تفسير سورة النحل

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة النحل من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة النحل
سورة النحل مكية، آياتها مائة وثمان وعشرون، وقال كثير من العلماء أن الآيات الثلاث الأخيرة مدنية وهي قوله تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به... الآيات ﴾.
ابتدأت السورة بتأكيد وعيد الله تعالى للمشركين، وبيان قدرته على تنفيذه بدليل خلقه السماوات والأرض، ثم الامتنان على عباده بخلق الأنعام
وما فيها من منافع، وإنباته الزرع، وما خلق في البحر من أسماك تؤكل، وجواهر للزينة. ثم أشار إلى ما تستوجبه هذه النعم من شكره، ووجوب عبادته، وإلى افتراء المشركين على القرآن الكريم وادعاء أنه من أساطير الأولين، وإنذارهم بأن يحلّ بهم ما حل بمن قبلهم من العذاب. ثم ذكر سبحانه إنكار المشركين للبعث ولجاجتهم في الإنكار، واحتجاج المشركين بعدم الحاجة إلى إرسال الرسل، وبيّن أن وظيفة الرسل البلاغ والإنذار لا خلق الهداية والإيمان. وأجمل دعوة الأنبياء بأنها عبادة الله واجتناب الطاغوت. فمن الناس من استجاب لدعوتهم، ومنهم من حقّت عليهم الضلالة.
ثم أورد إنكار المشركين للبعث والنشور وحلفهم على ذلك. وعطف إلى إنكارهم رسالة محمد وبعثه وأنه رجل لا ملك. فكذبهم الله بأن الأنبياء جميعا كانوا رجالا لا ملائكة. ثم أكد إنذار المشركين بعذاب الخسف، وذكّر أنهم جعلوا الملائكة بنات مع حزنهم إذا بشر أحدهم بالأنثى. كذلك بين الله رحمته بعبادة وعدم مؤاخذتهم بذنوبهم، وأنه لو آخذهم لما ترك على ظهر الأرض دابة، وعدّد بعض نعمه الكثيرة عليهم، ومنها إنزال اللبن من بين الفرث والدم، وما خلقه من ثمرات من النخيل والأعناب، والعسل والنخل.
وبعد ذلك ضرب الأمثال لقدرته، ومنها خلق السمع والبصر وتسخير الطير في جو السماء. كذلك أنه جعل لهم البيوت سكنا، ومكنهم أن يتخذوا سرابيل تقيهم الحر وبأس العدو. كما جعل الأنبياء شهداء على أممهم، وأمر عباده بالعدل والإحسان وصلة الأرحام، وبالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، كما أمرهم بالوفاء بالعهود وضرب الأمثال على ذلك. ثم وجّه سبحانه وتعالى الأنظار إلى عظم المخلوقات الدالة بدورها على عظمة الخالق، وكيف قابل المشركون هذا الفضل العميم.
وبعد أن بيّن مطالب الإسلام في كل فضيلة أشار إلى إعجاز القرآن، وكفر المشركين به وافترائهم عليه، ثم أشار إلى حال هؤلاء يوم القيامة، وبيّن كيف كانوا يحلون ويحرمون من غير حجة، كما فعل اليهود أيضا. وجاء على ذكر إبراهيم فمدحه بصفات لم يوصف بها نبي غيره، وأمر النبي محمدا صلى الله عليه وسلم باتباعه وسلوك طريقته.
فالسورة مملوءة حافلة، موضوعاتها الرئيسية متنوعة، والعرض فيها هادئ رصين، يرد في تناسق ملحوظ بين الصور والعبارات، والقضايا والموضوعات. وتختم السورة بهذه الآية اللطيفة المبشرة :﴿ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ﴾.
بسم الله الرحمان الرحيم

أتى أمر الله : دنا وقرب. أمر الله : وعده وحكمه.
كان مشركو مكةَ يستعجلون الرسولَ عليه الصلاة والسلام أن يأتيهم بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فجاء مطلعُ هذه السورة حاسماً :﴿ أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوه ﴾.
وقد تحقَّقَ هذا الوعيدُ بأن أهلك الله عدداً من صناديِدهم في هذه الدنيا ونصر رسولَه والمؤمنين، ولَعذابُ الآخرة أشدّ، وهو واقعٌ لا ريب فيه. تَنَزَّه الله عن أن يكون له شريك يُعبد دونه.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«تشركون » بالتاء، والباقون «يشركون » بالياء كما هي في المصحف.
الروح : الوحي.
أنذروا : خوفوا.
بعد أن تبرّأَ سبحانه من الشريك، بيّن أنه تعالى وحدَه يعرف أسرار هذا الكون، وأنه يُنَزّلُ ملائكتَه بالوحي الذي يُحيي القلوبَ على من يريد من عبادِه الذين يصطفيهم، لِيُعلِّموا الناس، ويُنذِروهم بأنَّ إله الخلْق واحدٌ
لا اله إلا هو، فاحذَروا، وأخلِصوا له العبادة، والتزِموا بالتقوى والإيمان.
قراءات :
قرأ الكسائي عن أبي بكر :«تنزيل الملائكة » بفتح التاء والنون والزاي المشددة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو :«ينزل » بضم الياء وكسر الزاي من أنزل. والباقون :«ينزل » بضم الياء وكسر الزاي المشددة.
بعد أن بيَّن الله أنه تنزَّه عن الشريك، وأنه هو الخالقُ الواحد، وأمر الناسَ بتقواه وإخلاص العبادة له، أخذَ في عرضِ أدلَّة التوحيد، والآياتِ الدالّة على النِعمة عرضاً لطيفاً هادئا.
خلَق الله العاَلَم العُلويَّ والسفليَّ بما حوى بالحق على نهجٍ تقتضيه الحكمة، لم يخلقْه عَبَثا، وقد تنزَّه عن أن يكونَ له شريكٌ يتصرَّفُ في مُلكِه، أو يستحقّ أن يُعبد مثله، تعالى عن شِركهم، وتعالى عما يشركون.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«تشركون » بالتاء.
خصيم : مخاصم.
ما أعجبَ هذا الإنسان الذي خلقه اللهُ من مادة لا تُرى بالعين المجرَّدة، فإذا به إنسانٌ قويٌّ مخاصِم مجادِل، إن هذا الكون كلّه عجيب، وأعجبُ ما فيه هذا الإنسان.
الأنعام : الإبل والبقر والمعز والغنم.
الدفء : ما يدفئ الإنسان من ثياب وغيرها.
المنافع : ما يفيد الإنسان منها من ركوب وحرث ولبن.
وقد تفضَّل اللهُ عليكم بأن خَلَقَ لكم الإبلَ والبقرَ والغنمَ والمَعز لتتّخِذوا من أصوافها وأوبارِها وأشعارِها وجلودها ما تحتاجون إليه في حياتكم، وتشربون من ألبانِها، وتأكلون من لحومها.
وجمال : زينة.
تريحون : تردونها من المرعى إلى مَراحِلها بعد رعيها.
تسرحون : تخرجونها صباحا إلى مراعيها.
ولكم في هذه الأنعام بهجةٌ وسرور عندما ترجع من مرعاها وهي مُقْبِلَةٌ مساءً ملأى البطون، حافلةَ الضروع، رائعةً سمينة، وحين تُخرِجونها صباحاً إلى المرعى، فإن منظَرَها يسرُّ الناظرين. وهذا يبدو لأهلِ الريفِ والبدو، ولا يدركه أهل المدينة.
الأثقال : الأمتعة.
بشق الأنفس : بمشقة وتعب.
وبعضُ هذه الأنعامِ كانت من وسائل المواصلات ولا تزال كذلك في كثيرٍ من البلدان، تحمل أمتعتكم الثقيلة وتوصلُكم إلى بلدٍ لم تكونوا تستطيعون الوصولَ إليه بدونها إلاّ بكلّ مشقّةٍ وتعب.
إن ربّكم الذي هَيَّأ لكم كلَّ هذه النعم وجعلها لراحتكم لهو رؤوف بكم واسع الرحمة لكم.
وخلَق لكم الخيل والبغالَ والحمير أيضاَ لتركبوها، وهي بالإضافة إلى الإبلِ كانت وسائلَ النقل، وزينةً لكم. وهذه اللفتةُ لها قيمتُها في بيان نظرة القرآنِ والإسلام للحياة، فإن الجَمالَ عنصرٌ أصيل في هذه النظرة، وليست النعمةُ مجردَ تلبيةِ الضرورات من طعام وشرابٍ وركوب،
بل هناك ما يُدْخلُ السرورَ على الإنسان، ويلبيّ حاسَّةَ الجَمال ووِجدان الفرحِ والشعورِ بالجمال.
ومع أن هذه الوسائلَ أصبحت قديمة، فإن كثيراً من الناس لا يزالُ يربِّي الخيلَ والإبلَ ويُسَرُّ فيها صباح مساء، ولا تزال في كثير من البلدان فرقٌ كاملة من الفرسان والهجّانة في الجيشِ، وهي من أجملِ الأشياء التي يحبُّها الإنسان.
﴿ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾.
وهذا من عَظمة القرآنِ حيثُ أشار إلى ما يجدُّ من وسائل النقل، وستجدُّ وسائل كثيرة لا نعلمها نحن في الوقت الحاضر. والقرآن الكريم دائماً يهيّئ القلوبَ والأذهان بلا جمود ولا تحجُّر.
ولحومُ الخيل محرَّمةٌ عند أبي حنيفة، وحلالٌ عند مالكٍ والشافعيِّ وابن حنبل، أما لحومُ البغال والحمير فهي محرَّمة عند أبي حنيفة والشافعيّ وابنِ حنبل، ومكروهةٌ عند مالِك، وجميعُها حلال عند الشِّيعة الإمامية مع الكراهة.
قصد السبيل : الطريق المستقيم.
جائز : مائل، منحرف.
وعلى اللهِ بيانُ الطريقِ المستقيم يوصلكم إلى الخير.
ومن الطرق ما هو جائز منحرفٌ لا يُوصلُ إلى الحق، وعلى الله بيانُ ذلك ليهتدي إليه الناس.
ثم أخبر سبحانه أن الهداية والضلال بقدرته ومشيئته فقال :
﴿ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾.
ولو شاءَ هدايتكم جميعاً لهداكم، لكنّه شاء أن يخلُقَ الإنسانَ مستعدّاً للهدى والضلال وأن يدعَ لإرادته اختيار الطريق.
تسيمون : ترعون الماشية، تجعلونها ترعى النبات.
بعد أن ذكر اللهُ نعمته على الناس بتسخير الدوابّ والأنعام، شرع يَذْكُر نعمتَه عليهم بإنزال المطرِ والخلْق وتسخير الكونِ كلّه لهذا الإنسان.
إن الذي خلقَ لكم الأنعام والخيلَ وسائرَ البهائم لمنافِعِكم ومصالحِكم هو الذي أنزلَ المطر من المساءِ عذباً زلالاً تشربون منه وتسقون الشَجر والنبات. وهذا الشجرُ والنبات هو الذي تجعلون أنعامكم ترعاه وتمدّكم باللّبن واللّحم والأصواف والأوبارِ والأشعار والجلود.
إن هذا الماء ينزله اللهُ من السماء بقدْرته فيحيي به الأرضَ وينبتُ لكم زرعكم المختلفَ من جميع أنواع الثمرات ويجعله رِزقاً لكم ونعمةً منه عليكم، وحجةً على من كفر به.
إن فيما ذُكر من الآيات الداّلة على قدرة الله وما فيها من نعم لا تحصى لأدلّةً وحُجَجَاً لقومٍ لهم عقول تفكّر، بها يدركون حكمة الله، ويفهمونها حق الفهم.
قراءات :
قرأ أبو بكر :«ننبت لكم » بالنون، والباقون :«ينبت لكم » بالياء.
ومن نعمه تعالى عليكم أن جعل لكم الليلَ مهَّيئاً لراحتكم، والنهارَ جعله مناسباً لِسعيكم وحركتكم وأعمالكم، والشمس تمدّكم بالدفء والضوءِ، والقمرَ لتعرفوا به عددَ السنين والحساب، والنجوم مسخَّرات بأمر الله لتهتدوا بها في أسفاركم في ظُلمات البرّ والبحر.
إن في كلّ هذه النعمِ والدلائل لآياتٍ لقوم لهم عقول تدرك وتتدبّر
ما وراء هذه الظواهر من قدرة.
ذرأ : خلق.
﴿ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ﴾.
ومن نعمه التي لا تُحصى عليكم ما خلقَ لكم في الأرضِ من أنواعِ الحيوان والنبات والجماد، وجعل في جوفها من المعادن المختلفة الألوانِ والأشكال، وجعلَ كلَّ ذلك لمنافِعِكم، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ إن في ذلك كله لأدلة واضحة لقوم يذكرون ولا ينسون. ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب ﴾ [ البقرة : ٢٦٩ ].
قرأ حفص :«والنجوم مسخرات » بالرفع. وقرأ ابن عامر :«والشمس والقمر والنجوم مسخرات » بالرفع. والباقون «والشمس والقمر والنجوم مسخرات » كلها بالنصب.
سخر البحر : ذلله الله وجعله في خدمتكم.
مواخر : جمع ماخرة : جارية فيه، مخر الماء شقه.
ومن هذه النعمِ الكبرى نعمةُ البحر وما فيه من أنواع الحيوان، فإن الله تعالى جعل هذا كلَّه للإنسان ليأكل منه ذلك اللحمّ الطريَّ الشهيّ، ويستخرجَ من جوفه أنواعَ اللؤلؤ والمرجان حِليةً جميلة تلبَسونها أيها الناس، وتتحلَّوْن بها.
وترى أيُّها الناظرُ، تلك السفنَ تمخر عبابَ الماء وتشقّه.. كلّ ذلك في خِدمتكم، سخَّره الّلهُ لكم أيها الناسُ، لتنتَفِعوا بما فيه، وتطلبوا من فضلِ الله الرزقَ عن طريق التجارة وغيرها، فلْتشكروا اللهَ على ما هيَّأ لكم وأنعمَ به عليكم.
الرواسي : الجبال.
أن تميد بكم : أن تميل وتضطرب.
وسبلا : طرقا.
وجعل في الأرض جبالاً ثابتة حتى لا تميل بكم وتضطربَ بما عليها.
وجعل في هذه الأرضِ أنهاراً تجري فيها المياهُ الصالحة للشرُّب والزرع، وجعلَ فيها طُرُقاً ممهَّدة لتهتدوا بها في السَّير إلى مقاصدكم.
وعلامات : إشارات، ومعالم يستدل الإنسان بها.
وجعل لكم في هذا الكون علامات ودلائل يهتدي بها الساري ويسترشد في أثناء سيره ليلا بالنجوم التي أودعها الله في السماء
بعد أن بين الله الدلائل على وجود الإله القادر، الذي خلق هذا الكون على أحسن نظام، وأن جميع ما في هذا اكون في خدمة الإنسان، أخذ هنا يرد على المشركين ويبطل شركهم وعبادتهم غير الله من الأصنام والأوثان، وأنهم عاجزون لا يستطيعون أن يخلقوا شيئا.
أفمن يخلق كل هذه الأشياء التي مر ذكرها و غيرها كمن لا يخلق شيئا لا كثيرا و لاصغيرا، أتعمون أيها المشركون، عن آثار قدرة الله فلا تعتبروا وتشكروا الله عليها ؟
ثم بعد أن نبّههم سبحانه إلى عظَمته وقدرته، ذكَّر الناسَ بنعمه عليهم وإحسانه فقال :
﴿ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
إنْ تحاولوا عدَّ نِعم الله عليكم فلن تستطيعوا إحصاءَها لكثرتها... وأكثرُ النعمٍ لا يدري بها الإنسانُ لأنه يألفُها فلا يشعر بها إلى حينَ يفتقدها.
إن الله لغفورٌ، يستُرُ عليكم تقصيركم في القيام بشكرها، رحيم بكم يُفيض عليكم نعمه.
لا يخفى عليه شيء من سركم وجهركم.
إن هذه الأوثانَ التي تبعدونها من دونِ الله لا تخلق شيئاً بل هي مخلوقة، فيكف يكونُ إلهاً ما يكون مصنوعاً بالأيدي ! !
أيان يبعثون : متى يبعثون.
وهم ﴿ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾.
إنها جماداتٌ ميتة لا حِسَّ لها ولا حركة، ولا تسمع ولا تُبصر
ولا تعقل، وما تدري هذه الأصنامُ متى تكون القيامة والبعث للناس،
فلا يَليقُ بكم أيّها العقلاء، بعدَ هذا أن تظنوا أنها تنفعكم فتُشرِكوها مع الله في العبادة.
ولما أبطل اللهُ عبادة الأصنام وبيّن فساد مذهب المشركين، بيَّن أنه الإله الواحد الخالقُ المدبِّر.
إن الإله الذي تجبُ عبادته هو الله الواحدُ الخالق لا شريك له، أما الذين لا يؤمنون بالعبث والحساب فإنّ قلوبَهم مغلَقَةٌ منكِرة لوحدانيته،
وهم مستكبِرون لا يريدون التسليمَ بالبراهين الواضحة، ولا يؤمنون بالرسول الكريم.
لا جرم : لا بد. ولا محالة وتأتي بمعنى القسم : حقا.
وبعد أن ذكر الأسبابَ التي لأجلِها أصرَّ الكفار على الشِرك وإنكارِ التوحيد، ذَكَرَ هنا وعيدهم على أعمالهم فقال :
حقاً إن الله يعلم ما يسر هؤلاء المشركون، ويعلم ما يعلنون من كفرهم وافترائهم عليه. ﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين ﴾ عن سماع الحق والخضوع له.
وفي الحديث الصحيح :«لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كِبْر ». وفي حديث صحيح آخر «إن المتكبرين أمثال الذر يوم القيامة، تطؤهم القيامة، تطؤهم الناس بأقدامهم لتكبّرهم ».
أساطير الأولين : أباطيل وخرافات السابقين من الأمم.
بعد أن ذكر الله تعالى دلائلَ التوحيد والبراهين الواضحة على بطلان عبادةٍ الأصنام وعدَّدَ نِعمه على عبادِه وما سخَّره في هذا الكون للإنسان، أردفَ ذلك بذِكر شبُهات من أنكروا النبوة والجواب عنها فقال :
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾.
كان كفار قريش وزعماؤهم يخشون أن يأتيَ الناسُ ويجتمعوا بالرسولِ الكريم عليه الصلاةُ والسلام ويقولون : إن محمداً رجلٌ حلو اللسان، إذا كلّمه أحدٌ ذهب بعقله. وكانوا يرقبون الطرقَ المؤدّيةَ إلى مكة حتى يمنعوا من يأتي قاصداً الرسولَ الكريم ويصدّوه، كما يفترون على الرسول عليه الصلاة والسلام أقوالاً مختلفة، فتارةً يقولون إنه ساحر، وأخرى إنه شاعرٌ إنه كاهن الخ، وما هذا الّذي يأتي به إلا أباطيل الأُمم السابقة وخرافاتها يتلوها على الناس.
وكل هذه الأمور الّتي يأتونها من نوعِ الدعاية يدبِّرونها حتى يتفادوا الإيمان بالنبيّ الكريم ولكنّ اللهَ هزمهم ونَصَرَ رسوله والمؤمنين.
الأوزار : الآثام واحدها وزر.
ساء ما يزرون : بئس ما يعملون من آثام.
إنما عمِلوا ما عملوا وتقولَّوا الكذبَ ليصدُّوا الناسَ عن اتِّباع رسول الله، ولتكون عاقبتهم أنهم يتحملون آثامَهم وآثام الذين غرَّروا بهم وأضلُّوهم فاتَّبعوهم على جهلٍ وبغير علم.
﴿ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ بئس ما يرتكبونه من الإثمِ والذنوب.
فأتى الله بنيانهم من القواعد : هدمها من الأساس.
فخر عليهم السقف : سقط عليهم.
ثم بين لهم أن عاقبة مكرِهم عائدة إليهم، كدأْب مَن قبلَهم من الأمم السابقة الذين أصابهم من العذاب ما أصابهم بتكذيب رسلهم،
إن الذين من قبلهم من الأمم السابقة قد مكروا برسلهم وكذّبوهم ودبروا لهم المكايد، فأبطل الله كيدَهم ودمر بلادهم وهدمها من الأساس، فانهارت البيوت وخرَّت سقوفها على أصحابها، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون.
والله سبحانه سوف لا يُنجيهم من العذاب في الآخرة، بل لهم عذابٌ أشد وأعظم.
يسألهم الله تعالى يوم القيامة على سبيل الخِزي والاستهزاء بهم ويقول لهم : أين الذين اتخذتموهم شركاءَ لي في العبادة، وكنتم تحاربونني ورسُلي في سبيلهم ؟ أين هم حتى ينصروكم ويمدوا لكم يد العون ؟ فلا يستطيعون جوابا.
وحينئذ يقول الذين يعلمون الحقّ من الأنبياء والمؤمنين والملائكة إن الذل والخزيَ والهوانَ اليوم على الكافرين المكذبين.
قراءات :
قرأ نافع :«تشاقونِ » بكسر النون. والباقون «تشاقونَ » بفتحها.
فألقوا السلم : استسلموا.
ثم يبيّن أن الكافرين الذين يستحقون هذا العذاب هم الذين استمروا على كفرهم إلى أن تتوفاهم الملائكة وهم ظالمون.
ماذا يفعلُون في ذلك الموقف المخزي ؟.
إنهم استسلموا لَمّا عاينوا العذابَ قائلين : ما كنّا نشرك بربّنا أحداً،
ولكنّ الله يكذّبهم بقوله :
﴿ بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
إن الله لا يَخفى عليه شيء، وهو على علمٍ بما كنتم تكفرون وتكذبون.
قراءات :
قرأ حمزة :«الذين يتوفاهم » بالياء. والباقون بالتاء.
مثوى المتكبرين : مكان إقامتهم.
ثم بين الله تعالى مصيرهم المحتوم، فقال :
إن مصيركم جهنمُ فادخلوها من أبوابها المتعددة، وذوقوا ألواناً من العذاب خالدين فيها أبداً، وبئس المقامُ والمثوى لمن كان متكبراً عن اتّباع الرسل والاهتداء بما أُنزل عليهم من آيات.
بعد أن بين الله أحوالَ المكذبين وما ينالهم في الدنيا والآخرة، ذكر هنا وصف المؤمنين وثقتَهم بالله ورسوله، وما أعدّ لهم من الخير والسعادة في جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ جزاء إيمانهم وإحسانهم.
وقيل للذين آمنوا بالله واتقوا : ما الذي أنزلَه ربُّكم على رسوله ؟ قالوا : أَنزل عليه القرآن فيه خيرُ الدنيا والآخرة للناس جميعا، فكانوا بذلك من المحسنين. والله تعالى وعد بأن يكافئ المحسنين بحياة طيبة، وفي الآخرة لهم الجنةُ بما أحسنوا.
لنِعم الدارُ التي يقيم فيها المتقون، جناتُ عدْن تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ولهم فيها ما يريدون من النعيم. ومثل هذا الجزاء الأوفى يجزي الله الذين اتقوه.
وفي هذا حثٌّ للمؤمنين على الاستمرار على التقوى، ولغيرِهم على تحصيلها.
هؤلاء المتقون تقبض الملائكة أرواحَهم طيبين، طاهرين من دَنس الشِرك والمعاصي، وتستقبلهم الملائكة بقولهم : سلام عليكم، ادخلوا الجنة بما قدّمتم من أعمال صالحة في دنياكم ولن يصيبكم بعدَ اليوم مكروه.
أخرج ابن جرير والبيهقي عن محمد بن القرظي قال :( إذا أشرفَ المؤمن على الموت جاءه ملَك فقال : السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام، وبشرّه بالجنة ).
ينظرون : ينتظرون.
أمر ربك : حكم ربك فيهم.
ثم يعود الكلام عن المشركين من قريش : ماذا ينتظرون، بعد عنادهم وكفرهم وتكذيبهم للرسول الكريم عليه صلواتُ الله وسلامه ؟ وجزاءُ كفرهم وتكبّرهم النارُ وبئس القرار.
ماذا ينتظر كفار مكة الذين قالوا إن القرآن أساطيرُ الأولين غير أن تأتيَهم الملائكة لتبقض أرواحهم، أو يأتي أمر الله بالعذاب المهلك. وهم ليسوا بأول من كذّب الرسل، فقد فعل مثلَهم الذين من قبلهم من الأمم وحلّ بهم العذاب، وما ظَلمهم اللهُ في ذلك، فقد أنذرهم بواسطة الرسل، وإنزاله الكتب، ولكنْ ظلموا أنفسَهم بمخالفة الرسل وتكذيبهم ما جاؤا به.
حاق بهم : أحاط بهم.
ثم أعقب الله ذلك بذكر ما ترتب على أعمالهم فقال :
﴿ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾.
لهذا نزلت بهم عقوبةٌ من الله جزاءَ ما عملوا من سيئات، وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به.
لقد تكرر هذا القول من المشركين، وهم يريدون بقولهم هذا أن الله سبحانه أراد أن يشرِكوا ورضَي بذلك. وهذه مغالطةٌ وحجّة باطلة يستندون عليها من كفرهم.
وقد رد الله عليهم شُبْهَتَهم هذه بقوله :
﴿ كذلك فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ ومثل هذا الفعل الشنيع فعلَ مَن قبلَهم من الأمم. ثم بيّن خطأهم فيما يقولون ويفعلون فقال :
﴿ فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين ؟ ﴾.
هذه هي مهمة الرسل... إبلاغُ الناس رسالاتِ ربهم وإنذارُهم، وليس عليهم هداهم.
فالله لا يريد لعباده الشِرك، ولا يرضى لهم أن يحرِّموا ما أحلَّه لهم من الطيبات، وإرادتُه ظاهرة منصوص عليها في شرائعه، وإنما شاءت إرادة الله أن يخلقَ البشرَ باستعداد للهدى والضلال، وأن يدعَ مشيئتهم حرةً في اختيار أي الطريقين. لذا منحهم العقل يرجّحون به أحدَ الاتجاهين، وبَعَثَ الرسُلَ منذِرين ومبشّرين.
ثم بين الله تعالى أن بعثة الرسل أمرٌ جرت به السنّة الإلهية في الأمم كلها، وجُعلت سبباً لهُدى من أراد اللهُ هدايته، وزيادةِ ضلالِ من أراد ضلاله، كالغذاء الصالح ينفع الصحيح السليم، ويضر بعض المرضى.
الطاغوت : كل ما عُبد من دون الله من شيطان وكاهن وصنم، وكل من دعا إلى ضلالة.
حقت عليه : وجبت عليه.
واجتنبوا عبادة مَن دونَه مما لا ينفع ولا يضر، ففريقٌ استمع إلى الرسول واهتدى، وفريق أعرضَ عن سماع الحق فحق عليه العذاب. وإذا كنتم في شكّ أيها المشركون، فسيروا في الأرض قريبا منكم، فانظروا ما حلّ بالمكذّبين من عاد وثمود وقوم لوط، وكيف كانت عاقبة أمرهم لعلّكم تعتبرون بما حل بهم.
فالقرآن الكريم ينفي بهذا النصِّ، وَهْمَ الإجبارالذي لوَّح به المشركون، والذي يستند إليه كثير من المنحرفين. والعقيدةُ الإسلامية عقيدةٌ واضحة، فالله يأمر عبادَه بالخير وينهاهم عن الشر، ويعاقب المذنبين أحيانا في الدنيا، وعقابُ الآخرة لا شكَّ فيه، ويثيب المؤمنين المتقين.
ثم خاطب الله رسوله الكريم مسلّياً له عما يراه من جحود قومه وشديد إعراضهم، مع حدَبه عليهم وعظيم رغبته في إيمانهم، ومبيّنا له أن الأمر بيدِ الله. فقال :
إن تكن حريصا أيها النبي، على هداية المشركين من قومك فلن ينفعهم حرصك، لأنهم قد تحكّمت في نفوسهم الشهوات والكِبْرُ والعناد، وليس لهم يومَ القيامة ناصر ينصرهم من عذاب الله.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة :«لا يهدي بفتح الياء وكسر الدال. والباقون :«لا يهدى » بضم الياء وفتح الدال.
جهد إيمانهم : أشد إيمانهم، أي بالغوا في الإيمان.
لقد أقسمَ المشركون أشدّ أيمانهم وأكدوا بأن الله لا يبعث من يموت. وكانت قضيةُ البعث بعد الموت هي المشكلة الكبرى عند المشركين... لقد غفلوا عن معجزة الحياة الأولى، مع أن الله الذي أوجد الإنسانَ من العدم قادر على أن يبعثه بعد الموت. لذلك ردّ الله عليكم وكذبهم فقال :
بلى إن الله سيبعث الخلقَ بعد الموت، قد وعد بذلك وعدا حقا لا بد منه، ولن يُخلف اللهُ وعدَه، ولكن أكثر الناس لجهلهم لا يعلمون حكمة الله في خلق هذا العالم.
ثم ذكر سبحانه الحكمة في المعاد، وقيامِ الأجساد يوم القيامة فقال :
إن من عدْل الله في خلقه أن يبعثهم جميعاً بعد موتهم، ليبين لهم حقائق الأمور التي اختلفوا فيها، فيعلم المؤمنون أنهم على حق، ويعلم الكافرون كذبهم في دعواهم إن الله لا يبعث من يموت.
ثم أخبر عن كامل قدرته، وأنه لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء فقال :
إننا إذا أردْنا شيئا فإنما نقول له كن فيكون، والبعث شيء من هذه الأمور يتم عندما نريد. ﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [ لقمان : ٢٩ ].
قراءات :
قرأ الكسائي وابن عامر :«فيكون » بنصب النون. والباقون بالرفع.
لنبوئنهم : نُسكنهم، ونعطيهم.
ثم جاء العرض للجانب المقابل للمنكرين، فذكر لمحةً عن المؤمنين الذين حملهم إيمانُهم على الهجرة في سبيل الله، فقال :
والمؤمنون الذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم وهاجروا إلى بلاد غريبة عنهم وتحمّلوا التعب احتساباً لأجر الله، وإخلاصاً لعقيدتهم من بعدِ ما وقع عليهم الظلم والعذاب، سنعوّضهم عن ذلك مساكنَ طيبةً في الدنيا وسيكون أجرُهم يوم القيامة أكبرَ ونعيمهم في الجنة أعظم.
ثم وصف أولئك المهاجرين بقوله :﴿ الذين صَبَرُوا وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ سينالون أعظم الأجرِ عند الله في الدنيا والآخرة.
أهل الذكر : أهل العلم.
أنكر كفارُ قريش بعثة الرسول الكريم، وقالوا : اللهُ أعظمُ من أن يكون رسوله بشراً. فردّ الله تعالى عليهم مبيناً أنه لم يرسِل الرسل إلا رجالاً من بني آدم، مؤيَّدين بالوحي، وأنه لم يرسل ملائكةً وخلقا آخر. فاسألوا أهل العلم بالكتب السابقة، إن كنتم لا تعلمون ذلك.
البينات : المعجزات.
الزبر : الكتب، مفردها زبور. زبرت الكتاب : كتبته.
وقد أيَّدنا هؤلاء الرسل بالمعجزات والدلائل المبينّة لصدقهم، وأنزلنا إليك أيها النبي، القرآنَ لتبين للناس ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام، وتدعوهم إلى التدبر فيه، ولعلّهم يتفكرون في آيات الله، ويتدبرون القرآن ويدركون أسراره وأهدافه، ويعلمون أنه أُنزل لخيرهم ومصلحتهم.
المكر : السعي بالفساد خفية.
ثم حذّرهم وخوفهم مغبّة ما هم فيه من العصيان والكفر فقال :
أفأمِن الذين مكروا برسول الله وحاولوا صدَّ أصحابه عن الإيمان بالله أن يصيبهم بعقوبة من عنده.
١- إما بأن يخسف بهم الأرض ويبيدهم من صفحة الوجود كما فعل بقارونَ وغيره.
٢- أو بأن يأتيهم بعذابٍ من السماء فجأة من حيث لا يشعرون كما فعل بقوم لوط.
في تقلبهم : في سيرهم وسعيهم وتصرفهم.
أو يأخذَهم بعقوبة وهم في أعمالهم أو أسفارِهم يكدحون في الأرض.
على تخوف : على تنقص.
أو يهلكهم بنقصِ أموالهم أو بنقص أنفسِهم رويداً وهم في كل لحظة في عذاب من الخوف منه والترقب لوقوعه، فلا تتمادوا أيها المشركون وتغتروا بتأخير عقوبتكم، فإن الله سبحانه رؤوف رحيم، ورحمة الله واسعة شاملة.
يتفيأ ظلاله : يعود ويرجع.
داخرون : صاغرون.
أَغَفلَ هؤلاء الناس عن آيات الله حولهم، ولم يروا ما خلقه من الأشياء القائمة تنتقل ظلالها، وتمتد تارة يمينا وتارة شمالا، وكل ذلك خاضع لأمر الله منقاد لإحكام تدبيره والكل ساجد لله وهم صاغرون.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وخلف :«ألم تروا » بالتاء والباقون بالياء.
وللهِ وحده يخضع وينقادُ جميع ما خلقه في السماوات، وما يدبّ على الأرض ويمشي على ظهرها من مخلوقات، وفي مقدِّمتهم الملائكةُ يخضعون له ولا يستكبرون عن طاعته.
وهنا موضعُ سجدة.
من فوقهم : بالقهر والغلبة وهي كناية عن قدرة الله.
وكل هؤلاء الذين مر ذكرهم يخافون ربهم القاهر، ويفعلون ما يأمرهم به.
يحذّر الله تعالى من الشِرك به، ويقرر وحده الإله، إنما الله الإله واحد فلا تعبدوا معه إلهاً آخر، وخافوني ولا تخافوا غيري.
الواصب : الدائم.
ثم بين أنه هو المالك لهذا الكون، وأن الدين له والطاعة فقال :
إن الله هو المالك الواحد لا شريكَ له في شيءٍ من ذلك، وله الطاعةُ والإخلاص دائما، فتحرروا أيها الناس، من عبادة سواه، وأخلصوا له العبادة.. أفبعدَ أن علمتم هذا ترهبونَ غيرَ الله، وتخافون سواه ؟
تجأرون : تتضرعون، جأر : رفع صوته بالدعاء والاستغاثة.
إن كل ما لديكم من نِعم في أبدانكم من صحة وعافية وسلامة، وفي أموالكم، لهي هبة الله، فبيده الخيرُ وهو على كل شيءٍ قدير، إنه هو الملجَأ الوحيد لكم، فإذا لحِقَكم ما يضرُّكم، فإليه تتضرعون بالدُّعاء أن يكشفه عنكم.
ثم إذا استجابَ لدعائكم، ورفع عنكم ما أصابكم من الضرر، وفرَّج البلاءَ عنكم، إذا جماعة منكم ينسَون ربهم ويجعلون له شركاء، ويعبدون غيره.
ذلك يحدث من بعضهم ؛ إذ ينكرون فضلَ خالقهم، ويكفرون بنعمه التي لا تحصى، ولذلك هدّدهم وتوعدهم بقوله :﴿ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ : تمتّعوا في هذه الحياة الدنيا، فسوف تعلمون عاقبة كفرهم.
تفترون : تكذبون.
بعد أن بين الله أقوال المشركين، أردف هنا بذكر قبائح أفعالهم، فقال :
ويجعل المشركون لآلهتهم التي لا عِلْمَ لها ؛ لأنها جماد، شيئاً من أموالهم يتقربون به إليها. وقد مر في سورة الأنعام، قوله تعالى :﴿ وَجَعَلُوا للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً ﴾ [ الأنعام : ١٣٦ ].
﴿ تالله لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ﴾.
هَذا قسَمٌ من الله عظيمٌ، فيه تهديدٌ ووعيد على كذبهم وافترائهم، وأن اللهَ سوف يسألهم عن هذا الكذب.
وهذا أيضاً من افترائهم، حيث جعلوا الملائكة الذين هم عبادُ الرحمن بناتِ الله، فنسبوا إليه الولد، وهو لم يلدْ ولم يولد. سبحانه تنزّه عن إفكهم. ﴿ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾، يختارون لأنفسِهم الذكور، ويأنفون من البنات. وهذا جهلٌ كبير، والحياة تنشأ من الذكر والأنثى، فالأنثى أصيلة في نظام الحياة أصالةَ الذكر، بل ربما كانت أشدَّ أصالةً ؛ لأنها المستقر، فكيف يأنفون من الأنثى ونظام الحياة يقوم على وجود الزوجين ! !
كظيم : ممتلئ غيظا وغما.
ثم أشار إلى شدة كراهيتهم للإناث،
فإذا أُخبر أحدُهم بأنه وُلدت له أنثى، اسودَّ وجهه من الغم والغيظ.
يتوارى : يستخفي.
على هون : على ذل.
يدسه في التراب : يخفيه في التراب، وهو وأد البنات.
حاول الاختفاء عن أعين الناس، وبات بين أمرين : إما أن يبقيها على قيد الحياة مع ما يلحقُه من الذل في زعمه، وإما أن يدفنَها في التراب.. بئسَ ما قالوا، وبئسَ حُكمهم، الذي ينسِبون فيه إلى الله ما يكرهون أن يُنسَب إليهم.
مثل السوء : الصفة السيئة.
المثل الأعلى : الصفة العليا.
للذين لا يصدّقون بالمعاد والثواب والعقاب، صفةُ السوءِ، وله تعالى الصفةُ العليا، تنزَّه عن الولد، وله العزّة والحكمة، وجميعُ صفات الجلال والكمال.
أجل مسمى : يوم القيامة.
لما حكى الله عن المشركين عظيمَ كفرهم وقبيح أفعالِهم، بيّن هنا عِلمه بخلْقه مع ظلمهم، وأنه يُمهلهم بالعقوبة إظهاراً لفضله ورحمته.
لو أن الله يؤاخذ الكفارَ والعصاة بذنوبهم، ويعاجلُهم بعقوباتهم واستحقاقِ جناياتهم، لما ترك على وجه الأرض أحداً ممن يستحقّ ذلك من الظالمين، وإنما يؤخرهم تفضُّلاً منه ليراجعوا التوبة، ولكن يؤخرهم إلى أجَلٍ سمّاه وعيّنه لهم.
فإذا جاء الوقت الذي عيّنه، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون. وقد تقدم في سورة الأعراف ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [ ٣٣ ].
ما يكرهون : البنات.
تصف ألسنتهم الكذب : يكذبون.
لا جرم : حقا.
مفرطون : بفتح الراء، معجل بهم. ومفرطون بكسر الراء : متجاوزون الحد. ومفرطون بكسر الراء المشددة : مقصرون، وقرئ بالثلاثة كما سيأتي.
وينسب هؤلاء المشركون إلى اللهِ ما يكرهون لأنفسهم من البنات، وتنطق ألسنتُهم بالكذِب ؛ إذ يزعمون أنّهم سيدخُلون الجنة. ورُوي أنهم قالوا : إن كان محمدٌ صادقاً في البعث، فإنّ لنا الجنة، فردّ عليهم مقالهم بقوله :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ ﴾، حقا، ولا شك أنّ لهم جهنّم، وأنّهم إليها معجَّلون.
قراءات :
قرأ نافع :«مفرِطون »، بكسر الراء، وقرأ أبو جعفر :«مفرِّطون »، بكسر الراء المشددة. والباقون :«مفرَطون »، بفتح الراء، كما هو في المصحف.
ثم بيّن الله أن هذا الصنيع الذي صدرَ من قريشٍ، قد حدث مثلُه من الأمم السابقة في حق أنبيائهم، فقال مسلّياً رسولَه الكريم على ما كان يناله من الغم بسبب جهالاتهم وعنادِهم.
يُقسم الله تعالى بأنه أرسل رسُلاً من قبلك أيها الرسول، إلى أُمم سابقة، فحسَّن لهم الشيطانُ الكفرَ فاتّبعوه وكذّبوا رسلَهم، فهو متولي أمورهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار الأليم.
القرآن هو الفاصل بين الناس فيما يتنازعون فيه، وهو الهادي إلى سبيل الرشاد لجميع الخلْق، وما أنزلنا عليك هذا القرآن إلا لتبيِّن به للناس أجمعين الحقَّ فيما اختلفوا فيه، ولتهديَهم إلى الصراط المستقيم.
هذه الآية من الحجج الدالّةِ على توحيد الله، وقد ذُكرت في سورة البقرة : ٢٢ و ١٦٤، والأنعام ٩٩، وسورة الرعد ١٩، وسورة إبراهيم ٣٢، وفي سورة النحل هذه ١٠.
الأنعام : يطلق على الجمع ويذكر، ولذلك قال هنا :﴿ مما في بطونه ﴾، وفي سورة المؤمنين :﴿ ونسقيكم مما في بطونها ﴾، بالتأنيث «الآية ٢١ »، من بين فرث ودم.
الفرث : ما يبقى في كرش الحيوان من بقايا الأكل.
سائغا : سهل المرور في الحلق.
إن لكم أيها الناسُ، في الأنعام من الإبلِ والبقر والغنَم، لموعظة دالّة على قدرة الخالق ؛ إذ يُخرج اللبنَ السائغ اللذيذ الطعم من بين الفرْث والدم، فالعشبُ الذي يأكله الحيوان يتولَّد من الماء والتراب، فهذا الطينُ يصير نباتا وعشباً، ثم يأكله الحيوانُ فيتحول إلى لبنٍ سائغ للشاربين... وفي هذا كلِّه أكبرُ وأعظمُ دليل على قدرة الخالق سبحانه.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب :«نسقيكم » بفتح النون، والباقون :«نسقيكم » بضمها والمعنى واحد، سقاهُ وأسقاه.
تتخذون منه سكرا : خمرا.
ورزقا حسنا : كل ما يستخلص من الثمرات من أنواع المربى وغيره.
ومن هذه النِعم التي أنعم اللهُ بها عليكم ما تتخذون من العنب والتمر، فتصنعون منه خَمْرا، ( وكان هذا في مكةَ وقبل تحريم الخمر )، ورزقاً حسنَاً من الثمار، وما تعملون منه من شراب ومربَّى وغير ذلك. وفي هذه آية دالة على قدْرة الله ورحمته لكم، لعلّكم تسمعون فتعقلون.
يعرشون : بضم الراء وكسرها. يرفعون العرائش من الكروم وغيرها.
وألهَمَ اللهُ النحل أسبابَ حياتها، ووسائلَ معيشتها، فهي تتَّخِذ بيوتاً في كهوف الجبال، وفي الشجر، وفي عرائشِ الكرم وغيرها.
ومن يرى خليَّةَ النحل وما فيها من نظامٍ وتدبير وهندسة بيوتٍ يجد العَجَبَ في هذه القدرةِ الفائقة والترتيب العجيب. وقد كُتب في ذلك مؤلفاتٌ عديدة، فالخليّة مملكة قائمةٌ بذاتها، لها ملكة واحدة، وعددٌ كبير من الشغّالين، منهم من يطعم الملكة التي تبيض لهم، ومنهم من يخدم الصغار ويربيهم، ومنهم من يحرس الخلية، ومنهم من يصنع العسلَ والشمع الذي تُبنى منه البيوتُ السداسية الشكل، العجيبةُ في الدقة والصنع.
قراءات :
قرأ أبو بكر وابن عامر :«يعرُشون »، بضم الراء. و الباقون :«يعرِشون »، بكسر الراء.
ذللا : مفردها ذلول : الطائع المنقاد.
ثم هداها الله للأكل من جميع أنواع الثمرات والنبات، وأن تسلكَ الطرق التي هيأها لها الله. وبعد أن تتغذى من شتّى أنواع الثمار، تهضم ذلك كلَّه، ثم يخرج من بطونها شراب مختلف الألوان، جعل الله فيه شفاءً عظيما للناس، وغذاءً لا مثيل له. وميزة العسل أنه يُستعمل غذاء ودواء. وقد أُلفت فيه مؤلفاتٌ عديدة، وكان العسل هو الوسيلةَ للتحلية من أقدم العصور إلى أن صار السكّر سلعةً تجارية هامة. وكما قلتُ : إن عسل النحل مغذّ ويمتصه الجسم بسهولة، وينتفع به، ويحتوي على ٧٠ - ٨٠% سكراً، والبقية ماء، وأملاح معدنية، وآثار من البروتين والأحماض، ومواد أخرى.
أرذل العمر : أخسه، وهو الهرم مع فقدان الذاكرة ؛ لأن كثيرا من المعمرين يبلغون مرحلة كبيرة في السن ويبقون بصحة وذاكرة جيدة.
بعد أن ذكر الله عجائب أحوال ما ذكر من النبات والماء والأنعام والنحل، أشار هنا إلى بعض عجائب أحوال البشَر، من أول عُمر الإنسان إلى آخره، وتطوراته فيما بين ذلك.
إن الله خلقكم أيها الناس، ولم تكونوا شيئا، ثم قدّر لكم آجالاً مختلفة، منكم من يتوفّاه مبكِّرا، ومنك من يهرَم ويصير إلى أرذل العمر فتنقص قواه، ويكون في عقله وقوّتِه كالطِفل، فتكون عاقبته أن يفقدَ ذاكرته ولا يعود يعلم شيئا، حتى إنه لا يستطيع التمييز بين أهله وأولاده وأقربائه، ( وقد رأينا أناساً بهذه الحالة ). إن الله عليم بأسرار خلقه، قادر على كل شيء.
ما ملكت إيمانكم : العبيد.
ثم بعد أن ذكَر اللهُ تفاوتَ الناس في الأعمال ذكر تفاوتَهم في الأرزاق فقال :
والله جعلكم متفاوتين في أرزاقكم، فمنكم الغنيُّ ومنكم الفقير، فما الذين فُضِّلوا بالرزق وأعطاهم الله المالَ الكثير بمعطين قِسماً من أموالهم لعبيدهم المملوكين لهم حتى يصيروا مشاركين لهم في الرزق ومساوين لهم، مع أنهم إخوانُهم وبشرٌ مثلهم وهم أعوانهم. فما بالكم أيها المشركون بالله، وهو الذي خَلَقَكم ورزقكم وأنعم عليكم ! كيف تجحدون بنعمة الله وتشركون به غيره.
قراءات :
قرأ أبو بكر :«تجحدون »، بالتاء. والباقون بالياء.
حفدة : جمع حفيد، ابن الابن وابن البنت. فلا تضربوا لله الأمثال : لا تجعلوا له أشباها ونظائر.
ثم ذكر ضرباً آخر من ضروب نِعمه على عباده تنبيهاً إلى جليل إنعامه بها ؛ إذ هي زينةُ الحياة فقال : واللهُ أنعمَ عليكم نِعماً لا تحصى، منها أن خلَق لكم أزواجاً لتسكُنوا إليها، وأكبر نعمةٍ على الإنسان هي الزوجةُ الصالحة، فهي جنّةُ البيت. وجعل لكم من أزواجكم بنينَ وأبناءَ البنين والبنات، كما رزقكم من الأرزاق الطيبة التي تنعَمون بها، وهذه من زينة الحياة الدنيا.
أبعدَ كل هذه النِعم، وكل هذه الدلائل البينة يُشركون بالله، ويكفرون بهذه النعم ! !
ومع كل هذِه النعم التي أنعم الله بها عليهم فإنهم يعبدون الأصنامَ التي لا تملِك شيئا، ولا تستطيع أن ترزقَهم أيَّ رزقٍ، سواء كان هذا الرزقُ آتياً من السماء كالماء، أم من الأرض كالنبات والشجر.
لا تجعلوا لله مَثَلاً، ولا تشبّهوه بخلْقِه، ولا تعبدوا غيره، فإنه لا شبيه له ولا مثيل :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير ﴾ [ الشورى : ١٠ ].
بعد أن بين الله دلائل التوحيد البيانَ الشافي، وبيّن بعض نِعمه على عباده، ضرب هنا مثَلين يؤكد بهما إبطالَ عبادة الأصنام والشرك.
المثل الأول : عبد مملوك لا يقدِر على شيء، ورجل حر كريم غنيٌّ كثير الإنفاق سِراً وجهرا، ﴿ هَلْ يَسْتَوُونَ ﴾، هل يجوز أن يكونا سواءً في الكفاية والمقدرة ! ! وعلى هذا، فكيف يجوز أن يُسوَّى بين الله القادر الرازق، وبين الأصنام التي لا تملك شيئاً ولا تقدر على النفع والضرر ! ! ﴿ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، إن الثناء كلَّه والحمد لله، وإن أكثر هؤلاء لا يعلمون، فيضيفون نعمه إلى غيره، ويعبدون من دونه. والتعبير بقوله :«هل يستوون » بالجمع، ولم يقل : هل يستويان ؛ لأنه أراد النوع، يعني : هل يستوي العبيد والأحرار ؟.
أبكم : أخرس.
كَلٌّ : عاجز، كأنه حمل ثقيل على غيره فهو لا يستطيع أن يعمل شيئا. الساعة : القيامة.
والمثل الثاني : مثل رجلَين أحدُهما أبكم عاجزٌ لا يقدِر على عمل شيء، وأينما توجَّه لا يأتي بخير، والثاني فصيحٌ قوي السمع، يأمر بالحق والعدل، وهو مستقيم مؤمن مخلص، هل يستويان ؟ ولذلك لا يجوز مساواة الجماد برب العباد.
ولله عِلم ما غاب عن أبصاركم في هذا الكون، وما أمرُ مجيء يوم القيامة وبعث الناس عند الله إلا كردّ الطرف، بل أسرعُ من ذلك، إن الله قادر على كل شيء، ولا أحدَ يملك معه شيئا.
﴿ والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
وهذه المنن التي يذكرها ربُّنا يَعْرِض فيها مثلاً من حياة البشر تعجِز عنه قُواهم، ويعجز عنه تصوُّرُهم، وهو يقع كل يوم. إن الله تعالى يُخرجكم أيها الناس من بطون أمهاتكم لا تدرِكون شيئاً مما يحيط بكم، ثم أعطاكم السمعَ والبصرَ والأفئدة. وقد ثبت للباحثين اليومَ أن حاسّة السمع تبدأ مبكرة جدّاً في حياة الطفل، في الأسابيع القليلة الأولى، أما البصر فيبدأ في الشهر الثالث، ولا يتم تركيز الإبصار إلا بعدَ الشهر السادس، وأما الفؤاد : وهو الإدراك والتمييز- فلا يتم إلا بعد ذلك. وهكذا فالترتيبُ الذي جاء به القرآن هو ترتيبُ ممارسة الحواس.
وهذه الأجهزة : السمع والبصر والأفئدة، في الإنسان من أعجب العجب في تركيبها وعملها وأداء وظيفتها، ومن أكبرِ الأدلة على وجود الخالق القدير، وهي وسائل للعلم والإدراك، لتؤمنوا بالله، وتشكروه على ما تفضل عليكم.
في جو السماء : الجو : الفضاء ما بين السماء والأرض.
ثم بعد ذلك نبّه عبادَه إلى دليلٍ آخر من آثار القدرة الإلهية يراها الناس كلَّ يوم فلا يتدبرونها، فقال :﴿ أَلَمْ يَرَوْا إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السماء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾، ألم ينظر المشركون إلى الطير سابحاتٍ في الهواء، بما زوّدها الله به من أجنحةٍ أوسعَ من جسمِها تبسطها وتقبضها، وسخّر الهواء لها، فما يمسكهن في الجو إلا الله بالنظامِ الذي خلَقها عليه، إن في النظر إليها والاعتبار بحكمة الله في خلْقها، لدلالةً عظيمة ينتفع بها المؤمنون.
ولقد اخترع الإنسان الطائرة وغيرها مما تطير في الفضاء، وقد انتفع بالطير وآلاته، وأنه لَعملٌ جبّار ولكنه لا يزال غير أمين، ولا تزال تحفّ بالراكبين الأخطار، كما جعلوا القسم الأكبر منها للحرب والتدمير.
قراءات :
قرأ ابن عامر وحمزة وخلف ويعقوب :«ألم تروا »، بالتاء. والباقون بالياء.
سكنا : مسكنا.
يوم ظعنكم : وقت ترحالكم وتنقلكم وسفركم.
الأثاث : فرش البيت.
متاعا : ما يتمتع وينتفع به في المتجر والمعاش.
ومن نِعمه تعالى عليكم أن جعلكم قادرين على إنشاء بيوت لكم تتخذونها مساكن لكم فيها وتطمئنون فيها بأمنٍ وسلام، وجعل لكم من جلودِ الأنعام بيوتاً تسكنون فيها، وتنقلونها بخفّةٍ وسرعة في أسفاركم وتنقّلكم، كما تتخذون من صوفها ووبرها وشعرها فُرُشا ولباساً تتمتعون بها في هذه الدنيا إلى حين آجالكم.
قراءات :
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو :«يوم ظعنكم » : بفتح العين. والباقون : بتسكينها.
ظلالا : ما يستظل به.
أكنانا : واحدها كن، وهو كل ما يقي الحر كالبيت والكهف وغيره. سرابيل : واحدها سربال وهو القميص أو الثوب. وسرابيل الحرب : الدروع.
البأس : الشدة عند الحرب.
ومن نعمه تعالى عليكم أن جعل لكم من الأشجار وغيرِها ظِلالاً تقيكم شرّ الحر والبرد، وجعل لكم من الجبال مواضعَ تسكنون فيها، وجعل لكم ثياباُ تقيكم الحرَّ والبرد، ودروعاً من الحديد تصونكم من قَسوة الحرب، كما جعل لكم هذه الأشياءَ فهو الآن يتم نعمتَه عليكم بالدِّين القيم، ﴿ لعلكم تُسلمون ﴾، وتُخلصون عبادتكم له دون غيره.
وبعد أن عدّد ما أنعم به عليهم من النعم، ذكر ما يتَّبع معهم إذا أصرّوا على عنادهم فقال : فإن أعرضوا وتولوا عنك أيها النبي، فلا تَبِعَةَ عليك في إعراضهم، فما عليك إلا التبليغ الواضحُ، وحسْبُك ذلك، وعلينا نحن حسابهم.
إنهم يعرفون أن هذه النعم كلَّها من الله، ولكنهم ينكرونها بكفرهم وعنادهم، وإن أكثرَهم لجاحدون نعم الله كافرون بها.
الأمة : الجيل من الناس.
شهيدا : شاهدا.
لا يستعتبون : لا يقبل عذرهم.
ويوم القيامة نحشرُ الناسَ ونأتي من كل أمةٍ بشهيدٍ يشهد لها أو عليها بما قابلت رسولها، ويومئذ لا يُسمع من الكافرين أيُّ قول، لا يُقبل لهم اعتذار. وذلك كما قال تعالى :﴿ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٥-٣٦ ].
ولا هم ينظرون : لا يؤخرون.
ويوم القيامة إذا رأى الظالمون عذابَ النار، وطلبوا أن يخفَّف عنهم، لا يجابُ طلبُهم، ولا يؤخرون عن دخول جهنم.
فألقوا إليهم القول : يعني : أن شركاءهم الذين كانوا يعبدونهم كذبوهم.
ثم أخبر الله عن محاولة المشركين إلقاءَ تبعة أعمالِهم على آلهتهم التي عبدوها، وردَّ آلهتهم عليهم فقال : وإذا رأى الذين أشركوا آلهتَهم التي عبدوها قالوا : يا ربنا هؤلاء الذين كنا نعبُدهم مخطئين، فخفّف عنا العذابَ بإلقاء بعضِه عليهم.
فيجيبهم شركاؤهم قائلين :﴿ فَألْقَوا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾. فردّوا عليهم قولَهم، وقالوا : إنكم لكاذبون في دعواكم أنّنا شركاء لكم في الإثم، وإنكم لما عبدتمونا، إنما عبدتُم أهواءكم.
السلم : الاستسلام.
واستسلموا إلى الله خاضعين، ولم يجدوا من ينصرهم، وخاب ظنهم بمعبوداتهم وما كانوا يفترون على الله الكذب.
إن الذين كفروا، ومنعوا غيرهم عن الإيمان بالله، زدْناهم عذاباً فوق العذاب الذي استحقّوه بالكفر، بسبب ما كانوا يعملون من الفساد وإضلال غيرهم من الناس، فلهُم على ذلك عذابٌ مضاعف.
تبيانا : بيانا.
ثم يخاطب الله رسولَه الكريمَ بهذه الآية المبشرة للمؤمنين.
اذكر أيها الرسول، يومَ القيامة يوم يبعث الله نبيَّ كلِ أمةٍ شاهداً عليهم، ونجيء بك شاهداً على هؤلاء الذين كذّبوك.
ولقد أنزلْنا عليك القرآن يبيّن للناس كلّ شيءٍ من الحق وما يحتاجون إليه، وفيه الهدايةُ والرحمة والبشرى للذين أسلموا وآمنوا بك وصدقوك.
العدل : الإنصاف، والاستقامة وإعطاء كل ذي حق حقه.
إن الله يأمر عبادَه بالعدل في أقوالهم وأفعالهم، والإحسان إلى الناس والتفضُّل عليهم ومساعدتهم، ويأمر بصِلَة الأقارب والأرحام، وإعطائهم ما يحتاجون إليه لدعم روابط المحبة بين الأُسَر، وينهى عن إتيان الفواحش والغلو في تحصيل الشهوات، كما ينهى عن الظلم والاعتداء على الغير.. واللهُ سبحانه يذكّركم بهذا أيها الناس، ويوجّهكم إلى الخير لعلكم تتذكرون فضله.
أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : دعاني عمر ابن عبد العزيز فقال لي : صف العدل، فقلت بخٍ، سألتَ عن أمرٍ جسيم، كن لصغير الناس أباً، ولكبيرهم ابناً، وللمِثْل أخاً، وللنساءِ كذلك، وعاقبِ الناس قدْر ذنوبهم، ولا تضرِبنّ لغضبك سوطا واحداً فتكون من العادين.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : أجمعُ آية في كتاب الله للخير والبعد عن الشر قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان.... ﴾.
رواه البخاري وابن جرير وابن المنذر.
العهد : كل ما يتلزمه الإنسان باختياره.
ولا تنقضوا الأيمان : لا تحنثوا بها.
كفيلا : ضامنا.
أوفوا أيها المؤمنون، بالعهود التي تعطُونها على أنفسكم، ولا تنقضوا الأيمان بالحنْثِ فيها بعدٍ عقدِها، وقد جعلتم الله كفيلاً عليكم بالأيمان التي حلفتموها، إن الله رقيبٌ ومطلع عليكم، فكونوا عند عهودكم وأيمانكم.
أنكاثا : واحدها نكث، بمعنى منكوث، منقوض.
دخلا بينكم : مكرا وخديعة.
أربى : أكثر.
لقد شدّد الإسلام على الوفاء بالعهود، ولم يتسامح فيها أبدا، لأنها قاعدةُ الثقة التي ينفرط بدونها عقدُ الجماعة، ولذلك أكد هنا بضربِ هذا المثل، بالمرأة الحمقاء التي تفتِلُ غَزْلَها، ثم تنقضُه من بعد أن يكون قد اكتمل، متخذين أيمانكم وسيلةً للمكرِ والخداع، وتنوون الغدر بمن عاقدتم، لأنكم أكثرُ وأقوى منهم.
إنما يختبركم الله، فإن آثرتُم الوفاءَ كان لكم الغُنم في الدنيا والآخرة، وإن اتجهتم إلى الغدر كان الخسران، وليبيّنَ لكم يوم القيامة حقيقة ما كنتم تختلفون عليه في الدنيا، ويجازيكم حسب أعمالكم.
وهاتان الآيتان تدلان على أساس العلاقات بين المسلمين وغيرهم، مع العدالة والوفاء بالعهد، وإن العلاقات الدولية لا تنظَّم إلا بالوفاء بالعهود، وإن الدول الإسلامية إذا عقدت عهداً فإنما تعقده باسم الله، فهو يتضمن يمين الله وكفالته، وفيهما ثلاثة معان لو نفَّذتها الدولُ لساد السلم في العالم.
أولها : إنه لا يصح أن تكون المعاهدات سبيلاً للخديعة وإلا كانت غشّاً، والغش غير جائز في الإسلام في العلاقات الإنسانية، سواء كانت بين الأفراد أو الجماعات والدول.
ثانيها : إن الوفاء بالعهد قوةٌ في ذاته، وإن من ينقض عهده يكون كمن نقض ما بناه من أسباب القوة، مثلَ تلك الحمقاء التي نقضت غَزْلها بعد أن أحكمته.
ثالثها : إنه لا يصح أن يكون الباعث على نكث العهد الرغبة في القوة أو الزيادة في رقعة الأرض أو نحو ذلك، كما تفعل إسرائيل، وكانت من ورائها بريطانيا، واليوم أمريكا.
هذه المبادئ لم تكن معمولاً بها قبل الإسلام، وقد رأينا دولاً عظمى لم تفِ بالعهد وكذبت في عهودها، فبدّد الله شملَها وعادت من الدول الفقيرة الحقيرة.
ولو شاء الله لجعل الناس على دين واحد، ولكنه خلقهم متفاوتين بالاستعداد، وجعل نواميس للهدى والضلال، وشاء أن تختلفوا في الأجناس والألوان، ولكّلٍ اختيارٌ أُوتيه بحسب استعداده، وكلٌّ مسؤول عما يعمل، فلا يكون الاختلاف في العقيدة سببا في نقض العهود. وهذه قمة في صدق التعامل والسماحة الدينية، لم يحققها في واقع الحياة إلا الإسلام.
أن تزل قدم بعد ثبوتها : أن تقعوا في المحن والخطايا.
يؤكد الله تعالى على التمسّك بالعهود والأيمان، والمحافظة عليها، ويحذّر من نقضها واتخاذها سبيلاً للمكر والخديعة والتغرير بالناس، رجاء منفعة دنيوية زائلة. وفي هذه الآيات تهديد ووعيد لمن ترك الحق إلى الباطل، والهدى إلى الضلال.
ثم أكد هذا التحذير : لا تغرَّنَّكم الدنيا فتؤْثِروا منافعكم الخاصة بنقض العهود، فإنّ متاعَ الدنيا قليل زائل، مهما كان كثيراً، وإن ما عند الله من جزيل الأجر والثواب هو خيرٌ لكم من ذلك العَرَض القليل إن كنتم من ذوي العقول الراجحة.
ما عندكم ينفد : ينتهي ولا يبقى.
﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾.
إن كل ما عندكم زائل لا يبقى، وما عند الله من نعيم الآخرة خالد لا ينقطع، وسوف نكافئ الذين صبروا على مشاق التكليف بما وعدناهم، بثوابٍ أحسن بكثير مما كانوا يعملون.. ينعمون به دائما في جنات عدن.
قراءات :
قرأ ابن كثير وعاصم :«ولنجزين »، بالنون، والباقون :«وليجزين »، بالياء.
ثم رغّب في المثابرة على أداء الطاعات والواجبات الدينية.
في هذه الآيات الكريمة حَضٌّ على العمل الصالح لجميع الناس ذكورا وإناثا، وأن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه طيبة في هذه الدنيا، يحيا فيها مطمئنا في رعاية الله وعند الله في الآخرة له الجزاء الأوفى، والنصيب العظيم من الأجر والثواب. وقد كرر الله قوله :﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، للترغيب في العمل الصالح.
فإذا قرأت القرآن : فإذا أردت أن تقرأ القرآن.
هنا يرشدنا الله تعالى إلى أن الذي يحمي النفس من كل شر هو القرآن الكريم، فإذا أردت أيها المؤمن أن تقرأ القرآنَ فاستعذْ بالله من الشيطان الرجيم، وبذلك تفوز بطيب الحياة في الدارَين.
السلطان : التسلط.
إذا فعلت أيها المؤمن، ما أمرك الله مخلصاً، حماك الله من الشيطان ؛ لأنه لا تأثير له على الذين آمنوا بصدق، وعلى ربهم يتوكلون، وإليه بقلوبهم يتوجهون.
يتولونه : يطيعونه.
أما الفريق الثاني الذين يجعلون الشيطان وليَّهم، ويستسلمون له بشهواتهم ونزواتهم، فهم الذين عناهم بقوله :﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾.
يعني : أنهم أشركوا بسبب طاعتهم للشيطان وليِّ أمرهم، وبسبب إغوائه لهم بالله جلّ جلاله.
وإذا بدلنا آية مكان آية : غيرنا ونسخنا مكانها آية.
وإذا نسخنا حكم آية، فأبدلنا مكانه حكم آية أخرى، ( والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدل، وهذا دليل على مرونة الشرع الإسلامي، فقد تستدعي الحكمة والمصلحة أن يشرع الله حكما لعباده لأمد معين، فيفعل، حتى إذا انتهى الأمد واقتضت المصلحة التغيير شرع غيره مكانه ) قال المشركون : إنما أنت متقوِّل على الله تأمر بشيء ثم تنهى عنه، وإن أكثرهم جاهلون لا يعلمون الحقائق.
روح القدس : جبريل.
ثم بين الله لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ، الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله، وأن رسول الله قد افتراه فقال :﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق لِيُثَبِّتَ الذين آمَنُواْ وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ وهذا رد واضح من الله تعالى بأنه هو الذي أنزل هذا القرآن من عنده ؛ تثبيتا للمؤمنين، وليكون هاديا للناس إلى الصواب، ومبشرا بالنعيم المقيم للمسلمين.
يلحدون إليه : يميلون إليه.
الأعجمي : من كان غير عربي.
وإنا لنلعم أن هؤلاء المشركين يقولون افتراء، إن رجلا من البشر يعلم محمدا هذا الذي يتلوه عليكم. وهذا الذي يزعمون هو عبد رومي كان يقرأ التوراة بلغة أعجمية. فلسان الذي يقولون عنه أعجمي لا يفصح، والقرآن لسان عربي مبين واضح، تحداكم به أكثر من مرة، ولم تستطيعوا أن تأتوا بآية من مثله.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«يلحدون »، بفتح الياء والحاء. والباقون :«يلحدون »، بضم الياء وكسر الحاء، وهما لغتان : لحد، وألحد.
ثم توعدهم الله على ما قالوا بالعقاب في الدنيا والآخرة فقال : إن الذين أصروا على كفرهم، ولم يؤمنوا بأن هذه الآيات من عند الله، لا يهديهم الله، وفي الآخرة لهم عذاب أليم.
ولا يفتري الكذب على الله إلا الذين كفروا وجحدوا ألوهيته، وأولئك وحدهم هم الكاذبون.
أكره : غصب بالضغط.
من شرح بالكفر صدرا : اعتقد الكفر من طيب نفس.
إن الذين يكفرون بعد أن دخلوا الإسلام وآمنوا عليهم غضبُ الله، ويستثنى من ذلك من أُكره على الكفر بالضغط والتعذيب ونطق بالكفر ولكنه مؤمن إيماناً صادقاً، فلا لوم عليه. وقد كان كفار قريش يعذّبون الضعفاء من المسلمين الذين ليسوا من قريش، مثل عمار بن ياسر وأبويه، وبلال وغيرهم، ويجبرونهم على النطق بكلمة الكفر، فإذا لم يفعلوا قتلوهم، فنزلت الآية تجيز لهم النطقَ بكلمة الكفر ظاهرا ليتخلصوا من عذاب المشركين، ولا تثريبَ عليهم.
أما الذين كفروا طائعين مختارين، فغضب الله عليهم ولهم عذاب عظيم في الآخرة.
هؤلاء الذين كفروا طوعا، وأصروا على الشرك، إنّما آثروا الحياة الدنيا وزينتها على نعيم الآخرة، والله لا يوفق من يشرك به ويجحد آياته.
إنّ الذين اتصفوا بما تقدم، هم الّذين طبع اللهُ على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فأغلقَها عن الحق، فلا يؤمنون ولا يهتدون.
لا جرم : حقا، لاشك.
لا شك بأنهم هم الخاسرون لكل خير في الدنيا والآخرة، ولا خسرانَ أعظمُ من غضب الله.
ثم اعلمْ أيها النبي، أن ربك ناصرٌ الذين هاجروا من مكة فراراً بدينهم، وبأنفسهم من عذاب المشركين، ثم جاهدوا وصبروا على مشاق التكاليف، إن ربك من بعد ما تحمّلوا ذلك لغفورٌ لما حصل منهم، رحيم بهم فلا يؤاخذُهم على ما أُكرهوا عليه... الآية كما يظهر من لفظها تعم جميع الذين اضطهِدوا وعذَّبوا من ضعفاء المسلمين.
ويوم القيامة يأتي كل إنسان لا يهمه إلا نفسه والدافع عنها، وينسى كل شيء من مال ووالد وولد، والله تعالى يومئذ يوفّي كل نفس جزاءَ ما كسبت من أعمال، ولا يظلم ربك أحدا.
رغدا : كثيرا واسعا.
بأنعم الله : بنعم الله.
في هذه الآية مثلٌ يضربه الله لأهل مكة، ولكل من يأتي بعدهم ممن يجحدون النعم ويكفرون بها وهم آمنون مطمئنون ولا يعتبرون، فبين الله صفةً لقريةٍ كان أهلُها آمنين من العدو، يأتيها الرزق الكثير من كل مكان، فكفروا بنعم الله ولم يشكروه، فعاقبهم الله بالمصائب التي أحاطت بهم، وذاقوا مرارة الجوع والخوف بعد الغنى والأمن.
وقد جاءهم رسول منهم، فكذّبوه عناداً وحسدا، فأخذهم العذاب واستأصل شأفتهم، بسبب ظلمهم وكفرهم.
فهذا المثل ينطبق على أهل مكة حيث كانوا آمنين مطمئنين، فيها بيتُ الله الحرام، وجميع العرب يعظّمونه، ومَن دخَلَه كان آمنا لا يجرؤ أحد على إيذائه، وكان الناس يصِلهم الأذى من حولهم، وأهلُ مكة في حراسة البيت وحمايته آمنون مطمئنون، كذلك كان رِزقهم يأتيهم من كل مكان مع الحجيج والقوافل منذ دعوة إبراهيم الخليل.
وجاءهم رسول منهم يعرفونه صادقاً أميناً يدعوهم إلى ما فيه كل الخير لهم وللناس أجمعين فكذّبوه، فأذهب اللهُ هيبتهم، ونصر رسوله عليهم، وعادت مكة إلى حظيرة الإسلام.
بعد أن بين الله حال الجاحدين بنعمة الله وكيف عاقبهم، يقول للمؤمنين : إذا كان المشركون يكفرون بنعم الله فيبدّلها بؤساً وعذابا، فكلوا
ما رزقكم الله من الحلال، واشكروه على ما أنعم عليكم إن كنتم تعبدونه بإخلاص.
وبعد أن أمرهم بالأكل من الحلال الطيب بيّن ما حرم عليهم، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة، وفي الآية ٤ من سورة المائدة بأوسع من ذلك.
ولا تحللوا أو تحرموا كذباً وزورا دون استناد إلى دليل، لتفتروا الكذب على الله. ثم أوعد المفترين وهددهم أشد التهديد فقال :
إن الذين يختلقون الكذب على الله من عند أنفسهم لا يفوزون بخير ولا فلاح.
ثم بين أن ما يحصل لهم من المنافع بالافتراء على الله ليس شيئا مذكورا إذا قيس بالضرر ا لذي يحصل منه فقال :
إن ما يحصلون عليه من الفوائد بسبب جرأتهم وكذبهم شيء قليل من المنافع يتمتعون به، ولهم في الآخرة عذاب شديد.
في هذه الآية إشارة إلى ما تقدم في سورة النساء :﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ.... ﴾ [ النساء : ١٦٠ ]، وما ظلمناهم بتحريم ذلك عليهم، ولكن ظلموا أنفسَهم بمعصيتهم لربهم وتجاوزِهم حدوده.
ثم بين الله تعالى أن الافتراء على الله، وانتهاك حرماته لا يمنع من التوبة التي يتقبلها الله منهم، ويغفر لهم رحمة منه وتفضلا، إن الله تعالى غفور رحيم :﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة ﴾ [ الأنعام : ٥٤ ]، فمن تاب وأصلح فإنه يغفر له، وباب التوبة عنده مفتوح دائما للخاطئين.
أمة : إماما، والأمة : الرجل الجامع لخصال الخير.
قانتا : مطيعا.
حنيفا : مائلا عن الباطل، مستقيما.
بعد أن بين ما حرم على اليهود خاصة، وكان مشركو قريش يدعون أنهم على ملة إبراهيم فيما يحرمونه على أنفسهم ويجعلونه لآلهتهم، يبين الله تعالى هنا حقيقة دين إبراهيم ثم بعد ذلك يأمر الرسول الكريم باتباعه.
إن إبراهيم كان إماماً جامعاً لكل الفضائل، مطيعاً لله متبعاً للحق، ولم يكن من المشركين، وكان موحِّداً ليس يهودياً ولا نصرانياً.
اجتباه : اختاره واصطفاه.
شاكرا لنعمة ربه، الذي اختاره للنبوة، وهداه إلى الحق.
وحبّبه إلى جميع الناس، فجميعُ أهل الأديان يعترفون به وهو في الآخرة في زمرة الصالحين.
وبعد أن وصل إبراهيم بهذه الصفات الشريفة التي بلغت الغايةَ في علوم المرتبة، أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم باتباعه فقال :
ثم أوحينا إليك أيها النبي، باتباع ملة إبراهيم الحنيفية السمحة الخالصة من الشرك والزيغ والضلال، ولذلك كرر الله تعالى قوله :﴿ وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾
ثم نعى الله على اليهود ما اختلفوا فيه وهو يوم السبت، فأما تحريمه، فهو خاص باليهود الذين اختلفوا فيه، وليس من ديانة إبراهيم، وليس كذلك من ديانة محمد السائر على نهج إبراهيم، وإن ربك ليفصل بين الفريقين في الخصومة والاختلاف، ويجازي كل فريق بما يستحق من ثواب وعقاب.
وإيراد هذه العبارة بين سابق الكلام ولاحقه إنذار للمشركين وتهديد لهم بما في مخالفة الأنبياء من عظيم الوبال، كما ذكر مثل القرية فيما سلف.
ثم ختم الله تعالى هذه السورة المباركة بأربع آيات فيها مثال الكمال، وجماع الأخلاق الفاضلة والتسامح والصبر، والحثّ على التحمل، ووعد بأننا إذا تحلّينا بهذه الأخلاق فإنه سيكون معنا وينصرنا ويوفقنا.
ادعُ يا محمد، إلى دين ربك بالحكمة، والقول اللطيف بالموعظة الحسنة، وجادل من يخالفك بالتي هي أحسن.
وإن أردتم عقاب من يعتدي عليكم أيها المسلمون، فخذوا حقكم بأن تعاقبوا بمثل ما فعل بكم، وتأكدوا أنكم إن صبرتم وتسامحتم ولم تقتصّوا لأنفسكم فإنه خير لكم في الدنيا والآخرة، لما في ذلك من ضبط النفس واستجلاب القلوب. عاقِبوا لأجل الحق، ولا تعاقبوا لأجل أنفسكم.
ثم يلتفت الخطاب إلى رسول الله، فلا يأخذك الحزن ؛ لأن الناس كلهم لا يهتدون، فإنما عليك واجب أداء الرسالة، أما الهدى والضلال فهما بيد الله، ولا يضيق صدرك من مكرهم وتدبيرهم، فالله كافيك أذاهم، وناصرك عليهم. وقد وفى بوعده.
قراءات :
قرأ ابن كثير وإسماعيل :«في ضيق » بكسر الضاد. والباقون :«في ضيق » بفتح الضاد.
ثم تأتي الخاتمة الحسنة : إن الله مع الذين اتقوا محارمه فاجتنبوها، والذين يحسنون في كل شيء، فأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وأن يوفق هذه الأمة إلى الإحسان والتقوى والاتحاد، والحمد لله رب العالمين.
Icon