تفسير سورة النحل

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة النحل من كتاب مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير .
لمؤلفه ابن باديس . المتوفي سنة 1359 هـ

كيف تكون الدعوة إلى الله والدفاع عنها
" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.
وجادلهم بالتي هي أحسن،
إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله،
وهو أعلم بالمهتدين ".
سبيل الرسل جل جلاله :
شرع الله لعباده – بما أنزل من كتابه، وما كان من بيان رسوله – ما فيه استنارة عقولهم، وزكاء نفوسهم، واستقامة أعمالهم.
وسماه سبيلا ليلتزموه في جميع مراحل سيرهم في هذه الحياة، ليفضي بهم إلى الغاية المقصودة، وهي السعادة الأبدية في الحياة الأخرى.
وأضافه إلى نفسه، ليعلموا أنه هو وضع، وأنه لا شيء يوصل إلى رضوانه سواه.
وذكر من أسماء الرب ؛ ليعلموا أن الرب الذي خلقهم وطورهم، ولطف بهم في جميع أطوار خلقهم، ومراحل تكوينهم : هو الذي وضع لهم هذه السبيل لطفا منه بهم، وإحسانا إليهم، لينهجوها في مراحل حياتهم، فكما كان رحيما بهم في خلقه، كان رحيما بهم في شرعه فيسيروا فيها عن رغبة ومحبة فيها، ومع شكر له وشوق إليه.
وأمر نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم – أن يدعو إلى سبيل ربه وهو الأمين المعصوم فما ترك شيئا من سبيل ربه إلا دعا إليه، فعرفنا بهذا أن ما لم يدع إليه محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – فليس من سبيل الرب جل جلاله ؛ فاهتدينا بهذا – وأمثاله كثير – إلى الفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال ودعاة الله ودعاة الشيطان.
فمن دعا إلى ما دعى إليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – فهو من دعاة الله، يدعو إلى الحق والهدى، ومن دعا إلى ما لم يدع إليه محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – فهو من دعاة الشيطان يدعو إلى الباطل والضلال.
اقتداء :
فالمسلم المتبع للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم – لا يألو جهدا في الدعوة إلى كل ما عرف من سبيل ربه، وبقيام كل واحد من المسلمين بهذه الدعوة بما استطاع، تتضح السبيل للسالكين، ويعم العلم بها عند المسلمين، وتخلوا سبل الباطل على دعاتها من الشياطين.
أركان الدعوة :
أركان الدعوة أربعة :
١- الداعي، وهو النبي - صلى الله عليه وآله وسلم.
٢- والمدعو، وهم جميع الناس.
٣- والمدعو إليه، وهو سبيل الرب جل جلاله، والدعوة إلى سبيله الموصل إليه دعوة إليه، فالمدعو إليه في الحقيقة هو الله تعالى.
٤- والبيان عن الدعوة..
وتجيء الآيات القرآنية منها ما هو حديث وبيان عن الداعي. ومنها ما هو حديث وبيان عن المدعو إليه، ومنها حديث وبيان عن بيان الدعوة.
وتتضمن كل آية جاءت في واحد الذكر أو الإشارة للثلاثة الأخرى، وهذه الآية الكريمة جاءت في بيان كيفية الدعوة، وبما تؤدى ؟ وكيف يدافع عنها ؟ مع ذكر الداعي والمدعو إليه. فقال تعالى :" بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن ".
الحكمة :
( الحكمة ) : هي العلم الصحيح الثابت، المثمر للعمل المتقن المبني على ذلك العلم : فالعقائد الحقة والحقائق العلمية الراسخة في النفس رسوخا تظهر آثاره على الأقوال والأعمال – حكمة.
والأعمال المستقيمة، والكلمات الطيبة التي أثمرتها تلك العقائد – حكمة.
والأخلاق الكريمة كالحلم والأناة – وهي علم وعمل نفسي – حكمة.
والبيان عن هذا كله بالكلام الواضح الجامع – حكمة ؛ تسمية للدال باسم المدلول.
استدلال واستنتاج :
في سورة الإسراء ثمان عشرة آية، جمعت أصول الهداية، من قوله تعالى :" لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا " إلى :" لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا " ١.
وقد جمعت تلك الآيات كل ما ذكرنا من العقائد الحقة، والحقائق العلمية، والأعمال المستقيمة والكلمات الطيبة، والأخلاق الكريمة.
وسمى الله ذلك كله حكمة فقال تعالى :" ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ".
وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - :" إن من الشعر حكمة " وذلك لأن من الشعر ما فيه بيان عن عقيدة حق، أو خلق كريم، أو عمل صالح، أو علم وتجربة :
كشعر أمية بن أبي الصلت٢، الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – " كاد أن يسلم ".
وككلمة لبيد٣ رضي الله عنه :* ألا كل شيء ما خلا الله باطل *
التي قال فيها - صلى الله عليه وآله وسلم - :" أصدق كلمة قالها الشاعر٤ ".
فالحكمة التي أمر الله نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم – أن يدعو الناس إلى سبيل ربه بها، هي البيان الجامع الواضح للعقائد بأدلتها، والحقائق ببراهينها، والأخلاق الكريمة بمحاسنها، ومقابح أضدادها، والأعمال الصالحة : من أعمال القلب واللسان والجوارح بمنافعها ومضار خلافها.
وهكذا كان بيانه لهذه الأشياء كلها ؛ بما صح من أحاديثه وجوامع كلمه، وهكذا هو بيان القرآن لها كلها، حيثما كانت من آياته.
فآيات القرآن وأحاديثه - صلى الله عليه وآله وسلم – في بيان هذه الأشياء البيان المذكور – هما الحكمة التي كان يدعو إلى سبيل ربه بها.
وتلك الأشياء كلها هي أيضا حكمة وهي التي كان يعلمها كما في قوله تعالى :" ويعلمهم الكتاب والحكمة " فصلى الله عليه وآله وسلم من داع إلى الحكمة بالحكمة، ومعلم للحكمة بالحكمة.
السلوك العملي في الدعوة :
هدتنا الآية الكريمة إلى أسلوب الدعوة : وهو الحكمة، وتجلت هذه الحكمة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
فعلينا أن نلتزمها جهدنا حيثما دعونا، ونقتدي بأساليب القرآن والسنة في دعوتنا، فيما يحصل الفهم واليقين، والفقه في الدين والرغبة في العمل والدوام عليه.
وها نحن بلغ الحال بنا إلى ما بلغ إليه من الجهل بحقائق الدين، والجمود في فهمه، والإعراض عن العمل به، والفتور في العمل.
فحق على أهل الدعوة إلى الله – وخصوصا المعلمين – أن يقاوموا ما بينا من جهل وجمود وإعراض وفتور، بالتزام البيان للحقائق العلمية بأدلتها، والعقائد ببراهينها، والأخلاق بمحاسنها، والأعمال بمصالحها.
وقد وجد الأخذ بهذه الأساليب القرآنية – والحمد لله – وأخذ أثرها – بفضل الله – يظهر في الناس بقدر الأخذ بها، ويوشك أن تتجدد بذلك في المسلمين حياة إن شاء الله٥.
الموعظة الحسنة :
الوعظ والموعظة، الكلام الملين للقلب، بما فيه من ترغيب وترهيب فيحمل السامع – إذا اتعظ وقبل الوعظ، وأثر فيه – على فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه. و قد يطلق على نفس الأمر والنهي.
الاستدلال :
ففي حديث العرباض الذي رواه الترمذي وغيره :
" وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون " ٦ فقد خطب فيهم خطبة كان لها هذا الأثر في قلوبهم، فهذه حقيقة الموعظة.
وقال تعالى :" ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به "، أي : يؤمرون به. وقال تعالى :" يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا "، أي : ينهاكم.
فهذا من إطلاق الوعظ على الأمر والنهي ؛ لأن شأن الأمر والنهي أن يقترن بما يحمل على امتثاله من الترغيب والترهيب.
بماذا تكون الموعظة :
يكون الوعظ بذكر أيام الله في الأمم الخالية ؛ وباليوم الآخر، وما يتقدمه، وما يكون فيه من مواقف الخلق وعواقبهم، ومصيرهم إلى الجنة أو النار، وما في الجنة من نعيم، وما في النار من عذاب أليم. وبوعد الله وعيده، وهذه أكثر ما يكون بها الوعظ.
ويكون بغيرها كتذكير الإنسان بأحوال نفسه، ليعامل غيره بما يحب أن يعامل به، وهو من أدق فنون الوعظ وأبلغها٧، مثل قوله تعالى وقد نهى أن يقال لمن ألقى السلام لست مؤمنا - :" كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم ". وقوله تعالى – وقد أمر بالعفو والصفح :" ألا تحبون أن يغفر الله لكم، والله غفور رحيم ".
تفريق بالتمثيل :
الحكمة والموعظة :
يقول تعالى :" ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده "، هذه حكمة، ويقول تعالى :" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا "، هذه موعظة.
ويقول تعالى :" وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم "، هذه أيضا موعظة. " ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم ". هذه حكمة، " " فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم "، هذه موعظة.
" اجتنبوا قول الزور، حنفاء لله غير مشركين به "، هذه حكمة.
" ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير، أو تهوي به الريح في مكان سحيق "، هذه موعظة.
وهكذا تمتزج المواعظ الحسنة بالحكم البالغة في آيات القرآن العظيم، فتتبعها في جميع سوره وتجدها، وتدبرها تقع منها على علوم جمة، وأسرار غزيرة.
حسن الموعظة :
متى تؤثر الموعظة :
الموعظة التي تحصل المقصود منها : من ترقيق للقلوب، لحمل على الامتثال لما فيه خير الدنيا والآخرة هي الموعظة الحسنة.
وإنما يحصل المقصود منها إذا حسن لفظها ؛ بوضوح دلالته على معناها، وحسن معناها بعظيم وقعه في النفوس، فعذبت في الأسماع ؛ واستقرت في القلوب، وبلغت مبلغها من دواخل النفس البشرية، فأثارت الرغبة والرهبة، وبعثت الرجاء والخوف، بلا تقنيط من رحمة الله، ولا تأمين من مكره، وانبعثت عن إيمان ويقين، ونادت بحماس وتأثر، فتلقتها النفس من النفس، وتلقفها القلب من القلب، إلا نفسا أحاطت بها الظلمة، وقلبا عما عليه الران.
عافى الله قلوب المؤمنين.
تطبيق واستدلال :
موعظة الرسول :
كل هذا تجده في مواعظ القرآن، وفيما صح من مواعظ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.
وكان - صلى الله عليه وآله وسلم – كما جاء في الصحيح : إذا خطب، وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته، واحمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، كأنه منذر جيش يقول صبحكم، مساكم٨، وكان يقصر خطبه في بلاغة وإيجاز٩.
اهتداء واقتداء :
هدتنا الآية الكريمة بمنطوقها ومفهومها١٠ إلى أن من الموعظة ما هو حسن، وهو الذي تكون به الدعوة، ومنها ما هو ليس بحسن فيتجنب.
وبينت مواعظ القرآن، ومواعظ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – ذك الحسن.
فعلينا أن نلتزمه ؛ لأنه هو الذي تبلغ به الموعظة غايتها، وتثمر بإذن الله ثمرتها.
وعلينا أن نجتنب كل ما خالفه مما يعدم الموعظة كتعقيد ألفاظها، أو يقلبها إلى ضد المقصود منها، كذكر الآثار الواهية التي فيها أعظم الجزاء على أقل الأعمال١١.
تحذير :
خطبة الجمعة اليوم :
أكثر الخطباء في الجمعات اليوم في قطرنا يخطبون الناس بخطب معقدة، مسجعة طويلة، من مخلفات الماضي، لا يراعى فيها شيء من أحوال الحاضر وأمراض السامعين، تلقى بترنم وتلحين، أو غمغمة وتمطيط، ثم كثيرا ما تختم بالأحاديث المنكرات، أو الموضوعات١٢.
هذه حالة بدعية في شعيرة من أعظم الشعائر الإسلامية، سد بها أهلها بابا عظيما من الخير فتحه الإسلام، وعطلوا بها الوعظ والإرشاد وهو ركن عظيم من أركان الإسلام.
فحذار أيها المؤمن من أن تكون مثلهم إذا وقفت خطيبا في الناس.
وحذار من أن تترك طريقة القرآن والمواعظ النبوية إلى ما أحدثه المحدثون.
ورحم الله أبا الحسن – كرم الله وجهه – فقد قال :" الفقيه، كل الفقيه، كل الفقيه، من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من مكره، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه " ١٣.
الجدال بالتي هي أحسن :
لابد أن يجد داعية الحق معارضة من دعاة الباطل، وأن يلقى منهم مشاغبة بالتشبهات، واستطالة بالأذى والسفاهة١٤ فيضطر إلى رد باطلهم وإبطال شغب
١ نشرت في صدر هذا التفسير، في القسم الأول..
٢ هو عبد الله بن أبي ربيعة الثقفي، أدرك الإسلام ولم يسلم، وكان شاعرا مجيدا ومات سنة ٩ هـ..
٣ هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة العامري أدرك الإسلام، وأسلم وتنسك، وحفظ القرآن وهجر الشعر ومات وعمره ٣١ سنة..
٤ روى ذلك البخاري في كتاب الأدب :" باب ما يجوز من الشعر "..
٥ يشير الإمام إلى دعوة جمعية العلماء المسلمين التي أنشأها وقامت بواجب الدعوة إلى الله وكان بن باديس رئيسها حتى لحق بربه سنة ١٩٣٠ م..
٦ وجلت : خافت. وذرفت : سالت..
٧ لأن الإنسان يعنى بنفسه أول ما يعنى..
٨ صبحكم :( أغار عليكم في الصباح ). ومساكم : أغار عليكم في المساء.
.

٩ وفي هذا تعليم للخطباء المطولين طولا يمل، وينام معه السامع..
١٠ سبق تعريف المنطوق والمفهوم..
١١ وما أكثر ما نسب من هذه الآثار إلى أحاديث الرسول ( ص)، وفي هذا ضرر أكبر من النفع..
١٢ الموضوعات يعني التي وضعها الواضعون كذبا وافتراء على النبي ( ص )..
١٣ أخرجه رزين ذكر في " تيسير الوصول "..
١٤ وكم لقي بن باديس ما لقي في سبيل الدعوة، حتى أرسل إليه خصومه مجرما ليفتك به، فعفا عنه، وذهب خصومه وبقي بن باديس..
Icon