير، وإن القانت هو المطيع. ٢
٥٧٨- ابن كثير : عن مالك : قال : قال ابن عمر : الأمة : الذي يعلم الناس دينهم. ٣
١ -القنوب: الطاعة، والسكوت، والدعاء، والقيام في الصلاة، والإمساك عن الكلام. القاموس..
٢ - أحكام القرآن لابن العربي: ٣/١١٨٤، وينظر: ١٠/١٩٧..
٣ - تفسير القرآن العظيم: ٢/٥٩١..
Icon