تفسير سورة النحل

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة النحل من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة النحل
وتسمى كما أخرج ابن أبي حاتم سورة النعم قال ابن الفرس : لما عدد الله تعالى فيها هن النعم على عباده وأطلق جمع القول بأنها مكية وأخرج ذلك ابن مردوية عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم وأخرج النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أحد وفي رواية عنه أنه كلها مكية إلا قوله تعالى :( ولا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ) إلى قوله سبحانه :( بأحسن ما كانوا يعملون ) وروي أمية الأزدي
عن جابر بن زيد أن أربعين آية منها نزلت بمكة وبقيتها نزلت بالمدينة وهي مائة وثمان وعشرون آية قال الطبرسي وغيره : بلا خلاف والذي ذكره الدائي في كتاب العدد أنها تسعون وثلاث وقيل أربع وقيل خمس في سائر المصاحف وتحتوي على المنسوخ قيل على أربع آيات بإجماع وعلى آية واحدة على مختلف فيها وسيظهر لك حقيقة الأمر في ذلك إن شاء الله تعالى، ولما ذكر في آخر السورة السابقة، المستهزءون المكذبون له صلى الله عليه وسلم ابتدئ هنا بعد قوله تعالى :

ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ
سورة النّحل
وتسمى كما أخرج ابن أبي حاتم سورة النعم قال ابن الفرس: لما عدد الله تعالى فيها من النعم على عباده، وأطلق جمع القول بأنها مكية وأخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم وأخرج النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله ﷺ من أحد، وفي رواية عنه أنها كلها مكية إلا قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا [النحل:
٩٥] إلى قوله سبحانه: بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: ٩٦، ٩٧] وروى أمية الأزدي عن جابر بن زيد أن أربعين آية منها نزلت بمكة وبقيتها نزلت بالمدينة، وهي مائة وثمان وعشرون آية، قال الطبرسي وغيره: بلا خلاف، والذي ذكره الداني في كتاب العدد أنها تسعون وثلاث وقيل أربع وقيل خمس في سائر المصاحف، وتحتوي من المنسوخ قيل على أربع آيات بإجماع وعلى آية واحدة على مختلف فيها، وسيظهر لك حقيقة الأمر في ذلك إن شاء الله تعالى، ولما ذكر في آخر السورة السابقة المستهزءون المكذبون له ﷺ ابتدئ هنا بعد قوله تعالى:
332
بقوله عزّ وجلّ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ المناسب لذلك على ما ذكر غير واحد في معناه وسبب نزوله.
وفي البحر في بيان وجه الارتباط أنه تعالى لما قال فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٩٢] كان ذلك تنبيها على حشرهم يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه في الدنيا فقيل: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فإن المراد به على قول الجمهور يوم القيامة، وذكر الجلال السيوطي أن آخر الحجر شديدة الالتئام بأول هذه فإن قوله سبحانه وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: ٩٩] الذي هو مفسر بالموت ظاهر المناسبة بقوله سبحانه هنا: أَتى أَمْرُ اللَّهِ وانظر كيف جاء في المتقدمة يَأْتِيَكَ بلفظ المضارع وفي المتأخرة أتى بلفظ الماضي لأن المستقبل سابق على الماضي كما تقرر في محله، والأمر واحد الأمور وتفسيره بيوم القيامة كما قال في البحر، وفسر بما يعمه وغيره من نزول العذاب الموعود للكفرة، وعن ابن جريج تفسيره بنزول العذاب فقط فقال: المراد بالأمر هنا ما وعد الله تعالى نبيه ﷺ من النصر والظفر على الأعداء والانتقام منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال والاستيلاء على المنازل والديار، وأخرج ابن جرير وغيره عن الضحاك أن المراد به الأحكام والحدود والفرائض، وكأنه حمله على ما هو أحد الأوامر وفيما ذكره بعد إذ لم ينقل عن أحد أنه استعجل فرائض الله تعالى وحدوده سبحانه، والتعبير عن ذلك بأمر الله للتهويل والتفخيم، وفيه إيذان بأن تحققه في نفسه وإتيانه منوط بحكمه تعالى النافذ وقضائه الغالب، وإتيانه عبارة عن دنوه واقترابه على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع، وجوز أن يكون المراد إتيان مباديه فالماضي باق على حقيقته، ولعل ما أخرجه ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الأمر بخروج النبي ﷺ مؤيد لما ذكر وبعضهم أبقى الفعل على معناه الحقيقي وزعم أن المعنى أتى أمر الله وعدا فلا تستعجلوه وقوعا وهو كما ترى، وظاهر صنيع الكثير يشعر باختيار أن الماضي بمعنى المضارع على طريق الاستعارة بتشبيه المستقبل المتحقق بالماضي في تحقق الوقوع والقرينة عليه
334
قوله سبحانه (١) فإنه لو وقع ما استعجل. وهو الذي يميل إليه القلب، والضمير المنصوب في تَسْتَعْجِلُوهُ على ما هو الظاهر عائد على الأمر لأنه هو المحدث عنه، وقيل: يعود على الله سبحانه أي فلا تستعجلوا الله تعالى بالعذاب أو بإتيان يوم القيامة كقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [الحج: ٤٧، العنكبوت: ٥٣، ٥٤] وهو خلاف الظاهر، لكن قيل: إن ذلك أوفق بما بعد، والخطاب للكفرة خاصة ويدل عليه قراءة ابن جبير «فلا يستعجلوه» على صيغة نهي الغائب، واستعجالهم وإن كان بطريق الاستهزاء لكنه حمل على الحقيقة ونهوا بضرب من التهكم لا مع المؤمنين سواء أريد بأمر الله تعالى ما قدمنا أو العذاب الموعود للكفرة خاصة، أما الأول فلأنه لا يتصور من المؤمنين استعجال الساعة (٢) أو ما يعمها من العذاب حتى يعمهم النهي عنه، وأما الثاني فلأن الاستعجال من المؤمنين حقيقة ومن الكفرة استهزاء فلا ينظمهما صيغة واحدة، والالتجاء إلى إرادة معنى مجازي يعمهما معا من غير أن يكون هناك نكتة سرية تعسف لا يليق بشأن التنزيل.
وادعى بعضهم عموم الخطاب واستدل بما
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله تعالى:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: ١] قال الكفار فيما بينهم: إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا: ما نرى شيئا فنزلت اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء: ١] فأشفقوا وانتظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ فوثب رسول الله ﷺ فرفع الناس رؤوسهم فلما نزل فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ اطمأنوا ثم قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه إن كادت لتسبقني»
ولا دلالة فيه على ذلك لأن مناط اطمئنانهم إنما هو وقوفهم على أن المراد بالإتيان هو الإتيان الادعائي لا الحقيقي الموجب لاستحالة الاستعجال المستلزمة لامتناع النهي عنه لما أن النهي عن الشيء يقتضي إمكانه في الجملة، ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهي عن الاستعجال المستلزم لإمكانه المقتضي عدم وقوع المستحيل بعد، ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجل كائنا من كان بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله إنما هو الساعة وصدور استعجالها عن المؤمنين مستحيل. نعم يجوز تخصيص الخطاب بهم على تقدير كون أمر الله تعالى العذاب الموعود للكفرة خاصة، لكن الذي يقضي به الإعجاز التنزيلي أنه خاص بالكفرة كذا قاله أبو السعود.
وبحث فيه من وجوه، أما أولا فلأن الذي لا يتصور من المؤمنين الاستعجال بمعنى طلب الوقوع عاجلا لا عده عاجلا وسياق ما روي يدل على الأخير، فإنه لما سمعوا صدر الكلام حملوه على الظاهر فاضطربوا فقيل لهم: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي لا تعدوه عاجلا، على أن عدم تصور المعنى الأول أيضا منهم في حيز المنع لجواز أن يستعجلوه لتشفي صدورهم وإذهاب غيظ قلوبهم والاستهزاء بهم والضحك منهم، وأما ثانيا فلأن الجمع بين الحقيقة والمجاز لعله مذهب ذلك القائل، وأما ثالثا فلأن القول بكون القراءة على صيغة نهي الغائب دالة على أن الخطاب مخصوص بالكفرة ممنوع والسند ظاهر، وأما رابعا فلأن نفي دلالة ما روي على عموم الخطاب غير موجه لعموم لفظ الناس، وأما خامسا فلأن قوله: بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله تعالى إنما هو الساعة إلى آخره، يرد عليه أنه لا دلالة فيه أصلا على عدم العموم فضلا أن تكون واضحة، وقد عرفت ما في قوله: وقد عرفت، وأما سادسا فلأن حصره المراد بالأمر في الساعة مخالف لما ذكره في تفسير قوله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ حيث قال: أي الساعة أو ما يعمها
(١) قوله والقرينة عليه قوله سبحانه إلخ كذا بخطه ولعله سقط منه فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ مقول القول بدليل ما ذكره من التعليل اه.
(٢) قال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها اه منه.
335
وغيرها من العذاب فبعد هذا التصريح كيف يدعي ذلك الحصر؟، وفي بعض الأبحاث نظر. وقال بعض الفضلاء: قد يقال: إن المراد بالناس في الخبر المؤمنون لما في خبر آخر أخرجه ابن مردويه عن الحبر قال: «لما نزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ ذعر أصحاب رسول الله ﷺ حتى نزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فسكنوا». وهذا أيضا على ما قيل لا يقتضي كون الخطاب للمؤمنين لجواز أن يقال: إنهم لما سمعوا أول الآية ذعروا واضطربوا لظن أنه وقع فلما سمعوا خطاب الكفرة بقوله سبحانه: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ اطمأنت قلوبهم وسكنوا، وقد يورد على دعوى أن صدور استعجال الساعة من المؤمنين مستحيل أن ذلك حق لو كان استعجالهم على طرز استعجال الكفرة لها وليس ذلك بمسلم فإنه يجوز أن يراد باستعجالهم اضطرابهم وتهيؤهم لها المنزل منزلة الاستعجال الحقيقي، واستدل على كون الخطاب للكفرة بقوله سبحانه وتعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فإنه على ذلك التقدير يظهر ارتباطه بما قبله وذلك بأن يقال حينئذ:
لما كان استعجالهم ذلك من نتائج إشراكهم المستتبع لنسبة الله تعالى إلى ما لا يليق به سبحانه من العجز والاحتياج إلى الغير واعتقادهم أن أحدا يحجزه عن إمضاء وعيده أو إنجاز وعده قيل بطريق الاستئناف ذلك على معنى تنزه وتقدس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدي إلى صدور أمثال هذه الأباطيل عنهم أو عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم بوجه من الوجوه وقد كانوا يقولون على ما في بعض الروايات: إن صح مجيء ذلك فالأصنام تخلصنا عنه بشفاعتها لنا، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد إشراكهم واستمراره والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم للإعراض عنهم وطرحهم عن رتبة الخطاب وحكاية شنائعهم للغير وهذا لا يتأتى على تقدير تخصيص الخطاب بالمؤمنين، وقيل في وجه الارتباط على ذلك التقدير: إنه تعالى لما نهاهم عن الاستعجال ذكر ما يتضمن أن إنذاره سبحانه واخباره تعالى للتخويف والإرشاد وأن قوله جل وعلا: أَتى أَمْرُ اللَّهِ إنما هو لذلك فيستعد كل أحد لمعاده ويشتغل قبل السفر بتهيئة زاده فلذلك عقب بذلك دون عطف، وقد أشار بعضهم إلى ارتباط ذلك باعتبار ما بعده فيكون ما ذكر مقدمة واستفتاحا له، وأيضا فإن قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ تنبيه وإيقاظ لما يرد بعده من أدلة التوحيد اه، وأنت تعلم أن الارتباط على ما قرر أولا أظهر منه على هذا التقرير فافهم، ثم إن ما تحتمل الموصولية والمصدرية والاحتمال الثاني أظهر، ولا بد على الاحتمال الأول من اعتبار ما أشرنا إليه وإلا فلا يظهر التنزيه عن الشريك. وقرأ حمزة والكسائي «تشركون» بتاء الخطاب على وفق فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ وقرأ باقي السبعة والأعرج وأبو جعفر وأبو رجاء والحسن بياء الغيبة، وقد تقدم أن في الكلام حينئذ التفاتا وهو مبني على أن الخطاب السابق للكفرة أما إذا كان للمؤمنين أو لهم وللكفرة فلا يتحد معنى الضميرين حتى يكون التفات ولا التفات أيضا على قراءة «تشركون» بالتاء سواء كان الخطاب الأول للكفرة أو لهم وللمؤمنين. نعم في ذلك على تقدير عموم الخطاب تغليبان على ما قيل الأول تغليب المؤمنين على غيرهم في الخطاب والثاني تغليب غيرهم عليهم في نسبة الشرك، وعلى قراءة «يستعجلوه» ويُشْرِكُونَ بالتحتية فيهما لا التفات ولا تغليب يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ قيل هو إشارة إلى طريق علم الرسول ﷺ بإتيان ما أوعد به وباقترابه إزاحة لاستبعاد اختصاصه عليه الصلاة والسلام بذلك، وقال في الكشف:
التحقيق أن قوله سبحانه: أَتى أَمْرُ اللَّهِ تنبيه وإيقاظ ليكون ما يرد بعده ممكنا في نفس حاضرة ملقية إليه وهو تمهيد لما يرد من دلائل التوحيد وقوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلخ تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه وتعالى أيقظ أولا ثم نعى عليهم ما هم فيه من الشرك ثم أردفه بدلائل السمع والعقل، وقدم السمعي لأن صاحبه هو القائم بتحرير العقلي وتهذيبه أيضا فليس النظر إلى دليل السمع بل إلى من قام به من الملائكة والرسل عليهم السلام وهم القائمون بالأمرين جميعا فافهم. وأخذ سيبويه منه أن جعل يُنَزِّلُ حالا من ضمير يُشْرِكُونَ لا يطابق المقام البتة انتهى.
336
وما ذكره من أمر الحالية إشارة إلى الاعتراض على شيخه العلامة الطيبي حيث جعل ذلك أحد احتمالين في الجملة، ثانيهما كونها مستأنفة وهو الظاهر، وما أشار إليه من وجه الربط وادعى أنه التحقيق لا يخلو عما هو خلاف المتبادر، والتعبير بصيغة الاستقبال للإشارة إلى أن التنزيل عادة مستمرة له تعالى، والمراد بالملائكة عند الجمهور جبريل عليه السلام ويسمى الواحد بالجمع- كما قال الواحدي- إذا كان رئيسا، وعند بعض هو عليه السلام ومن معه من حفظة الوحي.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ينزل» مخففا من الإنزال، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأعمش وأبو بكر ينزل مشددا مبنيا للمفعول والملائكة بالرفع على أنه نائب الفاعل والجحدري كذلك إلا أنه خفف، وأبو العالية والأعرج والمفضل عن عاصم «تنزّل» بتاء فوقية مفتوحة وتشديد الزاي مبنيا للفاعل وقد حذف منه أحد التاءين وأصله تتنزل، وابن أبي عبلة «ننزل» بنون العظمة والتشديد، وقتادة بالنون والتخفيف، وفي هاتين القراءتين كما في البحر التفات بِالرُّوحِ أي الوحي كما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ويدخل في ذلك القرآن، وروي عن الضحاك والربيع بن أنس الاقتصار عليه، وأيّا ما كان فإطلاق «الروح» على ذلك بطريق الاستعارة المصرحة المحققة، ووجه الشبه أن الوحي يحيي القلوب الميتة بداء الجهل والضلال أو أنه يكون به قوام الدين كما أن بالروح يكون قوام البدن، ويلزم ذلك استعارة مكنية وتخييلية وهي تشبيه الجهل والضلال بالموت وضد ذلك بالحياة أو تشبيه الدين بإنسان ذي جسد وروح، وهذا كما إذا قلت: رأيت بحرا يغترف الناس منه وشمسا يستغيثون بها فإنه يتضمن تشبيه علم الممدوح بالماء العظيم والنور الساطع لكنه جاء من عرض فليس- كأظفار المنية- وليس غير كونه استعارة مصرحة، وجعل ذلك في الكشف من قبيل الاستعارة بالكناية وليس بذاك، والباء متعلقة بالفعل السابق أو بما هو خال من مفعوله أي ينزل الملائكة ملتبسين بالروح، وقوله سبحانه: مِنْ أَمْرِهِ بيان للروح المراد به الوحي، والأمر بمعنى الشأن واحد الأمور، ولا يخرج ذلك الروح من الاستعارة إلى التشبيه كما قيل في قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: ١٨٧] لما قالوا: من أن بينهما بونا بعيدا لأن نفس الفجر عين المشبه شبه بخيط، وليس مطلق الأمر بالمعنى السابق مشبها به ولذا بينت به الروح الحقيقية في قوله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: ٨٥] كما تبين به المجازية، ولو قيل: يلقى أمره الذي هو الروح لم يخرج عن الاستعارة فليس وزان مِنْ أَمْرِهِ وزان مِنَ الْفَجْرِ وليس كل بيان مانعا من الاستعارة كما يتوهم من كلام المحقق في شرح التلخيص.
وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف وقع حالا من الروح على معنى حال كونه ناشئا ومبتدأ منه أو صفة له على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أي بالروح الكائن من أمره أو متعلقا- بينزل- ومِنْ سببية أو تعليلية أو ينزل الملائكة بسبب أمره أو لأجله، والأمر على هذا واحد الأوامر، وعلى ما قبله قيل: فيه احتمالان. وذهب بعضهم إلى أن «الروح» هو جبريل عليه السلام وأيده بقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء:
١٩٣] وجعل الباء بمعنى مع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن «الروح» خلق من خلق الله تعالى كصور بني آدم لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم، وروي ذلك عن ابن جريج وعليه حمل بعضهم ما في الآية هنا.
وتعقب ذلك ابن عطية بأن هذا قول ضعيف لم يأت له سند يعول عليه، وأضعف منه بل لا يكاد يقدم عليه في الآية أحد ما روي عن مجاهد أن المراد بالروح أرواح الخلق لا ينزل ملك إلا ومعه روح من تلك الأرواح عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي أن ينزل عليهم لا لاختصاصهم بصفات تؤهلهم لذلك.
والآية دليل على أن النبوة عطائية كما هو المذهب الحق، ويرد بها أيضا على بعض المتصوفة القائلين بأنه لا
337
حاجة للخلق إلى إرسال الرسل عليهم السلام قالوا: الرسل سوى الله تعالى وكل ما سواه سبحانه حجاب عنه جل شأنه فالرسل حجاب عنه تعالى وكل ما هو حجاب لا حاجة للخلق فالرسل لا حاجة إليهم، وهذا جهل ظاهر، ولعمري إنه زندقة وإلحاد، وفساده مثل كونه زندقة في الظهور، ويكفي في ذلك منع الكبرى القائلة بأن كل ما سواه سبحانه إلخ فإن الرسل وسيلة إلى الله تعالى والوصول إليه عز وجل لا حجاب، وهل يقبل ذو عقل أن نائب السلطان في بلاده حجاب عنه؟ وهب هذا القائل أمكنه الوصول إليه سبحانه بلا واسطة بقوة الرياضة والاستعداد والقابلية فالسواد الأعظم الذين لا يمكنهم ما أمكنه كيف يصنعون. وممن ينتظم في سلك هؤلاء الملحدين البراهمة فإنهم أيضا نفوا النبوة لكنهم استدلوا بأن العقل كاف فيما ينبغي أن يستعمله المكلف فيأتي بالحسن ويجتنب القبيح ويحتاط في المشتبه بفعل أو ترك، فالأنبياء عليهم السلام إما أن يأتوا بما يوافق العقل فلا حاجة معه إليهم أو بما يخالفه فلا التفات إليهم، وجوابه أن هذا مبني على القول بالحسن والقبح العقليين، وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف وتم الأمر في إبطاله، وعلى تقدير تسليمه لا نسلم أن العقل يستقل بجميع ما ينبغي، ولا نسلم أيضا أنهم إن جاؤوا بما يوافق العقل لا حاجة إليهم لجواز أن يعرفوا المكلف بعض ما يخفى عليه مما ينبغي له أو يؤكدوا حكمه بحكمهم، ودليلان أقوى من دليل، ولا نسلم أيضا أنهم إن جاؤوا بما يخالف العقل لا يلتفت إليهم لجواز أن يخالفوه فيما يخفى عليه، على أن ذلك فرض محال لإجماع الناس على أن الشرع لا يأتي بخلاف العقل في نفس الأمر وإنما يأتي بما يقصر عن إدراكه بنفسه كوجوب صوم آخر يوم من رمضان وحرمة صوم أول يوم من شوال، وتمام الكلام في ذلك يطلب من محله أَنْ أَنْذِرُوا بدل من الروح على أن أَنْ هي التي من شأنها أن تنصب المضارع وصلت بالأمر كما وصلت به في قولهم: كتبت إليه بأن قم، ولا ضير في ذلك كما حقق في موضعه أي ينزلهم ملتبسين بطلب الإنذار منهم. وجوز ابن عطية وأبو البقاء وصاحب الغنيان كون أَنْ مفسرة فلا موضع لها من الإعراب، وذلك لما في تنزيل الملائكة بالوحي من معنى القول كأنه قيل: يقول بواسطة الملائكة لمن يشاء من عباده أن أنذروا، وجوز الزمخشري ذلك وكون أَنْ المخففة من المثقلة وأمر البدلية على حاله قال: والتقدير بأنه أنذروا أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا.
وتعقبه أبو حيان بأن جعلها مخففة وإضمار اسمها وهو ضمير الشأن وتقدير القول حتى يكون الخبر جملة خبرية تكلف لا حاجة إليه مع سهولة جعلها الثنائية التي من شأنها نصب المضارع، وفيه بحث، ففي الكشف أن تحقيق وصل الأمر بهذا الحرف ناصبة كانت أو مخففة وإضمار القول قد سلف إنما الكلام في إيثار المخففة هاهنا وفي يونس والناصبة في نوح وهي الأصل لقلة التقدير، وذلك لأن مقام المبالغة يقتضي إيثار المخففة، ولهذا جعل بدلا والمبدل منه ما عرف شأنه، وكذاك في يونس معناه أعجبوا من هذا الأمر المحقق وهو أن الشأن كذا، وأما في نوح فكلام ابتدائي، وجعلهم فائدة القول أن لا يقع الطلبي خبرا من ضيق العطن فذلك في ضمير الشأن غير مسلم لأنه متحد بما بعده وهو كما تقول: كلامي اضرب زيدا انتهى. وقرئ لينذروا والإنذار الإعلام كما قيل خلا أنه مختص بإعلام المحذور أي اعلموا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فالضمير للشأن وهو من خلاف مقتضى الظاهر، وفائدة تصدير الجملة به الإيذان من أول الأمر بفخامة مضمونها مع ما في ذلك من زيادة تقرير في الذهن، وأَنْ وما بعدها في موضع المفعول الثاني- لأنذروا- دون تقدير جار فيه والمفعول الأول محذوف. والمراد العموم أي أعلموا الناس أن الشأن الخطير هذا، ووجه انباء مضمونه عن المحذور بأنه ليس لذاته بل من حيث اتصاف المنذرين بما يضاده من الإشراك، ولا يشترط تحقق المحذور كالاتصاف المذكور بالفعل في تحقق ماهية الإنذار، وإن أبيت إلا الاشتراط فتحقق الاتصاف في بعض أفراد المنذرين لا سيما الأكثر بالفعل كاف.
338
وقال الراغب: الإنذار إخبار فيه تخويف كما أن التبشير إخبار فيه سرور وهو قريب مما تقدم، ومحصله على العبارتين التخويف، ومن هنا جوز بعضهم تفسيره بذلك وقدر المفعول الأول خاصا وأَنْ وما بعدها في موضع المفعول الثاني بتقدير الجار أي خوفوا أهل الكفر والمعاصي بأن الشأن الخطير هذا، وذلك كما جوز تفسيره بالإعلام، وجعل المفعول الأول عاما ولم يقدر جارا في الثاني، وذكر أن ذلك أصل معناه وأن تخصيصه بإعلام المحذور طارئ فإن أريد ذلك الأصل كان تعلقه بما بعده ظاهرا غاية الظهور، وإن أريد غيره احتاج إلى التوجيه، وقد علمته فيما إذا كان المفعول الأول عاما، والأمر فيما إذا كان خاصا بعد ذلك أظهر من أن يذكر.
وذكر بعض الفضلاء أن الثابت في اللغة أن نذر بالشيء كفرح به فحذره وأنذره إذا أعلمه بما يحذره وليس فيها مجيئه بمعنى التخويف فأصله الإعلام مع التخويف فاستعملوه بكل من جزئي معنييه الإعلام والتخويف انتهى وفيه غفلة عما أشرنا إليه، وكأنه لهذا قيل: إنه لم يأت بشيء يعتد به فَاتَّقُونِ جعله أبو السعود خطابا للمستعجلين على طريقة الالتفات والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادته تعالى بتنزيل الملائكة على من يشاء تنزيلهم عليه من عباده وأمر المنزل عليهم بأن ينذروا الناس بأنه تعالى لا شريك له في الألوهية فاتقون في الإخلال بمضمونه ومباشرة ما ينافيه وفروعه التي من جملتها الاستعجال والاستهزاء انتهى.
وهو على ما يقتضيه الظاهر مبني على ما مال إليه من اختصاص الخطاب السابق بكفرة، وجعل بعضهم هذا الخطاب رجوعا أيضا إلى خطاب قريش لكنه متفرع على التوحيد، ووجه تفرعه عليه أنه سبحانه وتعالى إذا كان واحدا لم يتصور تخليص أحد لأحد من عذابه إذا أراد ذلك ولم يجوز جعله من جملة الموحى به على معنى أعلموهم قولي أن الشأن لا إله إلا أنا فاتقون أو خوفوهم بذلك معللا بأنه لو كان ذلك لقيل- إن- بالكسر لا بالفتح.
وتعقب بمنع اللزوم فإن أن ليست بعد قول صريح أو مقدر وإنما ذكروا ذلك في بيان المعنى لتصويره، واختير أنه إذا كان الإنذار بمعنى التخويف فالظاهر دخول هذا الأمر في المنذر به لأنه هو المنذر به في الحقيقة وهو المقصود بالذكر، وإذا كان بمعنى الإعلام فالمقصود بالإعلام هو الجملة الأولى وهو متفرع عليها على طريق الالتفات، ولا يخلو عن مناقشة فتأمل، والذي يميل إليه القلب أن المجموع داخل في حيز الإنذار وهو مشتمل على التوحيد الذي هو منتهى كمال القوة العلمية والأمر بالتقوى التي هي أقصى كمال القوة العملية فإن النفوس البشرية لها نسبة إلى عالم الغيب تستعد بها لقبول الصور والتحلي بالمعارف والإدراكات من ذلك العالم، ونسبة إلى عالم الشهادة تستعد بها لأن تتصرف في أجسام هذا العالم ويسمى استعدادها الحاصل لها باعتبار النسبة الأولى قوة نظرية واستعدادها باعتبار النسبة الثانية قوة عملية، وأشرف كمالات القوة النظرية معرفة أن لا إله إلا الله تعالى، وأشرف كمالات القوة العملية الإتيان بالأعمال الصالحة الواقية عن خزي يوم القيامة.
وقدم قوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا أَنَا على قوله سبحانه: فَاتَّقُونِ للإشارة إلى أن ما يستند إلى القوة النظرية أعلى كمالا مما يستند إلى القوة العملية، والكمال الإنساني باعتبار هاتين القوتين يسمى كمالا نفسانيا، وله كمالات أخر هي كمالاته البدنية وقواه الحيوانية، وقد فصل ذلك في موضعه. ثم إنه تعالى شرع في تحرير الدلائل العقلية الدالة على توحيده الذي هو المقصد الأعظم من بعثة الرسل عليهم السلام فقال عز قائلا: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.
وذكر بعض المحققين أنه تعالى شأنه وعظم برهانه قد استوفى أدلة التوحيد واتصاف ذاته الكريمة بصفات الجلال والإكرام على أسلوب بديع جمع فيه بين دلالة المصنوع على الصانع والنعمة على المنعم ونبه على أن كل
339
واحد يكفي صارفا للمشركين عما هم فيه من الشرك وعليه مدار السورة الكريمة كلما بصرهم طائفة من البصائر ضمنها تبكيتهم وكفرانهم نعمتي الرعاية والهداية، وانظر إلى فاتحته ثم إلى خاتمته في قوله سبحانه: وَاصْبِرْ [النحل: ١٢٧] إلى آخر السورة بين لك بعض ما ضمن الكتاب الكريم من أسرار البلاغة وأنوار الإعجاز والمراد بالسماوات والأرض إما هذه الأجرام والأجسام المعلومة، وإما جهة العلو والسفل أي أوجد ذلك ملتبسا بما يحق له بمقتضى الحكمة فيدل على صانع حي عالم قادر مريد منفرد بالألوهية والربوبية والإلزام إمكان التمانع المستلزم لإمكان المحال حسبما بين في علم الكلام ولذا عقب هذا بقوله تعالى: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
وقرأ الأعمش «فتعالى» بالفاء، وما يحتمل أن تكون مصدرية أي تعالى وتقدس بذاته وأفعاله عن إشراكهم، وأن تكون موصولة على معنى تعالى عن شركة ما يشركونه من الباطل الذي لا يبدئ ولا يعيد، واستدل بالآية على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام والأجسام كما يقوله المجسمة، ووجه ذلك أنها تدل على احتياج الأجرام والأجسام إلى خالق سبحانه وتعالى لا يجانسها وإلا لاحتاج إليه فلا يكون خالقا، وبإرادة الجهتين يكون وجه الدلالة من الآية أظهر، وقرأ الكسائي «تشركون» بالتاء.
خَلَقَ الْإِنْسانَ أي هذا النوع غير الفرد الأول منه مِنْ نُطْفَةٍ أصلها الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل أي أوجده من جماد لا حس له ولا حراك سيال لا يحفظ شكلا ولا وضعا فَإِذا هُوَ بعد الخلق من ذلك خَصِيمٌ منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم، وهو صيغة مبالغة، وقال الواحدي: بمعنى مخاصم، وفعيل بمعنى مفاعل معروف عندهم كالنسيب بمعنى المناسب والخليط بمعنى المخالط والعشير بمعنى المعاشر.
مُبِينٌ مظهر للحجة لقن بها وقيل: المعنى أوجده من ذلك فإذا هو خصيم لخالقه سبحانه منكر لعظيم قدرته قائل: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: ٧٨] والأول أنسب بمقام الامتنان بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته جل جلاله ووحدته، وبين الإمام وجه الاستدلال فقال بعد أن زعم أن الإنسان في الشرف بعد الأفلاك والكواكب وأشار إلى أنه لذلك عقب الاستدلال بخلق تلك بالاستدلال بخلقه: اعلم أن الإنسان مركب من نفس وبدن، وصدر الآية إشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم وعجزها إشارة إلى الاستدلال بأحواله، وتقرير الأول أن يقال: إن النطفة إما أن تكون متشابهة الأجزاء أو مختلفتها فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتولد هذا البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهرها لأن تأثير الطبيعة بالذات والإيجاب فمتى عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون عملها الكرية وحيث لم يكن الأمر فيما نحن فيه كذلك لظهور أن الأبدان ليست كرية علمنا أن المقتضي لها هو الفاعل الحكيم المختار، وإن كان الثاني قلنا: إنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسما بسيطا وحينئذ لو كان المدبر لها قوة طبيعية لوجب أن يكون كل من تلك البسائط كرىّ الشكل فكان يلزم أن يكون الإنسان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض وحيث لم يكن لذلك علمنا أن المقتضي هو الفاعل المختار أيضا جل شأنه وأيضا أن النطفة رطبة سريعة الاستحالة فلا تحفظ الوضع فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في السفل والجزء الذي هو مادة القلب يمكن حصوله في الفوق فحيث كان الإنسان على هذا الترتيب المعين دائما مع إمكان غيره علمنا أن حدوثه على ذلك الترتيب ليس إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم.
ولا يصح أن يقال: إن ذلك من تأثير النجوم والأوضاع الفلكية لأن تأثيراتها متشابهة على أنه قد بين بطلان كونها مؤثرة بغير ذلك في موضعه. وتقرير الثاني أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهما وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات فإن فرخ الدجاجة حين خروجه من قشر البيضة يميز بين العدو والصديق فيهرب من الهرة ويلتجئ إلى
340
الأم ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حين انفصاله من بطن أمه لا يميز بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع ثم إنه بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على معرفة الله تعالى وعلى معرفة أصناف المخلوقات العلوية والسفلية والاطلاع على كثير من أحوالها الدقيقة وعلى الخصومات والمباحثات فانتقال نفسه من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بد وأن يكون بتدبير إله مختار حكيم ينقلها من نقصانها إلى كمالها ومن جهالتها إلى معرفتها بحسب الحكمة والاختيار، والثاني قيل: أنسب بمقام تعداد هنات الكفرة فإنه قد اشتمل من بيان جراءة من كفر على الله تعالى وعدم استحيائه منه سبحانه ووقاحته بتماديه في الكفر.
وذكر بعضهم أنه يؤيد هذا الوجه قوله تعالى في سورة يس بعد ما ذكر مثله: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فإنه نص فيما ذكر فيكون صدر الآية للاستدلال وعجزها لتقرير الوقاحة، وتعقب بأنه ليس بشيء لأن مدار ما قبلها في تلك السورة على ذكر الحشر والنشر ومكابرتهم فيه بخلاف هذه ولكل مقام مقال، وأما كون الآية مسوقة لتقرير وقاحة الإنسان لانتفاء التنافي بين الاستدلال على الوحدانية والقدرة وتقرير وقاحة المنكرين ولذا جعل التتميم لما قبله تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فعدم المنافي لا يقتضي وجود المناسب، وعندي لكل وجهة.
وفي الكشف المعنيان ملائمان للمقام إلا أن في الثاني زيادة ملائمة مع قوله: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم إنه أدمج فيه المعنى الأول،
وروى الواحدي أن أبي بن خلف أتى النبي ﷺ بعظم رميم وقال: يا محمد أترى أن الله تعالى يحيي هذا بعد ما قد رم فنزلت نظير ما في آخر يس،
والمشهور أن تلك هي النازلة في تلك القصة، ثم وجه التعقيب وإذا الفجائية في قوله سبحانه: فَإِذا هُوَ إلى آخره مع أن كونه خصيما مبينا بأي معنى أريد لم يعقب خلقه من نطفة إذ بينهما وسائط أنه بيان لأطواره إلى كمال عقله فالتعقيب باعتبار آخرها فلا وجه لتقدير الوسائط ولا للقول بأنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤول إليه فافهم. وَالْأَنْعامَ وهي الأزواج الثمانية من الإبل، والبقر، والضأن، والمعز، قال الراغب: ولا يقال أنعام إلا إذا كان فيها إبل، وخصها بعضهم هنا بذلك وليس بشيء، والنصب على المفعولية لفعل مضمر يفسره قوله تعالى: خَلَقَها وهو أرجح من الرفع في مثل هذا الموضع لتقدم الفعلية وقرئ به في الشواذ أو على العطف على الإنسان وما بعد بيان ما خلق لأجله والذي بعده تفصيل لذلك، وقوله سبحانه:
لَكُمْ إما متعلق- بخلقها- وقوله تعالى: فِيها خبر مقدم وقوله جل وعلا: دِفْءٌ مبتدأ مؤخر والجملة حال من المفعول أو الجار والمجرور الأول خبر للمبتدأ المذكور والثاني متعلق بما فيه من معنى الاستقرار، وقيل: حال من الضمير المستكن فيه العائد على المبتدأ، وقيل: حال من «دفء» إذ لو تأخر لكان صفة، وجوز أبو البقاء أن يكون الثاني هو الخبر والأول في موضع الحال من مبتدئه، وتعقبه أبو حيان بأن هذا لا يجوز لأن الحال إذا كان العامل فيها معنى لا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها فلا يجوز قائما في الدار زيد فإن تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف وإن توسطت فالأخفش على الجواز والجمهور على المنع، وجوز أبو البقاء أيضا أن يرتفع دِفْءٌ- بلكم- أو- بفيها- والجملة كلها حال من الضمير المنصوب، وتعقبه أبو حيان أيضا بأن ذلك لا يعد من قبيل الجملة بل هو من قبيل المفرد، ونقل أنهم جوزوا أن يكون لَكُمْ متعلقا- بخلقها- وجملة فيها دِفْءٌ استئناف لذكر منافع الانعام، واستظهر كون جملة لَكُمْ فِيها دِفْءٌ مستأنفة، ثم قال: ويؤيد الاستئناف فيها الاستئناف في مقابلتها أعني قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ فقابل سبحانه المنفعة الضرورية بالمنفعة الغير الضرورية، وإلى نحو ذلك ذهب القطب فاختار أن الكلام قد تم عند خَلَقَها لهذا العطف وخالفه في ذلك صاحب الكشف فقال: إن قوله تعالى:
341
خَلَقَها لَكُمْ بناء على تفسير الزمخشري له بقوله: ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان طرف من ترشيح المعنى الثاني في قوله سبحانه: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ لما في الالتفات المشار إليه من الدلالة عليه، وأما الحصر المشار إليه بقوله: ما خلقها إلا لكم فمن اللام المفيدة للاختصاص سيما وقد نوع الخطاب بما يفيد زيادة التمييز والاختصاص، وهذا أولى من جعل لَكُمْ فِيها دِفْءٌ مقابل لَكُمْ فِيها جَمالٌ لإفادته المعنى الثاني وأبلغ على أنه يكون فِيها دِفْءٌ تفصيلا للأول وكرر لَكُمْ في الثاني لبعد العهد وزيادة التقريع اه، والحق في دعوى أولوية تعلق لَكُمْ بما قبله معه كما لا يخفى، والدفء اسم لما يدفأ به أي يسخن، وتقول العرب: دفئ يومنا فهو دفيء إذا حصلت فيه سخونة ودفئ الرجل دفاء ودفاء بالفتح والكسر ورجل دفآن وامرأة دفأى ويجمع الدفء على ادفاء، والمراد به ما يعم اللباس والبيت الذي يتخذ من أوبارها وأصوافها، وفسره ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وغيره بالثياب.
وأخرج عبد الرزاق وغيره عنه رضي الله تعالى عنه أيضا أنه نسل كل دابة، ونقله الأموي عن لغة بعض العرب والظاهر هو الأول. وقرأ الزهري وأبو جعفر «دفّ» بضم الفاء وشدها وتنوينها، ووجه ذلك في البحر بأنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء وحذفت ثم شدد الفاء إجراء للوصول مجرى الوقف إذ يجوز تشديدها في الوقف.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «دف» بنقل الحركة والحذف دون تشديد، وفي اللوامح قرأ الزهري «دف» بضم الفاء من غير همزة وهي محركة بحركتها، ومنهم من يعوض عن هذه الهمزة فيشدد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفا. واعترض بأن التشديد وقفا لغة مستقلة وإن لم يكن ثمة حذف من الكلمة الموقوف عليها ودفع بأنه إنما يكون ذلك إذا وقف على آخر حرف منها أما إذا وقف على ما قبل الآخر منها كقاض فلا.
وَمَنافِعُ هي درها وركوبها والحراثة بها والنضح عليها وغير ذلك، وإنما عبر عنها بها ليشمل الكل مع أنه الأنسب بمقام الامتنان بالنعم، وقدم الدفء رعاية لأسلوب الترقي إلى الأعلى وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم ونحو ذلك- فمن- تبعيضية، والأكل إما على معناه المتبادر وإما بمعنى التناول الشامل للشرب فيدخل في العد الألبان، وجوز أن تكون من ابتدائية وأن تكون للتبعيض مجازا أو سببية أي تأكلون ما يحصل بسببها فإن الحبوب والثمار المأكولة تكتسب باكتراء الإبل مثلا وأثمان نتاجها وألبانها وجلودها والأول أظهر وأدخل ما يحصل من اكترائها من الإجارة التي يتوصل بها إلى مصالح كثيرة في المنافع، وتغيير النظم الجليل قيل للإيماء إلى أنها لا تبقى عند الأكل كما في السابق واللاحق فإن الدفء والمنافع التي أشرنا إليها والجمال يحصل منها وهي باقية على حالها ولذلك جعلت محال لها بخلاف الأكل، وتقديم الظرف للحصر على معنى أن الأكل منها هو المعتاد المعتمد في المعاش من بين سائر الحيوانات فلا يرد الأكل من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فإنه من قبيل التفكه، وكذا لا يرد أكل لحم الخيل عند من أباحه لأنه ليس من المعتاد المعتمد أيضا، والحاصل أن الحصر إضافي وبذلك لا يرد أيضا أكل الخبز والبقول ونحوها، ويضم إلى هذا الوجه في التقديم رعاية الفواصل، وجعله لمجرد ذلك كما في الكشف قصور، وأبو حيان ينكر كون التقديم مطلقا للحصر فينحصر وجهه هنا حينئذ في الرعاية المذكورة.
وَلَكُمْ فِيها مع ما ذكر من المنافع الضرورية جَمالٌ زينة في أعين الناس وعظمة ووجاهة عندهم، والمشهور إطلاقه على الحسن الكثير، ويكون في الصورة بحسن التركيب وتناسق الأعضاء وتناسبها، وفي الأخلاق باشتمالها على الصفات المحمودة وفي الأفعال بكونها ملائمة للمصلحة من درء المضرة وجلب المنفعة وهو في
342
الأصل مصدر- جمل- بضم الميم ويقال للرجل جميل وجمال وجمال على التكثير وللمرأة جميلة وجملاء عند الكسائي وأنشد:
فهي جملاء كبدر طالع بذت الخلق جميعا بالجمال
ورأى بعضهم إطلاقه على التجمل فظن أنه مصدر بإسقاط الزوائد حِينَ تُرِيحُونَ أي تردونها بالعشي من المرعى إلى مراحها يقال: أراح الماشية إذا ردها إلى المراح وقتئذ وَحِينَ تَسْرَحُونَ تخرجونها غدوة من حظائرها ومبيتها إلى مسارحها ومراعيها يقال: سرحها يسرحها سرحا وسروحا وسرحت هي يتعدى ولا يتعدى، والفعل الأول وكذا الثاني متعد والمفعول محذوف لرعاية الفواصل، وتعيين الوقتين لأن ما يدور عليه أمر الجمال من تزين الأفنية وتجاوب ثغائها ورغائها إنما هو عند الذهاب والمجيء في ذينك الوقتين، وأما عند كونها في المسارح فتنقطع إضافتها الحسية إلى أربابها، وعند كونها في الحظائر لا يراها راء ولا ينظر إليها ناظر.
وتقديم الإراحة على السرح مع أنها متأخرة في الوجود عنه لكونها أظهر منه في استتباع ما ذكر من الجمال وأتم في استجلاب الانس والبهجة إذ فيها حضور بعد غيبة وإقبال بعد ادبار على أحسن ما يكون ملأى البطون حافلة الضروع. وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري «حينا» فيهما بالتنوين وفك الإضافة على أن كلتا الجملتين صفة لحينا قبلها والعائد محذوف كما في قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ [البقرة: ٤٨، ١٢٣] أي حينا تريحون فيه وحينا تسرحون فيه، والعامل في حِينَ إما المبتدأ لأنه بمعنى التجمل كما قيل وإما خبره لما فيه من معنى الاستقرار.
وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لجمال وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ أي أحمالكم الثقيلة جمع ثقل، وقيل أجسامكم كما قيل في قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة: ٢] حيث فسرت الأثقال فيه بأجسام بني آدم.
إِلى بَلَدٍ روي عن ابن عباس أنه اليمن والشام ومصر وكأنه نظر إلى أنها متاجر أهل مكة كما يؤذن به ما في تفسير الخازن عنه رضي الله تعالى عنه من أنه قال: يريد من مكة إلى اليمن وإلى الشام، وفي رواية أخرى عنه وعن الربيع بن أنس وعكرمة أنه مكة وكأنهم نظروا إلى أن أثقالهم وأحمالهم عند القفول من متاجرهم أكثر وحاجتهم إلى الحمولة أمس، والظاهر أنه عام لكل بلد سحيق وإلى ذلك ذهب أبو حيان، وجعل ما ورد من التعيين كالمذكور وكالذي نقله عن بعضهم من أنها مدينة الرسول ﷺ محمولا على التمثيل لا على أن المراد ذلك المعين دون غيره لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ واصلين إليه بأنفسكم مجردين عن الأقفال فضلا عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم لو لم تكن الأنعام ولم تخلق إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ أي مشقتها وتعبها، وقيل: المعنى لم تكونوا بالغيه بها إلا بما ذكر وحذف بها لأن المسافر لا بدله من الأثقال، والمراد التنبيه على بعد البلد وأنه مع الاستعانة بها بحمل الأثقال لا تصلون إليه إلا بالمشقة، ولا يخفى أن الأول أبلغ. وقرأ مجاهد والأعرج وأبو جعفر وعمرو بن معين وابن أرقم «بشق» بفتح الشين وروي ذلك عن نافع وأبي عمرو وكلا ذلك لغة، والمعنى ما تقدم، وقيل: الشق بالفتح المصدر وبالكسر الاسم يعني المشقة وعلى الكسر بهذا المعنى جاء قوله:
وذي إبل يسعى ويحسبها له أخي نصب من شقها ودؤوب
فإنه أراد من مشقتها، وعن الفراء أن المفتوح مصدر من شق الأمر عليه شقا وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع والمكسور النصف يقال: أخذت شق الشاة أي نصفها،
وجاء «اتقوا النار ولو بشق تمرة»
والمعنى إلا بذهاب
343
نصف الأنفس كأن الأنفس تذوب تعبا ونصبا لما ينالها من المشقة كما يقال لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك أو قطعة من كبدك وهو من المجاز، وجوز بعضهم أن يكون على تقدير مضاف أي إلا بشق قوى الأنفس، والاستثناء مفرغ أي لم تكونوا بالِغِيهِ بشيء من الأشياء إلا بشق الأنفس، وجعل أبو البقاء الجار والمجرور في موضع الحال من الضمير المرفوع في بالغيه أي مشقوقا عليكم وضمير تَحْمِلُ للأنعام إلا أن الحمل المذكور باعتبار بعض أنواعها وهي الإبل ومثله كثير، ومن هنا يظهر ضعف استدلال بعضهم بهذا الاسناد على أن المراد بالأنعام فيما مر الإبل فقط، وتغيير النظم الكريم السابق الدال على كون الانعام مدارا للنعم إلى الفعلية المفيدة للحدوث قيل لعله للإشعار بأن هذه النعمة ليست في العموم بحسب المنشأ وبحسب المتعلق وفي الشمول للأوقات والاطراد في الأحيان المعهودة بمثابة النعم السالفة فإنها بحسب المنشأ خاصة كما سمعت بالإبل وبحسب المتعلق بالمتقلبين في الأرض للتجارة وغيرها في أحايين غير مطردة، وأما سائر النعم المعدودة فموجودة في جميع الأصناف وعامة لكافة المخاطبين دائما وفي عامة الأوقات اه. واحتج كما قال الإمام منكر وكرامات الأولياء بهذه الآية لأنها تدل على أن الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلد إلى آخر إلا بشق الأنفس وحمل الأثقال على الجمال. ومثبتو الكرامات يقولون: إن الأولياء قد ينتقلون من بلد إلى آخر بعيد في زمان قليل من غير تعب وتحمل مشقة فكان ذلك على خلاف الآية فيكون باطلا وإذا بطلت في هذه الصورة بطلت في الجميع إذ لا قائل بالفرق.
وأجاب بأنا نخصص عموم الآية بالأدلة الدالة على وقوع الكرامات اه. ولعل القائلين بعدم ثبوت طي المسافة للأولياء يستندون إلى هذه الآية لكن هؤلاء لا ينفون الكرامات مطلقا فلا يصح قوله إذ لا قائل بالفرق، ومن أنصف علم أن الاستدلال بها على هذا المطلب مما لا يكاد يلتفت إليه بناء على أنها مسوقة للامتنان ويكفي فيه وجود هذا في أكثر الأحايين لأكثر الناس فافهم إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ولذلك أسبغ عليكم النعم الجليلة ويسر لكم الأمور الشاقة العسيرة وَالْخَيْلَ هو كما قال غير واحد اسم جنس للفرس لا واحد له من لفظه كالإبل، وذكر الراغب أنه في الأصل يطل على الأفراس والفرسان، وهو عطف على الأنعام أي وخلق الخيل وَالْبِغالَ جمع بغل معروف وَالْحَمِيرَ جمع حمار كذلك ويجمع في القلة على أحمرة وفي الكثرة على حمر وهو القياس، وقرأ ابن أبي عبلة برفع «الخيل» وما عطف عليه لِتَرْكَبُوها تعليل لخلق المذكورات، والكلام في تعليل أفعال الله تعالى مبسوط في الكلام وَزِينَةً عطف على محل لِتَرْكَبُوها فهو مثله مفعول لأجله وتجريده عن اللام دونه لأن الزينة فعل الزائن وهو الخالق تعالى ففاعل الفعلين المعلل والمعلل به واحد بخلاف فاعل الركوب وفاعل المعلل به فشرط النصب الذي اشترطه من اشتراطه موجود في المعطوف دون المعطوف عليه قاله غير واحد، وذكر بعض المدققين أن في عدم مجيئها على سنن واحد دلالة على أن المقصود الأصلي الأول فجيء بالحروف الموضوعة لذلك وسيق لخطاب وأعيد الضمير للثلاثة في لِتَرْكَبُوها وجيء بالثاني تتميما ودلالة على أنه لما كان من مقاصدهم عد في معرض الامتنان وإلا فليس التزين بالعرض الزائل مما يقصده أهل الله تعالى وهم أهل الخطاب بالقصد الأول واعترض ما تقدم بأنه وإن ثبت اتحاد الفاعل لكن لم تتم به شروط صحة النصب لفقد شرط آخر منها وهو المقارنة في الوجود فإن الخلق متقدم على الزينة. وأجيب بأن ذلك على إرادة إرادة الزينة كما قيل في ضربت زيدا تأديبا أن التأديب بتأويل إرادته، وجوز أبو البقاء كون زِينَةً مصدرا لفعل محذوف أي ولتتزينوا بها زينة، وقال ابن عطية إنه مفعول به لفعل محذوف أي وجعلها زينة، وروى قتادة عن ابن عباس أنه قرأ «لتركبوها زينة» بغير واو، قال صاحب اللوامح إن زِينَةً حينئذ نصب على الحال من الضمير في خَلَقَها أو من الضمير في لِتَرْكَبُوها ولم يعين الضمير وعينه ابن عطية فقال هو
344
المنصوب، وقال غير واحد تجوز الحالية من كل من الضميرين أي لتركبوها متزينين أو متزينا بها، وقال الزمخشري بعد حكاية القراءة: أي خلقها زينة لتركبوها، ومراده على ما قيل أن الزينة إما ثاني مفعولي- خلق- على إجرائه مجرى جعل أو هو حال عن المفعولات الثلاثة على الجمع، وجوز كونه مفعولا له لِتَرْكَبُوها وهو بمعنى التزين فلا يرد عليه اختلاف فاعل الفعلين قيل: وأما لزوم تخصيص الركوب المطلوب بكونه لأجل الزينة وكون الحكمة في خلقها ذلك وكون ذلك هو المقصود الأصلي لنا فلا ضير فيه لأن التجمل بالملابس والمراكب لا مانع منه شرعا وهو لا ينافي أن يكون لخلقها حكم أهم كالجهاد عليها وسفر الطاعات، وإنما خص لمناسبته لمقام الامتنان مع أن الزينة على ما قال الراغب ما لا يشين في الدنيا ولا في الآخرة، وأما ما يزين في حالة دون أخرى فهو من وجه شين اه فتأمل ولا تغفل.
واستدل بالآية على حرمة أكل لحوم المذكورات لأن السوق في معرض الاستدلال بخلق هذه النعم منة على هذا النوع دلالة على التوحيد وسوء صنيع من يقابلها بالإشراك والحكيم لا يمن بأدنى النعمتين تاركا أعلاهما، كيف وقد ذكر أماما.
وروى ابن جرير وغيره القول بكراهة أكل لحوم الخيل لهذه الآية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وروي عن أبي حنيفة عليه الرحمة أنه قال: رخص بعض العلماء في لحم الخيل فأما أنا فلا يعجبني أكله، وفي رواية أخرى أنه قال أكرهه والأولى تلوح إلى قوله بكراهة التنزيه والثانية تدل على التحريم بناء على ما روي عن أبي يوسف أنه سأله إذا قلت: في شيء أكرهه فما رأيك فيه؟ فقال: التحريم، وكأنه لهذا قال صاحب الهداية الأصح أن كراهة أكل لحمها تحريمية عند الإمام، وفي العمادية أنه رضي الله تعالى عنه رجع عن القول بالكراهة قبل موته بثلاثة أيام وعليه الفتوى، وقال صاحباه والإمام الشافعي رضي الله تعالى عنهم: لا بأس بأكل لحوم الخيل. وأجاب بعض الشافعية عن الاستدلال بالآية بمنع كون المذكور أدنى النعمتين بالنسبة إلى الخيل قال: ذلك لأن الآية وردت للامتنان عليهم على نحو ما ألفوه، ولا ينكر ذو أرب أن معظم الغرض من الخيل الركوب والزينة لا الأكل بخلاف النعم، وذكر أغلب المنفعتين وترك أدناهما ليس بدعا بل هو دأب اختصارات القرآن وذكره في الأول إن لم يصر حجة لنا في الاكتفاء مع التنبيه على أنه نزر في المقابل فلا يصير حجة علينا، فظهر أنه لا استدلال لا من عبارة الآية ولا من إشارتها.
واستدلوا على الحل بما
صح من حديث جابر أنه ﷺ نهى عن لحوم الحمر الأهلية والبغال وأذن عليه الصلاة والسلام في لحم الخيل يوم خيبر،
وفيه دليل عندهم على أن الآية لا تدل على التحريم لإفادته أن تحريم لحوم الحمر الأهلية إنما وقع عام خيبر كما هو الثابت عند أكثر المحدثين وهذه السورة مكية فلو علم التحريم مما فيها كان ثابتا قبله، وبحث فيه بأن السورة وإن كانت مكية يجوز كون هذه الآية مدنية، وفيه أن مثل ذلك يحتاج إلى الرواية ومجرد الجواز لا يكفي، وعورض
حديث جابر بما أخرجه أبو عبيد وأبو داود والنسائي وابن المنذر عن خالد بن الوليد قال: «نهى رسول الله ﷺ عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن لحوم الخيل والبغال والحمير»
والترجيح كما قال في الهداية للمحرم، لكن أنت تعلم أن هذا الخبر يوهي أمر الاستدلال لما أن خالدا قد أسلم بالمدينة والآية مكية فلو كان التحريم معلوما منها لما كان للنهي الذي سمعه كثير فائدة، والجملة الاستدلال بالآية على حرمة لحوم الخيل لا يسلم من العثار فلا بد من الرجوع في ذلك إلى الأخبار. والحكم عند تعارضها لا يخفى على ذوي الاستبصار، والذي أميل إليه الحل والله تعالى أعلم وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ أي ويخلق غير ذلك الذي فصله سبحانه لكم، والتعبير عنه بما ذكر لأن مجموعه غير معلوم ولا يكاد يكون معلوما فالكلام إجمالا لما عدا الحيوانات المحتاج غالبا احتياجا ضروريا أو غير ضروري، والعدول إلى صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار والتجدد أو لاستحضار الصورة، ويجوز أن يكون
345
إخبارا منه تعالى بأن له سبحانه ما لا علم لنا به من الخلائق ف ما لا تَعْلَمُونَ على ظاهره
فقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: «قال رسول الله ﷺ إن مما خلق الله تعالى لأرضا لؤلؤة بيضاء مسيرة ألف عام عليها جبل من ياقوتة حمراء محدق بها في تلك الأرض ملك قد ملأ شرقها وغربها له ستمائة رأس في كل رأس ستمائة وجه في كل وجه ستمائة ألف وستون ألف فم في كل فم ستون ألف لسان يثني على الله تعالى ويقدسه ويهلله ويكبره بكل لسان ستمائة ألف وستين ألف مرة فإذا كان يوم القيامة نظر إلى عظمة الله تعالى فيقول: وعزتك ما عبدتك حق عبادتك فذلك قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ وفي رواية أخرى عنه أن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر فيغتسل فيزداد جمالا إلى جماله وعظما إلى عظمه ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك فدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور وسبعون ألف ملك الكعبة لا يعودون إلى يوم القيامة.
وروي هذا أيضا عن الضحاك ومقاتل وعطاء،
ومما لا نعلمه أرض السمسمة التي ذكر عنها الشيخ الأكبر قدس سره ما ذكر، وجابرصا وجابلقا حسبما ذكر غير واحد، وإن زعمت ذلك من الخرافات كالذي ذكره عصرينا رئيس الطائفة الذين سموا أنفسهم بالكشفية ودعاهم أعداؤهم من الإمامية بالكشفية في غالب كتبه مما تضحك منه لعمر أبيك الثكلى ويتمنى العالم عند سماعه لمزيد حيائه من الجهلة نزوله إلى الأرض السفلى فاقنع بما جاء في الآثار، ولا يثنينك عنه شبه الفلاسفة إذا صح سنده فإنها كسراب بقيعة، والذي أظنه أنه ليس أحد من الكفار فضلا عن المؤمنين يشك في أن لله تعالى خلقا لا نعلمهم ليحتاج إلى إيراد الشواهد على ذلك، ويجوز أن يكون المراد بهذا الخلق الخلق في الجنة أي ويخلق في الجنة غير ما ذكر من النعم الدنيوية ما لا تعلمون أي ما ليس من شأنكم أن تعلموه، وهو ما أشير إليه
بقوله ﷺ حكاية عن الله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»
.
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ القصد مصدر بمعنى الفاعل، يقال: سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك ولا يعدل عنه، فهو نحو نهر جار وطريق سائر وعَلَى للوجوب مجازا والكلام على حذف مضاف أي متحتم عليه تعالى متعين كالأمر الواجب لسبق الوعد بيان، وقيل: هداية الطريق المستقيم الموصل لمن سلكه إلى الحق هو التوحيد بنصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه، أو هو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل وعَلَى على حالها المار إلا أنه لا حاجة إلى تقدير المضاف أي عليه سبحانه تقويم السبيل وتعديلها أي جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق على حد صغر البعوضة وكبر الفيل وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب.
وجوز أن يكون القصد بمعنى القاصد أي المستقيم كما في التفسير الأول وعَلَى ليست للوجوب واللزوم والمعنى أن قصد للسبيل ومستقيمه موصل إليه تعالى ومار عليه سبحانه، وفيه تشبيه ما يدل على الله عز وجل بطريق مستقيم شأنه ذلك، وقد ذكر نحو هذا ابن عطية وهو كما ترى، وأل في السبيل للجنس عند كثير فهو شامل للمستقيم وغير، وإضافة القصد بمعنى المستقيم إليه من إضافة العام إلى الخاص، وإضافة الصفة إلى الموصوف خلاف الظاهر على ما قيل وقيل: أل للعهد. والمراد سبيل الشرع وقوله تعالى: وَمِنْها جائِرٌ أي عادل عن المحجة منحرف عن الحق لا يوصل سالكه إليه ظاهر في إرادة الجنس إذ البعضية إنما تتأتى على ذلك، فإن الجائر على إرادة العهد ليس من
346
ذلك بل قسيمه، ومن أراده أعاد الضمير على المطلق الذي في ضمن ذلك المقيد أو على المذكور بتقدير مضاف أي ومن جنسها جائر، وقال ابن عطية: يحتمل أن يعود على سبيل الشرع، والمراد بهذا البعض فرق الضلالة من أمة محمد ﷺ وهو جائر عن قصد السبيل وزعم بعضهم أن الضمير يعود على الخلائق أي ومن الخلائق جائر عن الحق، وأيد بقراءة عيسى، ورويت عن ابن مسعود «ومنكم» وأخرجها ابن الأنباري في المصاحف عن علي كرم الله تعالى وجهه لكن بالفاء بدل الواو وليس بذاك، والتأنيث لأن السبيل تؤنث وتذكر، والجار والمجرور قيل خبر مقدم وجائِرٌ مبتدأ مؤخر، وقيل: هو في محل رفع بالابتداء إما باعتبار مضمونه وإما بتقدير الموصوف أي بعض السبيل أو بعض من السبيل جائر، والجملة على ما اختاره بعض المحققين اعتراضية جيء بها لبيان الحاجة إلى البيان أو التعديل بنصب الأدلة والإرسال والانزال الأمور المذكورة سابقا وإظهار جلالة قدر النعمة في ذلك، وذلك هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب لا الهداية المستلزمة للاهتداء إليه فإن ذلك ليس على الله سبحانه أصلا بل هو مخل بحكمته كما يشير إليه قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فإن معناه ولو شاء هدايتكم إلى ما ذكر من التوحيد هداية مستلزمة للاهتداء إليه لفعل ولكن لم يشأ لأن مشيئته تابعة للحكمة ولا حكمة في تلك المشيئة لما أن الذي يدور عليه فلك التكليف إنما هو الاختيار الذي عليه ترتب الأعمال التي بها يرتبط الجزاء، وقيد أَجْمَعِينَ للمنفي لا للنفي فيكون المراد سلب العموم لا عموم السلب، وذكر بعضهم أنه كان الظاهر أن يقال: وعلى الله قصد السبيل وجائرها أو وعليه جائرها إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأن الضلال لا يضاف إليه تعالى تأدبا فهو كقوله تعالى: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: ٧].
وزعم الزمخشري أن المخالفة بين أسلوبي الجملتين للإيذان بما يجوز إضافته من السبيلين إليه تعالى وما لا يجوز وعنى الإشارة إلى ما ذهب إليه إخوانه المعتزلة من عدم جواز إضافة الضلال إليه سبحانه لأنه غير خالقه وجعلوا الآية للمخالفة حجة لهم في هذه المخالفة. وأجاب بعض الجماعة بأن المراد على الله تعالى بحسب الفضل والكرم بيان الدين الحق والمذهب الصحيح فأما بيان كيفية الإغواء والإضلال فليس عليه سبحانه، وبحث فيه بأنه كما أن بيان الهداية وطريقها متحتم فكذا ضده وليس إرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب إلا لذلك.
وقال ابن المنير: إن المخالفة بين الأسلوبين لأن سياق الكلام لإقامة الحجة على الخلق بأنه تعالى بين السبيل القاصد والجائر وهدى قوما اختاروا الهدى وأضل آخرين اختاروا الضلالة، وقد حقق أن كل فعل صدر على يد العبد فله اعتباران هو من حيث كونه موجودا مخلوق لله تعالى ومضاف إليه سبحانه بهذا الاعتبار، وهو من حيث كونه مقترنا باختيار العبد له وتيسره عليه يضاف إلى العبد وأن تعدد هذين الاعتبارين ثابت في كل فعل فناسب إقامة الحجة على العباد إضافة الهداية إلى الله تعالى باعتبار خلقه لها وإضافة الضلال إلى العبد باعتبار اختياره له. والحاصل أنه ذكر في كل واحد من الفعلين نسبة غير النسبة المذكورة في الآخر ليناسب ذلك إقامة الحجة ألا لله الحجة البالغة، وأنكر بعض المحققين أن يكون هناك تغيير الأسلوب لأمر مطلوب بناء على أن ذلك إنما يكون فيما اقتضى الظاهر سبكا معينا ولكن يعدل عن ذلك لنكتة أهم منه، وليس المراد من بيان قصد السبيل مجرد إعلام أنه مستقيم حتى يصح إسناد أنه جائر إليه تعالى فيحتاج إلى الاعتذار عن عدم ذلك على أنه لو أريد ذلك لم يوجد لتغيير الأسلوب نكتة، وقد بين ذلك في مواضع غير معدودة بل المراد نصب الأدلة للهداية إليه ولا إمكان لإسناد مثله إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق الجائر بأن يقال: وجائرها حتى يصرف ذلك الإسناد منه تعالى إلى غيره سبحانه لنكتة ولا يتوهمه متوهم حتى يقتضي الحال دفع ذلك بأن يقال لا جائرها ثم يغير سبك النظم عنه لداعية أقوى منه، وذكر أن الجملة اعتراضية حسبما نقلناه سابقا، وهو
347
كلام يلوح عليه مخايل التحقيق، بيد أن لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يراد ببيان السبيل المستقيم وببيان السبيل الجائر نصب الأدلة الدالة على حقية الأول ليهتدي إليه وبطلان الثاني ليحذر ولا يعول عليه وهذا غير مجرد الإعلام الذي ذكره ونسبته إليه تعالى ممكنة بل قال بعضهم: إن الحق أن المعنى على الله تعالى بيان طريق الهداية ليهتدوا إليه وبيان غيرها ليحذروه لكن اكتفى بأحدهما للزوم الآخر له.
وفي الكشف أن تغاير الأسلوبين على أصل أهل السنة واضح أيضا إذ لا منكر أن الأول هو المقصود لذاته فبيان طريق الضلالة إجمالا قدر ما يمتاز قصد السبيل منه في ضمن بيان قصد السبيل ضرورة وبيانه التفصيلي ليس مما لا بد من وقوعه ولا أن الوعد جرى به على مذهب اه فليتأمل، ثم إن الآية منادية على خلاف ما زعمه المعتزلة ومنهم الزجاج (١) من عدم استلزام تعلق مشيئته تعالى بشيء وجوده وقد التجئوا إلى التزام تفسيرها بالقسرية، وقال أبو علي منهم: المعنى لو شاء لهداكم إلى الثواب أو إلى الجنة بغير استحقاق وكل ذلك خلاف الظاهر كما لا يخفى.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً شروع في نوع آخر من النعم الدالة على توحيده سبحانه، والمراد من الماء نوع منه وهو المطر، ومن السماء إما السحاب على سبيل الاستعارة أو المجاز المرسل، وإما الجرم المعروف والكلام على حذف مضاف أي من جانب السماء أو جهتها وحملها على ذلك بدون هذا يقتضيه ظاهر بعض الأخبار ولا أقول به، ومِنَ على كل تقدير ابتدائية وهو متعلق بما عنده، وتأخير المفعول الصريح عنه ليظمأ الذهن إليه فيتمكن أتم تمكن عند وروده عليه، وقوله تعالى: لَكُمْ يحتمل أن يكون خبرا مقدما، وقوله سبحانه: مِنْهُ في موضع الحال من قوله عز وجل: شَرابٌ أي ما تشربون وهو مبتدأ مؤخر أو هو فاعل بالظرف الأول والجملة صفة لماء ومِنَ تبعيضية وليس في تقديمها إيهام حصر، ومن توهمه قال: لا بأس به لأن جميع المياه العذبة المشروبة بحسب الأصل منه كما ينبئ عنه قوله تعالى: فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: ٢١] وقوله سبحانه: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون: ١٨] ويحتمل أن يكون متعلقا بما عنده ومِنْهُ شَرابٌ مبتدأ وخبر أو شراب فاعل بالظرف والجملة ومن كما تقدم.
وتعقب بأن توسيط المنصوب بين المجرورين وتوسيط الثاني منهما بين الماء وصفته مما لا يليق بجزالة النظم الجليل وهو كذلك وَمِنْهُ شَجَرٌ أي نبات مطلقا سواء كان له ساق أم لا كما نقل عن الزجاج وهو حقيقة في الأول، ومن استعماله في الثاني قول الراجز:
نعلفها اللحم إذا عز الشجر والخيل في إطعامها اللحم ضرر
فإنه قيل: الشجر فيه بمعنى الكلأ لأنه الذي يعلف، وكذا فسره في النهاية بذلك في
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت»
ولعل ذلك لأنه جاء في الحديث النهي عن منع فضل الماء كمنع فضل الكلأ وتشارك الناس في الماء والكلأ والنار، وأبقاه بعضهم على حقيقته ولم يجعله مجازا شاملا، ومِنَ إما للتبعيض مجازا لأن الشجر لما كان حاصلا بسقيه جعل كأنه منه كقوله: أسنمة الإبال في ربابه. يعني به المطر الذي ينبت به ما تأكله الإبل فتسمن أسنمتها، وإما للابتداء أي وكائن منه شجر، والأول أولى بالنسبة إلى ما قبله.
وقال أبو البقاء هي سببية أي وبسببه إنبات شجر، ودل على ذلك يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وجوز ابن الأنباري
(١) فائدة هذا أن ابن عطية لم يعرف ذلك فقال إذ رأى تفسيره المشيئة بمشيئة القسر إن هذا تفسير أهل البدعة وقد وقع فيه من غير قصد اه منه.
348
الوجهين الأولين على ما يقتضيه ظاهر قوله: الكلام على تقدير مضاف إما قبل الضمير أي من جهته أو من سقيه شجر وإما قبل شجر أي ومنه شراب شجر كقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: ٩٣] أي حبه اه وهو بعيد وإن قيل: الإضمار أولى من المجاز لا العكس الذي ذهب إليه البعض وصحح المساواة لاحتياج كل منهما إلى قرينة.
فِيهِ تُسِيمُونَ أي ترعون يقال: أسام الماشية وسومها جعلها ترعى وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت، وأصل ذلك على ما قال الزجاج السومة وهي كالسمة العلامة لأن المواشي تؤثر علامات في الأرض والأماكن التي ترعاها. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما تُسِيمُونَ بفتح التاء فإن سمع سام متعديا كان هو وأسام بمعنى وإلا فتأويل ذلك أن الكلام على حذف مضاف أي تسيم مواشيكم يُنْبِتُ أي الله عز وجل يقال نبت الشيء وأنبته الله تعالى فهو منبوت وقياس هذا منبت، وقيل: يقال أنبت الشجر لازما وأنشد الفراء:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
أي نبت، وكان الأصمعي ينكر مجيء أنبت بمعنى نبت. وقرأ أبو بكر «ننبت» بنون العظمة، والزهري «ينبّت» بالتشديد وهو للتكثير في قول، واستظهر أبو حيان أنه تضعيف التعدية. وقرأ أبي «ينبت» بفتح الياء ورفع المتعاطفات بعد على الفاعلية، وجملة ينبت لَكُمْ بِهِ أي بما أنزل من السماء الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ يحتمل أن تكون صفة أخرى- لماء- وأن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: وهل له منافع أخر؟ فقيل: ينبت لكم به إلخ، وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار وأن الإنبات سنته سبحانه الجارية على ممر الدهور أو لاستحضار الصورة لما فيها من الغرابة، وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما أشرنا إليه آنفا مع ما في تقديم أولهما من الاهتمام به لإدخال المسرة ابتداء، وتقديم الزرع على ما عداه قيل: لأنه أصل الأغذية وعمود المعاش وقوت أكثر العالم وفيه مناسبة للكلأ المرعى، ثم الزيتون لما فيه من الشرف من حيث إنه ادام من وجه وفاكهة من وجه، وقد ذكر الأطباء له منافع جمة، وذكر غير يسير منها في التذكرة، والظاهر من كلام اللغويين أنه اسم جنس جمعي واحده زيتونة وأنه يطلق على الشجر المخصوص وعلى ثمرته.
واستظهر أن المراد به هنا الأول وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك، وأكثر ما ينبت في المواضع التي زاد عرضها على الميل واشتد بردها وكانت جبلية ذات تربة بيضاء أو حمراء، ثم النخيل على الأعناب لظهور دوامها بالنسبة إليها فإن الواحدة منها كثيرا ما تتجاوز مائة سنة وشجرة العنب ليست كذلك، نعم الزيتونة أكثر دواما منهما فإن الشجرة منه قد تدوم ألف سنة مع أن ثمرتها كثيرا ما يقتات بها حتى جاء
في الخبر «ما جاع بيت وفيه تمر»
وأكثر ما تنبت في البلاد الحارة اليابسة التي يغلب عليها الرمل كالمدينة المشرفة والعراق وأطراف مصر، وهي على ما قال الراغب جمع نخل وهو يطلق على الواحد والجمع ويقال للواحدة نخلة، وأما الأعناب فجمع عنبة بكسر العين وفتح النون والباء وقد جاءت ألفاظ مفردة على هذا الوزن غير قليلة.
وقد ذكر في القاموس عدة منها، ونسب الجوهري إلى قلة الاطلاع في قوله: إن هذا البناء في الواحد نادر وجاء منه العنبة والتولة والحبرة والطيبة والخيرة ولا أعرف غير ذلك وذكر الجوهري أنه إن أردت جمعه في أدنى العدد جمعته بالتاء وقلت عنبات وفي الكثير عنب وأعناب اه، ولينظر هذا مع عدهم أفعالا من جموع القلة، ويطلق العنب كما قال الراغب على ثمرة الكرم وعلى الكرم نفسه، والظاهر أن المراد هو الثاني.
وذكر أبو حيان في وجه تأخير الأعناب أن ثمرتها فاكهة محضة، وفيه أنه إن أراد بثمرتها العنب ما دام طريا قبل أن يقترب فيمكن أن يسلم وإن أراد به المتزبب فغير مسلم، وفي كلام كثير من الفقهاء في بحث زكاة الفطر أن في
349
الزبيب اقتياتا بل ظاهر كلامهم أنه في ذلك بعد التمر وقبل الأرز، والباحث في هذا لا ينفي الاقتيات كما لا يخفى على الواقف على البحث، وفي جمع النَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ إشارة إلى أن ثمارها مختلفة الأصناف ففي التذكرة عند ذكر التمر أنه مختلف كثير الأنواع كالعنب حتى سمعت أنه يزيد على خمسين صنفا، وعند ذكر العنب أنه يختلف بحسب الكبر والاستطالة وغلظ القشر وعدم العجم وكثرة الشحم واللون والطعم وغير ذلك إلى أنواع كثيرة كالتمر اه، وأنا قد سمعت من والدي عليه الرحمة أنه سمع في مصر حين جاءها بعد عوده من الحج لزيارة أخيه المهاجر إليها لطلب العلم أن في نواحيها من أصناف التمر ما يقرب من ثلاثمائة صنف والعهدة على من سمع منه هذا، وللعلامة أبي السعود هنا ما يشعر ظاهره بالغفلة وسبحان من لا يغفل وكان الظاهر تقديم غذاء الإنسان لشرفه على غذاء ما يسام لكن قدم ذاك- على ما قال الإمام- للتنبيه على مكارم الأخلاق وأن يكون اهتمام الإنسان بمن تحت يده أقوى من اهتمامه بنفسه، والعكس في قوله تعالى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طه: ٥٤] للإيذان بأن ذلك ليس بلازم وإن كان من الأخلاق الحميدة، وهو على طبق ما ورد في الخبر «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وقيل: لأن ذلك مما لا دخل للخلائق فيه ببذر وغرس فالامتنان به أقوى، وقيل: لأن أكثر المخاطبين من أصحاب المواشي وليس لهم زرع ولا شيء مما ذكر، وقال شهاب الدين في وجه ذلك. ولك أن تقول لما سبق ذكر الحيوانات المأكولة والمركوبة ناسب تعقيبها بذكر مشربها ومأكلها لأنه أقوى في الامتنان بها إذ خلقها ومعاشها لأجلهم فإن من وهب دابة مع علفها كان أحسن، كما قيل: من الظرف هبة الهدية مع الظرف اه ولا يخلو عن حسن.
والأولى عليه أن يراد من قوله تعالى: لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ما يشرب، وأما ما قيل: إن ما قدم من الغذاء للإنسان أيضا لكن بواسطة فإنه غذاء لغذائه الحيواني فلا يدفع السؤال لأنه يقال بعد: كان ينبغي تقديم ما كان غذاء له بغير واسطة، لا يقال: هذا السؤال إنما يحسن إذا كان المراد من المتعاطفات المذكورات ثمراتها لا ما يحصل منها الثمرات لأن ذلك ليس غذاء الإنسان لأنا نقول: ليس المقصود من ذكرها إلا الامتنان بثمراتها إلا أنها ذكرت على نمط سابقها المذكور في غذاء الماشية ويرشد إلى أن الامتنان بثمراتها قوله سبحانه: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وإرادة الثمرات منها من أول الأمر بارتكاب نوع من المجاز في بعضها لهذا إهمال لرعاية غير أمر يحسن له حملها على ما قلنا دون ذلك، منه يُنْبِتُ إذ ظاهره يقتضي التعلق بنفس الشجرة لا بثمرتها فليعمل بما يقتضيه في صدر الكلام وإن اقتضى آخره اعتبار نحو ما قيل في: غلفتها تبنا وماء باردا. كذا قيل وفيه تأمل، ومعنى بعضهم كون الإنبات مما يقتضي التعلق المذكور فقد قال سبحانه: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا [عبس: ٢٧- ٣١] وجوز أن لا يكون الملحوظ فيما عد مجرد الغذائية بل ما يعمها وغيرها على معنى ينبت به لنفعكم ما ذكر والنفع يكون بما فيه غذاء وغيره، ومِنْ للتبعيض والمعنى وينبت لكم بعض كل الثمرات، وإنما قيل ذلك لما في الكشاف وغيره من أن كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض بعض من كل للتذكرة، وقال بعض الأجلة: المراد بعض مما في بقاع الإمكان من ثمر القدرة الذي لم تجنه راحة الوجود، وهو أظهر وأشمل وأنسب بما تقدم لأنه سبحانه كما عقب ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل بقوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ عقب ذكر الثمرات المنتفع بها بمثله إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من إنزال الماء وإنزال ما فصل لَآيَةً عظيمة دالة على تفرده تعالى بالإلهية لاشتماله على كمال العلم والقدرة والحكمة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإن من تفكر في أن الحبة والنواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في الأرض وربما انبسطت فيها وإن كانت صلبة وينشق أعلاها وإن كانت منتسكسة في الوقوع فيخرج منها ساق فينمو فيخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على
350
أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطبائع وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر لا إلى نهاية مع اتحاد الماء والأرض والهواء وغيرها بالنسبة إلى الكل علم أن من هذه آثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال فضلا عن أن يشاركه في أخص صفاته التي هي الألوهية واستحقاق العبادة أخس الأشياء كالجماد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولله تعالى در من قال:
تأمل في رياض الورد وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات على أهدابها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
وحيث كان استدلاله بما ذكر لاشتماله على أمر خفي محتاج إلى التفكر والتدبر لمن له نظر سديد ختم الآية بالتفكر وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يتعاقبان خلفة لمنامكم واستراحتكم وسعيكم في مصالحكم من الإسامة وتعهد حال الزرع ونحو ذلك وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالة وخلافة وأدائهما ما نيط بهما من تربية الأشجار والزروع وإنضاج الثمرات وتلوينها وغير ذلك من التأثيرات المترتبة عليهما بإذن الله تعالى حسبما يقوله السلف في الأسباب والمسببات، وليس المراد بتسخير ذلك للمخاطبين تمكينهم من التصرف به كيف شاؤوا كما في قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا [الزخرف: ١٣] ونحوه بل تصريفه سبحانه لذلك حسبما يترتب عليه منافعهم ومصالحهم كأن ذلك تسخير لهم وتصرف من قبلهم حسب إرادتهم قاله بعض المحققين.
وقال آخرون: إن أصل التسخير السوق قهرا ولا يصح إرادة ذلك لأن القهر والغلبة مما لا يعقل فيما لا شعور له من الجمادات كالشمس والقمر وعدم تعقله في نحو الليل والنهار أظهر من ذلك فهو هنا مجاز عن الإعداد والتهيئة لما يراد من الانتفاع، وفي ذلك إيماء إلى ما في المسخر من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبين.
وذكر الإمام في المراد من التسخير نحو ما ذكر أولا ثم ذكر وجها آخر قال فيه: إنه لا يستقيم إلا على مذهب أصحاب الهيئة وهو أنهم يقولون: الحركة الطبيعية للشمس والقمر هي الحركة من المغرب إلى المشرق فالله تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب فكانت هذه الحركة قسرية فلذا ورد فيها لفظ التسخير، وذكر أيضا أن حدوث الليل والنهار ليس إلا بسبب حركة الفلك الأعظم دون حركة الشمس وأما حركتها فهي سبب لحدوث السنة ولذا لم يكن ذكر الليل والنهار مغنيا عن ذكر الشمس اه ولا يعترض عليه بأن ما ذكره من قوله: إن حدوث الليل والنهار إلى آخره لا يتأتى في عرض تسعين لأن الليل والنهار لا يحصلان إلا بغروب الشمس وطلوعها وهي هناك لا تغرب ولا تطلع بحركة الفلك الأعظم بل بحركتها الخاصة ولذا كانت السنة يوما وليلة لما أن ذلك العرض غير مسكون وكذا ما يقرب منه فلا يدخل في حيز الامتنان. نعم في كلامه عند المتمسكين بأذيال الشريعة غير ذلك فلينظر وفي كون الشمس والقمر مما لا شعور لهما خلاف بين العلماء فذهب البعض إلى أنهما عالمان وهو الذي تقتضيه الظواهر وإليه ذهب الصوفية والفلاسفة، ولم أشعر بوقوع خلاف في أن الليل والنهار مما لا شعور لهما، نعم رأيت في البهجة القادرية عن القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره العزيز أن الشهر أو الأسبوع يأتيه في صورة شخص فيخبره بما يحدث فيه من الحوادث، ولعل هذا على نحو ظهور القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب وقوله لمن كان يحفظه:
«أنا الذي أسهرتك في الدياجي وأظمأتك في الهواجر»
وظهور الموت في صورة كبش أملح وذبحه بين الجنة والنار يوم القيامة كما جاء في الخبر، وعليك بالإيمان بما جاء عن الصادق المصدوق ﷺ وأنت في الإيمان بغيره بالخيار، وإيثار صيغة الماضي قيل للدلالة على أن ذلك التسخير أمر واحد
351
مستمر وإن تجددت آثاره وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ مبتدأ وخبر أي وسائر النجوم البيانية وغيرها في حركاتها وأوضاعها المتبدلة وغير المتبدلة وسائر أحوالها مسخرات لما خلقت له بخلقه تعالى وتدبيره الجاري على وفق مشيئته فالأمر واحد الأمور، وجوز أن يكون واحد الأوامر ويراد منه الأمر التكويني عند من لا يقول بإدراك النجوم، والمعنى أنها مسخرة لما خلقت له بقدرته تعالى وإيجاده، قيل: وحيث لم يكن عود منافع النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من الجديدين والنيرين لم ينسب تسخيرها إليهم بأداة الاختصاص بل ذكر على وجه يفيد أنها تحت ملكوته عز وجل من غير دلالة على شيء آخر، ولذلك عدل عن الجملة الفعلية الدالة على الحدوث إلا الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار، وقرأ ابن عامر برفع الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أيضا فيكون المبتدأ الشمس والبواقي معطوفة عليه ومُسَخَّراتٌ خبر عن الجميع، ولا يتأتى على هذه القراءة ما قيل في وجه عدم نسبة تسخير ذلك إليهم بأداة الاختصاص كما لا يخفى، واعتبار عدم كون ظهور المنافع بمثابة السابق بالنظر إلى المجموع كما ترى. ومن الناس من قال في ذلك: إن المراد بتسخير الليل والنهار لهم نفعهم بهما من حيث إنهما وقتا سعى في المصالح واستراحة ومن حيث ظهور ما يترتب عليه منافعهم مما نيط به صلاح المكونات التي من جملتها ما فصل وأجمل مثلا كالشمس والقمر فيهما، ويؤول ذلك بالآخرة إلى النفع بذلك وهو معنى تسخيره لهم، فيكون تسخير الليل والنهار لهم متضمنا لتسخير ذلك لهم فحيث أفاده الكلام أولا استغنى عن التصريح به ثانيا وصرح بما هو أعظم شأنا منه وهو أن تلك الأمور لم تزل ولا تزال مقهورة تحت قدرته منقادة لإرادته ومشيئته سواء كنتم أو لم تكونوا فليتدبر، وقرأ الجمهور والنجوم- ومسخرات بالنصب فيهما وكذا فيما تقدم، وخرج ذلك على أن النُّجُومُ مفعول أول لفعل محذوف ينبئ عنه الفعل المذكور ومُسَخَّراتٌ مفعول ثان له، أي وجعل النجوم مسخرات، وجوز جعل- جعل- بمعنى خلق المتعدي لمفعول واحد- فمسخرات- حال، واستظهر أبو حيان كون النُّجُومُ معطوفا على ما قبله بلا إضمار ومُسَخَّراتٌ حينئذ قيل حال من الجميع على أن التسخير مجاز عن النفع أي نفعكم بها حال كونها مسخرات لما خلقت له مما هو طريق لنفعكم وإلا فالحمل على الظاهر دال على أن التسخير في حال التسخير بأمره ولا كذلك لتأخر الأول، وقيل: لذلك أيضا: إن المراد مستمرة على السخير بأمره الإيجادي لأن الأحداث لا يدل على الاستمرار، وجوز بعض أجلة المعاصرين أن يكون حالا موكدة بتقدير بِأَمْرِهِ متعلقا ب يَسْخَرْ والكلام من باب التنازع، وقبوله مفوض إليك، وقيل: هو مصدر ميمي كمسرح منصوب على أنه مفعول مطلق- لسخر- المذكور أولا وسخرها مسخرات على منوال ضربته ضربات، وجمع إشارة إلى اختلاف الأنواع، وفي إفادة تسخير ما ذكر إيذان بالجواب عما عسى يقال: إن المؤثر في تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها فإن ذلك إن سلم فلا ريب في أنها ممكنة الذات والصفات واقعة على بعض الوجوه المحتملة فلا بد من موجد ضرورة احتياج الممكن في وجوده إلى مخصص لئلا يلزم من الوقوع على بعض الوجوه مع احتمال غيره ترجيح بلا مرجح مختار لما أن الإيجاب ينافي الترجيح واجب الوجود دفعا للدور أو التسلسل كذا قاله بعض الأجلة، واعترضه المولى العمادي بأنه مبني على حسبان ما ذكر أدلة الصانع تعالى وقدرته واختياره، وليس الأمر كذلك فإنه مما لا ينازع فيه الخصم ولا يتلعثم في قبوله قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت: ٦١] وقال سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت: ٦٣] الآية وإنما ذلك أدلة التوحيد من حيث إن من هذا شأنه لا يتوهم أن يشاركه شيء في شيء فضلا أن يشاركه الجماد في الألوهية اه، وتعقب بأن كون ما ذكر أدلة التوحيد لا يأبى
أن يكون فيه إيذان بالجواب عما عسى يقال وأي ضرر في أن يساق شيء لأمر ويؤذن بأمر آخر، ولعمري لا أرى لهذا الاعتراض وجها بعد قول القائل في ذلك إيذان بالجواب عما عسى يقال إلخ حيث لم يبت
352
القول وأقحم عسى في البين لكن للقائل كلام يدل دلالة ظاهرة على أنه اعتبر الأدلة المذكورة أدلة على وجود الصانع عز شأنه أيضا وقد سبقه في ذلك الإمام.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي التسخير المتعلق بما ذكر لَآياتٍ باهرة متكاثرة على ما يقتضيه المقام لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وحيث كانت هذه الآثار العلوية متعددة ودلالة ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمة على الوحدانية أظهر جمع الآيات وعلقت بمجرد العقل من غير تأمل وتفكر كأنه لمزيد ظهورها مدركة ببداهة العقل بخلاف الآثار السفلية في ذلك كذا قالوا، وهو ظاهر على تقدير كون الاستدلال على الوحدانية لا على الوجود أيضا، وأما إذا كان الاستدلال على ذلك ففي دعوى الظهور المذكور بحث لانجرار الكلام على ذلك إلى إبطال التسلسل فكيف تكون الدلالة ظاهرة غير محوجة إلى فكر. وأجيب عنه بأن الاستدلال بالدور أو التسلسل إنما هو بعد التفكر في بدء أمرها وما نشأ منه من اختلاف أحوالها فافهم.
وجوز أن يكون المراد لقوم يعقلون ذلك والمشار إليه نهاية تعاجيب الدقائق المودعة في العلويات المدلول عليها بالتسخير التي لا يتصدى لمعرفتها إلا المهرة الذين لهم نهاية الإدراك من أساطين علماء الحكمة وحينئذ قطع الآية بقوله سبحانه هنا: يَعْقِلُونَ للإشارة إلى احتياج ذلك إلى التفكر أكثر من غيره والأول أولى كما لا يخفى وَما ذَرَأَ أي خلق ومنه الذرية على قول والعطف عند بعض على النُّجُومُ رفعا ونصبا على أنه مفعول- لجعل- وما موصولة أي والذي ذرأه لَكُمْ فِي الْأَرْضِ من حيوان ونبات، وقيل: من المعادن ولا بأس في التعميم فيما أرى حال كونه مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي أصنافه كما قال جمع من المفسرين وهو مجاز معروف في ذلك، قال الراغب:
الألوان يعبر بها عن الأجناس والأنواع يقال: فلان أتى بألوان من الحديث والطعام وكان ذلك لما أن اختلافها غالبا يكون باختلاف اللون، وقيل: المراد المعنى الحقيقي أي مختلفا ألوانه من البياض والسواد وغيرهما والأول أبلغ أي ذلك مسخر لله تعالى أو لما خلق له من الخواص والأحوال والكيفيات أو جعل ذلك مختلف الألوان والأصنام لتتمتعوا بأي صنف شئتم منه، وذهب بعضهم إلى أن الموصول معطوف على الليل وقيل عليه: إن في ذلك شبه التكرار بناء على أن اللام في لَكُمْ للنفع وقد فسر سَخَّرَ لَكُمُ لنفعكم فمآل المعنى نفعكم بما خلق لنفعكم فالأولى جعله في محل نصب بفعل محذوف أي خلق أو أنبت كما قاله أبو البقاء ويجعل مُخْتَلِفاً حالا من مفعوله واعتذر بأن الخلق للإنسان لا يستلزم التسخير لزوما عقليا، فإن الغرض قد يتخلف مع أن الإعادة لطول العهد لا تنكر. ورد بأنه غفلة عن كون المعنى نفعكم وما ذكر علاوة مبني على كون لَكُمْ متعلقة- بسخر- أيضا وهي عند ذلك الذاهب متعلقة كما هو الظاهر بذرأ وفي الحواشي الشهابية أن هذا ليس بشيء لأن التكرار لما ذكر وللتأكيد أمر سهل، وكون المعنى نفعكم لا يأباه مع أن هذه الآية سيقت كالفذلكة لما قبلها ولذا ختمت بالتذكر، وليس لمن يميز بين الشمال واليمين أن يقول: ما مبتدأ ومُخْتَلِفاً حال من ضميره المحذوف، وجملة قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ خبره والرابط اسم الإشارة على حد ما قيل في قوله تعالى: وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: ٢٦] كأنه قيل، وما ذرأه لكم في الأرض إن فيه لآية، وحاصله تعالى أن فيما ذرأ لآية لظهور مخالفة الآية عليه السباق والسياق بل عدم لياقته لأن يكون محملا لكلام الله تعالى الجليل أظهر من أن ينبه عليه، «و» ألوانه، على ألوان الاحتمالات مرفوع بمختلفا وقدر بعضهم ليصح رفعه به موصوفا وقال: أي صنفا مختلفا ألوانه وهو مما لا حاجة إليه كما يخفى على من له أدنى تدرب في علم النحو، ثم إن المشار إليه ما ذكر من التسخير ونحوه، وقيل: اختلاف الألوان وتنوين آية للتفخيم آية فخيمة بينة الدلالة على أن من هذا شأنه واحد لا ينبغي أن يشبهه شيء في شيء وختم الآية بالتذكر إما لما في
353
الحواشي الشهابية من أنها كالفذلكة لما قبلها وإما للإشارة إلى أن الأمر ظاهر جدا غير محتاج إلا إلى تذكر ما عسى يغفل عنه من العلوم الضرورية، وقال بعضهم: يذكرون أن اختلاف طبائع ما ذكر وهيئاته وأشكاله مع اتحاد مادته يدل على الفاعل الحكيم المختار، وهو ظاهر في أن ما ذكر دليل على إثبات وجود الصانع كما أنه دليل على وحدانيته وهو الذي ذهب إليه الإمام واقتدى به غيره، ولم يرتضه شيخ الإسلام بناء على أن الخصم لا ينازع في الوجود وإنما ينازع في الوحدانية فجيء بما هو مسلم عنده من صفات الكمال للاستدلال به على ما يقتضيه ضرورة من وحدانيته تعالى واستحالة أن يشاركه شيء في الألوهية، وقال لبعضهم: لا مانع من أن يكون المراد الاستدلال بما ذكر من الآيات على مجموع الوجود والوحدانية والخصم ينكر ذلك وإن لم ينكر الوجود وكان في أخذ الوجود في المطلوب إشارة إلى أن القول به مع زعم الشركة في الألوهية مما لا يعتد به وليس بينه وبين عدم القول به كثير نفع فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ شروع في نوع آخر من النعم متعلق بالبحر إثر تفصيل النوع المتعلق بالبر، وجعله بعضهم عديلا لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ فلذا جاء على أسلوبه جملة اسمية معرفة الجزأين، وما وقع في البين إما مترتب على ذلك الماء المنزل وإما متضمن لمصلحة ما يترتب عليه، والبحر على ما في البحر يشمل الملح والعذب، والمعنى جعل لكم ذلك بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والغوص والاصطياد لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وهو السمك، والتعبير عنه باللحم مع كونه حيوانا للإشارة إلى قلة عظامه وضعفها في أغلب ما يصطاد للأكل بالنسبة إلى الأنعام الممتن بالأكل منها فيما سبق، وقيل: للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل.
ومن متعلق- بتأكلوا- أو حال مما بعده وهي ابتدائية، وجوز أن تكون تبعيضية والكلام على حذف مضاف أي من حيوانه، وحينئذ يجوز أن (١) من اللحم الطري لحم السمك كما يجوز أن يراد منه السمك والطري فعيل من طرو يطرو طراوة مثل سرو يسرو سراوة، وقال الفراء: من طرى يطري طراء وطراوة كشقي يشقى شقاء وشقاوة، والطراوة ضد اليبوسة، ووصفه بذلك للإشعار بلطافته والتنبيه إلى أنه ينبغي المسارعة إلى أكله فإنه لكونه رطبا مستعد للتغير فيسرع إليه الفساد والاستحالة، وقد قال الأطباء: إن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء ففيه إدماج لحكم طبي، وهذا على ما قيل لا ينافي تقديده وأكله محللا كما توهم، وفي جعل البحر مبتدأ أكله على أحد الاحتمالين إيذان بالمسارعة أيضا.
وزعم بعضهم أن في الوصف إيذانا أيضا بكمال قدرته تعالى في خلقه عذبا طريا في ماء مر لا يشرب، وفيه شيء لا يخفى، ولا يؤكل عندنا من حيوان البحر إلا السمك، ويؤيده تفسير اللحم به المروي عن قتادة وغيره وعن مالك وجماعة من أهل العلم اطلاق جميع ما في البحر، واستثنى بعضهم الخنزير والكلب والإنسان، وعن الشافعي أنه أطلق ذلك كله، ويوافقه ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: هو (٢) السمك وما في البحر من الدواب. نعم يكره عندنا أكل الطافي منه وهو الذي يموت حتف أنفه في الماء فيطفو على وجه الماء
لحديث جابر عن النبي ﷺ ما نضب الماء عنه فكلوا وما لفظه الماء فكلوا وما طفا فلا تأكلوا
وهو مذهب جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وميتة البحر
في خبر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»
ما لفظه ليكون موته مضافا إليه لا ما مات فيه من غير آفة، وما قطع
(١) قوله: يجوز أن من اللحم إلخ كذا بخطه ولعله يجوز أن يراد من اللحم إلخ.
(٢) قوله. هو أي اللحم الطري اه منه.
354
بعضه فمات يحل أكل ما أبين وما بقي لأن موته بآفة وما أبين من الحي فهو ميت وإن كان ميتا فميتته حلال، ولو وجد في بطن السمكة سمكة أخرى تؤكل لأن ضيق المكان سبب موتها، وكذا إذا قتلها طير الماء وغيره أو ماتت في حب ماء، وكذا إن جمع السمك في حظيرة لا يستطيع الخروج منه وهو يقدر على أخذه بغير صيد فمات فيها، وإن كان لا يؤخذ بغير صيد فلا خير في أكله لأنه لم يظهر لموته سبب، وإذا ماتت السمكة في الشبكة وهي لا تقدر على التخلص منها أو أكلت شيئا ألقاه في الماء لتأكل منه فماتت منه وذلك معلوم فلا بأس بأكلها لأن ذلك في معنى ما انحسر عنه الماء، وفي موت الحر والبرد روايتان إحداهما وهي مروية عن محمد يؤكل لأنه مات بسبب حادث وكان كما لو ألقاه الماء على اليبس والأخرى ورويت عن الإمام أنه لا يؤكل لأن الحر والبرد صفتان من صفة الزمان وليسا من أسباب الموت في الغالب، ولا بأس بأكل الجريث والمار ماهي، واشتهر عن الشيعة حرمة أكل الأول فليراجع، واستدل قتادة كما أخرج ابن أبي شيبة عنه بالآية على حنث من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لما فيها من إطلاق اللحم عليه، وروي ذلك عن مالك أيضا. وأجيب بأن مبنى الإيمان على ما يتفاهمه الناس في عرفهم لا على الحقيقة اللغوية ولا على استعمال القرآن، ولذا لما أفتى الثوري بالحنث في المسألة المذكورة للآية وبلغ أبا حنيفة عليه الرحمة قال للسائل:
ارجع واسأله عمن حلف لا يجلس على بساط فجلس على الأرض هل يحنث لقوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً [نوح: ١٩] فقال له: كأنك السائل أمس؟ فقال: نعم، فقال: لا يحنث في هذا ولا في ذاك ورجع عما أفتى به أولا، والظاهر أن متمسك الإمام قد كان العرف وهو الذي ذهب إليه ابن الهمام لا ما في الهداية كما قال من أن القياس الحنث، ووجه الاستحسان أن التسمية القرآنية مجازية لأن منشأ اللحم الدم ولا دم في السمك لسكونه الماء مع انتقاضه بالألية فانها تنعقد من الدم ولا يحنث بأكلها.
واعترض بأنه يجوز أن يكون في المسألة دليلان ليس بينهما تناف، وما ذكر من النقض مدفوع بأن المذكور كل لحم ينشأ من الدم ولا يلزم عكسه الكلي. وتعقب بأن إطلاق اللحم على السمك لغة لا شبهة فيه فينتقض الطرد والعكس فمراد المعترض الرد عليه بزيادة في الإلزام. نعم قد يقال: مراده بالمجاز المذكور أنه مجاز عرفي كالدابة إذا أطلقت على الإنسان فيرجع كلامه إلى ما قاله الإمام وحينئذ لا غبار عليه، وما ذكره بيان لوجه الاستعمال العرفي فلا يرد عليه شيء وهو كما ترى، وعلى طرز ما قاله الإمام يقال فيمن حلف لا يركب دابة فركب كافرا أنه لا يحنث مع أن الله سبحانه سمى الكافر دابة في قوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: ٥٥] وفي الكشاف بيانا لعدم إطلاق اللحم على السمك عرفا أنه إذا قال واحد لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحما فجاء بالسمك كان حقيقا بالإنكار عليه أي وهو دليل على عدم إطلاق اللحم عليه في العرف فحيث كانت الايمان مبنية على العرف لم يحنث بأكله. واعترض بأنه لو قال لغلامه: اشتر لحما فاشترى لحم عصفور كان حقيقا بالإنكار مع الحنث بأكله. وتعقب بأن الإنكار إنما جاء من ندرة اشتراء مثله لأنه غير متعارف وفيما نحن فيه اشتراء السمك ولحمه متعارف فليس محل الإنكار إلا عدم إطلاق اللحم عليه وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً كاللؤلؤ والمرجان تَلْبَسُونَها أي تلبسها نساءكم وجهه ذلك بأنه أسند إلى الرجال لاختلاطهم بالنساء وكونهم متبوعين أو لأنهم سبب لتزينهن فإنهن يتزين ليحسن في أعين الرجال فكان ذلك زينتهم ولباسهم.
وقال ابن المنير: ولله تعالى در مالك رضي الله تعالى عنه حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها، وذلك مقدر بالزائد على الثلث لحقه فيه بالتجمل، فانظر إلى مكنة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن حتى جعل كحظ المرأة من مالها وزينتها فعبر عن حظه في لبسها بلبسه كما يعبر عن حظها سواء مؤيدا بالحديث المروي
355
في الباب اه. ويفهم منه جواز اعتبار المجاز في الطرف، وصرح بذلك بعضهم وفسر «تلبسون» بتتمتعون وتتلذذون، ويجوز أن يكون المجاز في النقص وما أظهر في التفسير مراد في النظم، وقيل: الكلام على التغليب أو من باب بنو فلان قتلوا زيدا ففيه إسناد للبعض إلى الكل. وتعقب بأنه وجه لكلا الوجهين أما الأول فلعدم التلبس بالمسند وهو اللبس، وأما الثاني فلأنه لا يتم بدون المجاز في الطرف فلا وجه للعدول عن اعتباره على النحو السابق إلى هذا، وقال بعضهم: لا حاجة إلى كل ذلك فإنه لا مانع من تزين الرجال باللؤلؤ. وتعقب بأنه بعد تسليم أنه لا مانع منه شرعا مخالف للعادة المستمرة فيأباه لفظ المضارع الدال على خلافه، ولا يصح ما يقال: إن في البحر زمردا بحريا وبفرض الصحة يجيء هذا أيضا، ولعله لما أن النساء مأمورات بالحجاب وإخفاء الزينة عن غير المحارم أخفى التصريح بنسبة اللبس إليهن ليكون اللفظ كالمعنى واستدل أبو يوسف ومحمد عليهما الرحمة بالآية على أن اللؤلؤ يسمى حليا حتى لو حلف لا يلبس حليا فلبسه حنث. وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول: لا يحنث لأن اللؤلؤ وحده لا يسمى حليا في العرف وبائعه لا يقال له بائع الحلي كذا في أحكام الجصاص. واستدل بعضهم بالآية على أنه لا زكاة في حلي النساء،
فأخرج ابن جرير عن أبي جعفر أنه سئل هل في حلي النساء صدقة؟ قال: لا هي كما قال الله تعالى: حِلْيَةً تَلْبَسُونَها
وهو كما ترى، ثم إن اللحم الطري يخرج من البحر العذب والبحر الملح والحلية إنما تخرج من الملح، وقيل: إن العذب يخرج منه لؤلؤ أيضا إلا أنه لا يلبس إلا قليلا والكثير التداوي به، ولم نر من ذكر ذلك في أكثر الكتب المصنفة لذكر مثل ذلك.
وأخرج البزار عن أبي هريرة قال: كلم الله تعالى البحر الغربي وكلم البحر الشرقي فقال للبحر الغربي: إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم؟ قال: أغرقهم. قال: بأسك في نواحيك وحرمه الحلية والصيد وكلم هذا البحر الشرقي فقال: إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم؟ قال: أحملهم على يدي وأكون لهم كالوالدة لولدها فأثابه سبحانه الحلية والصيد، وأخرج نحو ذلك ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص عن كعب الأحبار، والله تعالى أعلم بصحة ذلك، وظاهر كلام الأكثرين حمل الْبَحْرَ في الآية على البحر الملح وهو مملوء من السمك بل قيل إن السمك يطلق على كل ما فيه من الحيوانات ولا يكون اللؤلؤ إلا في مواضع مخصوصة منه.
وَتَرَى الْفُلْكَ السفن مَواخِرَ فِيهِ جواري فيه جمع ما خرة بمعنى جارية، وأصل المخر الشق يقال: مخر الماء الأرض إذا شقها وسميت السفن بذلك لأنها تشق الماء بمقدمها، وقال الفراء: هو صوت جري الفلك بالرياح وَلِتَبْتَغُوا عطف على تستخرجوا وما عطف عليه وما بينهما اعتراض لتمهيد مبادئ الابتغاء ودفع كونه باستخراج الحلية، وعدل عن نمط الخطاب السابق واللاحق- أعني خطاب الجمع إلى خطاب المفرد- المراد به كل من يصلح للخطاب إيذانا بأن ذاك غير مسوق مساقهما، وأجاز ابن الأنباري أن يكون معطوفا على علة محذوفة أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، وأن يكون متعلقا بفعل محذوف أي فعل ذلك لتبتغوا، وهو تكلف يغني الله تعالى عنه.
مِنْ فَضْلِهِ من سعة رزقه بركوبها للتجارة وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تقومون بحق نعم الله تعالى بالطاعة والتوحيد، ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر لأنها أقوى في باب الأنعام من حيث إنه جعل ركوب البحر مع كونه مظنة الهلاك لأن راكبيه كما قال عمر رضي الله تعالى عنه دود على عود سببا للانتفاع وحصول المعاش وهو من كمال النعمة لقطع المسافة الطويلة في زمن قصير مع عدم الاحتياج إلى الحل والترحال والحركة مع الاستراحة والسكون، وما أحسن ما قيل في ذلك:
356
وإنا لفي الدنيا كركب سفينة نظن وقوفا والزمان بنا يسري
وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر قيل للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معا.
واستدل بالآية على جواز ركوب البحر للتجارة بلا كراهة وإليه ذهب جماعة، وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر أنه كان يكره ركوب البحر إلا لثلاث غاز أو حاج أو معتمر وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت، وقد مر تمام الكلام في ذلك أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي كراهة أن تميد أو لئلا تميد، والميد اضطراب الشيء العظيم، ووجه كون الإلقاء مانعا عن اضطراب الأرض بأنها كسفينة على وجه الماء والسفينة إذا لم يكن فيها أجرام ثقيلة تضطرب وتميل من جانب إلى جانب بأدنى شيء وإذا وضعت فيها أجرام ثقيلة تستقر فكذا الأرض لو لم يكن عليها هذه الجبال لاضطربت فالجبال بالنسبة إليها كالأجرام الثقيلة الموضوعة في السفينة بالنسبة إليها.
وتعقبه الإمام لوجوه: الأول على مذهب الحكماء القائلين بأن حركة الأجسام أو سكونها لطبائعها أن الأرض أثقل من الماء فيلزم أن تغوص فيه لا أن تطفو أو ترسي بالجبال وهذا بخلاف السفينة فإنها متخذة من الخشب وبين أجزائه هواء يمنعه من السكون ويفضي به إلى الميد لولا الثقيل. والثاني على مذهب أهل الحق القائلين بأنه ليس للأجسام طبائع تقتضي السكون أو الحركة فما سكن ساكن وما تحرك متحرك في بر وبحر إلا بمحض قدرة الله تعالى وحده. والثاني أن إرساء الأرض بالجبال لئلا تميد وتبقى واقفة على وجه الماء إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت على وجهه ساكنا وحينئذ يقال: إن سبب سكونه في حيزه المخصوص طبيعته المخصوصة فلم لا يقال في سكون الأرض في هذا الحيز إنه بسبب طبيعتها المخصوصة أيضا، وإن قلنا: إنه بمحض قدرته سبحانه فلم لم يقل: إن سكون الأرض أيضا كذلك فلا يعقل الإرساء بالجبال على التقديرين. والثالث أنه يجوز أن تميد الأرض بكليتها ولا تظهر حركتها ولا يشعر بها أهلها ويكون ذلك نظير حركة السفينة من غير شعور راكبها بها ولا يأبى الشعور بحركتها عند احتقان البخار فيها لأن ذلك يكون في قطعة صغيرة منها وهو يجري مجرى الاختلاج الذي يحصل في عضو معين من البدن، ثم قال: والذي عندي في هذا الموضع المشكل أن يقال: ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كرة وثبت أن هذه الجبال على سطح الكرة جارية مجرى خشونات تحصل على وجه هذه الكرة وحينئذ نقول لو فرضنا أن هذه الخشونات ما كانت حاصلة بل كانت ملساء خالية عنها لصارت بحيث تتحرك على الاستدارة كالأفلاك لبساطتها أو تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت هذه الجبال وكانت كالخشونات على وجهها تفاوتت جوانبها وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد لمنعها إياها عن الحركة المستديرة اه وقد تابع الإمام في هذا الحل العلامة البيضاوي، واعترض عليه بأنه لا وجه لما ذكره على مذهب أهل الحق ولا على مذهب الفلاسفة، أما الأول فلأن ذات شيء لا تقتضي تحركه وإنما ذلك بإرادة الله تعالى، وأما الثاني فلأن الفلاسفة لم يقولوا: إن حق الأرض أن تتحرك بالاستدارة لأن في الأرض ميلا مستقيما وما هو كذلك لا يكون فيه مبدأ ميل مستدير على ما ذكروا في الطبيعي. وأورد أيضا على منع الجبال لها من الحركة أنه قد ثبت في الهندسة أن أعظم جبل في الأرض وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلث فرسخ إلى قطر الأرض نسبة خمس سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع ولا ريب في أن ذلك القدر من الشعيرة لا يخرج تلك الكرة عن الاستدارة بحيث يمنعها عن الحركة، وكذا حال الجبال بالنسبة إلى كرة الأرض، ثم قيل: الصحيح أن يقال خلق الله تعالى الأرض مضطربة لحكمة لا يعلمها إلا هو ثم أرساها بالجبال على جريان عادته في جعل الأشياء منوطة بالأسباب، وقال بعض المحققين في الجواب: إن المقصود أن الأرض من حيث كونها كرة حقيقية بسيطة مع قطع النظر عن كونها عنصرا كان حقها أحد الأمرين لأنها من تلك الحيثية إما ذو ميل مستدير
357
كالأفلاك فكان حقها حينئذ أن تتحرك مثلها على الاستدارة وإما ذو ميل مستقيم فحقها السكون لكنها تتحرك بأدنى قاسر، أما السكون فلأن الجسم الحاصل في الحيز الطبيعي لما يتحرك حركة طبيعية آنية لاستلزامها الخروج عن الحيز الطبيعي ولا يتصور من الأرض الحركة الإرادية لكونها عديمة الشعور، وأما التحرك بأدنى قاسر فيحكم به بالضرورة من له تخيل صحيح، واستوضح ذلك من كرة حقيقية على سطح حقيقي فإنها لا تماسه إلا بنقطة فبأدنى شيء ولو نفخة تتدحرج عن مكانها. نعم الواقع في نفس الأمر أحد الأمرين معينا وذكرهما توسيع للدائرة وهو أمر شائع فيما بينهم فيندفع قوله: وأما الثاني فلأن الفلاسفة إلخ، وأما قوله: إنه قد ثبت في الهندسة إلخ فجوابه أنهم قد صرحوا في كتب الهيئة بأن في كل إقليم ثلاثين جبلا بل أكثر فنسبة كل جبل وإن كانت كالنسبة المذكورة لكن يجوز أن يكون مجموعها مانعا عن حركتها كالحبل المؤلف من الشعرات المخالف حكمه حكم كل شعرة، على أن تلك النسبة باعتبار الحجم ومنعها عن حركتها باعتبار الثقل وثقل هذه الجبال يكاد أن يقاوم ثقل الأرض لأن الجبال أجسام صلبة حجرية والأرض رخوة متخلخلة كالكرة الخشبية التي ألزقت عليها حبات من حديد، وما يقال: من أن فيه غير ذلك ابتناء على
قواعد الفلسفة فلا يطعن فيه لأن ذلك الابتناء غير مضر إن لم يخالف القواعد الشرعية كما فيما نحن فيه، واعترض على ما ادعى المعترض صحته بأنه يرد عليه ما أورده، وظني أنه بعد الوقوف على مراده لا يرد عليه شيء مما ذكر، ونحن قد أسلفنا نحوه وأطنبنا الكلام في هذا المقام ومنه يظهر ما هو الأوفق بقواعد الإسلام، ثم ما ذكره المجيب من أن المصرح به في كتب الهيئة أن في كل إقليم ثلاثين جبلا بل أكثر خلاف المشهور وهو أن في الإقليم الأول عشرين وفي الثاني سبعة وعشرين وفي الثالث ثلاثة وثلاثين وفي الرابع خمسة وخمسين وفي الخامس ثلاثين وفي كل من السادس والسابع أحد عشر والمجموع مائة وسبعة وثمانون جبلا على أن كلامه لا يخلو عن مناقشة فتدبر، ومعنى أَلْقى على ما نقل ابن عطية عن المتأولين خلق وجعل، واختار هو أنه أخص من ذلك وذلك أنه يقتضي أن الله سبحانه أوجد الجبال من محض قدرته واختراعه لا من الأرض ووضعها عليها وأيد بأخبار رووها في هذا المقام وقد تقدم بعضها، ولم يعد بعلى كما في قوله تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: ٣٩] للإشارة إلى كمال الجبال ورسوخها وثباتها في الأرض حتى كأنها مسامير في ساحة وانظر هل تعد من الأرض فيحنث من حلف لا يجلس على الأرض إذا جلس عليها أم لا فلا يحنث لم يحضرني من تعرض لذلك، والظاهر الأول لعد العرف إياها منها وإن كان ظاهر هذه الآية كغيرها عدم العد، وقوله تعالى: وَأَنْهاراً عطف على رواسي والعامل فيه أَلْقى إلا أن تسلطه عليه باعتبار ما فيه من معنى الجعل والخلق أو تضمينه إياه، وعلى التقديرين لا إضمار وهو الذي اختاره غير واحد، وجوز أن يكون مفعولا به لفعل مضمر وليس إجماعا خلافا لابن عطية. أي وجعل أو خلق أنهارا نظير ما قيل في قوله: علفتها تبنا وماء باردا. وقدر أبو البقاء شق والعطف حينئذ من عطف الجمل وكأنه لما كان أغلب منابع الأنهار من الجبال ذكر الأنهار بعد ما ذكر الجبال، وقوله تعالى: وَسُبُلًا عطف على أَنْهاراً أي وجعل طرقا لمقاصدكم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لها فالتعليل بالنظر إلى قوله تعالى: وَسُبُلًا كما هو الظاهر، ويجوز أن يكون تعليلا بالنظر إلى جميع ما تقدم لأن تلك الآثار العظام تدل على بطلان الترك، وقيل: تدل على وجود فاعل حكيم ففي قوله تعالى:
تَهْتَدُونَ تورية حينئذ وَعَلاماتٍ معالم يستدل بها السابلة من نحو جبل ومنهل ورائحة تراب، فقد حكي أن من الناس من يشم التراب فيعرف بشمه الطريق وإنها مسلوكة أو غير مسلوكة ولذا سميت المسافة مسافة أخذا لها من السوف بمعنى الشم، وأخرج ابن جرير، وغيره عن ابن عباس أنها معالم الطرق بالنهار. وعن الكلبي أنها الجبال وعن قتادة أنها النجوم، وقال ابن عيسى: المراد منها الأمور التي يعلم بها ما يراد من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة، والظاهر ما ذكر أولا وأغرب ما فسرت به وأبعده أن المراد منها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تكون في بحر
358
الهند الذي يسار إليه من اليمن، سميت بذلك لأنها إذا ظهرت كانت علامة للوصول إلى بلاد الهند وأمارة للنجاة وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ بالليل في البر والبحر، والمراد بالنجم الجنس فبينما الخنس وغيرها مما يهتدى به، وعن السدي تخصيص ذلك بالثريا والفرقدين وبنات نعش والجدي وعن الفراء تخصيصه بالجدي والفرقدين، وعن بعضهم أنه الثريا فإنه علم بالغلبة لها، ففي الحديث إذا طلح النجم ارتفعت العاهة، وقال الشاعر:
حتى إذا ما استقر النجم في غلس وغودر البقل ملويّ ومحصود
وعن ابن عباس أنه سأل النبي ﷺ عن ذلك فقال: هو الجدي
ولو صح هذا لا يعدل عنه، والجدي هو جدي الفرقد، وهو على ما في المغرب بفتح الجيم وسكون الدال والمنجمون يصغرونه فرقا بينه وبين البرج، وقيل: إنه كذلك لغة، واستدل على إرادة ما يعم ذلك بما في اللوامح أنه قرأ «وبالنجم» بضمتين وعن ابن وثاب أنه قرأ بضم فسكون فإن ذلك في القراءتين جمع كسقف وسقف ورهن ورهن والتسكين قيل للتخفيف، وقيل: لغة، والقول بأن ذلك جمع على فعل أولى مما قيل: إن أصله النجوم فحذفت الواو وزعم ابن عصفور أن قولهم: النجم من ضرورة الشعر وأنشد:
إن الذي قضى بذا قاض حكم أن يرد الماء إذ غاب النجم
وهو نظير قوله: حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق. والضمير يحتمل أن يكون عاما لكل سالك في البر والبحر من المخاطبين فيما تقدم، وتغيير التعبير للالتفات، وتقديم الجار والمجرور للفاصلة والضمير المنفصل للتقوى، ويحتمل أن يكون الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين للاهتداء في مسايرهم بالنجم، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب، وتقديم الجار والضمير للتخصيص كأنه قيل: وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون، فالاعتبار بذلك والشكر عليه بالتوحيد ألزم لهم وأوجب عليهم، وجعل بعضهم الآية أصلا لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة والطرق فلا بأس بتعلم ما يفيد تلك المعرفة، لكن معرفة عين القبلة على التحقيق بالنجوم متعسر بل متعذر كما أفاده العلامة الرباني أبو العباس أحمد بن البناء لأنه إن اعتبر ذلك بما يسامت رؤوس أهل مكة من النجوم فليس مسقط العمود منه على بسيط مكة هو العمود الواقع منه على بسيط غيرها من المدن، وإن اعتبر بالجدي فلا يلزم من أن يكون في مكة على الكتف أو على المنكب أن يكون في غيرها كذلك إلا لمن يكون في دائرة السمت المارة برؤوس أهل مكة والبلد الآخر، وذلك مجهول لا يتوصل إليه إلا بمعرفة ما بين الطولين والعرضين وهو شيء اختلف في مقداره ولم يتعين الصحيح فيه، وقول من قال: إن ذلك يعرف بجعل المصلي مثلا الشمس بين عينيه إذا استوت في كبد السماء أطول يوم في السنة فمتى فعل ذلك فقد استقبل البيت إن أراد بكبد السماء فيه كبد سماء بلده فليس بصحيح لأن الشمس لا تستوي في كبد السماء في وقت واحد في بلدين متنائيين كثيرا، وإن أراد به كبد سماء مكة فلا يعلم ذلك في بلد آخر إلا بمعرفة ما بين البلدين في الطول، وقد سمعت ما في ذلك من الاختلاف، ويقال نحو هذا فيما يشبه ما ذكر بل قال قدس سره: إن معرفة ذلك على التحقيق بما يذكرونه من الدائرة الهندية ونحوها متعذر أيضا لأن مبنى جميع ذلك على معرفة الأطوال والعروض ودون تحقيق ذلك خرط القتاد، فلا ينبغي أن يكون الواجب على المصلي إلا تحري الجهة ومعرفة الجهة تحصل بالنجوم وكذا بغيرها مما هو مذكور في محله أَفَمَنْ يَخْلُقُ ما ذكر من المخلوقات البديعة أو يخلق كل شيء يريده كَمَنْ لا يَخْلُقُ شيئا ما جليلا أو حقيرا، وهو تبكيت للكفرة وإبطال لإشراكهم وعبادتهم غيره تعالى شأنه من الأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينه سبحانه وبينه بعد تعداد ما يقتضي ذلك اقتضاء ظاهرا، وتعقيب الهمزة بالفاء لتوجيه الإنكار إلى ترتب توهم المشابهة المذكورة على ما فعل سبحانه من الأمور
359
العظيمة الظاهرة الاختصاص به تعالى شأنه المعلومة كذلك فيما بينهم حسبما يؤذن به غير آية والاقتصار على ذكر الخلق من بين ما تقدم لكونه أعظمه وأظهره واستتباعه إياه أو لكون كل من ذلك خلقا مخصوصا أي أبعد ظهور اختصاصه سبحانه بمبدئية هذه الشؤون الواضحة الدالة على وحدانيته تعالى وتفرده بالألوهية واستحقاق العبادة يتصور المشابهة بينه وبين ما هو بمعزل عن ذلك بالمرة كما هو قضية إشراككم، وكان حق الكلام بحسب الظاهر في بادئ النظر أفمن لا يخلق كمن يخلق، لكن قيل: حيث كان التشبيه نسبة تقوم بالمنتسبين اختير ما عليه النظم الكريم مراعاة لحق سبق الملكة على العدم وتفاديا عن توسيط عدمها بينها وبين جزئياتها المفصلة قبلها وتنبيها على كمال قبح ما فعلوه من حيث إن ذلك ليس مجرد رفع أصنامهم عن محلها بل حط لمنزلة الربوبية إلى مرتبة الجماد ولا ريب أنه أقبح من الأول، والمراد بمن لا يخلق كل ما هذا شأنه من ذوي العلم كالملائكة وعيسى عليهم السلام وغيرهم كالأصنام، وأتى بمن تغليبا لذوي العلم على غيرهم مع ما فيه من المشاكلة أو ذوو العلم خاصة ويعرف منه حال غيرهم بدلالة النص، فإن من يخلق حيث لم يكن كمن لا يخلق وهو من جملة ذوي العلم فما ظنك بالجماد، وقيل: المراد به الأصنام خاصة، والتعبير بمن إما للمشاكلة أو بناء على ما عند عبدتهما، والأولى ما تقدم، ودخول الأصنام في حكم عدم المشابهة إما بطريق الاندراج أو بطريق الانفهام بدلالة النص على الطريق البرهاني قاله بعض المحققين.
واستدل بالآية على بطلان مذهب المعتزلة في زعمهم أن العباد خالقون لأفعالهم.
وقال الشهاب بعد أن قرر تقدير المفعول عاما على طرز ما ذكرنا: وجوز أن يكون العموم فيه مأخوذا من تنزيل الفعل منزلة اللازم أنه علم من هذا عدم توجه الاحتجاج بها على المعتزلة في إبطال قولهم بخلق العباد أفعالهم كما وقع في كتب الكلام لأن السلب الكلي لا ينافي الإيجاب الجزئي اه حسبما وجدناه في النسخ التي بأيدينا ولعلها سقيمة وإلا فلا أظن إلا كبوة جواد وهو ظاهر أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي ألا تلاحظون فلا تتذكرون ذلك فإنه لجلائه لا يحتاج إلى شيء سوى التذكر وهو مراجعة ما سبق تصوره وذهل عنه، وقدر بعضهم المفعول عدم المساواة، وذكر أنه لعدم سبقه حتى يتصور فيه حقيقة التذكر بأن يتصور ويذهل عنه جعل التذكر استعارة تصريحية للعلم به، وقيل: الاستعارة مكنية في المفعول المقدر وإثبات التذكر تخييل فتذكر.
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها تذكير اجمالي لنعمه تعالى بعد تعداد طائفة منها، وفصل ما بينهما بقوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ كما قيل للمبادرة إلى الزام الحجة والقام الحجر إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل التي هي أدلة التوحيد، ودلالتها عليه وإن لم تكن مقصورة على حيثية الخلق ضرورة ظهور دلالتها عليه من حيثية الإنعام أيضا لكنها حيث كانت من مستتبعات الحيثية الأولى استغني عن التصريح بها ثم بين حالها بطريق الإجمالي أي إن تعدوا نعمه تعالى الفائضة عليكم مما ذكر ومما يذكر لا تطيقوا حصرها وضبط عددها فضلا عن القيام بشكرها، وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك حسبما من الله تعالى به إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ حيث يستر ما فرط منكم من كفرانها والإخلال بالقيام بحقوقها ولا يعاجلكم بالعقوبة على ذلك رَحِيمٌ حيث يفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحرمان بما تأتون وما تذرون من أصناف الكفر والعصيان التي من جملتها المساواة بين الخالق وغيره، وكل من ذينك الستر والإفاضة وأيما نعمة، فالجملة تعليل للحكم بعدم الإحصاء، وتقديم المغفرة على الرحمة لتقدم التخلية على التحلية وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ أي تضمرونه من العقائد والأعمال وَما تُعْلِنُونَ أي تظهرونه منهما، وحذف العائد لمراعاة الفواصل أي يستوي بالنسبة إلى علمه سبحانه المحيط الأمران، وفي تقديم الأول على الثاني تحقيق للمساواة على أبلغ وجه، وفي ذلك من الوعيد والدلالة على اختصاصه تعالى بصفات الإلهية ما لا يخفى، أما الأول فلأن علم
360
الملك القادر بمخالفة عبده يقتضي مجازاته، وكثيرا ما ذكر علم الله تعالى وقدرته وأريد ذلك، وأما الثاني فبناء على ما قيل: إن تقديم المسند إليه في مثل ذلك يفيد الحصر، ومن هنا قيل: إنه سبحانه أبطل شركهم للأصنام أولا بقوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ وأبطله ثانيا بقوله تبارك اسمه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إلخ كأنه قيل: إنه تعالى عالم بذلك دون ما تشركون به فإنه لا يعلم ذلك بل لا يعلم شيئا أصلا فكيف يعد شريكا لعالم السر والخفيات.
وفي الكشف أن في الجملة الأولى إشعارا بأنه تعالى وما كلفهم حق الشكر لعدم الإمكان وتجاوز سبحانه عن الممكن إلى السهل الميسور، وفي الثانية ما يشعر بأنهم قصروا في هذا الميسور أيضا فاستحقوا العتاب.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ شروع في تحقيق أن آلهتهم بمعزل عن استحقاق العبادة وتوضيحه بحيث لا يبقى فيه شائبة ريب بتعداد أحوالها المنافية لذلك منافاة ظاهرة، وكأنها إنما شرحت مع ظهورها للتنبيه على كمال حماقة المشركين وأنهم لا يعرفون ذلك إلا بالتصريح أي والآلهة الذين تعبدونهم أيها الكفار مِنْ دُونِ اللَّهِ سبحانه لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً من الأشياء أصلا أي ليس من شأنهم ذلك، وذكر بعض الأجلة أن ذكر هذا بعد نفي التشابه والمشاركة للاستدلال على ذلك فكأنه قيل: هم لا يخلقون شيئا ولا يشارك من يخلق من لا يخلق فينتج من الثالث هم لا يشاركون من يخلق ويلزمه أن من يخلق لا يشاركهم فلا تكرار، وقيل عليه: إنه مبني على أن من يخلق ومن لا مجرى على غير معين، ويفهم من سابق كلام هذا البعض أنه بنى الكلام على أن الأول هو الله تعالى والثاني الأصنام، ويقتضي تقريره هناك عدم الحاجة إلى هذه المقدمة للعلم بها وكونها مفروغا عنها، فالوجه أن التكرار لمزاوجة قوله تعالى وَهُمْ يُخْلَقُونَ وتعقب بأن المصرح به العموم في الموضعين وأما التخصيص فيهما بما ذكر فلأن من يخلق عندنا مخصوص به تعالى في الخارج اختصاص الكوكب النهاري بالشمس وإن عم باعتبار مفهومه، ومن لا يخلق وإن عم ذهنا وخارجا فتفسيره بمن عبد لاقتضاء المقام له، ومقتضى التقرير ليس عدم الحاجة إلى المقدمة بل هو كونها في غاية الظهور بحيث لا يحتاج إلى إثباتها وهذا مصحح لكونها جزءا من الدليل، وإذا ظهر المراد بطل الإيراد اه، ولعل الأوجه في توجيه الذكر ما أشرنا إليه أولا، وحيث إنه لا تلازم أصلا بين نفي الخالقية وبين المخلوقية أثبت ذلك لهم صريحا على معنى شأنهم أنهم يخلقون إذ المخلوقية مقتضى ذواتهم لأنها ممكنة مفتقرة في وجودها وبقائها إلى الفاعل، وبناء الفعل للمفعول- كما قال بعض الأجلة- لتحقيق التضاد والمقابلة بين ما أثبت لهم وما نفي عنهم من وصف الخالقية والمخلوقية وللإيذان بعدم الحاجة إلى بيان الفاعل لظهور اختصاص بفاعله جل جلاله. ولعل تقديم الضمير هنا لمجرد التقوى، والمراد بالخلق منفيا ومثبتا المعنى المتبادر منه.
وجوز أن يراد من الثاني النحت والتصوير بناء على أن المراد من الذين يدعونهم الأصنام، والتعبير عنهم بما يعبر عنه عن العقلاء لمعاملتهم إياهم معاملتهم، والتعبير عن ذلك بالخلق لرعاية المشاكلة، وفي ذلك من الإيماء بمزيد ركاكة عقول المشركين ما فيه حيث أشركوا بخالقهم مخلوقيهم، وإرادة هذا المعنى من الأول أيضا ليست بشيء إذ القدرة على مثل ذلك الخلق ليست مما يدور عليه استحقاق العبادة أصلا. وقرأ الجمهور بالتاء المثناة من فوق في «تسرون» و «تعلنون» و «تدعون» وهي قراءة مجاهد والأعرج وشيبة وأبي جعفر وهبيرة عن عاصم، وفي المشهور عنه أنه قرأ بالياء آخر الحروف في الأخير وبالتاء في الأولين، وقرئت الثلاثة بالياء في رواية عن أبي عمرو وحمزة، وقرأ الأعمش «والله يعلم الذي تبدون وما تكتمون والذين تدعون» إلخ بالتاء من فوق في الأفعال الثلاثة، وقرأ طلحة «ما تخفون» و «ما تعلنون». و «تدعون» بالتاء كذلك، وحملت القراءتان على التفسير لمخالفتهما لسواد المصحف، وقرأ محمد اليماني
361
«يدعون» بضم الياء وفتح العين مبنيا للمفعول أي يدعونهم الكفار ويعبدونهم أَمْواتٌ خبر ثان للموصول أو خبر مبتدأ محذوف أي هم أموات، وصرح بذلك لما أن إثبات المخلوقية لهم غير مستدع لنفي الحياة عنهم لما أن بعض المخلوقين أحياء، والمراد بالموت على أن يكون المراد من المخبر عنه الأصنام عدم الحياة بلا زيادة عما من شأنه أن يكون حيا.
وقوله سبحانه: غَيْرُ أَحْياءٍ خبر بعد خبر أيضا أو صفة أَمْواتٌ وفائدة ذكره التأكيد عند بعض، واختير التأسيس وذلك أن بعض ما لا حياة فيه قد تعتريه الحياة كالنطفة فجيء به للاحتراز عن مثل هذا البعض فكأنه قيل: هم أموات حالا وغير قابلين للحياة مآلا، وجوز أن يكون المراد من المخبر عنه بما ذكر ما يتناول جميع معبوداتهم من ذوي العقول وغيرهم فيرتكب في أَمْواتٌ عموم المجاز ليشمل ما كان له حياة ثم مات كعزيز أو سيموت كعيسى والملائكة عليهم الصلاة والسلام وما ليس من شأنه الحياة أصلا كالأصنام.
وغَيْرُ أَحْياءٍ على هذا إذا فسر بغير قابلين للحياة يكون من وصف الكل بصفة البعض ليكون تأسيسا في الجملة وإذا اعتبر التأكيد فالأمر ظاهر، وجوز أن من أولئك المعبودين الملائكة عليهم الصلاة والسلام وكان أناس من المخاطبين يعبدونهم، ومعنى كونهم أمواتا أنهم لا بد لهم من الموت وكونهم غير أحياء غير تامة حياتهم والحياة التامة هي الحياة الذاتية التي لا يرد عليها الموت، وجوز في قراءة وَالَّذِينَ يَدْعُونَ بالياء آخر الحروف أن يكون الأموات هم الداعين، وأخبر عنهم بذلك تشبيها لهم بالأموات لكونهم ضلالا غير مهتدين، ولا يخفى ما فيه من البعد وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ الضمير الأول للآلهة والثاني لعبدتها، والشعور العلم أو مباديه، وقال الراغب: يقال شعرت أي أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علما في الدقة كإصابة الشعر، قيل: وسمي الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته، ثم ذكر أن المشاعر الحواس وأن معنى لا تشعرون لا تدركون بالحواس وأن لو قيل في كثير مما جاء فيه لا تشعرون لا تعقلون لم يجز إذ كثير مما لا يكون محسوسا يكون معقولا، وأَيَّانَ عبارة عن وقت الشيء ويقارب معنى متى، وأصله عند بعضهم أي أو أن أي أي وقت فحذف الألف ثم جعل الواو ياء وأدغم وهو كما ترى.
وقرأ أبو عبد الرحمن «إيان» بكسر الهمزة وهي لغة قومه سليم، والظاهر أنّه معمول ليبعثون والجملة في موضع نصب- بيشعرون- لأنه معلق عن العمل أي ما يشعر أولئك الآلهة متى يبعث عبدتهم، وهذا من باب التهكم بهم بناء على إرادة الأصنام لأن شعور الجماد بالأمور الظاهرة بديهي الاستحالة عند كل أحد فكيف بما لا يعلمه إلا العليم الخبير. وفي البحر أن فيه تهكما بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ليجازوهم على عبادتهم إياهم، ولعل هذا جار على سائر الاحتمالات في الآلهة، وفيه تنبيه على أن البعث من لوازم التكليف لأنه للجزاء والجزاء للتكليف فيكون هو له وأن معرفة وقته لا بد منه في الألوهية، وقيل: ضميرا يَشْعُرُونَ ويُبْعَثُونَ للآلهة ويلزم من نفي شعورهم بوقت بعثهم نفي شعورهم بوقت بعث عبدتهم وهو الذي يقتضيه الظاهر، ومن جوز أن يكون المراد من الأموات الكفرة الضلال جعل ضميري الجمع هنا لهم، والكلام خارج مخرج الوعيد أي وما يشعر أولئك المشركون متى يبعثون إلى التعذيب، وقيل: الكلام تم عند قوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ وأَيَّانَ يُبْعَثُونَ ظرف لقوله سبحانه إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ على معنى أن الإله واحد يوم القيامة نظير مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: ٤] قال أبو حيان: ولا يصح هذا القول لأن أيان إذ ذاك تخرج عما استقر فيها من كونها ظرفا إما استفهاما أو شرطا وتتمحض للظرفية بمعنى وقت مضافا للجملة بعده نحو وقت يقوم زيد أقوم، على أن هذا التعلق في نفسه خلاف الظاهر، والظاهر أن قوله سبحانه: إِلهُكُمْ تصريح بالمدعى وتلخيص للنتيجة غب إقامة الحجة فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وأحوالها التي
362
من جملتها البعث وما يعقبه من الجزاء قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ للوحدانية جاحدة لها أو للآيات الدالة عليها وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن الاعتراف بها أو عن الآيات الدالة عليها، والفاء للإيذان بأن إصرارهم على الإنكار واستمرارهم على الاستكبار وقع موقع النتيجة للدلائل الظاهرة والبراهين القطعية فهي للسببية كما في قولك: أحسنت إلى زيد فإنه أحسن إلي، والمعنى أنه قد ثبت بما قرر من الدلائل والحجج اختصاص الإلهية به سبحانه فكان من نتيجة ذلك إصرارهم على الإنكار واستمرارهم على الاستكبار، وبناء الحكم على الموصول للإشعار بعلية ما في حيز الصلة له، فإن الكفر بالآخرة وبما فيها من البعث والجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب يؤدي إلى قصر النظر على العاجل وعدم الالتفات إلى الدلائل الموجب لإنكارها وإنكار موادها والاستكبار عن اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام والإيمان به، وأما الإيمان بها وبما فيها فيدعو لا محالة إلى الالتفات إلى الدلائل والتأمل فيها رغبة ورهبة فيورث ذلك يقينا بالوحدانية وخضوعا لأمر الله تعالى قاله بعض المحققين.
ومن الناس من قال: المراد وهم مستكبرون عن الإيمان برسول الله ﷺ واتباعه، فيكون الإنكار إشارة إلى كفرهم بالله تعالى والاستكبار إشارة إلى كفرهم برسوله ﷺ والأول أظهر، وإسناد الإنكار إلى القلوب لأنها محله وهو أبلغ من إسناده إليهم، ولعله إنما لم يسلك في إسناد الاستكبار مثل ذلك لأنه أثر ظاهر كما تشير إليه الآية بعد وقد قال بعض العلماء: كل ذنب يمكن التستر به وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان لا جَرَمَ أي حق أو حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من الإنكار وَما يُعْلِنُونَ من الاستكبار، وقال يحيى بن سلام والنقاش: المراد هنا بما يسرون تشاورهم في دار الندوة في قتل النبي عليه الصلاة والسلام، وهو كما ترى، وأيا ما كان فالمراد من العلم بذلك الوعيد بالجزاء عليه، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مرفوع- بلا جرم- بناء على ما ذهب إليه الخليل وسيبويه والجمهور من أنها اسم مركب مع لا تركيب خمسة عشر وبعد التركيب صار معناها معنى فعل وهو حق فهي مؤولة بفعل. وأبو البقاء يؤولها بمصدر قائم مقامه وهو حقا، وقيل: مرفوع- بجرم- نفسها على أنها فعل ماض بمعنى ثبت ووجب ولا نافية لكلام مقدر تكلم به الكفرة كقوله سبحانه: فَلا أُقْسِمُ [القيامة: ١، البلد: ١] على وجه. وذهب الزجاج إلى أنه منصوب على المفعولية- لجرم- على أنها فعل أيضا لكن بمعنى كسب وفاعلها مستتر يعود إلى ما فهم من السياق ولا كما في القول السابق، وقيل: إنه خبر لا حذف منه حرف الجر وجَرَمَ اسمها، والمعنى لا صدأ ولا منع في أن الله يعلم إلخ، وقد مر تمام الكلام في ذلك.
وقرأ عيسى الثقفي «إن» بكسر الهمزة على الاستئناف والقطع مما قبله على ما قال أبو حيان، ونقل عن بعضهم أنه قد يغني لا جَرَمَ عن القسم تقول: لا جرم لآتينك وحينئذ فتكون الحملة جواب القسم إِنَّهُ جل جلاله لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ أي مطلقا ويدخل فيه من استكبر عن التوحيد أو عن الآيات الدالة عليه دخولا أوليا، وجوز أن يراد به أولئك المستكبرون والأول أولى، وأيا ما كان فالاستفعال ليس للطلب مثله فيما تقدم، وجوز كونه عاما مع حمل الاستفعال على ظاهره من الطلب أي لا يحب من طلب الكبر فضلا عمن اتصف به، وقد فرق الراغب بين الكبر والتكبر والاستكبار بعد القول بأنها متقاربة، والحق أنه قد يستعمل بعضها موضع بعض، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر ذلك آنفا وأظنه قد تقدم أيضا والجملة تعليل لما تضمنه الكلام السابق من الوعيد، والمراد من نفي الحب البغض وهو عند البعض مؤول بنحو الانتقام والتعذيب، والأخبار الناطقة بسوء حال المتكبر يوم القيامة كثيرة جدا.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي لأولئك المستكبرين، وهو بيان لإضلالهم غب بيان ضلالهم، وقيل: الضمير لكفار قريش الذين كانوا- كما روي عن قتادة- يقعدون بطريق من يغدو على النبي ﷺ ليطلع على جلية أمره فإذا مر بهم قال
363
لهم: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على محمد عليه الصلاة والسلام قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما كتبه الأولون كما قالوا:
اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ [الفرقان: ٥] فالأساطير جمع اسطار جمع سطر فهو جمع الجمع وقال المبرد: جمع أسطورة كأرجوحة وأراجيح ومقصودهم من ذلك أنه لا تحقيق فيه، وقيل: القائل لهم بعض المسلمين ليعلموا ما عندهم وقيل: القائل بعضهم على سبيل التهكم وإلا فهو لا يعتقد إنزال شيء، ومثل هذا يقال في الجواب عن تسميته بالمنزل في الجواب بناء على تقدير المبتدأ فيه ذلك، ويجوز أن يسموه بما ذكر على الفرض والتسليم ليردوه كقوله هذا رَبِّي [الأنعام: ٧٧، ٧٨] وقيل: قدروه منزلا مجاراة ومشاكلة.
وفي الكشاف أن ماذا منصوب- بأنزل- أي أي شيء أنزل ربكم أو مرفوع بالابتداء بمعنى أي شيء أنزله ربكم، فإذا نصبت فمعنى أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما تدعون نزوله ذلك، وإذا رفعت فالمعنى المنزل ذلك كقوله تعالى:
ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: ٢١٩] فيمن رفع اه، وقد خفي تحقيق مرامه على بعض المحققين، فقد قال صاحب الفرائد: الوجه أن يكون مرفوعا بالابتداء بدليل رفع أَساطِيرُ فإن جواب المرفوع مرفوع وجواب المنصوب منصوب ولم يقرأ أحد هنا بالنصب.
وقال صاحب التقريب: إن في كلام الزمخشري نظرا وبينه بما بينه وأجاب بما أجاب، وأطال الطيبي الكلام في ذلك، وقد أجاد صاحب الكشف في هذا المقام فقال: إن قوله أو مرفوع بالابتداء بمعنى أي شيء أنزله إيضاح وإلا فالمعنى ما الذي أنزله على المصرح به في المفصل إذ لا وجه لحذف الضمير من غير استطالة (١) مع أن اللفظ يحتمل النصب والرفع احتمالا سواء، وعلى ذلك يلوح الفرق بين التقديرين ظهورا بينا، فإن المنصوب وإن دل على ثبوت أصل الفعل وأن السؤال عن المفعول متقاعد عن دلالة المرفوع فقد علم أن الجملة التي تقع صلة للموصول حقها أن تكون معلومة للمخاطب وأين الحكم المسلم المعلوم من غيره، وإذا ثبت ذلك فليعلم أنه على تقديرين لم يطابق به الجواب لقوله في قالُوا خَيْراً [النحل: ٣٠] طوبق به الجواب بخلاف أَساطِيرُ وقوله هنا كقوله تعالى ماذا يُنْفِقُونَ إلى آخره فيمن رفع تشبيه في العدول إلى الرفع لا وجهه فإن الجواب هنالك طبق السؤال بخلاف ما نحن فيه، وإنما قدر ما تدعون نزوله على تقدير النصب لأن السائل لم يكن معتقدا لإنزال محقق بل سئل عن تعيين ما سمع نزوله في الجملة فيكفي في رده إلى الصواب ما تدعون نزوله أساطير، وأما على تقدير الرفع فلما دل على أن الإنزال عنده محقق مسلم لا نزاع فيه وإنما السؤال عن التعيين للمنزل أجيب بأن ذلك المحقق عندك أساطير تهكما إذ من المعلوم أن المنزل لا يكون أساطير فبولغ في رده إلى الصواب بالتهكم به وأنه بت الحكم بالتحقيق في غير موضعه فأرى السائل أنه طوبق ولم يطابق في الحقيقة بل بولغ في الرد، ويشبه أن يكون الأول جوابا للسؤال فيما بينهم أو الوافدين، والثاني جوابا عن سؤال المسلمين على ما ذكر من الاحتمالين لا العكس على ما ظن، هذا هو الأشبه في تقرير قوله الموافق لما ذكره من بعد على ما مر.
وجعل ما ذكره هنالك وجها ثالثا وأنه طوبق به الجواب هاهنا وتوجيه اختلاف التقديرين ادعاء ونزولا بما مهدناه وإن ذهب إليه الجمهور تكلف عنه غنى اه. وقرئ «أساطير» بالنصب كما نص عليه أبو حيان. وغيره فإنكار صاحب الفرائد من قلة الاطلاع لِيَحْمِلُوا متعلق- بقالوا- كما هو الظاهر أي قالوا ذلك لأن يحملوا أَوْزارَهُمْ أي آثامهم الخاصة بهم وهي آثام ضلالهم، وهو جمع وزر ويقال للثقل تشبيها بوزر الجبل، ويعبر بكل منهما عن الإثم كما في
(١) فيه تأمل فتأمل اه منه.
364
هذه الآية، وقوله تعالى ليحملوا أثقالهم: كامِلَةً لم ينقص منها شيء ولم يكفر بنحو نكبة تصيبهم في الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك أوزار المؤمنين، وقال الإمام معنى ذلك أنه لا يخفف من عذابهم شيء بل يوصل إليهم بكليته، وفيه دليل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلا للكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار به فائدة، وحمل الأوزار مجاز عن العقاب عليها. وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه بلغه أن الكافر يتمثل عمله في صورة أقبح ما خلق الله تعالى وجها وأنتنه ريحا فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء زاده وكلما يخاف شيئا زاده خوفا فيقول: بئس الصاحب أنت ومن أنت؟ فيقول: وما تعرفني؟ فيقول: لا. فيقول: أنا عملك كان قبيحا فلذلك تراني قبيحا وكان منتنا فلذلك تراني منتنا طاطئ إليّ أركبك فطالما ركبتني في الدنيا فيركبه وهو قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف ليحملوا وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ أي وبعض أوزار من ضل بإضلالهم على معنى ومثل بعض أوزارهم- فمن- تبعيضية لأن مقابلته لقوله تعالى: كامِلَةً يعين ذلك.
والمراد بهذا البعض حصة التسبب فالمضل والضال شريكان هذا يضله وهذا يطاوعه فيتحاملان الوزر وللضال أوزار غير ذلك وليست تلك محمولة، وقال الأخفش: إن مِنْ زائدة أي وأوزار الذين يضلونهم على معنى أنهم يعاقبون عقابا يكون مساويا لعقاب كل من اقتدى بهم، وإلى الزيادة ذهب أبو البقاء واعترض على التبعيض بأنه يقتضي أن المضل غير حامل كل أوزار الضال وهو مخالف
للمأثور «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا»
وفيه أن المأثور يدل على التبعيض لا أن بينهما مخالفة كما لا يخفى، ولتوهم هذه المخالفة قال الواحدي: إن من للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الاتباع، وتعقبه أبو حيان بأن من التي لبيان الجنس لا تقدر بما ذكروا وإنما تقدر بقولنا الأوزار التي هي أوزار الذين يضلونهم فيؤول من حيث المعنى إلى قول الأخفش وإن اختلفا في التقدير، ولام لِيَحْمِلُوا للعاقبة لأن الحمل مترتب على فعلهم وليس باعثا ولا غرضا لهم، وعن ابن عطية أنها تحتمل أن تكون لام التعليل ومتعلقة بفعل مقدر لا بقالوا أي قدر صدور ذلك ليحملوا، ويجيء حديث تعليل أفعال الله تعالى بالأغراض وأنت تدري أن فيه خلافا.
وجوز في البحر كونها لام الأمر الجازمة على معنى أن ذلك الحمل متحتم عليهم فيتم الكلام عند قوله سبحانه: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ والظاهر العاقبة، وصيغة الاستقبال في يُضِلُّونَهُمْ للدلالة على استمرار الإضلال أو باعتبار حال قولهم لا حال الحمل.
بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من المفعول كأنه قيل: يضلون من لا يعلم أنهم ضلال على الباطل، وفيه تنبيه على أن كيدهم لا يروج على ذي لب وإنما يقلدهم الجهلة الأغبياء وفيه زيادة تعيير لهم وذم إذ كان عليهم إرشاد الجاهلين لا إضلالهم، وقيل: إنه حال من الفاعل أي يضلون غير عالمين بأن ما يدعون إليه طريق الضلال، وقيل: المعنى حينئذ يضلون جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال، ونقل القول بالحالية عن الفاعل بنحو هذا المعنى عن الواحدي، وزعم بعضهم أنه الوجه لا الحالية من المفعول، وأيد بأن التذييل بقوله تعالى: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ وقوله سبحانه: مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يقويه، وليس بذاك، وما ذكر ظن من هذا المؤيد أنه إذا جعل حالا من المفعول لم يكن له تعلق بما سيق له الكلام من حال المضلين وقد هديت إلى وجهه.
ورجحه أبو حيان بأن المحدث عنه هو المسند إليه الإضلال على جهة الفاعلية فاعتباره ذا الحال أولى، ويرد عليه مع ما يعلم مما ذكر أن القرب يعارضه فلا يصلح مرجحا، وقيل: هو حال من ضمير الفاعل في قالُوا على معنى قالوا ذلك غير عالمين بأنهم يحملون يوم القيامة أوزار الضلال والإضلال وأيد بقوله تعالى: وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ
365
حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ
من حيث إن حمل ما ذكر من أوزار الضلال والإضلال من قبيل إتيان العذاب من حيث لا يشعرون، ويرده أن الحمل المذكور كما هو صريح الآية إنما هو يوم القيامة والعذاب المذكور إنما هو العذاب الدنيوي كما ستسمعه إن شاء الله تعالى وجوز أن يكون حالا من الفاعل والمفعول كما قال ذلك ابن جني في قوله: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ [مريم: ٢٧] وهو خلاف الظاهر، واستدل بالآية على أن المقلد يجب عليه أن يبحث ويميز بين المحق والمبطل ولا يعذر بالجهل، وهو ظاهر على ما قدمناه من الوجه الأوجه أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي بئس شيئا يزرونه ويرتكبونه من الإثم فعلهم المذكور.
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وعيد لهم برجوع غائلة مكرهم عليهم كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم ما أصابهم من العذاب العاجل، والمكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وهو هاهنا على ما قيل مجاز عن مباشرة أسبابه وترتيب مقدماته لأن ما بعد يدل على أنه لم يحصل الصرف، وجوز أن يرتكب فيه التجريد أي سووا منصوبات وحيلا ليخدعوا بها رسل الله عليهم الصلاة والسلام فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أي من جهة الدعائم والعمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت فمن ابتدائية والبنيان اسم مفرد مذكر، ونقل الراغب عن بعض اللغويين أنه جمع بنيانة مثل شعير وشعيرة وتمر وتمرة ونخل ونخلة وإن هذا النحو من الجمع يصح تذكيره وتأنيثه، وأصل الإتيان كما قال المجيء بسهولة وهو مستحيل بظاهره في حقه سبحانه ولذلك احتاج بعضهم إلى تقدير مضاف أي أمر الله تعالى وروي ذلك عن قتادة، وجعل ذلك في الكشاف من قبيل أتى عليه الدهر بمعنى أهلكه وأفناه، وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف.
وقرئ «بنيتهم» وهو بمعنى بنائهم يقال بنيت أبني أبناء وبنية وبنى نعم كثيرا ما يعبر بالبنية عن الكعبة وقرأ جعفر بيتهم والضحاك «بيوتهم» فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ أي سقط عليهم سقف بنيانهم إذ لا يتصور له القيام بعد تهدم قواعده ومِنْ متعلق بخر وهي لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف على أنه حال من السقف مؤكدة، وقال ابن عطية وابن الأعرابي إن مِنْ فَوْقِهِمْ ليس بتأكيد لأن العرب تقول خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا انهدم في ملك القائل وإن لم يقع عليه حقيقة فهو لبيان أنهم كانوا تحته حين هدم. ومن الناس من زعم أن على بمعنى عن وهي للتعليل والكلام على تقدير مضاف أي خر من أجل كفرهم السقف وجيء بقوله تعالى: مِنْ فَوْقِهِمْ مع خر لدفع توهم أن يكون قد خروهم ليسوا تحته، ولا يخفى أنه تطويل من غير طائل بل كلام لا ينبغي أن يتفوه به فاضل والكلام تمثيل يعني أن حالهم في تسويتهم المنصوبات والحيل ليمكروا بها رسل الله تعالى عليهم الصلاة والسلام وإبطال الله إياها وجعلها سببا لهلاكهم كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا تحته، ووجه الشبه أن ما نصبوه وخيلوه سبب التحصن والاستيلاء صار سبب البوار والفناء فالأساطين بمنزلة المنصوبات وانقلابها عليهم مهلكة كانقلاب تلك الحيل على أصحابها والبنيان ما كان زوروه وروجوا فيه تلك المنصوبات وتواطؤوا عليه من الرأي المدعم بالمكائد، ويشبه ذلك قولهم، من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا.
ويقرب من هذا ما قيل إن المراد أحبط الله تعالى أعمالهم، وقيل الأمر مبني على الحقيقة، وذلك أن نمرود بن كنعان بنى صرحا ببابل ليصعد بزعمه إلى السماء ويعرف أمرها ويقاتل أهلها وأفرط في علوه فكان طوله في السماء على ما حكى النقاش وروي عن كعب فرسخين. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ووهب: كان ارتفاعه خمسة آلاف ذراع وعرشه ثلاثة آلاف ذراع فبعث الله تعالى عليه ريحا فهدمته وخر سقفه عليه وعلى أتباعه فهلكوا، وقيل:
هدمه جبريل عليه السلام بجناحه ولما سقط تبلبلت الناس من الفزع فتكلّموا يومئذ بثلاث وسبعين لسانا فلذلك سميت
366
بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية، ولا يخفى ما في هذا الخبر من المخالفة للمشهور لأن موجبه أن هلاك نمرود كان بما ذكر والمشهور أنه عاش بعد قصة الصرح وأهلكه الله تعالى ببعوضة وصلت لدماغه إظهارا لكمال خسته وعجزه وجازاه سبحانه من جنس عمله لأنه صعد إلى جهة السماء بالنسور فأهلكه الله تعالى بأخس الطيور، وما ذكر في وجه تسمية المكان المعروف ببابل هو المشهور، وفي معجم البلدان أن مدينة بابل يوراسف الجبار واشتق اسمها من المشتري لأن بابل باللسان البابلي الأول اسم للمشتري وأخربها الإسكندر، وما ذكر من أن اللسان كان قبل ذلك السريانية ذكره البغوي ونظر فيه الخازن بأن صالحا عليه السلام وقومه كانوا قبل وكانوا يتكلمون بالعربية وكان قبائل قبل إبراهيم عليه السلام مثل طسم وجديس يتكلمون بالعربية أيضا وقد يدفع بالعناية.
وقال الضحاك: الآية إشارة إلى قوم لوط عليه السلام وما فعل بهم وبقراهم، والكلام أيضا مبني على الحقيقة واختار جماعة بناءه على التمثيل حسبما سمعت وعليه فالمراد على المختار من الذين كفروا من قبل ما يشمل جميع الماكرين الذين هدم عليهم بنيانهم وسقط في أيديهم وقرأ الأعرج السقف وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ومجاهد السَّقْفُ بضم السين فقط وكلاهما جمع سقف وفعل وفعل على ما قال أبو حيان محفوظان في جمع فعل وليسا مقيسين فيه ويجمع على سقوف وهو القياس. وقرأت فرقة السَّقْفُ بفتح السين وضم القاف وهي لغة في السقف، وذكر أن الأصل مضموم القاف وساكنه مخففة وكثر استعماله على عكس قولهم رجل بفتح فضم ورجل بفتح فسكون وهي لغة تميمية وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه منه بل يتوقعون إتيان مقابله مما يريدون ويشتهون، والمراد به العذاب العاجل، وفي عطف هذه الجملة على ما تقدم تهويل لأمر هلاكهم، ويدل على أن المراد به العاجل قوله سبحانه: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ أي يذلهم، والظاهر أن ضمائر الجمع- للذين مكروا- من قبل كأنه قيل: قد مكر الذين من قبلهم فعذبهم الله تعالى في الدنيا ثم يعذبهم في العقبى، وثُمَّ للإيماء إلى ما بين الجزاءين من التفاوت مع ما تدل عليه من التراخي الزماني، وتقديم الظرف على الفعل قيل لقصر الاخزاء على يوم القيامة، والمراد به ما بين بقوله سبحانه: وَيَقُولُ أي لهم تفضيحا وتوبيخا أَيْنَ شُرَكائِيَ إلى آخره، ولا شك أن ذلك لا يكون إلا في ذلك اليوم، وقال بعض المحققين: ليس التقديم لذلك بل لأن الأخبار بجزائهم في الدنيا مؤذن بأن لهم جزاء أخرويا فتبقى النفس مترقبة إلى وروده سائلة عنه بأنه ماذا مع تيقنها بأنه في الآخرة فسيق الكلام على وجه يؤذن بأن المقصود بالذكر جزاؤهم لا كونه في الآخرة، وذكر أيضا أن الجملة المذكورة عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي هذا الذي فهم من التمثيل من عذاب هؤلاء الماكرين القائلين في القرآن العظيم أساطير الأولين أو ما هو أعم منه، ومما ذكر من عذاب أولئك الماكرين من قبل جزاؤهم في الدنيا ويوم القيامة يخزيهم إلى آخره، ثم قال:
والضمير إما للمغترين في حق القرآن الكريم أو لهم ولمن مثلوا بهم من الماكرين، وتخصيصه بهم يأباه السباق والسياق اه.
وفيه من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيه فليتأمل، وفسر بعضهم الاخزاء بما هو من روادف التعذيب بالنار لأنه الفرد الكامل وقد قال تعالى: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: ١٩٢] وقيل عليه: إن قوله سبحانه: أَيْنَ شُرَكائِيَ إلى آخره يأباه لأنه قبل دخولهم النار. وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب، وأنت تعلم أن الأولى مع هذا حمله على مطلق الإذلال، وإضافة الشركاء إلى نفسه عز وجل لأدنى ملابسة بناء على زعمهم أنهم شركاء لله سبحانه عما يشركون فتكون الآية كقوله تعالى: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: ٢٢].
وجوز أن يكون ما ذكر حكاية منه تعالى لإضافتهم فإنهم كانوا يضيفون ويقولون: شركاء الله تعالى، وفي ذلك
367
زيادة في توبيخهم ليست في أين أصنامكم مثلا لو قيل، ولا يخفى أن هذا خزي وإهانة بالقول فإذا فسر الإخزاء فيما تقدم بالتعذيب بالنار كانت الآية مشيرة إلى خزيين فعلي وقولي، وأشير إلى الأول أولا لأنه أنسب بسابقه. وقرأ الجمهور «شركائي» ممدودا مهموزا مفتوح الياء، وفرقة كذلك إلا أنهم سكنوا الياء فتسقط في الدرج لالتقاء الساكنين، والبزي عن ابن كثير بخلاف عنه بالقصر وفتح الياء، وأنكر ذلك جماعة وزعموا أن هذه القراءة غير مأخوذ لأن قصر الممدود لا يجوز إلا ضرورة، وليس كما قالوا فإنه يجوز في السعة، وقد وجه أيضا بأن الهمزة المكسورة قبل الياء حذفت للتخفيف وليس كقصر الممدود مطلقا، مع أنه قد روي عن ابن كثير قصر التي في [القصص: ٦٢، ٧٤] ووَرائِي في [مريم: ٥]، وعن قنبل قصر أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى في [العلق: ٧] فكيف يعد ذلك ضرورة.
نعم قال أبو حيان: إن وقوعه في الكلام قليل فاعرف ذلك فقد غفل عنه كثير من الناس.
الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي تخاصمون وتنازعون الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم في شأنهم وتزعمون أنهم شركاء حقا حين بينوا لكم ضد ذلك، وفسر بعضهم المشاقة بالمعاداة، وتفسيرها بالمخاصمة ليظهر تعلق فِيهِمْ به ولا يحتاج إلى جعل في للسببية أولى، وقيل: للمخاصمة مشاقة أخذا من شق العصا أو لكون كل من المتخاصمين في شق والمراد بالاستفهام استحضارها للشفاعة على طريق الاستهزاء والتبكيت، فإنهم كانوا يقولون: إن صح ما تقولون فالأصنام تشفع لنا، والاستفسار عن مكانتهم لا يوجب غيبتهم حقيقة بل يكفي في ذلك عدم حضورهم بالعنوان الذي كانوا يزعمون أنهم متصفون به فليس هناك شركاء ولا أماكنها.
وقيل: إن ذلك يوجب الغيبة، ويقال: إنه يحال بينهم وبين شركائهم حينئذ ليتفقدوهم في ساعة علقوا الرجاء بها فيهم أو أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب. ولا يحتاج إلى هذا بعد ما علمت على أنه أورد على قوله ليتفقدوهم إلى آخره أنه ليس بسديد، فإنه قد تبين للمشركين حقيقة الأمر فرجعوا عن ذلك الزعم الباطل فكيف يتصور منهم التفقد.
وأجيب بأنه يجوز أن يغفلوا لعظم الهول عن ذلك فيتفقدوهم، ثم إن ما ذكر يقتضي حشر الأصنام وهو الذي يدل عليه كثير من الآيات كقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ
[الأنبياء: ٩٨] وقوله سبحانه: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة: ٢٤، التحريم: ٦] على قول، ولا أرى مانعا من حمل الشركاء على معبوداتهم الباطلة بحيث تشمل ذوي العقول أيضا. وقرأ الجمهور «تشاقون» بفتح النون، ونافع بكسرها ورويت عن الحسن، ولا يلتفت إلى تضعيف أبي حاتم. وقرأت فرقة بتشديدها على أنه أدغم نون الرفع في نون الوقاية. والكسر على حذف ياء المتكلم والاكتفاء به أي تشاقونني. على أن مشاقة الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم كمشاقة الله تعالى شأنه ولولا ذلك لم يصح تعليق المشاقة به سبحانه. أما إذا كانت بمعنى المخاصمة فظاهر أنهم لم يخاصموا الله تعالى، وأما إذا كانت بمعنى العداوة فلأنهم لا يعتقدون أنهم أعداء لله تعالى: وأما قوله تعالى لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١] يعني المشركين فمؤول أيضا بغير شبهة قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من أهل الموقف وهم الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون الذين أوتوا علما بدلائل التوحيد وكانوا يدعونهم في الدنيا إلى التوحيد فيجادلونهم ويتكبرون عليهم، واقتصر يحيى بن سلام على المؤمنين والأمر فيه سهل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنهم الملائكة عليهم السلام. ولم نقف على تقييده إياهم. وعن مقاتل أنهم الحفظة منهم. ويشعر كلام بعضهم بأنهم ملائكة الموت حيث أورد على القول بأنهم الملائكة أن الواجب حينئذ يتوفونهم مكان تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ وأنه يلزم منه الإبهام في موضع التعيين والتعيين في موضع الإبهام. وهو كما قال الشهاب في غاية السقوط، وقيل: المراد كل من اتصف بهذا العنوان من ملك وانسي وغير ذلك. والذي يميل إليه القلب السليم القول الأول أي يقول أولئك توبيخا للمشركين وإظهارا
368
للشماتة بهم وتقريرا لما كانوا يعظونهم وتحقيقا لما أوعدوهم به. وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوعه وتحتمه حسبما هو المعهود في إخباره تعالى كقوله سبحانه: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الأعراف: ٤٤].
إِنَّ الْخِزْيَ الذلّ والهوان. وفسره الراغب بالذلّ الذي يستحى منه الْيَوْمَ منصوب بالخزي على رأي من يرى إعمال المصدر باللام كقوله: ضعيف النكاية أعداءه. أو بالاستقرار في الظرف الواقع خبرا لإن، وفيه فصل بين العامل والمعمول بالمعطوف إلا أنه مغتفر في الظرف. وأل للحضور أي اليوم الحاضر، وإيراده للإشعار بأنهم كانوا قبل ذلك في عزة وشقاق وَالسُّوءَ العذاب ومن الخزي به جعل ذكر هذا للتأكيد عَلَى الْكافِرِينَ بالله تعالى وآياته ورسله عليهم السلام الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ بتأنيث الفعل، وقرأ حمزة والأعمش «يتوفاهم» بالتذكير هنا وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى، والوجهان شائعان في أمثال ذلك.
وقرئ بإدغام تاء المضارعة في التاء بعدها ويجتلب في مثله حينئذ همزة وصل في الابتداء وتسقط في الدرج وإن لم يعهد همزة وصل في أول فعل مضارع. وفي مصحف عبد الله بتاء واحدة في الموضعين، وفي الوصول أوجه الإعراب الثلاثة: الجر على أنه صفة الْكافِرِينَ أو بدل منه أو بيان له، والنصب والرفع على القطع للذم وجوز ابن عطية كونه مرتفعا بالابتداء وجملة فَأَلْقَوُا خبره. وتعقبه أبو حيان بأن زيادة الفاء في البر لا تجوز هنا إلا على مذهب الأخفش في إجازته وزيادتها في الخبر مطلقا نحو زيد فقام أي قام، ثم قال: ولا يتوهم أن هذه الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان موصولا وضمن معنى الشرط لأنها لا يجوز دخولها في مثل هذا الفعل مع صريح أداة الشرط فلا يجوز مع ما ضمن معناه اه بلفظه. ونقل شهاب عنه أنه قال: إن المنع مع ما ضمن معناه أولى. وتعقبه بأن كونه أولى غير مسلم لأن امتناع الفاء معه لأنه لقوته لا يحتاج إلى رابط إذ صح مباشرته للفعل وما تضمن معناه ليس كذلك، وكلامه الذي نقلناه لا يشعر بالأولوية فلعله وجد له كلاما آخر يشعر بها.
واستظهر هو الجر على الوصفية ثم قال: فيكون ذلك داخلا في المقول، فإن كان القول يوم القيامة يكون تَتَوَفَّاهُمُ بصيغة المضارع حكاية للحال الماضية، وإن كان في الدنيا أي لما أخبر سبحانه أنه يخزيهم يوم القيامة ويقول جل وعلا لهم ما يقول قال أهل العلم: إن الخزي اليوم الذي أخبر الله تعالى أنه يخزيهم فيه والسوء على الكافرين يكون تَتَوَفَّاهُمُ على بابه، ويشمل من حيث المعنى من توفته ومن تتوفاه، وعلى ما ذكره ابن عطية يحتمل أن يكون الَّذِينَ إلى آخره من كلام الذين أوتوا العلم وأن يكون إخبارا منه تعالى، والظاهر أن القول يوم القيامة فصيغة المضارع لاستحضار صورة توفي الملائكة إياهم كما قيل آنفا لما فيها من الهول، وفي تخصيص الخزي والسوء بمن استمر كفره إلى حين الموت دون من آمن منهم ولو في آخر عمره، وفيه النديم لهم لا يخفى أي الكافرين المستمرين على الكفر إلى أن تتوفاهم الملائكة ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي حال كونهم مستمرين على الشرك الذي هو ظلم منهم لأنفسهم وأي ظلم حيث عرضوها للعذاب المقيم فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي الاستسلام كما قاله الأخفش وقال قتادة: الخضوع، ولا بعد بين القولين. والمراد عليهما أنهم أظهروا الانقياد والخضوع، وأصل الإلقاء في الأجسام فاستعمل في إظهارهم الانقياد وإشعارا بغاية خضوعهم وانقيادهم وجعل ذلك كالشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب.
والجملة قيل عطف على قوله تعالى: وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ وما بينهما جملة اعتراضية جيء بها تحقيقا لما حاق بهم من الخزي على رؤوس الأشهاد. وكان الظاهر فيلقون إلى آخره إلا أنه عبر بصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي يقول لهم سبحانه ذلك فيستسلمون وينقادون ويتركون المشاقة وينزلون عما كانوا عليه في الدنيا من الكبر وشدة الشكيمة، ولعله مراد من قال: إن الكلام قد تم عند قوله تعالى: أَنْفُسِهِمْ ثم عاد إلى حكاية حالهم يوم القيامة،
369
وقيل: عطف على قالَ الَّذِينَ وجوز أبو البقاء وغيره العطف على تَتَوَفَّاهُمُ واستظهره أبو حيان، لكن قال الشهاب: إنه إنما يتمشى على كون تَتَوَفَّاهُمُ بمعنى الماضي، وقد تقدم لك القول بأن الجملة خبر الَّذِينَ مع ما فيه. واعترض الأول بأن قوله تعالى: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ إما أن يكون منصوبا بقول مضمر وذلك القول حال من ضمير ألقوا أي ألقوا السلم قائلين ما كنا إلى آخره أو تفسيرا للسلم الذي ألقوه بناء على أن المراد به القول الدال عليه بدليل الآية الأخرى فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ [النحل: ٨٦] وأيّا ما كان فذلك العطف يقتضي وقوع هذا القول منهم يوم القيامة وهو كذب صريح ولا يجوز وقوعه يومئذ.
وأجيب بأن المراد ما كنا عاملين السوء في اعتقادنا أي كان اعتقادنا أن عملنا غير سيىء، وهذا نظير ما قيل في تأويل قولهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] وقد تعقب بأنه لا يلائمه الرد عليهم ب بَلى إِنَّ اللَّهَ إلى آخره لظهور أنه لإبطال النفي ولا يقال: الرد على من جحد واستيقنت نفسه لأنه يكون كذبا أيضا فلا يفيد التأويل.
ومن الناس من قال بجواز وقوع الكذب يوم القيامة، وعليه فلا إشكال، ولا يخفى أن هذا البحث جار على تقدير كون العطف على قالَ الَّذِينَ أيضا إذ يقتضي كالأول وقوع القول يوم القيامة وهو مدار البحث.
واختار شيخ الإسلام عليه الرحمة العطف السابق وقال: إنه جواب عن قوله سبحانه أَيْنَ شُرَكائِيَ وأرادوا بالسوء الشرك منكرين صدوره عنهم، وإنما عبروا عنه بما ذكر اعترافا بكونه سيئا لا إنكارا لكونه كذلك مع الاعتراف بصدوره عنهم، ونفى أن يكون جوابا عن قول أولي العلم ادعاء لعدم استحقاقهم لما دهمهم من الخزي والسوء، ولعله متعين على تقدير العطف على قالَ الَّذِينَ إلى آخره، وإذا كان العطف على تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ كان الغرض من قولهم هذا الصادر منهم عند معاينتهم الموت استعطاف الملائكة عليهم السلام بنفي صدور ما يوجب استحقاق ما يعانونه عند ذلك، وقيل: المراد بالسوء الفعل السيئ أعم من الشرك وغيره ويدخل فيه الشرك دخولا أوليا أي ما كنا نعمل سوءا ما فضلا عن الشرك، ومِنْ على كل حال زائدة وسُوءٍ مفعول لنعمل بَلى رد عليهم من قبل الله تعالى أو من قبل أولي العلم أو من قبل الملائكة عليهم السلام، ويتعين الأخير على كون القول عند معاينة الموت ومعاناته أي بلى كنتم تعملون ما تعملون.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهو يجازيكم عليه وهذا أوانه فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خطاب لكل صنف منهم أن يدخل بابا من أبواب جهنم، والمراد بها إما المنفذ أو الطبقة، ولا يجوز أن يكون خطابا لكل فرد لئلا يلزم دخول الفرد من الكفار من أبواب متعددة أو يكون لجهنم بعدد الافراد، وجوز أن يراد بالأبواب أصناف العذاب، فقد جاء إطلاق الباب على الصنف كما يقال: فلان ينظر في باب من العلم أي صنف منه وحينئذ لا مانع في كون الخطاب لكل فرد، وأبعد من قال: المراد بتلك الأبواب قبور الكفرة المملوءة عذابا مستدلا بما
جاء «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار»
خالِدِينَ فِيها حال مقدرة إن أريد بالدخول حدوثه، ومقارنة إن أريد به مطلق الكون، وضمير فِيها قيل: للأبواب بمعنى الطبقات، وقيل: لجهنم، والتزم هذا وكون الحال مقدرة من أبعد، وحمل الخلود على المكث الطويل للاستغناء عن هذا الالتزام وإن كان واقعا في كلامهم خلاف المعهود في القرآن الكريم فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي عن التوحيد، وذكرهم بعنوان التكبر للإشعار بعليته لثوائهم فيها، وقد وصف سبحانه الكفار فيما تقدم بالاستكبار وهنا بالتكبر، وذكر الراغب أنهما والكبر تتقارب فالكبر الحالة التي يتخصص بها الإنسان من أعجابه بنفسه، والاستكبار على وجهين: أحدهما أن يتحرى الإنسان ويطلب أن يصير كبيرا، وذلك متى كان على ما يحب وفي المكان الذي يحب وفي الوقت الذي يحب وهو محمود. والثاني أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له
370
وهو مذموم، والتكبر على وجهين أيضا: الأول أن تكون الأفعال الحسنة كثيرة في الحقيقة وزائدة على محاسن غيره، وعلى هذا وصف الله تعالى بالمتكبر. والثاني أن يكون متكلفا لذلك متشبعا وذلك في وصف عامة الناس، والتكبر على الوجه الأول محمود وعلى الثاني مذموم، والمخصوص بالذم محذوف أي جهنم أو أبوابها إن فسرت بالطبقات، والفاء عاطفة، واللام جيء بها للتأكيد اعتناء بالذم لما أن القوم ضالون مضلون كما ينبئ عنه قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وللتأكيد اعتناء بالمدح جيء باللام أيضا فيما بعد من قوله سبحانه: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ لأن أولئك القوم على ضد هؤلاء هادون مهديون، وكأنه لعدم هذا المقتضي في آيتي الزمر والمؤمن لم يؤت باللام، وقيل: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وقيل: التأكيد متوجه لما يفهم من الجملة من أن جهنم مثواهم، وحيث إنه لم يفهم من الآيات قبل هنا فهمه منها قبل آيتي تينك السورتين جيء بالتأكيد هناك ولم يجئ به هنا اكتفاء بما هو كالصريح في إفادة أنها مثواهم مما ستسمعه إن شاء الله تعالى هناك.
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أي المؤمنين، وصفوا بذلك إشعارا بأن ما صدر عنهم من لجواب ناشئ من التقوى.
ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً أي أنزل خيرا ف ماذا اسم واحد مركب للاستفهام بمعنى أي شيء محله النصب ب أَنْزَلَ وخَيْراً مفعول لفعل محذوف، وفي اختيار ذلك دليل على أنهم لم يتلعثموا في الجواب وأطبقوه على السؤال معترفين بالإنزال على خلاف الكفرة حيث عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وليس من الإنزال في شيء. نعم قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «خير» بالرفع- فما- اسم استفهام و «ذا» اسم موصول بمعنى الذي أي أي شيء الذي أنزله ربكم، وخَيْرٌ خبر مبتدأ محذوف فيتوافق جملتا الجواب والسؤال في كون كل منهما جملة اسمية، وجعل ماذا منصوبا على المفعولية كما مر ورفع خَيْرٌ على الخبرية لمبتدأ جائز إلا أنه خلاف الأولى، وفي الكشف أنه يظهر من الوقوف على مراد صاحب الكشاف في هذا المقام أن فائدة النصف مع أن الرفع أقوى دفع الالتباس ليكون نصا في المطلوب كما أوثر النصب في قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: ٤٩] لذلك وينحل مراده من ذلك بالرجوع إلى ما نقلناه عنه سابقا والتأمل فيه فتأمل فإنه دقيق.
هذا ولم نجد في السائل هنا خلافا كما في السائل فيما تقدم، والذي رأيناه في كثير مما وقفنا عليه من التفاسير أن السائل الوفد الذي كان سائلا أولا في بعض الأقوال المحكية هناك، وذكر أنه السائل في الموضعين كثير منهم ابن أبي حاتم، فقد أخرج عن السدي قال اجتمعت قريش فقالوا: إن محمدا ﷺ رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا أناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد ﷺ فينزل بهم قالوا له: يا فلان ابن فلان فيعرفه بنسبه ويقول: أنا أخبرك عن محمد ﷺ هو رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم فذلك قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فإذا كان الوافد ممن عزم الله تعالى له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك قال: بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وأنظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد ﷺ فيقولون: خيرا إلخ، نعم يجوز عقلا أن يكون السائل بعضهم لبعض ليقوى ما عنده بجوابه أو لنحو ذلك كالاستلذاذ بسماع الجواب وكثيرا ما يسأل المحب عما يعلمه من أحوال محبوبه استلذاذا بمدامة ذكره وتشنيفا لسمعه بسني دره
371
بل يجوز أيضا أن يكون السائل من الكفرة المعاندين وغرضه بذلك التلاعب والتهكم لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أتوا بالأعمال الحسنة الصالحة فِي هذِهِ الدار الدُّنْيا حَسَنَةٌ مثوبة حسنة جزاء إحسانهم، والجار والمجرور متعلق بما بعده على معنى أن تلك الحسنة لهم في الدنيا، والمراد بها على ما روي عن الضحاك النصر والفتح، وقيل: المدح والثناء منه تعالى، وقال الإمام: يحتمل أن يكون فتح باب المكاشفات والمشاهدات والألطاف كقوله تعالى: «والذين اهتدوا زادهم هدى» وقيل: متعلق بما قبله، وحينئذ يحتمل أن يكون الكلام على تقدير مثله متعلقا بما بعد أولا بل تكون هذه الحسنة الواقعة مثوبة لإحسانهم في الدنيا في الآخرة، واقتصر بعضهم على هذا الاحتمال، والمراد بالحسنة حينئذ إما الثواب العظيم الذي أعده الله تعالى يوم القيامة للمحسنين وإما التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلمه غيره جل وعلا، واختير كونه متعلقا بما بعد لأنه الأوفق بقوله سبحانه: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ والكلام كما يشعر به كلام غير واحد على حذف مضاف أي ولثواب دار الآخرة أي ثوابهم فيها خير مما أوتوا في الدنيا من الثواب.
وجوز أن يكون المعنى خير على الإطلاق فيجوز إسناد الخيرية إلى نفس دار الآخرة وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ أي دار الآخرة حذف لدلالة ما سبق عليه كما قاله ابن عطية والزجاج وابن الأنباري وغيرهم، وهذا كلام مبتدأ عدة منه تعالى للذين اتقوا على قولهم وهو في الوعد هاهنا نظير لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ في الوعيد فيما مر، وجوز أن يكون خَيْراً مفعول قالُوا وعمل فيه لأنه في معنى الجملة كقال قصيدة أو صفة مصدر أي قولا خيرا، وهذه الجملة بدل. فمحلها النصب أو مفسرة له فلا محل لها من الإعراب، وعلى التقديرين مقولهم في الحقيقة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا إلا أن الله سبحانه سماه خيرا ثم حكاه كما تقول: قال فلان جميلا من قصدنا وجب حقه علينا، وعلى ما ذكر لا يكون دلالة النصب على ما مر لما أشير إليه هناك وإنما تكون من حيث شهادة الله تعالى بخيرية قولهم ويحتمل جعل ذلك كما الكشف مفعول أَنْزَلَ (١) ويكون تسميته خيرا من الله تعالى كما في قوله سبحانه: لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: ٩] ليشعر أول ما يقرع السمع بالمطابقة من غير نظر إلى فهم معناه، وأما قولهم لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي قالوا أنزل هذه المقالة فإن ما يفهم من المطابقة بعد تدبر المعنى، وزعم بعضهم أنه لا يجوز جعله منصوبا- بأنزل- لأن هذا القول ليس منزلا من الله تعالى، وفيه تفوت المطابقة حينئذ وهو كلام ناشئ من قلة التدبر. وفي البحر الظاهر أن لِلَّذِينَ إلخ مندرج تحت القول وهو تفسير للخير الذي أنزل الله تعالى في الوحي، وظاهره أنه وجه آخر غير ما ذكر وفيه رد على الزاعم أيضا، ولعل اقتصارهم على هذا من بين المنزل لأنه كلام جامع وفيه ترغيب للسائل، والمختار من هذه الأوجه عند جمع هو الأول بل قيل إنه الوجه.
جَنَّاتُ عَدْنٍ خبر مبتدأ محذوف كما اختاره الزجاج وابن الأنباري أي هي جنات، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي لهم جنات أو هو المخصوص بالمدح يَدْخُلُونَها نعت لجنات عند الحوفي بناء على أن عَدْنٍ نكرة وكذلك تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وكلاهما حال عند غير واحد بناء على أنها علم. وجوزوا أن يكون جَنَّاتُ مبتدأ وجملة يَدْخُلُونَها خبره وجملة تجري إلخ حال، وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن جنات بالنصب على الاشتغال أي يدخلون جنات عدن يدخلونها، قال أبو حيان. وهذه القراءة تقوي كون «جنات» مرفوعا مبتدأ والجملة بعده خبره، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ولنعمة دار المتقين» بتاء مضمومة ودار مخفوضة فيكون «نعمة» مبتدأ مضافا إلى دار وجنات خبره. وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع «يدخلونها» بالياء على الغيبة والفعل
(١) وقد نص سعد بن جلي على عدم المانع من جعله مفعول أنزل مقدرا اه منه.
372
مبني للمفعول، ورويت عن أبي جعفر، وشيبة لَهُمْ فِيها أي في تلك الجنات ما يَشاؤُنَ الظرف الأول خبر- لما- والثاني حال منه، والعامل ما في الأول من معنى الحصول والاستقرار أو متعلق به لذلك أي حاصل لهم فيها ما يشاؤون من أنواع المشتهيات وتقديمه للاحتراز عن توهم تعلقه بالمشيئة أو لما مرّ غير مرة من أن تأخير ما حقه التقديم يوجب ترقب النفس إليه فيتمكن عند وروده فضل تمكن. وذكر بعضهم أن تقديم فيها للحصر وما للعموم بقرينة المقام فيفيد أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة فتأمله. والجملة في موضع الحال نظير ما تقدم، وزعم أن لهم متعلق بتجري أي تجري من تحتها الأنهار لنفعهم وفِيها ما يَشاؤُنَ مبتدأ وخبر في موضع الحال لا يخفى حاله عند ذوي التمييز كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء الأوفى يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أي جنسهم فيشمل كل من يتقي من الشرك والمعاصي وقيل من الشرك ويدخل فيه المتقون المذكورون دخولا أوليا ويكون فيه بعث لغيرهم على التقوى أو المذكورين فيكون فيه تحسير للكفرة، قيل: وهذه الجملة تؤيد كون قوله سبحانه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
عدة فإن جعل ذلك جزاء لهم ينظر إلى الوعد به من الله تعالى وإذا كان مقول القول لا يكون من كلامه تعالى حتى يكون وعدا منه سبحانه، وقيل: إنها تؤيد كون جَنَّاتُ خبر مبتدأ محذوف لا مخصوصا بالمدح لأنه إذا كان مخصوصا بالمدح يكون كالصريح في أن جَنَّاتُ عَدْنٍ جزاء للمتقين فيكون كَذلِكَ إلخ تأكيدا بخلاف ما إذا كان خبر مبتدأ محذوف فإنه لم يعلم صريحا أن جنات عدن جزاء للمتقين وفيه نظر وكذا في سابقه إلا أن في التعبير بالتأبيد ما يهون الأمر الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ نعت للمتقين وجوز قطعه، وقوله سبحانه: طَيِّبِينَ حال من ضميرهم، ومعناه على ما روي عن أبي معاذ طاهرين من دنس الشرك وهو المناسب لجعله في مقابلة ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ في وصف الكفرة بناء على أن المراد بالظلم أعظم أنواعه وهو الشرك لكن قيل عليه: إن ذكر الطهارة عن الشرك وحده لا فائدة فيه بعد وصفهم بالتقوى.
وأجيب بأن فائدة ذلك الإشارة إلى أن الطهارة عن الشرك هي الأصل الأصيل. وفي إرشاد العقل السليم بعد تفسير الظلم بالكفر وتفسير طيبين بطاهرين عن دنس الظلم وجعله حالا قال: وفائدته الإيذان بأن ملاك الأمر في التقوى هو الطهارة عما ذكر إلى وقت توفيهم، ففيه حث للمؤمنين على الاستمرار على ذلك ولغيرهم على تحصيله.
وقال مجاهد: المراد- بطيبين- زاكية أقوالهم وأفعالهم، وهو مراد من قال: طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي وإلى هذا ذهب الراغب حيث قال الطيب من الإنسان من تعرى من نجاسة الجهل والفسق وقبائح الأعمال وتحلى بالعلم والإيمان ومحاسن الأعمال وإياهم قصد بقوله سبحانه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ.
وانتصر لذلك بأن وصفهم بأنهم متقون موعودون بالجنة في مقابلة الأعمال يقتضي ما ذكر، وحملوا الظلم فيما مر على ما يعم الكفر والمعاصي لأن ذلك مجاب بقولهم: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ فلا تفوت المناسبة في جعل هذا مقابلا لذاك لكن في الاستدلال بما ذكر في الجواب على إرادة العام ما لا يخفى، والكثير على تفسير الطيب بالطاهر عن قاذورات الذنوب مطابق الذي لا خبث فيه، وقيل: المعنى فرحين ببشارة الملائكة عليهم السلام إياهم أو بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس، فالمراد بالطيب طيب النفس وطيبها عبارة عن القبول مع انشراح الصدر يَقُولُونَ حال من الملائكة، وجوز أن يكون «الذين» مبتدأ خبره هذه الجملة أي قائلين أو قائلون لهم:
سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يحيقكم بعد مكروه.
قال القرطبي: وروى نحوه البيهقي عن محمد بن كعب القرظي إذا استدعيت نفس المؤمن جاءه ملك الموت عليه السلام فقال: السلام عليك يا ولي الله إن الله تعالى يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ التي
373
أعدها الله تعالى لكم ووعدكم إياها وكأنها إنما لم توصف لشهرة أمرها.
وفي إرشاد العقل السليم اللام للعهد أي جَنَّاتُ عَدْنٍ إلخ ولذلك جردت عن النعت وهو كما ترى، والمراد دخولهم فيها بعد البعث بناء على أن المتبادر الدخول بالأرواح والأبدان والمقصود من الأمر بذلك قبل مجيء وقته البشارة بالجنة على أتم وجه ويجوز أن يراد الدخول حين التوفي بناء على حمل الدخول على الدخول بالأرواح كما يشير إليه
خبر «القبر روضة من رياض الجنة»
وكون البشارة بذلك دون البشارة بدخول الجنة على المعنى الأول لا يمنع عن ذلك على أن لقائل أن يقول: إن البشارة بدخول الجنة بالأرواح متضمنة للبشارة بدخولها بالأرواح والأبدان عند وقته، وكون هذا القول كسابقه عند قبض الأرواح هو المروي عن ابن مسعود، وجماعة من المفسرين، وقال مقاتل والحسن: إن ذلك يوم القيامة، والمراد من التوفي وفاة الحشر أعني تسليم أجسادهم وإيصالها إلى موقف الحشر من توفي الشيء إذا أخذه وافيا، وجوز حمل التوفي على المعنى المتعارف مع كون القول يوم القيامة إما بجعل الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يقولون مبتدأ وخبرا أو بجعل يقولون حالا مقدرة من الملائكة والَّذِينَ على حاله أولا وحال ذلك لا يخفى بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بسبب ثباتكم على التقوى والطاعة بالذي كنتم تعملونه من ذلك، والباء للسببية العادية، وهي فيما
في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل الجنة أحدكم بعمله» الحديث
للسببية الحقيقية فلا تعارض بين الآية والحديث وبعضهم جعل الباء للمقابلة دفعا للتعارض لْ يَنْظُرُونَ
أي ما ينتظر كفار مكة المار ذكرهم لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
لقبض أرواحهم كما روي عن قتادة ومجاهد، وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش «يأتيهم» بالياء آخر الحروف وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
أي القيامة كما روي عمن تقدم أيضا، وقال بعضهم: المراد به العذاب الدنيوي دونها لا لأن انتظارها يجامع انتظار إتيان الملائكة فلا يلائمه العطف بأو لا لأنها ليست نصا في العناد إذ يجوز أن يعتبر منع الخلو ويراد بإيرادها كفاية كل واحد من الأمرين في عذابهم بل لأن قوله تعالى فيما سيأتي إن شاء الله تعالى: لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
فأصابهم الآية صريح في أن المراد به ما أصابهم من العذاب الدنيوي وفيه منع ظاهر، ويؤيد إرادة الأول التعبير- بيأتي- دون يأتيهم، وقيل: المراد بإتيان الملائكة إتيانهم للشهادة بصدق النبي ﷺ أي ما ينتظرون في تصديقك إلا أن تنزل الملائكة تشهد بنبوتك فهو كقوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام: ٨] والجمهور على الأول، وجعلوا منتظرين لذلك مجازا لأنه يلحقهم لحوق الأمر المنتظر كما قيل.
واختير أن ذلك لمباشرتهم أسباب العذاب الموجبة له المؤدية إليه فكأنهم يقصدون إيتاءه ويتصدون لوروده، ولا يخفى ما في التعبير بالرب وإضافته إلى ضميره ﷺ من اللطف به عليه الصلاة والسلام، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى وجه ربط الآيات ذلِكَ
أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب عَلَ الَّذِينَ
خلوانْ قَبْلِهِمْ
من الأمم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
إذ أصابهم جزاء فعلهم لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
بالاستمرار على فعل القبائح المؤدي لذلك، قيل: وكان الظاهر أن يقال: ولكن كانوا هم الظالمين في سورة الزخرف لكنه أوثر ما عليه النظم الكريم لإفادة أن غائلة ظلمهم آئلة إليهم وعاقبته مقصورة عليهم مع استلزام اقتصار ظلم كل أحد على نفسه من حيث الوقوع اقتصاره عليه من حيث الصدور فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي أجزية أعمالهم السيئة على طريقة إطلاق اسم السبب على المسبب إيذانا بفظاعته، وقيل: الكلام على حذف المضاف.
وتعقب بأنه يوهم أن لهم أعمالا غير سيئة والتزم ومثل ذلك بنحو صلة الأرحام، ولا يخفى أن المعنى ليس على التخصيص، والداعي إلى ارتكاب أحد الأمرين أن الكلام بظاهره يدل على أن ما أصابهم سيئة، وليس بها.
374
وقد يستغنى عن ارتكاب ذلك لما ذكر بأن ما يدل عليه الظاهر من باب المشاكلة كما في قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤] كما في الكشاف وَحاقَ بِهِمْ أي أحاط بهم، وأصل معنى الحيق الإحاطة مطلقا ثم خص في الاستعمال بإحاطة الشر، فلا يقال: أحاطت به النعمة بل النقمة. وهذا أبلغ وأفظع من أصابهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي من العذاب كما قيل على أن ما موصولة عبارة عن العذاب، وليس في الكلام حذف ولا ارتكاب مجاز على نحو ما مر آنفا، وقيل: ما مصدرية وضمير بِهِ للرسول عليه الصلاة والسلام وإن لم يذكر، والمراد أحاط بهم جزاء استهزائهم بالرسول ﷺ أو موصولة عامة للرسول عليه الصلاة والسلام وغيره وضمير بِهِ عائد عليها والمعنى على الجزاء أيضا، ولا يخفى ما فيه، وايا ما كان ف بِهِ متعلق- بيستهزئون- قدم للقاصلة، هذا ثم إن قوله تعالى: لْ يَنْظُرُونَ
إلخ على ما في الكشف رجوع إلى عد ما هم فيه من العناد والاستشراء في الفساد وأنهم لا يقلعون عن ذلك كأسلافهم الغابرين إلى يوم التناد، وما وقع من أحوال أضدادهم في البين كان لزيادة التحسير والتبكيت والتخسير، وفيه دلالة على أن الحجة قد تمت وأنه ﷺ أدى ما عليه من البلاغ المبين، وقوله تعالى: فَأَصابَهُمْ عطف على عَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
مترتب إذ المعنى كذلك التكذيب والشرك فعل أسلافهم وأصابهم ما أصابهم، وفيه تحذير مما فعله هؤلاء وتذكير لقوله سبحانه: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل: ٢٦] ولا يخفى حسن الترتب على ذلك لأن التكذيب والشرك تسببا لإصابة السيئات لمن قبلهم، وقوله سبحانه: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
اعتراض واقع حاق موقعه، وجعل ذلك راجعا إلى المفهوم من قوله تعالى: لْ يَنْظُرُونَ
أي كذلك كان من قبلهم مكذبين لزمتهم الحجة منتظرين فأصابهم ما كانوا منتظرين سديد حسن إلا أن معتمد الكلام الأول وهو أقرب مأخذا، ودلالةعَلَ
عليه أظهر، فهذه فذلكة ضمنت محصل ما قابلوا به تلك النعم والبصائر وأدمج فيها تسليته ﷺ والبشرى بقلب الدائرة على من تربص به وبأصحابه عليه الصلاة والسلام الدوائر وختمت بما يدل على أنهم انقطعوا فاحتجوا بآخر ما يحتج به المحجوج يتقلب عليه فلا يبصر إلا وهو مثلوج مشجوج وهو ما تضمنه قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ فهو من تتمة قوله سبحانه: لْ يَنْظُرُونَ
ألا ترى كيف ختم بنحوه آخر مجادلاتهم في سورة [الأنعام: ١٤٨] في قوله سبحانه: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وكذلك في سورة الزخرف ولا تراهم يتشبثون بالمشيئة إلا عند انخزال الحجة وقالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت: ١٤] ويكفي في الانقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ [الأنعام: ١٤٩] وفي إرشاد العقل السليم أن هذه الآية بيان لفن آخر من كفر أهل مكة فهم المراد بالموصول، والعدول عن الضمير إليه لتقريعهم بما في حيز الصلة وذمهم بذلك من أول الأمر، والمعنى لو شاء الله تعالى عدم عبادتنا لشيء غيره سبحانه كما تقول ما عبدنا ذلك نَحْنُ وَلا آباؤُنا الذين نهتدي بهم في ديننا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ من السوائب والبحائر وغيرها- فمن- الأولى بيانية والثانية زائدة لتأكيد الاستغراق وكذا الثالثة ونَحْنُ لتأكيد ضمير عَبَدْنا لا لتصحيح العطف لوجود الفاصل وإن كان محسنا له، وتقدير مفعول شاءَ عدم العبادة مما صرح به بعضهم، وكان الظاهر أن يضم إليه عدم التحريم. واعترض تقدير ذلك بأن العدم لا يحتاج إلى المشيئة كما ينبئ عنه
قوله صلى الله عليه وسلم: «ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن»
حيث لم يقل عليه الصلاة والسلام ما شاء الله تعالى كان وما شاء عدم كونه لم يكن بل يكفي فيه عدم مشيئة الوجود، وهو معنى قولهم: علة العدم عدم علة الوجود، فالأولى أن يقدر المفعول وجوديا كالتوحيد والتحليل وكامتثال ما جئت به والأمر في ذلك سهل.
وفي تخصيص الإشراك والتحريم بالنفي لأنهما أعظم وأشهر ما هم عليه، وغرضهم من ذلك كما قال بعض
375
المحققين تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن في الرسالة رأسا، فإن حاصله أن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فلو أنه سبحانه شاء أن نوحده ولا نشرك به شيئا ونحلل ما أحله ولا نحرم شيئا مما حرمنا كما تقول الرسل وينقلونه من جهته تعالى لكان الأمر كما شاء من التوحيد ونفي الإشراك وتحليل ما أحله وعدم تحريم شيء من ذلك وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك بل شاء ما نحن عليه وتحقق أن ما تقوله الرسل عليهم السلام من تلقاء أنفسهم ورد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه عز وجل: كَذلِكَ أي مثل ذلك الفعل الشنيع فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم أي أشركوا بالله تعالى وحرموا من دونه ما حرموا وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ الذين أمروا بتبليغ رسالات الله تعالى وعزائم أمره ونهيه. إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي ليست وظيفتهم إلا الإبلاغ للرسالة الموضح طريق الحق والمظهر أحكام الوحي التي منها تحتم تعلق مشيئته تعالى باهتداء من صرف قدرته واختياره إلى تحصيل الحق لقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا
[العنكبوت: ٦٩].
وأما إلجاؤهم إلى ذلك وتنفيذ قولهم عليهم شاؤوا أو أبوا كما هو مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم ولا من الحكمة التي يدور عليها فلك التكليف حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقيقة الرسل عليهم السلام أو على عدم تعلق مشيئة الله تعالى بذلك، فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من الأفعال لا بد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريين والفاء على هذا للتعليل كأنه قيل كذلك فعل أسلافهم وذلك باطل فإن الرسل عليهم السلام ليس شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي لا تحقيق مضمونها قسرا والجاء اه، وكأني بك لا تبريه من تكلف.
وهو متضمن للرد على الزمخشري فقد سلك في هذا المقام الغلو في المقال وعدل عن سنن الهدى إلى مهواة الضلال فذكر أن هؤلاء المشركين فعلوا ما فعلوا من القبائح ثم نسبوا فعلهم إلى الله تعالى وقالوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ إلى آخره وهذا مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل أسلافهم فلما نبهوا على قبح فعلهم وركوه على ربهم فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق وأن الله سبحانه لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم، والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه إلى آخر ما قال مما هو على هذا المنوال، ولعمري أنه فسر الآيات على وفق هواه وهي عليه لا له لو تدبر ما فيها وحواه، وقد رد عليه غير واحد من المحققين وأجلة المدققين وبينوا أن الآية بمعزل عن أن تكون دليلا لأهل الاعتزال كما أن الشرطية لا تنتج مطلوب أولئك الضلال، وقد تقدم نبذة من الكلام في ذلك، ثم إن كون غرض المشركين من الشرطية تكذيب الرسل عليهم السلام هو أحد احتمالين في ذلك، قال المدقق في الكشف في نظير الآية: إن قولهم هذا إما لدعوى مشروعية ما هم عليه ردا للرسل عليهم السلام أو لتسليم أنهم على الباطل اعتذارا بأنهم مجبورون، والأول باطل لأن المشيئة تتعلق بفعلهم المشروع وغيره فما شاء الله تعالى أن يقع منهم مشروعا وقع كذلك وما شاء الله تعالى أن يقع لا كذلك وقع لا كذلك، ولا شك أن من توهم أن كون الفعل بمشيئته تعالى ينافي مجيء الرسل عليهم السلام بخلاف ما عليه المباشر من الكفر والضلال فقد كذب التكذيب كله وهو كاذب في استنتاج المقصود من هذه اللزومية، وظاهر الآية مسوق لهذا المعنى، والثاني على ما فيه حصول المقصود وهو الاعتراف بالبطلان باطل أيضا إذ لا جبر لأن المشيئة تعلقت بأن يشركوا اختيارا منهم والعلم تعلق كذلك ومثله في التحريم فهو يؤكد دفع العذر لا أنه يحققه، وذكر أن معنى فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ أن الذي على الرسل أن يبلغوا ويبينوا معالم الهدى بالإرشاد إلى تمهيد قواعد النظر والإمداد بأدلة السمع والبصر ولا عليهم من مجادلة من يريد أن
376
يدحض بباطله الحق الأبلج إذ بعد ذلك التبيين يتضح الحق للناظرين ولا تجدي نفعا مجادلة المعاندين، وجوز أن يكون قولهم هذا منعا للبعثة والتكليف متمسكين بأن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيهما أو إنكارا لقبح ما أنكر عليهم من الشرك والتحريم محتجين بأن ذلك لو كان مستقبحا لما شاء الله تعالى صدوره عنا أو لشاء خلافه ملجأ إليه، وأشير إلى جواب الشبهة الأولى بقوله سبحانه: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلى آخره كأنه قيل: إن فائدة البعثة البلاغ الموضح للحق فإن ما شاء الله تعالى وجوده أو عدمه لا يجب ولا يمتنع مطلقا كما زعمتم بل قد يجب أو يمتنع بتوسط أسباب أخر قدرها سبحانه ومن ذلك البعثة فإنها تؤدي إلى هدى من شاء الله تعالى على سبيل التوسط، وأما الشبهة الثانية فقد أشير إلى جوابها في قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الخالية رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ هو كل ما يدعو إلى الضلالة، وقال الحسن: هو الشيطان، والمراد من اجتنابه اجتناب ما يدعو إليه.
فَمِنْهُمْ أي من أولئك الأمم مَنْ هَدَى اللَّهُ إلى الحق من عبادته أو اجتناب الطاغوت بأن وفقهم لذلك وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ثبتت ووجبت إذ لم يوفقهم ولم يرد هدايتهم، ووجه الإشارة أن تحقق الضلال وثباته من حيث إنه وقع قسيما للهداية التي هي بإرادته تعالى ومشيئته كان هو أيضا كذلك.
وأما أن إرادة القبيح قبيحة فلا يجوز اتصاف الله سبحانه بها فظاهر الفساد لأن القبيح كسب القبيح والاتصاف به لا إرادته وخلقه على ما تقرر في الكلام. وأنت تعلم أن كلتا الإشارتين في غاية الخفاء، ولينظر أي حاجة إلى الحصر وما المراد به على جعل فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلى آخره مشيرا إلى جواب الشبهة الأولى.
وقال الإمام: إن المشركين أرادوا من قولهم ذلك أنه لما كان الكل من الله تعالى كان بعثه الأنبياء عليهم السلام عبثا فنقول: هذا اعتراض على الله تعالى وجار مجرى طلب العلة في أحكامه تعالى وأفعاله وذلك باطل إذ لله سبحانه أن يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يجوز أن يقال له لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذاك. والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى أنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنا إلى آخره حيث بين فيه أن سنته سبحانه في عباده إرسال الرسل إليهم وأمرهم بعبادته ونهيهم عن عبادة غيره، وأفاد أنه تعالى وإن أمر الكل ونهاهم إلا أنه جل جلاله هدى البعض وأضل البعض، ولا شك أنه إنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلها منزها عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين، فكان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجبا للجهل والضلال والبعد عن الله المتعال، فثبت أن الله تعالى إنما ذم هؤلاء القائلين لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل لا لأنهم كذبوا في قولهم ذلك، وهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب، ومعنى فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلى آخره أنه تعالى أمر الرسل عليهم السلام بالتبليغ فهو الواجب عليهم، وأما أن الإيمان هل يحصل أو لا يحصل فذاك لا تعلق للرسل به ولكن الله تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه اه وهو كما ترى.
ونقل الواحدي في الوسيط عن الزجاج أنهم قالوا ذلك على الهزو ولم يرتضه كثير من المحققين، وذكر بعضهم أن حمله على ذاك لا يلائم الجواب. نعم قال في الكشف عند قوله تعالى: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠] إنهم دفعوا قول الرسل عليهم السلام بدعوتهم إلى عبادته تعالى ونهيهم عن عبادة غيره سبحانه بهذه المقالة وهم ملزمون على مساق هذا القول لأنه إذا استند الكل إلى مشيئته تعالى فقد شاء إرسال الرسل وشاء دعوتهم إلى العباد وشاء جحودهم وشاء دخولهم النار، فالإنكار والدفع بعد هذا القول دليل على أنهم قالوه لا عن اعتقاد بل مجازفة، وقال في موضع آخر عند نظير الآية أيضا: إنهم كاذبون في هذا القول لجزمهم حيث لا ظن مطلقا فضلا عن
377
العلم، وذلك لأن من المعلوم أن العلم بصفات الله تعالى فرع العلم بذاته والإيمان بها كذلك والمحتجون به كفرة مشركون مجسمون، وأطال الكلام في هذا المقام في سورة الزخرف.
وذكر أن في كلامهم تعجيز الخالق بإثبات التمانع بين المشيئة وضد المأمور به فيلزم أن لا يريد إلا أمر به ولا ينهى إلا وهو لا يريده، وهذا تعجيز من وجهين إخراج بعض المقدورات عن أن يصير محلها وتضييق محل أمره ونهيه وهذا بعينه مذهب إخوانهم القدرية اه ويجوز أن يقال: إن المشركين إنما قالوا ذلك إلزاما بزعمهم حيث سمعوا من المرسلين وأتباعهم أن ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وإلا فهم أجهل الخلق بربهم جل شأنه وصفاته إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان: ٢٤] ومرادهم إسكات المرسلين وقطعهم عن دعوتهم إلى ما يخالف ما هم عليه والاستراحة عن معارضتهم فكأنهم قالوا: إنكم تقولون ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن فما نحن عليه مما شاءه الله تعالى وما تدعونا إليه مما لم يشأه وإلا لكان، واللائق بكم عدم التعرض لخلاف مشيئة الله تعالى، فإن وظيفة الرسول الجري على إرادة المرسل لأن الإرسال إنما هو لتنفيذ تلك الإرادة وتحصيل المراد بها، وهذا جهل منهم بحقيقة الأمر وكيفية تعلق المشيئة وفائدة البعثة، وذلك لأن مشيئته تعالى إنما تتعلق وفق علمه وعلمه إنما يتعلق وفق ما عليه الشيء في نفسه، فالله تعالى ما شاء شركهم مثلا إلا بعد أن علم ذلك وما علمه إلا وفق ما هو عليه في نفس الأمر فهم مشركون في الأزل ونفس الأمر إلا أنه سبحانه حين أبرزهم على وفق ما علم فيهم لو تركهم وحالهم كان لهم الحجة عليه سبحانه إذا عذبهم يوم القيامة إذ يقولون حينئذ: ما جاءنا من نذير فأرسل جل شأنه الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فليس على الرسل إلا تبليغ الأوامر والنواهي لتقوم الحجة البالغة لله تعالى، فالتبليغ مراد الله تعالى من الرسل عليهم السلام لإقامة حجته تعالى على خلقه به، وليس مراده من خلقه إلا ما هم عليه في نفس الأمر خيرا كان أو شرا.
وفي الخبر يقول الله تعالى: «يا عبادي إنما أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»
ولا منافاة بين الأمر بشيء وإرادة غيره منه تعالى لأن الأمر بذلك حسبما يليق بجلاله وجماله، والإرادة حسبما يستدعيه في الآخرة الشيء في نفسه، وقد قرر الجماعة انفكاك الأمر عن الإرادة في الشاهد أيضا وذكر بعض الحنابلة الانفكاك أيضا لكن عن الإرادة التكوينية لا مطلقا، والبحث مفصل في موضعه، وإذا علم ذلك فاعلم أن قوله سبحانه: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ يتضمن الإشارة إلى ردهم كأنه قيل: ما أشرتم إليه من أن اللائق بالرسل ترك الدعوة إلى خلاف ما شاء الله تعالى منا والجري على وفق المشيئة والسكوت عنا باطل لأن وظيفتهم والواجب عليهم هو التبليغ وهو مراد الله تعالى منهم لتقوم به حجة الله تعالى عليكم لا السكوت وترك الدعوة، وفي قوله سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنا إلخ إشارة يتفطن لها من له قلب إلى أن المشيئة حسب الاستعداد الذي عليه الشخص في نفس الأمر فتأمل فإن هذا الوجه لا يخلو عن بعد ودغدغة. والذي ذكره القاضي في قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا إلخ أنه بين فيه أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سببا لهدي من أراد سبحانه اهتداءه وزيادة لضلال من أراد ضلاله كالغذاء الصالح ينفع المزاج السوي ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه.
وفي إرشاد العقل السليم أنه تحقيق لكيفية تعلق مشيئته تعالى بأفعال العباد بعد بيان أن الإلجاء ليس من وظائف الرسالة ولا من باب المشيئة المتعلقة بما يدور عليه فلك الثواب والعقاب من الأفعال الاختيارية، والمعنى أنا بعثنا في كل أمة رسولا يأمرهم بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت فأمروهم فتفرقوا فمنهم من هداه الله تعالى بعد صرف قدرته واختياره الجزئي إلى تحصيل ما هدى إليه ومنهم من ثبت على الضلالة لعناده وعدم صرف قدرته إلى تحصيل الحق، والفاء في فَمِنْهُمْ نصيحة كما أشير إليه، وكان الظاهر في القسم الثاني- ومنهم من أضل الله- إلا أنه غير الأسلوب
378
إلى ما في النظم الكريم للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارهم كقوله تعالى: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: ٨٠] وأَنِ يحتمل أن تكون مفسرة لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدرية بتقدير حرف الجر أي بأن اعبدوا الله فَسِيرُوا أيها المشركون المكذبون القائلون: لو شاء الله ما عبدنا من دونه فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ من عاد وثمود ومن سار سيرهم ممن حقت عليه الضلالة وقال كما قلتم لعلكم تعتبرون، وترتب الأمر بالسير على مجرد الإخبار بثبوت الضلالة عليهم من غير إخبار بحلول العذاب للإيذان بأن ذلك غني عن البيان، وفي عطف الأمر الثاني بالفاء إشعار بوجوب المبادرة إلى النظر والاستدلال المنقذين من الضلال إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والحرص فرط الإرادة. وقرأ النخعي «وإن» بزيادة واو وهو والحسن وأبو حيوة «تحرص» بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة، والجمهور تَحْرِصْ بكسر الراء مضارع حرص بفتحها وهي لغة الحجاز فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ جواب للشرط على معنى فاعلم ذلك أو علة للجواب المحذوف أي أن تحرص على هداهم لم ينفع حرصك شيئا فإن الله تعالى لا يهدي من يضل، والمراد بالموصول قريش المعبر عنهم فيما مر بالذين أشركوا، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنصيص على أنهم ممن حقت عليهم الضلالة وللإشعار بعلة الحكم، ويجوز أن يراد به ما يشملهم ويدخلون فيه دخولا أوليا، ومعنى الآية على ما قيل: إنه سبحانه لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره ولا بد من نحو هذا التأويل لأن الحكم بدون ذلك مما لا يكاد يجهل، ومَنْ على هذا مفعول يَهْدِي كما هو الظاهر، وقيل: إن يهدي مضارع هدى بمعنى اهتدى فهو لازم ومَنْ فاعله وضمير الفاعل في يُضِلُّ لله تعالى والعائد محذوف أي من يضله، وقد حكي مجيء هدى بمعنى اهتدى الفراء. وقرأ غير واحد من السبعة والحسن والأعرج ومجاهد وابن سيرين والعطاردي ومزاحم الخراساني وغيرهم «لا يهدى» بالبناء للمفعول- فمن- نائب الفاعل والعائد وضمير الفاعل كما مر، وهذه القراءة أبلغ من الأولى لأنها تدل على أن من أضله الله تعالى لا يهديه كل أحد بخلاف الأولى فإنها تدل على أن الله تعالى لا يهديه فقط وإن كان من لم يهد الله فلا هادي له، وهذا- على ما قيل- إن لم نقل بلزوم هدى وأما إذا قلنا به فهما بمعنى إلا أن هذه صريحة في عموم الفاعل بخلاف تلك مع أن المتعدي هو الأكثر. وقرأت فرقة منهم عبد الله «لا يهدّي» بفتح الياء وكسر الهاء والدال وتشديدها، وأصله يهتدي فأدغم كقولك في يختصم يخصم.
وقرأت فرقة أخرى «لا يهدي» بضم الياء وكسر الدال، قال ابن عطية: وهي ضعيفة، وتعقبه في البحر بأنه إذا ثبت هدى لازما بمعنى اهتدى لم تكن ضعيفة لأنه أدخل على اللازم همزة التعدية، فالمعنى لا يجعل مهتديا من أضله.
وأجيب بأنه يحتمل أن وجه الضعف عنده عدم اشتهار أهدى المزيد. وقرئ «يضلّ» بفتح الياء، وفي مصحف أبي «فإن الله لا هادي لمن أضل» وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم في الهداية أو يدفعون العذاب عنهم وهو تتميم بإبطال ظن أن آلهتهم تنفعهم شيئا وضمير لهم عائد على معنى من وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار الجمعية في الضمير فإن مقابلة الجمع بالجمع تفيد انقسام الآحاد على الآحاد لا لأن المراد نفي طائفة من الناصرين من كل منهم.
ثم إن أول هذه الآيات ربما يوهم نصرة مذهب الاعتزال لكن آخرها مشتمل على الوجوه الكثيرة كما قال الإمام الدالة على نصرة مذهب أهل الحق، ولعل الأمر غني عن البيان ولله تعالى الحمد على ذلك وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ شروع في بيان فن آخر من أباطيلهم وهو إنكارهم البعث، وهو على ما في الكشاف وغيره عطف على قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قيل: ولتضمن الأول إنكار التوحيد وهذا إنكار البعث وهما أمران عظيمان من الكفر والجهل حسن العطف بينهما، والضمير لأهل مكة أيضا أي حلفوا بالله جَهْدَ أَيْمانِهِمْ مصدر منصوب على الحال أي جاهدين في
379
أيمانهم لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ وهو مبني على أن الميت يعدم ويفنى وأن البعث إعادة له وأنه يستحيل إعادة المعدوم، وقد ذهب إلى هذه الاستحالة الفلاسفة ولم يوافقهم في دعوى ذلك أحد من المتكلمين إلا الكرامية وأبو الحسين البصري من المعتزلة، واحتجوا عليها بما رده المحققون، وبعضهم ادعى الضرورة في ذلك وأن ما يذكر في بيانه تنبيهات عليه، فقد نقل الإمام عن الشيخ أبي علي بن سينا أنه قال: كل من رجع إلى فطرته السليمة ورفض عن نفسه الميل والتعصب شهد عقله الصريح بأن إعادة المعدوم بعينه ممتنعة وفي قسم هؤلاء الكفار على عدم البعث إشارة كما قال في التفسير إلى أنهم يدعون العلم الضروري بذلك.
وأنت تعلم أنه إذا جوز إعادة المعدوم بعينه كما هو رأي جمهور المتكلمين فلا إشكال في لبعث أصلا. وأما إن قلنا بعدم جواز الإعادة لقيام القاطع على ذلك فقد قيل: نلتزم القول بعدم انعدام شيء من الأبدان حتى يلزم في البعث إعادة المعدوم وإنما عرض لها التفرق ويعرض لها في البعث الاجتماع فلا إعادة لمعدوم، وفيه بحث وإن أيد بقصة إبراهيم عليه السلام ومن هنا قال المولى ميرزاجان: لا مخلص إلا بأن يقال ببقاء النفس المجردة (١) وإن البدن المبعوث مثل البدن الذي كان في الدنيا وليس عينه بالشخص ولا ينافي هذا قانون العدالة إذ الفاعل هو النفس ليس إلا والبدن بمنزلة السكين بالنسبة إلى القطع فكما أن الأثر المترتب على القطع من المدح والذم والثواب والعقاب إنما هو للقاطع لا للسكين كذلك الأثر المترتب على أفعال الإنسان إنما هو للنفس وهي المتلذذة والمتألمة تلذذا أو تألما عقليا أو حسيا فليس يلزم خلاف العدالة، وأما الظواهر الدالة على عود ذلك الشخص بعينه فمؤولة لفرض القاطع الدال على الامتناع، وذلك بأن يقال: المراد إعادة مادته مع صورة كانت أشبه الصور إلى الصورة الأولى فتدبر وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يس تحقيق هذا المطلب على أتم وجه.
ونقل عن ابن الجوزي وأبي العالية أن هذه الآية نزلت لأن رجلا من المسلمين تقاضى دينا على رجل من المشركين فكان فيما تكلم به المسلم والذي أرجوه بعد الموت فقال المشرك: وإنك لتبعث بعد الموت وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فقص الله تعالى ذلك ورده أبلغ رد بقوله سبحانه: بَلى لإيجاب النفي أي بلى يبعثهم وَعْداً مصدر مؤكد لما دل عليه بَلى إذ لا معنى له سوى الوعد بالبعث والإخبار عنه، ويسمى نحو هذا مؤكدا لنفسه وجوز أن يكون مصدرا لمحذوف أي وعد ذلك وعدا عَلَيْهِ صفة وَعْداً والمراد وعدا ثابتا عليه إنجازه وإلا فنفس الوعد ليس ثابتا عليه، وثبوت الإنجاز لامتناع الخلف في وعده أو لأن البعث من مقتضيات الحكمة.
حَقًّا صفة أخرى- لوعدا- وهي مؤكدة إن كان بمعنى ثابتا متحققا ومؤسسة إن كان بمعنى غير باطل أو نصب على المصدرية بمحذوف أي حق حقا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لجهلهم بشؤون الله تعالى من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال وبما يجوز عليه وما لا يجوز وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى منه وعلى أن البعث مما تقتضيه الحكمة لا يَعْلَمُونَ أنه تعالى يبعثهم، ونعى عليهم عدم العلم بالبعث دون العلم بعدمه الذي يزعمونه على ما يقتضيه ظاهر قسمهم ليعلم منه نعي ذاك بالطريق (٢).
وجوز أن يكون للإيذان بأن ما عندهم بمعزل عن أن يسمى علما بل هو توهم صرف وجهل محض، وتقدير مفعول يَعْلَمُونَ ما علمت هو الأنسب بالسياق، وجوز أن يكون التقدير لا يعلمون أنه وعد عليه حق فيكذبونه
(١) بناء على تسليم وجود النفس المجردة وإلا فيكفي بقاء مادة البدن تدبر اه منه. [.....]
(٢) قوله بالطريق هكذا بخطه ولعله بالطريق الأولى.
380
قائلين: لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: ٨٣، النمل: ٦٨] لِيُبَيِّنَ لَهُمُ متعلق بما دل عليه بَلى وهو يبعثهم، والضمير لمن يموت الشامل للمؤمنين والكافرين إذ التبيين يكون للمؤمنين أيضا فإنهم وإن كانوا عالمين بذلك لكنه عند معاينة حقيقة الحال يتضح الأمر فيصل علمهم إلى مرتبة عين اليقين أي يبعثهم ليبين لهم بذلك وبما يحصل لهم بمشاهدة الأحوال كما هي ومعاينتها بصورها الحقيقية الشأن الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ (١) من الحق الشامل لجميع ما خالفوه مما جاء به الرسل المبعوثون فيهم ويدخل فيه البعث دخولا أوليا، والتعبير عن ذلك بالموصول للدلالة على فخامته وللإشعار بعلية ما ذكر في حيز الصلة للتبيين، وتقديم الجار والمجرور لرعاية رؤوس الآي وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله تعالى بالإشراك وإنكار البعث الجسماني وتكذيب الرسل عليهم السلام أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في كل ما يقولونه ويدخل فيه قولهم: لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ دخولا أوليا.
ونقل في البحر القول بتعلق لِيُبَيِّنَ إلخ بقوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه وأنهم كانوا على الضلالة قبل بعثه مفترين على الله سبحانه الكذب ولا يخفى بعد ذلك وتبادر ما تقدم، وجعل التبيين والعلم المذكورين غاية للبعث كما في إرشاد العقل السليم باعتبار وروده في معرض الرد على المخالفين وابطال مقالة المعاندين المستدعي للتعرض لما يردعهم عن المخالفة ويأخذ بهم إلى الإذعان للحق فإن الكفرة إذا علموا أن تحقق البعث إذا كان لتبيين أنه حق وليعلموا أنهم كاذبون في إنكاره كان أزجر عن إنكاره وأدعى إلى الاعتراف به ضرورة أنه يدل على صدق العزيمة على تحقيقه كما تقول لمن ينكر أنك تصلي لأصلين رغما لأنفك وإظهارا لكذبك، ولأن تكرر الغايات أدل على وقوع المغيا بها وإلا فالغاية الأصلية للبعث باعتبار ذاته إنما هو الجزاء الذي هو الغاية القصوى للخلق المغيا بمعرفته عز وجل وعبادته، وإنما لم يذكر ذلك لتكرر ذكره في مواضع وشهرته، وفيه أنه إنما لم يدرج على الكفار بكذبهم تحت التبيين بأن يقال مثلا: وإن الذين كفروا كانوا كاذبين بل جيء بصيغة العلم لأن ذلك ليس مما يتعلق به التبيين الذي هو عبارة عن إظهار ما كان مبهما قبل ذلك بأن يخبر به فيختلف فيه كالبعث الذي نطق به القرآن فاختلف فيه المختلفون، وأما كذب الكافرين فليس من هذا القبيل، ويستفاد من تحقيقه في نظير ما هنا أنه لما كان مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي وكان معنى تبيين الصدق إظهار ذلك المدلول وقطع احتمال نقيضه بعد ما كان محتملا له عقليا ناسب أن يعلق التبيين بالذي فيه يختلفون من الحق، وليس بين الصدق والحق كثير فرق، ولما كان الكذب أمرا حادثا لا دلالة الخبر عليه حتى يتعلق به التبيين والإظهار بل هو نقيض مدلوله فما يتعلق به يكون علما مستأنفا ناسب أن يعلق العلم بأنهم كانوا كاذبين فليتدبر.
قيل: ولكون العلم بما ذكر من روادف ذلك التبيين قيل وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا دون وليجعل الذين كفروا عالمين، وخص الإسناد بهم حيث لم يقل وليعلموا أن الذين كفروا كانوا كاذبين تنبيها على أن الأهم علمهم وقيل:
لم يقل ذلك لأن علم المؤمنين بما ذكر حاصل قبل ذلك أيضا. وتعقب بأن حصول مرتبة من مراتب العلم لا يأبى حصول مرتبة أعلا منها فلم لم يقل ذلك إيذانا بحصول هذه المرتبة من العلم لهم حينئذ، ولعل فيه غفلة عن مراد القائل، وجوز أن يراد من علم الكفرة بأنهم كانوا كاذبين تعذيبهم على كذبهم فكأنه قيل: ليظهر للمؤمنين والكافرين الحق وليعذب الكافرون على كذبهم فيما كانوا يقولونه من أنه تعالى لا يبعث من يموت ونحوه، وهذا كما يقال للجاني: غدا تعلم جنايتك، وحينئذ وجه تخصيص الاسناد بهم ظاهر، وهو كما ترى. وزعم بعض الشيعة أن الآية في
(١) في الأصل «فيه يختلفون» وبني عليه قوله الآتي وتقديم الجار والمجرور لرعاية رؤوس الآي ولكن التلاوة (يختلفون فيه) اه.
381
علي كرم الله تعالى وجهه والأئمة من بنيه رضي الله تعالى عنهم وأنها من أدلة الرجعة التي قال بها أكثرهم، وهو زعم باطل، والقول بالرجعة محض سخافة لا يكاد يقول بها من يؤمن بالبعث، وقد بين ذلك على أتم وجه في التحفة الاثني عشرية، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى بيانه، وما
أخرجه ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه إنه قال: إن قوله تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ الآية نزلت في غير مسلم الصحة،
وعلى فرض التسليم لا دليل فيه على ما يزعمونه من الرجعة بأن يقال إنه رضي الله تعالى عنه أراد أنها نزلت بسببي، ويكون رضي الله تعالى عنه هو الرجل الذي تقاضى دينا له على رجل من المشركين فقال ما قال كما مر عن ابن الجوزي وأبي العالية، وأخرجه عن أبي العالية عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم واستنبط الشيخ بهاء الدين من الآية دليلا على أن الكذب مخالفة الواقع ولا عبرة بالاعتقاد وهو ظاهر فافهم.
إِنَّما قَوْلُنا استئناف لبيان التكوين على الإطلاق ابتداء أو إعادة بعد التنبيه على إنية البعث ومنه يعلم كيفيته- فما- كافة وقَوْلُنا مبتدأ، وقوله تعالى: لِشَيْءٍ متعلق به واللام للتبليغ كما في قولك: قلت لزيد قم فقام، وقال الزجاج: هي لام السبب أي لأجل إيجاد شيء، وتعقب بأنه ليس بواضح والمتبادر من الشيء هنا المعدوم وهو أحد إطلاقاته، وقد برهن الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة على أن إطلاق الشيء على المعدوم حقيقة كإطلاقه على الموجود وألف في ذلك رسالة جليلة سماها جلاء الفهوم، ويعلم منها أن القول بذلك الإطلاق ليس خاصا بالمعتزلة كما هو المشهور، ولهذا أول هنا من لم يقف على التحقيق من الجماعة فقال: إن التعبير عنه بذلك باعتبار وجوده عند تعلق مشيئته تعالى به لا أنه كان شيئا قبل ذلك.
وفي البحر نقلا عن ابن عطية أن في قوله تعالى: لِشَيْءٍ وجهين: أحدهما أنه لما كان وجوده حتما جاز أن يسمى شيئا وهو في حال العدم، والثاني أن ذلك تنبيه على الأمثلة التي ينظر فيها وأن ما كان منها موجودا كان مرادا وقيل له كن فكان فصار مثالا لما يتأخر من الأمور بما تقدم، وفي هذا مخلص من تسمية المعدوم شيئا اه، وفيه من الخفاء ما فيه، وأيّا ما كان فالتنوين للتنكير أي لشيء أي شيء كان مما عز وهان إِذا أَرَدْناهُ ظرف- لقولنا- أي وقت تعلق إرادتنا بإيجاده أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ في تأويل مصدر خبر للمبتدأ، واللام في لَهُ كاللام في لِشَيْءٍ فَيَكُونُ إما عطف على مقدر يفصح عنه الفاء وينسحب عليه الكلام أي فنقول ذلك فيكون، وإما جواب لشرط محذوف أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون، وقيل: إنه بعد تقدير هو تكون الجملة خبرا لمبتدأ محذوف أي ما أردناه فهو يكون، وكان في الموضعين تامة، والذي ذهب إليه أكثر المحققين وذكره مقتصرا عليه شيخ الإسلام أنه ليس هناك قول ولا مقول له ولا أمر ولا مأمور حتى يقال: إنه يلزم أحد المحالين إما خطاب المعدوم أو تحصيل الحاصل أو يقال: إِنَّما مستدعية انحصار قوله تعالى في قوله تعالى: كُنْ وليس يلزم منه انحصار أسباب التكوين فيه كما يفيده قوله سبحانه: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢] فإن المراد بالأمر الشأن الشامل للقول والفعل ومن ضرورة انحصاره في كلمة كن انحصار أسبابه على الإطلاق في ذلك بل إنما هو تمثيل لسهولة تأتي المقدورات حسب تعلق مشيئته تعالى وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم في ذلك من طاعة المأمور المطيع لأمر الآمر المطاع، فالمعنى إنما إيجادنا لشيء عند تعلق مشيئتنا به أن نوجده في أسرع ما يكون، ولما عبر عنه بالأمر الذي هو قول مخصوص وجب أن يعبر عن مطلق الإيجاد بالقول المطلق.
وقيل: إن الكلام على حقيقته وبذلك جرت العادة الإلهية ونسب إلى السلف، وأجيب لهم عن حديث لزوم أحد المحذورين تارة بأن الخطاب تكويني ولا ضير في توجهه إلى المعدوم، وتعقب بأنه قول بالتمثيل وتارة بأن
382
المعدوم ثابت في العلم ويكفي في صحة خطابه ذلك حتى أن بعضهم قال بأنه مرئي له تعالى في حال عدمه، وتعقب بما يطول، وأما حديث الانحصار فقالوا إن الأمر فيه هين، وقد مر بعض الكلام في هذا المقام.
واحتج بعض أهل السنة بالآية بناء على الحقيقة على قدم القرآن قال: إنها تدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فلو كان كن حادثا لزم التسلسل وهو محال فيكون قديما ومتى قيل بقدم البعض فليقل بقدم الكل، وتعقب بأن كلمة إذا لا تفيد التكرار ولذا إذا قال لامرأته: إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرات لا تطلق إلا طلقة واحدة فلا يلزم أن يكون كل محدث محدثا بكلمة كن فلا يلزم التسلسل على أن القول بقدم كُنْ ضروري البطلان لما فيه من ترتب الحروف، وكذا يقال في سائر الكلام اللفظي.
وقال الإمام: إن الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه: الأول أن قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ يقتضي كون القول واقعا بالإرادة وما كان كذلك فهو محدث، والثاني أنه علق القول بكلمة إِذا ولا شك أنها تدخل للاستقبال، والثالث أن قوله تعالى: أَنْ نَقُولَ لا خلاف في أنه ينبئ عن الاستقبال، والرابع أن قوله سبحانه كُنْ فَيَكُونُ كن فيه مقدمة على حدوث المكون ولو بزمان واحد والمقدم على المحدث كذلك محدث فلا بد من القول بحدوث الكلام. نعم إنها تشعر بحدوث الكلام اللفظي الذي يقول به الحنابلة ومن وافقهم ولا تشعر بحدوث الكلام النفسي. والأشاعرة في المشهور عنهم لا يدعون إلا قدم النفسي وينكرون قدم اللفظي، وهو بحث أطالوا الكلام فيه فليراجع. وما ذكر من دلالة إِذا ونَقُولَ على الاستقبال هو ما ذكره غير واحد، لكن نقل أبو حيان عن ابن عطية أنه قال: ما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد لا إلى الإرادة، وذلك أن الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال لا في إرادة ذلك ولا في الأمر به لأن ذينك قديمان فمن أجل المراد عبر بإذا ونقول. وأنت تعلم أنه لا كلام في قدم الإرادة لكنهم اختلفوا في أنها هل لها تعلق حادث أم لا فقال بعضهم بالأول، وقال آخرون: ليس لها إلا تعلق أزلي لكن بوجود الممكنات فيما لا يزال كل في وقته المقدر له. فالله تعالى تعلقت إرادته في الأزل بوجود زيد مثلا في يوم كذا وبوجود عمرو في يوم كذا وهكذا، ولا حاجة إلى تعلق حادث في ذلك اليوم، وأما الأمر فالنفسي منه قديم واللفظي حادث عن القائلين بحدوث الكلام اللفظي. وأما الزمان فكثيرا ما لا يلاحظ في الأفعال المستندة إليه تعالى، واعتبر كان الله تعالى ولا شيء معه وخلق الله تعالى العالم ونحو ذلك ولا أرى هذا الحكم مخصوصا فيما إذا فسر الزمان بما ذهب إليه الفلاسفة بل يطرد في ذلك وفيما إذا فسر بما ذهب إليه المتكلمون فتأمل والله تعالى الهادي. وجعل غير واحد الآية لبيان إمكان البعث، وتقريره أن تكوين الله تعالى بمحض قدرته ومشيئته لا توقف له على سبق المواد والمدد وإلا لزم التسلسل، وكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده وظاهره أنه قول بإعادة المعدوم، وظواهر كثير من النصوص أن البعث بجمع الأجزاء المتفرقة، وسيأتي تحقيق ذلك كما وعدناك آنفا إن شاء الله تعالى.
وقرأ ابن عامر والكسائي هاهنا وفي [يس: ٨٢] فَيَكُونُ بالنصب، وخرجه الزجاج على العطف على نَقُولَ أي فإن يكون أو على أن يكون جواب كُنْ، وقد رد هذا الرضي وغيره بأن النصب في جواب الأمر مشروط بسببية مصدر الأول للثاني وهو لا يمكن هنا لاتحادهما فلا يستقيم ذاك، ووجه بأن مراده أنه نصب لأنه مشابه لجواب الأمر لمجيئه بعده وليس بجواب له من حيث المعنى لأنه لا معنى لقولك: قلت لزيد اضرب تضرب.
وتعقب بأنه لا يخفى ضعفه وأنه يقتضي إلغاء الشرط المذكور، ثم قيل: والظاهر أن يوجه بأنه إذا صدر مثله عن البليغ على قصد التمثيل لسرعة التأثير بسرعة مبادرة المأمور إلى الامتثال يكون المعنى أن أقل لك اضرب تسرع إلى
383
الامتثال فيكون المصدر المسبب عنه مسبوكا من الهيئة لا من المادة، ومصدر الثاني من المادة أو محصل المعنى وبه يحصل التغاير بين المصدرين ويتضح السببية والمسببية، وقال بعضهم: إن مراد من قال إن النصب للمشابهة لجواب الأمر أن فَيَكُونُ كما في قراءة الرفع معطوف على ما ينسحب عليه الكلام أو هو بتقدير فهو يكون خبر لمبتدأ محذوف إلا أنه نصب لهذه المشابهة، وفيه ما فيه وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ أي في حقه- ففي- على ظاهرها ففيه إشارة إلى أنها هجرة متمكنة تمكن الظرف في مظروفه فهي ظرفية مجازية أو لأجل رضاه- ففي- للتعليل كما في
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن امرأة دخلت النار في هرة»
والمهاجرة في الأصل مصارمة الغير ومتاركته واستعملت في الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان أي والذين هجروا أوطانهم وتركوها في الله تعالى وخرجوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي من بعد ظلم الكفار إياهم. أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: هم أصحاب محمد ﷺ ظلمهم أهل مكة فخرجوا من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة ثم بوأهم الله تعالى المدينة بعد ذلك حسبما وعد سبحانه بقوله جل وعلا: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي مباءة حسنة، وحاصله لننزلهم في الدنيا منزلا حسنا، وعن الحسن دارا حسنة، والتقدير الأول أظهر لدلالة الفعل عليه، والثاني أوفق بقوله تعالى: تَبَوَّؤُا الدَّارَ [الحشر: ٩]، وأيّا ما كان- فحسنة- صفة محذوف منصوب نصب الظروف، وجوز أن يكون مفعولا ثانيا لنبوئنهم على معنى لنعطينهم منزلة حسنة، وفسر ذلك بالغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم وعلى العرب قاطبة، وقيل: هي ما بقي لهم في الدنيا من الثناء وما صار لأولادهم من الشرف، وعن مجاهد أن التقدير معيشة حسنة أي رزقا حسنا وقيل:
التقدير عطية حسنة، والمراد بالعطية المعطى، ويفسر ذلك بكل شيء حسن ناله المهاجرون في الدنيا، وقدر بعضهم تبوئة حسنة فهو صفة مصدر محذوف، وقد تعتبر هذه التبوئة بحيث تشمل إعطاء كل شيء حسن صار للمهاجرين على نحو السابق. وفي البحر أن الظاهر أن انتصاب حَسَنَةً على المصدر على غير الصدر لأن معنى لنبوئنهم لنحسنن إليهم فحسنة بمعنى إحسانا، وعلى جميع التقادير الَّذِينَ هاجَرُوا مبتدأ وجملة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ خبره.
وجوز أبو البقاء أن يكون الَّذِينَ منصوب بفعل محذوف يفسره المذكور، والأول متعين عند أبي حيان قال:
وفيه دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبرا للمبتدأ خلافا لثعلب، والذي ذهب إليه بعض المحققين أن الخبر في مثل ذلك «إنما هو جملة الجواب المؤكدة بالقسم وهي إخبارية لا إنشائية، واعترض على أبي البقاء في الوجه الثاني بأنه لا يجوز النصب بالفعل المحذوف إلا حيث يجوز للمذكور أن يعمل في ذلك المنصوب حتى يصح أن يكون مفسرا وما هنا ليس كذلك فإنه لا يجوز زيدا لأضربن فلا يجوز زيدا لأضربنه، والجار والمجرور متعلق بما عنده، وقيل:
بمحذوف وقع حالا من حَسَنَةً هذا.
ونقل عن ابن عباس أن الآية نزلت في صهيب وبلال وعمار وخباب وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل أخذهم المشركون فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام، فأما صهيب فقال لهم: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله وهاجر فلما رآه أبو بكر رضي الله تعالى عنه قال: ربح البيع يا صهيب وقال عمر رضي الله تعالى عنه: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، والجمهور على ما روي عن قتادة بل قال ابن عطية: إنه الصحيح، ولم نجد لهذا الخبر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سندا يعول عليه. وذكر العلامة الشيخ بها الدين السبكي في شرح التلخيص كغيره من المحدثين مثل الحافظ العلامة زين الدين عبد الرحيم العراقي وولده الفقيه الحافظ أبي زرعة وغيرهما فيما نسب لعمر رضي الله تعالى عنه فيه من قوله: نعم العبد صهيب إلى آخره أنا لم نجده في شيء من كتب الحديث بعد الفحص الشديد، وهذا يوقع شبهة قوية في صحة ذلك. نعم في الدر المنثور، أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في هؤلاء الذين
384
هاجروا: هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول الله ﷺ بعد ظلمهم ثم قال: وظلمهم الشرك، لكن يقتضي هذا بظاهره أنه رضي الله تعالى عنه كان يقرأ «ظلموا» بالبناء للفاعل.
وأورد على الخبرين أنه قيل: إن السورة مكية إلا ثلاث آيات في آخرها فإنها مدنية، ويلتزم إذا صح الخبر الذهاب إلى أن فيها مدنيا غير ذلك، أو القول بأن المراد من المكي ما نزل في حق أهل مكة، أو أن هذه الآية لم تنزل بالمدينة وأن المكي ما نزل بغيرها، أو القول بأن ذلك من الإخبار بالشيء قبل وقوعه، والكل كما ترى، ولا يرد على القول الأول الذي عليه الجمهور أنه مخالف للقول المشهور في السورة لأن هجرة الحبشة كانت قبل هجرة المدينة فلا مانع من كون الآية مكية بالمعنى المشهور عليه، لكن قيل: إن قتادة القائل بما تقدم قائل بأن هذه الآية إلى آخر السورة مدنية وهو آب عما ذكر، ومن هنا حمل بعضهم ما نقل عنه سابقا على أن نزولها كان بين الهجرتين بالمدينة، ولا يمكن الجمع بين هذه الأقوال أصلا، والذي ينبغي أن يعول عليه أن السورة مكية إلا الآيات ليست هذه منها بل هي مكية نزلت بين الهجرتين فيمن ذكره الجمهور، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وقال بعضهم: إن الذين هاجروا عام في المهاجرين كائنا من كان فيشمل أولهم وآخرهم وكان هذا من قائله اعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما هو المقرر عندهم. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وعبد الله رضي الله تعالى عنه. ونعيم بن ميسرة. والربيع بن خيثم- لنثوينهم- بالثاء المثلثة من أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه، قال في البحر: وانتصاب (حسنة) على تقدير إثواءة حسنة أو على نزع الخافض أي في حسنة أي دار حسنة أو منزلة حسنة ولا مانع على ما قيل من اعتبار تضمين الفعل معنى نعطيهم كما أشير إليه أولا. واستدل بالآية على أحد الأقوال على شرف المدينة وشرف إخلاص العمل لله تعالى وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أي أجر أعمالهم المذكورة في الدار الآخرة أَكْبَرُ مما يعجل لهم في الدنيا. أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له: خذ بارك الله تعالى لك هذا ما وعدك الله تعالى في الدنيا وما أخر لك في الآخرة أفضل ثم يقرأ هذه الآية، وقيل: المراد أكبر من أن يعلمه أحد قبل مشاهدته، ولا يخفى ما في مخالفة أسلوب هذا الوعد لما قبله من المبالغة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الضمير للكفرة الظالمين أي لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم في الدين، وقيل: هو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في الاجتهاد ولما تألموا لما أصابهم من المهاجرة وشدائدها ولازدادوا سرورا. وفي المعالم لا يجوز ذلك لأن المهاجرين يعلمونه ودفع بأن المراد علم المشاهدة وليس الخبر كالمعاينة أو المراد العلم التفصيلي. وجوز أن يكون الضمير للمتخلفين عن الهجرة يعني لو علم المتخلفون عن الهجرة ما للمهاجرين من الكرامة لوافقوهم.
الَّذِينَ صَبَرُوا على ما نالهم من الظلم ولم يرجعوا القهقرى وعلى مفارقة الوطن وهو حرم الله سبحانه المحبوب لكل مؤمن فضلا عمن كان مسقط رأسه وعلى احتمال الغربة بين أناس أجانب في النسب لم يألفهم وعلى غير ذلك، ومحل الموصول النصب بتقدير أعني أو الرفع بتقدير- هم- ويجوز أن يكون تابعا للذين هاجروا بدلا أو بيانا أو نعتا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ منقطعين إليه معرضين عمن سواه مفوضين إليه الأمر كله كما يفيده حذف متعلق التوكل، وقيل: تقديم الجار والمجرور المؤذن بالحصر وكونه لرعاية الفواصل غير متعين، وصيغة الاستقبال إما للاستمرار أو لاستحضار تلك الصورة البديعة، والجملة إما معطوفة على الصلة أو حال من ضمير صبروا.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ رد لقريش حيث أنكروا رسالة النبي ﷺ وقالوا: الله تعالى أعظم أن يكون رسوله بشرا هلا بعث إلينا ملكا أي جرت السنة الإلهية حسبما اقتضته الحكمة بأن لا نبعث للدعوة
385
العامة إلا بشرا نوحي إليهم بواسطة الملك في الأغلب الأوامر والنواهي ليبلغوها، ويحترز بالدعوة العامة عن بعث الملك للأنبياء عليهم السلام للتبليغ أو لغيرهم كبعثه لمريم للبشارة، وبالأغلب بعض أقسام الوحي مما لم يكن بواسطة الملك كما يشير إليه قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [الشورى: ٥١] وقرأ الجمهور «يوحى» بالياء وفتح الحاء. وفرقة بالياء وكسرها وعبد الله والسلمي وطلحة. وحفص بالنون وكسرها. وفي ذلك من تعظيم أمر الوحي ما لا يخفى. ولما كان المقصود من الخطاب لرسول الله ﷺ تنبيه الكفار على مضمونه صرف الخطاب إليهم فقيل فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى قاله ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم، وتسمية الكتاب تعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى، وعن مجاهد تخصيصه بالتوراة لقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء: ١٠٥] فأهله اليهود.
قال في البحر والمراد من لم يسلم من أهل الكتاب لأنهم الذين لا يتهمون عند أهل مكة في إخبارهم بأن الرسل عليهم السلام كانوا رجالا فاخبارهم بذلك حجة عليهم، والمراد كسر حجتهم وإلزامهم وإلا فالحق واضح في نفسه لا يحتاج فيه إلى أخبار هؤلاء، وقد أرسل المشركون بعد نزولها إلى أهل يثرب يسألونهم عن ذلك، وقال الأعمش وابن عيينة وابن جبير: المراد من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهما وغيرهما.
ويضعفه أن قول من أسلم لا حجة فيه على الكفار ومنه يعلم ضعف ما قاله أبو جعفر. وابن زيد من أن المراد الذكر القرآن لأن الله تعالى سماه ذكرا في مواضع منها ما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا، وأهل الذكر على هذا المسلمون مطلقا، وخصهم بعض الإمامية بالأئمة أهل البيت احتجاجا بما رواه جابر. ومحمد بن مسلم منهم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه قال: نحن أهل الذكر، وبعضهم فسر الذكر بالنبي ﷺ لقوله تعالى: ذِكْراً رَسُولًا [الطلاق: ١٠، ١١] على قول، ويقال على مقتضى ما في البحر: كيف يقنع كفار أهل مكة بخبر أهل البيت في ذلك وليسوا بأصدق من رسول الله عندهم وهو عليه الصلاة والسلام المشهور فيما بينهم بالأمين، ولعل ما رواه ابن مردويه منا موافقا بظاهره لمن زعمه ذلك البعض من الإمامية
عن أنس قال: «سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الرجل ليصلي ويصوم ويحج ويعتمر وإنه لمنافق قيل: يا رسول الله بماذا دخل عليه النفاق؟ قال: يطعن على إمامه وإمامه من قال الله تعالى في كتابه: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إلى آخره»
مما لا يصح، وأنا أقول يجوز أن يراد من أهل الذكر أهل القرآن وإن قال أبو حيان ما قال وستعلم وجهه قريبا إن شاء الله تعالى المنان، وقال الرماني والزجاج، والأزهري: المراد بأهل الذكر علماء أخبار الأمم السالفة كائنا من كان فالذكر بمعنى الحفظ كأنه قيل: اسألوا المطلعين على أخبار الأمم يعلموكم بذلك إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وجواب إن إما محذوف لدلالة ما قبله عليه أي فاسألوا، وإما نفس ما قبله بناء على جواز تقدم الجواب على الشرط. واستدل بالآية على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا صبيا ولا ينافيه نبوة عيسى عليه السلام في المهد فإن النبوة أعم من الرسالة ولا يقتضي صحة القول بنبوة مريم أيضا لأن غايته نفي رسالة المرأة، ولا يلزم من ذلك إثبات نبوتها، وذهب إلى صحة نبوة النساء جماعة وصحح ذلك ابن السيد، ولا ينافي ما دلت عليه الآية من نفي إرسال الملائكة عليهم السلام قوله تعالى: جاعل الملائكة رسلا لأن المراد جاعلهم رسلا إلى الملائكة أو إلى الأنبياء عليهم السلام لا للدعوة العامة وهو المدعى كما علمت فالرسول إما بالمعنى المصطلح أو بالمعنى اللغوي، وقال الجبائي: إن الملائكة عليهم السلام لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم السلام إلا ممثلين بصور الرجال ورد بما
روي أن نبينا ﷺ رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين
وهو وارد على الحصر المقتضي للعموم فلا يرد عليه أنه لا دلالة فيما روى على رؤية من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه السلام على صورته مع أنه إذا ثبت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
386
ولم يثبت أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام فلا مانع من ثبوته لغيره قاله الشهاب، وذكر أنه نقل الإمام عن القاضي أن مراد الجبائي أنهم لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بحضرة أممهم إلا وهم على صور الرجال كما
روي أن جبريل عليه السلام حضر عند رسول الله ﷺ بمحضر من أصحابه في صورة دحية الكلبي وفي صورة سراقة وفي صورة أعرابي لم يعرفوه.
واستدل بها أيضا على وجوب المراجعة للعلماء فيما لا يعلم.
وفي الإكليل للجلال السيوطي أنه استدل بها على جواز تقليد العام في الفروع وانظر التقييد بالفروع فإن الظاهر العموم لا سيما إذا قلنا إن المسألة المأمورين بالمراجعة فيه والسؤال عنها من الأصول، ويؤيد ذلك ما نقل عن الجلال المحلي أنه يلزم غير المجتهد عاميا كان أو غيره التقليد للمجتهد لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ والصحيح أنه لا فرق بين المسائل الاعتقادية وغيرها وبين أن يكون المجتهد حيا أو ميتا اه.
وصحيح هو وغيره امتناع التقليد على المجتهد مطلقا سواء كان له قاطع أو لا وسواء كان مجتهدا بالفعل أو له أهلية الاجتهاد، ومقتضى كلامهم أنه لا فرق بين تقليد أحد أئمة المذاهب الأربع وتقليد غيره من المجتهدين نعم ذكر العلامة ابن حجر، وغيره أنه يشترط في تقليد الغير أن يكون مذهبه مدونا محفوظ الشروط والمعتبرات فقول السبكي:
إن مخالف الأربعة كمخالف الإجماع محمول على ما لم يحفظ ولم تعرف شروطه وسائر معتبراته من المذاهب التي انقطع حملتها وفقدت كتبها كمذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وغيرهم، ثم إن تقليد الغير بشرطه إنما يجوز في العمل وأما للإفتاء والقضاء فيتعين أحد المذاهب الأربع، واستشكل الفرق العلامة ابن قاسم العبادي، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الفرق أنه يحتاط فيهما لتعديهما ما لا يحتاط في العمل فيتركان لأدنى محذور ولو محتملا، ونظير ذلك ما ذكره بعض الشافعية في القولين المتكافئين أنه لا يفتى ولا يقضى بكل مهما لاحتمال كونه مرجوحا ويجوز العلم به وذكر الإمام أن من الناس من جوز التقليد للمجتهد لهذه الآية فقال: لما لم يكن أحد المجتهدين عالما وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم لقوله تعالى: فَسْئَلُوا الآية فإن لم يجب فلا أقل من الجواز، وأيد ذلك بأن بعض المجتهدين نقلوا مذاهب بعض الصحابة وأقروا الحكم عليه، والصحيح ما سمعت أولا، وما ذكر ليس بتقليد بل هو من باب موافقة الاجتهاد الاجتهاد. واحتج بها أيضا نفاة القياس فقالوا: المكلف إذا نزلت به واقعة فإن كان عالما بحكمها لم يجز له القياس وإلا وجب عليه سؤال من كان عالما بها بظاهر الآية ولو كان القياس حجة لما وجب عليه السؤال لأجل أنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر الآية فوجب أن لا يجوز. وأجيب بأنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة والإجماع أقوى من هذا الدليل.
وقال بعضهم: إذا كان المكلف ممن يقدر على القياس كان ممن يعلم فلا يجب عليه السؤال فتأمل.
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ أي بالمعجزات والكتب، والأولى للدلالة على الصدق، والثانية لبيان الشرائع والتكاليف.
وانحرف عن الحق من فسرهما بما هو مصطلح أهل الحرف. والجار المجرور متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله وقع جوابا عن سؤال من قال: بم أرسلوا؟ فقيل: أرسلوا بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ.
وجوز الزمخشري والحوفي تعلقه- بأرسلنا- السابق داخلا تحت حكم الاستثناء مع رِجالًا أي وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات وهو في معنى قولك: ما أرسلنا جماعة من الجماعات بشيء من الأشياء إلا رجالا بالبينات، ومثل ما ضربت إلا زيدا بسوط، وهو مبني على ما جوزه بعض النحاة من جواز أن يستثنى بأداة واحدة سيئان دون عطف وأنه يجري في الاستثناء المفرغ، وأكثر النحاة على منعه كما صرح به صاحب التسهيل وغيره.
وقال في الكشف: والحق أنه لا يجوز لأن إلا من تتمة ما دخلت عليه كالجزء منه وللزوم الإلباس. أو وجوب
387
أن يكون جميع ما يقع بعد إلا محصورا وأن يجب نحو ما ضرب إلا زيدا عمرا إذا أريد الحصر فيهما ولا يكون فرق بين هذا وذاك، وكل ذلك ظاهر الانتفاء. والزمخشري جوز ذلك وصرح به في مواضع من كشافه، واستدل عليه بأن أصل ما ضربت إلا زيدا بسوط ضربت زيدا بسوط وأراد أن زيادة ما وإلا ليست إلا تأكيدا فلتؤكد لما كان أصل الكلام عليه، وهو حسن لولا أن الاستعمال والقياس آبيان، وقال بعضهم: إنه متعلق به فمن غير دخوله مع رجالا تحت حكم الاستثناء على أن أصله وما أرسلنا بالبينات والزبر إلا رجالا.
وتعقب بأنه لا يجوز على مذهب البصريين حيث لا يجيزون أن يقع بعد إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا وما ظن من غير الثلاثة معمولا لما قبل إلا قدر له عامل، وأجاز الكسائي أن يقع معمولا لما قبلها منصوب كما ضرب إلا زيد عمرا، ومخفوض كما مر إلا زيد بعمرو ولا يعذب إلا الله بالنار، ومرفوع كما ضرب إلا زيدا عمرو، ووافقه ابن الأنباري في المرفوع، والأخفش في الظرف والجار والحال، فما ذكر مبني على مذهب الكسائي والأخفش، لكن قال الشهاب: إنه خلاف ظاهر الكلام وإخراج له عن سنن الانتظام وأكثر النحاة على أنه ممنوع، وجوز أن يكون متعلقا بما رفع صفة- لرجالا- أي رجالا ملتبسين بالبينات ولم يقع حالا منه، قيل: لأنه نكرة متقدمة، نعم قيل: بجواز وقوعه حالا من ضمير الرجال في إِلَيْهِمْ وقيل: يجوز كونه حالا من رِجالًا لأنه نكرة موصوفة، واختار أبو حيان مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ كثيرا قياسا ونقله عن سيبويه وإن كان دون الاتباع في القوة.
وجوز أيضا تعلقه- بنوحي- وقوله سبحانه: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ اعتراض على الوجوه المتقدمة أو غير الأول، وتصدير الجملة المعترضة بالفاء صرح به في التسهيل وغيره، وما نقل من منعه ليس بثبت، ثم إذا كان اعتراضا متخللا بين مقصوري حرف الاستثناء معناه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون أنا أرسلنا رجالا بالبينات وعلى الوصفية إن كنتم لا تعلمون أنهم رجالا متلبسون بالبينات، وعلى هذا يقدر الاعتراض مناسبا لما تخلل بينهما، وأشبه إلا وجه أن يكون على كلامين ليقع الاعتراض موقعه اللائق به لفظا ومعنى قاله في الكشف.
وجوز أن يتعلق- بتعلمون- فلا اعتراض، وفي الشرط معنى التبكيت والإلزام كما في قول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني حقي، فإن الأجير لا يشك في أنه عمل وإنما أخرج الكلام مخرج الشك لأن ما يعامل به من التسويف معاملة من يظن بأجيره أنه لم يعمل، فهو في ذلك يلزمه مقتضى ما اعترف به من العمل ويبكته بالتقصير مجهلا إياه، فكذا ما هنا لا يشك أن قريشا لم يكونوا من علم البينات والزبر في شيء فيقول: إن كون الرسل عليهم السلام رجالا أمر مكشوف لا شبهة فيه فاسألوا أهل الذكر إن لم تكونوا من أهله يبين لكم يريد أن إنكاركم وأنتم لا تعلمون ليس بسديد وإنما السبيل أن تسألوا من أهل الذكر لا أن تنكروا قولهم، فإنكاركم مناف لما تقتضيه حالكم من السؤال فهو تبكيت (١) من حيث الاعتراف بعدم العلم وسبيل الجاهل سؤال من يعلم لا إنكاره، قاله في الكشف أيضا، ثم قال: ولا أخص أهل الذكر بأهل الكتابين ليشمل النبي ﷺ وأصحابه، ولو خص لجاز لأنهم موافقون في ذلك فانكارهم انكارهم، ثم التبكيت متوجه إلى العدول عن السؤال إلى الإنكار سألوا أولا انتهى. ومنه يعلم جواز أن يراد بأهل الذكر أهل القرآن، وما ذكر أبو حيان في تضعيفه من أنه لا حجة في إخبارهم ولا إلزامهم ناشئ من عدم الوقوف على هذا التحقيق الأنيق، وهذا ظاهر على تقدير تعلق بِالْبَيِّناتِ- بيعلمون- والباء على هذا التقدير سببية والمفعول محذوف عند بعض، وزعم آخر أنها زائدة والبينات هي المفعول، فافهم ذاك، والله تعالى يتولى هداك
(١) وزعم بعضهم أن التبكيت إنما جاء من (إن) فتدبر اه منه.
388
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي القرآن وهو من التذكير إما بمعنى الوعظ أو بمعنى الإيقاظ من سنة الغفلة وإطلاقه على القرآن إما لاشتماله على ما ذكر ولأنه سبب له، ومنه يعلم وجه تسمية التوراة ونحوها ذكرا، وقيل: المراد بالذكر العلم وليس بذاك لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ كافة ويدخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بافانين العذاب حسب أعمالهم مع أنبيائهم عليهم السلام الموجبة لذلك على وجه التفصيل بيانا شافيا كما ينبئ عنه صيغة التفعيل في الفعلين لا سيما بعد ورود الثاني أولا على صيغة الأفعال، وعن مجاهد أن المراد بهذا التبيين تفسير المحمل وشرح ما أشكل إذا هما المحتاجان للتبيين، وأما النص والظاهر فلا يحتاجان إليه.
وقيل: المراد به إيقافهم على حسب استعداداتهم المتفاوتة على ما خفي عليهم من أسرار القرآن وعلومه التي لا تكاد تحصى، ولا يختص ذلك بتبيين الحرام والحلال وأحوال القرون الخالية والأمم الماضية، واستأنس له بما
أخرجه الحاكم وصححه عن حذيفة قال: «قام فينا رسول الله ﷺ مقاما أخبرنا فيه بما يكون إلى يوم القيامة عقله منا من عقله ونسيه من نسيه»
وهذا في معنى ما ذكر غير واحد أن التبيين أعم من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه، ويدخل فيه القياس وإشارة النص ودلالته وما يستنبط منه من العقائد والحقائق والأسرار، ولعل قوله عز وجل: وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ إشارة إلى ذلك أي وطلب إن يتأملوها فينتبهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترز عما يؤدي إلى ما أصاب الأولين من العذاب، وقال بعض المعتزلة: أي وإرادة أن يتفكروا في ذلك فيعلموا الحق ثم قال: وفيه دلالة على أن الله تعالى إرادة من جميع الناس التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة بخلاف ما يقول أهل الجبر، ونحن في غنى عن تقدير الإرادة بتقدير الطلب، ومن قدرها منا أراده منها، وإلا ورد عليه عدم تأمل البعض ولعله الأكثر، وهي لا ينفك المراد عنها على المذهب الحق فلا بد من العدول عنه إلى مقابله، وقيل: أراد تعلقها بالبعض وهو المتأمل لا بالكل، وأيد بعضهم إرادة الصحابة أو ما يشملهم والنبي ﷺ من أهل الذكر فيما تقدم بذكر هذه الآية بعده وليس بذي أيد أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ هم عند أكثر المفسرين أهل مكة الذين مكروا برسول الله ﷺ وراموا ضد أصحابه رضي الله تعالى عنهم عن الإيمان، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهما عن مجاهد أنهم نمروذ بن كنعان وقومه، وعمم بعضهم فقال: هم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء عليهم السلام، وتعقب بأن المراد تحذير أهل مكة عن إصابة ما أصاب الأولين من فنون العذاب المعدودة فالمعول عليه ما عند الأكثر، و «السيئات» نعت لمصدر محذوف أي مكروا المكرات السيئات التي قصت عنهم أو مفعول به للفعل المذكور على تضمينه معنى فعل متعد كعمل أي عملوا السيئات ماكرين فقوله تعالى أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ مفعول لأمن أو السَّيِّئاتِ مفعول لأمن بتقدير مضاف أو تجوز أي عقاب السيئات أو على أن السَّيِّئاتِ بمعنى العقوبات التي تسوءهم، وأَنْ يَخْسِفَ بدل من ذلك وعلى كل حال فالفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه الذي من جملته انباء الأمم المهلكة بفنون العذاب ويتفكروا في ذلك ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئات إلخ على توجيه الإنكار إلى المعطوفين أو أتفكروا فأمنوا على توجيهه إلى المعطوف، وقيل: هو للعطف على مقدر ينبئ عنه الصلة أي أمكروا فأمن الذين مكروا السيئات إلخ، وخسف يستعمل لازما ومتعديا يقال:- كما قال الراغب- خسفه الله تعالى وخسف هو وكلا الاستعمالين محتمل هنا، فالباء إما للتعدية أو للملابسة والْأَرْضَ إما مفعول به أو نصب بنزع الخافض أي فأمن الذي مكروا السيئات أن يغيبهم الله تعالى في الأرض أو يغيبها بهم كما فعل بقارون أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي من الجهة التي لا شعور لهم بمجيء العذاب منها كجهة مأمنهم أو الجهة التي
389
يرجون إتيان ما يشتهون منها، وقال البيضاوي أي بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط، وكأن التخصيص بجانب السماء لأن ما يجيء منه لا يشعر به غالبا بخلاف ما يجيء من الأرض فإنه محسوس في الأكثر، ولعل اعتباره أوفق بالمقابلة، ويحتمل أن يكون مراده بما من جانب السماء ما لا يكون على يد مخلوق سواء نشأ من الأرض أو السماء كما قيل. دعها سماوية تجري على قدر. فيكون مجازا، لكن قيل عليه: إنه لا يلائم المثال وإن كان لا يخصص أَوْ يَأْخُذَهُمْ أي العذاب أو الله تعالى رجح الأول بالقرب والثاني بكثرة إسناد الأخذ إليه تعالى في القرآن العظيم مع أنه جل شأنه هو الفاعل الحقيقي له.
فِي تَقَلُّبِهِمْ أي حركتهم إقبالا وإدبارا، والمراد على ما أخرجه ابن جرير. وغيره عن قتادة، وروي عن ابن عباس في أسفارهم، وحمله على ذلك- قال الإمام- مأخوذ من قوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران: ١٩٦] أو المراد في حال ما يتقلبون في قضاء مكرهم والسعي في تنفيذه، وقيل: المراد في حال تقلبهم على الفرش يمينا وشمالا، وهو في معنى ما جاء في رواية عن ابن عباس أيضا في منامهم، ولا أراه يصح.
وقال الزجاج: المراد ما يعم سائر حركاتهم في أمورهم ليلا أو نهارا والجمهور على الأول والأخذ في الأصل جوز الشيء وتحصيله، والمراد به القهر والإهلاك، والجار والمجرور إما في موضع الحال أو متعلق بالفعل قبله والأول أولى نظرا إلى أنه الظاهر في نظيره الآتي إن شاء الله تعالى لكن الظاهر فيما قبله الثاني فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار على ما يوهمه حال التقلب والسير أو ما هم بممتنعين كما يوهمه مكرهم وتقلبهم فيه، والفاء قيل:
لتعليل الأخذ أو لترتيب عدم الإعجاز عليه دلالة على شدته وفظاعته حسبما
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»
والجملة الاسمية للدلالة على دوام النفي والتأكيد يعود إليه أيضا.
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ أي مخافة وحذر من الهلاك والعذاب بأن يهلك قوما قبلهم أو يحدث حالات يخاف منها غير ذلك كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل فيتخوفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون ويروى نحوه عن الضحاك، وهو على ما قال الزمخشري ويقتضيه كلام ابن بحر خلاف قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ.
وقال غير واحد من الأجلة: على أن ينقصهم شيئا فشيئا في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوفته إذا تنقصته، وروي تفسيره بذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك أيضا.
وذكر الهيثم بن عدي أن التنقص بهذا المعنى لغة أزدشنوءة، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر ما تقولون فيها أي الآية والتخوف منها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا التخوف التنقص فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فقال: نعم قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
تخوف الرحل منها تامكا قردا (١) كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر رضي الله تعالى عنه: عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم، والجار والمجرور قال أبو البقاء: في موضع الحال من الفاعل أو المفعول في يأخذهم.
وقال الخفاجي: الظاهر أنه حال من المفعول وكأنه أراد على تفسيري التخوف ويتخوف من الجزع به على التفسير الثاني، والمراد من ذكر هذه المتعاطفات بيان قدرة الله تعالى على إهلاكهم بأي وجه كان لا الحصر، ثم إن
(١) قوله: تامكا أي سناما، وقوله: قردا أي متراكما والنبعة شجر يتخذ منه القسيّ، والسفن بفتح السين والفاء المبرد اه منه.
390
بعضهم اعتبر في التقابل بينهما أن المراد بخسف الأرض بهم إهلاكهم من تحتهم وبإتيان العذاب من حيث لا يشعرون إهلاكهم من فوقهم وحيث قوبلا بإهلاكهم في تقلبهم وأسفارهم كان المعتبر فيهما سكونهم في مساكنهم وأوطانهم والمقابلة بين أخذهم على تخوف على المعنى الأول والأخذ بغتة المشعر به من حيث لا يشعرون ظاهرة، واعتبر عدم الشعور في الأخذ في التقلب والخسف لقرينة الأخذ على تخوف على ذلك المعنى وحمل سائرها على عذاب الاستئصال دون الأخذ على تخوف على المعنى الثاني ومجمل القول في ذلك أنه اعتبر في كل اثنين من الأربعة منع الجمع لكن بعد أن يراد بالعام منهما للمقابلة ما عدا الخاص سواء كان بين الإثنين عموم من وجه أو مطلقا.
وذكر الإمام، وابن الخازن في حاصل الآية أنه تعالى خوفهم بخوف يحصل في الأرض بعذاب ينزل من السماء أو بآفات تحدث دفعة أو بآفات تأتي قليلا إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم، وكان الظاهر في الآية أن يقال: أو يعذبهم من حيث لا يشعرون ليناسب ما قبله وما بعده بناء على أن إسناد الفعل فيهما إليه تعالى وما قبله فقط بناء على أن إسناد الفعل فيما بعد إلى العذاب مع كونه أخصر مما في النظم الجليل لكنه عدل عنه إلى ذلك لكونه أبلغ في التخويف وأدل على استحقاق العذاب من حيث إن فيه إشعارا بأن هناك عذابا موجودا مهيئا لا يحتاج إلا إلى الإتيان دون الإحداث وليس في- يعذبهم- إشعار كذلك على أن ما في النظم الجليل أبعد من أن يتوهم فيه معنى غير صحيح كما يتوهم في البدل المفروض حيث يتوهم فيه أنه سبحانه يعذبهم من حيث لا يشعرون بالعذاب وهو كما ترى. وحيث كانت حالتا التقلب والتخوف مظنة للهرب عبر عن إصابة العذاب فيهما بالأخذ وعن إصابته حالة الغفلة المنبئة عن السكون بالإتيان وجيء بفي مع التقلب وبعلى مع التخوف قيل: لأن في التقلب حركتين فكان الشخص المتقلب بينهما ولا كذلك التخوف، وقيل لما كان التقلب شاغلا الإنسان بسائر جوارحه حتى كأنه محيط به وهو مظروف فيه جيء بنفي معه، والتخوف أي المخافة إنما يقوم بعضو من أعضائه فقط وهو القلب المحيط به بدن الإنسان فلذا جيء بعلى معه، وقيل: إن على بمعنى مع كما في قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة: ١٧٧] أي يأخذهم مصاحبين لذلك ولما كان التخوف نفسه نوعا من العذاب لما فيه من تألم القلب ومشغولية الذهن وكان الأخذ مشيرا إلى نوع آخر من العذاب أيضا جيء بعلى التي بمعنى مع ليكون المعنى يعذبهم مع عذابهم ولم يعتبر ذلك مع التقلب مرادا به الإقبال والإدبار في الأسفار والمتاجر مع أنه
جاء «السفر قطعة من العذاب»
لأنهم لا يعدون ذلك عذابا وفي القلب من هذا شيء فتدبر وتأمل فأسرار كتاب الله تعالى لا تحصى فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ جعله ابن بحر تعليلا للأخذ على تخوف بناء على أن المراد به أخذهم على حدوث حالات يخاف منها كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل لا بغتة فإن في ذلك امتداد وقت ومهلة يمكن فيها التلافي فكأنه قيل: أو يأخذهم على تخوف ولا يفاجئهم لأنه سبحانه رؤوف رحيم وذلك أنسب برأفته ورحمته جلّ وعلا، وجوز أن يكون تعليلا لذلك على المعنى الأخير فإن في تنقصهم شيئا بعد شيء دون أخذهم دفعة إمهالا في الجملة وهو مطلقا من آثار الرحمة، وقيل: هو تعليل لما يفهم من الآية من أنه سبحانه قادر على إهلاكهم بأي وجه كان لكنه تعالى لم يفعل، وقيل: هو كالتعليل للأمن المستفهم عنه، والتعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير الخطاب من آثار رحمته جلّ شأنه.
أَوَلَمْ يَرَوْا الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام. والرؤية بصرية مؤدية إلى التفكر والضمير للذين مكروا السيئات أي ألم ينظر هؤلاء الماكرون ولم يروا متوجهين إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ.
وقيل: الضمير للناس الشامل لأولئك وغيرهم والإنكار بالنسبة إليهم وقرأ السلمي والأعرج والإخوان «أو لم تروا» بتاء الخطاب جريا على أسلوب قوله تعالى: «فإن ربكم» كما أن الجمهور قرؤوا بالياء جريا على أسلوب قوله تعالى:
391
«أفأمن الذين مكروا» وذكر الخفاجي وغيره أن قراءة التاء على الالتفات أو تقدير قل أو الخطاب فيها عام للخلق و «ما» موصولة مبهمة، وقوله تعالى: مِنْ شَيْءٍ بيان لها لكن باعتبار صفته وهي قوله تعالى: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ فهي المبينة في الحقيقة والموصوف توطئة لها وإلا فأي بيان يحصل به نفسه، والتفيؤ تفعل من فاء يفيء فيئا إذا رجع وفاء لازم وإذا عدي فبالهمزة أو التضعيف كأفاءه الله تعالى وفيأه فتفيأ وتفيا مطاوع له لازم، وقد استعمله أبو تمام متعديا في قوله من قصيدة يمدح بها خالد بن يزيد الشيباني:
طلبت ربيع ربيعه الممهى لها وتفيأت ظلّا له ممدودا
ويحتاج ذلك إلى نقل من كلام العرب، والظلال جمع ظل وهو في قول ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله الشمس والفيء ما يكون بالعشي وهو ما انصرفت عنه الشمس وأنشدوا له قول حميد بن ثور يصف سرحة وكنّى (١) بها عن امرأة:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشيّ تذوق
ونقل ثعلب عن رؤبة ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل وما لم تكن عليه فهو ظل فالظل أعم من الفيء، وقيل: هما مترادفان يطلق كل منهما على ما كان قبل الزوال وعلى خلافه، وأنشد أبو زيد للنابغة الجعدي:
فسلام الإله يغدو عليهم وفيوء الفردوس ذات الضلال
والمشهور أن الفيء لا يكون إلا بعد الزوال، ومن هنا قال الأزهري: إن تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، وقال أبو حيان: إن الاعتبار من أول النهار إلى آخره، وإضافة الضلال إلى ضمير المفرد لأن مرجعه وإن كان مفردا في اللفظ لكنه كثير في المعنى، ونظير ذلك أكثر من أن يحصى، والمعنى أو لم يروا الأشياء التي ترجع وتتنقل ظلالها عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ والمراد بها الأشياء الكثيفة من الجبال والأشجار وغيرها سواء كان جمادا أو انسابا على ما عليه بعض المفسرين، وخصها بعضهم بالجمادات التي لا يظهر لظلالها أثر سوى التفيؤ بواسطة الشمس على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى دون ما يشمل الحيوان الذي يتحرك ظله بتحركه، وكلا القولين على تقدير كون مِنْ بيانية كما سمعت وذهب بعض المحققين إلى العموم لكنه جعل من ابتدائية متعلقة- بخلق- المراد بما خلقه من شيء عالم الأجسام المقابل لعالم الروح والأمر الذي لم يخلق من شيء بل وجد بأمر كُنْ كما قال سبحانه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: ٥٤]، ولا يخفى بعده، واعترض أيضا بأن السموات والجن من عالم الأجسام والخلق ولا ظل لها ومقتضى عموم ما أنه لا يخلو شيء منها عنه بخلاف ما إذا جعلت من بيانية و «يتفيؤ» صفة شيء مخصصة له. ورد بأن جملة يَتَفَيَّؤُا حينئذ ليست صفة- لشيء- إذ المراد إثبات ذلك لما خلق من شيء لإله وليس صفة- لما- لتخالفهما تعريفا وتنكيرا بل هي مستأنفة لإثبات أن له ظلالا متفيئة وعموم «ما» لا يجوب أن يكون المعنى لكل منه هذه الصفة.
وتعقب بأنه إن أريد أنه لا يقتضي العموم ظاهرا فممنوع وإن أريد أنه يحتمل فلا يرد ردا لأنه مبني على الظاهر المتبادر، والمراد باليمين والشمائل على ما قيل جانبا الشيء استعارة من يمين الإنسان وشماله أو مجازا من إطلاق
(١) حيث يقول:
أبى الله إلا أن سرحة مالك على كل أفنان العضاه تروق
اه منه.
392
المقيد على المطلق أي ألم يروا الأشياء التي لها ظلال متفيئة عن جانبي كل واحد منها ترجع من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارها أو باختلاف مشارقها ومغاربها فإن لها مشارق ومغارب بحسب مداراتها اليومية حال كون الظلال سُجَّداً لِلَّهِ أي منقادة له تعالى جارية على ما أراد من الامتداد والتقلص وغيرهما غير ممتنعة عليه سبحانه فيما سخرها له وهو المراد بسجودها، وقد يفسر باللصوق في الأرض أي حال كونها لاصقة بالأرض على هيئة الساجد، وقوله تعالى: وَهُمْ داخِرُونَ حال من ضمير «ظلاله» الراجع إلى شيء، والجمع باعتبار المعنى وصح مجيء الحال من المضاف إليه لأنه كالجزء، وإيراد الصيغة الخاصة بالعقلاء لما أن الدخور من خصائصهم فإنه التصاغر والذل، قال ذو الرمة:
فلم يبق إلا داخر في مخيس (١) ومنحجر في غير أرضك في حجر
فالكلام على الاستعارة أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب، ووجه التعبير بهم يعلم مما ذكر، ويجوز أن يعتبر وجهه أولا ويجعل ما بعده جاريا على المشاكلة له أي والحال أن أصحاب تلك الضلال ذليلة منقادة لحكمه تعالى، ووصفها بالدخور مغن عن وصف ظلالها به، وجوز كون سُجَّداً والجملة حالين من الضمير أي ترجع ظلال تلك الأجرام حال كون تلك الأجرام منقادة له تعالى داخرة فوصفها بهما مغن عن وصف ظلالها بهما.
والمراد بالسجود أيضا الانقياد سواء كان بالطبع أو بالقسر أو بالإرادة، فلا يرد على احتمال أن يكون المراد ب ما خَلَقَ شاملا للعقلاء وغيرهم كيف يكون سُجَّداً حالا من ضميره وسجود العقلاء غير سجود غيرهم.
وحاصل ما أشرنا إليه أن ذلك من عموم المجاز، والأمر على احتمال أن يراد من ذاك الجمادات ظاهر، وزعم بعضهم أن السجود حقيقة مطلقا وهو الوقوع على الأرض على قصد العبادة ويستدعي ذلك الحياة والعلم لتقصد العبادة، وليس بشيء كما لا يخفى، ثم إن قلنا على هذا الوجه: إن الواو حالية كما أشير إليه فالحالان مترادفتان، وتعدد الحال جائز عند الجمهور، ومن لم يجوز جعل الثانية بدل اشتمال أو بدل كل من كل كما فصله السمين، وإن قلنا:
إنها عاطفة فلا تكون الحال مترادفة بل متعاطفة، وقال أبو البقاء: سُجَّداً حال من الظلال وَهُمْ داخِرُونَ حال من الضمير في سُجَّداً ويجوز أن يكون حالا ثانية معطوفة اه، وفيه القول بالتداخل وهو محتمل على تقدير كون سُجَّداً حالا من ضمير ظِلالُهُ والوجه الأول هو المختار عند الزمخشري، ورجحه في الكشف فقال: إن انقياد الظل وذي الظل مطلوب، ألا ترى إلى قوله تعالى: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرعد: ١٥] فجاعلهما حالا من الضمير في ظِلالُهُ مقصر، وفيه تكميل حسن لما وصف الظلال بالسجود وصف أصحابها بالدخور الذي هو أبلغ لأنه انقياد قهري مع صفة المنقاد، ولم يجعل حالا من الراجع إلى الموصول في خَلَقَ اللَّهُ إذ المعنى على تصوير سجود الظل وذيه وتقارنهما في الوجود لا على مقارنة الخلق والدخور، والعامل في الحال الثاني يَتَفَيَّؤُا على ما قال ابن مالك في قوله تعالى: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [البقرة: ١٣٥] اه، ومنه يعلم ما في إعراب أبي البقاء. نعم إن في هذا الوجه بعدا لفظيا والأمر فيه هين، وأما جعل وَهُمْ داخِرُونَ حالا من ضمير يَرَوْا فمما لا يصح بحال كما لا يخفى.
هذا وذكر الإمام في اليمين والشمال قولين غير ما تقدم. الأول أن المراد بهما المشرق والمغرب تشبيها لهما بيمين الإنسان وشماله فإن الحركة اليومية آخذة من المشرق وهوى أقوى الجانبين فهو اليمين والجانب الآخر الشمال
(١) أي سجن اه منه.
393
فالظلال في أول النهار تبتدئ من الشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتدئ من الغرب واقعة على الربع الشرقي منها. والثاني يمين البلد وشماله، وذلك أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل الكلي وهو «كجل يز أو كحله» (١) على اختلاف الأرصاد فإن في الصيف تحصل الشمس على يمين تلك البلدة وحينئذ تقع الأظلال على يسارها وفي الشتاء بالعكس، ولا يخفى ما في الثاني فإنه مختص بقطر مخصوص والكلام ظاهر في العموم، وقيل: المراد باليمين والشمال يمين مستقبل الجنوب وشماله، وعَنِ كما قال الحوفي متعلقة ب يَتَفَيَّؤُا وقال أبو البقاء: متعلقة بمحذوف وقع حالا، وقيل: هي اسم بمعنى جانب فتكون في موضع نصب على الظرفية. ولهم في توحيد الْيَمِينِ وجمع الشَّمائِلِ- وهو جمع غير قياسي- كلام طويل.
فقيل: إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ المفرد كقوله تعالى: جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: ١] وخَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [البقرة: ٧] وقيل: إذا فسرنا اليمين بالمشرق كان النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها فكانت اليمين واحدة، وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الأضلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة فلذلك عبر عنها بصيغة الجمع، وقيل: اليمين مفرد لفظا لكنه جمع معنى فيطابق الشمائل من حيث المعنى، وقال الفراء: إنه يحتمل أن يكون مفردا وجمعا فإن كان مفردا ذهب إلى واحد من ذوات الظلال وإن كان جمعا ذهب إلى كلها لأن ما خلق الله لفظه واحد ومعناه الجمع، وقال الكرماني: يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف لأن الظل يفيء من الجهات كلها فبدأ باليمين لأن ابتداء التفيؤ منها أو تيمنا بذكرها، ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بين الشمال واليمين من التضاد، ونزل الخلف والقدام منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف، وهو قريب من الأول، وتعقب بأن فيه جمع اللفظ باعتبار حقيقته ومجازه وفي صحته مقال، وقيل: المراد باليمين يمين الواقف مستقبل المشرق ويسمى الجنوب وبالشمال شماله فكأنه قيل: يتفيؤ ظلاله عن الجنوب إلى الشمال إلى الجنوب ولما كان غالب المعمورة شمالي وظلالها كذلك جمع الشمال ولم يجمع اليمين، وهو كما ترى، ونقل أبو حيان عن استاذه أبي الحسن علي بن الصائغ أنه أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين لأن ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة، وهو في العشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات فلحظت الغايتان. هذا من جهة المعنى وأما من جهة اللفظ فجمع الثاني ليطابق سُجَّداً المجاور له شمالا كما أفرد الأول ليطابق ضمير ظِلالُهُ المجاور له يمينا، ولا يخفى ما في التقديم والتأخير من حسن رعاية الأصل والفرع أيضا. فحصل في الآية مطلقة اللفظ للمعنى جهة المشرق وبالشمال جهة المغرب، وهو أنه لما كانت الجهة الأولى مطلع النور والجهة الثانية مغربة ومظهر الظلمة أفرد ما يدل على الجهة الأولى كما أفرد النُّورِ في كل القرآن، وجمع ما يدل على الجهة الثانية كما جمع الظلمة كذلك وإفراده النور وجمع الظلمة تقدم الكلام فيهما، وقد يقال: إن جمع الظلال مع إفراد ما قبله وما بعده لأن الظل ظلمة حاصلة من حجب الكثيف الشمس مثلا عن أن يقع ضوؤها على ما يقابله فجمعت الظلال كما جمعت الظلمات، ولا يعكر على هذا أنه جمعت المشارق في القرآن كالمغارب إذ كثيرا ما يرتكب أمر لنكتة في مقام ولا يرتكب لها في مقام آخر، وآخر أيضا وهو أنه لما كان اليمين عبارة عن جهة المشرق وهو مبدأ الظل وحده مناسبة لتوحيد المبدأ الحقيقي وهو الله تعالى ولا كذلك جهة المغرب، ولا يناسب رعاية نحو هذا في الشمال كما يرشدك إلى ذلك و «كلتا يديه يمين» ويعين على ملاحظة المبدئية نسبة
(١) يساوي في حساب الجمل: ١٦٧.
394
الخلق إليه تعالى، وآخر أيضا وهو أن الظل الجائي من جهة المشرق لا يتعلق به أمر شرعي والجائي من جهة المغرب يتعلق به ذلك، فإن صلاة الظهر يدخل وقتها بأول حدوثه من تلك الجهة بزوال الشمس عن وسط السماء، ووقت العصر بصيرورته مثل الشاخص أو مثليه بعد ظل الزوال إن كان كما في الآفاق المائلة، ووقت المغرب بشموله البسيطة بغروب الشمس، وما ألطف وقوع سُجَّداً بعد الشَّمائِلِ على هذا وآخر أيضا وهو أوفق بباب الإشارة وسيأتي فيه إن شاء الله تعالى الفتاح، وبعد لمسلك الذهن اتساع فتأمل فلعل ما ذكرته لا يرضيك.
وقد بين الإمام أن اختلاف الظلال دليل على كونها منقادة لله تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره سبحانه، ثم قال:
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اختلافها معلل باختلاف الشمس؟ قلنا: قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركا لذاته فلا بد أن يكون تحركه من غيره ولا بد من الاستناد بالآخرة إلى واجب الوجود جل شأنه فيرجع أمر اختلاف الظلال إليه تعالى على هذا التقدير.
وأنت تعلم أنه لا ينبغي أن يتردد في أن السبب الظاهري للظلال هو الشمس ونحوها وكثافة الشاخص، نعم في كون ذلك مستندا إليه تعالى في الحقيقة ابتداء أو بالواسطة خلاف، ومذهب السلف غير خفي عليك فقد أشرنا إليه غير مرة فتذكره إن لم يكن على ذكر منك، ثم الظاهر أن المراد بالظلال الظلال المبسوطة وتسمى المستوية، ويجوز أن يراد بها ما يشمل الظلال المعكوسة فإنها أيضا تتفيؤ عن اليمين والشمائل فاعرف ذلك ولا تغفل، وقرأ أبو عمرو، وعيسى. ويعقوب «تتفيؤ» بالتاء على التأنيث، وأمر التأنيث والتذكير في الفعل المسند لمثل الجمع المذكور ظاهر.
وقرأ عيسى «ظلله» وهو جمع ظلة كحلة وحلل قال صاحب اللوامح: الظلة بالضم الغيم وأما بالكسر فهو الفيء والأول جسم والثاني عرض، فرأى عيسى أن التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى، وأما في العامة فعلى الاستعارة اه، ويلوح منه القول بالقراءة بالرأي، ومن الناس من فسر الظلال في قراءة العامة بالأشخاص لتكون على نحو قراءة عيسى، وأنشدوا لاستعمال الظلال في ذلك قول عبدة:
إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية وفار للقوم باللحم المراجيل
فإنه إنما تنصب الأخبية لا الظل الذي هو الفيء، وقول الآخر:
يتبع أفياء الظلال عشية فإنه أراد أفياء الأشخاص. وتعقب ذلك الراغب بأنه لا حجة فيما ذكر فإن قوله: رفعنا ظل أخبية معناه رفعنا الأخبية فرفعنا به ظلها فكأنه رفع الظل، وقوله: أفياء الظلال فالظلال فيه عام والفيء خاص والإضافة من إضافة الشيء إلى جنسه، وقال بعضهم: المراد من الظلة في قراءة عيسى الظل الذي يشبه الظلة، والمراد بها شيء كهيئة الصفة في الانتفاع به وقيل: الكلام في تلك القراءة على حذف مضاف أي ظلال ظلله، وتفسر الظلة بما هو كهيئة الصفة، والمتبادر من الظل حينئذ الظل المعكوس. ثم إنه تعالى بعد أن ذكر ما ذكر أردفه بما يفيده تأكيدا مع زيادة سجود ما لا ظل له فقال سبحانه وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أو أنه سبحانه بعد ما بين سجود الظلال وذويها من الأجرام السفلية الثابتة في أحيازها ودخورها له سبحانه شرع في شأن سجود المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أم لا؟ فقال عز من قائل ما قال، والمراد بالسجود على ما ذكره غير واحد الانقياد سواء كان انقيادا لإرادته وتأثيرها طبعا أو انقيادا لتكليفه وأمره طوعا ليصح إسناده إلى عامة أهل السموات والأرض من غير جمع بين الحقيقة والمجاز ولكون الآية آية سجدة لا بد من دلالتها على السجود المتعارف ولو ضمنا، والاسم الجليل متعلق- بيسجد- والتقدير لإفادة القصر وهو ينتظم القلب والإفراد إلا أن الأنسب بحال المخاطبين قصر الأفراد كما يؤذن به
395
قوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ أي له تعالى وحده ينقاد ويخضع جميع ما في السموات وما في الأرض مِنْ دابَّةٍ بيان لما فيهما بناء على أن الدبيب هو الحركة الجسمانية سواء كان في أرض أو سماء، والملائكة أجسام لطيفة غير مجردة وتقييد الدبيب بكونه على وجه الأرض لظهوره أو لأنه أصل معناه وهو عام هنا بقرينة المبين، وقوله سبحانه: وَالْمَلائِكَةُ عطف على محل الدابة المبين به وهو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأن مِنْ البيانية لا تكون ظرفا لغوا وهو من عطف الخاص على العام إفادة لعظم شأن الملائكة عليهم السلام، وجوز أن يكون من عطف المباين بناء على أن يراد بما في السموات الجسمانيات ويلتزم القول بتجرد الملائكة عليهم السلام فلا يدخلون فيما في السموات لأن المجردات ليست في حيز وجهة وبعضهم استدل بالآية على تجرد الملائكة بناء على أن ما في السموات وما في الأرض بين أحدهما بالدابة والآخر بالملائكة والأصل في التقابل التغاير، والدابة المتحركة حركة جسمانية فلا يكون مقابلها من الأجسام وأن الجسم لا بد فيه من حركة جسمانية، ولا يخفى أنه دليل اقناعي إذ يحتمل كونه تخصيصا بعد تعميم كما سمعت آنفا أو هو بيان لما في الأرض، والدابة اسم لما يدب على الأرض والْمَلائِكَةُ عطف على ما في السموات وهو تكرير له وتعيين إجلالا وتعظيما، وذكر غير واحد أنه من عطف الخاص على العام لذلك أيضا، وجوز أن يراد مما في السموات الخلق الذين يقال لهم الروح ويلتزم القول بأنهم غير الملائكة عليهم السلام فيكون من عطف المباين أو هما بيان لما في الأرض، والمراد بالملائكة عليهم السلام ملائكة يكونون فيها كالحفظة والكرام الكاتبين ولا يراد بالدابة ما يشملهم، و «ما» إذا قلنا: إنها مختصة بغير العقلاء كما يشهد له خبر ابن الزبعري فاستعمالها هنا في العقلاء وغيرهم للتغليب، وأما إن قلنا: إن وضعها لأن تستعمل في غير العقلاء وفيما يعم العقلاء وغيرهم كالشبح المرئي الذي لا يعرف أنه عاقل أولا فإنه يطلق عليه ما حقيقة فالأمر على ما قيل غير محتاج إلى تغليب، وفي أنوار التنزيل إن ما لما استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليبا، وفي الكشاف إنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولا للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم وهو جواب عن سبب اختيار ما على من، وحاصله على ما في الكشف إن من للعقلاء والتغليب مجاز فلو جيء بغير قرينة تعين الحقيقة والمقام يقتضي التعميم فجيء بما يعم وهو ما، وأراد أن لا دليل في اللفظ، وقرينة العموم في السابق لا تكفي لجواز تخصيصهم من البين بعد التعميم على أن اقتضاء المقام
العموم وما في التغليب من الخصوص كاف في العدول انتهى. وقيل بناء على أن ما مختصة بغير العقلاء ومن مختصة بالعقلاء: إن الإتيان بما وارتكاب التغليب أوفق بتعظيم الله تعالى من الإتيان بمن وارتكاب ذلك فليفهم وَهُمْ أي الملائكة مع علو شأنهم لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادته تعالى شأنه والسجود له، وتقديم الضمير ليس للقصر، والسين ليست للطلب وقيل: له على معنى لا يطلبون ذلك فضلا عن فعله والاتصاف به.
وإذا قلنا إن صيغة المضارع للاستمرار التجددي فالمراد استمرار النفي. والجملة إما حال من فاعل يَسْجُدُ مسندا إلى الملائكة أو استئناف للإخبار عنهم، بذلك، وإنما لم يجعل الضمير- لما- لاختصاصه بأولى العلم وليس المقام مقام التغليب، وخالف في ذلك بعضهم فجعله لها وكذا الضمير في قوله سبحانه: يَخافُونَ رَبَّهُمْ وممن صرح بعود الضمير فيه على ما أبو سليمان الدمشقي، وقال أبو حيان: إنه الظاهر، وذهب ابن السائب ومقاتل إلى ما قلنا أي يخافون مالك أمرهم مِنْ فَوْقِهِمْ إما متعلق- بيخافون- وخوف ربهم كناية عن خوف عذابه أو الكلام على تقدير مضاف هو العذاب على ما هو الظاهر أو متعلق بمحذوف وقع حالا من رَبَّهُمْ أي كائنا من فوقهم، ومعنى كونه سبحانه فوقهم قهره وغلبته لأن الفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى، ومذهب السلف قد أسلفناه لك وأظنه على ذكر منك.
396
والجملة حال من الضمير في لا يَسْتَكْبِرُونَ وجوز أن تكون بيانا لنفي الاستكبار وتقريرا له لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن عبادته، واختاره ابن المنير وقال: إنه الوجه ليس إلا لئلا يتقيد الاستكبار وليدل على ثبوت هذه الصفة أيضا على الإطلاق، ولا بد أن يقال على تقدير الحالية: إنها حال غير منتقلة وقد جاءت في الفصيح بل في أفصحه على الصحيح، وفي اختيار عنوان الربوبية تربية للمهابة وإشعار بعلة الحكم.
وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي ما يؤمرون به من الطاعات والتدبيرات وإيراد الفعل مبنيا للمفعول جرى على سنن الجلالة وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استناده إلى غيره سبحانه، واستدل بالآية على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء، أما دلالتها على التكليف فلمكان الأمر، وأما على الخوف فهو أظهر من أن يخفى، وأما على الرجاء فلاستلزام الخوف على ما قيل، وقيل: إن اتصافهم بالرجاء لأن من خدم أكرم الأكرمين كان من الرجاء بمكان مكين، وزعم بعضهم أن خوفهم ليس إلا خوف إجلال ومهابة لا خوف وعيد وعذاب، ويرده، قوله تعالى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء: ٢٨، ٢٩] ولا ينافي ذلك عصمتهم، وقال الإمام: الأصح أن ذلك الخوف خوف الإجلال، وذكر أنه نقل عن ابن عباس واستدل له بقوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] وفي القلب منه شيء، والحق أن الآية لا تصلح دليلا لكون الملائكة أفضل من البشر. واستدل بها فرقة على ذلك من أربعة أوجه ذكرها الإمام ولم يتعقبها بشيء لأنه ممن يقول بهذه الأفضلية، وموضع تحقيق ذلك كتب الكلام.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: أَتى أَمْرُ اللَّهِ وهو القيامة الكبرى التي يرتفع فيها حجب التعينات ويضمحل السوي، ولما كان ﷺ مشاهدا لذلك في عين الجمع قال أَتى ولما كان ظهورها على التفصيل بحيث تظهر للكل لا يكون إلا بعد حين قال: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ لأن هذا ليس وقت ظهوره، ثم أكد شهوده لوجه الله تعالى وفناء الخلق في القيامة: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ بإثبات وجود الغير، ثم فصل ما شاهد في عين الجمع لكونه في مقام الفرق بعد الجمع لا يحتجب بالوحدة عن الكثرة ولا بالعكس فقال: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ وهو العلم الذي تحيا به القلوب عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهم المخلصون له أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ وقال بعضهم: أي خوفوا الخلق من الخواطر الرديئة الممزوجة بالنظر إلى غيري وخوفهم من عظيم جلالي، وهذا وحي تبليغ وهو مخصوص بالمرسلين عليهم السلام، وذكروا أن الوحي إذا لم يكن كذلك غير مخصوص بهم بل يكون للأولياء أيضا الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت: ٣٠] وقد روي عن بعض أئمة أهل البيت أن الملائكة تزاحمهم في مجالسهم، ثم إنه تعالى عدد الصفات وفصل النعم فقال:
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إلخ، وفي قوله سبحانه: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إلخ إشارة كما نقل عن الجنيد قدس سره إلى أنه ينبغي لمن أراد البلوغ إلى مقصده أن يكون أول أمره وقصده الجهد والاجتهاد ليوصله بركة ذلك إلى مقصوده، وذكروا أن المحمولين من العباد إلى المقاصد أصناف وكذا المحول عليه، فمحمول بنور الفعل، ومحمول بنور الصفة، ومحمول بنور الذات، فالمحمول بنور الفعل يكون بلده مقام الخوف والرجاء ومحلته صدق اليقين وداره مربع الشهود، والمحمول بنور الصفة يكون بلده مقام المعرفة ومحلته صفو الخلة وداره دار المودة، والمحول بنور الذات يكون بلده التوحيد ومحلته الفناء وداره البقاء، وهذه الأصناف للسالك، وأما المجذوب فمحول على مطية الفضل إلى بلد المشاهدة، وفي قوله سبحانه: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ تحيير للإفهام وتعجيز أي تعجيز عن أن تدرك الملك العلام وقال بعضهم: إن فيها تعليما للوقوف عند ما لا يدركه العقل من آثار الصنع
397
وفنون العلم وعدم مقابلة ذلك الإنكار حيث أخبر سبحانه أنه يخلق ما لا يعلم بمقتضى القوى البشرية المعتادة وإنما يعلم بقوة إلهية وعناية صمدية، ألا ترى الصوفية الذين منّ الله تعالى عليهم بما من كيف علموا عوالم عظيمة نسبة عالم الشهادة إليها كنسبة الذرة إلى الجبل العظيم، وممن زعم الانتظام في سلكهم كالكفشية الملقبين أنفسهم بالكشفية من ذكر من ذلك أشياء لا يشك العاقل في أنها لا أصل لها بل لو عرض كلامهم في ذلك على الأطفال أو المجانين لم يشكوا في أنه حديث خرافة صادر عن محض التخيل، وأنا أسأل الله تعالى أن لا يبتلي مسلما بمثل ما ابتلاهم، وقد عزمت حين رأيت بعض كتبهم التي ألفها بعض معاصرينا منهم مما اشتمل على ذلك على أن أصنع نحو ما صنعوا مقابلة للباطل بمثله لكن منعني الحياء من الله والاشتغال بخدمة كلامه سبحانه والعلم بأن تلك الخرافات لا تروج إلا عند من سلب منه الإدراك والتحقق بالجمادات، وقال الواسطي في الآية: المعنى يخلق فيكم من الأفعال ما لا تعلمون أنها لكم أم عليكم وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي السبيل القصد وهو التوحيد وَمِنْها جائِرٌ
وهو ما عدا ذلك وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ لكنه لم يشأ لعدم استعدادكم ولتظهر صفات جماله وجلاله سبحانه: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ وهم الأوتاد أرباب التمكين أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي تضطرب، ومن الكلام المشهور على الألسنة لو خلت قلبت وَأَنْهاراً وهم العلماء الذين تحيا بفرات علومهم أشجار القلوب وَسُبُلًا وهم المرشدون الداعون إليه تعالى وَعَلاماتٍ وهي الآيات الآفاقية والأنفسية وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ وهي الأنوار التي تلوح للسالك من عالم الغيب.
وقال بعضهم: ألقى في أرض القلوب رواسي العلوم الغيبية والمعارف السرمدية وأجرى فيها أنهار أنوار المعرفة والمكاشفة والمحبة والشوق والعشق والحكمة والفطنة وأوضح سبلا للأرواح والعقول والأسرار، فسبيل الأرواح إلى أنوار الصفات، وسبيل العقول إلى أنوار الآيات، وسبيل الأسرار إلى أنوار الذات، والسبل في الحقيقة غير متناهية، ومن كلامهم الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق. والعلامات في الظاهر أنوار الأفعال للعموم، وأخص العلامات في العالم الأولياء، والنجوم أهل المعارف الذين يسبحون في أفلاك الديمومية بأرواحهم وقلوبهم وأسرارهم من اقتدى بهم يهتدي إلى مقصوده الأبدي،
وفي الحديث «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»
والمراد بهم خواصهم ليتأتى الخطاب، ويجوز أن يراد كلهم والخطاب لنا ولا مانع من ذلك على مشرب القوم وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ما أعظمها آية في النهي على من يستغيث بغير الله تعالى من الجمادات والأموات ويطلب منه ما لا يستطيع جلبه لنفسه أو دفعه عنها.
وقال بعض أكابر السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم: إن الاستغاثة بالأولياء محظورة إلا من عارف يميز بين الحدوث والقدم فيستغيث بالولي لا من حيث نفسه بل من حيث ظهور الحق فيه فإن ذلك غير محظور لأنه استغاثة بالحق حينئذ، وأنا أقول إذا كان الأمر كذلك فما الداعي للعدول عن الاستغاثة بالحق من أول الأمر؟ وأيضا إذا ساغت الاستغاثة بالولي من هذه الحيثية فلتسغ الصلاة والصوم وسائر أنواع العبادة له من تلك الحيثية أيضا، ولعل القائل بذلك قائل بهذا. بل قد رأيت لبعضهم ما يكون هذا القول بالنسبة إليه تسبيح ولا يكاد يجري قلمي أو يفتح فمي بذكره، فالطريق المأمون عند كل رشيد الاستغاثة والاستعانة على الله عز وجل فهو سبحانه الحي القادر العالم بمصالح عباده، فإياك والانتظام في سلك الذين يرجون النفع من غيره تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ذكروا أن السابقين الموحدين يتوفاهم الله تعالى بذاته، وأما الأبرار والسعداء فقسمان، فمن ترقى عن مقام النفس بالتجرد وصل إلى مقام القلب بالعلوم والفضائل يتوفاهم ملك الموت، ومن كان في مقام النفس من العباد والصلحاء والزهاد
398
المتشرعين الذين لم يتجردوا عن علائق البدن بالتحلية والتخلية تتوفاهم ملائكة الرحمة، وأما الأشرار الأشقياء فتتوفاهم ملائكة الرحمة، وأما الأشرار الأشقياء فتتوفاهم الملائكة أيضا ولكن ملائكة العذاب ويتشكلون لهم على صورة أخلاقهم الذميمة كما يتشكل ملائكة الرحمة لمن تقدم على صورة أخلاقهم الحسنة الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ طابت نفوسهم في خدمة مولاها وطابت قلوبهم في محبة سيدها وطابت أرواحهم بطيب مشاهدة ربها وطابت أسرارهم بطيب الأنوار، وقيل: طيبة أبدانهم وأرواحهم بملازمة الخدمة وترك الشهوات.
وقيل: طيبة أرواحهم بالموت لكونه باب الوصال وسبب الحياة الأبدية وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ قالوه إلزاما بزعمهم للموحدين وما دروا أنه حجة عليهم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما عليه الشيء في نفسه فلولا أنهم في نفس الأمر مشركون ما شاء الله تعالى ذلك فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ هم أهل القرآن المتخلقون بأخلاقه القائمون بأمره ونهيه الواقفون على ما أودع فيه من الأسرار والغيوب وقليل ما هم فالمراد بالذكر القرآن كما في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى لم يظهر مكنونات أسرار كتابه إلا لنبيه ﷺ فهو عليه الصلاة والسلام الأمين المؤتمن على الأسرار. وقد أشار سبحانه له عليه الصلاة والسلام بتبيين ذلك وقد فعل ولكن على حسب القابليات- لا تمنعوا الحكمة عن أهلها فتظلموهم ولا تمنحوها غير أهلها فتظلموها- ولا تودع الأسرار إلا عند الأحرار. وذلك لأنها أمانة وإذا أودعت عند غيرهم لم يؤمن عليها من الخيانة. وخيانتها افشاؤها وإفشاؤها خطر عظيم. ولذا قيل:
من شاوروه فأبدى السر مشتهرا لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وجانبوه فلم يسعد بقربهم وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا
لا يصطفون مذيعا بعض سرهم حاشا ودادهم من ذاكم حاشا
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي ذات وحقيقة مخلوقة أية ذات كانت يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ قيل: أي يتمثل صوره ومظاهره عَنِ الْيَمِينِ جهة الخير وَالشَّمائِلِ جهات الشرور، ولما كانت جهة اليمين إشارة إلى جهة الخير الذي لا ينسب إلا إليه تعالى وحد اليمين ولما كانت جهة الشمال إشارة إلى جهة الشر الذي لا ينبغي أن ينسب إليه تعالى كما يرشد إليه قوله: والشر ليس إليك ولكن ينسب إلى غيره سبحانه وكان في الغير تعدد ظاهر جمع الشمال. وقيل في وجه الأفراد والجمع: إن جميع الموجودات تشترك في نوع من الخير لا تكاد تفيء عنه وهو العشق فقد برهن ابن سينا على سريان قوة العشق في كل واحد من الهويات ولا تكاد تشترك في شر كذلك فما تفيء عنه من الشر لا يكون إلا متعددا فلذا جمع الشمال ولا كذلك ما تفيء عنه من الخير فلذا أفرد اليمين فليتأمل وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ينقاد ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ أي موجود يدب ويتحرك من العدم إلى الوجود وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ لا يمتنعون عن الانقياد والتذلل لأمره يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ لأنه القاهر المؤثر فيهم وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ طوعا وانقيادا، والله تعالى الهادي سواء السبيل.
ثم إنه تعالى بعد ما بين أن جميع الموجودات، خاضعة منقادة له تعالى أردف ذلك بحكاية نهيه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الإشراك فقال عز قائلا:
399
وَقالَ اللَّهُ عطفا على قوله سبحانه: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ وجوز أن يكون معطوفا على وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ وقيل: إنه معطوف على ما خَلَقَ اللَّهُ على أسلوب:
علفتها تبنا وماء باردا
أي أو لم يروا إلى ما خلق الله ولم يسمعوا إلى ما قال الله ولا يخفى تكلفه، وإظهار الفاعل وتخصيص لفظة الجلالة بالذكر للإيذان بأنه تعالى متعين الألوهية وإنما المنهي عنه هو الإشراك به لا أن المنهي عنه هو مطلق اتخاذ الهين بحيث يتحقق الانتهاء عنه برفض أيهما كان، ولم يذكر المقول لهم للعموم أي قال تعالى لجميع المكلفين بواسطة الرسل عليهم السلام: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ المشهور أن اثْنَيْنِ وصف لإلهين وكذا «واحد» في قوله سبحانه:
إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ صفة لإله، وجيء بهما للإيضاح والتفسير لا للتأكيد وإن حصل. وتقرير ذلك أن لفظ «إلهين» حامل لمعنى الجنسية أعني الإلهية ومعنى العدد أعني الاثنينية وكذا لفظ «إله» حامل لمعنى الجنسية والوحدة، والغرض المسوق له الكلام في الأول النهي عن اتخاذ الإثنين من الإله لا عن اتخاذ جنس الإله، وفي الثاني اثبات الواحد من الإله لا إثبات جنسه فوصف «إلهين» باثنين «وإله» بواحد إيضاحا لهذا الغرض وتفسيرا له، فإنه قد يراد بالمفرد الجنس نحو نعم الرجل زيد. وكذا المثنى كقوله:
401
وإلى هذا ذهب صاحب الكشاف، وما يفهم منه أنه تأكيد فمعناه أنه محقق ومقرر من المتبوع فهو تأكيد لغوي لا أنه مؤكد أمر المتبوع في النسبة أو الشمول ليكون تأكيدا صناعيا كيف وهو إنما يكون بتقرير المتبوع بنفسه أو بما يوافقه معنى أو بألفاظ محفوظة، فما قيل: إن مذهبه إن ذلك من التأكيد الصناعي ليس بشيء إذ لا دلالة في كلامه عليه. وقد أورد السكاكي الآية في باب عطف البيان مصرحا بأنه من هذا القبيل فتوهم منه بعضهم أنه قائل بأن ذلك عطف بيان صناعي، وهو الذي اختاره العلامة القطب في شرح المفتاح نافيا كونه وصفا، واستدل على ذلك بأن معنى قولهم: الصفة تابع يدل على معنى في متبوعه أنه تابع ذكر ليدل على معنى في متبوعه على ما نقل عن ابن الحاجب، ولم يذكر اثْنَيْنِ وواحِدٌ للدلالة على الاثنينية والوحدة اللتين في متبوعهما فيكونا وصفين بل ذكرا للدلالة على أن القصد من متبوعهما إلى أحد جزئيه أعني الاثنينية والوحدة دون الجزء الآخر أعني الجنسية، فكل منهما تابع غير صفة يوضح متبوعه فيكون عطف بيان لا صفة.
وقال العلامة الثاني: ليس في كلام السكاكي ما يدل على أنه عطف بيان صناعي لجواز أن يريد أنه من قبيل الإيضاح والتفسير وإن كان وصفا صناعيا، ويكون إيراده في ذلك المبحث مثل إيراد كل رجل عارف وكل إنسان حيوان في بحث التأكيد ومثل ذلك عادة له. وتعقب العلامة الأول بأنه إن أريد أنه لم يذكر إلا ليدل على معنى في متبوعه فلا يصدق التعريف على شيء من الصفة لأنها البتة تكون لتخصيص أو تأكيد أو مدح أو نحو ذلك وإن أريد أنه ذكر ليدل على هذا المعنى ويكون الغرض من دلالته عليه شيئا آخر كالتخصيص والتأكيد وغيرهما فيجوز أن يكون ذكر اثنين اثْنَيْنِ وواحِدٌ للدلالة على الاثنينية والوحدة ويكون الغرض من هذا بيان المقصود وتفسيره، كما أن الدابر في أمس الدابر ذكر ليدل على معنى الدبور والغرض منه التأكيد بل الأمر كذلك عند التحقيق، ألا ترى أن السكاكي جعل من الوصف ما هو كاشف وموضح ولم يخرج بهذا عن الوصفية. وأجيب بأنا نختار الشق الثاني ونقول: مراد العلامة من قوله: ذكر ليدل على معنى في متبوعه أن يكون المقصود من ذكر الدلالة على حصول المعنى في المتبوع ليتوسل بذلك إلى التخصيص أو التوضيح أو المدح أو الذم إلى غير ذلك وذكر اثْنَيْنِ وواحِدٌ ليس للدلالة على حصول الاثنينية والوحدة في موصوفيهما بل تعيين المقصود من جزئيهما فلا يكونان صفة، وذكر الدابر ليدل على حصول الدبور في الأمس ثم يتوسل بذلك إلى التأكيد وكذا في الوصف الكاشف بخلاف ما نحن فيه فتدبره فإنه غامض، ولم يجوز العلامة الأول البدلية فقال: وإما أنه ليس ببدل فظاهر لأنه لا يقوم مقام المبدل منه.
ونظر فيه العلامة الثاني بأنا لا نسلم أن البدل يجب صحة قيامه مقام المبدل منه فقد جعل الزمخشري «الجن» في قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام: ١٠٠] بدلا من شُرَكاءَ ومعلوم أنه لا معنى لقولنا وجعلوا لله الجن. ثم قال: بل لا يبعد أن يقال: الأولى أنه بدل لأنه المقصود بالنسبة إذ النهي عن اتخاذ الاثنين من الإله على ما مر تقريره. وتعقب بأن الرضي قد ذكر أنه لما لم يكن البدل معنى في المتبوع حتى يحتاج إلى المتبوع كما احتاج الوصف ولم يفهم معناه من المتبوع كما فهم ذلك في التأكيد جاز اعتباره مستقلا لفظا أي صالحا لأن يقوم مقام المتبوع اه.
ولا يخفى أن صحة إقامته بهذا المعنى لا تقتضي أن يتم معنى الكلام بدونه حتى يرد ما أورد وقيل: إن ذكر «اثنين» للدلالة على منافاة الاثنينية للألوهية وذكر الوحدة للتنبيه على أنها من لوازم الألوهية.
وجعل ذلك بعضهم من روادف الدلالة على كون ما ذكر مساق النهي والإثبات وهو الظاهر وإن قيل فيه ما قيل.
402
وزعم بعضهم أن تَتَّخِذُوا متعد إلى مفعولين وأن اثْنَيْنِ مفعوله الأول وإِلهَيْنِ مفعوله الثاني والتقدير لا تتخذوا اثنين إلهين، وقيل: الأول مفعول أول والثاني ثان، وقيل إِلهَيْنِ مفعوله الأول. واثْنَيْنِ باق على الوصفية والتوكيد والمفعول الثاني محذوف أي معبودين، ولا يخفى ما في ذلك، وإثبات الوحدة له تعالى مع أن المسمى المعين لا يتعدد بمعنى أنه لا مشارك له في صفاته وألوهيته فليس الحمل لغوا، ولا حاجة لجعل الضمير للمعبود بحق المفهوم من الجلالة على طريق الاستخدام كما قيل، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في سورة الإخلاص. وفي التعبير بالضمير الموضوع للغائب التفات من التكلم إلى الغيبة على رأي السكاكي المكتفي بكون الأسلوب الملتفت عنه حق الكلام وإن لم يسبق الذكر على ذلك الوجه، وإما قوله تعالى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ففيه التفات من الغيبة إلى التكلم على مذهب الجمهور أيضا، والنكتة فيه بعد النكتة العامة أعني الإيقاظ وتطرية الإصغاء المبالغة في التخويف والترهيب فإن تخويف الحاضر مواجهة أبلغ من تخويف الغائب سيما بعد وصفه بالوحدة والألوهية المقتضية للعظمة والقدرة التامة على الانتقام.
والفاء في فَإِيَّايَ واقعة في جواب شرط مقدور و «إياي» مفعول لفعل محذوف يقدر مؤخرا يدل عليه فَارْهَبُونِ أي إن رهبتم شيئا فإياي ارهبوا، وقول ابن عطية: إن «إياي» منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ذهول عن القاعدة النحوية، وهي أنه إذا كان المعمول ضميرا منفصلا والفعل متعد إلى واحد هو الضمير وجب تأخر الفعل نحو إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: ٥] ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله:
إليك حتى بلغت إياكا وعطف المفسر المذكور على المفسر المحذوف بالفاء لأن المراد رهبة بعد رهبة، وقيل: لأن المفسر حقه أن يذكر بعد المفسر، ولا يخفى فصل الضمير وتقديمه من الحصر أي ارهبوني لا غير فإنا ذلك الإله الواحد القادر على الانتقام وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عطف على قوله سبحانه: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أو على الخبر أو مستأنف جيء به تقريرا لعلة انقياد ما فيهما له سبحانه خاصة وتحقيقا لتخصيص الرهبة به تعالى، وتقدم الظرف لتقوية ما في اللام من معنى التخصيص، وكذا يقال فيما بعد أي له تعالى وحده ما في السموات والأرض وملكا وَلَهُ وحده الدِّينُ أي الطاعة والانقياد كما هو أحد معانيه. ونقل عن ابن عطية وغيره واصِباً أي واجبا لازما لا زوال له لما تقرر أنه سبحانه الإله وحده الحقيق بأن يرهب، وتفسير واصِباً بما ذكر مروى عن ابن عباس. والحسن. وعكرمة. ومجاهد والضحاك. وجماعة وأنشدوا لأبي الأسود الدؤلي:
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها الكلام
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقال ابن الأنباري: هو من الوصب بمعنى التعب أو شدته، وفاعل للنسب كما في قوله:
وأضحى فؤادي به فاتنا أي ذا وصب وكلفة، ومن هنا سمي الدين تكليفا، وقال الربيع بن أنس: واصِباً خالصا، ونقل ذلك أيضا عن الفراء، وقيل: الدين الملك والواصب الدائم، ويبعد ذلك قول أمية بن الصلت:
وله الدين واصبا له الم لك وحمد له على كل حال
وقيل: الدين الجزاء والواصب كما في سابقه أي له تعالى الجزاء دائما لا ينقطع ثوابه للمطيع وعقابه للعاصي، وأيا ما كان فنصب واصِباً على أنه حال من ضمير الدِّينُ المستكن في الظرف والظرف عامل فيه أو حال من الدِّينُ والظرف هو العامل على رأي من يرى جواز اختلاف العامل في الحال والعامل في صاحبها. واستدل بالآية
403
على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ الهمزة للإنكار والفاء للتعقيب أي أبعد ما تقرر من تخصيص جميع الموجودات للسجود به تعالى وكون ذلك كله له سبحانه ونهيه عن اتخاذ الإلهين وكون الدين له واصبا المستدعي ذلك لتخصيص التقوى به تعالى تتقون غيره، والمنكر تقوى غير الله تعالى لا مطلق التقوى ولذا قدم الغير، وأولى الهمزة لا للاختصاص حتى يرد أن إنكار تخصيص التقوى بغيره سبحانه لا ينافي جوازها، وقيل: يصح أن يعتبر الاختصاص بالإنكار فيكون التقديم لاختصاص الإنكار لا لإنكار الاختصاص. وفي البحر أن هذا الاستفهام يتضمن التوبيخ والتعجب أي بعد ما عرفتم من وحدانيته سبحانه وأن ما سواه له ومحتاج إليه كيف تتقون وتخافون غيره وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي أي شيء يلابسكم ويصاحبكم من نعمة أي نعمة كانت فهي منه تعالى- فما- موصولة مبتدأ متضمنة معنى الشرط ومن الله خبرها والفاء زائدة في الخبر لذلك التضمن ومِنْ نِعْمَةٍ بيان للموصول وبِكُمْ صلته، وأجاز الفراء وتبعه الحوفي أن تكون ما شرطية وفعل الشرط محذوف أي وما يكن بكم من نعمة إلخ. واعترضه أبو حيان بأنه لا يحذف فعل الشرط إلا بعد إن خاصة في موضعين باب الاشتغال نحو وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ [التوبة: ٦] وأن تكون إن الشرطية متلوة بلا النافية وقد دل على الشرط ما قبله كقوله:
فطلقها فلست لها بكفء وإلا يعل مفرقك الحسام
وحذفه في غير ما ذكر ضرورة كقوله:
قالت بنات العم يا سلمى وإن كان فقيرا معدما قالت وإن
وقوله:
أينما الريح تميّلها تمل وأجيب بأن الفراء لا يسلم هذا فما أجازه مبني على مذهبه. واستشكل أمر الشرطية على الوجهين من حيث إن الشرط لا بد أن يكون سببا للجزاء كما تقول: إن تسلم تدخل الجنة فإن الإسلام سبب لدخول الجنة وهنا على العكس، فإن الأول وهو استقرار النعمة بالمخاطبين لا يستقيم أن يكون سببا للثاني وهو كونها من الله من جهة كونه فرعا عنه. وأجاب في إيضاح المفصل بأن الآية جيء بها لإخبار قوم استقرت بهم نعم جهلوا معطيها أو شكوا فيه أو فعلوا ما يؤدي إلى أن يكونوا شاكين فاستقرارها مجهولة أو مشكوكة سبب للإخبار بكونها من الله تعالى فيتحقق أن الشرط والمشروط فيها على حسب المعروف من كون الأول سببا والثاني مسببا، وقد وهم من قال: إن الشرط قد يكون مسببا. وفي الكشف أن الشرط والجزاء ليسا على الظاهر فإن الأول ليس سببا للثاني بل الأمر بالعكس لكن المقصود نه تذكيرهم وتعريفهم فالاتصال سبب العلم بكونها من الله تعالى، وهذا أولى مما قدره ابن الحاجب من أنه سبب الإعلام بكونها منه لأنه في قوم استقرت بهم النعم وجهلوا معطيها أو شكوا فيه، ألا ترى إلى ما بني عليه بعد كيف دل على أنهم عالمون بأنه سبحانه المنعم ولكن يضطرون إليه عند الإلجاء ويكفرون بعد الإنجاء انتهى. وفيه أنه يدفع ما ذكره بأن علمهم نزل لعدم الاعتداد به وفعلهم ما ينافيه منزلة الجهل فأخبروا بذلك كما تقول لمن توبخه: أما أعطيتك كذا أما وأما ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ مساسا يسيرا فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ تتضرعون في كشفه لا إلى غيره كما يفيد تقديم الجار والمجرور، والجؤار في الأصل صياح الوحش واستعمل في رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة، قال الأعشى يصف راهبا:
يداوم من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا
وقرأ الزهري «تجرون» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الجيم، وفي ذكر المساس المنبئ عن أدنى إصابة
404
وإيراده بالجملة الفعلية المؤذنة بالحدوث مع ثم الدالة على وقوعه بعد برهة من الدهر وتحلية الضُّرُّ بلام الجنس المفيدة لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس مع إيراده النعمة بالجملة الاسمية المؤذنة بالدوام والتعبير عن ملابستها للمخاطبين بباء المصاحبة وإيراد ما المعربة عن العموم على احتماليها ما لا يخفى من الجزالة والفخامة.
ولعل إيراد «إذا» دون- أن- للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب قاله المولى أبو السعود، وفيه ما يعرف مع الجواب عنه بأدنى تأمل، وكان الظاهر على ما قيل أن يقال بعد أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ: وما يصيبكم ضر إلا منه ليقوى انكار اتقاء غيره سبحانه لكن ذكر النفع الذي يفهم بواسطته الضر واقتصر عليه إشارة إلى سبق رحمته وعمومها وبملاحظة هذا المعنى قيل: يظهر ارتباط «وما بكم من نعمة فمن الله» بما قيله، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك، واستدل بالآية على أن لله تعالى نعمة على الكافر وعلى أن الإيمان مخلوق له تعالى.
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ أي رفع ما مسكم من الضر إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ أي يتجدد إشراكهم به تعالى بعبادة غيره سبحانه، والخطاب في الآية إن كان عاما- فمن- للتبعيض والفريق الكفرة، وإن كان خاصا بالمشركين كما استظهره في الكشف- فمن- للبيان على سبيل التجريد ليحسن وإلا فليس من مواقعه كما قيل، والمعنى إذا فريق هم أنتم يشركون وجوز على هذا الاحتمال في الخطاب كون- من- تبعيضية أيضا لأن من المشركين من يرجع عن شركه إذا شاهد ضرا شديدا كما يدل عليه قوله تعالى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان: ٣٢] على تقدير أن يفسر الاقتصاد بالتوحيد لا بعدم الغلو في الكفر، وإِذا الأولى شرطية والثانية فجائية والجملة وبعدها جواب الشرط، واستدل أبو حيان باقترانها بإذا الفجائية على أن إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، وبِرَبِّهِمْ متعلق- بيشركون- والتقديم لمراعاة رؤوس الآي، والتعرض لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبح ما ارتكبوه من الإشراك الذي هو غاية في الكفران.
وثُمَّ قال في إرشاد العقل السليم: ليست لتمادي زمان مساس الضر ووقوع الكشف بعد برهة مديدة بل للدلالة على تراخي رتبة عليه من مفاجآت الإشراك فإن ترتبها على ذلك في أبعد غاية من الضلال.
وفي الكشف متعقبا صاحب الكشاف بأنه لم يذكر وجه الكلام في قوله تعالى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ ثُمَّ إِذا كَشَفَ وهو على وجهين والله تعالى أعلم. أحدهما أن يكون قوله سبحانه وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ من تتمة السابق على معنى إنكار اتقاء غير الله تعالى وقد علموا أن كل ما يتقلبون فيه من نعمته فهو سبحانه القادر على سلبها، ثم أنكر عليهم تخصيصهم بالجؤار عند الضر في مقابلة تخصيص غيره بالاتقاء ثم إشراكهم به تعالى كفرانا لتلك النعمة وجيء بثم لتفاوت الإنكارين فإن اتقاء غير المنعم أقرب من الأعراض عنه وهو متقلب في نعمه ثم اللجأ إلى هذا المكفور به وحده عند الحاجة، وأبعد منه الإعراض ولم يجف قدمه من ندى النجاة.
والثاني أن يكون جملة مستقلة واردة للتقريع وثُمَّ في الأول لتراخي الزمان إشعارا بأنهم غمطوا تلك النعم ولم يزالوا عليه إلى وقت الإلجاء، وفيه الإشعار بتراخي الرتبة أيضا على سبيل الإشارة وفي الثاني لتراخي الرتبة وحده، اه وهو كلام نفيس، وللطيبي كلام طويل في هذا المقام إن أردته فارجع إليه.
وقرأ الزهري «ثم إذا كاشف» وفاعل هنا بمعنى فعل، وفي الآية ما يدل على أن صنيع أكثر العوام اليوم من الجؤار إلى غيره تعالى ممن لا يملك لهم بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا عند إصابة الضر لهم وإعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية سفه عظيم وضلال جديد لكنه أشد من الضلال القديم، ومما تقشعر منه الجلود وتصعر له الخدود الكفرة أصحاب الأخدود فضلا عن المؤمنين باليوم الموعود إن بعض المتشيخين قال لي وأنا صغير: إياك ثم إياك أن تستغيث
405
بالله تعالى إذا خطب دهاك فإن الله تعالى لا يعجل في إغاثتك ولا يهمه سوء حالتك وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين فإنهم يعجلون في تفريج كربك ويهمهم سوء ما حل بك فمج ذلك سمعي وهمي دمعي وسألت الله أن يعصمني والمسلمين من أمثال هذا الضلّال المبين، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات مثل ذلك لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من نعمة الكشف عنهم، فالكفر بمعنى كفران النعمة واللام لام العاقبة والصيرورة، وهي استعارة تبعية فإنه لما لم ينتج كفرهم وإشراكهم غير كفران ما أنعم الله تعالى به عليهم جعل كأنه علة غائية له مقصودة منه، وجوز أن يكون الكفر بمعنى الجحود أي إنكار كون تلك النعمة من الله تعالى واللام هي اللام، والمعنيان متقاربان فَتَمَتَّعُوا أمر تهديد كما هو أحد معاني الأمر المجازية عند الجمهور كما يقول السيد لعبده افعل ما تريد، والالتفات إلى الخطاب للإيذان بتناهي السخط.
وقرأ أبو العالية «فيمتّعوا» بضم الياء التحتية ساكن الميم مفتوح التاء مضارع متع مخففا مبنيا للمفعول وروى ذلك مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معطوف يكفروا على أن يكون الأمران عرضا لهم من الإشراك، ويجوز أن يكون لام لِيَكْفُرُوا لام الأمر والمقصود منه التهديد بتخليتهم وما هم فيه لخذلانهم، فالفاء واقعة في جواب الأمر وما بعدها منصوب بإسقاط النون، ويجوز جزمه بالعطف أيضا كما ينصب بالعطف إذا كانت اللام جارة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب، وفيه وعيد شديد حيث لم يذكر المفعول إشعارا بأنه لا يوصف. وقرأ أبو العالية أيضا «يعلمون» بالياء التحتية وروى ذلك مكحول عن أبي رافع أيضا وَيَجْعَلُونَ قيل معطوف على يُشْرِكُونَ وليس بشيء، وقيل: لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعدادا لجناياتهم أي يفعلون ما يفعلون، مما قص عليك ويجعلون لِما لا يَعْلَمُونَ أي لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها وإنها لا تضر ولا تنفع على أن ما موصولة والعائد محذوف وضمير الجمع للكفار أو لآلهتهم التي لا علم لها بشيء إنها جماد على أن ما موصولة أيضا عبارة عن الآلهة، وضمير يَعْلَمُونَ عائد عليه، ومفعول يَعْلَمُونَ مترك لقصد العموم، وجوز أن ينزل منزلة اللازم أي ليس من شأنهم العلم، وصيغة جمع العقلاء لوصفهم الآلهة بصفاتهم، ويجوز أن تكون ما مصدرية وضمير الجمع للمشركين واللام تعليلية لا صلة الجعل كما في الوجهين الأولين، وصلته للعلم بها أي يجعلون لآلهتهم لأجل جهلهم نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الحرث والأنعام وغيرهما مما ذرأ تقربا إليها تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ سؤال توبيخ وتقريع في الآخرة، وقيل: عند عذاب القبر، وقيل: عند القرب من الموت عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ من قبل بأنها آلهة حقيقة بأن يتقرب إليها، وفي تصدير الجملة بالقسم وصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب المنبئ عن كمال الغضب من شدة الوعيد ما لا يخفى.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ هم خزاعة وكنانة كانوا يقولون: الملائكة بنات الله تعالى وكأنهم لجهلهم زعموا تأنيثها وبنوتها، وقال الإمام: أظن أنهم أطلقوا عليها البنات لاستتارها عن العيون كالنساء ولهذا لما كان قرص الشمس يجري مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر ونوره القاهر أطلقوا عليه لفظ التأنيث.
ولا يرد على ذلك أن الجن كذلك لأنه لا يلزم في مثله الاطراد، وقيل: أطلقوا عليها ذلك للاستتار مع كونها في محل لا تصل إليه الأغياء فهي كبنات الرجل اللاتي يغار عليهن فيسكنهن في محل أمين ومكان مكين، والجن وإن كانوا مستترين لكن لا على هذه الصورة، وهذا أولى مما ذكره الإمام، وأما عدم التوالد فلا يناسب ذلك.
سُبْحانَهُ تنزيه وتقديس له تعالى شأنه عن مضمون قوله ذلك أو تعجيب من جراءتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة، وهو في المعنى الأول حقيقة وفي الثاني مجاز.
406
وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني البنين وما مفروع المحل على أنه مبتدأ والظرف المقدم خبره والجملة حالية وسبحانه اعتراض في حاق موقعه، وجوز الفراء. والحوفي أنه في محل نصب معطوف على الْبَناتِ كأنه قيل:
ويجعلون لهم ما يشتهون. واعترض عليه الزجاج وغيره بأنه مخالف للقاعدة النحوية وهي أنه لا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل المرفوع بالفاعلية وكذا الظاهر إلى ضميره المتصل سواء كان تعديه بنفسه أو بحرف الجر إلا في باب ظن وما ألحق به من فقد وعدم فلا يجوز زيد ضربه بمعنى ضرب نفسه ولا زيد مر به أي مر هو بنفسه ويجوز زيد ظنه قائما وزيد فقده وعدمه فلو كان مكان الضمير اسما ظاهرا (١) كالنفس نحو زيد ضرب نفسه أو ضميرا منفصلا نحو زيد ما ضرب إلا إياه وما ضرب زيد إلا إياه جاز، فإذا عطف «ما» على الْبَناتِ أدى إلى تعدية فعل المضمر المتصل وهو واو يَجْعَلُونَ إلى ضميره المتصل وهو هم المجرور باللام في غير ما استثني وهو ممنوع عند البصريين ضعيف عند غيرهم فكان حقه أن يقال- لأنفسهم- وأجيب بأن الممتنع إنما هو تعدي الفعل بمعنى وقوعه عليه أو على ما جر بالحرف نحو زيد مر به فإن المرور واقع بزيد وما نحن فيه ليس من هذا القبيل فإن الجعل ليس واقعا بالجاعلين بل بما يشتهون، ومحصله- كما قال الخفاجي- المنع في المتعدي بنفسه مطلقا والتفصيل في المتعدي بالحرف بين ما قصد الإيقاع عليه وغيره فيمتنع في الأول دون الثاني لعدم ألف إيقاع المرء بنفسه. وأبو حيان اعترض القاعدة بقوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم: ٢٥]. وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ [القصص: ٣٢] والعلامة البيضاوي أجاب بوجه آخر وهو أن الامتناع إنما هو إذا تعدى الفعل أولا لا ثانيا وتبعا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، ومنهم من خص ذلك بالمتعدي بنفسه وجوز في المتعدي بالحرف كما هنا وارتضاه الشاطبي في شرح الألفية، وقال الخفاجي: هو قوي عندي لكن لا يخفى أن العطف هنا بعد هذا القيل والقال يؤدي إلى جعل الجعل بمعنى يعم الزعم والاختيار وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى أي أخبر بولادتها، وأصل البشارة الإخبار بما يسر لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوءهم حملت على مطلق الأخبار، وجوز أن يكون ذلك بشارة باعتبار الولادة بقطع النظر عن كونها وقيل: إنه بشارة حقيقة بالنظر إلى حال المبشر به في نفس الأمر، وأيّا ما كان فالكلام على تقدير مضاف كما أشرنا إليه ظَلَّ وَجْهُهُ أي صار مُسْوَدًّا من الكآبة والحياة من الناس، وأصل معنى ظل أقام نهارا على الصفة التي تسند إلى الاسم، ولما كان التبشير قد يكون في الليل وقد يكون في النهار فسر بما ذكر وقد تلحظ الحالة الغالبة بناء على أن أكثر الولادات يكون بالليل ويتأخر اخبار المولود له إلى النهار خصوصا بالأنثى فيكون ظلوله على ذلك الوصل طول النهار واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والفكرة والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى، قيل: إذا قوي الفرح انبسط روح القلب من داخله ووصل إلى الأطراف لا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فيرى مشرقا متلألئا، وإذا قوي الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قوي في ظاهر الوجه فيربد ويتغير ويصفر ويسود ويظهر فيه أثر الأرضية، فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ومن لوازم الغم والحزن إرداءه واسوداده فلذلك كني عن الفرح بالاستنارة وعن الغم بالاسوداد، ولو قيل بالمجاز لم يبعد بل قال بعضهم «إنه الظاهر» والظاهر أن وَجْهُهُ اسم ظل ومُسْوَدًّا خبره، وجوز كون الاسم ضميرا لأحد ووجهه بدلا منه ولو رفع مُسْوَدًّا على أن وَجْهُهُ مبتدأ وهو خبر له والجملة خبر ظَلَّ صح لكنه لم يقرأ بذلك هنا وَهُوَ كَظِيمٌ أي مملوء غيظا وأصل الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه إذا أخذ بمخرج نفسه، ومنه كظم الغيظ لاخفائه وحبسه عن الوصول إلى مخرجه.
(١) قوله اسما ظاهرا وقوله بعده أو ضميرا منفصلا كذا بخطه فليتأمل.
407
وفعيل إما بمعنى مفعول كما أشير إليه أو صيغة مبالغة، والظاهر أن ذلك الغيظ على المرأة حيث ولدت اثنى ولم تلد ذكرا، ويؤيده ما روى الأصمعي أن امرأة ولدت بنتا سمتها الذلفاء فهجرها زوجها فانشدت:
ما لأبي الذلفاء لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا
يحرد أن لا نلد البنينا وإنما نأخذ ما يعطينا
والفقير قد رأيت من طلق زوجته لأن ولدت أنثى، والجملة في موضع الحال من الضمير في ظَلَّ وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من وجه، وجوز غيره أيضا حاليته من ضمير مُسْوَدًّا يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ يستخفي من قومه مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ عرفا وهو الأنثى، والتعبير عنهما- بما- لاسقاطها بزعمهم عن درجة العقلاء، والجملة مستأنفة أو حال على الأوجه السابقة في وهو كظيم إلا كونه من وجهه، والجاران متعلقان- بيتوارى- ومِنَ الأولى ابتدائية، والثانية تعليلية أي يتوارى من أجل ذلك، ويروى أن بعض الجاهلية يتوارى في حال الطلق فإن أخبر بذكر ابنته أو بأنثى حزن وبقي متواريا أياما يدبر فيها ما يصنع أَيُمْسِكُهُ أيتركه ويربيه عَلى هُونٍ أي ذل، والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: معناه أيمسكه مع رضاه بهوان نفسه وعلى رغم أنفه، وقيل: حال من المفعول به أي أيمسك المبشر به وهو الأنثى مهانا ذليلا، وجملة أَيُمْسِكُهُ معمولة لمحذوف معلق بالاستفهام عنها وقع حالا من فاعل يَتَوارى أي محدثا نفسه متفكرا في أن يتركه أَمْ يَدُسُّهُ يخفيه فِي التُّرابِ والمراد يئده ويدفنه حيا حتى يموت وإلى هذا ذهب السدي. وقتادة. وابن جريج وغيرهم، وقيل: المراد إهلاكه سواء كان بالدفن حيا أم بأمر آخر فقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق.
روي أن رجلا قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت، وقد كانت لي في الجاهلية بنت وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتها فلما انتهيت إلى واد بعيد القعر ألقيتها فقالت يا أبت قتلتني فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء فقال صلى الله عليه وسلم:
«ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار»
وكان بعضهم يغرقها، وبعضهم يذبحها إلى غير ذلك، ولما كان الكل إماتة تفضي إلى الدفن في التراب قيل: أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ وقيل: المراد اخفاؤه عن الناس حتى لا يعرف كالمدسوس في التراب، وتذكير الضميرين للفظ ما. وقرأ الجحدري بالتأنيث فيهما عودا على قول سبحانه: بِالْأُنْثى أو على معنى ما. وقرئ بتذكير الأول وتأنيث الثاني، وقرأ الجحدري أيضا، وعيسى «هوان» بفتح الهاء وألف بعد الواو، وقرئ «على هون» بفتح الهاء وإسكان الواو وهو بمعنى الذل أيضا، ويكون بمعنى الرفق واللين وليس بمراد، وقرأ الأعمش «على سوء» وهي عند أبي حيان تفسير لا قراءة لمخالفتها السواد أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ حيث يجعلون لمن تنزه عن الصحابة والولد ما هذا شأنه عندهم والحال أنهم يتحاشون عنه ويختارون لأنفسهم البنين، فمدار الخطأ جعلهم ذلك لله تعالى شأنه مع إبائهم إياه لا جعلهم البنين لأنفسهم ولا عدم جعلهم له سبحانه، وجوز أن يكون مداره التعكيس كقوله تعالى: تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم: ٢٢]، وقال ابن عطية: هذا استقباح منه تعالى شأنه لسوء فعلهم وحكمهم في بناتهم بالإمساك على هون أو الوأد مع أن رزق الجميع على الله سبحانه فكأنه قيل: ألا ساء ما يحكمون في بناتهم وهو خلاف الظاهر جدا، وروى الأول عن السدي وعليه الجمهور، والآية ظاهرة في ذم من يحزن إذا بشر بالأنثى حيث أخبرت أن ذلك فعل الفكرة، وقد أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في قوله سبحانه: وَإِذا بُشِّرَ إلخ هذا صنيع مشركي العرب أخبركم الله تعالى بخبثه فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله تعالى له وقضاء الله تعالى خير من قضاء المرء لنفسه، ولعمري ما ندري أي خبر لرب جارية خير لأهلها من غلام، وإنما أخبركم الله عز وجل بصنيعهم لتجتنبوه ولتنتهوا عنه. واستدل القاضي بالآية على بطلان مذهب
408
القائلين بنسبة أفعال العباد إليه تعالى لأن في ذلك إضافة فواحش لو أضيفت إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منها والتباعد عنها قال: فحكم هؤلاء القائلين مشابه لحكم هؤلاء المشركين بل أعظم لأن إضافة البنات إليه سبحانه إضافة لقبيح واحد وهو أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إليه عز وجل. وأجيب عن ذلك بأنه لما ثبت بالدليل استحالة الصحابة والولد عليه سبحانه أردفه عز وجل بذكر هذا الوجه الإقناعي وإلا فليس كل ما قبح منا في العرف قبح منه تعالى، ألا ترى أن رجلا لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهم وصورهن ثم بالغ في تقوية الشهوة فيهم وفيهن ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع وبقي ينظر ما يحدث بينهم من الوقاع وغيره عد من أسفه السفهاء وعد صنيعه أقبح كل صنيع مع أن ذلك لا يقبح منه تعالى بل قد صنعه جل جلاله فعلم أن التعويل على مثل هذه الوجوه المبنية على العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية، وقد ثبت بها امتناع الولد عليه سبحانه فلا جرم حسنت تقويتها لهذه الوجوه الإقناعية، وأما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل القاطعة أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لولا سوء التعصب لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ممن ذكرت قبائحهم مَثَلُ السَّوْءِ صفة السوء التي هي كالمثل في القبح وهي الحاجة إلى الولد ليقوم مقامهم بعد موتهم ويبقى به ذكرهم، وإيثار الذكور للاستظهار، ووأد البنات لدفع العار أو خشية الإملاق على حسب اختلاف أغراض الوائدين المنادي كل واحد من ذلك بالعجز والقصور والشح البالغ. وعن ابن عباس مَثَلُ السَّوْءِ النار، وأظنه لا يصح عنه رضي الله تعالى عنه، ومنه ابن عطية حمل المثل على الصفة وقال: إنه لا يضطر إليه لأنه خروج عن اللفظ بل هو على بابه، وذلك أنهم قالوا: إن البنات لله سبحانه فقد جعلوا لله عز وجل مثلا فإن البنات من البشر وكثرة البنات أمر مكروه عندهم ذميم فهو المثل السوء الذي أخبر الله تعالى بأنه لهم، وليس في البنات فقط بل لما جعلوا له تعالى البنات جعله هو سبحانه لهم على الإطلاق في كل سوء ولا غاية أبعد من عذاب النار اه، وهو أشبه عندي بالرطانة كما لا يخفى ووضع الموصول موضع الضمير للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك القبائح هو الكفر بالآخرة
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العجيبة الشأن التي هي مثل في العلو مطلقا وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والجود الواسع والنزاهة عن صفات المخلوقين ويدخل فيه علوه تعالى عما يقول (١) علوا كبيرا. وأخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أن المثل الأعلى شهادة على لا إله إلا الله وهو رواية عن ابن عباس. والذي أخرجه عنه البيهقي في الأسماء والصفات وغيره هو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:
١١]. وَهُوَ الْعَزِيزُ المنفرد بكمال القدرة على كل شيء ومن ذلك مؤاخذتهم بقبائحهم، وقيل: هو الذي لا يوجد له نظير الْحَكِيمُ الذي يفعل كل ما يفعل بمقتضى الحكمة البالغة.
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ الظالمين مطلقا، وقيل: بالكفر والمؤاخذة مفاعلة من فاعل بمعنى فعل وهو الظاهر، وقال ابن عطية: هي مجاز كأن العبد يأخذ حق الله تعالى بمعصيته والله تعالى يأخذ منه بعاقبته وكذا الحال في مؤاخذة الخلق بعضهم بعضا بِظُلْمِهِمْ أي بسبب كفرهم ومعاصيهم بناء على الظلم فعل ما لا ينبغي ووضعه في غير موضعه وقد يخص بالكفر والتعدي على الغير ويدخل فيه ما عد من القبائح، وهذا تصريح بما أفاده قوله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وإيذان بأن ما أتاه هؤلاء الكفرة من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غاية وراءه ما تَرَكَ عَلَيْها أي على الأرض المدلول عليها بالناس وبقوله تعالى: مِنْ دَابَّةٍ بناء على شهرة كون الدبيب في الأرض أي ما ترك عليها شيئا من الدواب أصلا بل أهلكها بالمرة، أما الظالم فبظلمه وأما غيره فبشؤم ذلك فقد قال سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَ
(١) قوله عما يقول كذا بخطه والظاهر «عما يقولون» إلخ.
409
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: ٢٥] وأخرج البيهقي في الشعب وغيره عن أبي هريرة أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال: بلى والله إن الحبارى لتموت هزلا في وكرها من ظلم الظالم، وأخرج أيضا هو فيه وغيره عن ابن مسعود قال: كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ الآية، وأخرج أحمد في الزهد عنه أنه قال:
ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره ثم قال: أي والله زمن غرق قوم نوح عليه السلام، وقيل: المراد من دابة ظالمة على أن التنوين للنوع وهو مخصوص بالكفار والعصاة من الأنس، وقيل: منهم ومن الجن، وقيل: المراد الدابة الظالمة الفاعلة لما ينبغي شرعا أو عرفا فيدخل بعض الدواب إذا ضر غيره، وقالت فرقة منهم ابن عباس: المراد بالدابة المشرك فقد قال تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: ٥٥] وقال الجبائي: الدابة على عمومها فتشمل سائر الحيوانات، والمراد بالناس الظالمون مطلقا ووجه الملازمة أنه تعالى لو آخذهم بما كسبوا من كفر أو معصية لعجل هلاكهم وحينئذ لا يبقى لهم نسل، ومن المعلوم أن لا أحد إلا وفي آبائه من يستحق العقاب وإذا هلكوا جميعا وبطل نسلهم لا يبقى أحد من الناس وحينئذ يهلك الدواب لأنها مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم كما يشعر به قوله تعالى:
خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: ٢٩] وبتخصيص الناس يسقط الاستدلال بالآية على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام، وقال بعض المحققين: لا حاجة إلى التخصيص في ذلك والآية من باب بنو تميم قتلوا قتيلا لتظافر الأدلة والنصوص على عصمة الأنبياء عليهم السلام. فلا يقال: الأصل الحمل على الحقيقة.
واستدل بعضهم للتخصيص بقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: ٣٢] وألا يفسد التقسيم، وقد يقال: إنه ما أحد إلا وهو متصف بظلم إلا أن مراتبه مختلفة فحسنات الأبرار سيئات المقربين، والعصمة التي تدعى للأنبياء عليهم السلام إنما هي العصمة مما يعد ذنبا بالنسبة إلى غيرهم وأما العصمة مما يعد ذنبا بالنسبة إلى مقامهم ومرتبتهم فلا تدعى لهم إذ قد وقع ذلك منهم كما يشهد به كثير من الآيات،
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله ﷺ لو أن الله تعالى يؤاخذني وعيسى ابن مريم بذنوبنا- وفي لفظ- بما جنت هاتان الإبهام والتي تليها لعذبنا ما يظلمنا شيئا»
نعم إنه لا يقال لنبي هو ظالم ولا للأنبياء عليهم السلام هم ظالمون ويقال الناس ظالمون وهذا نظير قولهم: لا يقال لله سبحانه خالق القردة والخنازير ويقال هو خالق كل شيء، ورب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا، وأمر التقسيم هين عند المتأمل فليتأمل، ومن الناس من احتج بالآية على أن أصل المضمار الحرمة إذ لو كان الضرر مشروعا فإما أن يكون مشروعا على وجه يكون جزاء على جرم أولا وكلا القسمين باطل، أما الأول فللآية وذلك من وجهين.
الأول أنها لمكان لو تقتضي أن تعالى ما آخذ الناس بظلمهم وأنه ترك على ظهرها دابة. الثاني أن مقتضى المؤاخذة عدم ترك دابة على ظهرها ونحن نشاهد أنه سبحانه قد ترك كثيرا من الدواب فيجب القطع بأنه تعالى لم يؤاخذ بالظلم، وأما الثاني فباطل بالإجماع فثبت بمقتضى آية تحريم المضار، ويؤكد ذلك آيات أخر وأخبار وحينئذ يقال: إذا وقعت حادثة مشتملة على الضرر من جميع الوجوه فإن وجدنا نصا يدل على كونه مشروعا قضينا به تقديما للخاص على العام وإلا قضينا بالحرمة بناء على الأصل الذي قرر. واستدل بها المعتزلة على أن العباد خالقون لأفعالهم ووجه مع رده غنى عن البنيان وَلكِنْ لا يؤاخذهم بذلك بل يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى سماه سبحانه وعينه لأعمالهم أو لعذابهم كي يتوالدوا أو يكثر عذابهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ المسمى لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً أقل مدة وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عليه، وقد مر الكلام في نظيرها وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ أي يثبتون له سبحانه وينسبون إليه بزعمهم ما يَكْرَهُونَ الذي يكرهونه لأنفسهم من البنات، والتعبير- بما- عند أبي حيان على إرادة النوع، وهذا على ما
410
سمعت تكرير لما سبق تثنية للتقريع وتوطئة لقوله تعالى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أي يجعلون لله تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى أي العاقبة الحسنى عند الله عز وجل ولا يتعين إرادة الجنة.
وعن بعضهم أن المراد بها ذلك بناء على أن منهم من يقر بالبعث وهذا بالنسبة لهم أو أنه على الفرض والتقدير كما روي أنهم قالوا: إن كان محمد ﷺ صادقا في البعث فلنا الجنة بما نحن عليه، قيل: وهو المناسب لقوله تعالى الآتي: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ لظهور دلالته على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة، فلا يرد أنهم كيف قالوا ذلك وهم منكرون للبعث، وعن مجاهد أنهم يرادوا بالحسنى البنين وليس بذاك وقال بعض المحققين: المراد- بما يكرهون- أعم مما تقدم فيشمل البنات وقد علم كراهتهم لها وإثباتها لله تعالى بزعمهم والشركاء في الرياسة فإن أحدهم لا يرضى أن يشرك في ذلك ويزعم الشريك له سبحانه والاستخفاف برسل الله تعالى عليهم السلام فإنهم يغضبون لو استخف برسول لهم أرسلوه في أمر لغيرهم ويستخفون برسل الله تعالى عليهم السلام وأراذل الأموال فإنهم كانوا إذا رأوا ما عينوه لله تعالى من أنعامهم أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإذا رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها ولو فعل نحو ذلك معهم غضبوا، وعلى هذا يفسر الجعل بما يعم الزعم والاختيار وما تعم القلاء وغيرهم ولا يخلو الكلام عن نوع تكرير، والمراد من تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ يكذبون وهو من بليغ الكلام وبديعه، ومثله قولهم: عينها تصف السحر أي ساحرة وقدها يصف الهيف أي هيفاء، وقول أبي العلاء المعري:
سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا
وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك، والظاهر أن الْكَذِبَ مفعول تَصِفُ وأَنَّ لَهُمُ بدل منه أو بتقدير بأن لهم ولما حذفت الباء صار في موضع نصب عند سيبويه، وعند الخليل هو في موضع جر، وجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف كما أشرنا إليه في بيان المعنى، وجوز أبو البقاء كون الْكَذِبَ بدلا- مما يكرهون- وهو كما ترى. وقرأ الحسن. ومجاهد باختلاف أَلْسِنَتُهُمُ بإسقاط التاء وهي لغة تميم، واللسان يذكر ويؤنث قيل:
ويجمع المذكر على ألسنة نحو حمار وأحمرة والمؤنث على ألسن كذراع واذرع. وقرأ معاذ بن جبل. وبعض أهل الشام «الكذب» بثلاث ضمات وهو جمع كذوب كصبر وصبور وهو مقيس. وقيل: جمع كاذب نحو شارف وشرف وهو غير مقيس، ورفعه على أنه صفة الألسنة أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى حينئذ مفعول تَصِفُ لا جَرَمَ أي حقا أَنَّ لَهُمُ
مكان ما زعموه من الحسنى النَّارَ التي ليس وراء عذابها عذاب وهو علم في السوأى، وكلمة لا رد لكلام وجَرَمَ بمعنى كسب وأَنَّ لَهُمُ في موضع نصب على المفعولية أي كسب ما صدر منهم إن لهم ذلك.
وإلى هذا ذهب الزجاج، وقال قطرب: جَرَمَ بمعنى ثبت ووجب وإن لهم في موضع رفع على الفاعلية له، وقيل: لا جَرَمَ بمعنى حقا وأَنَّ لَهُمُ فاعل حق المحذوف، وقد مر تمام الكلام في ذلك وحلا. وقرأ الحسن.
وعيسى بن عمر «إن لهم» بكسر الهمزة وجعل الجملة جواب قسم أغنت عنه لا جَرَمَ وكذا قرآ بالكسر في قوله تعالى: وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي مقدمون معجل بهم إليها على ما روي عن الحسن. وقتادة من افرطته إلى كذا قدمته وهو معدى بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه ومنه أنا «فرطكم على الحوض» أي متقدمكم وكثيرا ما يقال للمتقدم إلى الماء لإصلاح نحو دلو فارط وفرط، وأنشدوا للقطامي:
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فرّاط لوراد
وقال مجاهد، وابن جبير، وابن أبي هند: أي متركون في النار منسيون فيها أبدا من أفرطت فلانا خلفي إذا تركته ونسيته، وقرأ ابن عباس. وابن مسعود وأبو رجاء، وشيبة ونافع. وأكثر أهل المدينة مُفْرَطُونَ بكسر الراء اسم
411
فاعل من أفرط اللازم إذا تجاوز أي مجاوز والحد في معاصي الله تعالى. وقرأ أبو جعفر «مفرّطون» بتشديد الراء وكسرها من فرط في كذا إذا قصر أي مقصرون في طاعة الله تعالى، وعنه أنه قرأ «مفرّطون» بتشديد الراء وفتحها من فرطته المعدى بالتضعيف من فرط بمعنى تقدم أي مقدمون إلى النار.
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ تسلية للرسول ﷺ عما كان يناله من جهالات قومه الكفرة ووعيد لهم على ذلك، ولا يخفى ما في ذلك من عظيم التأكيد أي أرسلنا رسلا إلى أمم من قبل أمتك أو من قبل إرسالك إلى هؤلاء فدعوهم إلى الحق فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ القبيحة فلم يتركوها ولم يمتثلوا دعوة الرسل عليهم السلام، وقد تقدم الكلام في نسبة التزيين إلى الشيطان فَهُوَ وَلِيُّهُمُ أي قرين الأمم وبئس القرين أو متولي اغوائهم وصرفهم عن الحق الْيَوْمَ أي يوم زين الشيطان أعمالهم فيه، وهو وإن كان ماضيا واليوم المعرف معروف في زمان الحال كالآن لكان صور بصورة الحال ليستحضر السامع تلك الصورة العجيبة ويتعجب منها، وسمى مثل ذلك حكاية الحال الماضية وهو استعارة من الحضور الخارجي للحضور الذهني أو المراد باليوم مدة الدنيا لأنها كالوقت الحاضر بالنسبة للآخرة وهي شاملة للماضي والآتي وما بينهما أي فهو وليهم في الدنيا وَلَهُمْ في الأخرى عَذابٌ أَلِيمٌ وهو عذاب النار، وقد ورد إطلاق اليوم على مدتها كثيرا فهو مجاز متعارف وليس فيه حكاية لما مضى أو يوم القيامة الذي فيه عذابهم لكن صور بصورة الحال استحضارا له كما في الوجه الأول إلا أنه حكاية آتية وفي الأول حكاية حال ماضية وليس من مجاز الأول، والولي على هذا بمعنى الناصر أي لا ناصر لهم في ذلك اليوم غيره وهو نفي للناصر على أبلغ وجه على حد قوله:
وبلدة ليس بها أنيس... إلا اليعافير وإلا العيس
ولا يجوز أن يكون بمعنى المتولي للإغواء إذا لا إغواء ثمة ولا بمعنى القرين لأنه في الدرك الأسفل من النار، وجوز بعضهم باعتبار أنه معهم في النار في الجملة ولا يضر اختلافهم في الدركات، والظاهر أن ضمائر الجمع كلها للأمم كما أشرنا إليه في بعضها، وجوز الزمخشري أن يكون ضمير وَلِيُّهُمُ المضاف إليه لقريش لا للأمم والْيَوْمَ بمعنى الزمان الذي وقع فيه الخطاب أي زين الشيطان للكفرة المتقدمين أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم.
وأن يكون الضمير للمتقدمين، والكلام على حذف مضاف أي ولي أمثالهم، والمراد من الأمثال قريش.
وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه بعدا لاختلاف الضمائر من غير داع إليه ولا إلى تقدير المضاف. ورد بأن لفظ اليوم داع إليه، وقال الطيبي: إن الوجه وعليه النظم الفائق لأن في تصدير القسمية بقوله تعالى: تَاللَّهِ بعد إنكارهم الرسالة وتعداد قبائحهم الإشعار بأن ما ذكر كالتسلية فكأنه قيل: إن الأمم الخالية مع الرسالة السالفة لم تزل على هذه الوتيرة فلك أسوة بالرسل عليهم السلام وقومك خلف لتلك الأمم فلا تهتم لذلك فإن ربك ينتقم لك منهم في الدنيا والآخرة فاشتغل أنت بتبليغ ما أنزل إليك وتقرير أنواع الدلائل المنصوبة على الوحدانية وبالتنبيه على إقامة على نعم الله تعالى المتظاهرة اه.
وقال في الكشف: لا ترجيح لهذا الوجه من حيث التسلي إذ الكل مفيد لذلك على وجه بين وإنما الترجيح للوجه الصائر إلى استحضار الحال لما فيه من مزيد التشفي اه، والحق أن ما ذكره الزمخشري غير ظاهر وما قيل: إن لفظ الْيَوْمَ داع إليه في حيز المنع، وقصارى ما يقال: وجود القرينة المصححة لا المرجحة هذا. وذكر في الكشف في بيان ربط الآيات أن قوله سبحانه: وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ إلى هذا الموضع فن آخر من كفرانهم
412
وتعداد قبائحهم، وجاز أن يكون من تتمة سابقه على منوال وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: ٥٣] إلا أنه بنى على الغيبة دلالة على أنه فن آخر، وهذا قريب المتناول، وجاز أن يجعل عطفا على قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ فإن ما وقع من الكلام بعده من تتمته اعتراضا واستطرادا كأنه قيل: ذاك معتقدهم في المعاد وهذا في المبتدأ وهم فيما بين ذلك متدينون بهذا الدين القويم ومع اختلاف العقيدة في المبدأ والمعاد يدعون أن لهم الحسنى فيحق لهم ضد ذلك حقا ثم قال: وقوله تعالى وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ شديد الملائمة على هذا الوجه قوله سبحانه هنالك: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ [النحل: ٣٩]، ولقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: ٤٤] وفيه أن من استبان له الهدى بهذا البيان استغنى عن ذلك البيان حيث لا ينفعه إلا العلم بكذبه وهذا أنسب لتأليف النظم اه.
وأنت تعلم أن احتمال العطف بعيد، والمراد بالكتاب القرآن فإنه الحقيق بهذا الاسم، والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي ما أنزلناه عليك لعلة من العلل إلا لتبين لهم اختلفوا فيه من البعث وقد كان فيهم من يؤمن به وأشياء من التحليل والتحريم والإقرار والإنكار ومقتضى رجوع الضمائر السابقة إلى الأمم السالفة أن يرجع ضمير إليهم واخْتَلَفُوا إليهم أيضا لكن منع عنه عدم تأتي تبيين الذي اختلفوا فيه لهم فمنهم من جعله راجعا إلى قريش لأن البحث فيهم ومنهم من جعله راجعا إلى الناس مطلقا لعدم اختصاص ذلك بقريش ويدخلون فيه دخولا أوليا.
وَهُدىً وَرَحْمَةً عظيمين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خصهم بالذكر لكونهم المغتنمين آثاره. والاسمان- قال أبو حيان:
- في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله والناصب أَنْزَلْنا ولما اتحد الفاعل في العلة والمعلول وصل الفعل لهما بنفسه، ولما لم يتحد في لِتُبَيِّنَ لأن فاعل الإنزال هو الله تعالى لا الرسول عليه الصلاة والسلام وصلت العلة بالحرف.
وقال الزمخشري: هما معطوفان على محل لِتُبَيِّنَ وهو ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا فيعطف منصوب عليه، ألا ترى أنه لو نصب لم يجز لاختلاف الفاعل اه. وتعقب بأن معنى كونه في محل نصب أنه في محل لو خلا من الموانع ظهر نصبه وهو هنا كذلك لمن تأمل فقوله ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا ليس على ما ينبغي.
وقال الحلبي: إن ذلك ممنوع إذ لا خلاف في أن محل الجار والمجرور والنصب ولذا أجازوا مررت بزيد وعمرا بالعطف على المحال وللخفاجي هاهنا كلام إن أردته فارجع إليه وراجع، ولعله إنما قدمت علة التبيين على علتي الهدى والرحمة لتقدمه في الوجه في الوجود عليهما وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً تقدم الكلام في مثله، وهذا على ما قيل تكرير لما سبق تأكيدا لمضمونه وتوحيدا لما يعقبه من أدلة التوحيد فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بما أنبت به فيها من أنواع النباتات بَعْدَ مَوْتِها بعد يبسها فالإحياء والموت استعارة للإنبات واليابس، وليس المراد إعادة اليابس بل إنبات مثله، والفاء للتعقيب العادي فلا ينافيه ما بين المتعاطفين من المهلة، ونظير ذلك تزوج فولد له ولد، والآية دليل لمن قال: إن المسببات بالأسباب لا عندها ومن قال به أول إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض ميتة لَآيَةً وأية آية دالة على وحدته سبحانه وعلمه وقدرته وحكمته جل شأنه، والإشارة بما يدل على البعد إما لتعظيم المشار إليه أو لعدم ذكره صريحا لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ قال المولى ابن الكمال: أريد بالسمع القبول كما في سمع الله لمن حمده أي لقوم يتأملون فيها ويعقلون وجه دلالتها ويقبلون مدلولها، وإنما خص كونها آية لهم لأن غيرهم لا ينتفع بها وهذا كالتخصيص في قوله تعالى: هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: ٥٢] وربما قررناه تبين وجه
413
العدول عن- يبصرون- إلى يَسْمَعُونَ انتهى، وقال الخفاجي: اللائق بالمقام ما ذكره الشيخان وبيانه أنه تعالى لما ذكر أنه أرسل إلى الأمم السالفة رسلا وكتبا فكفروا بها فكان لهم خزي في الدنيا والآخرة عقبه بأنه أرسله ﷺ بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة لمن أرسل إليه إشارة إلى أن مخالفة أمته لمن قبلهم تقربهم من سعادة الدارين وتبشيرا له عليه الصلاة والسلام بكثرة متابعيه وقلة مناويه وأنهم سيدخلون في دينه أفواجا أفواجا ثم أتبع ذلك على سبيل التمثيل لإنزاله تلك الرحمة التي أحيت من موتة الضلال إنزال الأمطار التي أحيت موات الأرض وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ولولا هذا لكان قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً كالأجنبي عما قبله وبعده، وقوله سبحانه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إلخ تتميم لقوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا إلخ وللمقصود بالذات منه فالمناسب يَسْمَعُونَ لا يبصرون ولو كان تتميما لملاصقة من الإنبات لم يكن- ليسمعون- بمعنى يقبلون مناسبة أيضا، ثم قال: ومن لم يقف على محط نظرهم قال في جوابه: يمكن أن يحمل على يسمعون قولي والله أنزل إلخ فإنه مذكر وحامل على تأمل مدلوله انتهى، وفي قوله عقبه: بأنه أرسله ﷺ بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة إشارة إلخ خفاء كما لا يخفى، ومتى كان تتميما لقوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا إلخ لم يظهر جعل المشار إليه ما سمعت وهو الظاهر، وفي البحر أنه تعالى لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة للأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد ولذلك ختم بقوله سبحانه لقوم يؤمنون أي يصدقون والتصديق محله القلب ذكر سبحانه إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب بقائها ثم أشار سبحانه بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن كما قال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام:
١٢٢] فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتا بالجهل ولذلك ختم تعالى بقوله سبحانه: يَسْمَعُونَ أي يسمعون هذا التشبيه المشار إليه والمعنى سماع انصاف وتدبر، ولملاحظة هذا المعنى والله تعالى أعلم لم يختم سبحانه- بلقوم يبصرون- وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد انتهى.
وفيه أيضا من التكلف ما فيه، وأقول: لعل الأظهر أن المشار إليه ما ذكر من الإنزال والإحياء والسماع على ظاهره والكلام تتميم لملاصقه والعدول عن يبصرون إلى يَسْمَعُونَ للإشارة إلى ظهور هذا المعتبر فيه وأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط، ويكفي في ربط الآية بما قبلها تشارك الكتاب والمطر في الإحياء لكن في ذاك إحياء القلوب وفي هذا إحياء الأرض الجدوب فتأمل وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً أي معبرا يعبر به من الجهل إلى العلم، وأصل معنى العبر والعبور والتجاوز من محل إلى آخر، وقال الراغب: العبور مختص بتجاوز الماء بسباحة ونحوها، والمشهور عمومه فاطلاق العبرة على ما يعتبر به لما ذكر لكنه صار حقيقة في عرف اللغة؟ والتنكير للتفخيم أي لعبرة عظيمة نُسْقِيكُمْ استئناف بياني كأنه قيل كيف العبرة فيها؟ فقيل: نسقيكم مِمَّا فِي بُطُونِهِ ومنهم من قدر هنا مبتدأ وهو هي نسقيكم ولا حاجة إليه، وضمير بُطُونِهِ للأنعام وهو اسم جمع واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار لفظه وتأنيثه وجمعه باعتبار معناه، ولذا جاء الوجهين في القرآن وكلام العرب كذا قيل.
ونقل عن سيبويه أنه عد الأنعام مفردا وكلامه رحمه الله تعالى متناقض ظاهرا فإنه قال في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه: وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها لأنها ضارعت الواحد، ألا ترى أنك تقول: أقوال وأقاويل وأعراب وأعاريب وأيد وإياد فهذه الأحرف تخرج إلى مفاعل ومفاعيل كما يخرج الواحد إليه إذا فسر للجمع، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا لأن هذا هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت، ثم
414
قال: وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس فإنك تخرجه إلى فعائل كما تقول جدود وجدائد وركوب وركائب. ولو فعلت ذلك بما فعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء، ويقوي ذلك أن بعض العرب تقول: أتى للواحد فيضم الألف، وأما أفعال فقد يقع للواحد ومن العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ وقال أبو الخطاب سمعت العرب تقول: هذا ثوب أكياس انتهى.
وقال رحمه الله تعالى في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام أفعيل ولا أفعول ولا أفعال ولا أفعل ولا أفعال إلا أن تكسر عليه أسماء للجمع انتهى، وقد اضطرب الناس في التوفيق بين كلاميه فذهب أبو حيان إلى تأويل الأول وإبقاء الثاني على ظاهره من أن أفعالا لا يكون من أبنيته المفرد فحمل قوله أولا وأما أفعال فقد يقع للواحد إلخ: على أن بعض العرب قد يستعمله فيه مجازا كالأنعام بمعنى النعم كما قال الشاعر:
تركنا الخيل والنعم المفدى وقلنا للنساء بها أقيمي
وليس مراده أنه مفرد صيغة ووضعا بدليل ما صرح به في الموضع الآخر من أنه لا يكون إلا جمعا. واعترض عليه بأن مقصود سيبويه بما ذكره أولا الفرق بين صيغتي منتهى الجموع وأفعال وفعول حيث منع الصرف للأول دون الثاني بوجوه: منها أن الأولين لا يقعان على الواحد بخلاف الآخيرين كما أوضحه فلو لم يكن وقوع أفعال على الواحد بالوضع لم يحصل الفرق فلا يتم المقصود. نعم لا كلام في تدافع كلاميه، وأيضا لو كان كذلك لم يختص ببعضهم، وأيضا إن التجوز بالجمع عن الواحد يصح في كل جمع حتى صيغتي منتهى الجموع. وتعقبه الخفاجي بقوله: والحق أنه لا تدافع بين كلاميه فإنه فرق بين صيغتي منتهى الجموع والصيغتين الأخيرتين بأن الأولتين لا تجمعان والأخيرتان تجمعان فأشبهتا الآحاد ثم قوى ذلك بأن قوما من العرب استعملت أتى وهو على وزن فعول مفردا حقيقة، ومنهم من استعمل الأنعام وهو على وزن أفعال كذلك، وقد أشار إلى أن ذلك لغة نادرة ببعض، ومن ما ذكره بعد بناء على اللغة المتداولة، وقوله: إن مقصوده أولا الفرق بوجوه لا وجه له كما يعرفه حملة الكتاب انتهى، ويعلم منه أن رجوع الضمير المفرد المذكر إلى الأنعام عند سيبويه باعتبار أنه مفرد على لغة بعض العرب ومن قال: إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض أما المقدر أي بعض الأنعام أو المفهوم منها أو للأنعام باعتبار بعضها وهو الإناث التي يكون اللبن منها أو لواحده كما في قول ابن الحاجب: المرفوعات هو ما اشتمل على علم الفاعلية أو له على المعنى لأن أل الجنسية تسوي بين المفرد والجمع في المعنى فيجوز عود ضمير كل منهما على الآخر. وفي البحر أعاد الضمير مذكرا مراعاة الجنس لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه حجاز عوده عليه مذكرا كقولهم هو أحسن الفتيان وأبتله لأنه يصح هو أحسن فتى وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه وقيل جمع التكثير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة ومعاملة الجمع فيعود الضمير عليه مفردا كقوله:
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
وهو في القرآن سائغ ومنه قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [المدثر: ٥٤، ٥٥] فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي [الأنعام: ٧٨] ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازي فلا يجوز جاريتك ذهب.
واعترض بأنه كيف جمع- نعم- وهي تخصيص بالإبل والإنعام تقال للبقر والإبل والغنم مع أنه لو اختص كان مساويا.
وأجيب بأن من يراه جمعا له يخص الأنعام أو يعمم النعم ويجعل التفرقة ناشئة من الاستعمال ويجعل الجمع للدلالة على تعدد الأنواع.
وقرأ ابن مسعود بخلاف عنه. والحسن، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. وابن عامر. ونافع. أبو بكر. وأهل
415
المدينة نُسْقِيكُمْ بفتح النون هنا وفي المؤمنين على أن مضارع سقى وهو لغة في أسقى عند جمع وأنشدوا قول لبيد:
سقى قومي بني مجد وأسقي... نميرا والقبائل من هلال
وقال بعض: يقال سقيته لشفته وأسقيته لماشيته وأرضه، وقيل: سقاه بمعنى رواه بالماء وأسقاه بمعنى جعله شرابا معدا له، وفيه كلام بعد فتذكر. وقرأ أبو رجا «يسقيكم» بالياء مضمومة والضمير عائد على الله تعالى.
وقال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون عائدا على النعم وذكر لأن النعم مما يذكر ويؤنث، والمعنى وإن لكم في الأنعام نعما يسقيكم أي يجعل لكم سقيا. وهو كما ترى. وقرأت فرقة منهم أبو جعفر «تسقيكم» بالتاء الفوقية مفتوحة قال ابن عطية: وهي قراءة ضعيفة انتهى، ولم يبين وجه ضعفها، وكأنه والله تعالى أعلم عنى به اجتماع التأنيث في «تسقيكم» والتذكير في بُطُونِهِ وغفل أن مثل ذلك لا يعد ضعفا لأن التأنيث والتذكير باعتبار وجهين.
مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً الفرث على ما في الصحاح السرجين ما دام في الكرش والجمع فروث. وفي البحر كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو المعي، وبَيْنِ تقتضي متعددا وهو هنا الفرث والدم فيكون مقتضى ظاهر النظم توسط اللبن بينهما، وروى ذلك الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن البهيمة إذا اعتلفت وأنضج العلف في كرشها كان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما.
وروي نحوه عن ابن جبير فالبينية على حقيقتها وظاهرها وتعقب ذلك الإمام الرازي بقوله: ولقائل أن يقول:
اللبن والدم لا يتولدان في الكرش والدليل عليه الحس فإن الحيوانات تذبه دائما ولا يرى في كرشها شيء من ذلك ولو كان تولد ما ذكر فيه لوجب أن يشاهد في بعض الأحوال والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل إلى معدته وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء ثم ذلك الذي يحصل في الكبد ينضج ويصير دما وذلك هو الهضم الثاني ويكون ذلك مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، أما الصفراء فتذهب إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والماء إلى الكلية ومنها إلى المثانة، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة والعروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث، وبين الكبد والضرع عروق كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع، والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم فيه إلى صورة اللبن، لا يقال: إن هذه المعنى حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن لأنا نقول: الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته فأوجبت أن يكون مزاج الذكر حارا يابسا ومزاج الأنثى باردا رطبا فإن الولد إنما يتولد في داخل بدن الأنثى فكان اللائق بها اختصاصها بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببا لقبول التمدد فتتسع للولد، ثم إن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لغذائه كما كانت كذلك قبل في الرحم، ومن تدبر في بدائع صنع الله تعالى فيما ذكر من الاخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها وتسخير القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه سبحانه وقدرته وحكمته وتناهي رأفته ورحمته:
حكم حارت البرية فيها... وحقيق بأنها تحتار
وحاصل ما ذكروه أنه إذا ورد الغذاء الكرش انطبخ فيه وتميزت منه أجزاء لطيفة تنجذب إلى الكبد فينطبخ فيها فيحصل الدم فتسري أجزاء منه إلى الضرع ويستحيل لبنا بتدبير الحكيم العليم، وحينئذ فالمراد أن اللبن إنما يحصل من
416
بين أجزاء الفرث ثم من بين أجزاء الدم فالبينية على هذا مجازية وفي إرشاد العقل السليم وغيره لعل المراد بما روي (١) عن ابن عباس أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يغذو البدن فإن عدم تكونهما في الكرش مما لا ريب فيه والداعي إلى ذلك مخالفة ما يقتضيه الظاهر للحس ولما ذكره الحكماء أهل التشريح. ويؤيد ما ذكروه ما أخبرني به من أثق به من أنه قد شاهد خروج الدم من الضرع بعد اللبن عند المبالغة في الحلب والله تعالى أعلم، ومِنْ الأولى تبعيضية لما أن اللبن بعض ما في بطون الأنعام لأنه مخلوف من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث حسبما سمعت، وهي متعلقة- بنسقيكم- ومِنْ الثانية ابتدائية وهي أيضا متعلقة- بنسقيكم- فإن بين الدم والفرث المحل الذي يبتدأ منه الاسقاء وتعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما ولَبَناً مفعول ثان- لنسقيكم- وتقديم ذلك عليه لما مر مرارا من أن تقديم ما حقه التأخير يبعث للنفس شوقا إلى المؤخر موجبا لفضل تمكنه عند وروده عليها لا سيما إذا كان المقدم متضمنا لوصف مناف لوصف المؤخر كالذي نحن فيه، فإن بين وصفي المقدم والمؤخر تنافيا وتنائيا بحيث لا يتراءى نارهما فإن لذلك مما يزيد الشوق والاستشراف إلى المؤخر، وجوز أن يكون مِنْ بَيْنِ حالا من لَبَناً قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة.
وجوز أن تكون مِنْ الأولى ابتدائية كالثانية فيكون مِنْ بَيْنِ بدل اشتمال مما تقدم خالِصاً مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه أو صافيا لا يستصحبه لون الدم ولا رائحة الفرث سائِغاً لِلشَّارِبِينَ سهل المرور في حلقهم لدهنيته.
أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال: «ما شرب أحد لبنا فشرق إن الله تعالى يقول لبنا خالصا سائغا للشاربين».
وقرأت فرقة «سيّغا» بتشديد الياء. وقرأ عيسى بن عمر «سيغا» مخففا من سيغ كهين المخفف من هين واستدل بالآية على طهارة لبن المأكول وإباحة شربه، وقد احتج بعض من يرى على أن المني طاهر على من جعله نجسا لجريه في مسلك البول بها أيضا وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهرا.
وفي التفسير الكبير قال أهل التحقيق: اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار يدل على إمكان الحشر والنشر، وذلك لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيرا انقلب به لبنا ثم دبر تدبيرا آخر حدث من ذلك اللبن الدهن والجبن، وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضا أن يكون قادرا على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع.
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ متعلق بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما، وحذف لدلالة نُسْقِيكُمْ قبله عليه، وقوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً بيان وكشف عن كنه الاسقاء أو- بتتخذون- ومِنْهُ من تكرير الظرف للتأكيد كما في قولك زيد في الدار فيها أو خبر لمحذوف صفته تَتَّخِذُونَ أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه وضمير مِنْهُ عائد إلى على المضاف المقدر أو على الثمرات المؤولة بالثمر لأنه جمع معرف أريد به الجنس، وفائدة الصيغة الإشارة إلى تعداد الأنواع أو على ثمر المقدر، و «السكر» الخمر قال الأخطل:
(١) أي أن صح اه منه.
417
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء (١) والسكر
وهو في الأصل مصدر سكر سكرا وسكرا نحو رشد رشدا ورشدا. واستشهد له بقوله:
وجاؤونا بهم سكر علينا فأجلى اليوم والسكران صاحي
وفسروا الرزق الحسن بالخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك، وإليه ذهب صاحب الكشاف وقد ذكر في توجيه إعرابها ما ذكرناه، وقدم الوجه الأول من أوجهه الثلاثة وهو ظاهر في ترجيحه وصرح به الطيبي وبينه بما بينه، وأخر الثالث وهو ظاهر في أنه دون أخويه. وفي الكشف بعد نقل كلامه في الوجه الأول فيه إضمار العصير وأنه لا يصلح عطفا في الظاهر على السابق لأنه لا يصلح بيانا للعبرة في الأنعام، وفيه أن تَتَّخِذُونَ لا يصلح كشفا عن كنه الإسقاء كيف وقد فسر الرزق الحسن بالتمر والزبيب أيضا وأي مدخل للعصير وأين هذا البيان من البيان بقوله تعالى: نُسْقِيكُمْ ليجعل مدركا لترجيحه فهذا وجه مرجوح مؤول بأنه عطف على مجموع السابق، وأوثر الفعلية لمكان قربه من نُسْقِيكُمْ وقوله تعالى تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً تم البيان عنده ثم أتي بفائدة زائدة، وأظهر الأوجه ما ذكر آخرا أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخدون ليكون عطفا للاسمية على الاسمية أعني قوله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ولما لم يكن العبرة فيه كالأول اكتفي بكونه عطفا على ما هو عبرة ولم يصرح، وأفيد بالتبعيض أن من ثمراتها ما يؤكل قبل الإدراك وما يتلف ويأكل الوحوش وغير ذلك اه، وما ذكره في التأويل من بيان البيان عند سَكَراً محوج إلى جعل رِزْقاً معمولا لعامل آخر ولا يخفى بعده، والظاهر أنه لا ينكره، وما ذكره من الوجه الأظهر ذكره الحوفي كصاحبه، ولا يرد عليه أن فيه حذف الموصوف بالجملة لأن ذلك إذا كان الموصوف بعضا من مجرور من أو في المقدم عليه مطرد نحو منا أقام ومنا ظعن أراد فريق، وقد يحذف موصوفا بالجملة في غير ذلك كقول الراجز:
ما لك عندي غير سهم وحجر وغير كبداء شديد الوتر
جادت بكفّي كان من أرمى البشر أراد رجل نعم قال الطبري: التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين وكأنه اعتبر ما موصولة وحذف الموصول مع إبقاء الصلة لا يجوز عنهم، ولعلهم يفرقون بين الموصول والموصوف فيما ذكر، وقال العلامة ابن كمال في بعض رسائله: لا وجع لما اختاره صاحب الكشاف يغني به تعليق الجار- بنسقيكم- محذوفا وتقدير العصير مضافا لأنه حينئذ لا يتناول المأكول وهو أعظم صنفي ثمراتهما يعني النخيل والأعناب والمقام مقام الامتنان ومقتضاه استيعاب الصنفين ثم قال: والعجب منه وممن اتبعه كالبيضاوي كيف اتفقوا على تفسير الرزق الحسن بما ينتظم التمر والزبيب ومع ذلك يقولون: إن المعنى ومن عصيرهما تتخذون سكرا ورزقا حسنا فإنه لا انتظام بين هذين الكلامين فالوجه أن يتعلق الجار- بتتخذون- ويكون منه تكرير الظرف للتأكيد اه وهو الذي استظهره أبو حيان وقد سبقت الإشارة إلى الاعتراض بما تعجب منه مع الجواب بما فيه بعد، ونقل عنه أنه جعله متعلقا بما في الاسقاء من معنى الإطعام أي نطعمكم من ثمرات النخيل والأعناب لينتظم المأكول منهما والمشروب المتخذ من عصيرهما. وفيه من البعد ما فيه.
(١) هو نوع من الأشربة اه عنه.
418
وأنت تعلم أن تقدير العصير على الوجه الأول عند من يراه لازم، وتقديره على الوجه الثاني جائز عند ذاك أيضا ولا يجوز عند المعترض. واختار أبو البقاء تعليقه بخلق لكم أو جعل وليس بذاك، وقيل: إنه معطوف على الأنعام على معنى ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة وَتَتَّخِذُونَ بيان لها وهو غير الوجه الذي استظهره صاحب الكشف وكان الظاهر- في- بدل من وضمير مِنْهُ لا يتعين فيه ما سمعت كما لا يخفى عليك بعد أن أحطت خبرا بما قيل في ضمير بُطُونِهِ وتفسير «السكر» بالخمر هو المروي عن ابن مسعود. وابن عمر. وأبي رزين. والحسن. ومجاهد.
والشعبي. والنخعي. وابن أبي ليلى. وأبي ثور. والكلبي. وابن جبير مع خلق آخرين، والآية نزلت في مكة والخمر إذ ذاك كانت حلالا يشربها البر والفاجر وتحريمها إنما كان بالمدينة اتفاقا واختلفوا في أنه قبل أحد أو بعدها والآية المحرمة لها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:
٩٠] على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها، وروى ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي وأبي ثور وابن جبير، وقيل: نزلت قبل ولا نسخ بناء على ما روي عن ابن عباس أن «السكر» هو الخل بلغة الحبشة أو على ما نقل عن أبي عبيدة أن «السكر» المطعوم المتفكه به كالنقل وأنشده:
جعلت اعراض الكرام سكرا وتعقب بأن كون السكر في ذلك بمعنى الخمر أشبه منه بالطعام، والمعنى أنه لشغفه بالغيبة وتمزيق الأعراض جرى ذلك عنده مجرى الخمر المسكرة، وكأنه لهذا قال الزجاج: إن قول أبي عبيدة لا يصح، وفيه أن المعروف في الغيبة جعلها نقلا ولذا قيل: الغيبة فاكهة القراء، وإلى عدم النسخ ذهب الحنفيون وقالوا: المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة، واستدلوا عليه بأن الله تعالى امتنّ على عباده بما خلق لهم من ذلك ولا يقع الامتنان إلا بمحلل فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز وعضدوا هذا من السنة بما
روي عن النبي ﷺ قال: «حرم الله تعالى الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر (١) من كل شراب» أخرجه الدارقطني،
وإلى حل شرب النبيذ ما لم يصل إلى الإسكار ذهب إبراهيم النخعي: وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه. وسفيان الثوري وهو من تعلم وكان عليه الرحمة يشربه كما ذكر ذلك القرطبي في تفسيره. والبيضاوي بعد أن فسر «السكر» بالخمر تردد في أمر نزولها فقال: إلا أن الآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر فدالة على كراهيتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة، ووجه دلالتها على الكراهية بأن الخمر وقعت في مقابلة الحسن وهو مقتضى لقبحها والقبيح لا يخلو عن الكراهة وإن خلا عن الحرمة، واعترض عليه بأن تردده هنا في سبقها على تحريم الخمر ينافي ما في سورة البقرة حيث ساق الكلام على القطع أنه جزم في أول هذه السورة بأنها مكية إلا ثلاث آيات من آخرها.
وفي الكشاف بعد أن فسر «السكر» أيضا بما ذكر قال: وفيه وجهان: أحدهما أن تكون منسوخة، والثاني أن يجمع بين العتاب والمنة، ونقل صاحب الكشف أن القول بكونها منسوخة الأقاويل، ثم قال: وفي الآية دليل على قبح تناولها تعريضا من تقييد المقابل بالحسن، وهذا وجه من ذهب إلى أنه جمع بين العتاب والمنة، وعلى الأول يكون رمزا إلى أن السكر وإن كان مباحا فهو مما يحسن اجتنابه اه. واستدل ابن كمال على نزولها قبل التحريم أن المقام لا يحتمل العتاب فإن مساق الكلام على ما دل عليه سياقه ولحاقه في تعداد النعم العظام، وذكر أن كلام الزمخشري ومن تبعه ناشئ عن الغفلة عن هذا، ولعل عدم وصف «السكر» بما وصف به ما بعده لعلم الله تعالى أنه سيكون رجسا يحكم
(١) بضم السين اه منه.
419
الشرع بتحريمه. وجوز الزمخشري أن يجعل السكر رزقا حسنا كأنه قيل: تتخذون منه ما هو مسكر ورزق حسن أي على أن العطف من عطف الصفات. وأنت تعلم أن العطف ظاهره المغايرة.
هذا ولما كان اللبن نعمة عظيمة لا دخل لفعل الخلق فيه إضافة سبحانه لنفسه بقوله تعالى: نُسْقِيكُمْ بخلاف اتخاذ السكر وقد صرح بذلك في البحر فتأمل إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً باهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل بالآيات فالفعل منزل منزلة اللازم، قال أبو حيان: ولما كان مفتتح الكلام وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ناسب الختم بقوله سبحانه:- يعقلون- لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول. وأنا أقول: إذا كان في الآية إشارة إلى الحط من أمر السكر ففي الختم المذكور تقوية لذلك وله في النفوس موقع وأي موقع حيث إن العقار كما قيل للعقول عقال:
إذا دارها بالأكف السقاة لخطابها أمهروها العقولا
فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ألهمها وألقى في روعها وعلمها بوجه لا يعلمه إلا اللطيف الخبير وفسر بعضهم الإيحاء إليها بتسخيرها لما أريد منها، ومنعوا أن يكون المراد حقيقة الإيحاء لأنه إنما يكون للعقلاء وليس النحل منها. نعم يصدر منها أفعال ويوجد فيها أحوال يتخيل بها أنها ذوات عقول وصاحبة فضل بمقصر عنه الفحول، فتراها يكون بينها واحد كالرئيس هو أعظمها جثة يكون نافذ الحكم على سائرها والكل يخدمونه ويحملون عنه وسمي اليعسوب والأمير، وذكروا أنها إذا نفرت عن وكرها ذهبت بجمعيتها إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا لها الطبول وآلات الموسيقى ورودها بواسطة تلك الألحان إلى وكرها، وهي تبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية والعقلاء لا يمكنهم ذلك إلا بآلات مثل المسطرة والفرجار وتختارها على غيرها من البيوت المشكلة بأشكال أخر كالمثلثات والمربعات والمخمسات وغيرها، وفي ذلك سر لطيف فإنهم قالوا: ثبت في الهندسة أنها لو كانت مشكلة بأشكال أخر يبقى فيما بينها بالضرورة فرج خالية ضائعة ولها أحوال كثيرة عجيبة غير ذلك قد شاهدها كثير من الناس وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والصوفية على ما ذكره الشعراني في غير موضع لا يمنعون إرادة الحقيقة، وقد أثبتوا في سائر الحيوانات رسلا وأنبياء والشرع يأبى ذلك. وذهب بعض حكماء الإشراق إلى ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات وأكاد أسلم لهم ذلك ولم نسمع عن أحد غير الصوفية القول بما سمعت عنهم، والنحل جنس واحده نحلة ويؤنث في لغة الحجاز ولذلك قال سبحانه: أَنِ اتَّخِذِي وقرأ ابن وثاب «النحل» بفتحتين وهو يحتمل أن يكون لغة وأن يكون اتباعا لحركة النون، وأَنِ إما مصدرية بتقدير باء الملابسة أي بأن اتخذي أو تفسيرية وما بعدها مفسر للإيحاء لأن فيه باعتبار معناه المشهور معنى القول دون حروفه، وذلك كاف في جعلها تفسيرية: وقد غفل عن ذلك أبو حيان أو لم يعتبره فقال: إن ذلك نظرا لأن الوحي هنا بمعنى الإلهام إجماعا وليس في الإلهام معنى القول مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً أو كارا، وأصل البيت مأوى الإنسان واستعمل هنا في الوكر الذي تبنيه النحل لتعسل فيه تشبيها له بما يبنيه الإنسان لما فيه من حسن الصنعة القسمة كما سمعت:
وقرئ «بيوتا» بكسر الباء لمناسبة الياء وإلا فجمع فعل على فعول بالضم.
وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أي يعرشه الناس أي يرفعه من الكروم كما روي عن ابن زيد وغيره أو السقوف كما نقل عن الطبري أو أعم منهما كما قال البعض، ومِنَ في المواضع الثلاثة للتبعيض بحسب الأفراد وبحسب الأجزاء فإن النحل لا يبني في كل شجر وكل جبل وكل ما يعرش ولا في كل مكان من ذلك، وبعضهم قال: إن مِنَ للتبعيض بحسب الأفراد فقط، والمعنى الآخر معلوم من خارج لا من مدلول مِنَ إذ لا يجوز استعمالها فيهما ولمولانا ابن كمال تأليف مفرد في المسألة فليراجع، وأيّا ما كان ففيه مع ما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى من
420
البديع صنعة الطباق، وتفسير البيوت بما تبنيه هو الذي ذهب إليه غير واحد، وقال أبو حيان: الظاهر أنها عبارة عن الكوى التي تكون في الجبال وفي متجوف الأشجار والخلايا التي يصنعها ابن آدم للنحل والكوى التي تكون في الحيطان، ولما كان النحل نوعين منه من مقره في الجبال والغياض ولا يتعهده أحد ومنه ما يكون في بيوت الناس ويتعهد في الخلايا ونحوها شمل الأمر بالاتخاذ البيوت النوعين.
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من جميعها، وهي جمع ثمرة محركة حمل الشجرة، وأخذ بظاهر ذلك ابن عطية فقال: إنما تأكل النوار من الأشجار، ويقال الثمرة للشجرة أيضا كما في القاموس، قيل: وهو المناسب هنا إذ التخصيص بحمل الشجر خلاف الواقع لعموم أكلها للأوراق والأزهار والثمار. وتعقب بأنه لا يخفى أن إطلاق الثمرة على الشجرة مجاز (١) غير معروف وكونها تأكل من غيرها غير معلوم وغير مناف للاقتصار على أكل ما ينبت فيها والعموم في كل على ما يشير إليه كلام البعض عرفي، وجوز أن يكون مخصوصا بالعادة أي كلي من كل ثمرة تشتهينها، وقيل: للتكثير، قال الخفاجي: ولو أبقي على ظاهره أيضا جاز لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها لأن الأمر للتخلية والإباحة، وأيّا ما- فمن- للتبعيض.
وقال الإمام: رأيت في كتب الطب أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء ظل لطيف في الليالي ويقع على أوراق الأشجار فقد تكون تلك الأجزاء لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة وهذا مثل الترنجبين فإنه ظل ينزل من الهواء ويجتمع على الأطراف في بعض البلدان، وأما القسم الأول فهو الذي ألهم الله تعالى النحل حتى تلتقطه من الأزهار وأوراق الأشجار بأفواهها وتغتذي به فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئا من تلك الأجزاء وذهبت به إلى بيوتها ووضعته هناك كأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها فالمجتمع من ذلك هو العسل، ومن الناس من يقول: إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرة أشياء ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلا ثم تقيئه، والقول الأول أقرب إلى العقل وأشد مناسبة للاستقراء، فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ولا شك أنه ظل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا هاهنا، وأيضا فنحن نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل حتى إنا إذا أخرجنا العسل من بيوتها تركنا لها بقية منه لغذائها، وحينئذ فكلمة من لابتداء الغاية اه. وأنت تعلم أن ظاهر كُلِي يؤيد القول الثاني وهو أشد تأييدا له من تأييد مشابهة الترنجبين للعسل في الطعم والشكل للقول الأول لا سيما وطبيعة العسل والترنجبين مختلفة، فقد ذكر بعض أجلة الأطباء أن العسل حار في الثالثة يابس في الثانية والترنجبين حار في الأولى رطب في الثانية أو معتدل. نعم لتلك المشابهة يطلق عليها اسم العسل فإن ترنجبين فارسي معناه عسل رطب لا طل الندا كما زعم وإن قالوا: هو في الحقيقة طل يسقط على العاقول بفارس ويجمع كالمن، ويجلب من التكرور شيء يسمى بلسانهم طنيط أشبه الأشياء به في الصورة والفعل لكنه أغلظ، والأمر في مشاهدة تغذيها بالعسل سهل فإنه ليس دائميا، وينقل عن بعض الطيور التي تكمن شتاء التغذي بالرجيع. ويؤيد المشهور ما
روي عن الأمير علي كرم الله تعالى وجهه في تحقير الدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيه لعاب دودة وأشرف شرابه رجيع نحل،
وجاء عنه كرم الله تعالى وجهه أيضا أما العسل فونيم ذباب،
وحمله على التمثيل خلاف الظاهر وعلى ذلك نظمت الأشعار فقال المعري:
والنحل يجني المر من زهر الربا فيعود شهدا في طريق رضابه
(١) يبعد هذا ذكره في القاموس اه منه.
421
وقال الحريري:
تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن ترد ذمه قيء الزنابير (١)
وأخبرني من أثق به أنه شاهد كثيرا حملها لأوراق الأزهار بفمها إلى بيوتها وهو مما يستأنس به للأكل، وسيأتي إن شاء الله تعالى أيضا ما يؤيده، فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ أي طرقه سبحانه راجعة إلى بيوتك بعد الأكل، فالمراد بالسبل مسالكها في العود، ويحكى أنها ربما أجدب عليها ما حولها فانتجعت الأماكن البعيدة للمرعى (٢) ثم تعود إلى بيوتها لا تضل عنها، وفي إضافة السبل إلى الرب المضاف إلى ضميرها إشارة إلى أنه سبحانه هو المهيء لذلك والميسر له والقائم بمصالحها ومعايشها، وقيل: المراد من السبل طرق الذهاب إلى مظان ما تأكل منه، وحينئذ فمعنى كُلِي اقصدي الأكل، وقيل: السبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها أي فاسلكي الطرق التي ألهمك ربك في عمل العسل، وقيل: مجاز عن طرق إحالة الغذاء عسلا، و «اسلكي» متعد من سلكت الخيط في الإبرة سلكا لا لازم من سلك في الطريق سلوكا، ومعوله محذوف أي فاسلكي ما أكلت في مسالكه التي يستحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من أجوافك.
وتعقب بأن السلك في تلك المسالك ليس فيه لها اختيار حتى تؤمر به فلا بد أن يكون الأمر تكوينيا، ورد بأنه ليس بشيء لأن الإدخال باختيارها فلا يضره كون الإحالة المترتبة عليه ليست اختيارية وهو ظاهر فليس كما زعم ذُلُلًا أي مذللة ذللها الله تعالى وسهلها لك فهو جمع ذلول حال من السبل وروي هذا عن مجاهد.
وجعل ابن عبد السلام وصف السبل بالذلل دليلا على أن المراد بالسبل مسالك الغذاء لا طرق الذهاب أو الإياب قال: لأن النحل تذهب وتؤوب في الهواء وهو ليس طرقا ذللا لأن الدلول هو الذي يذلل بكثرة الوطء والهواء ليس كذلك وفيه نظر.
وقال قتادة: أي مطيعة منقادة فهو حال من الضمير في فَاسْلُكِي يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها استئناف عدل به عن خطاب النحل إلى الكلام مع الناس لبيان ما يظهر منها من تعاجيب صنع الله تعالى التي هي موضع عبرتهم بعد ما أمرت بما أمرت شَرابٌ يعني العسل، وسمي بذلك لأنه مما يشرب حتى قيل: إنه لا يقال: أكلت عسلا وإنما يقال: شربت عسلا، وكأنه سبحانه إنما لم يعبر بالإخراج مسندا إليه تعالى اكتفاء بإسناد الإيحاء بالمبادي إليه جل شأنه وفيه إيذان بعظيم قدرته عز وجل بحيث إن ما يشعر بإرادة الشيء كاف في حصوله. ومِنْ لابتداء الغاية، وذكر سبحانه مبدأ الغاية الأولى وهي البطون ولم يذكر سبحانه مبدأ الغاية الأخيرة والجمهور على أنه يخرج من أفواهها، وزعم بعضهم أنه أبلغ في القدرة، وبيت الحريري على ذلك وكذا قول الحسن: لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم، وقيل: من أدبارها وهو ظاهر ما روى عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه.
وقال آخرون: لا ندري إلا ما ذكره الله تعالى. وحكي أن سليمان عليه السلام. والإسكندر. وأرسطو صنعوا لها بيوتا من زجاج لينظروا إلى كيفية صنيعها وهل يخرج العسل من فيها أم من غيره فلم تضع من العسل شيئا حتى لطخت باطن الزجاج بالطين بحيث يمنع المشاهدة، وقال بعضهم: المراد بالبطون الأفواه، وسمي الفم بطنا لأنه في حكمه ولأنه مما يبطن ولا يظهر، وهذا تأويل من ذهب إلى أنها تلتقط الذرات الصغيرة من الطل وتدخرها في بيوتها وهو العسل. وأنت تعلم أن الظاهر من البطن الجارحة المعروفة فالآية تؤيد القول المشهور في تكون العسل. وفي الكشف
(١، ٢) في نسخة وإن ذممت تقل قيء الزنابير اه منه. [.....]
422
أن في قوله تعالى: ثُمَّ كُلِي إشارة إلى أن لمعدة النحل في ذلك تأثيرا وهو المختار عند المحققين من الحكماء، ومن جعل العسل نباتيا محضا وفسر البطون بأفواه النحل فليت شعري ماذا يصنع بقوله سبحانه: ثُمَّ كُلِي وأجيب بأنّه يفسر الأكل بالالتقاط وهو كما ترى أن دفع الفساد لا يدفع الاستبعاد، ومن الناس من زعم أنها تجتني زهرا وطلا فالمجتنى من الزهر نفسه يكون عسلا والمجتنى من الطل يكون موما (١) والعقل يجوز العكس ولعله أقرب من ذلك مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ بالبياض والصفرة والحمرة والسواد إما لمحض إرادة الصانع الحكيم جل جلاله وإما لاختلاف المرعى أو لاختلاف الفصل أو لاختلاف سن النحل، فالأبيض لفتيها والأصفر لكهلها والأحمر لمسنها والأسود للطاعن في ذلك جدا.
وتعقب بأنه مما لا دليل عليه، وقد سألت جمعا ممن أثق بهم قد اختبروا أحوالها فذكروا أنهم قد استقرؤوا وسبروا فرأوا أقوى الأسباب الظاهرة لاختلاف الألوان اختلاف السن بل قال بعضهم: ما علمنا لذلك سببا إلا هذا بالاستقراء، وحينئذ يكون ما ذكر مؤيدا للقول المشهور في تكون العسل كما لا يخفى على من له أدنى ذوق.
فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض إذ قلما يكون معجون لا يكون فيه عسل فله دخل في أكثر ما به الشفاء من المعاجين والتراكيب، وقيل عليه: إن دخوله في ذلك لا يقتضي أن يكون له دخل في الشفاء بل عدم الضرر إذ قيل: إن إدخاله في التراكيب لحفظها ولذا ناب عنه في ذلك السكر، والذي رأيناه في كثير من كتب الطب أنه يحفظ قوى الأدوية طويلا ويبلغها منافعها، ولا يخفى على المنصف أن ما يحفظ القوى ويبلغ منافع الدواء يصدق عليه أن له دخلا في الشفاء، ولم يشتهر أن السكر ينوب منابه في ذلك.
وفي البحر أن العسل موجود كثيرا في أكثر البلاد وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث مصنوع للبشر، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان يجعل في الأدوية والأشربة إلا العسل اه، وفي شرح الشمائل أنه عليه الصلاة والسلام لم يأكل السكر، وذكر غير واحد أنه ليس المراد بالناس هنا العموم لأن كثيرا من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل كأمراض الصفراء فإنه مضر للصفراوي، ولو يسلم أن السكنجبين الذي الذي هو خل وعسل كما ينبئ عنه أصل معناه نافع له، والنافع نوع آخر من السكنجبين فإنه ثقل إلى ما ركب من حامض وحلو، وله أنواع كثيرة ألفت في جمعها الرسائل حتى قالوا بحرمة تناوله عليه وإنما المراد بالناس الذين ينجع العسل في أمراضهم، والتنوين في شِفاءٌ إما للتعظيم أي شفاء أي شفاء، وإما للتبعيض أي فيه بعض الشفاء فلا يقتضي أن كل شفاء به ولا أن كل أحد يستشفي به.
ولا يرد أن اللبن أيضا كذلك بل قلما يوجد شيء من العقاقير إلا وفيه شفاء للناس بهذا المعنى لما قيل: إن التنصيص على هذا الحكم فيه لإفادة ما يكاد يستبعد من اشتمال ما يخرج على اختلاف ألوانه من هذه الدود التي هي أشبه شيء بذوات السموم ولعلها ذات سم أيضا فإنها تلسع وتؤلم وقد يرم الجلد من لسعها وهو ظاهر في أنها ذات سم على شِفاءٌ لِلنَّاسِ ويفهم من ظاهر بعض الآثار أن الكلام على عمومه. فقد أخرج حميد ابن زنجويه عن نافع ان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا حتى الدمل إذا كان به طلاه عسلا فقلنا له: تداوي الدمل بالعسل فقال: أليس الله تعالى يقول فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ؟.
وأنت تعلم أنه لا بأس بمداواة الدمل بالعسل فقد ذكر الأطباء أنه ينقي الجروح ويدمل ويأكل اللحم الزائد
(١) قوله يكون موما هذه لفظة تركية ومعناها بالعربية الشمع اه.
423
والحق أنه لا مساغ للعموم إذ لا شك في وجود مرض لا ينفع فيه العسل، والآثار المشعرة بالعموم الله تعالى أعلم بصحتها. وأما ما
أخرجه أحمد. والبخاري. ومسلم. وابن مردويه «عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه فقال: اسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال: سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا قال: اذهب فاسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال: ما زاده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله تعالى وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه فبرأ»
فليس صريحا في العموم لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد علمه الله سبحانه أن داء هذا المستطلق مما يشفى بالعسل فإن بعض الاستطلاق قد يشفى بالعسل، ففي طبقات الأطباء أنه إنما قال ﷺ ذلك لأنه علم أن في معدة المريض رطوبات لزجة غليظة قد أزلقت معدته فكلما مر به شيء من الأدوية القابضة لم يؤثر فيه والرطوبات باقية على حالها والأطعمة تزلق عنها فيبقى الإسهال فلما تناول العسل جلا تلك الرطوبات وأحدرها فكثر الإسهال أولا بخروجها وتوالي ذلك حتى نفذت الرطوبة بأسرها فانقطع إسهاله وبرئ،
فقوله صلى الله عليه وسلم: «صدق الله تعالى»
يعني بالعلم الذي عرف نبيه عليه الصلاة والسلام به،
وقوله «كذب بطن أخيك»
يعني ما كان يظهر من بطنه من الإسهال وكثرته بطريق العرض وليس هو بإسهال ومرض حقيقي فكان بطنه كاذبا اه. وقال بعضهم: المراد- بصدق الله تعالى- صدق سبحانه في أن العسل فيه الشفاء،
وقوله عليه الصلاة والسلام: «كذب بطن أخيك»
من المشاكلة الضدية كقولهم: من طالت لحيته تكوسج عقله، وهو على الأول استعارة مبنية على تشبيه البطن بالكاذب في كون ما ظهر من إسهالها ليس بأمر حقيقي وإنما هو لما عرض لها، وعلى ذلك قول الأطباء: زحير كاذب وزحير صادق. وأنكر بعضهم هذا النوع من المشاكلة وقال: إنها ليست معروفة وإنه إنما عبر به لأن بطنه كأنه كذب قوله الله تعالى بلسان حاله وهو ناشئ من قلة الاطلاع. وقد وقع نظير هذه القصة في زمن المأمون، وذلك أن ثمامة العبسي وكان من خواصه مرض بالإسهال فكان يقوم في اليوم والليلة مائة مرة وعجز الأطباء عن علاجه فعالجه يزيد بن يوحنا طبيب المأمون بالمسهل أيضا فبرئ وكان قد ظن الأطباء أنه يموت بسبب ذلك ولا يبقى لغده، وذكر الطبيب حين سأله المأمون عن وجه الحكمة فيما فعل فذكر أنه كان في جوف الرجل كيموس فاسد فلا يدخله غذاء ولا دواء إلا أفسده فعلمت أنه لا علاج له إلا قلع ذلك بالإسهال، ومنه يعلم أن ما فعله النبي ﷺ كان من معجزاته الدالة على علمه بدقائق الطب من غير تعليم، وكذا يعلم أن ما طعن به بعض الملحدين ومن في قلبه مرض من أنه كيف يداوي الإسهال بالعسل وهو مسهل باتفاق الأطباء ناشئ عن الجهل بالدقائق وعدم الوقوف على الحقائق. ونقل عن مجاهد. والضحاك. والفراء، وابن كيسان وهو رواية عن ابن عباس. والحسن أن ضمير فِيهِ للقرآن والمراد أن في القرآن شفاء لأمراض الجهل والشرك وهدى ورحمة، واستحسن ذلك ابن النحاس.
وقال القاضي أبو بكر العربي: أرى هذا القول لا يصح نقله عن هؤلاء ولو صح نقلا لم يصح عقلا فإن سياق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر، ورجوع الضمير للكتاب في قوله سبحانه: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مما لا يكاد يقوله أمثال هؤلاء الكرام والعلماء الأعلام. نعم كون القرآن شفاء مما لا كلام فيه، وقد أخرج الطبراني. وغيره عن ابن مسعود «عليكم بالشفاءين العسل والقرآن» هذا.
وقدم سبحانه الأخبار عن إنزال الماء لما أن الماء أتم نفعا وأعظم شأنا وهو أصل أصيل لتكون اللبن وما بعده، ثم ذكر اللبن لأنه يحتاج إليه أكثر من غيره مما ذكر بعده، وقد يستغنى بشربه عن شرب الماء كما شاهدنا ذلك من بعض متزهدي زماننا فقد ترك شرب الماء عدة من السنين مكتفيا بشرب اللبن، وسمعنا نحو ذلك عن بعض رؤساء الأعراب، وهو الدليل على الفطرة ولذلك اختاره ﷺ حين أسري به وعرض عليه مع الخمر والعسل، ثم الخمر لأنها أقرب إلى
424
الماء من العسل فإنها ماء العنب ولم يعهد جعلها إداما كالعسل فإنه كثيرا ما يؤدم به الخبز ويؤكل، وبينها وبين اللبن نوع مشابهة من حيث إن كلا منهما يخرج من بين أجزاء كثيفة وما أشبه ثقله بالفرث، وإذا لوحظ السوغ في اللبن وعدمه في الخمر بناء على ما يقولون: إنها ليست سهلة المرور في الحلق ولذا يقطب شاربها عند الشرب وقد يغص بها كان بينهما نوع من التضاد، ويحسن إيقاع الضد بعد الضد كما يحسن إيقاع المثل بعد المثل، وإذا لوحظ مآل أمرهما شرعا رأيت أن الخمر لم يسغ شربها بعد نزول الآية فيه وشرب اللبن لم يزل سائغا وبذلك يقوى التضاد، ويقويه أيضا أن اللبن يخرج من بطن حيوان ولا دخل لعمل البشر فيه والخمر ليست كذلك، وأما ذكر الرزق الحسن بعد الخمر وتقديمه على العسل فالوجه فيه ظاهر جدا، ولعل ما اعتبرناه في وجه تقديم الخمر على العسل وذكره بعد اللبن أقوى مما يصح اعتباره في العسل وجها لتقديمه على الخمر وذكره بعد اللبن، فلا يرد أن في كل جهة تقديما فاعتبارها في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، وقد جاء ذكر الماء واللبن والخمر والعسل في وصف الجنة على هذا الترتيب قال تعالى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد: ١٥] فتأمل فلمسلك الذهن اتساع والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من آثار قدرة الله تعالى لَآيَةً عظيمة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإن من تفكر في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة التي مرت الإشارة إليها وخروج هذا الشراب الحلو المختلف الألوان وتضمنه الشفاء جزم قطعا أن لها ربا حكيما قادرا ألهمها ما ألهم وأودع فيها ما أودع، ولما كان شأنها في ذلك عجيبا يحتاج إلى مزيد تأمل ختم سبحانه الآية بالتفكر. ومن بدع تأويلات الرافضة على ما في الكشاف أن المراد بالنحل علي كرم الله تعالى وجهه وقومه. وعن بعضهم أنه قال عند المهدي: إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم فقال له رجل: جعل الله تعالى طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهما، وستسمع إن شاء الله تعالى ما يقوله الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في باب الإشارة، ثم إنه سبحانه لما ذكر من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته بين ذلك فقال عز قائلا: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ حسبما تقتضيه مشيئته تعالى المبنية على الحكم البالغة بآجال مختلفة، والقرينة على إرادة ذلك قوله سبحانه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ولذا قيل: إنه معطوف على مقدر أي فمنكم من تعجل وفاته ومنكم إلخ، وأَرْذَلِ الْعُمُرِ أخسه وأحقره وهو وقت الهرم الذي تنقص فيه القوى وتفسد الحواس ويكون حال الشخص فيه كحالة وقت الطفولية من ضعف العقل والقوة. ومن هنا تصور الرد فهذا كقوله تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس: ٦٨] ففيه مجاز،
وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أن «أرذل العمر» خمس وسبعون سنة
وعن قتادة أنه تسعون، وقيل:
خمس وتسعون واختار جمع تفسيره بما سبق وهو يختلف باختلاف الأمزجة فرب معمر لم تنتقص قواه ومنتقص القوى لم يعمر، ولعل التقييد بسن مخصوص مبني على الأغلب عند من قيد.
والخطاب إن كان للموجودين وقت النزول فالتعبير بالماضي والمستقبل فيه ظاهر، وإن كان عاما فالمضي بالنسبة إلى وقت وجودهم والاستقبال بالنسبة إلى الخلق، وعلى التقدير الظاهر أن مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ يعم المؤمن مطلقا والكافر، وقيل: إنه مخصوص بالكافر والمسلم لا يرد إلى أرذل العمر لقوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التين: ٥، ٦] وأخرج ابن المنذر. وغيره عن عكرمة أنه قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، والمشاهدة تكذب كلا القولين فكم رأينا مسلما قارئ القرآن قد رد إلى ذلك، والاستدلال
425
بالآية على خلافه فيه نظر،
وكان من دعائه ﷺ كما أخرجه البخاري. وابن مردويه عن أنس «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات».
لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً اللام للصيرورة والعاقبة وهي في الأصل للتعليل وكي مصدرية والفعل منصوب بها والمنسبك مجرور باللام والجار والمجرور متعلق- بيرد. ، وزعم الحوفي أن اللام لام كي دخلت على كي للتوكيد وليس بشيء، والعلم بمعنى المعرفة، والكلام كناية عن غاية النسيان أي ليصير نساء بحيث إذا كسب علما في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه من ساعته يقول لك: من هذا؟ فتقول: فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه، وقيل: المراد لئلا يعلم زيادة علم على علمه، وقيل: لئلا يعقل من بعد عقله الأول شيئا فالعلم بمعنى العقل لا بمعناه الحقيقي كما في سابقه، وفيه دلالة على وقوفه وأنه لا يقدر على علم زائد، والوجه المعتمد الأول، ونصب- شيئا- على المصدرية أو المفعولية، وجوز فيه التنازع بين يعلم وعلم، وكون مفعول- علم- محذوفا لقصد العموم أي لا يعلم شيئا ما بعد علم أشياء كثيرة إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكل شيء ومن ذلك وجه الحكمة في الخلق والتوفي والرد إلى أرذل العمر قَدِيرٌ على كل شيء ومنه ما يشاؤه سبحانه من ذلك، وقيل: عليم بمقادير أعماركم قدير على كل شيء يميت الشاب النشيط ويبقي الهرم الفاني، وفيه تنبيه على أن تفاوت الآجال ليس إلا بتقدير قادر حكيم رتب الأبنية وعدل الأمزجة على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى القطائع لما بلغ هذا المبلغ، وقيل: إنه تعالى لما ذكر ما يعرض في الهرم من ضعف القوى والقدرة وانتفاء العلم ذكر أنه جل شأنه مستمر على العلم الكامل والقدرة الكاملة لا يتغيران بمرور الأزمان كما يتغير علم البشر وقدرتهم، ويفيد الاستمرار الجملة الاسمية، والكمال صيغة فعيل، وقدم صفة العلم لتجاوز انتفاء العلم عن المخاطبين مع أن تعلق صفة العلم بالشيء أول لتعلقه صفة القدرة به، ولا يخفى عليك ما هو الأولى من الثلاثة فدبر.
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ أي جعلكم متفاوتين فيه فأعطاكم منه أفضل مما أعطى مماليككم فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا فيه على غيرهم وهم الملاك بِرَادِّي أي بمعطي رِزْقِهِمْ الذي رزقهم إياه عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ على مماليكهم الذين هم شركاؤهم في المخلوقية والمرزوقية فَهُمْ أي الملاك الذين فضلوا والمماليك فِيهِ أي في الرزق سَواءٌ لا تفاضل بينهم، والجملة اسمية واقعة موقع فعل منصوب في جواب النفي أي لا يردونه عليهم فيستووا فيه ويشتركوا، وجوز أن تكون في تأويل فعل مرفوع معطوف على قوله تعالى: بِرَادِّي أي لا يردونه عليهم فلا يستوون، والمراد بذلك توبيخ الذين يشركون به سبحانه بعض مخلوقاته وتقريعهم والتنبيه على كمال قبح فعلهم كأنه قيل: إنكم لا ترضون بشركة عبيدكم لكم بشيء لا يختص بكم بل يعمكم وإياهم من الرزق الذي هم أسوة لكم في استحقاقه وهم أمثالكم في البشرية والمخلوقية لله عز سلطانه فما بالكم تشركون به سبحانه وتعالى فيما لا يليق إلا به جل وعلا من الألوهية والمعبودية الخاصة بذاته تعالى لذاته بعض مخلوقاته الذي هو بمعزل عن درجة الاعتبار، وهو على ما صرح به جماعة على شاكلة قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ [الروم: ٢٨] يعنون بذلك أنه مثل ضرب لكمال قباحة ما فعلوه، وفي قوله أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ قرينة- كما قيل- على ذلك، وكذا في قوله تعالى:
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ على مقدر وهي داخلة في الحقيقة على الفعل أعني يَجْحَدُونَ ولتضمن الجحود معنى الكفر جيء بالباء في معموله المقدم عليه للاهتمام أو لإبهام الاختصاص مبالغة أو لرعاية رؤوس الآي، والمراد بالنعمة قيل الرزق وقيل ولعله الأولى: ما يشمله وغيره من النعم الفائضة عليهم منه سبحانه أي يشركون به تعالى فيجحدون
426
نعمته تعالى حيث يفعلون ما يفعلون من الإشراك فإن ذلك يقتضي أن يضيفوا ما أفيض عليهم من الله تعالى من النعم إلى شركائهم ويجحدوا كونهم من عنده جل وعلا، وجوز كون المراد بنعمة الله تعالى ما أنعم سبحانه به من إقامة الحجج وإيضاح السبل وإرسال الرسل عليهم السلام ولا نعمة أجل من ذلك، فمعنى جحودهم ذلك إنكاره وعدم الالتفات إليه، وصيغة الغيبة لرعاية فَمَا الَّذِينَ وقرأ أبو بكر عن عاصم. وأبو عبد الرحمن والأعرج بخلاف عنه «تجحدون» بالتاء على الخطاب رعاية لبعضكم، هذا وجوز أن يكون معنى الآية أن الله تعالى فضل بعضا على بعض في الرزق وأن المفضلين لا يردون من رزقهم على من دونهم شيئا وإنما أنا رازقهم فالمالك والمملوك في أصل الرزق سواء وإن تفاوتا كما وكيفا، والمراد النهي عن الإعجاب والمن اللذين هما مقدمتا الكفران.
والعطف على مقدر أيضا أي أيعجبون ويمنون فيجحدون نعمة الله تعالى عليهم، وقيل: التقدير ألا يفهمون فيجحدون واختار في الكشاف أن المعنى أنه سبحانه جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم وكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تساووا في الملبس والمطعم كما
يحكى عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله يقول: «إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون»
فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت، وحاصله إن الله تعالى فضلكم على أمثالكم فكان عليكم أن تردوا من ذلك الفضل عليهم شكرا لنعمته تعالى لتكونوا سواء في ذلك الفضل ويبقى لكم فضل الإفضال والتفضل. فالآية حث على حسن الملكة وأدمج أنهم وعبيدهم مربوبون بنعمته تعالى ذلك مع تقلبهم فيها ليكون تمهيدا لكفرانهم نعمه سبحانه السوابغ إلى أن جعلوا له عز وجل أندادا لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا فعبدوها عبادته تعالى أو أشد وأسد، وفي ذلك من البعد ما فيه، والعطف فيه على مقدر أيضا كألا يعرفون ذلك فيجحدون.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم ونوعكم وهو مجاز في ذلك، والأشهر من معاني النفس الذات ولا يستقيم هنا كغيره فلذا ارتكب المجاز وهو إما في المفرد أو الجمع، واستدل بذلك بعضهم على أنه لا يجوز للإنسان أن ينكح من الجن أَزْواجاً لتأنسوا بها وتقيموا بذلك مصالحكم ويكون أولادكم أمثالكم.
وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذا خلق آدم وحواء عليهما السلام فإن حواء خلقت من نفسه عليه السلام، وتعقب بأنه لا يلائمه جمع الأنفس والأزواج، وحمله على التغليب تكلف غير مناسب للمقام وكذا كون المراد منهما بعض الأنفس وبعض الأزواج وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي منها فوضع الظاهر موضع الضمير للإيذان بأن المراد جعل لكم منكم من زوجه لا من زوج غيره بَنِينَ وبأن نتيجة الزواج هو التوالد وَحَفَدَةً جمع حافد ككاتب وكتبة، وهو من قولهم: حفد يحفد حفدا وحفودا وحفدانا إذا أسرع في الخدمة والطاعة، وفي الحديث «إليك نسعى ونحفد» وقال جميل:
حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال
وقد ورد الفعل لازما ومتعديا كقوله:
يحفدون الضيف في أبياتهم كرما ذلك منهم غير ذل
وجاء في لغة- كما قال أبو عبيدة- أحفد أحفادا، وقيل: الحفد سرعة القطع، وقيل: مقاربة الخطو، والمراد بالحفدة على ما روي عن الحسن. والأزهري وجاء في رواية عن ابن عباس واختاره ابن العربي أولاد الأولاد، وكونهم من الأزواج حينئذ بالواسطة، وقيل: البنات عبر عنهن بذلك إيذانا بوجه المنة فانهن في الغالب يخدمن في البيوت أتم خدمة، وقيل: البنون والعطف لاختلاف الوصفين البنوة والخدمة، وهو منزل منزلة تغاير الذات، وقد مر نظيره فيكون
427
ذلك امتنانا بإعطاء الجامع لهذه الوصفين الجليلين فكأنه قيل: وجعل لكم منهن أولادا هم بنون وهم حافدون أي جامعون بين هذين الأمرين، ويقرب منه ما روي عن ابن عباس من أن البنين صغار الأولاد والحفدة كبارهم، وكذا ما نقل عن مقاتل من العكس، وكأن ابن عباس نظر إلى أن الكبار أقوى على الخدمة (١) ومقاتل نظر إلى أن الصغار أقرب للانقياد لها وامتثال الأمر بها واعتبر الحفد بمعنى مقاربة الخط، وقيل: أولاد المرأة من الزوج الأول، وأخرجه ابن جرير.
وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه والبخاري في تاريخه والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنهم الأختان وأريد بهم- على ما قيل- أزواج البنات ويقال لهم أصهار، وأنشدوا:
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد مما يعد كثير
ولكنها نفس عليّ أبية عيوني لأصهار اللئام تدور
والنصب على هذا بفعل مقدر أي وجعل لكم حفدة لا بالعطف على بَنِينَ لأن القيد إذا تقدم يعلق بالمتعاطفين وأزواج البنات ليسوا من الأزواج، وضعف بأنه لا قرينة على تقدير خلاف الظاهر وفيه دغدغة لا تخفى.
وقيل: لا مانع من العطف بأن يراد بالأختان أقارب المرأة كأبيها وأخيها لا أزواج البنات فإن إطلاق الأختان عليه إنما هو عند العامة وأما عند العرب فلا كما في الصحاح، وتجعل مِنْ سببية ولا شك أن الأزواج سبب لجعل الحفدة بهذا المعنى وهو كما ترى. وتعقب تفسيره بالأختان والربائب بأن السياق للامتنان ولا يمتن بذلك.
وأجيب أن الامتنان باعتبار الخدمة ولا يخفى أنه مصحح لا مرجح. وقيل: الحفدة هم الخدم والأعوان وهو المعنى المشهور له لغة. والنصب أيضا بمقدر أي وجعل لكم خدما يحفدون في مصالحكم ويعينونكم في أموركم.
وقال ابن عطية بعد نقل عدة أقوال في المراد من ذلك: وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجته بنون وحفدة ولا يخفى أن باعتبار الغالب، ويحتمل أن يحمل قوله تعالى: مِنْ أَزْواجِكُمْ على العموم والاشتراك أي جعل من أزواج البشر البنين والحفدة ويستقيم على هذا الحفدة على مجراها في اللغة إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحدهم عن حفدة اه، وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير لكن لا يخفى أن فيه بعدا، وتأخير المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مكر غير مرة من التشويق، وتقديم المجرور باللام على المجرور بمن لإيذان من أول الأمر بعود منفعة الجعل إليهم إمدادا للتشويق وتقوية له.
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي اللذائذ وهو معناها اللغوي، وجوز مجوز أن يراد بالطيب ما هو متعارف في لسان الشرع وهو الحلال. وتعقبه أبو حيان بأن المخاطبين بهذا الكفار وهم لا شرع لهم فتفسيره بذلك غير ظاهر، وأجيب بأنهم مكلفون بالفروع كالأصول فيوجد في حقهم الحلال والحرام، وأيضا هم مرزوقون بكثير من الحلال الذي أكلوا بعضه ولا يلزم اعتقادهم للحل ونحوه، ومن للتبعيض لأن ما رزقوه بعض من كل الطيبات فإن ما في الدنيا منها بأسره أنموذج لما في الآخرة إذ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وما في الدنيا لم يصل كثير منه إليهم، والظاهر على ما ذكرنا عموم الطيبات للنبات والثمار والحبوب والأشربة والحيوان، وقيل: المراد بها ما أتي من غير نصب، وقيل: الغنائم، وليس بشيء.
أَفَبِالْباطِلِ وهو منفعة الأصنام وبركتها وما ذاك إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، والجار
(١) هنا بياض بالأصل.
428
والمجرور متعلق بقوله تعالى: يُؤْمِنُونَ وقدم للحصر فيفيد أن ليس لهم إيمان إلا بذلك كأنه شيء معلوم مستيقن وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز مما ذكر ومما لا تحيط به دائرة البيان هُمْ يَكْفُرُونَ أي يستمرون على الكفر بها والإنكار لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول وذلك بإضافتها إلى أصنامهم، وقيل: الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله تعالى ما أحل لهم. والآية على هذا ظاهرة لتعلق بقوله سبحانه: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فقط دون ما قبله أيضا والظاهر تعلقها بهما، ومن ذلك يظهر حال من أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج من أن الباطل الشيطان ونعمة الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكرناه قد صرح بأكثره الزمخشري، واستفادة الحصر من التقديم ظاهرة، وأما كأنه شيء معلوم مستيقن فمستفاد من حصرهم الإيمان فيما ذكر لأن ذلك شأن المؤمن به لا سيما وقد حصروا، وأيضا المقابلة بالمشاهد المحسوس أعني نعمة الله تعالى دلت على تعكيسهم فيدل على أنهم جعلوا الموهوم بمنزلة المتيقن وبالعكس، والفاء التي للتعكيس شديدة الدلالة على هذا الأمر والحمل على أنها للعطف على محذوف ليس بالوجه كذا في الكشف، وفيه رد على ما قيل إن في كلا التركيبين تأكيدا وتخصيصا، أما التخصيص فيهما فمن تقديم المعمول، وأما التأكيد في الأول فلأن الفاء تستدعي معطوفا عليه تقديره أيكفرون بالحق ويؤمنون بالباطل والكفر بالحق مستلزم للإيمان بالباطل فقد تكرر الإيمان بالباطل والتكرير يفيد التأكيد، وأما التأكيد في الثاني فمن بناء يَكْفُرُونَ على هم المفيد لتقوى الحكم، وجعل كلام الزمخشري مشيرا إلى ذلك كله فتدبر. وما ذكر من أن تقديم الجار في التركيبين للتخصيص مما صرح به غير واحد، والعلامة البيضاوي جوز ذلك لكنه أقحم الإيهام هنا نظير ما فعلناه فيما سلف آنفا.
ووجه ذلك بأن المقام ليس بمقام تخصيص حقيقة إذ لا اختصاص لإيمانهم بالباطل ولا لكفرانهم بنعم الله سبحانه ولم يقحمه في تفسير نظير ذلك في العنكبوت فإن وجه بأنهم إذا آمنوا بالبال كان إيمانهم بغيره بمنزلة العدم وإن النعم كلها من الله تعالى إما بالذات أو بالواسطة فليس كفرانهم إلا لنعمه سبحانه كما قيل لا يشكر الله من لا يشكر الناس بقي المخالفة. وأجيب بأنه إذا نظر للواقع فلا حصر فيه وإن لوحظ ما ذكر يكون الحصر ادعائيا وهو معنى الإيهام للمبالغة فلا تخالف، وجوز أن يكون التقديم للاهتمام لأن المقصود بالإنكار الذي سيق له الكلام تعلق كفرانهم بنعمة الله تعالى واعتقادهم للباطل لا مطلق الإيمان والكفران، وأن يكون لرعاية الفواصل وهو دون النكتتين، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالهم للإعراض عنهم وصرف الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيبا لهم مما فعلوه.
وفي البحر أن السلمي قرأ «تؤمنون» بالتاء على الخطاب وأنه روى ذلك عن عاصم، والجملة فيما بعده على هذا كما استظهره في البحر مجردا عن الكفرة غير مندرج في التقريع. هذا بقي أنه وقع في [العنكبوت: ٦٧] أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ بدون ضمير ووقع هنا ما سمعت بالضمير، وبين الخفاجي سر ذلك بأنه لما سبق في هذه السورة قوله تعالى: فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي يكفرون كما مر فلو ذكر ما نحن فيه بدون الضمير لكانت الآية تكرارا بحسب الظاهر فأتى بالضمير الدال على المبالغة والتأكيد ليكون ترقيا في الذم بعيدا عن اللغوية، ثم قال: وقيل إنه أجري على عادة العباد إذا أخبروا عن أحد بمنكر يجدون موجدة فيخبروا عن حاله الأخرى بكلام آكد من الأول، ولا يخفى أن هذا إنما ينفع إذا سئل لم قيل: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ بدون ضمير وقيل: وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ به، وأما في الفرق بين ما هنا وما هناك فلا، وقيل: آيات العنكبوت استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب وأما الآية التي نحن فيها فقد سبق قبلها مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب، وتخصيص هذه بالزيادة دون أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ مع أنها الأولى بها بحسب الظاهر لتقدمها لئلا يلزم زيادة الفاصلة
429
الأولى على الثانية. واعترض عليه بأنه لا يخفى أنه لا مقتضى للزوم الغيبة ولا لبس لو ترك الضمير.
وقد يقال: إنما لم يؤت في آية العنكبوت بالضمير ويبنى الفعل عليه إفادة للتقوى استغناء بتكرر ما يفيد كفر القوم بالنعم مع قربه من تلك الآية عن ذلك، على أنه قد تقدم هناك ما تستمد منه الجملتان أتم استمداد وإن كان فيه نوع بعد ومغايرة ما وذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [العنكبوت: ٥٢] ولما لم تكن آية النحل فيما ذكر بهذه المرتبة جيء فيها بما يفيد التقوى، أو يقال: إنه لما كان سرد النعم هنا على وجه ظاهر في وصولها إليهم والامتنان بها عليهم كان ذلك أوفق بأن يؤتى بما يفيد كفرهم بها على وجه يشعر باستبعاد وقوعه منهم فجيء بالضمير فيه ولما لم يكن ما هنالك كذلك لم يؤت فيه بما ذكر، ولعل التعبير هنا- بيكفرن- وفيما قبل يَجْحَدُونَ لأن ما قبل كان مسبوقا على ما قيل بضرب مثل لكمال قباحة ما فعلوه والجحود أوفق بذلك لما أن كمال القبح فيه أتم ولا كذلك فيما البحث فيه كذا قيل فافهم والله تعالى بأسرار كتابه أعلم وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال أبو حيان: هو استئناف إخبار عن حالهم في عبادة الأصنام وفيه تبيين لقوله تعالى: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وقال بعض أجلة المحققين: لعله عطف على يَكْفُرُونَ داخل تحت الإنكار التوبيخي أي أيكفرون بنعمة الله ويعبدون من دونه سبحانه ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً أي ما لا يقدر أن يرزقهم شيئا لا من السموات مطرا ولا من الأرض نباتا- فرزقا- مصدر، وشَيْئاً نصب على المفعولية له وإلى ذلك ذهب أبو علي. وغيره. وتعقبه ابن الطراوة بأن الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن والمصدر إنما هو الرزق بفتح الراء كالرعي والطحن. ورد عليه بأن مكسور الراء مصدر أيضا كالعلم وسمع ذلك فيه فصح أن يعمل في المفعول، وقيل: هو اسم مصدر والكوفي يجوز عمله في المفعول- فشيئا- مفعوله على رأيهم، وجوز أن يكون بمعنى مرزوق وشَيْئاً بدل منه أي لا يملك لهم شيئا. وأورد عليه السمين. وأبو حيان أنه غير مفيد إذ من المعلوم أن الرزق من الأشياء والبدل يأتي لأحد شيئين البيان والتأكيد وليسا بموجودين هنا. وأجيب بأن تنوين شَيْئاً للتقليل والتحقير فإن كان تنوين رِزْقاً كذلك هو مؤكد وإلا فمبين وحينئذ فيصح فيه أن يكون بدل بعض أو كل ولا إشكال.
وجوز أن يكون شَيْئاً مفعولا مطلقا ليملك أي لا يملك شيئا من الملك ومِنَ السَّماواتِ إما متعلق بقوله تعالى: لا يَمْلِكُ أو بمحذوف وقع صفة- لرزقا- أي رزقا كائنا منهما، واطلاق الرزق على المطر لأنه ينشأ عنه.
وَلا يَسْتَطِيعُونَ جوز أن يكون عطفا على صلة ما وأن يكون مستأنفا للإخبار عن حال الآلهة، واستطاع متعد ومفعوله محذوف هو ضمير الملك أي لا يستطيعون أن يملكوا ذلك ولا يمكنهم، فالكلام تتميم لسابقه وفيه من الترقي ما فيه فلا يكون نفي استطاعة الملك بعد نفي ملك الرزق غير محتاج إليه، وإن جعل المفعول ضمير الرزق كما جوزه في الكشاف يكون هذا النفي تأكيدا لما قبله. وأورد عليه أنه قد قرر في المعاني أن حرف العطف لا يدخل مبين المؤكد والمؤكد لما بينها من كمال الاتصال. ودفع بأن ذلك غير مسلم عند النحاة وليس مطلقا عند أهل المعاني ألا ترى قوله تعالى: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ: ٤، ٥] نعم يرد عليه حديث أن التأسيس خير من التأكيد، وجوز ولعله الأولى أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم فيكون المراد نفي الاستطاعة عنهم مطلقا على حد يعطي ويمنع فالمعنى أنهم أموات لا قدرة لهم أصلا فيكون تذييلا للكلام السابق، وفيه ما فيه على الوجه الأول وزيادة.
وجمع الضمير فيه وتوحيده في لا يَمْلِكُ لرعاية جانب اللفظ أولا والمعنى ثانيا فإن «ما» مفرد بمعنى الآلهة ومثل هذه الرعاية وارد في الفصيح وإن أنكره بعضهم لما يلزمه من الإجمال بعد البيان المخالف للبلاغة فإنه مردود كما بين في محله، وقد روعي أيضا في التعبير حال معبوداتهم في نفس الأمر فإنها أحجار وجمادات فعبر عنها- بما-
430
الموضوعة في المشهور لغير العالم وحالها باعتبار اعتقادهم فيها أنها آلهة فعبر عنها بضمير الجمع الموضوع لذوي العلم، هذا إذا كان المراد بما الأصنام، ولا يخفى عليك الحال إذا كان المراد بها المعبودات الباطلة مطلقا ملكا كانت أو بشرا أو حجرا أو غيرها.
وجوز أن يكون ضمير الجمع عائدا على الكفار كضمير يَعْبُدُونَ وما على المعنى المشهور فيها على معنى أنهم مع كونهم أحياء متصرفين في الأمور لا يستطيعون من ذلك شيئا فكيف بالجماد الذي لا حس له، فجملة لا يَسْتَطِيعُونَ معترضة لتأكيد نفي الملك عن الآلهة والمفعول محذوف كما أشير إليه، وهذا وإن كان خلاف الظاهر لكنه سالم عن مخالفة المشهور في العود على المعنى بعد مراعاة اللفظ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ التفات إلى الخطاب للإيذان بالاهتمام بشأن النهي، والفاء للدلالة على ترتيب النهي على ما عدد من النعم الفائضة عليهم منه تعالى وكون آلهتهم بمعزل من أن يملكوا لهم رزقا فضلا عما فضل، والأمثال جمع مثل كعلم، والمراد من الضرب الجعل فكأنه قيل: فلا تعجلوا لله تعالى الأمثال والأكفاء فالآية كقوله تعالى: «فلا تجعلوا لله أندادا» وهذا ما يقتضيه ظاهر كلام ابن عباس، وفقد أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال في الآية:
يقول سبحانه لا تجعلوا معي إلها غيري فإنه لا إله غيري.
وجعل كثير الأمثال جمع مثل بالتحريك، والمراد من ضرب المثل لله سبحانه الإشراك والتشبيه به جل وعلا من باب الاستعارة التمثيلية، ففي الكشف أن الله تعالى جعل المشرك به الذي يشبهه تعالى بخلقه بمنزلة ضارب المثل فإن المشبه المخذول يشبه صفة بصفة وذاتا بذات كما أن ضارب المثل كذلك فكأنه قيل: ولا تشركوا بالله سبحانه، وعدل عنه إلى المنزل دلالة على التعميم في النهي عن التشبيه وصفا وذاتا، وفي لفظ الْأَمْثالَ لمن لا مثال له أصلا نعي عظيم عليهم بسوء فعلهم، وفيه إدماج أن الأسماء توقيفية وهذا هو الظاهر لدلالة الفاء وعدم ذكر ضرب مثل منهم سابقا، وهذا الوجه هو الذي اختاره الزمخشري وكلام الحبر رضي الله تعالى عنه لا يأباه فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ تعليل للنهي أي إنه تعالى يعلم كنه ما تفعلون وعظمه وهو سبحانه معاقبكم عليه أعظم العقاب وأنتم لا تعلمون كنهه وكنه عقابه فلذا صدر منكم وتجاسرتم عليه.
وجوز أن يكون المراد النهي عن قياس الله تعالى على غيره بجعل ضرب المثل استعارة للقياس، فإن القياس إلحاق شيء بشيء وهو عند التحقيق تشبيه مركب بمركب، والفرق بينه وبين الوجه السابق قليل، وأمر التعليل على حاله. وجوز الزمخشري وغيره أن يكون المراد النهي عن ضرب الأمثال لله سبحانه حقيقة والمعنى فلا تضربوا لله تعالى الأمثال التي يضربها بعضكم لبعض إن الله تعالى يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون، ووجه التعليل ظاهر، واللام على سائر الأوجه متعلقة- بتضربوا- وزعم ابن المنير تعلقها- بالأمثال- فيما إذا كان المراد التمثيل للإشراك والتشبيه ثم قال: كأنه قيل فلا تمثلوا الله تعالى ولا تشبهوه، وتعلقها- بتضربوا- على هذا الوجه ثم قال كأنه قيل فلا تمثلوا لله تعالى الأمثال فإن ضرب المثل إنما يستعمل من العالم لغير العالم ليبين له ما خفي عنه والله تعالى هو العالم وأنتم لا تعلمون فتمثيل غير العالم للعالم عكس للحقيقة، وليس بشيء والمعنى الذي ذكره على تقدير تعلقه بالفعل خلاف ما يقتضيه السياق وإن كان التعليل عليه أظهر، ومن هنا قال العلامة المدقق في الكشف في ذلك بعد أن قال إنه نهى عن ضرب الأمثال حقيقة: كأنه أريد المبالغة في أن لا يلحدوا في أسمائه تعالى وصفاته فإنه إذا لم يجز ضرب المثل والاستعارات يكفي فيها شبه ما والإطلاق لتلك العلاقة كاف فعدم جواز إطلاق الأسماء من غير سبق تعليم منه وإثبات الصفات أولى وأولى، ووجه ربط قوله تعالى:
431
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا إلخ على هذا عند المدقق أنه تعالى بعد أن نهاهم عن ضرب الأمثال له سبحانه ضرب مثلا دل به على أنهم ليسوا أهلا لذلك وإنهم إذا كانوا على هذا الحد من المعرفة والتقليد أو المكابرة فليس لهم إلى ضرب الأمثال المطابقة المستدعي ذكاء وهداية سبيل، وقال غيره في ذلك ولعله أظهر منه إنه تعالى لما ذكر أنه يعلم كيف تضرب الأمثال وأنهم لا يعلمون علمهم كيف تضرب الأمثال في هذا الباب فقال تعالى: ضَرَبَ إلخ.
ووجه الربط على ما تقدم من أن النهي عن الإشراك أنه سبحانه لما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك عقبه بالكشف لذي البصيرة عن فساد ما ارتكبوه بقوله سبحانه: ضَرَبَ إلخ أي أورد وذكر ما يستدل به على تباين الحال بين جنابه تعالى شأنه وبين ما أشركوه به سبحانه وينادي بفساد ما هم عليه نداء جليا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ بدل من مثلا وتفسير له والمثل في الحقيقة حالته العارضة له من المملوكية والعجز التام ويحسبها ضرب نفسه مثلا ووصف العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لاشتراكهما في كونهما عبدا الله تعالى، وقد أدمج فيه على ما قيل إن الكل عبيد له تعالى وبعدم القدرة لتمييزه عن المكاتب والمأذون اللذين لهما تصرف في الجملة، وفي إبهام المثل أولا ثم بيانه بما ذكر ما لا يخفى من الجزالة وَمَنْ رَزَقْناهُ مَنْ نكرة موصوفة على ما استظهره الزمخشري ليطابق عَبْداً فإنه أيضا نكرة موصوفة وإلى ذلك ذهب أبو البقاء، وقال الحوفي: هي موصولة واستظهره أبو حيان، وزعم بعضهم أن ذلك لكون استعمالها موصولة أكثر من استعمالها موصوفة، والأول مختار الأكثرين أي حرا رزقناه بطريق الملك والالتفات إلى التكلم للاشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق، وفي اختيار ضمير العظمة تعظيم لأمر ذلك الرزق ويزيد ذلك تعظيما قوله سبحانه: مِنَّا أي من جنابنا الكبير المتعالي رِزْقاً حَسَناً حلالا طيبا أو مستحسنا عند الناس مرضيا ويؤخذ منه على ما قيل كونه كثيرا بنا على أن القلة التي هي أخت العدم لا حسن في ذاتها فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ تفضلا وإحسانا، والفاء لترتب الإنفاق على الرزق كأنه قيل: ومن رزقناه منا رزقا حسنا فأنفق وإيثار المنزل من الجملة الاسمية الفعلية الخبر للدلالة على ثبات الإنفاق واستمرار التجددي سِرًّا وَجَهْراً أي حال السر وحال الجهر أو انفاق سر وانفاق جهر والمراد بيان عموم إنفاقه للأوقات وشموله إنعامه لمن يجتنب عن قبوله جهرا.
وجوز أن يكون وصفه بالكثرة مأخوذا من هذا بناء أن المراد منه كيف يشاء وهو يدل على أنحاء التصرف وسعة المتصرف منه، وتقديم السر على الجهر للإيذان بفضله عليه، وقد مر الكلام في ذلك والعدول عن تطبيق القرينتين بأن يقال: وحرا مالكا للأموال مع كونه أدل على تباين الحال بينه وبين قسيمه لما في إرشاد العقل السليم من توخي تحقيق الحق بأن الأحرار أيضا تحت ربقة عبوديته تعالى وأن مالكيتهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزقهم الله تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخل في ذلك مع محاولة المبالغة في الدلالة على ما قصد بالمثل من تباين الحال بين الممثلين فإن العبد المملوك حيث لم يكن مثل العبد المالك فما ظنك بالجماد ومالك الملك خلاق العالمين هَلْ يَسْتَوُونَ جمع الضمير وإن تقدمه اثنان وكان الظاهر- يستويان- للإيذان بأن المراد بما ذكر من اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معينان منهما وإن أخرج ابن عساكر. وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله سرا وجهرا وفي عبده أبي الجوزاء الذي كان ينهاه والله تعالى أعلم بصحته. وقيل نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وعبد له ولا يصح إسناده كما في البحر، وفيه أنه يحتمل أن يكون الجمع باعتبار أن المراد- بمن- الجمع وأن يكون باعتبار عود الضمير على العبيد والأحرار وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة «عبد مملوك» وَمَنْ رَزَقْناهُ عليهما، والمعول عليه ما ذكر أولا، والمعنى هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بما ذكر من الصفات مع أن الفريقين سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وأن ما ينفقه
432
الأحرار ليس مما لهم دخل في إيجاده ولا تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستو الفريقان فما ظنكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليل أذل منه وهو الأصنام، وقيل: إن هذا تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق شبه الأول بمملوك لا تصرف له لأنه لإحباط عمله وعدم الاعتداد بأفعاله واتباعه لهواه كالعبد المنقاد الملحق بالبهائم بخلاف المؤمن الموفق، وجعله تمثيلا لذلك مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقتادة ولا تعيين أيضا وإن قيل: إن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل، على أن أبا حيان قال إنه لا يصح إسناد ذلك، هذا ثم اعلم أنهم اختلفوا في العبد هل يصح له ملك أم لا قال في الكشاف: المذهب الظاهر أنه لا يصح وبه قال الشافعي، وقال ابن المنير على ما لخصه في الكشف من كلام طويل إنه يصح له الملك عند مالك: وظاهر الآية تشهد له لأنه أثبت له العجز بقوله تعالى: مَمْلُوكاً ثم نفي القدرة العارضة بتمليك السيد بقوله سبحانه: لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وليس المعنى القدرة على التصرف لأن مقابله وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً والحمل على إخراج المكاتب مع شذوذه إيجاز مع إخلال كما قال إمام الحرمين رحمه الله تعالى في «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها» الحمل على المكاتبة بعيد لا يجوز والمأذون لم يخرج لما مر من أن المراد بالقدرة ما هو، وليس لقائل أن يقول: إنه صفة لازمة موضحة فالأصل في الصفات التقيد اه.
وتعقبه المدقق بقوله: والجواب أن المعنى على نفي القدرة عن التصرف فالآية واردة في تمثيل حال الأصنام به تعالى عن ذلك علوا كبيرا وكلما بولغ في حال عجز المشبه به وكمال المقابل دل في المشبه به أيضا على ذلك فالذي يطابق المقام القدرة على التصرف وهو في مقابلة قوله تعالى: يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً وما ذكره لا حاصل له ولا إخلال في إخراج المكاتب لشمول اللفظ مع أن المقام مقام مبالغة فما يتوهم دخوله بوجهه ينبغي أن ينفى وأين هذا مما نقله عن إمام الحرمين اه. واستدل بالآية أيضا على أن العبد لا يملك الطلاق أيضا وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: ليس للعبد طلاق إلا بإذن سيده وقرأ الآية وقد فصلت أحكام العبيد في حكم الفقه على أتم وجه الْحَمْدُ لِلَّهِ أي كله له سبحانه لا يستحقه أحد غيره تعالى لأنه جل شأنه المولى للنعم وإن ظهرت على أيدي بعض الوسائط فضلا عن استحقاق العبادة.
وفيه إرشاد إلى ما هو الحق من أن ما يظهر على يد من ينفق فيما ذكر راجع إليه تعالى كما لوح به رَزَقْناهُ وقال غير واحد هذا حمد على ظهور المحجة وقوة هذه الحجة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ
ما ذكر فيضيفون نعمه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها أو لا يعلمون ظهور ذلك وقوة ما هنالك فيبقون على شركهم وضلالهم، ونفي العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لم يعملوا بموجبه عنادا وقيل: المراد بالأكثر الكل فكأنه قيل: هم لا يعلمون، وقيل: ضمير هم للخلق والأكثر هم المشركون، وكلا القولين خلاف الظاهر.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي مثلا آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على وجه أظهر وأوضح، وأبهم ثم بين بقوله تعالى: رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لما تقدم والبكم الخرس المقارن للخلقة ويلزمه الصمم فصاحبه لا يفهم لعدم السمع ولا يفهم غيره لعدم النطق، والإشارة لا يعتد بها لعدم تفهيمها حق التفهيم لكل أحد فكأنه قيل: أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من الأشياء المتعلقة بنفسه أو غيره بحدس أو فراسة لسوء فهمه وإدراكه وَهُوَ كَلٌّ ثقيل وعيال عَلى مَوْلاهُ على من يعوله ويلي أمره، وهذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته مطلقا، وقوله سبحانه:
أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ أي حيثما يرسله مولاه في أمر لا يأت بنجح وكفاية مهم، بيان لعدم قدرته على
433
مصالح مولاه. وقرأ عبد الله في رواية «توجهه» على الخطاب، وقرأ علقمة. وابن رئاب. ومجاهد. وطلحة وهي رواية أخرى عن عبد الله «يوجه» بالبناء للفاعل والجزم، وخرج على أن الفاعل يعود على المولى والمفعول محذوف وهو ضمير الأبكم أي يوجهه، ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائدا على الأبكم ويكون الفعل لازم وجه بمعنى توجه، وعلى ذلك جاء قول الأضبط بن قريع السعدي:
أينما أوجه ألق سعدا وعن علقمة وعائشة وابن وثاب أيضا «يوجه» بالجزم والبناء للمفعول، وفي رواية أخرى عن علقمة. وطلحة أنهما قرءا «يوجه» بكسر الجيم وضم الهاء، قال صاحب اللوامح: فإن صح ذلك فالهاء التي هي لام الفعل محذوفة فرارا من التضعيف أو لم يرد- بأينما- الشرط، والمراد أينما هو يوجه وقد حذف منه ضمير المفعول به فيكون حذف الياء من آخر «يأت» للتخفيف، وتعقبه أبو حيان بأن أين لا تخرج عن الشرط أو الاستفهام. ونقل عن أبي حاتم أن هذه القراءة ضعيفة لأن الجزم لازم، ثم قال: والذي توجه به هذه القراءة أن أَيْنَما شرط حملت على إذا بجامع ما اشتركا فيه من الشرط ثم حذفت ياء يَأْتِ تخفيفا أو جزم على توهم أنه جيء بأينما جازمة كقراءة من قرأ- إنه من يتقي ويصبر- في أحد الوجهين، ويكون معنى يوجه يتوجه كما مر آنفا هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات المذكورة وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ومن هو منطيق فهم ذو رأي ورشد يكفي الناس في مهماتهم وينفعهم بحثهم على العدل الجامع لمجامع الفضائل وَهُوَ في نفسه مع ما ذكر من نفعه الخاص والعام عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي، فالجملة حالية مبنية لكماله في نفسه ولما كان ذلك مقدما على تكميل الغير أتى بها اسمية فإنها تشعر بذلك مع الثبوت إلى مقارنة ذي الحال. فلا يقال: الأنسب تقديمها في النظم الكريم، ومقابلة تلك الصفات الأربع بهذين الوصفين لأنهما كمال ما يقابلها ونهايته فاختير آخر صفات الكامل المستدعية لما ذكر وأزيد حيث جعل هاديا مهديا، وتغيير الأسلوب حيث لم يقل: والآخر يأمر بالعدل الآية لمراعاة الملاءمة بينه وبين ما هو المقصود من بيان التباين بين الفريقين، ويقال هنا كما قيل في المثل السابق: إنه حيث لم يستو الفريقان في الفضل والشرف مع استوائهما في الماهية والصورة فلأن يحكم بأن الصنم الذي لا ينطق ولا يسمع وهو عاجز لا يقدر على شيء كل على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويمسح عنه الأذى إذا وقع عليه ويخدمه وإن وجهه إلى أي مهم من مهماته لا ينفعه ولا يأت له به لا يساوي رب العالمين وهو- هو- في استحقاق المعبودية أحرى وأولى، وقيل: هذا تمثيل للمؤمن والكافر فالأبكم هو الكافر ومن يأمر بالعدل هو المؤمن، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإيّا ما كان فليس المراد- برجلين- رجلان معينان بل رجلان متصفان بما ذكر من الصفات مطلقا، وما روي من أن الأبكم أبو جهل والآمر بالعدل عمار أو الأبكم أبي بن خلف والآمر عثمان بن مظعون فقال أبو حيان: لا يصح إسناده، وما أخرج ابن جرير. وابن عساكر. وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ إلخ في عثمان بن عفان ومولى له كافر وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام وكان عثمان ينفي عليه ويكفله ويكفيه المئونة وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف فنزلت فيهما فبعد تحقق صحته لا يضرنا في إرادة الموصوفين مطلقا بحيث يدخل فيهما من ذكر فقد صرحوا بأن خصوص السبب لا ينافي العموم.
هذا وقد اقتصر شيخ الإسلام على كون الغرض من التمثيلين نفي المساواة بينه جل جلاله وبين ما يشركون، وهو دليل على أنه مختاره ثم قال: اعلم أن كلا الفعلين ليس المراد بهما حكاية الضرب الماضي بل المراد إنشاؤه بما ذكر عقيبه، ولا يبعد أن يقال: إن الله تعالى ضرب مثلا بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقهما كذلك
434
للاستدلال بعدم تساويهما على امتنان التساوي بينه سبحانه وتعالى وبين ما يشركون فيكون كل من الفعلين حكاية للضرب الماضي اه، ولا يخفى أنه لا كلام في حسن اختياره لكن في النفس من قوله لا يبعد شيء.
وَلِلَّهِ تعالى خاصة لا لأحد غيره استقلالا ولا اشتراكا غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي جميع الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين بحيث لا سبيل لهم إلى إدراكها حسا ولا فهمها عقلا، ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما إما باعتبار الوقوع فيهما حالا أو مآلا وإما باعتبار الغيبة عن أهلهما، ولا حاجة إلى تقدير هذا المضاف. والمراد بيان الاختصاص به تعالى من حيث المعلومية وحسبما ينبئ عنه عنوان الغيبة لا من حيث المخلوقية والمملوكية وإن كان الأمر كذلك في نفس الأمر، وفيه- كما في إرشاد العقل السليم- إشعار بأن علمه تعالى حضوري وأن تحقق الغيوب في نفسها بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ولذلك لم يقل تعالى: ولله علم غيب السموات والأرض، وقيل: المراد بغيب السموات والأرض ما في قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان: ٣٤] الآية، وقيل: يوم القيامة، ولا يخفى أن القول بالعموم أولى.
وَما أَمْرُ السَّاعَةِ التي هي أعظم ما وقع فيه المماراة من الغيوب المتعلقة بالسماوات والأرض من حيث الغيبة عن أهلهما أو ظهور آثارها فيهما عند وقوعها أي وما شأنها في سرعة المجيء إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أي كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها. وفي البحر اللمح النظر بسرعة يقال: لمحه لمحا ولمحانا إذا نظره بسرعة أَوْ هُوَ أي أمرها أَقْرَبُ أي من ذلك وأسرع بأن يقع في بعض أجزاء زمانه فإن رجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها وإن قصر حركة أينية لها هوية اتصالية منطبقة على زمان له هو كذلك قابل للانقسام إلى أبعاض هي أزمنة أيضا بل بأن يقع فيما يقال له آن وهو جزء غير منقسم من أجزاء الزمان كآن ابتدائية الحركة، و «أو» قال الفراء: بمعنى بل.
ورده في البحر بأن بل للإضراب وهو لا يصح هنا بقسميه، أما الإبطال فلأنه يؤول إلى أن الحكم السابق غير مطابق فيكون الإخبار به كذبا والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، وأما الانتقال فلأنه يلزمه التنافي بين الإخبار بكونه مثل لمح البصر وكونه أقرب فلا يمكن صدقهما معا ويلزم الكذب المحال أيضا. وأجيب باختبار الثاني ولا تنافي بين تشبيهه في السرعة بما هو غاية ما يتعارفه الناس في بابه وبين كونه في الواقع أقرب من ذلك، وهذا بناه على أن الغرض من التشبيه بيان سرعته لا بيان مقدار زمان وقوعه وتحديده. وأجيب أيضا بما يصححه بشقيه وهو أنه ورد على عادة الناس يعني أن أمرها إذا سئلتم عنها أن يقال فيه: وهو كلمح البصر ثم يضرب عنه إلى ما هو أقرب. وقيل: هي للتخيير. ورده في البحر أيضا بأنه إنما يكون في المحظورات كخذ من مالي دينارا أو درهما أو في التكليفات كآية الكفارات. وأجيب بأن هذا مبني على مذهب ابن مالك من أن أَوْ تأتي للتخيير وأنه غير مختص بالوقوع بعد الطلب بل يقع في الخبر ويكثر في التشبيه حتى خصه بعضهم به. وفي شرح الهادي اعلم أن التخيير والإباحة مختصان بالأمر إذ لا معنى لهما في الخبر كما أن الشك والإبهام مختصان بالخبر. وقد جاءت الإباحة في غير الأمر كقوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً إلى قوله سبحانه: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [البقرة: ١٧- ١٩] أي بأي هذين شبهت فأنت مصيب وكذا إن شبهت بهما جميعا، ومثله في الشعر كثير، وقيل: إن المراد تخيير المخاطب بعد فرض الطلب والسؤال فلا حاجة إلى البناء على ما ذكر، وهو كما ترى، وزعم بعضهم أن التخيير مشكل من جهة أخرى وهي أن أحد الأمرين من كونه كلمح البصر أو أقرب غير مطابق للواقع فكيف يخبر الله تعالى بين ما لا يطابقه، وفيه أن المراد التخيير في التشبيه وأي ضرر في عدم وقوع المشبه به بل قد يستحسن فيه عدم الوقوع كما في قوله:
435
أعلام ياقوت نشر... ن على رماح من زبرجد
وقال ابن عطية: هي للشك على بابها على معنى أنه لو اتفق أن يقف على أمرها شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هو كلمح البصر أو أقرب. وتعقبه في البحر أيضا بأن الشك بعيد لأن هذا إخبار من الله تعالى عن أمر الساعة والشك مستحيل عليه سبحانه أي فلا بد أن يكون ذلك بالنسبة إلى غير المتكلم، وفي ارتكابه بعد، ويدل على أن هذا مراده تعليله البعد بالاستحالة فليس اعتراضه مما يقضي منه العجب كما توهم، وقال الزجاج: هي للإبهام وتعقب بأنه لا فائدة في إبهام أمرها في السرعة وإنما الفائدة في إبهام وقت مجيئها. وأجيب بأن المراد أنه يستبهم على من يشاهد سرعتها هل هي كلمح البصر أو أقل فتدبر. والمأثور عن ابن جريج أنها بمعنى بل وعليه كثيرون، والمراد تمثيل سرعة مجيئها واستقرابه على وجه المبالغة، وقد كثر في النظم مثل هذه المبالغة، ومنه قول الشاعر:
قالت له البرق وقالت له الري... ح جميعا وهما ما هما
أأنت تجري معنا قال إن... نشطت أضحكتكما منكما
إن ارتداد الطرف قد فته... إلى المدى سبقا فمن أنتما
وقيل: المعنى وما أمر إقامة الساعة المختص علمها به سبحانه وهي إماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين وتبديل صور الأكوان أجمعين وقد أنكرها المنكرون وجعلوها من قبيل ما لا يدخل تحت دائرة الإمكان في سرعة الوقوع وسهولة التأتي إلا كلمح البصر أو هو أقرب على ما مر من الأقوال في أَوْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن جملة الأشياء أن يجيء بها في أسرع ما يكون فهو قادر على ذلك، وتقول على الثاني: ومن جملة ذلك أمر إقامتها فهو سبحانه قادر عليه فالجملة في موضع التعليل. وفي الكشف على تقدير عموم الغيب وشموله لجميع ما غاب في السموات والأرض إن قوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ كالمستفاد من الأول وهو كالتمهيد له أي يختص به علم كل غيب الساعة وغيرها فهو الآتي بها للعلم والقدرة، ولهذا عقب بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ إلخ، وأما إذا أريد بالغيب الساعة فهو ظاهر اه. ولا يخفى الحال على القول بأن المراد بالغيب ما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان: ٣٤] الآية، وعلى القول الأخير في الغيب يكون ذكر الساعة من وضع الظاهر موضع الضمير لتقوية مضمون الجملة.
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ عطف على قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النحل:
٧٢] منتظم معه في سلك أدلة التوحيد، ويفهم من قول العلامة الطيبي أنه تعالى عقب قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ بقوله جل وعلا: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ إلخ معطوفا بالواو إيذانا بأن مقدوراته تعالى لا نهاية لها والمذكور بعض منها أن العطف على قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ إلخ، والذي تنبسط له النفس هو الأول.
والأمهات بضم الهمزة (١) وفتح الهمزة جمع أم والهاء فيه مزيدة وكثر زيادتها فيه وورد بدونها، والمعنى في الحالين واحد، وقيل: ذو الزيادة للأناسي والعاري عنها للبهائم، ووزن المفرد فعل لقولهم الأمومة، وجاء بالهاء كقول قصي بن كلاب عليهما الرحمة:
(١) قوله: وفتح الهمزة كذا بخط المؤلف ولعله سبق قلم وصوابه وفتح الميم.
436
أمهتي خندف والياس أبي وهو قليل، وأقل من ذلك زيادة الهاء في الفعل كما قيل في إهراق، وفيه بحث فارجع إلى الصحاح وغيره.
وقرأ حمزة بكسر الهمزة والميم هنا، وفي الزمر، والنجم. والروم، والكسائي بكسر الميم فيهن والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم، قال أبو حاتم: حذف الهمزة رديء ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب، وكانت كذلك على ما في البحر لأن كسر الميم إنما هو لإتباعها حركة الهمزة فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الإتباع بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقر الميم على حركتها لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً في موضع الحال وشَيْئاً منصوب على المصدرية أو مفعول تَعْلَمُونَ، والنفي منصب عليه، والعلم بمعنى المعرفة أي غير عارفين شيئا أصلا من حق المنعم وغيره، وقيل: شيئا من منافعكم، وقيل: مما قضى عليكم من السعادة أو الشقاوة، وقيل: مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم، والظاهر العموم ولا داعي إلى التخصيص. وعن وهب يولد المولود خدرا إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألما.
وادعى بعضهم أن النفس لا تخلو في مبدأ الفطرة عن العلم الحضوري وهو علمها بنفسها إذ المجرد لا يغيب عن ذاته أصلا، فقد قال الشيخ في بعض تعليقاته عند إثبات تجرد النفس: إنك لا تغفل عن ذاتك أصلا حال من الأحوال ولو في حال النوم والسكر، ولو جوز أن يغفل عن ذاته في بعض الأحوال حتى لا يكون بينه وبين الجماد في هذه الحالة فرق فلا يجدي هذا البرهان معه، وقال بهمنيار في التحصيل في فصل العقل والمعقول: ثم إن النفس الإنسانية تشعر بذاتها فيجب أن يكون وجودها عقليا فيكون نفس وجودها نفس إدراكها ولهذا لا تعزب عن ذاتها البتة، ومثله في الشفاء، وأنت تعلم أن عدم الخلو مبني على مقدمات خفية كتجرد النفس الذي أنكره الطبيعيون عن آخرهم وإن كل مجرد عالم ولا يتم البرهان عليه، وأيضا ما نقل من أن علم النفس بذاتها عين ذاتها لا ينافي أن يكون لكون الذات علما بها شرط فما لم يتحقق ذلك لا شرط لم تكن الذات علما بها كما أن لكون المبدأ الفياض خزانة لمعقولات زيد مثلا شرطا إذا تحقق تحقق وإلا فلا، ويؤيد ذلك أن علم النفس بصفاتها أيضا نفس صفاتها عندهم ومع ذلك يجوز الغفلة عن الصفة في بعض الأحيان كما لا يخفى.
وأيضا إذا قلنا: إن حقيقة الذات غير غائبة عنها، وقلنا: إن ذلك علم بها يلزم أن يكون حقيقة النفس المجردة معلومة لكل أحد ومن البين أنه ليس كذلك، على أن المحقق الطوسي قد منع قولهم: إنك لا تغفل عن ذاتك أبدا، وقال: إن المغمى عليه ربما غفل عن ذاته في وقت الإغماء، ومثله كثير من الأمراض النفسانية، ومن العجائب أن بعض الأجلة ذكر أن المراد بخلوها في مبدأ الفطرة خلوها حال تعلقها بالبدن، وقال: إنه لا ينافي ذلك ما قاله الشيخ من أن الطفل يتعلق بالثدي حال التولد بإلهام فطري لأن حال التعلق سابق على ذلك وذلك بعد أن ذكر أن الخلو في مبدأ الفطرة إنما يظهر لذوي الحدس بملاحظة حال الطفل وتجارب أحواله ووجه العجب ظاهر فافهم ولا تغفل.
وتفسير العلم بالمعرفة مما ذهب إليه غير واحد، وفي أمالي العز لا يجوز أن يجعل باقيا على بابه ويكون شَيْئاً مصدرا أي لا تعلمون علما لوجهين. الأول أنه يلزم حذف المفعولين وهو خلاف الأصل. الثاني أنه لو كان باقيا على بابه لكان الناس يعلمون المبتدأ الذي هو أحد المفعولين قبل الخروج من البطون وهو محال لاستحالة العلم على من لم يولد، بيان ذلك أنا إذا قلنا: علمت زيدا مقيما يجب أن يكون العلم بزيد متقدما قبل هذا العلم وهذا العلم إنما يتعلق بإقامته، وكذلك إذا قلت: ما علمت زيدا مقيما فالذي لم يعلم هو إقامة زيد وأما هو فمعلوم وذلك مستفاد من جهة الوضع فحيث أثبت العلم أو نفي فلا بد أن يكون الأول معلوما فيتعين حمل العلم على المعرفة اه.
437
ويعلم منه عدم استقامة جعل العلم على بابه، وشَيْئاً مفعوله الأول والمفعول الثاني محذوف. وقوله تعالى:
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ يحتمل أن يكون جملة ابتدائية ويحتمل أن يكون معطوفا على الجملة الواقعة خبرا والواو لا تقتضي الترتيب، ونكتة تأخيره أن السمع ونحوه من آلات الإدراك إنما يعتد به إذا أحس وأدرك وذلك بعد الإخراج، وجعل إن تعدى لواحد بأن كان بمعنى خلق- لكم- متعلق به وإن تعدى لاثنين بأن كان بمعنى صير فهو مفعوله الثاني، وتقديم الجار والمجرور على المنصوبات لما مر غير مرة.
والمعنى جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة بأن تحسوا بمشاعركم جزئيات الأشياء وتدركوها بأفئدتكم وتنتبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرير الإحساس فيحصل لكم علوم بديهية تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلوم الكسبية، وهذا خلاصة ما ذكره الإمام في هذا المقام ومستمد ما ذهب إليه الكثير من الحكماء من أن النفس في أول أمرها خالية عن العلوم فإذا استعملت الحواس الظاهرة أدركت بالقوة الوهمية أمورا جزئية بمشاركات ومباينات جزئية بينها فاستعدت لأن يفيد عليها المبدأ الفياض المشاركات الكلية، ويثبتون للنفس أربع مراتب. مرتبة العقل الهيولاني. ومرتبة العقل بالملكة. ومرتبة العقل بالفعل ومرتبة العقل المستفاد، ويزعمون أن النفس لا تدرك الجزئي المادي، ولهم في هذا المقام كلام طويل وبحث عريض.
وأهل السنة يقولون: إن النفس تدرك الكلي والجزئي مطلقا باستعمال المشاعر وبدونه كما فصل في محله، وتحقيق هذا المطلب بما له وما عليه يحتاج إلى بسط كثير، وقد عرض والمستعان بالحي القيوم جل جلاله وعم نواله من الحوادث الموجبة لاختلال أمر الخاصة والعامة ما شوش ذهني وحال بين تحقيق ذلك وبيني، أسأل الله سبحانه أن يمن علينا بما يسر الفؤاد وييسر لنا ما يكون عونا على تحصيل المراد وبالجملة المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الآية أنه قال: يريد سبحانه أنه جعل لكم ذلك لتسمعوا مواعظ الله تعالى وتبصروا ما أنعم الله تعالى به عليكم من إخراجكم من بطون أمهاتكم إلى أن صرتم رجالا وتعقلوا عظمته سبحانه. وقيل المعنى جعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص الكتاب والسنة التي هي دلائل سمعية لتستدلوا بها على ما يصلحكم في أمر دينكم والأبصار لتبصروا بها عجائب مصنوعاته تعالى وغرائب مخلوقاته سبحانه فتستدلوا بها على وحدانيته جل وعلا. والافئدة لتعقلوا بها معاني الأشياء التي جعلها سبحانه دلائل لكم، والسمع والأبصار على هذين القولين على ظاهرهما ولم نر من جوز إخراجهما عن ذلك.
وجوز أن يراد بهما الحواس الظاهرة على الأول، والأفئدة جمع فؤاد وهو وسط القلب وهو من القلب كالقلب من الصدر، وهذا الجمع على ما في الكشاف من جموع القلة الجارية مجرى جموع الكثرة والقلة إذا لم يرد في السماع غيرهما كما جاء شسوع في جمع شسع لا غير فجرى ذلك المجرى، وقال الزجاج: لم يجمع فؤاد على أكثر العدد وربما قيل: أفئدة وفئدان كما قيل: أغربة وغربان في جمع غراب، وفي التفسير الكبير لعل الفؤاد إنما جمع على بناء القلة تنبيها على أن السمع والبصر كثير وأما الفؤاد فقليل لأنه إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية وأكثر الخلق ليس لهم ذلك بل يكونون مشتغلين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية فكأن فؤادهم ليس بفؤاد فلذا ذكر في جمعه جمع القلة اه، ويرد عليه الأبصار فإنه جمع قلة أيضا. وفي البحر بعد نقله أنه قول هذياني ولولا جلالة قائله لم نسطره في الكتب وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري مما ذكر سابقا إلا أن قوله: لم يجيء في جمع شسع إلا شسوع ليس بصحيح بل جاء فيه اشساع جمع قلة على قلة اه فاحفظ ولا تغفل.
وزعم بعضهم أن الفؤاد إنما يدرك ما ليس بمحدود بنحو أين وكيف وكم وغير ذلك وإن لكل مدرك قوة مدركة
438
له تناسبه لا يمكن أن يدرك بغيرها على نحو المحسوسات الظاهرة من الأصوات والألوان والطعوم ونحوها والحواس الظاهرة من السمع والبصر والذوق إلى غير ذلك وهو كما ترى.
وإفراد السمع باعتبار أنه مصدر في الأصل، وقيل: إنما أفرد وجمع الأبصار للإشارة إلى أن مدركاته نوع واحد ومدركات البصر أكثر من ذلك وتقديمه لما أنه طريق تلقي الوحي أو لأن إدراكه أقدم من إدراك البصر، وقيل: لأن مدركاته أقل من مدركاته، والخلاف في الأفضل منهما شهير وقد مر، وتقديمها على الأفئدة المشار بها إلى العقل لتقدم الظاهر على الباطن أو لأن لهما مدخلا في إدراكه في الجملة بل هما من خدمه والخدم تتقدم بين يدي السادة، وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة أو لأن مدركاتهما أقل قليل بالنسبة إلى مدركاته كيف لا ومدركاته لا تكاد تحصى وإن قيل: إن للعقل حدا ينتهي إليه كما أن للبصر حدا كذلك، واستأنس بعضهم بذكر ما يشير إليه فقط دون ضم ما يشير إلى سائر المشاعر الباطنة إليه لنفي الحواس الخمس الباطنة التي أثبتها الحكماء بما لا يخلو عن كدر، وتفصيل الكلام في محله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ كي تعرفوا ما أنعم سبحانه به عليكم طورا غب طور فتشكروه، وقيل: المعنى جعل ذلك كي تشكروه تعالى باستعمال ما ذكر فيما خلق لأجله أَلَمْ يَرَوْا وقرأ حمزة. وابن عامر.
وطلحة. والأعمش، وابن هرمز الم تروا بالتاء الفوقية على أنه خطاب العامة، والمراد بهم جميع الخلق المخاطبون قبل في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا على أن المخاطب من وقع في قوله تعالى:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بتلوين الخطاب لأنه المناسب للاستفهام الإنكاري ولذا جعل قراءة الجمهور بياء الغيبة باعتبار غيبة يَعْبُدُونَ ولم يجعلوا ذلك التفاتا وحينئذ فالإنكار باعتبار اندراجهم في العامة، والرؤية بصرية أي ألم ينظروا إِلَى الطَّيْرِ جمع طائر كركب وراكب ويقع على الواحد أيضا وليس بمراد ويقال في الجمع أيضا طيور وأطيار مُسَخَّراتٍ مذللات للطيران، وفيه إشارة إلى أن طيرانها ليس بمقتضى طبعها فِي جَوِّ السَّماءِ أي في الهواء المتباعد من الأرض واللوح والسكاك أبعد منه، وقيل: الجو مسافة ما بين السماء والأرض والجو لغة فيه، وإضافته إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر ولإظهار كمال القدرة، وعن السدي تفسير الجو بالجوف وفسرت السماء على هذا بجهة العلو والطير قد يطير في هذه الجهة حتى يغيب عن النظر ولم يعلم منتهى ارتفاعه في الطيران إلا الله تعالى، وعن كعب أن الطير لا ترتفع أكثر من اثني عشر ميلا. ما يُمْسِكُهُنَّ في الجو عن الوقوع إِلَّا اللَّهُ عز وجل بقدرته الواسعة فإنّ ثقل جسدها ورقة الهواء يقتضيان سقوطها ولا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها، والجملة إما حال من الضمير المستتر في مُسَخَّراتٍ أو من الطَّيْرِ وإما مستأنفة إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من التسخير في الجو والإمساك فيه، وقيل: المشار إليه ما اشتملت عليه هذه الآية والتي قبلها لَآياتٍ دالة على كمال قدرته جل شأنه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي من شأنهم أن يؤمنوا، وخص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به، واقتصر الإمام على جعل المشار إليه ما في هذه الآية قال: وهذا دليل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته سبحانه فإنه جل شأنه خلق الطائر خلقة معها يمكنه الطيران أعطاه جناحا يبسطه مرة ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا اه.
وكذا المولى أبو السعود قال: إن في ذلك الذي ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها خلقة تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحة خفيفة وأذنابا كذلك وجعل أجسادها من الخفة بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابها لا يطيق ثقلها أن يخرق ما تحتها من الهواء الرقيق القوام وتخرق ما بين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه بحجم كبير لآيات ظاهرة، وذكر أن تسخيرها بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المساعدة. وتعقب ذلك أبو حيان بقوله: والذي نقوله إنه كان يمكن الطائر أن يطير ولو لم يخلق له جناح وإنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى ولا نقول: إنه
439
لولا الجناح ولطف الجو والآلات ما أمكن الطيران اه وأنا لا أظن أن أحدا ينفي الإمكان الذاتي للطيران بدون الجناح مثلا لكن لا يبعد نفيه بدون لطف المطار والكثير متى خرق كان المطار لطيفا فافهم. واستدل بالآية على أن العبد خالق لأفعاله، وأولها القاضي وهو ارتكاب لخلاف الظاهر لغير دليل.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ معطوف على ما مر، وتقديم لَكُمْ على ما بعده للتشويق والإيذان من أول الأمر بأن هذا الجعل لمنفعتهم، وقوله تعالى: مِنْ بُيُوتِكُمْ تبيين لذلك المجعول المبهم في الجملة وتأكيد لما سبق من التشويق والإضافة للعهد أي من بيوتكم المعهود التي تبنونها من الحجر والمدر والأخشاب سَكَناً فعل بمعنى مفعول كنقض وأنشد الفراء:
جاء الشتاء ولما أتخذ سكنا يا ويح نفسي من حفر القراميص
وليس بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية أي موضعا تسكنون فيه وقت إقامتكم، وجوز أن يكون المعنى تسكنون إليه من غير أن ينتقل من مكانه أي جعل بعض بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً أي بيوتا أخر مغايرة لبيوتكم المعهودة وهي القباب المتخذة من الأدم والظاهر أنه لا يندرج في هذه البيوت البيوت المتخذة من الشعر والصوف والوبر، وقال ابن سلام وغيره: بالاندراج لأنها من حيث إنها ثابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها. واعترض بأن مِنْ على الأول تبعيضية وعلى إرادة البيوت التي من الشعر ونحوه ابتدائية. فإذا عمم ذلك يلزم استعمال المشترك في معنييه وأجيب بأن القائل بذلك لعله يرى جواز هذا الاستعمال، وممن قال بذلك البيضاوي وهو شافعي. وقيل: الجلود مجاز عن المجموع تَسْتَخِفُّونَها أي تجدونها خفيفة سهلة المأخذ فالسين ليست للطلب بل للوجدان كأحمدته وجدته محمودا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وقت ترحالكم في النقض والحمل وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ ووقت نزولكم وإقامتكم في مسايركم حسبما يتفق في الضرب والبناء، وجوز أن يكون المعنى تجدونها خفيفة في أوقات السفر وفي أوقات الحضر، واختار ابن المنير الأول وقال: إنه التفسير لأن المنة في خفتها في السفر أتم وأقوى إذ لا يهم المقيم أمرها، قال في الكشف: وهو حق، وقال بعض الفضلاء: ينبغي أن يكون الثاني أولى للعموم فإن حالتي السفر اندرجتا في يوم ظعنكم حيث أريد به مقابل الحضر والخفة على المقيم نعمة في حقه أيضا فإنه يضربها وقد ينقلها من مكان إلى مكان قريب لداع يدعو إليه فالأولى أن لا تخلو الآية عن التعرض لذلك اه ولا يخفى أن الاندراج ظاهر إن أريد بالظعن مقابل الحضر وأما إذا أريد به مقابل النزول كما سمعت فغير ظاهر.
نعم يجوز إرادة ذلك، وقرأ الحرميان. وأبو عمرو «ظعنكم» بفتح العين. وباقي السبعة بسكونها وهما لغتان والفتح على ما في المعالم أجزلهما، وقيل: الأصل الفتح والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق كالشعر والشعر.
وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها عطف على قوله تعالى: ومِنْ جُلُودِ والضمير للأنعام على وجه التنويع أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز أَثاثاً أي متاع البيت كالفرش وغيرها كما قال المفضل، قال الفراء: لا واحد له من لفظه كما أن المتاع كذلك ولو جمعت قلت: أأثثة في القليل وأثث في الكثير. وقال أبو زيد: واحدة أثاثة وأصله- كما قال الخليل- من قولهم: أثث النبات والشعر وهو أثيث إذا كثر قال امرؤ القيس:
وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل
ونصبه على أنه معطوف على بُيُوتاً مفعول جعل فيكون مما عطف فيه جار ومجرور مقدم ومنصوب على مثلهما نحو ضربت في الدار زيدا وفي الحجرة عمرا وهو جائز وليس بمستقبح كما زعم في الإيضاح.
440
وجوز أن يكون نصبا على الحال فيكون من عطف الجار والمجرور فقط على مثله أي وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها حال كونها أثاثا. وتعقبه السمين بأن المعنى ليس على هذا وهو ظاهر.
وَمَتاعاً أي شيثا يتمتع به وينتفع في المتجر والمعاش قاله المفضل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المتاع الزينة، وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد، والعطف لتنزيل تغاير اللفظ منزلة تغاير المعنى كما في قوله: وألفى قولها كذبا ومينا. والأول أولى إِلى حِينٍ إلى انقضاء حاجاتكم منه، وعن مقاتل إلى بلى ذلك وفنائه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى الموت، والكلام في ترتيب المفاعيل مثله فيما مر غير مرة.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من غير صنع منكم ظِلالًا أشياء تستظلون بها من الغمام والشجر والجبال وغيرها وهو الذي يقتضيه الظاهر وروي ذلك عن قتادة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد الاقتصار على الغمام، وعن الزجاج وقتادة أيضا الاقتصار على الشجر، وعن ابن قتيبة الاقتصار على الشجر والجبال ولعل كل ذلك من باب التمثيل، وعن ابن السائب أن المراد ظلال البيوت وهو كما ترى، ومن سبحانه بما ذكر لأن تلك الديار كانت غالبة الحرارة وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً مواضع تستكنون فيها من الغيران ونحوها، والواحد كن وأصله السترة من أكنه وكنه أي ستره ويجمع على أكنان وأكنة.
وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ جمع سربال وهو كل ما يلبس أي جعل لكم لباسا من القطن والكتان والصوف وغيرها تَقِيكُمُ الْحَرَّ خصه بالذكر كما قال المبرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر أعني البرد، ولم يخص هو بالذكر اكتفاء لأن وقاية الحر أهم عندهم لما مر آنفا.
وقال بعضهم: من الرأس خص الحر بالذكر لأن وقايته أهم. وتعقب دعوى الأهمية بأنه يبعدها ذكر وقاية البرد سابقا في قوله تعالى: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ ثم قيل: وهذا وجه الاقتصار على الحر هنا لتقدم ذكر خلافه ثمت.
واعترض بأنا لا نسلم أن إثبات الدفء هناك يبعد دعوى الأهمية بل في تغاير الأسلوبين ما يشعر بهذه الأهمية، وقال الزجاج: خص الحر بالذكر لأن ما يقي من الحر يقي من البرد، وذكر ذلك الزمخشري بعد ذكر الأهمية، وقال في الكشف: هو الوجه، وتخصيص الحر بالذكر لما قدمه في الوجه الأول يعني الأهمية، وما قيل: من أولوية الأول لقوله تعالى: مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا فليس بشيء لأنه تعالى عقبه بقوله سبحانه مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً كيف وهو في مقام الاستيعاب اه، وصاحب القيل هو ابن المنير، وقد اعترض أيضا على قوله: إن ما يقي من الحر يقي من البرد بأنه خلاف المعروف فإن المعروف أن وقاية الحر رقيق القمصان ورفيعها ووقاية البرد ضده ولو لبس الإنسان في كل واحد من الفصلين القيظ والشتاء لباس الآخر لعد من الثقلاء اه فتدبر.
وَسَرابِيلَ من الجواشن والدروع تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ أي البأس الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحروب من الضرب والطعن، وقال بعضهم: أصل البأس الشدة وأريد به هنا الحرب، والكلام على حذف مضاف أي أذى بأسكم، وعلى الأول لا حاجة إليه وقد رجح لذلك كَذلِكَ أي مثل ذلك الإتمام للنعمة في الماضي يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في المستقبل، ومن هنا قيل:
كما أحسن الله فيما مضى... كذلك يحسن فيما بقي
أو مثل هذا الإتمام البالغ يتم نعمته عليكم، وإفراد النعمة إما لأن المراد بها المصدر أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جناب الكبرياء شيء قليل. وقرأ ابن عباس «تتم» بتاء مفتوحة و «نعمته» الرفع على الفاعلية وإسناد التمام إليها على الاتساع، وعنه أيضا رضي الله تعالى عنه «نعمه» بصيغة الجمع لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ أي إرادة أن تنظروا فيما أسبغ
441
عليكم من النعم فتعرفوا حق منعمها فتؤمنوا به تعالى وحده وتذروا ما كنتم به تشركون على أن الإسلام بمعناه المعروف أي رديف الإيمان، ويجوز أن يكون بمعناه اللغوي وهو الاستسلام والانقياد أي لعلكم تستسلمون له سبحانه وتنقادون لأمره عز وجل، وأيّا ما كان فهو موضوع موضع سببه كما أشير إليه أو مكنى به عنه.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «تسلمون» بفتح التاء واللام من السلامة أي تشكرون فتسلمون من العذاب أو تنظرون فيها فتسلمون من الشرك، وقيل: تسلمون من الجراح بلبس تلك السرابيل، ولا بأس أن يفسر ذلك بالسلامة من الآفات مطلقا ليشمل آفة الحر والبرد، والأقرب إلى معنى قراءة الجمهور التفسير الثاني.
هذا وفي بعض الآثار أن أعرابيا سمع قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً إلى آخر الآيتين فقال عند كل نعمة: اللهم نعم فلما سمع قوله سبحانه: لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ اللهم هذا فلا فنزلت فَإِنْ تَوَلَّوْا فعل ماض على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وتوجيه الكلام إلى رسول الله ﷺ تسلية له عليه الصلاة والسلام أي فإن داموا على التولي والإعراض وعدم قبول ما ألقي إليهم من البينات فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فلا يضرك لأن وظيفتك هي البلاغ الموضح أو الواضح وقد فعلته بما لا مزيد عليه فهو من باب وضع السبب موضع المسبب، وقال ابن عطية: تقدير المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم فإنما عليك البلاغ لا خلق الإيمان، وجوز أن يكون تَوَلَّوْا مضارعا حذفت إحدى تاءيه وأصله تتولوا فلا التفات لكن قيل عليه: إنه لا يظهر حينئذ ارتباط الجزاء بالشرط إلا بتكلف ولذا لم يلتفت إليه بعض المحققين، وفي التعبير بصيغة التفعيل إشارة كما قيل إلى أن الفطرة الأولى داعية إلى الإقبال على الله تعالى والإعراض لا يكون إلا بنوع تكلف ومعالجة يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ استئناف لبيان أن تولي المشركين وإعراضهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم نعمة الله سبحانه أصلا فإنهم يعرفونها أنها من الله تعالى ثُمَّ يُنْكِرُونَها بأفعالهم حيث لم يفردوا منعمها بالعبادة فكأنهم لم يعبدوه سبحانه أصلا وذلك كفران منزل منزلة الإنكار.
وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال: إنكارهم إياها قولهم: ورثناها من آبائنا، وأخرج هو وغيره أيضا عن عون بن عبد الله أنه قال: إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان أصابني كذا وكذا ولولا فلان لم أصب كذا وكذا وفي لفظ إنكارها إضافتها إلى الأسباب. وقيل: قولهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله تعالى، وحكى صاحب الغنيان يعرفونها في الشدة ثم ينكرونها في الرخاء، وقيل: يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن السدي أنه قال النعمة هنا محمد ﷺ ورجح ذلك الطبري أي يعرفون أنه عليه الصلاة والسلام نبي بالمعجزات ثم ينكرون ذلك ويجحدونه عنادا، وفي لفظ ابن أبي حاتم أنه قال هذا في حديث أبي جهل والأخنس حين سأل الأخنس أبا جهل عن محمد ﷺ فقال: هو نبي. ومعنى ثُمَّ الاستبعاد الإنكار بعد المعرفة لأن حق من عرف النعمة الاعتراف بها وأداء حقها لا إنكارها، وإسناد المعرفة والإنكار المتفرع عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب إسناد حال البعض إلى الكل فإن بعضهم ليسوا كذلك كما هو ظاهر قوله سبحانه: وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ أي المنكرون بقلوبهم غير المعترفين بما ذكر، والحكم عليهم بمطلق الكفر المؤذن بالكمال من حيث الكمية لا ينافي كمال الفرقة الأولى من حيث الكيفية كذا قيل، وجوز أن يكون الإسناد السالف على ظاهره والمراد أن أكثرهم المصرون الثابتون على كفرهم إلى يوم يلقونه فالتعبير بالأكثر لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن، وقيل: المعنى وأكثرهم الجاحدون عنادا، والتعبير بالأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله وعدم اهتدائه إليه أو لعدم نظره في الأدلة نظرا يؤدي إلى المطلوب أو لأنه لم يقم عليه الحجة لكونه لم يصل إلى حد المكلفين لصغر ونحوه وإما لأنه يقام مقام الكل فتأمل.
442
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جماعة من الناس شَهِيداً يشهد لهم بالإيمان والطاعة وعليهم بالكفر والعصيان، والمراد به كما روى ابن المنذر. وغيره عن قتادة نبي تلك الأمة ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي في الاعتذار كما قال سبحانه: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: ٣٤، ٣٥] والظاهر أنهم يستأذنون في ذلك فلا يؤذن لهم، ويحتمل أنهم لا استئذان منهم ولا إذن إذ لا حجة لهم حتى تذكر ولا عذر حتى يعتذر. وقال أبو مسلم:
المعنى لا يسمع كلامهم بعد شهادة الشهداء ولا يلتفت إليه كما في قول عدي بن زيد:
في سماع يأذن الشيخ له وحديث مثل ما ذي مشار
وقيل: لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا، والأول مروي عن ابن عباس وأبي العالية وثم للدلالة على أن ابتلاءهم بعدم الأذن المنبئ عن الاقناط الكلي وذلك عند ما يقال لهم. اخسئوا فيها ولا تكلمون أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام فهي للتراخي الرتبي وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم أي غضبه بالتوبة والعمل الصالح إذ الآخرة دار الجزاء لا دار العمل والرجوع إلى الدنيا مما لا يكون، وقول الزمخشري: أي لا يقال لهم: ارضوا ربكم تفسير باللازم، وقيل: المعنى ولا يطلب رضاهم في أنفسهم بالتلطف بهم من استعتبه كأعتبه إذا أعطاه العتبى وهي الرضا وأيّا ما كان فالمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وانتصاب الظرف على ما قال الحوفي. وغيره بمحذوف تقديره اذكر وقدره بعضهم خوفهم وهو في ذلك مفعول به، وقيل: وهو نصب على الظرفية بمحذوف أي يوم نبعث يحيق بهم ما يحيق، وقال الطبري: هو معطوف على ظرف محذوف العامل فيه ينكرونها أي ثم ينكرونها اليوم ويوم نبعث من كل أمة شهيدا فيشهد عليهم ويكذبهم وليس بشيء وتجري هذه الاحتمالات في قوله تعالى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ أي الذي يستوجبونه بظلمهم وهو عذاب جهنم، والمراد من الذين ظلموا الذين كفروا وكان الظاهر الضمير إلا أنه أقيم المظهر مقامه للنعي عليهم بما ذكر في حيز الصلة وتعليق الرؤية بالعذاب للمبالغة، وقيل: المراد به جهنم نفسها مجازا، ويراد بضميره في قوله تعالى: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ معناه الحقيقي على سبيل الاستخدام وليس بذاك وهذه الجملة قيل: مستأنفة، وقيل: جواب إذا بتقدير فهو لا يخفف لأن المضارع مثبتا كان أو منفيا إذا وقع جواب إذا لا يقترن بالفاء، واستظهره ذلك أبو حيان ونقل عن الحوفي القول بأنه جواب وأنه العامل في إِذا ثم قال: وقد تقدم لنا أن ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا يعمل فيما قبله وبينا أن العامل في إِذا الفعل الذي يليها كسائر أدوات الشرط وإن كان ليس قول الجمهور وتعقب الخفاجي القول بالجوابية بأنه محتاج إلى ما سمعت من التقدير وهو مع كونه خلاف الأصل مناف للغرض في تغاير الجملتين في النظم يعني قوله تعالى: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وقوله سبحانه: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي يمهلون وهو أن عدم التخفيف واقع بعد رؤية العذاب فلذا لم يؤت بجملة اسمية بخلاف عدم الإمهال فإنه ثابت لهم في تلك الحالة اه.
وفي كلام الزمخشري كما في الكشف إشعار بأن الناصب المحذوف لإذا بغتهم وإنه هو الجواب حيث قال بعد أن بين وجه انتصاب اليوم وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون كقوله تعالى: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ [الأنبياء: ٤٠] الآية، وفيه إشعار أيضا بأن عدم التخفيف والإنظار يدل على إثقاله ومباغته كما صرح به في الآية الأخرى حيث أبت الإتيان بغتة والبهت الذي هو الإثقال وزيادة ورتب عليه «فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون» ومثل هذه الفاء فصيحة عنده فافهم، وفي التفسير الكبير قال المتكلمون إن العذاب يجب أن يكون خالصا عن شوائب النفع وهو المراد بقوله تعالى: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ويجب أن يكون دائميا وهو المراد من قوله سبحانه: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وفيه نظر.
443
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ الذين كانوا يزعمونهم شركاء لله سبحانه وتعالى ويعبدونهم معه عز وجل والمراد بهم كل من اتخذوه شريكا له جبل وعلا من صنم ووثن وشيطان وآدمي وملك وإضافتهم إلى ضمير المشركين لهذا الاتخاذ، وقيل: أريد بهم معبوداتهم الباطلة كما تقدم. والإضافة إليهم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم وأنعامهم، واقتصر بعضهم على الأصنام ولعل التعميم أولى، وقال الحسن: شركاؤهم الشياطين شركوهم في الأموال والأولاد، وقيل: شركوهم في الكفر أي كفروا مثل كفرهم، وقيل: شركوهم في وبال ذلك حيث حملوهم عليه قالُوا أي بألسنتهم وقيل: ختم الله تعالى على أفواههم وأنطق جوارحهم فقالت عنهم رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ أي نعبدهم ونطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعا في توزيع العذاب بينهم. واعترض بأنه لا يناسب تفسير الشركاء بالأصنام وفيه أنها تجيء على حالة يعقل معها عذابها فلا بأس في ذلك سواء فسرت الشركاء بالأصنام فقط أو بما يعمها وغيرها، وقال أبو مسلم: مقصودهم من ذلك إحالة الذنب على الشركاء ظنا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم شيئا.
وتعقبه القاضي بأنه بعيد لأن الكفار يعلمون علما ضروريا في الآخرة أن العذاب سينزل بهم ولا نصرة ولا فدية ولا شفاعة، وأورد نحوه على ما ذكرنا بناء على أنهم يعلمون ضروريا أيضا أنه لا يحمل أحد من عذابهم شيئا.
وأجيب بأنه على تقدير تسليم حصول العلم الضروري لهم بذلك إذ ذاك يجوز أن يدهشوا فيغفلوا عن ذلك فيقولوا ما يقولون طامعين فيما ذكر وهو نظير قولهم: «ربنا خفف عنا يوما من العذاب. يا مالك ليقض علينا ربك. ربنا أخرجنا نعمل صالحا» إلى غير ذلك مما لهم على ضروري عند بعضهم بأنه لا يكون. وقيل: القوم مع علمهم بأن ما يرجونه ويطمعون فيه لا يحصل لهم أصلا وعدم غفلتهم عن ذلك تغلبهم أنفسهم بمقتضى الطبيعة لشدة ما هم فيه والعياذ بالله تعالى حتى تعلق آمالها بالمحال، وقيل: قالوا ذلك اعترافا بأنهم كانوا مخطئين في عبادتهم. وتعقب بأنه لا يناسب قوله تعالى: «من دونك» وفيه تأمل. نعم قوله تعالى: فَأَلْقَوْا أي شركاؤهم إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ أظهر ملاءمة للأول فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ظاهر في كونه للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه والظاهر أن التكذيب راجع إلى دعوى أنهم كانوا يعبدونهم أو يطيعونهم من دون الله تعالى ومرادهم على ما قيل: إنكم ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أشياء تصورتموها بأذهانكم الفاسدة وزعمتم أنا هاتيك الأشياء وهيهات هيهات ليس بيننا وبينها جهة جامعة ولا علاقة نافعة، وقيل: إنما كذبوهم وقد كانوا يعبدونهم لأن الأوثان ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة لهم كما قالت الملائكة عليهم السلام: «بل كانوا يعبدون الجن» يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن، والشياطين وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر والإلجاء كما قال إبليس: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: ٢٢] فكأنهم قالوا: ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أهواءكم، وقيل: يجوز أن يكون الشياطين كاذبين في إخبارهم بكذب من عبدهم كما كذب إبليس عليه اللعنة في قوله: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ
[إبراهيم: ٢٢] وجوز أن يكون التكذيب راجعا إلى أنهم شركاء لله سبحانه لا إلى أنهم كانوا يعبدونهم ومرادهم تنزيه الله جل وعلا عن الشريك في ذلك الموقف، وخص هذا بعضهم بتقدير إرادة الشياطين من الشركاء فافهم، والظاهر أن قائل هذا جميع الشركاء ولا يمنع من ذلك تفسيره بما يعم الأصنام إذ لا بعد في أن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء بذلك، وجوز على التعميم أن يكون القائل بعضهم وهو من يعقل منهم وكان الظاهر- فقالوا لهم إنكم لكاذبون- إلا أنه عدل إلى ما في النظم الكريم للإشارة إلى أنهم قالوا ذلك لهم على وجه الإفصاح بحيث يدرك ويمتاز عن غيره، وفيه من الإشعار بالحرص على
444
تكذيبهم ما فيه، ويؤيد ذلك تأكيدهم الملة الدالة على تكذيبهم أتم تأكيد، وهي في موضع البدل من القول كما قال الإمام أي ألقوا إليهم أنكم لكاذبون وَأَلْقَوْا أي الذين أشركوا، وقيل: هم وشركاؤهم جميعا، والأكثرون على الأول إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ الاستسلام والانقياد لحكمه تعالى العزيز الغالب بعد الإباء والاستكبار في الدنيا فلم يكن لهم إذ ذاك حيلة ولا دفع. وروى يعقوب عن أبي عمرو وأنه قرأ «السّلم» بإسكان اللام، وقرأ مجاهد السلم بضم السين واللام وَضَلَّ عَنْهُمْ ضاع وبطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الله سبحانه شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين سمعوا ما سمعوا.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ بنسبة ذلك إلى غيره سبحانه ورؤيته منه لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعمة بالغفلة عن منعمها فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ذلك أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا تأثير لغيره تعالى في شيء وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ فيعتقدون فيه من الجهالات ما يعتقدون وهو السوي نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ فيقولون هو أعطاني كذا ولو لم يعطني لكان كذا وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ الإشارة فيه على ما في أسرار القرآن إلى ما تشربه الأرواح مما يحصل في العقول الصافية بين النفس والقلب من زلال بحر المشاهدة وهناك منازل اعتبار المعتبرين، والإشارة في قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً على ما في أيضا إلى ما تتخذه الأرواح والأسرار من ثمرات نخيل القلوب وأعناب العقول من خمر المحبة والأنس الآخذة بها إلى حضيرة القدس:
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ قيل أي نحل الأرواح أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ أي جبال أنوار الذات بُيُوتاً مقار لتسكنين فيها وَمِنَ الشَّجَرِ أي ومن أشجار أنوار الصفات وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أنوار عروش الأفعال ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من ثمرات تلك الأشجار الصفاتية ونور بهاء الأنوار الذاتية وأزهار الأنوار الإفعالية فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ وهي صحارى قدسه تعالى وبراري جلاله جل شأنه ذُلُلًا منقادة لما أمرت به يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ وهو شراب معرفته تعالى بقدم جلاله وعز بقائه وتقدس ذاته سبحانه مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ باختلاف الثمرات فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ لكل مريض المحبة وسقيم الإلفة ولديغ الشوق، وقيل: الإشارة بالنحل إلى الذين هم في مبادي السلوك من أرباب الاستعداد، ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره في مولانا ابن الفارض قدس سره حين سئل عنه: نحلة تدندن حول الحمى أمرهم الله تعالى أولا أن يتخذوا مقار من العقائد الدينية التي هي كالجبال في الرسوخ، الثبات ومن العبادات الشرعية التي هي كالشجر في التشعب ومن المعاملات المرضية التي هي كالعروش في الارتفاع ثم يسلكوا سبله سبحانه وطرقه الموصلة إليه جل شأنه من تهذيب الباطن والمراقبة والفكر ونحو ذلك متذللين خاضعين غير معجبين، وفي ذلك إشارة إلى أن السلوك إنما يصح بعد تصحيح العقائد ومعرفة الأحكام الشرعية ليكون السالك على بصيرة في أمره وإلا فهو كمن ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء، ومتى سلك على ذلك الوجه حصل له الفوز بالمطلوب وتفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وصار ما يقذف به قلبه كالعسل شفاء من علل الشهوات وأمراض النفس لا سيما مرض التثبط والتكاسل عن العبادة وهو المرض البلغمي.
وقال أبو بكر الوراق: النحلة لما اتبعت الأمر وسلكت سبل ربها على ما أمرت به جعل لعابها شفاء للناس كذلك المؤمن إذا اتبع الأمر وحفظ السر وأقبل على ربه عز وجل جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق فمن نظر إليه
445
اعتبر ومن سمع كلامه اتعظ ومن جالسه سعد انتهى. وفي الآية إشارة أيضا إلى أنه تعالى قد يودع الشخص الحقير الشيء العزيز فإنه سبحانه أودع النحل وهي من أحقر الحيوانات وأضعفها العسل وهو من ألذ المذوقات وأحلاها فلا ينبغي التقيد بالصور والاحتجاب بالهيئات،
وفي الحديث «رب أشعث أغبر ذي طمرين لو اقسم على الله تعالى لأبره»
وعن يعسوب المؤمنين على كرم الله تعالى وجهه لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ قيل الإشارة فيه إلى تفاوت أرزاق السالكين فرزق بعضهم طاعات، وبعض آخر مقامات وبعض حالات وبعض مكاشفات وبعض مشاهدات وبعض معرفة وبعض محبة وبعض توحيد إلى غير ذلك، وذكروا أن رزق الأشباح العبودية ورزق الأرواح رؤية أنوار الربوبية ورزق العقول الأفكار ورزق القلوب الأذكار ورزق الأسرار حقائق العلوم الغيبية المكشوفة لها في مجالس القرب ومشاهدة الغيب فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ لتقدسه تعالى عن الأوهام والإشارات والعبارات وتنزهه سبحانه عن درك الخليقة فإن الخلق لا يدرك إلا خلقا، ولذا
قال علي كرم الله تعالى وجهه: إنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها فلا يعرف الله تعالى إلا الله عز وجل
وعلل النهي بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً محبا لغير الله تعالى ولا شك أن المحب أسير بيد المحبوب لا يقدر على شيء لأنه مقيد بوثاق المحبة وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فجعلناه محبا لنا مقبلا بقلبه علينا متجردا عما سوانا وآتيناه من لدنا علما فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وذلك من النعم الباطنة وَجَهْراً وذلك من النعم الظاهرة وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا استعداد فيه للنطق وهو مثل المشرك لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ لعدم استطاعته وقصور قوته للنقص اللازم لاستعداده وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ لعجزه بالطبع عن تحصيل حاجة أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ لعدم استعداده وشرارته بالطبع فلا يناسب إلا الشر الذي هو العدم هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وهو الموحد القائم بالله تعالى الفاني عن غيره، والعدل على ما قيل: ظل الوحدة في عالم الكثيرة وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صراط العزيز الحميد الذي عليه خاصته تعالى من أهل البقاء بعد الفناء الممدود على نار الطبيعة لأهل الحقيقة يمرون عليه كالبرق اللامع وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ علم مراتب الغيوب أو ما غاب من حقيقتهما أو ما خفي فيهما من أمر القيامة الكبرى وَما أَمْرُ السَّاعَةِ أي القيامة الكبرى بالقياس إلى الأمور الزمانية إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ وهو بناء على التمثيل وإلا فقد قيل: إن أمر الساعة ليس بزماني وما كان كذلك يدركه من يدركه لا في الزمان إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن ذلك أمر الساعة وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً الآية، قال في أسرار القرآن: أخبر سبحانه أنه أخرجهم من بطون الأقدار وأرحام العدم وأصلاب المشيئة على نعت الجهل لا يعلمون شيئا من أحكام الربوبية وأمور العبودية وأوصاف الأزل فالبسهم أسماعا من نور سمعه وكساهم أبصارا من نور بصره وأودع في قلوبهم علوم غيبته لعلهم يشكرونه انتهى. وهو ظاهر في أن المراد بالأفئدة القلوب.
وذكر بعض من أدركناه من المرتاضين في كتابه الفوائد وشرحه أن مشاعر الإنسان الصدر، والمراد به الخيال والنفس الكلية التي هي محل الصور العلمية كلية أو جزئية فهو محل العلم المقابل للجهل، والقلب وهو محل المعاني واليقين بالنسب الحكمية ويقابله الشك والريب، والفؤاد وهو محل المعارف الإلهية المجرد عن جميع الصور والنسب والأوضاع والإشارات والجهات والأوقات ويقابلها الإنكار وهو أعلى المشاعر، ونور الله تعالى المشار إليه
بقوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى»
وهو الوجود لأنه الجهة العليا من الإنسان أعني وجهه من جهة ربه وبه يعرف الله تعالى وهو في الإنسان بمنزلة الملك في المدينة والقلب بمنزلة الوزير له انتهى، وله أيضا كلام
446
ثم أنه تعالى بعد ما بين أن جميع الموجودات، خاضعة منقادة له تعالى أردف ذلك بحكاية نهيه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الاشراك فقال عز قائلا :
﴿ وَقَالَ الله ﴾ عطفاً على قوله سبحانه :﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ﴾ [ النحل : ٤٩ ]. وجوز أن يكون معطوفاً على ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر ﴾ [ النحل : ٤٤ ] وقيل : إنه معطوف على ﴿ مَّا خَلَقَ الله ﴾ [ النحل : ٤٨ ] على أسلوب :
علفتها تبناً وماء بارداً. . . أي أو لم يروا إلى ما خلق الله ولم يسمعوا إلى ما قال الله ولا يخفى تكلفه، وإظهار الفاعل وتخصيص لفظة الجلالة بالذكر للإيذان بأنه تعالى متعين الألوهية وإنما المنهى عنه هو الإشراك به لا أن المنهى عنه هو مطلق اتخاذ الهين بحيث يتحقق الانتهاء عنه برفض أيهما كان، ولم يذكر المقول لهم للعموم أي قال تعالى لجميع المكلفين بواسطة الرسل عليهم السلام :﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين ﴾ المشهور أن ﴿ اثنين ﴾ وصف لإلهين وكذا «واحد » في قوله سبحانه :﴿ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ ﴾ صفة لإله، وجيء بهما للايضاح والتفسير لا للتأكيد وان حصل. وتقرير ذلك أن لفظ «إلهين » حامل لمعنى الجنسية أعني الإلهية ومعنى العدد أعنى الاثنينة وكذا لفظ «إله » حامل لمعنى الجنسية والوحدة، والغرض المسوق له الكلام في الأول النهي عن اتخاذ الاثنين من الاله لا عن اتخاذ جنس الإله، وفي الثاني إثبات الواحد من الإله لا إثبات جنسه فوصف «آلهين » باثنين «وإله » بواحد إيضاحاً لهذا الغرض وتفسيراً له، فإنه قد يراد بالمفرد الجنس نحو نعم الرجل زيد. وكذا المثنى كقوله :
فإن النار بالعودين تذكى. . . وأن الحرب أولها الكلام
وإلى هذا ذهب صاحب الكشاف هو ما يفهم منه أنه تأكيد فمعناه أنه تأكيد فمعناه أنه محقق ومقرر من المتبوع فهو تأكيد لغوى لا أنه مؤكد أمر المتبوع في النسبة أو الشمول ليكون تأكيداً صناعياً كيف وهو إنما يكون بتقرير المتبوع بنفسه أو بما يوافقه معنى أو بألفاظ محفوظة، فما قيل : إن مذهبه إن ذلك من التأكيد الصناعي ليس بشيء إذ لا دلالة في كلامه عليه. وقد أورد السكاكي الآية في باب عطف البيان مصرحاً بأنه من هذا القبيل فتوهم منه بعضهم أنه قائل بأن ذلك عطف بيان صناعي، وهو الذي اختارخ العلامة القطب في شرح المفتاح نافياً كونه وصفاً، واستدل على ذلك بأن معنى قولهم : الصفة تابع يدل على معنى في متبوعه أنه تابع ذكر ليدل على معنى في متبوعه على ما نقل عن ابن الحاجب، ولم يذكر ﴿ اثنين ﴾ للدلالة على الاثنينة والوحدة اللتين في متبوعهما فيكونا وصفين بل ذكرا للدلالة على أن القصد من متبوعهما إلى أحد جزئيه أعنى الأثنينية والوحدة دون الجزء الآخر أعنى الجنسية، فكل منهما تابع غير صفة يوضح متبوعه فيكون عطف بيان لا صفة.
وقال العلامة الثاني : ليس في كلام السكاكي ما يدل على أنه عطف بيان صناعي لجواز أن يريد أنه من قبيل الإيضاح والتفسير وإن كان وصفاً صناعياً، ويكون إيراده في ذلك المبحث مثل إيراد كل رجل عارف وكل إنسان حيوان في بحث التأكيد ومثل ذلك عادة له.
وتعقب العلامة الأول بأنه إن أريد أنه لم يذكر إلا ليدل على معنى في متبوعه فلا يصدق التعريف على شيء من الصفة لأنها البتة تكون لتخصيص أو تأكيد أو مدح أو نحو ذلك وإن أريد أنه ذكر ليدل على هذا المعنى ويكون الغرض من دلالته عليه شيئاً آخر كالتخصيص والتأكيد وغيرهما فيجوز أن يكون ذكر ﴿ اثنين ﴾ للدلالة على الاثنينية والوحدة ويكون الغرض من هذا بيان المقصود وتفسيره، كما أن الدابر في أمس الدابر ذكر ليدل على معنى الدبور والغرض منه التأكيد بل الأمر كذلك عند التحقيق، ألا ترى أن السكاكي جعل من الوصف ما هو كاشف وموضح ولم يخرج بهذا عن الوصفية. وأجيب بأنا نختار الشق الثاني ونقول : مراد العلامة من قوله : ذكر ليدل على معنى في متبوعه أن يكون المقصود من ذكره الدلالة على حصول المعنى في المتبوع ليتوسل بذلك إلى التخصيص أو التوضيح أو المدح أو الذم إلى غير ذلك وذكر ﴿ اثنين ﴾ ليس للدلالة على حثول الاثنينية والوحدة في موصوفيهما بل تعيين المقصود من جزئيهما فلا يكونان صفة، وذكر الدابر ليدل على حصول الدبور في الأمس ثم يتوسل بذلك إلى التأكيد وكذا في الوصف الكاشف بخلاف ما نحن فيه فتدبره فإنه غامض. ولم يجوز العلامة الأول البدلية فقال : واما أنه ليس ببدل فظاهر لأنه لا يقوم مقام المبدل منه.
ونظر فيه العلامة الثاني بأنا لا تسلم أن البدل يجب صحة قيامه مقام المبدل منه فقد جعل الزمخشري «الجن » في قوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الجن ﴾ [ الأنعام : ١٠٠ ] بدلاً من «شركاء » ومعلوم أنه لا معنى لقولنا وجعلوا لله الجن، ثم قال : بل لا يبعد أن يقال : الأولى أنه بدل لأنه المقصود بالنسبة إذ النهي عن اتخاذ الاثنين من الإله على ما مر تقريره. وتعقب بأن الرضى قد ذكر أنه لما لم يكن البدل معنى في المتبوع حتى يحتاج إلى المتبوع كما احتاج الوصف ولم يفهم معناه من المبتوع كما فهم ذلك في التأكيد جاز اعتباره مستقلاً لفظاً أي صالحاً لأن يقوم مقام المتبوع اه.
ولا يخفى أن صحة إقامته بهذا المعنى لا تقتضي أن يتم معنى الكلام بدونه حتى يرد ما أورد ؛ وقيل : إن ذكر «اثنين » للدلالة على منافاة الاثنينية للالوهية وذكر الوحدة للتنبيه على أنها من لوازم الألوهية.
وجعل ذلك بعضهم من روادف الدلالة على كون ما ذكر مساق النهي والإثبات وهو الظاهر وإن قيل فيه ما قيل.
وزعم بعضهم ان ﴿ تَتَّخِذُواْ ﴾ متعد إلى مفعولين وأن ﴿ اثنين ﴾ مفعوله الأول «وإلهين » مفعوله الثاني والتقدير لا تتخذوا اثنين إلهين، وقيل : الأول مفعول أول والثاني ثان، وقيل :«إلهين » مفعوله الأول «واثنين » باق على الوصفية والتوكيد والمفعول الثاني محذوف أي معبودين، ولا يخفى ما في ذلك، وإثبات الوحدة له تعالى مع أن المسمى المعين لا يتعدد بمعنى أنه لا مشارك له في صفاته وألوهيته فليس الحمل لغواً، ولا حاجة لجعل الضمير للمعبود بحق المفهوم من الجلالة على طريق الاستخدام كما قيل، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في سورة الاخلاص.
وفي التعبير بالضمير الموضوع للغائب التفات من التكلم إلى الغيبة على رأي السكاكي المكتفي بكون الأسلوب الملتفت عنه حق الكلام وإن لم يسبق الذكر على ذلك الوجه، واما قوله تاعلى :﴿ فإياي فارهبون ﴾ ففيه التفات من الغيبة إلى التكلم على مذهب الجمهور أيضاً، والنكتة فيه بعد النكتة العامة أعني الايقاظ وتطرية الاصغاء المبالغة في التخويف والترهيب فإن تخويف الحاضر مواجهة أبلغ من تخويف الغائب سيما بعد وصفه بالوحدة والألوهية المقتضية للعظمة والقدرة التامة على الانتقام.
والفاء في ﴿ فإياي ﴾ واقعة في جواب شرط مقدر و ﴿ *إياي ﴾ مفعول لفعل محذوف يقدر مؤخراً يدل عليه ﴿ وإياى فارهبون ﴾ أي إن رهبتم شيئاً فإياي ارهبوا، وقول ابن عطية : أن ﴿ *إياي ﴾ منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ذهول عن القاعدة النحوية، وهي انه إذا كان المعمول ضميراً منفصلاً والفعل متعد إلى واحد هو الضمير وجب تأخر الفعل نحو ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [ الفاتحة : ٥ ] ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله :
إليك حتى بلغت إياكا. . . وعطف المفسر المذكور على المفسر المحذوف بالفاء لأن المراد رهبة بعد رهبة، وقيل : لأن المفسر حقه إن يذكر بعد المفسر، ولا يخفى فصل الضمير وتقديمه من الحصر أي ارهبوني لا غير فانا ذلك الإله الواحد القادر على الانتقام
﴿ وَلَهُ مَا في * السموات والأرض ﴾ عطف على قوله سبحانه :﴿ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ ﴾ [ النحل : ٥١ ] أو على الخبر أو مستأنف جيء به تقريراً لعلة انقياد ما فيهما له سبحانه خاصة وتحقيقاً لتخصيص الرهبة به تعالى، وتقديم الظرف لتقوية ما في اللام من معنى التخصيص، وكذا يقال فيما بعد أي له تعالى وحده ما في السموات والأرض خلقا وملكا ﴿ وَلَهُ ﴾ وحده ﴿ الدين ﴾ أي الطاهة والانقياد كما هو أحد معانيه. ونقل عن ابن عطية وغيره ﴿ وَاصِبًا ﴾ أي واجباً لازماً لا زوال له لما تقرر أنه سبحانه الإله وحده الحقيق بأن يرهب، وتفسير ﴿ وَاصِبًا ﴾ بما ذكر مروى عن ابن عباس. والحسن. وعكرمة. ومجاهد. والضحاك. وجماعة، وأنشدوا لأبي الأسود الدؤولي :
لا أبتغى الحمد القليل بقاؤه. . . يوماً بذم الدهر أجمع واصبا
وقال ابن الأنباري : هو من الوصب بمعنى التعب أو شدته، وفاعل للنسب كما في قوله :
وأضحى فؤادي به فاتنا. . . أي ذا وصب وكلفة، ومن هنا سمى الدين تكليفاً، وقال الربيع بن أنس :﴿ وَاصِبًا ﴾ خالصاً، ونقل ذلك أيضا عن الفراء، وقيل : الدين الملك والواصب الدائم، ويبعد ذلك قول أمية بن الصلت :
وله الدين واصبا وله الم. . . لك وحمد له على كل حال
وقيل : الدين الجزاء والواصب كما في سابقه أي له تعالى الجزاء دائماً لا ينقطع ثوابه للمطيع وعقابه للعاصي، وأياً ما كان فنصب ﴿ وَاصِبًا ﴾ على أنه حال من ضمير ﴿ الدين ﴾ المستكن في الظرف والظرف عامل فيه أو حال من ﴿ الدين ﴾ والظرف هو العامل على رأي من يرى جواز اختلاف العامل في الحال والعامل في صاحبها. واستدل بالآية على أن أفعال العباد مخلوقة تعالى :﴿ أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ ﴾ الهمزة للانكار والفاء للتعقب أي أبعد ما تقرر من تخصيص جميع الموجودات للسجود به تعالى وكون ذلك كله له سبحانه ونهيه عن اتخاذ الإلهين وكون الدين له واصباً المستدعى ذلك لتخصيص التقوى به تاعلى تتقون غيره، والمنكر تقوى غير الله تعالى لا مطلق التقوى ولذا قدم الغير، وأولي الهمزة لا للاختصاص حتى يرد أن انكار تخصيص التقوى بغيره سبحانه لا ينافي جوازها، وقيل : يصح أن يعتبر الاختصاص بالانكار فيكون التقديم لاختصاص الإنكار لا لإنكار الاختصاص. وفي البحر أن هذا الاستفهام يتضمن التوبيخ والتعجب أي بعد ما عرفتم من وحدانيته سبحانه وأن ما سواه له ومحتاج إليه كيف تتقون وتخافون غيره.
﴿ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله ﴾ أي أي شيء يلابسكم ويصاحبكم من نعمة أي نعمة كانت فهي منه تاعلى فما موصولة مبتدأ متضمنة معنى الشرط و ﴿ مِنَ الله ﴾ خبرها والفاء زائدة في الخبر لذلك التضمن و ﴿ مِن نّعْمَةٍ ﴾ بيان للموصول و ﴿ بِكُمْ ﴾ صلته، وأجاز الفراء وتبعه الحوفي أن تكون ﴿ مَا ﴾ شرطية وفعل الشرط محذوف أي وما يكن بكم من نعمة الخ. واعترضه أبو حيان بأنه لا يحذف فعل الشرط إلا بعد إن خاصة في موضعين باب الاشتغال نحو ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ ﴾ [ التوبة : ٦ ] وأن تكون إن الشرطية متلوة بلا النافية وقد دل على الشرط ما قبله كقوله :
فطلقها فلست لها بكفء. . . وإلا يعل مفرقك الحسام
وحذفه في غير ما ذكر ضرورة كقوله :
قالت بنات العم يا سلمى وإن. . . كان فقيراً معدماً قالت وإن
وقوله :
أينما الريح تمليها تمل. . . وأجيب بأن الفراء لا يسلم هذا فما أجازه مبني على مذبه. واستشكل أمر الشرطية على الوجهين من حيث أن الشرط لا بد أن يكون سبباً للجزاء كما تقول : إن تسلم تدخل الجنة فإن الإسلام سبب لدخول الجنة وهنا على العكس، فإن الأول وهو استقرار النعمة بالمخاطبين لا يستقيم أن يكون سبباً للثاني وهو كونها من الله من جهة كونه فرعاً عنه. وأجاب في إيضاح المفصل بأن الآية جيء بها لاخبار قوم استقرت بهم نعم جهلوا معطيها أوشكوا فيه أو فعلوا ما يؤدي إلى أن يكونوا شاكين فاستقرارها مجهولة أو مشكوكة سبب للاخبار بكونها من الله تعالى فيتحقق أن الشرط والمشروط فيها على حسب المعروف من كون الأول سبباً والثاني مسبباف، وقد وهم من قال : إن الشرط قد يكون مسبباً. وفي الكشف أن الشرط والجزاء ليسا على الظاهر فإن الأول ليس سبباً للثاني بل الأمر بالعكس لكن المقصود منه تذكيرهم وتعريفهم فالاتصال سبب العلم بكونها من الله تعالى، وهذا أولى مما قدره ابن الحاجب من أنه سبب الأعلام بكونها منه لأنه في قوم استقرت بهم النعم وجهلوا معطيها أوشكوا فيه، ألا ترى إلى ما بنى عليه بعد كيف دل على أنهم عالمون بأنه سبحانه المنعم ولكن يضطرون إليه عند الإلجاء ويكفرون بعد الإنجاء انتهى. وفيه أنه يدفع ما ذكره بأن علمهم نزل لعدم الاعتداد به وفعلهم ما ينافيه منزلة الجهل فأخبروا بذلك كما تقول لمن توبخه : أما أعطيتك كذا أما وأما ﴿ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر ﴾ مساساً يسيراً ﴿ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ﴾ تتضرعون في كشفه لا إلى غيره كما يفيده تقديم الجار والجرور، والجؤار في الأصل صياح الوحش واستعمل في رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة، قال الأعشى يصف راهباً :
يداوم من صلوات المليك. . . طوراً سجوداً وطوراً جؤراً
وقرى الزهري «تجرون » بحذف الهمزة والقاء حركتها على الجيم، وفي ذكر المساس المنبىء عن أدنى إصابة وإيراده بالجملة الفعلية المؤذنة بالحدوث مع ثم الدالة على وقوعه بعد برهة من الدهر وتحلية ﴿ الضر ﴾ بلام الجنس المفيدة لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس مع إيراد النعمة بالجملة الاسمية المؤذنة بالدوام والتعبير عن ملابستها للمخاطبين بباء المصاحبة وأيراد ﴿ مَا ﴾ المعربة عن العموم على احتماليها ما لا يخفى من الجزالة والفخامة.
ولعل إيراد «إذا » دون ان للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب قاله الملوى أبو السعود، وفيه ما يعرف مع الجواب عنه بأدنى تأمل، وكان الظاهر على ما قيل أن يقال بعد ﴿ أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ ﴾ [ النحل : ٥٢ ] : وما يصيبكم ضر إلا منه ليقوي إنكار اتقاء غيره سبحانه لكن ذكر النفع الذي يفهم بواسطته الضر واقتصر عليه إشارة إلى سبق رحمته وعمومها وبملاحظة هذا المعنى قيل : يظهر ارتباط «وما بكم من نعمة فمن الله » بما قبله، وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك، واستدل بالآية على أن لله تاعلى نعمة على الكافر وعلى أن الإيمان مخلوق له تعالى.
﴿ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ ﴾ أي رفع ما مسكم من الضر ﴿ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾ أي يتجدد إشراكهم به تعالى بعبادة غيره سبحانه، والخطاب في الآية ان كان عاماً فمن للتبعيض والفريق الكفرة، وإن كان خاصاً بالمشركين كما استظهره في الكشف فمن للبيان على سبيل التجريد ليحسن وإلا فليس من مواقعه كما قيل، والمعنى إذا فريق هم أنتم يشركون ؛ وجوز على هذا الاحتمال في الخطاب كون من تبعيضية أيضاً لأن من المشركين من يرجع عن شركه إذا شاهد ضراً شديداً كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ [ لقمان : ٣٢ ] على تقدير أن يفسر الاقتصاد بالتوحيد لا بعدم الغلو في الكفر، و ﴿ إِذَا ﴾ الأولى شرطية والثانية فجائية والجلمة بعدها جواب الشرط، واستدل أبو حيان باقترانها باذا الفجائية على أن إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، و ﴿ بِرَبّهِمْ ﴾ متعلق بيشركون والتقديم لمراعاة رؤوس الآي، والتعرض لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبح ما ارتكبوه من الاشراك الذي هو غاية في الكفران.
و ﴿ ثُمَّ ﴾ قال في إرشاد العقل السلم ليست لتمادي زمان مساس الضر ووقوع الكشف بعد برهة مديدة بل للدلالة على تراخي رتبة ما يترتب عليه من مفاجآت الاشراك فإن ترتبها على ذلك في أبعد غاية من الضلال.
وفي الكشف متعقباً صاحب الكشاف بأنه لم يذكر وجه الكلام في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر* فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ﴾ وهو على وجهين والله تعالى أعلم. أحدهما أن يكون قوله سبحانه ﴿ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله ﴾ [ النحل : ٥٣ ] من تتمة السابق على معنى إنكار إتقاء غير الله تعالى وقد علموا أن كل ما يتقلبون فيه من نعمته فهو سبحانه القادر على سلبها، ثم أنكر عليهم تخصيصهم بالجؤار عند الضر في مقابلة تخصيص غيره بالاتقاء ثم اشراكهم به تعالى كفراناً لتلك النعمة وجيء بثم لتفاوت الانكارين فإن اتقاء غير المنعم أقرب من الاعراض عنه وهو متقلب في نعمه ثم اللجأ إلى هذا المكفور به وحده عند الحاجة، وأبعد منه الأعراض ولم يجف قدمه من ندى النجاة.
والثاني أن يكون جملة مستقلة واردة للتقريع و ﴿ ثُمَّ ﴾ في الأول لتراخي الزمان اشعاراً بأنهم غمطوا تلك النعم ولم يزالوا عليه إلى وقت الإلجاء، وفيه الأشعار بتراخي الرتبة أيضاً على سبيل الإشارة وفي الثاني لتراخي الرتبة وحده، اه وهو كلام نفيس، وللطيبي كلام طويل في هذا المقام ان أردته فارجع إليه.
وقرأ الزهري ﴿ ثُمَّ إِذَا * كاشف ﴾ وفاعل هنا بمعنى فعل، وفي الآية ما يدل على أن صنيع أكثر العوام اليوم من الجؤار إلى غيره تعالى ممن لا يملك لهم بل ولا لنفسه نفعاً ولا ضراً عند إصابة الضر لهم واعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية سفه عظيم وضلال جديد لكنه أشد من الضلال القديم، ومما تقشعر منه الجلود وتصعر له الخدود الكفرة أصحاب الأخدود فضلاً عن المؤمنين باليوم الموعود ان بعض المتشيخين قال لي وأنا صغير : إياك ثم إياك أن تستغيث بالله تعالى إذا خطب دهاك فإن الله تعالى لا يعجل في اغاثتك ولا يهمه سوء حالتك وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين فأنهم يعجلون في تفريج كربك ويهمهم سوء ما حل بك فمج ذلك سمعي وهمي دمعي وسألت الله تعالى أن يعصمني والمسلمين من أمثال هذا الضلال المبين، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات مثل ذلك.
( هذا ومن باب الإشارة ) : في الآيات :﴿ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [ النحل : ٥٤ ] بنسبة ذلك إلى غيره سبحانه ورؤيته منه
﴿ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم ﴾ من نعمة الكشف عنهم، فالكفر بمعنى كفران النعمة واللام لام العاقبة والصيرورة، وهي استعارة تبعية فإنه لما لم ينتج كفرهم واشراكهم غير كفران ما أنعم الله تعالى به عليهم جعل كأنه علة غائية له مقصودة منه، وجوز أن يكون الكفر بمعنى الجحود أي انكار كون تلك النعمة من الله تعالى واللام هي اللام، والمعنيان متقاربان ﴿ فَتَمَتَّعُواْ ﴾ أمر تهديد كما هو أحد معاني الأمر المجازية عند الجمهور كما يقول السيد لعبده افعل ما تريد، والالتفات إلى الخطاب للإيذان بتناهي السخط.
وقرأ أبو العالية ﴿ *فيمتعوا ﴾ بضم الياء التحتية ساكن الميم مفتوح التاء مضارع متع مخففاً مبنياً للمفعول وروى ذلك مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معطوف ﴿ أَن يَكْفُرُواْ ﴾ على أن يكون الأمران عرضاً لهم من الاشراك، ويجوز أن يكون لام ﴿ لِيَكْفُرُواْ ﴾ لام الأمر والمقصود منه التهديد بتخليتهم وما هم فيه لخذلانهم، فالفاء واقعة في جواب الأمر وما بعدها منصوب باسقاط النون، ويجوز جزمه بالعطفأيضاً كما ينصب بالعطف إذا كانت اللام جارة ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب، وفيه وعيد شديد حيث لم يذكر المفعول اشعاراً بأنه لا يوصف. وقرأ أبو العالية أيضاً ﴿ يَعْلَمُونَ ﴾ بالياء التحتية وروي ذلك مكحول عن أبي رافع أيضاً.
( هذا ومن باب الإشارة ) :﴿ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم ﴾ من النعمة بالغفلة عن منعها ﴿ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ النحل : ٥٥ ] وبال ذلك أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا تأثير لغيره تعالى في شيء
﴿ وَيَجْعَلُونَ ﴾ قيل معطوف على ﴿ يُشْرِكُونَ ﴾ [ النحل : ٥٤ ] وليس بشيء، وقيل : لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعداداً لجناياتهم أي يفعلون مما قص عليك ويجعلون ﴿ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها وأنها لا تضر ولا تنفع على أن ﴿ مَا ﴾ موصولة والعائد محذوف وضمير الجمع للكفار أو لآلهتهم التي لا علم لها بشيء لأنها جماد على أن دما } موصولة أيضاً عبارة عن الآلهة، وضمير ﴿ يَعْلَمُونَ ﴾ عائد عليه، ومفعول ﴿ يَعْلَمُونَ ﴾ مترك لقصد العموم، وجوز أن ينزل منزلة اللازم أي ليس من شأنهم العلم، وصيغة جمع العقلاء لوصفهم الآلهة بصفاتهم، ويجوز أن تكون ﴿ مَا ﴾ مصدرية وضمير الجمع للمشركين واللام تعليلة لا صلة الجعل كام في الوجهين الأولين، وصلته محذوفة للعلم بها أي يجعلون لآلهتهم لأجل جعلهم ﴿ نَصِيبًا مّمّا رزقناهم ﴾ من الحرث والانعام وغيرهما مما ذرأ تقربا إليها ﴿ تالله لَتُسْئَلُنَّ ﴾ سؤال توبيخ وتقريع في الآخرة، وقيل : عند عذاب القبر، وقيل : عند القرب من الموت ﴿ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ﴾ من قبل بأنها آلهة حقيقة بأن يتقرب إليها، وفيتصدير الجملة بالقسم وصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب المنبىء عن كمال الغضب من شدة الوعيد ما لا يخفى.
( هذا ومن باب الإشارة ) :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ فيعتقدون فيه من الجهالات ما يعتقدون وهو السوي ﴿ نَصِيباً مّمَّا رزقناهم ﴾ [ النحل : ٥٦ ] فيقولون هو أعطاني كذا ولو لم يعطني لكان كذا
﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات ﴾ هم خزاعة وكنانة كانوا يقولون : الملائكة بنات الله تعالى وكأنهم لجهلهم زعموا تأنيثها وبنوتها، وقال الإمام : أظن أنهم أطلقوا عليها البنات لاستتارها عن العيون كالنساء ؛ ولهذا لما كان قرص الشمس يجري مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر ونوره القاهر أطلقوا عليه لفظ التأنيث.
ولا يرد على ذلك أن الجن كذلك لأنه لا يلزم في مثله الاطراد، وقيل : أطلقوا عليها ذلك للاستتار مع كونها في محل لا تصل إليه الأغبار فهي كبنات الرجل اللاتي يغار عليهن فيسكنهن في محل أمين ومكان مكين، والجن وإن كانوا مستترين لكن لا على هذه الصورة، وهذا أولى مما ذكره الإمام، وإما عدم التوالد فلا يناسب ذلك.
﴿ سبحانه ﴾ تنزيه وتقديس له تعالى شأنه عن مضمون قولهم ذلك أو تعجيب من جراءتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة، وهو في المعنى الأول حقيقة وفي الثاني مجاز.
﴿ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾ يعني البنين و ﴿ مَا ﴾ مرفوع المحل على أنه مبتدأ والظرف المقدم خبره والجملة حالية وسبحانه اعتراض في حاق موقعه ؛ وجوز الفراء. والحوفي أنه في محل نصب معطوف على ﴿ البنات ﴾ كأنه قيل : ويجعلون لهم ما يشتهون. واعترض عليه الزجاج وغيره بأنه مخالف للقاعدة النحوية وهي أنه لا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل المرفوع بالفاعلية وكذا الظاهر إلى ضميره المتصل سواء كان تعديه بنفسه أو بحرف الجر إلا في باب ظن وما ألحق به من فقد وعدم فلا يجوز زيد ضربه بمعنى ضرب نفسه ولا زيد مر به أن مر هو بنفسه ويجوز زيد ظنه قائماً وزيد فقده وعدمه فلو كان مكان الضمير إسماً ظاهراً( ١ ) كالنفس نحو زيد ضرب نفسه أو ضميراً منفصلاً نحو زيد ما ضرب إلا إياه وما ضرب زيد إلا إياه جاز، فإذا عطف ﴿ مَا ﴾ على ﴿ البنات ﴾ أدى إلى تعدية فعل المضمر المتصل وهو واو ﴿ يَجْعَلُونَ ﴾ إلى ضميره المتصل وهو ﴿ هُمْ ﴾ المجرور باللام في غير ما استثنى وهو ممنوع عند البصريين ضعيف عند غيرهم فكان حقه أن يقال لأنفسهم وأجيب بأن الممتنع إنما هو تعدي الفعل بمعنى وقوعه عليه أو على ما جر بالحرف نحو زيد مر به فإن المرور واقع بزيد وما نحن فيه ليس من هذا القبيل فإن الجعل ليس واقعاً بالجاعلين بل بما يشتهون، ومحصله كما قال الخفاجي المنع في المتعدي بنفسه مطلقاً والتفصيل في المتعدي بالحرف بين ما قصد الإيقاع عليه وغيره فيمتنع في الأول دون الثاني لعدم ألف إيقاع المرء بنفسه. وأبو حيان اعترض القاعدة بقوله تعالى :﴿ وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة ﴾ [ مريم : ٢٥ ] ﴿ واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ﴾ [ القصص : ٣٢ ] والعلامة البيضاوي أجاب بوجه آخر وهو أن الامتناع إنما هو إذا تعدى الفعل أولاً لا ثانياً وتبعاً فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، ومنهم من خص ذلك بالمتعدي بنفسه وجوز في المتعدي بالحرف كما هنا وارتضاه الشاطبي في شرح الألفية، وقال الخفاجي : هو قوي عندي لكن لا يخفى أن العطف هنا بعد هذا القيل والقال يؤدي إلى جعل الجعل بمعنى يعم الزعم والاختيار.
١ - قوله اسما ظاهرا وقوله بعده أو ضميرا منفصلا كذا بخطه فليتأمل..
﴿ وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ﴾ أي أخبر بولادتها، واصل البشارة الأخبار بما يسر لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوءهم حملت على مطلق الأخبار، وجوز أن يكون ذلك بشارة باعتبار الولادة بقطع النظر عن كونها أنثى وقيل : إنه بشارة حقيقة بالنظر إلى حال المبشر به في نفس الأمر، وأياماً كان فالكلام على تقدير مضاف كما أشرنا إليه ﴿ ظَلَّ وَجْهُهُ ﴾ أي صار ﴿ مُسْوَدّا ﴾ من الكآبة والحياء من الناس، وأصل معنى ظل أقام نهاراً على الصفة التي تسند إلى الاسم، ولما كان التبشير قد يكون في الليل وقد يكون في النهار فسر بما ذكر وقد تلحظ الحالة الغالبة بناء على أن أكثر الولادات يكون بالليل ويتأخر اخبار المولود له إلى النهار خصوصاً بالأنثى فيكون ظلوله على ذلك الوصف طول النهار واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والفكر والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى، قيل : إذا قوى الفرح انبسط روح القلب من داخله ووصل إلى الأطراف لا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فيرى الوجه مشرقاً متلألئاً، وإذا قوى الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قوي في ظاهر الوجه فيربد ويتغير ويصفر ويسود ويظهر فيه أثر الأرضية، فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ومن لوازم الغم والحزن اربداده واسوداده فلذلك كنى عن الفرح بالاستنارة وعن الغم بالاسوداد، ولو قيل بالمجاز لم يبعد بل قال بعضهم :﴿ أَنَّهُ ﴾ والظاهر أن ﴿ يُسْلِمْ وَجْهَهُ ﴾ اسم ظل ﴿ *ومسودا ﴾ خبره، وجوز كون الاسم ضمير الأحد ووجهه بدلاً منه ولو رفع ﴿ وَجْهُهُ مُسْوَدّا ﴾ على أن ﴿ وَجْهَهُ ﴾ مبتدأ وهو خبر له والجملة خبر ﴿ ظِلّ ﴾ صح لكنه لم يقرأ بذلك هنا ﴿ وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ أي مملوء غيظاً وأصل الكظم مخرج النفس يقال : أخذ بكظمه إذا أخذ بمخرج نفسه، ومنه كظم الغيظ لا خفائه وحبسه عن الوصول إلى مخرجه.
وفعل اما بمعنى مفعول كما أشير إليه أو صيغة مبالغة، والظاهر أن ذلك الغيظ على المرأة حيث ولدت أنثى ولم تلد ذكراً، ويؤيده ما روي الأصمعي أن امرأة ولدت بنتاً سمتها الذلقاء فهجرها زوجها فانشدت :
ما لأبي الذلقاء لا يأتينا. . . يظل في البيت الذي يلينا
يحرد أن لا نلد البنينا. . . وإنما نأخذ ما يعطينا
والفقير قد رأيت من طلق زوجته لأن ولدت أنثى، والجملة في موضع الحال من الضمير في ﴿ ظِلّ ﴾ وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من وجه، وجوز غيره أيضاً حاليته من ضمير ﴿ مُسْوَدّا ﴾.
﴿ يتوارى مِنَ القوم ﴾ يستخفي من قومه ﴿ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ ﴾ عرفاً وهو الأنثى، والتعبير عنها بما لإسقاطها بزعمهم عن درجة العقلاء، والجملة مستأنفة أو حال على الأوجه السابقة في ﴿ وهو كظيم ﴾ [ النحل : ٥٨ ] إلا كونه من وجهه، والجاران متعلقان بيتوارى و ﴿ مِنْ ﴾ الأولى ابتدائية، والثانية تعليلية أي يتوارى من أجل ذلك، ويروى أن بعض الجاهلية يتوارى في حال الطلق فإن أخبر بذكر ابتهج أو بأنثى حزن وبقي متوارياً أياً ما يدبر فيها ما صنع ﴿ أَيُمْسِكُهُ ﴾ أيتركه ويربيه ﴿ على هُونٍ ﴾ أي ذل، والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : معناه أيمسكه مع رضاه بهوان نفسه وعلى رغم أنفه، وقيل : حال من المفعول به أي أيمسك المبشر به وهو الأنثى مهاناً ذليلاً، وجملة ﴿ أَيُمْسِكُهُ ﴾ معمولة لمحذوف معلق بالاستفهام عنها وقع حالاً من فاعل ﴿ يتوارى ﴾ أي محدثاً نفسه متفكراً في أن يتركه ﴿ أَمْ يَدُسُّهُ ﴾ يخفيه ﴿ فِى التراب ﴾ والمراد يئده ويدفنه حياً حتى يموت وإلى هذا ذهب السدي. وقتادة. وابن جريج وغيرهم، وقيل : المراد إهلاكه سواء كان بالدفن حياً أم بأمر آخر فقد كان بعضهم يلقى الأنثى من شاهق. روي أن رجلاً قال : يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت، وقد كانت لي في الجاهلية بنت وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتها فلما انتهيت إلى واد بعيد القعر ألقيتها فقالت يا أبت قتلتني فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء فقال صلى الله عليه وسلم :«ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار » وكان بعضهم يغرقها، وبعضهم يذبحها إلى غير ذلك، ولما كان الكل إماتة تفضي إلى الدفن في التراب قيل :﴿ أَمْ يَدُسُّهُ في التراب ﴾ وقيل : المراد إخفاؤه عن الناس حتى لا يعرف كالمدسوس في التراب، وتذكير الضميرين للفظ ﴿ مَا ﴾. وقرأ الجحدري بالتأنيث فيهما عوداً على قوله سبحانه :﴿ بالانثى ﴾ أو على معنى ﴿ مَا ﴾. وقرىء بتذكير الأول وتأنيث الثاني، وقرأ الجحدري أيضاً، وعيسى ﴿ *هوان ﴾ بفتح الهاء وألف بعد الواو، وقرىء ﴿ أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ ﴾ بفتح الهاء وإسكان الواو وهو بمعنى الذل أيضاً، ويكون بمعنى الرفق واللين وليس بمراد، وقرأ الأعمش ﴿ على * سُوء ﴾ وهي عند أبي حيان تفسير لا قراءة لمخالفتها السواد ﴿ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ ﴾ حيث يجعلون لمن تنزه عن الصاحبة والولد ما هذا شأنه عندهم والحال أنهم يتحاشون عنه ويختارون لأنفسهم البنين، فمدار الخطأ جعلهم ذلك لله تعالى شأنه مع إبائهم إياه لا جعلهم البنين لأنفسهم ولا عدم جعلهم له سبحانه، وجوز أن يكون مداره التعكيس كقوله تعالى :
﴿ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى ﴾ [ النجم : ٢٢ ]، وقال ابن عطية : هذا استقباح منه تعالى شأنه لسوء فعلهم وحكمهم في بناتهم بالإمساك على هون أو الوأد مع أن رزق الجميع على الله سبحانه فكأنه قيل : الا ساء ما يحكمون في بناتهم وهو خلاف الظاهر جداً، وروى الأول عن السدي وعليه الجمهور. والآية ظاهرة في ذم من يحزن إذا بشر بالأنثى حيث أخبرت أن ذلك فعل الكفرة، وقد أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في قوله سبحانه :﴿ وَإِذَا بُشّرَ ﴾ الخ هذا صنيع مشركي العرب أخبركم الله تعالى بخبثه فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله تعالى له وقضاء الله تعالى خير من قضاء المرء لنفسه، ولعمري ما ندري أي خير لرب جارية خير لأهلها من غلام، وإنما أخبركم الله عز وجل بصنيعهم لتجتنبوه ولتنتهوا عنه. واستدل القاضي بالآية على بطلان مذهب القائلين بنسبة أفعال العباد إليه تعالى لأن في ذلك إضافة فواحش لو أضيفت إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منها والتباعد عنها قال : فحكم هؤلاء القائلين مشابه لحكم هؤلاء المشركين بل أعظم لأن إضافة البنات إليه سبحاهه إضافة لقبيح واحد وهو أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إليه عز وجل. وأجيب عن ذلك أنه بما ثبت بالدليل استحالة الصاحبة والولد عليه سبحانه أردفه عز وجل بذكر هذا الوجه الإقناعي وإلا فليس كل ما قبح منا في العرف قبح منه تعالى، ألا ترى أن رجلاً لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهم وصورهن ثم بالغ في تقوية الشهوة فيهم وفيهن ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع وبقي ينظر ما يحدث بينهم من الوقاع وغيره عد من أسفه السفهاء وعد صنيعه أقبح كل صنيع مع أن ذلك لا يقبح منه تعالى بل قد صنعه جل جلاله فعلم أن التعويل على مثل هذه الوجوه المبنية على العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائلة القطعية، وقد ثبت بها امتناع الولد عليه سبحانه فلا جرم حسنت تقويتها لهذه الوجوه الإقناعية، وأما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل القاطعة أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لولا سوء التعصب.
﴿ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة ﴾ ممن ذكرت قبائحهم ﴿ مَثَلُ السوء ﴾ صفة السوء التي هي كالمثل في القبح وهي الحاجة إلى الولد ليقوم مقامهم بعد موتهم ويبقى به ذكرهم، وإيثار الذكور للاستظهار، ووأد البنات لدفع العار أو خشية الإملاق على حسب اختلاف أغراض الوائدين المنادي كل واحد من ذلك بالعجز والقصور والشح البالغ. وعن ابن عباس ﴿ مَثَلُ السوء ﴾ النار، وأظنه لا يصح عنه رضي الله تعالى عنه، ومنع ابن عطية حمل المثل على الصفة وقال : إنه لا يضطر إليه لأنه خروج عن اللفظ بل هو على بابه، وذلك أنهم إذا قالوا : إن البنات لله سبحانه فقد جعلوا لله عز وجل مثلاً فإن البنات من البشر وكثرة البنات أمر مكروه عندهم ذميم فهو المثل السوء الذي أخبر الله تعالى بأنه لهم، وليس في البنات فقط بل لما جعلوا له تعالى البنات جعله هو سبحانه لهم على الإطلاق في كل سوء ولا غاية أبعد من عذاب النار اه، وهو أشبه شيء عندي بالرطانة كما لا يخفى ؛ ووضع الموصول موضع الضمير للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك القبائح هو الكفر بالآخرة ﴿ وَلِلَّهِ المثل الاعلى ﴾ أي الصفة العجيبة الشأن التي هي مثل في العلو مطلقاً وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والجود الواسع والنزاهة عن صفات المخلوقين ويدخل فيه علوه تعالى عما يقول( ١ ) علواً كبيراً.
وأخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أن المثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله وهو رواية عن ابن عباس. والذي أخرجه عنه البيهقي في الأسماء والصفات وغيره هو ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء ﴾ [ الشورى : ١١ ] ﴿ وَهُوَ العزيز ﴾ المنفرد بكمال القدرة على كل شيء ومن ذلك مؤاخذتهم بقبائحهم، وقيل : هو الذي لا يوجد له نظير ﴿ الحكيم ﴾ الذي يفعل كل ما يفعل بمقتضى الحكمة البالغة.
١ - قوله عما يقول كذا بخطه والظاهر "عما يقولون" الخ..
﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس ﴾ الظالمين مطلقاً، وقيل : بالكفر والمؤاخذة مفاعلة من فاعل بمعنى فعل وهو الظاهر، وقال ابن عطية : هي مجاز كأن العبد يأخذ حق الله تعالى بمعصيته والله تعالى يأخذ منه بمعاقبته وكذا الحال في مؤاخذة الخلق بعضهم بعضاً ﴿ بِظُلْمِهِمْ ﴾ أي بسبب كفرهم ومعاصيهم بناءً على أن الظلم فعل ما لا ينبغي ووضعه في غير موضعه ؛ وقد يخص بالكفر والتعدي على الغير ويدخل فيه ما عد من القبائح، وهذا تصريح بما أفاده قوله تعالى :﴿ وَهُوَ العزيز الحكيم ﴾ [ النحل : ٦٠ ] وإيذان بأن ما أتاه هؤلاء الكفرة من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غاية وراءه ﴿ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا ﴾ أي على الأرض المدلول عليها بالناس وبقوله تعالى :﴿ مِن دَابَّةٍ ﴾ بناءً على شهرة كون الدبيب في الأرض أي ما ترك عليها شيئاً من الدواب أصلاً بل أهلكها بالمرة، أما الظالم فبظلمه وأما غيره فبشؤم ذلك فقد قال سبحانه :﴿ واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ] وأخرج البيهقي في الشعب وغيره عن أبي هريرة أنه سمع رجلاً يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال : بلى والله إن الحبارى لتموت هزلاً في وكرها من ظلم الظالم، وأخرج أيضاً هو فيه وغيره عن ابن مسعود قال : كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ الآية، وأخرج أحمد في الزهد عنه أنه قال : ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره ثم قال : أي والله زمن غرق قوم نوح عليه السلام، وقيل : المراد من دابة ظالمة على أن التنوين للنوع وهو مخصوص بالكفار والعصاة من الإنس، وقيل : منهم ومن الجن، وقيل : المراد الدابة الظالمة الفاعلة لما لا ينبغي شرعاً أو عرفاً فيدخل بعض الدواب إذا ضر غيره، وقالت فرقة منهم ابن عباس : المراد بالدابة المشرك فقد قال تعالى :﴿ إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ ﴾ [ الأنفال : ٥٥ ] وقال الجبائي : الدابة على عمومها فتشمل سائر الحيوانات، والمراد بالناس الظالمون مطلقاً ؛ ووجه الملازمة أنه تعالى لو آخذهم بما كسبوا من كفر أو معصية لعجل هلاكهم وحينئذٍ لا يبقى لهم نسل، ومن المعلوم أن لا أحد إلا وفي آبائه من يستحق العقاب وإذا هلكوا جميعاً وبطل نسلهم لا يبقى أحد من الناس وحينئذٍ يهلك الدواب لأنها مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم كما يشعر به قوله تعالى :﴿ خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعاً ﴾ [ البقرة : ٢٩ ] وبتخصيص الناس يسقط الاستدلال بالآية على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام، وقال بعض المحققين : لا حاجة إلى التخصيص في ذلك والآية من باب بنو تميم قتلوا قتيلاً لتظافر الأدلة والنصوص على عصمة الأنبياء عليهم السلام، فلا يقال : الأصل الحمل على الحقيقة.
واستدل بعضهم للتخصيص بقوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات ﴾ [ فاطر : ٣٢ ] وإلا يفسد التقسيم، وقد يقال : إنه ما أحد إلا وهو متصف بظلم إلا أن مراتبه مختلفة فحسنات الأبرار سيئات المقربين، والعصمة التي تدعى للأنبياء عليهم السلام إنما هي العصمة مما يعد ذنباً بالنسبة إلى غيرهم وأما العصمة مما يعد ذنباً بالنسبة إلى مقامهم ومرتبتهم فلا تدعى لهم إذ قد وقع ذلك منهم كما يشهد به كثير من الآيات. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن الله تعالى يؤاخذني وعيسى ابن مريم بذنوبنا وفي لفظ بما جنت هاتان الإبهام والتي تليها لعذبنا ما يظلمنا شيئاً » نعم إنه لا يقال لنبي هو ظالم ولا للأنبياء عليهم السلام هم ظالمون ويقال الناس ظالمون وهذا نظير قولهم : لا يقال لله سبحانه خالق القردة والخنازير ويقال هو خالق كل شيء، ورب شيء يجوز تبعاً ولا يجوز استقلالاً، وأمر التقسيم هين عند المتأمل فليتأمل، ومن الناس من احتج بالآية على أن أصل المضار الحرمة إذ لو كان الضرر مشروعاً فإما أن يكون مشروعاً على وجه يكون جزاءً على جرم أو لا وكلا القسمين باطل، أما الأول فللآية وذلك من وجهين.
الأول : إنها لمكان لو تقتضي أن تعالى ما آخذ الناس بظلمهم وأنه ترك على ظهرها دابة.
الثاني : إن مقتضى المؤاخذة عدم ترك دابة على ظهرها ونحن نشاهد أنه سبحانه قد ترك كثيراً من الدواب فيجب القطع بأنه تعالى لم يؤاخذ بالظلم، وأما الثاني فباطل بالإجماع فثبت بمقتضى الآية تحريم المضار، ويؤكد ذلك آيات أخر وأخبار ؛ وحينئذٍ يقال : إذا وقعت حادثة مشتملة على الضرر من جميع الوجوه فإن وجدنا نصاً يدل على كونه مشروعاً قضينا به تقديماً للخاص على العام وإلا قضينا بالحرمة بناءً على الأصل الذي قرر. واستدل بها المعتزلة على أن العباد خالقون لأفعالهم ووجه مع رده غني عن البيان ﴿ ولكن ﴾ لا يؤاخذهم بذلك بل ﴿ يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى ﴾ سماه سبحانه وعينه لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا أو يكثر عذابهم ﴿ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ ﴾ المسمى ﴿ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ عنه ﴿ سَاعَةِ ﴾ أقل مدة ﴿ وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ عليه، وقد مر الكلام في نظيرها.
﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ﴾ أي يثبتون له سبحانه وينسبون إليه بزعمهم ﴿ مَا يَكْرَهُونَ ﴾ الذي يكرهونه لأنفسهم من البنات، والتعبير بما عند أبي حيان على إرادة النوع، وهذا على ما سمعت تكرير لما سبق تثنية للتقريع وتوطئة لقوله تعالى :﴿ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب ﴾ أي يجعلون لله تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو ﴿ أَنَّ لَهُمُ الحسنى ﴾ أي العاقبة الحسنى عند الله عز وجل ولا يتعين إرادة الجنة.
وعن بعضهم أن المراد بها ذلك بناءً على أن منهم من يقر بالبعث وهذا بالنسبة لهم أو أنه على الفرض والتقدير كما روي أنهم قالوا : إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً في البعث فلنا الجنة بما نحن عليه، قيل : وهو المناسب لقوله تعالى الآتي :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار ﴾ لظهور دلالته على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة، فلا يرد أنهم كيف قالوا ذلك وهم منكرون للبعث، وعن مجاهد أنهم أرادوا بالحسنى البنين وليس بذاك وقال بعض المحققين : المراد بما يكرهون أعم مما تقدم فيشمل البنات وقد علم كراهتهم لها وإثباتها لله تعالى بزعمهم والشركاء في الرياسة فإن أحدهم لا يرضى أن يشرك في ذلك ويزعم الشريك له سبحانه والاستخفاف برسل الله تعالى عليهم السلام فإنهم يغضبون لو استخف برسول لهم أرسلوه في أمر لغيرهم ويستخفون برسل الله تعالى عليهم السلام وأراذل الأموال فإنهم كانوا إذا رأوا ما عينوه لله تعالى من أنعامهم أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإذا رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها ولو فعل نحو ذلك معهم غضبوا، وعلى هذا يفسر الجعل بما يعم الزعم والاختيار و ﴿ مَا ﴾ تعم العقلاء وغيرهم ولا يخلو الكلام عن نوع تكرير، والمراد من ﴿ تَصِفُ * أَلْسِنَتُهُمُ الكذب ﴾ يكذبون وهو من بليغ الكلام وبديعه، ومثله قولهم : عينها تصف السحر أي ساحرة وقدها يصف الهيف أي هيفاء، وقول أبي العلاء المعري :
سرى برق المعرة بعد وهن. . . فبات برامة يصف الكلالا
وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباً تمام الكلام في ذلك، والظاهر أن ﴿ الكذب ﴾ مفعول ﴿ تَصِفُ ﴾ و ﴿ أَنَّ لَهُمْ ﴾ بدل منه أو بتقدير بأن لهم ولما حذفت الباء صار في موضع نصب عند سيبويه، وعند الخليل هو في موضع جر، وجوز أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف كما أشرنا إليه في بيان المعنى، وجوز أبو البقاء كون ﴿ الكذب ﴾ بدلاً مما يكرهون وهو كما ترى. وقرأ الحسن. ومجاهد باختلاف ﴿ *ألسنهم ﴾ بإسقاط التاء وهي لغة تميم، واللسان يذكر ويؤنث قيل : ويجمع المذكر على ألسنة نحو حمار وأحمرة والمؤنث على ألسن كذراع وأذرع.
وقرأ معاذ بن جبل. وبعض أهل الشام ﴿ يَفْتَرِى الكذب ﴾ بثلاث ضمات وهو جمع كذوب كصبر وصبور وهو مقيس. وقيل : جمع كاذب نحو شارف وشرف وهو غير مقيس، ورفعه على أنه صفة الألسنة و ﴿ أَنَّ لَهُمُ الحسنى ﴾ حينئذٍ مفعول ﴿ تَصِفُ ﴾ ﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ أي حقاً ﴿ أَنَّ لَهُمْ ﴾ مكان ما زعموه من الحسنى ﴿ النار ﴾ التي ليس وراء عذابها عذاب وهي علم في السوأى، وكلمة ﴿ لا ﴾ رد لكلام و ﴿ جَرَمَ ﴾ بمعنى كسب و ﴿ أَنَّ لَهُمْ ﴾ في موضع نصب على المفعولية أي كسب ما صدر منهم أن لهم ذلك.
وإلى هذا ذهب الزجاج، وقال قطرب :﴿ جَرَمَ ﴾ بمعنى ثبت ووجب و ﴿ أَنَّ لَهُمْ ﴾ في موضع رفع على الفاعلية له، وقيل :﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ بمعنى حقاً و ﴿ أَنَّ لَهُمْ ﴾ فاعل حق المحذوف، وقد مر تمام الكلام في ذلك وحلا. وقرأ الحسن. وعيسى بن عمر ﴿ أَنَّ لَهُمْ ﴾ بكسر الهمزة وجعل الجملة جواب قسم أغنت عنه ﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ وكذا قرءا بالكسر في قوله تعالى :﴿ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ ﴾ أي مقدمون معجل بهم إليها على ما روي عن الحسن. وقتادة من أفرطته إلى كذا قدمته وهو معدى بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه، ومنه أنا «فرطكم على الحوض » أي متقدمكم وكثيراً ما يقال للمتقدم إلى الماء لإصلاح نحو دلو فارط وفرط، وأنشدوا للقطامى :
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا. . . كما تعجل فراط لوراد
وقال مجاهد، وابن جبير. وابن أبي هند : أي متركون في النار منسيون فيها أبداً من أفرطت فلاناً خلفي إذا تركته ونسيته. وقرأ ابن عباس. وابن مسعود. وأبو رجاء. وشيبة. ونافع. وأكثر أهل المدينة ﴿ مُّفْرَطُونَ ﴾ بكسر الراء اسم فاعل من أفرط اللازم إذا تجاوز أي متجاوزو الحد في معاصي الله تعالى. وقرأ أبو جعفر ﴿ مُّفْرَطُونَ ﴾ بتشديد الراء وكسرها من فرط في كذا إذا قصر أي مقصرون في طاعة الله تعالى، وعنه أنه قرأ ﴿ مُّفْرَطُونَ ﴾ بتشديد الراء وفتحها من فرطته المعدي بالتضعيف من فرط بمعنى تقدم أي مقدمون إلى النار.
﴿ تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ ﴾ تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما كان يناله من جهالات قومه الكفرة ووعيد لهم على ذلك، ولا يخفى ما في ذلك من عظيم التأكيد أي أرسلنا رسلاً إلى أمم من قبل أمتك أو من قبل إرسالك إلى هؤلاء فدعوهم إلى الحق ﴿ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن * أعمالهم ﴾ القبيحة فلم يتركوها ولم يمتثلوا دعوة الرسل عليهم السلام، وقد تقدم الكلام في نسبة التزيين إلى الشيطان ﴿ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ﴾ أي قرين الأمم وبئس القرين أو متولي إغوائهم وصرفهم عن الحق ﴿ اليوم ﴾ أي يوم زين الشيطان أعمالهم فيه، وهو وإن كان ماضياً واليوم المعرف معروف في زمان الحال كالآن لكن صور بصورة الحال ليستحضر السامع تلك الصورة العجيبة ويتعجب منها، وسمي مثل ذلك حكاية الحال الماضية وهو استعارة من الحضور الخارجي للحضور الذهني أو المراد باليوم مدة الدنيا لأنها كالوقت الحاضر بالنسبة للآخرة وهي شاملة للماضي والآتي وما بينهما أي فهو وليهم في الدنيا ﴿ وَلَهُمْ ﴾ في الأخرى ﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ وهو عذاب النار، وقد ورد إطلاق اليوم على مدتها كثيراً فهو مجاز متعارف وليس فيه حكاية لما مضى أو يوم القيامة الذي فيه عذابهم لكن صور بصورة الحال استحضاراً له كما في الوجه الأول إلا أنه حكاية حال آتية وفي الأول حكاية حال ماضية وليس من مجاز الأول، والولي على هذا بمعنى الناصر أي لا ناصر لهم في ذلك اليوم غيره وهو نفي للناصر على أبلغ وجه على حد قوله :
وبلدة ليس بها أنيس. . . إلا اليعافير وإلا العيس
ولا يجوز أن يكون بمعنى المتولي للإغواء إذ لا إغواء ثمة ولا بمعنى القرين لأنه في الدرك الأسفل من النار، وجوزه بعضهم باعتبار أنه معهم في النار في الجملة ولا يضر اختلافهم في الدركات، والظاهر أن ضمائر الجمع كلها للأمم كما أشرنا إليه في بعضها، وجوز الزمخشري أن يكون ضمير ﴿ وَلِيُّهُمُ ﴾ المضاف إليه لقريش لا للأمم و ﴿ اليوم ﴾ بمعنى الزمان الذي وقع فيه الخطاب أي زين الشيطان للكفرة المتقدمين أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم. وأن يكون الضمير للمتقدمين، والكلام على حذف مضاف أي ولي أمثالهم، والمراد من الأمثال قريش.
وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه بعداً لاختلاف الضمائر من غير داع إليه ولا إلى تقدير المضاف. ورد بأن لفظ اليوم داع إليه، وقال الطيبي : إنه الوجه وعليه النظم الفائق لأن في تصدير القسمية بقوله تعالى :﴿ تالله ﴾ بعد إنكارهم الرسالة وتعداد قبائحهم الإشعار بأن ما ذكر كالتسلية للرسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه قيل : إن الأمم الخالية مع الرسل السالفة لم تزل على هذه الوتيرة فلك أسوة بالرسل عليهم السلام وقومك خلف لتلك الأمم فلا تهتم لذلك فإن ربك ينتقم لك منهم في الدنيا والآخرة فاشتغل أنت بتبليغ ما أنزل إليك وتقرير أنواع الدلائل المنصوبة على الوحدانية وبالتنبيه على إقامة الشكر على نعم الله تعالى المتظاهرة اه.
وقال في «الكشف » : لا ترجيح لهذا الوجه من حيث التسلي إذ الكل مفيد لذلك على وجه بين وإنما الترجيح للوجه الصائر إلى استحضار الحال لما فيه من مزيد التشفي اه، والحق أن ما ذكره الزمخشري غير ظاهر وما قيل : إن لفظ ﴿ اليوم ﴾ داع إليه ففي حيز المنع، وقصارى ما يقال : وجود القرينة المصححة لا المرجحة هذا. وذكر في «الكشف » في بيان ربط الآيات أن قوله سبحانه :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ النحل : ٥٦ ] إلى هذا الموضع فن آخر من كفرانهم وتداد قبائحهم، وجاز أن يكون من تتمة سابقه على منوال ﴿ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله ﴾ [ النحل : ٥٣ ] إلا أنه بنى على الغيبة دلالة على أنه فن آخر، وهذا قريب المتناول، وجاز أن يجعل عطفاً على قوله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله ﴾ [ النحل : ٣٨ ] فإن ما وقع من الكلام بعده من تتمته اعتراضاً واستطراداً كأنه قيل : ذاك معتقدهم في المعاد وهذا في المبدأ وهم فيما بين ذلك متدينون بهذا الدين القويم ومع اختلاف العقيدة في المبدأ والمعاد يدعون أن لهم الحسنى فيحق لهم ضد ذلك حقاً ثم قال : وقوله تعالى :
﴿ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ ﴾ شديد الملائمة على هذا الوجه لقوله سبحانه هنالك :﴿ لِيُبَيّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴾ [ النحل : ٣٩ ]، ولقوله تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [ النحل : ٤٤ ] وفيه أن من استبان له الهدى بهذا البيان استغنى عن ذلك البيان حيث لا ينفعه إلا العلم بكذبه وهذا أنسب لتأليف النظم اه.
وأنت تعلم أن احتمال العطف بعيد، والمراد بالكتاب القرآن فإنه الحقيق بهذا الاسم، والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي ما أنزلناه عليك لعلة من العلل إلا لتبين لهم ما اختلفوا فيه من البعث وقد كان فيهم من يؤمن به وأشياء من التحليل والتحريم والإقرار والإنكار ومقتضى رجوع الضمائر السابقة إلى الأمم السالفة أن يرجع ضمير ﴿ إِلَيْهِمُ ﴾ و ﴿ اختلفوا ﴾ إليهم أيضاً لكن منع عنه عدم تأتي تبيين الذين اختلفوا فيه لهم فمنهم من جعله راجعاً إلى قريش لأن البحث فيهم ومنهم من جعله راجعاً إلى الناس مطلقاً لعدم اختصاص ذلك بقريش ويدخلون فيه دخولاً أولياً.
﴿ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ﴾ عظيمين ﴿ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ خصهم بالذكر لكونهم المغتنمين آثاره. والإسمان قال أبو حيان : في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله والناصب ﴿ أَنزَلْنَا ﴾ ولما اتحد الفاعل في العلة والمعلول وصل الفعل لهما بنفسه، ولما لم يتحد في ﴿ لِتُبَيّنَ ﴾ لأن فاعل الإنزال هو الله تعالى لا الرسول عليه الصلاة والسلام وصلت العلة بالحرف.
وقال الزمخشري : هما معطوفان على محل ﴿ لِتُبَيّنَ ﴾ وهو ليس بصحيح لأن محله ليس نصباً فيعطف منصوب عليه، ألا ترى أنه لو نصب لم يجز لاختلاف الفاعل اه. وتعقب بأن معنى كونه في محل نصب أنه في محل لو خلا من الموانع ظهر نصبه وهو هنا كذلك لمن تأمل فقوله : ليس بصحيح لأن محله ليس نصباً ليس على ما ينبغي.
وقال الحلبي : إن ذلك ممنوع إذ لا خلاف في أن محل الجار والمجرور النصب ولذا أجازوا مررت بزيد وعمراً بالعطف على المحل، وللخفاجي ههنا كلام إن أردته فارجع إليه وراجع، ولعله إنما قدمت علة التبيين على علتي الهدى والرحمة لتقدمه في الوجود عليهما.
﴿ والله أَنزَلَ مِنَ السماء ماء ﴾ تقدم الكلام في مثله، وهذا على ما قيل تكرير لما سبق تأكيداً لمضمونه وتوحيداً لما يعقبه من أدلة التوحيد ﴿ فَأَحْيَا بِهِ الأرض ﴾ بما أنبت به فيها من أنواع النباتات ﴿ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ بعد يبسها فالإحياء والموت استعارة للإنبات واليبس، وليس المراد إعادة اليابس بل إنبات مثله، والفاء للتعقيب العادي فلا ينافيه ما بين المتعاطفين من المهلة، ونظير ذلك تزوج فولد له ولد، والآية دليل لمن قال : إن المسببات بالأسباب لا عندها ومن قال به أول ﴿ إِنَّ في ذَلِكَ ﴾ أي في إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض الميتة ﴿ لآيَةً ﴾ وأية آية دالة على وحدته سبحانه وعلمه وقدرته وحكمته جل شأنه، والإشارة بما يدل على البعد إما لتعظيم المشار إليه أو لعدم ذكره صريحاً ﴿ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ قال المولى ابن الكمال : أريد بالسمع القبول كما في سمع الله لمن حمده أي لقوم يتأملون فيها ويعقلون وجه دلالتها ويقبلون مدلولها، وإنما خص كونها آية لهم لأن غيرهم لا ينتفع بها وهذا كالتخصيص في قوله تعالى :﴿ هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ النحل : ٦٤ ] وبما قررناه تبين وجه العدول عن يبصرون إلى ﴿ يَسْمَعُونَ ﴾ انتهى، وقال الخفاجي : اللائق بالمقام ما ذكره الشيخان وبيانه أنه تعالى لما ذكر أنه أرسل إلى الأمم السالفة رسلاً وكتباً فكفروا بها فكان لهم خزي في الدنيا والآخر عقبه بأنه أرسله صلى الله عليه وسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمن لمن أرسل إليه إشارة إلى أن مخالفة أمته لمن قبلهم تقربهم من سعادة الدارين وتبشيراً له عليه الصلاة والسلام بكثرة متابعيه وقلة مناويه وأنهم سيدخلون في دينه أفواجاً أفواجاً ثم أتبع ذلك على سبيل التمثيل لإنزاله تلك الرحمة التي أحيت من موتة الضلال إنزال الأمطار التي أحيت موات الأرض ﴿ وهو الذي ينزل الغيث من بعدما قنطوا ﴾ [ الشورى : ٢٨ ] ولولا هذا لكان قوله تعالى :﴿ والله أَنزَلَ مِنَ السماء ماء ﴾ كالأجنبي عما قبله وبعده، وقوله سبحانه :﴿ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً ﴾ الخ تتميم لقوله تعالى :﴿ وَمَا أَنزَلْنَا ﴾ [ النحل : ٦٤ ] الخ وللمقصود بالذات منه فالمناسب ﴿ يَسْمَعُونَ ﴾ لا يبصرون ولو كان تتميماً لملاصقه من الإنبات لم يكن ليسمعون بمعنى يقبلون مناسبة أيضاً، ثم قال : ومن لم يقف على محط نظرهم قال في جوابه : يمكن أن يحمل على يسمعون قولي والله أنزل الخ فإنه مذكر وحامل على تأمل مدلوله انتهى، وفي قوله عقبه : بأنه أرسله صلى الله عليه وسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة إشارة الخ خفاءً كما لا يخفى، ومتى كان تتميماً لقوله تعالى :﴿ وَمَا أَنزَلْنَا ﴾ [ النحل : ٦٤ ] الخ لم يظهر جعل المشار إليه ما سمعت وهو الظاهر، وفي «البحر » أنه تعالى لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة للأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد ولذلك ختم بقوله سبحانه
﴿ لقوم يؤمنون ﴾ [ النحل : ٦٤ ] أي يصدقون والتصديق محله القلب ذكر سبحانه إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب بقائها ثم أشار سبحانه بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن كما قال تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ] فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتاً بالجهل ولذلك ختم تعالى بقوله سبحانه :﴿ يَسْمَعُونَ ﴾ أي يسمعون هذا التشبيه المشار إليه والمعنى سماع إنصاف وتدبر، ولملاحظة هذا المعنى والله تعالى أعلم لم يختم سبحانه بلقوم يبصرون وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد انتهى.
وفيه أيضاً من التكلف ما فيه، وأقول : لعل الأظهر أن المشار إليه ما ذكر من الإنزال والإحياء والسماع على ظاهره والكلام تتميم لملاصقه والعدول عن يبصرون إلى ﴿ يَسْمَعُونَ ﴾ للإشارة إلى ظهور هذا المعتبر فيه وأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط، ويكفي في ربط الآية بما قبلها تشارك الكتاب والمطر في الإحياء لكن في ذاك إحياء القلوب وفي هذا إحياء الأرض الجدوب فتأمل.
﴿ وَإِنَّ لَكُمْ في الأنعام لَعِبْرَةً ﴾ أي معبراً يعبر به من الجهل إلى العلم، وأصل معنى العبر والعبور التجاوز من المحل إلى آخر، وقال الراغب : العبور مختص بتجاوز الماء بسباحة ونحوها، والمشهور عمومه فإطلاق العبرة على ما يعتبر به لما ذكر لكنه صار حقيقة في عرف اللغة ؟ والتنكير للتفخيم أي لعبرة عظيمة ﴿ نُّسْقِيكُمْ ﴾ ومنهم من قدر هنا مبتدأ وهو هي نسقيكم ولا حاجة إليه، وضمير ﴿ بُطُونِهِ ﴾ للإنعام وهو اسم جمع واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار لفظه وتأنيثه وجمعه باعتبار معناه، ولذا جاء بالوجهين في القرآن وكلام العرب كذا قيل.
ونقل عن سيبويه أنه عد الأنعام مفرداً وكلامه رحمه الله تعالى متناقض ظاهراً فإنه قال في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه : وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها لأنها ضارعت الواحد، ألا ترى أنك تقول : أقوال وأقاويل وأعراب وأعاريب وأيد وإياد فهذه الأحرف تخرج إلى مفاعل ومفاعيل كما يخرج الواحد إليه إذا فسر للجمع، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا لأن هذا هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت، ثم قال : وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس فإنك تخرجه إلى فعائل كما تقول جدود وجدائد وركوب وركائب. ولو فعلت ذلك بمفاعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء، ويقوي ذلك أن بعض العرب تقول : أتى للواحد فيضم الألف، وأما أفعال فقد يقع للواحد ومن العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه :﴿ نُّسْقِيكُمْ مّمَّا في بُطُونِهِ ﴾ وقال أبو الخطاب. سمعت العرب تقول : هذا ثوب أكياس انتهى.
وقال رحمه الله تعالى في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام أفعيل ولا أفعول ولا أفعال ولا أفعل ولا أفعال إلا أن تكسر عليه أسماء للجمع انتهى، وقد اضطرب الناس في التوفيق بين كلاميه فذهب أبو حيان إلى تأويل الأول وإبقاء الثاني على ظاهره من أن أفعالاً لا يكون من أبنيته المفرد فحمل قوله أولاً وأما أفعال فقد يقع للواحد الخ : على أن بعض العرب قد يستعمله فيه مجازاً كالأنعام بمعنى النعم كما قال الشاعر :
تركنا الخيل والنعم المفدي. . . وقلنا للنساء بها أقيمي
وليس مراده أنه مفرد صيغة ووضعاً بدليل ما صرح به في الموضع الآخر من أنه لا يكون إلا جمعاً. واعترض عليه بأن مقصود سيبويه بما ذكره أولاً الفرق بين صيغتي منتهى الجموع وأفعال وفعول حيث منع الصرف للأول دون الثاني بوجوه. منها أن الأولين لا يقعان على الواحد بخلاف الآخيرين كما أوضحه فلو لم يكن وقوع أفعال على الواحد بالوضع لم يحصل الفرق فلا يتم المقصود.
نعم لا كلام في تدافع كلاميه، وأيضاً لو كان كذلك لم يختص ببعضهم ؛ وأيضاً أن التجوز بالجمع عن الواحد يصح في كل جمع حتى صيغتي منتهى الجموع. وتعقبه الخفاجي بقوله : والحق أنه لا تدافع بين كلاميه فإنه فرق بين صيغتي منتهى الجموع والصيغتين الأخيرتين بأن الأولتين لا تجمعان والأخيرتان تجمعان فاشبهتا الآحاد ثم قوي ذلك بأن قوماً من العرب استعملت أتى وهو على وزن فعول مفرداً حقيقة، ومنهم من استعمل الأنعام وهو على وزن أفعال كذلك، وقد أشار إلى أن ذلك لغة نادرة ببعض، ومن وما ذكره بعد بناء على اللغة المتداولة، وقوله : إن مقصوده أولاً الفرق بوجوه لا وجه له كما يعرفه حملة الكتاب انتهى، ويعلم منه أن رجوع الضمير المفرد المذكور إلى الأنعام عند سيبويه باعتبار أنه مفرد على لغة بعض العرب ومن قال : إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض أما المقدر أي بعض الأنعام أو المفهوم منها أو للأنعام باعتبار بعضها وهو الإناث التي يكون اللبن منها أو لواحدة كما في قول ابن الحاجب : المرفوعات هو ما اشتمل على علم الفاعلية أو له على المعنى لأن أل الجنسية تسوي بين المفرد والجمع في المعنى فيجوز عود ضمير كل منهما على الآخر. وفي «البحر » أعاد الضمير مذكراً مراعاة الجنس لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه جاز عوده علهي مذكراً كقولهم هو أحسن الفتيان وأبتله لأنه يصح هو أحسن فتى وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه ؛ وقيل جمع التكثير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة ومعاملة الجمع فيعود الضمير عليه مفرداً كقوله :
مثل الفراخ نتفت حواصله. . . وقال الكسائي : أفرد وذكر على تقدير المذكور كما يفرد اسم الإشارة بعد الجمع كقوله :
فيها خطوط من سواد وباق. . . كأنه في الجلد توليع البهق
وهو في القرآن سائغ ومنه قوله تعالى :﴿ إِنها تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ﴾ [ المدثر : ٥٤، ٥٥ ] ﴿ فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قالَ هذا رَبّى ﴾ [ الأنعام : ٧٨ ] ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازي فلا يجوز جاريتك ذهب. واعترض بأنه كيف جمع نعم وهي تختص الإبل والأنعام تقال للبقر والإبل والغنم مع أنه لو اختص كان مساوياً. وأجيب بأن من يراه جمعاً له يخص الأنعام أو يعمم النعم ويجعل التفرقة ناشئة من الاستعمال ويجعل الجمع للدلالة على تعدد الأنواع.
وقرأ ابن مسعود بخلاف عنه. والحسن. وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. وابن عامر. ونافع. وأبوبكر. وأهل المدينة ﴿ نُّسْقِيكُمْ ﴾ بفتح النون هنا وفي المؤمنين ( ٢١ ) على أنه مضارع سقي وهو لغة في أسقى عند جمع وأنشدوا قول لبيد :
سقى قومي بني مجد وأسقى. . . نميراً والقبائل من هلال
وقال بعض : يقال سقيته لشفته وأسقيته لماشيته وأرضه، وقيل : سقاه بمعنى رواه بالماء وأسقاه بمعنى جعله شراباً معداً له، وفيه كلام بعد فتذكر.
وقرأ أبو رحاء ﴿ *يسقيكم ﴾ بالياء مضمومة والضمير عائد على الله تعالى.
وقال «صاحب اللوامح » ويجوز أن يكون عائداً على النعم وذكر لأن النعم مما يذكر ويؤنث، والمعنى وإن لكم في الأنعام نعماً يسقيكم أي يجعل لكم سقياً، وهو كما ترى. وقرأت فرقة منهم أبو جعفر ﴿ *تسقيكم ﴾ بالتاء الفوقية مفتوحة قال ابن عطية : وهي قراءة ضعيفة انتهى، ولم يبين وجه ضعفها، وكأنه والله تعالى أعلم عنى به اجتماع التأنيث والتذكير باعتبار وجهين.
﴿ بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا ﴾ افرق على ما في «الصحاح » السرجين ما دام في الكرش والجمع فروث. وفي «البحر » كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو المعي، و ﴿ بَيْنَ ﴾ تقتضي متعدداً وهو هنا الفرق والدم فيكون مقتضى ظاهر النظم توسط اللبن بنيهما، وروى ذلك الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إن البهيمة إذا عتلفت وأنضج العلف في كرشها كان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً.
وروى نحوه عن ابن جبير فالبينية على حقيقتها وظاهرها وتعقب ذلك الإمام الرازي بقوله : ولقائل أن يقول : اللبن والدم لا يتولدان في الكرش والدليل عليه الحسن فإن الحيوانات تذبح دائماً ولا يرى في كرشها شيء من ذلك ولو كان تولد ما ذكر فيه لوجب أن يشاهد في بعض الأحوال والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل إلى معدته وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد وما كان كثيفاً نزل إلى الأمعاء ثم ذلك الذي يحصل في الكبد ينضج ويصير دماً وذلك هو الهضم الثاني ويكون ذلك مخلوصاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، أما الصفراء فتذهب إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والماء إلى الكلية ومنها إلى المثانة، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة والعروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث، وبين الكبد والضرع عروق كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع، والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم فيه إلى صورة اللبن، لا يقال : إن هذه المعنى حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن لأنا نقول : الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته فأوجبت أن يكون مزاج الذكر حاراً يابساً مزاج الأنثى بارداً رطباً فإن الولد إنما يتولد في داخل بدن الأنثى فكان اللائق بها اختصاصها بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسبباً لقبول التمدد فتتسع للولد، ثم إن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لغذائه كما كانت كذلك قبل في الرحم، ومن تدبر في بدائع صنع الله تعالى فيما ذكر من الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها وتسخير القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه سبحانه وقدرته وحكمته وتناهي رأفته ورحمته.
حكم حارت البرية فيها. . . وحقيق بأنها تحتار
وحاصل ما ذكروه أنه إذا ورد الغذاء الكرش انطبخ فيه وتميزت منه أجزاء لطيفة تنجذب إلى الكبد فينطبخ فيها فيحصل الدم فتسري أجزاء منه إلى الضرع ويستحيل لبناً بتدبير الحكيم العليم، وحينئذ فالمراد أن اللبن إنما يحصل من بين أجزاء الفرث ثم من بين أجزاء الدم فالبينية على هذا مجازية وفي إرشاد العقل السليم وغيره لعل المراد بما روى( ١ ) عن ابن عباس أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يعذو البدن فإن عدم تكونهما في العكرش مما لا ريب فيه والداعي إلى ذلك مخالفة ما يقتضيه الظاهر للحس ولما ذكره الحكماء أهل التشريح. ويؤيد ما ذكروه ما أخبرني به من أثق به من أنه قد شاهد خروج الدم من الضرع بعد اللبن عند المبالغة في الحلب والله تعالى أعلم، و ﴿ مِنْ ﴾ الأولى تبعيضية لما أن اللبن بعض ما في بطون الأنعام لأنه مخلوق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث حسبما سمعت، وهي متعلقة بنسقيكم و ﴿ مِنْ ﴾ الثانية ابتدائية وهي أيضاً متعلقة بنسقيكم فإن بين الدم والفرث المحل الذي يبتدأ منه الإسقاء وتعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما و ﴿ لَّبَنًا ﴾ مفعول ثان لنسقيكم وتقديم ذلك عليه لما مر مراراً من أن تقديم ما حقه التأخير يبعث للنفس شوقاً إلى المؤخر موجباً لفضل تمكنه عند وروده عليها لا سيما إذا كان المقدم متضمناً لوصف مناف لوصف المؤخر كالذي نحن فيه، فإن بين وصفي المقدم والمؤخر تنافياً وتنائياً بحيث لا يتراآى ناراهما فإن ذلك مما يزيد الشوق والاستشراف إلى المؤخر، وجوز أن يكون ﴿ مِن بَيْنِ ﴾ حالاً من ﴿ لَّبَنًا ﴾ قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة.
وجوز أن تكون ﴿ مِنْ ﴾ الأولى ابتدائية كالثانية فيكون ﴿ مِن بَيْنِ ﴾ بدل اشتمال مما تقدم ﴿ خَالِصًا ﴾ مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه أوصافياً لا يستصحبه لون الدم ولا رائحة الفرث ﴿ سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ ﴾ سهل المرور في حلقهم لدهنيته. أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن ابن أبي لبيبة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ما أشرب أحد لبناً فشرق إن الله تعالى يقول ﴿ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ﴾ »
وقرأت فرقة ﴿ *سيغاً ﴾ بتشديد الياء. وقرأ عيسى بن عمر «سيغاً » مخففاً من سيغ كهين المخفف من هين. واستدل بالآية على طهارة لبن المأكول وإباحة شربه، وقد احتج بعض من يرى على أن المني طاهر على من جعله نجساً لجريه في مسالك البول بها أيضاً وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهراً وفي «التفسير الكبير » قال أهل التحقي
١ - أي أن صح اهـ منه..
﴿ وَمِن ثمرات النخيل والأعناب ﴾ متعلق بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما، وحذف لدلالة ﴿ نُّسْقِيكُمْ ﴾ قبله عليه، وقوله تعالى :﴿ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ بيان وكشف عن كنه الإسقاء أو بتتخذون و ﴿ مِنْهُ ﴾ من تكرير الظرف للتأكيد كما في قولك زيد في الدار فيهاأو خبر لمحذوف صفته ﴿ تَتَّخِذُونَ ﴾ أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه، وضمير ﴿ مِنْهُ ﴾ عائد إما على المضاف المقدر أو على الثمرات المؤولة بالثمر لأنه جمع معرفة أريد به الجنس، وفائدة الصيغة الإشارة إلى تعداد الأنواع أو على ثمر المقدر، و ﴿ *السكر ﴾ الخمر قال الأخطل :
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم. . . إذا جرى فيهم المزاء( ١ ) والسكر
وهو في الأصل مصدر سكر سكراً وسكراً نحو رشد رشداً ورشداً. واستشهد له بقوله :
وجاؤنا بهم سكر علينا. . . فأجلى اليوم والسكران صاحي
وفسروا الرزق الحسن بالخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك، وإليه ذهب «صاحب الكشاف » وقد ذكر في توجيه إعرابها ما ذكرناه، وقدم الوجه الأول من أوجه الثلاثة وهو ظاهر في ترجيحه وصرح به الطيبي وبينه بما بينه، وأخر الثالث وهو ظاهر في أنه دون أخويه. وفي «الكشف » بعد نقل كلامه في الوجه الأول فيه إضمار العصير وأنه لا يصلح عطفاً في الظاهر على السابق لأنه لا يصلح بياناً للعبرة في الإنعام، وفيه أن ﴿ أنكاثا تَتَّخِذُونَ ﴾ لا يصلح كشفاً عن كحنه الإسقاء كيف وقد فسر الرزق الحسن بالتمر والزبيب أيضاً وأي مدخل للعصير وأين هذا البيان من البيان بقوله تعالى :﴿ نُّسْقِيكُمْ ﴾ [ النحل : ٦٦ ] ليجعل مدركاً لترجيحه فهذا وجه مرجوح مؤول بأنه عطف على مجموع السابق، وأوثر الفعلية لمكان قربه من ﴿ نُّسْقِيكُمْ ﴾ وقوله تعالى :﴿ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ﴾ تم البيان عنده ثم أتى بفائدة زائدة، وأظهر الأوجه ما ذكر آخر أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون ليكون عطفاً للإسمية على الإسمية أعني قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ في الانعام لَعِبْرَةً ﴾ [ النحل : ٦٦ ] ولما لم يكن العبرة فيه كالأول اكتفى بكونه عطفاً على ما هو عبرة ولم يصرح، وأفيد بالتبعيض أن من ثمراتها ما يؤكل قبل الإدراك وما يتلف ويأكل الوحوض وغير ذلك اه، وما ذكره في التأويل من بيان البيان عند ﴿ سَكَرًا ﴾ محوج إلى جعل ﴿ رِزْقاً ﴾ معمولاً لعامل آخر ولا يخفى بعده، والظاهر أنه لا ينكره، وما ذكره من الوجه الأظهر طكره الحوفي كصاحبه، ولا يرد عليه أن فيه حذف الموصوف بالجملة لأن ذلك إذا كان الموصوف بعضاً من مجرور من أوفى المقدم عليه مطرد نحو منا أقام ومنا ظعن أراد فريق، وقد يحذف موصوفاً بالجملة في غير ذلك كقول الراجز :
مالك عندي غير سهم وحجر. . . وغير كبداء شديد الوترجادت بكفي كان من أرمى البشر
أراد رجل نعم قال الطبري : التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين وكأنه اعتبر ﴿ مَا ﴾ موصولة وحذف الموصول مع إبقاء الصلة لا يجوز عنهم، ولعلهم يفرقون بين الموصول والموصوف فيما ذكر، وقال العلامة ابن كمال في بعض رسائله : لا وجه لما اختاره صاحب «الكشاف » يعني به تعليق الجار بنسقيكم محذوفاً وتقدير العصير مضافاً لأنه حينئذ لا يتناول المأكول وهو أعظم صنفي ثمراتها يعني النخيل والأعناب والمقام مقام الامتنان ومقتضاه استيعاب الصنفين ثم قال : والعجب منه وممن اتبعه كالبيضاوي كيف اتفقوا على تفسير الرزق الحسن بما ينتظم التمر والزبيب ومع ذلك يقولون : إن المعنى ومن عصيرهما تتخذون سكراً ورزقاً حسناً فإنه لا انتظام بين هذين الكلامين فالوجه أن يتعلق الجار بتتخذون ويكون منه تكرير الظرف للتأكيد اه وهو الذي استظهره أبو حيان وقد سبقت الإشارة إلى الاعتراض بما تعجب منه مع الجواب بما فيه بعد، ونقل عنه أنه جعله متعلقاً بما في الإسقاء من معنى الإطعام أي نطعمكم من ثمرات النخيل والأعناب لينتظم المأكول منهما والمشروب المتخذ من عصيرهما. وفيه من البعد ما فيه.
وأنت تعلم أن تقدير العصير على الوجه الأول عند من يراه لازم، وتقديره على الوجه الثاني جائز عند ذاك أيضاً ولا يجوز عند المعترض. واختار أبو البقاء تعليقه بخلق لكم أو جعل وليس بذاك، وقيل : إنه معطوف على الانعام على معنى ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة ﴿ وَتَتَّخِذُونَ ﴾ بيان لها وهو غير الوجه الذي استظهره صاحب الكشف وكان الظاهر في بدل من وضمير ﴿ مِنْهُ ﴾ لا يتعين فيه ما سمعت كما لا يخفى عليك بعد أن أحطت خبراً بما قيل في ضمير ﴿ بُطُونِهِ ﴾ وتفسير ﴿ *السكر ﴾ بالخمر هو المروى عن ابن مسعود. وابن عمر. وأبي رزين. والحسن. ومجاهد. والشعبي. والنخعي. وابن أبي ليلى. وأبي ثور. والكلبي. وابن جبير مع خلق آخرين، والآية نزلت في مكة والخمر إذ ذاك كانت حلالاً يشربها والفاجر وتحريمها إنما كان بالمدينة إتفاقاً واختلفوا في أنه قبل أحد أو بعدها والآية المحرمة لها ﴿ يَأَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه ﴾ [ المائدة : ٩٠ ] على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها، وروى ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي وأبي ثور وابن جبير، وقيل : نزلت قبل ولا نسخ بناء على ما روى عن ابن عباس أن ﴿ *السكر ﴾ هو الخل بلغة الحبشة أو على ما نقل عن أبي عبيدة أن ﴿ *السكر ﴾ المطعوم المتفكه به كالنقل وأنشد :
جعلت إعراض الكرام سكراً. . . وتعقب بأن كون السكر في ذلك بمعنى الخمر أشبه منه بالطعام، والمعنى أنه لشغفه بالغيبة وتميزق الأعراض جرى ذلك عنده مجرى الخمر المسكرة، وكأنه لهذا قال الزجاج : إن قول أبي عبيدة لا يصح، وفيه أن المعروف في الغيبة جعلها نقلاً ولذا قيل : الغيبة فاكهة القراء وإلى عدم النسخ ذهب الحنفيون وقالوا : المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة، واستدلوا عليه بأن الله تعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك ولا يقع الامتنان إلا بمحلل فيكون ذلك دليلاً على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز وعضدوا هذا من السنة بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" حرم الله تعالى الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر( ٢ ) من كل شراب " أخرجه الدارقطني، وإلى حل شرب النبيذ ما لم يصل إلى الإسكار ذهب إبراهيم النخعي : وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه. وسفيان الثوري وهو من تعلم وكان عليه الرحمة يشربه كما ذكر ذلك القرطبي في تفسيره. والبيضاوى بعد أن فسر ﴿ *السكر ﴾ بالخمر تردد في أمر نزولها فقال : إلا أن الآية إن كانت سابقة على تحريم الخر فدالة على كراهيتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة، ووجه دلالتها على الكراهية بأن الخمر وقعت في مقابة الحسن وهو مقتضى لقبحها والقبيح لا يخلو عن الكراهة وإن خلا عن الحرمة، واعترض عليه بأن تردده هنا في سبقها على تحريم الخمر ينافي ما في سورة البقرة حيث ساق الكلام على القطع على أنه جزم في أول هذه السورة بأنها مكية إلا ثلاث آيات من آخرها.
وفي «الكشاف » بعد أن فسر ﴿ *السكر ﴾ أيضاً بما ذكر قال : وفيه وجهان. أحدهما : أن تكون منسوخة. والثاني : أن يجمع بين العتاب والمنة، ونقل «صاحب الكشاف » أن القول بكونها منسوخة أولى الأقاويل، ثم قال : وفي الآية دليل على قبح تناولها تعريضاً من تقييد المقابل بالحسن، وهذا وجه من ذهب إلى أنه جمع بين العتاب والمنة، وعلى الأول يكون رمزاً إلى أن السكر وإن كان مباحاً فهو مما يحسن اجتنابه اه. واستدل ابن كمال على نزولها قبل التحريم بأن المقام لا يحتمل العتاب فإن مساق الكلام على ما دل عليه سياقه ولحاقه في تعداد النعم العظام، وذكر أن الكلام الزمخشري ومن تبعه ناشي عن الغفلة عن هذا، ولعل عدم وصف ﴿ *السكر ﴾ بما وصف به ما بعده لعلم الله تعالى أنه سيكون رجساً يحكم الشرع بتحريمه. وجوز الزمخشري أن يجعل الكر رزقاً حسناً كأنه قيل : تتخذون منه ما هو مسكر ورزق حسن أي على أن العطف من عطف الصفات.
وأنت تعلم أن العطف ظاهره المغايرة.
هذا ولما كان اللبن نعمة عظيمة لا دخل لفعل الخلق فيه إضافة سبحانه لنفسه بقوله تعالى ﴿ نُّسْقِيكُمْ ﴾ [ النحل : ٦٦ ] بخلاف اتخاذ السكر وقد صرح بذلك في البحر فتأمل ﴿ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً ﴾ باهرة ﴿ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل بالآيات فالفعل منزل منزلة اللازم، قال أبو حيان : ولما كان مفتتح الكلام ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ في الانعام لَعِبْرَةً ﴾ [ النحل : ٦٦ ] ناسب الختم بقوله سبحانه : يعقلون لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول. وأنا أقول : إذا كان في الآية إشارة إلى الحط من أمر السكر ففي الختم المذكور تقوية لذلك وله في النفوس موقع وأي موقع حيث أن العقار كما قيل للعقول عقال :
إذا دارها بالأكف السقاة. . . لخطاباها أمهروها العقولا
فافهم ذاك والله تعالى يتولهم هداك.
( هذا ومن باب الإشارة ) : والإشارة في قوله تعالى :﴿ وَمِن ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ [ النحل : ٦٧ ] على ما فيه أيضاً إلى ما تتخذه الأرواح والأسرار من ثمرات نخيل القلوب وأعناب العقول من خمر المحبة والانس الآخذة بها إلى حضيرة القدس :
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت. . . لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
١ - هو نوع من الأشربة اهـ عنه..
٢ - بضم السين اهـ منه..
﴿ وأوحى رَبُّكَ إلى النحل ﴾ ألهمها وألقى في روعها وعلمها بوجه لا يعلمه إلا اللطيف الخبير ؛ وفسر بعضهم الإيحاء إليها بتسخيرها لما أريد منها، ومنعوا أن يكون المراد حقيقة الإيحاء لأنه إنما يكون للعقلاء وليس التحل منها. نعم يصدر مها أفعال ويوجد فيها أحوال يتخيل بها أنها ذوات عقول وصاحبة فضل تقصر عنه الفحول، فتراها يكون بينها واحد كالرئيس هو أعظمها جثة يكون نافذ الحكم على سائرها والكل يخدمونه ويحملون عنه وسمي اليعسوب والأمير، وذكروا أنها إذا نفرت عن وكرها ذهبت بجمعيتها إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا لها الطبول وآلات الموسيقى ورودها بواسطة تلك الألحان إلى وكرها، وهي تبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية والعقلاء لا يمكنهم ذلك إلا بآلات مثل المسطرة والفرجار وتختارها على غيرها من البيوت المشكلة بأشكال أخر كالمثلثات والمربعات والمخمسات وغيرها، وفي ذلك سر لطيف فإنهم قالوا : فإنهم قالوا : ثبت في الهندسة أنها لو كانت مشكلة بأشكال أخر يبقى فيما بينها بالضرورة فرج خالية ضائعة ؛ ولها أحوال كثيرة عجيبة غير ذلك قد شاهدها كثير من الناس وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والصوفية على ما ذكره الشعراني في غير موضع لا يمنعون إرادة الحقيقة، وقد أثبتوا في سائر الحيوانات رسلاً وأنبياء والشرع يأبى ذلك. وذهب بعض حكماء الإشراق إلى ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات وأكاد أسلم لهم ذلك ولم نسع عن أحد غير الصوفية القول بما سمعت عنهم، والنحل جنس واحده نحلة ويؤنث في لغة الحجاز ولذلك قال سبحانه :﴿ أَنِ اتخذى ﴾ وقرأ ابن وثاب ﴿ النحل ﴾ بفتحتين وهو يحتمل أن يكون لغة وأن يكون إتباعاً لحركة النون، و ﴿ ءانٍ ﴾ إما مصدرية بتقدير بناء الملابسة أي بأن اتخذي أو تفسيرية وما بعدها مفسر للإيحاء لأن فيه باعتبار معناه المشهور معنى القول دون حروفه، وذلك كاف في جعلها تفسيرية : وقد غفل عن ذلك أبو حيان أو لم يعتبره فقال : إن في ذلك نظراً لأن الوحي هنا بمعنى الإلهام إجماعاً وليس في الإلهام معنى القول ﴿ مِنَ الجبال بُيُوتًا ﴾ أوكاراً، وأصل البيت مأوى الإنسان واستعمل هنا في الوكر الذي تبنيه النحل لتعسل فيه تشبيهاً له بما يبنيه الإنسان لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسمة كما سمعت : وقرىء ﴿ بُيُوتًا ﴾ بكسر الباء لمناسبة الياء وإلا فجمع فعل على فعول بالضم.
﴿ وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾ أي يعرشه الناس أي يرفعه من الكروم كما روى عن ابن زيد وغيره أو السقوف كما نقل عن الطبري أو أعم منهما كما قال البعض، و ﴿ مِنْ ﴾ في المواضع الثلاثة للتبعيض بحسب الأفراد وبحسب الأجزاء فإن النحل لا يبني في كل شجر وكل جبل وكل ما يعرش ولا في كل مكان من ذلك، وبعضهم قال : إن ﴿ مِنْ ﴾ للتبعيض بحسب الأفراد فقط، والمعنى الآخر معلوم من خارج لا من مدلول ﴿ مِنْ ﴾ إذ لا يجوز استعمالها فيهما ولمولانا ابن كمال تأليف مفرد في المسألة ليراجع، وأياً ما كان ففيه مع ما يأتي قريباً إن شاء الله تعالى من البديع صنعة الطبقا، وتفسير البيوت بيما تبنيه هو الذي ذهب إليه غير واحد، وقال أبو حيان : الظاهر أنها عبارة عن الكوى التي تكون في الجبال وفي متجوف الأشجار والخلايا التي يصنعها ابن آدم للنحل والكوى التي تكون في الحيطان، ولما كان النحل نوعين منه ما مقره في الجبال والغياض ولا يتعهده أحد ومنه ما يكون في بيوت الناس ويتعهده في الخلايا ونحوها شمل الأمر بالاتخاذ البيوت النوعين.
( هذا ومن باب الإشارة ) :﴿ وأوحى رَبُّكَ إلى النحل ﴾ قيل أي نحل الأرواح ﴿ أَنِ اتخذي مِنَ الجبال ﴾ أي جبال أنوار الذات ﴿ بُيُوتًا ﴾ مقار لتسكنين فيها ﴿ وَمِنَ الشجر ﴾ أي ومن أشجار أنوار الصفات ﴿ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾ [ النحل : ٦٨ ] أنوار عروش الأفعال
﴿ ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات ﴾ أي من جميعها، وهي جمع ثمرة محركة حمل الشجر، وأخذ بظاهر ذلك ابن عطية فقال : إنما تأكل النوار من الأشجار، وتقال الثمرة للشجرة أيضاً كما في «القاموس »، قيل : وهو المناسب هنا إذ التخصيص بحمل الشجر خلاف الواقع لعموم أكلها للأوراق والأزهار والثمار. وتعقب بأنه لا يخفى أن إطلاق الثمرة على الشجرة مجاز( ١ ) غير معروف وكونها تأكل من غيرها غير معلوم وغي رمناف للاقتصار على أكل ما ينبت فيها والعموم في كل على مايشير إليه كلام البعض عرفي، وجوز أن يكون مخصوصاً بالعادة أي كلي من كل ثمرة تشتهينها، وقيل :﴿ كُلٌّ ﴾ للتكثير، قال الخفاجي : ولو أبقى على ظاهره أيضاً جاز لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها لأن الأمر للتخلية والإباحة، وأياً ما فمن للتعيض.
وقال الإمام : رأيت في كتب الطب أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع على أوراق الأشجار فقد تكون تلك الأجزاء لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة وهذا مثل الترنجين فإنه طل ينزل من الهواء ويجتمع على الأطراف في بعض البلدان، وأما القسم الأول فهو الذي ألهم الله تعالى النحل حتى تلتقطه من الأزهار أوراق الأشجار بأفواهها وتغتذي به فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء وذهبت به إلى بيوتها ووضعته هناك كأنها تحاول أن تدخر لنفسه غذاءها فالمجتمع من ذلك هو العسل، ومن الناس من يقول : إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرة أشياء ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلاً ثم تقيئه، والقول الأول أقرب إلى العقرب وأشد مناسبة للاستقراء، فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ولا شك أنه طل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأسجار والأزهار فكذا ههنا، وأيضاً فنحن نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل حتى إنا إذا أخرجنا العسل من بيوتها تركنا لها بقية منه لغذائها، وحينئذ فكلمة من لابتداء الغاية اه. وأنت تعلم أن ظاهر ﴿ كُلِى ﴾ يؤيد القول الثاني وهو أشد تأييداً له من تأييد مشابهة الترنجبين للعسل في الطعم والشكل للقول الأول لا سيما وطبيعة العسل والترنجبين مختلفة فقد ذكر بعض أجلة الأطباء أن العسل حار في الثالثة يابس في الثانية والترنجبين حار في الأولى رطب في الثانية أو معتدل. نعم لتلك المشابهة يطلق عليه اسم العسل فإن ترنجبين فارسي معناه عسل رطب لا طل النداء كما زعم وإن قالوا : هو في الحقيقة طل يسقط على العاقول بفارس ويجمع كالمن، ويجلب من التكرور شيء يسمى بلسانهم طنبيط أشبه الأشياء به في الصورة والفعل لكن أغلظ، والأمر في مشاهدة تغذيها بالعسل سهل فإنه ليس دائمياً، وينقل عن بعض الطيور التي تكمن شتاء التغذي بالرجيع.
ويؤيد المشهور ما روى عن الأمير علي كرم الله تعالى وجهه في تحقير الدنيا أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة وأشرف شرابه رجيع نحل، وجاء عنه كرم الله تعالى وجهه أيضاً أما العسل فونيم ذباب، وحمله على التمثيل خلاف الظاهر وعلى ذلك نظمت الأشعار فقال المعري :
والنحل يجني المر من زهر الربا. . . فيعود شهداً في طريق رضا به
وقال الحريري :
تقول هذا محاج النحل تمدحه. . . وإن ترد ذمه قيء الزنابير( ٢ )
وأخبرني من أثق به أنه شاهد كثيراً حملها لأوراق الأزهار بفمها إلى بيوتها وهو ما يستأنس به للآكل، وسيأتي إن شاء الله تعالى أيضاً ما يؤيده، ﴿ فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ ﴾ أي طرقه سبحانه راجعة إلى بيوتك بعد الأكل، فالمراد بالسبل مسالكها في العود، ويحكى أنها ربما أجدب عليها ما حولها فانتجعت الأماكن البعيدة للمرعى ثم تعود إلى بيوتها لا تضل عنها، وفي إضافة السبل إلى الرب المضاف إلى ضميرها إشارة إلى أنه سبحانه هو المهيىء لذلك والميسر له والقائم بمصالحها ومعايشها، وقيل : المراد من السبل طرق الذهاب إلى مظان ما تأكل منه، وحينئذ فمعنى ﴿ كُلِى ﴾ اقصدي الأكل، وقيل : السبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها أي فاسلكي الطرق التي ألهمك ربك في عمل العسل، وقيل : مجاز عن طرق إحالة الغذاء عسلاً، و ﴿ *اسلكي ﴾ متعد من سلكت الخيط في الإبرة سلكاً لا لازم من سلك في الطريق سلوكاً، ومفعوله محذوف أي فاسلكي ما أكلت في مسالكه التي يستحيل فيها بقدرته النور المر عسلاً من أجوافك.
وتعقب بأن السلك في تلك المسالك ليس فيه لها اختيار حتى تؤمر به فلا بد أن يكون الأمر تكوينياً، ورد بأنه ليس بشيء لأن الإدخال باختيارها فلا يضره كون الإحالة المترتبة عليه ليست اختيارية وهو ظاهر فليس كما زعم ﴿ رَبّكِ ذُلُلاً ﴾ أي مذللة ذللها الله تعالى وسهلها لك فهو جمع ذلول حال من السبل وروى هذا عن مجاهد.
وجعل ابن عبد السلام وصف السبل بالذلل دليلاً على أن المراد بالسبل مسالك الغذاء لا طرق الذهاب أو الإياب قال : لأن النحل تذهب وتؤب في الهواء وهو ليس طرقاً ذللاً لأن الذلول هو الذي يذلل بكثرة الوطء والهواء ليس كذلك وفيه نظر.
وقال قتادة : أي مطيعة منقادة فهو حال من الضمير في ﴿ فاسلكى ﴾ ﴿ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا ﴾ استئناف عدل به عن خطاب النحل إلى الكلام مع الناس لبيان ما يظهر منها من تعاجيب صنع الله تعالى التي هي موضع عبرتهم بعد ما أمرت بما أمرت ﴿ شَرَابٌ ﴾ يعني العسل، وسمي بذلك لأنه مما يشرب حتى قيل : إنه لا يقال : أكلت عسلاً وإنما يقال : شربت عسلاً، وكأنه سبحانه إنما لم يعبر بالإخراج مسنداً إليه تعالى اكتفاءاً بإسناد الإيحاء بالمبادىء إليه جل شأنه وفيه إيذان بعظيم قدرته عز وجل بحيث أن ما يشعر بإرادة الشيء كاف في حصوله.
و ﴿ مِنْ ﴾ لابتداء الغاية، وذكر سبحانه مبدأ الغاية الأولى وهي البطون ولم يذكر سبحانه مبدأ الغاية الأخيرة والجمهور على أنه يخرج من أفواهها، وزعم بعضهم أنه أبلغ في القدرة، وبيت الحريري على ذلك وكذا قول الحسن : لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم، وقيل : من أدبارها وهو ظاهر ما روى عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه.
وقال آخرون : لا ندري إلا ما ذكره الله تعالى. وحكى أن سليمان عليه السلام. والإسكندر. وأرسطو صنعوا لها بيوتاً من زجاج لينظروا إلى كيفية صنيعها وهل يخرج العسل من فيها أم من غيره فلم تضع من العسل شيئاً حتى لطخت باطن الزجاج بالطين بحيث يمنع المشاهدة، وقال بعضهم : المراد بالبطون الأفواه، وسمي الفم بطناً لأنه في حكمه ولأنه مما يبطن ولا يظهر، وهذا تأويل من ذهب إلى أنها تلتقط الذراة الصغيرة من الطل وتدخرها في بيوتها وهو العسل. وأنت تعلم أن الظاهر من البطن الجارحة المعروفة فالآية تؤيد القول المشهور في تكون العسل. وفي «الكشف » أن في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ كُلِى ﴾ إشارة لى أن لمعدة النحل في ذلك تأثيراً وهو المختار عند المحققين من الحكماء، ومن جعل العسل نباتياً محضاً وفسر البطون بأفواه النحل فليست شعري ماذا يصنع بقوله سبحانه :﴿ ثُمَّ كُلِى ﴾ وأجيب بأنه يفسر الأكل بالالتقاط وهو كما ترى أن دفع الفساد لا يدفع الاستبعاد، ومن الناس من زعم أنها تجتني زهراً وطلا فالمجتنى من الزهر نفسه يكون عسلاً والمجتنى من الطل يكون موماً( ٣ ) والعقل يجوز العكسل ولعله أقرب من ذلك ﴿ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾ بالبياض والصفرة والحمرة والسواد إما لمحض إرادة الصانع الحكيم جل جلاله وإما لاختلاف المرعى أو لاختلاف الفصل أو لاختلاف سن النحل، فالأبيض لفتيها والأصفر لكلها والأحمر لمسنها والأسود للطاعن في ذلك جداً.
وتعقب بأنه مما لا دليل عليه، وقد سألت جمعاً ممن أثق بهم قد اختبروا أحوالها فذكروا أنهم قد استقرؤا وسبروا فرأوا أقوى الأسباب الظاهرة لاختلاف الألوان اختلاف السن بل قال بعضهم : ما علمنا لذلك سبباً إلا هذا بالاستقراء، وحينئذٍ يكون ما ذكر مؤيداً للقول المشهور في تكون العسل كما لا يخفى على من له أدنى ذوق.
﴿ فِيهِ شفاء لِلنَّاسِ ﴾ أما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض إذ قلما يكون معجون لا يكون فيه عسل فله دخل في أكثر ما به الشفاء من المعاجين والتراكيب، وقيل عليه : إن دخوله في ذلك لا يقتضي أن يكون له دخل في الشفاء بل عدم الضرر إذ قيل : إن إدخاله في التراكيب لحفظها ولذا ناب عنه في ذلك السكر، والذي رأيناه في كثير من كتب الطب أنه يحفظ قوى الأدوية طويلاً ويبلغها منافعها، ولا يخفى على المنصف أن ما يحفظ القوى ويبلغ منافع الدواء يصدق عليه أن له دخلاً في الشفاء، ولم يشتهر أن السكر ينوب منابه في ذلك.
وفي «البحر » أن العسل موجود كثيراً في أكثر البلاد وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث مصنوع للبشر، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان يجعل في الأدوية والأشربة إلا العسل اه، وفي «شرح الشمائل » أنه عليه الصلاة والسلام لم يأكل السكر، وذكر غير واحد أنه ليس المراد بالناس هنا العموم لأن كثيراً من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل كأمراض الصفراء فإنه مضر للصفراوي، ولو يسلم أن السكنجبين الذي هو خل وعسل كما ينبىء عنه أصل معناه نافع له، والنافع نوع آخر من السكنجبين فإنه نقل إلى ما ركب من حامض وحلو، وله أنواع كثيرة ألفت في جمعها الرسائل حتى قالوا بحرمة تناوله عليه وإنما المراد بالناس الذين ينجع العسل في أمراضهم. والتنوين في ﴿ شفاء ﴾ إما للتعظيم أي شفاء أي شفاء، وإما للتبعيض أي فيه بعض الشفاء فلا يقتضي أن كل شفاء به ولا أن كل أحد يستشفى به.
ولا يرد أن اللبن أيضاً كذلك بل قلما يوجد شيء من العقاقير إلا وفيه شفاء للناس بهذا المعنى لما قيل : إن التنصيص على هذا الحكم فيه لإفادة ما يكاد يستبعد من اشتمال ما يخرج على اختلاف ألوانه من هذه الدودة التي هي أشبه شيء بذوات السموم ولعلها ذات سم أيضاً فإنها تلسع وتؤلم وقد يرم الجلد من لسعها وهو ظاهر في أنها ذات سم على ﴿ شفاء لِلنَّاسِ ﴾ ويفهم من ظاهر بعض الآثار أن الكلام على عمومه. فقد أخرج حميد بن زنجويه عن نافع أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان لا يشكو قرحة ولا شيئاً إلا جعل عليه عسلاً حتى الدمل إذا كان به طلاه عسلاً فقلنا له : تداوى الدمل بالعسل ؟ فقال : أليس الله تعالى يقول :﴿ فِيهِ شفاء لِلنَّاسِ ﴾ ؟.
وأنت تعلم أنه لا بأس بمداواة الدمل بالعسل فقد ذكر الأطباء أنه ينقي الجروح ويدمل ويأكل اللحم الزائد. والحق أنه لا مساغ للعموم إذ لا شك في وجود مرض لا ينفع فيه العسل، والآثار المشعرة بالعموم الله تعالى أعلم بصحتها. وأما ما أخرجه أحمد.
والبخاري. ومسلم. وابن مردويه «عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه فقال : اسقه عسلاً فسقاه عسلاً ثم جاء فقال : سقيته عسلاً فما زاده إلا استطلاقاً قال : اذهب فاسقه عسلاً فسقاه عسلاً ثم جاء فقال : ما زاده إلا استطلاقاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق الله تعالى وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلاً فذهب فسقاه فبرأ » فليس صريحاً في العموم لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد علمه الله سبحانه أن داء هذا المستطلق مما يشفى بالعسل فإن بعض الاست
١ - يبعد هذا ذكره في القاموس اهـ منه..
٢ - في نسخة وإن ذممت تقل قيء الزنابير اهـ منه.
٣ - قوله يكون موما هذه لفظة تركية ومعناها بالعربية الشمع اهـ..
﴿ والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يتوفاكم ﴾ حسبما تقتضيه مشيئته تعالى المبنية على الحكم البالغة بآجال مختلفة، والقرينة على إرادة ذلك قوله سبحانه :﴿ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر ﴾ ولذا قيل : إنه معطوف على مقدر أي فمنكم من تعجل وفاته ومنكم الخ، و ﴿ عَلَيْهِمُ العمر ﴾ أخسه وأحقره وهو وقت الهرم التي تنقص فيه القوى وتفسد الحواس ويكون حال الشخص فيه كحاله وقت الطفولية من ضعف العقل والقوة، ومن هنا تصور الرد فهذا كقوله تعالى :﴿ وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ في الخلق ﴾ [ يس : ٦٨ ] ففيه مجاز، وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أن ﴿ أَرْذَلِ العمر ﴾ خمس وسبعون سنة ؛وعن قتادة أنه تسعون، وقيل : خمس وتسعون واختار جمع تفسيره بما سبق وهو يختلف باختلاف الأمزجة فرب معمر لم تنتقص قواه ومنتقص القوى لم يعمر، ولعل التقييد بسن مخصوص مبني على الأغلب عند من قيد.
والخطاب إن كان للموجودين وقت النزول فالتعبير بالماضي والمستقبل فيه ظاهر، وإن كان عاماً فالمضي بالنسبة إلى وقت وجودهم، والاستقبال بالنسبة إلى الخلق، وعلى التقديرين الظاهر أن ﴿ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر ﴾ يعم المؤمن مطلقاً والكافر، وقيل : إنه مخصوص بالكافر والمسلم لا يرد إلى إرذل العمر لقوله تعالى :﴿ ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين * إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ [ التين : ٥، ٦ ] وأخرج ابن المنذر. وغيره عن عكرمة أنه قال : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، والمشاهدة تكذب كلا القولين فكم رأينا مسلماً قارىء القرآن قد رد إلى ذلك، والاستدلال بالآية على خلافه فيه نظر، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم كما أخرجه البخاري. وابن مردويه عن أنس «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات »
﴿ لكي لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾ اللام للصيرورة والعاقبة وهي في الأصل للتعليل وكي مصدرية والفعل منصوب بها والمنسبك مجرور باللام والجار والمجرور متعلق بيرد، وزعم الحوفي أن اللام لام كي دخلت على كي للتوكيد وليس بشيء، والعلم بمعنى المعرفة، والكلام كناية عن غاية النسيان أي ليصير نساءً بحيث إذا كسب علماً في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه من ساعته يقول لك : من هذا ؟ فتقول : فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه، وقيل : المراد لئلا يعلم زيادة علم على علمه، وقيل : لئلا يعقل من بعد عقله الأول شيئاً فالعلم بمعنى العقل لا بمعناه الحقيقي كما في سابقه، وفيه دلالة على وقوفه وأنه لا يقدر على علم زائد، والوجه المعتمد الأول، ونصب شيئاً على المصدرية أو المفعولية، وجوز فيه التنازع بين يعلم وعلم، وكون مفعول علم محذوفاً لقصد العموم أي لا يعلم شيئاً ما بعد علم أشياء كثيرة ﴿ إِنَّ الله عَلِيمٌ ﴾ بكل شيء ومن ذلك وجه الحكمة في الخلق والتوفي والرد إلى أرذل العمر ﴿ قَدِيرٌ ﴾ على كل شيء ومنه ما يشاؤه سبحانه من ذلك، وقيل : عليم بمقادير أعماركم قدير على كل شيء يميت الشاب النشيط ويبقى الهرم الفاني، وفيه تنبيه على أن تفاوت الآجال ليس إلا بتقدير قادر حكيم رتب الأبنية وعدل الأمزجة على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لما بلغ هذا المبلغ، وقيل : إنه تعالى لما ذكر ما يعرض في الهرم من ضعف القوى والقدرة وانتفاء العلم ذكر أنه جل شأنه مستمر على العلم الكامل والقدرة الكاملة لا يتغيران بمرور الأزمان كما يتغير علم البشر وقدرتهم، ويفيد الاستمرار الجملة الاسمية، والكمال صيغة فعيل، وقدم صفة العلم لتجاوز انتفاء العلم عن المخاطبين مع أن تعلق صفة العلم بالشيء أول لتعلقه صفة القدرة به، ولا يخفى عليك ما هو الأولى من الثلاثة فتدبر.
﴿ والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ في الرزق ﴾ أي جعلكم متفاوتين فيه فأعطاكم منه أفضل مما أعطى مماليككم ﴿ فَمَا الذين فُضّلُواْ ﴾ فيه على غيرهم وهم الملاك ﴿ بِرَآدّى ﴾ أي بمعطي ﴿ رَزَقَهُمُ ﴾ الذي رزقهم إياه ﴿ على مَا مَلَكَتْ أيمانهم ﴾ على مماليكهم الذين هم شركاؤهم في المخلوقية والمرزوقية ﴿ فَهُمُ ﴾ أي الملاك الذين فضلوا والمماليك ﴿ فِيهِ ﴾ أي في الرزق ﴿ سواء ﴾ لا تفاضل بينهم، والجملة الاسمية واقعة موقع فعل منصوب في جواب النفي أي لا يردونه عليهم فيستووا فيه ويشتركوا، وجوز أن تكون في تأويل فعل مرفوع معطوف على قوله تعالى :﴿ بِرَآدّى ﴾ أي لا يردونه عليهم فلا يستوون، والمراد بذلك توبيخ الذين يشركون به سبحانه بعض مخلوقاته وتقريعهم والتنبيه على كمال قبح فعلهم كأنه قيل : إنكم لا ترضون بشركة عبيدكم لكم بشيء لا يختص بكم بل يعمكم وإياهم من الرزق الذي هم أسوة لكم في استحقاقه وهم أمثالكم في البشرية والمخلوقية لله عز سلطانه فما بالكم تشركون به سبحانه وتعالى فيما لا يليق إلا به جل وعلا من الألوهية والمعبودية الخاصة بذاته تعالى لذاته بعض مخلوقاته الذي هو بمعزل عن درجة الاعتبار، وهو على ما صرح به جماعة على شاكلة قوله تعالى :﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء * فِيمَا *رزقناكم فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء ﴾ [ الروم : ٢٨ ] يعنون بذلك أنه مثل ضرب لكمال قباحة ما فعلوه، وفي قوله تعالى :﴿ أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ ﴾ قرينة كما قيل على ذلك، وكذا في قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الامثال ﴾ [ النحل : ٧٤ ] والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر وهي داخلة في الحقيقة على الفعل أعني ﴿ يَجْحَدُونَ ﴾ ولتضمن الجحود معنى الكفر جىء بالباء في معموله المقدم عليه للاهتمام أو لإيهام الاختصاص مبالغة أو لرعاية رؤوس الآي، والمراد بالنعمة قيل الرزق وقيل ولعله الأولى : ما يشمله وغيره من النعم الفائضة عليهم منه سبحانه أي يشركون به تعالى فيجحدون نعمته تعالى حيث يفعلون ما يفعلون من الإشراك فإن ذلك يقتضي أن يضيفوا ما أفيض عليهم من الله تعالى من النعم إلى شركائهم ويجحدوا كونها من عنده جل وعلا، وجوز كون المراد بنعمة الله تعالى ما أنعم سبحانه به من إقامة الحجج وإيضاح السبل وإرسال الرسل عليهم السلام ولا نعمة أجل من ذلك، فمعنى جحودهم ذلك إنكاره وعدم الالتفات إليه، وصيغة الغيبة لرعاية «فما الذين » وقرأ أبو بكر عن عاصم. وأبو عبد الرحمن. والأعرج بخلاف عنه «تجحدون » بالتاء على الخطاب رعاية لبعضكم، هذا وجوز أن يكون معنى الآية أن الله تعالى فضل بعضاً على بعض في الرزق وأن المفضلين لا يردون من رزقهم على من دونهم شيئاً وإنما أنا رازقهم فالمالك والمملوك في أصل الرزق سواء وإن تفاوتا كماً وكيفاً، والمراد النهي عن الإعجاب والمن اللذين هما مقدمتا الكفران.
والعطف على مقدر أيضاً أي أيعجبون ويمنون فيجحدون نعمة الله تعالى عليهم، وقيل : التقدير ألا يفهمون فيجحدون ؛ واختار في «الكشاف » أن المعنى أنه سبحانه جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهو بشر مثلكم وإخوانكم وكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تساووا في الملبس والمطعم كما يحكى عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون " فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت، وحاصله أن الله تعالى فضلكم على أمثالكم فكان عليكم أن تردوا من ذلك الفضل عليهم شكراً لنعمته تعالى لتكونوا سواء في ذلك الفضل ويبقى لكم فضل الإفضال والتفضل.
فالآية حث على حسن الملكة وأدمج أنهم وعبيدهم مربوبون بنعمته تعالى ذلك مع تقلبهم فيها ليكون تمهيداً لكفرانهم نعمه سبحانه السوابغ إلى أن جعلوا له عز وجل أنداداً لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً فعبدوها عبادته تعالى أو أشد وأسد، وفي ذلك من البعد ما فيه، والعطف فيه على مقدر أيضاً كألا يعرفون ذلك فيجحدون.
( هذا ومن باب الإشارة ) :﴿ والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ في الرزق ﴾ [ النحل : ٧١ ] قيل : الإشارة فيه إلى تفاوت أرزاق السالكين فرزق بعضهم طاعات، وبعض آخر مقامات وبعض حالات وبعض مكاشفات وبعض مشاهدات وبعض معرفة وبعض محبة وبعض توحيد إلى غير ذلك، وذكروا أن رزق الأشباح العبودية ورزق الأرواح رؤية أنوار الربوبية ورزق العقول الأفكار ورزق القلوب الأذكار ورزق الأسرار حقائق العلوم الغيبية المكشوفة لها في مجالس القرب ومشاهدة الغيب
﴿ والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ أي من جنسكم ونوعكم وهو مجاز في ذلك، والأشهر من معاني النفس الذات ولا يستقيم هنا كغيره فلذا ارتكب المجاز وهو إما في المفرد أو الجمع، واستدل بذلك بعضهم على أنه لا يجوز للإنسان أن ينكح من الجن ﴿ أزواجا ﴾ لتأنسوا بها وتقيموا بذلك مصالحكم ويكون أولادكم أمثالكم.
وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذا خلق آدم وحواء عليهما السلام فإن حواء خلقت من نفسه عليه السلام، وتعقب بأنه لا يلائمه جمع الأنفس والأزواج، وحمله على التغليب تكلف غير مناسب للمقام، وكذا كون المراد منهما بعض الأنفس وبعض الأزواج ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم ﴾ أي منها فوضع الظاهر موضع الضمير للإيذان بأن المراد جعل لكم منكم من زوجه لا من زوج غيره ﴿ بنين ﴾ وبأن نتيجة الأزواج هو التوالد ﴿ وَحَفَدَةً ﴾ جمع حافد ككاتب وكتبة، وهو من قولهم : حفد يحفد حفداً وحفوداً وحفداناً إذا أسرع في الخدمة والطاعة، وفي الحديث «إليك نسعى ونحفد » وقال جميل :
حفد الولائد حولهن وأسلمت. . . بأكفهن أزمة الأجمال
وقد ورد الفعل لازماً ومتعدياً كقوله :
يحفدون الضيف في أبياتهم. . . كرماً ذلك منهم غير ذل
وجاء في لغة كما قال أبو عبيدة أحفد أحفاداً، وقيل : الحفد سرعة القطع، وقيل : مقاربة الخطو، والمراد بالحفدة على ما روي عن الحسن. والأزهري وجاء في رواية عن ابن عباس واختاره ابن العربي أولاد الأولاد، وكونهم من الأزواج حينئذٍ بالواسطة، وقيل : البنات عبر عنهن بذلك إيذاناً بوجه المنة فإنهن في الغالب يخدمن في البيوت أتم خدمة، وقيل : البنون والعطف لاختلاف الوصفين البنوة والخدمة، وهو منزل منزلة تغاير الذات، وقد مر نظيره فيكون ذلك امتناناً بإعطاء الجامع لهذه الوصفين الجليلين فكأنه قيل : وجعل لكم منهن أولاداً هم بنون وهم حافدون أي جامعون بين هذين الأمرين، ويقرب منه ما روي عن ابن عباس من أن البنين صغار الأولاد والحفدة كبارهم، وكذا ما نقل عن مقاتل من العكس، وكأن ابن عباس نظر إلى أن الكبار أقوى على الخدمة( ١ ) ومقاتل نظر إلى أن الصغار أقرب للانقياد لها وامتثال الأمر بها واعتبر الحفد بمعنى مقاربة الخط، وقيل : أولاد المرأة من الزوج الأول، وأخرجه ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
وأخرج الطبراني. والبيهقي في سننه. والبخاري في تاريخه. والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنهم الأختان وأريد بهم على ما قيل أزواج البنات ويقال لهم أصهار، وأنشدوا :
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت. . . لها حفد مما يعد كثير
ولكنها نفس على أبية. . . عيوني لأصهار اللئام تدور
والنصب على هذا بفعل مقدر أي وجعل لكم حفدة لا بالعطف على ﴿ بنيان ﴾ لأن القيد إذا تقدم يعلق بالمتعاطفين وأزواج البنات ليسوا من الأزواج. وضعف بأنه لا قرينة على تقدير خلاف الظاهر وفيه دغدغة لا تخفى. وقيل : لا مانع من العطف بأن يراد بالأختان أقارب المرأة كأبيها وأخيها لا أزواج البنات فإن إطلاق الأختان عليه إنما هو عند العامة وأما عند العرب فلا كما في «الصحاح »، وتجعل ﴿ مِنْ ﴾ سببية ولا شك أن الأزواج سبب لجعل الحفدة بهذا المعنى وهو كما ترى. وتعقب تفسيره بالأختان والربائب بأن السياق للامتنان ولا يمتن بذلك.
وأجيب بأن الامتنان باعتبار الخدمة ولا يخفى أنه مصحح لا مرجح. وقيل : الحفدة هم الخدم والأعوان وهو المعنى المشهور له لغة. والنصب أيضاً بمقدر أي وجعل لكم خدماً يحفدون في مصالحكم ويعينونكم في أموركم.
وقال ابن عطية بعد نقل عدة أقوال في المراد من ذلك : وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجته بنون وحفدة ولا يخفى أنه باعتبار الغالب، ويحتمل أن يحمل قوله تعالى :﴿ من أزواجكم ﴾ على العموم والاشتراك أي جعل من أزواج البشر البنين والحفدة ويستقيم على هذا إجراء الحفدة على مجراها في اللغة إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحدهم عن حفدة اه، وحينئذٍ لا يحتاج إلى تقدير لكن لا يخفى أن فيه بعداً، وتأخير المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مر غير مرة من التشويق، وتقديم المجرور باللام على المجرور بمن للإيذان من أول الأمر بعود منفعة الجعل إليهم إمداداً للتشويق وتقوية له.
﴿ وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات ﴾ أي اللذائذ وهو معناها اللغوي، وجوز أن يراد بالطيب ما هو متعارف في لسان الشرع وهو الحلال. وتعقبه أبو حيان بأن المخاطبين بهذا الكفار وهم لا شرع لهم فتفسيره بذلك غير ظاهر. وأجيب بأنهم مكلفون بالفروع كالأصول فيوجد في حقهم الحلال والحرام، وأيضاً هم مرزوقون بكثير من الحلال الذي أكلوا بعضه ولا يلزم اعتقادهم للحل ونحوه، و ﴿ مِنْ ﴾ للتبعيض لأن ما رزقوه بعض من كل الطيبات فإن ما في الدنيا منها بأسره أنموذج لما في الآخرة إذ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وما في الدنيا لم يصل كثير منه إليهم، والظاهر على ما ذكرنا عموم الطيبات للنبات والثمار والحبوب والأشربة والحيوان، وقيل : المراد بها ما أتى من غير نصب، وقيل : الغنائم، وليس بشيء.
﴿ أفبالباطل ﴾ وهو منفعة الأصنام وبركتها وما ذاك إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى :﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾ وقدم للحصر فيفيد أن ليس لهم إيمان إلا بذلك كأنه شيء معلوم مستيقن ﴿ وَبِنِعْمَتِ الله ﴾ المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز مما ذكر ومما لا تحيط به دائرة البيان ﴿ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾ أي يستمرون على الكفر بها والإنكار لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول وذلك بإضافتها إلى أصنامهم، وقيل : الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله تعالى ما أحل لهم.
والآية على هذا ظاهرة التعلق بقوله سبحانه :﴿ وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات ﴾ فقط دون ما قبله أيضاً والظاهر تعلقها بهما، ومن ذلك يظهر حال ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج من أن الباطل الشيطان ونعمة الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكرناه قد صرح بأكثره الزمخشري، واستفادة الحصر من التقديم ظاهرة، وأما كأنه شيء معلوم مستيقن فمستفاد من حصرهم الإيمان فيما ذكر لأن ذلك شأن المؤمن به لا سيما وقد حصروا، وأيضاً المقابلة بالمشاهد المحسوس أعني نعمة الله تعالى دلت على تعكيسهم فيدل على أنهم جعلوا الموهوم بمنزلة المتيقن وبالعكس، والفاء التي للتعكيس شديدة الدلالة على هذا الأمر والحمل على أنها للعطف على محذوف ليس بالوجه كذا في «الكشف »، وفيه رد على ما قيل إن في كلا التركيبين تأكيداً وتخصيصاً، أما التخصيص فيهما فمن تقديم المعمول، وأما التأكيد في الأول فلأن الفاء تستدعي معطوفاً عليه تقديره أيكفرون بالحق ويؤمنون بالباطل والكفر بالحق مستلزم للإيمان بالباطل فقد تكرر الإيمان بالباطل والتكرير يفيد التأكيد، وأما التأكيد في الثاني فمن بناء ﴿ يَكْفُرُونَ ﴾ على هم المفيد لتقوى الحكم، وجعل كلام الزمخشري مشيراً إلى ذلك كله فتدبر. وما ذكر من أن تقديم الجار في التركيبين للتخصيص مما صرح به غير واحد، والعلامة البيضاوي جوز ذلك لكنه أقحم الإيهام هنا نظير ما فعلناه فيما سلف آنفاً.
ووجه ذلك بأن المقام ليس بمقام تخصيص حقيقة إذ لا اختصاص لإيمانهم بالباطل ولا لكفرانهم بنعم الله سبحانه ولم يقحمه في تفسير نظير ذلك في العنكبوت فإن وجه بأنهم إذا آمنوا بالباطل كان إيمانهم بغيره بمنزلة العدم وإن النعم كلها من الله تعالى إما بالذات أوب الواسطة فليس كفرانهم إلا لنعمه سبحانه كما قيل لا يشكر الله من لا يشكر الناس بقي المخالفة. وأجيب بأنه إذا نظر للواقع فلا حصر فيه وإن لوحظ ما ذكر يكون الحصر ادعائياً وهو معنى الإيهام للمبالغة فلا تخالف، وجوز أن يكون التقديم للاهتمام لأن المقصود بالإنكار الذي سيق له الكلام تعلق كفرانهم بنعمة الله تعالى واعتقادهم للباطل لا مطلق الإيمان والكفران، وأن يكون لرعاية الفواصل وهو دون النكتتين، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالهم للإعراض عنهم وصرف الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيباً لهم مما فعلوه. وفي «البحر » أن السلمي قرأ ﴿ تُؤْمِنُونَ ﴾ بالتاء على الخطاب وأنه روى ذلك عن عاصم، والجملة فيما بعده على هذا كما استظهره في «البحر » مجرداً عن الكفرة غير مندرج في التقريع.
هذا بقي أنه وقع في العنكبوت ( ٦٧ ) ﴿ أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ ﴾ بدون ضمير ووقع هنا ما سمعتب الضمير، وبين الخفاجي سر ذلك بأنه لما سبق في هذه السورة قوله تعالى :﴿ أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ ﴾ [ النحل : ٧١ ] أي يكفرون كما مر فلو ذكر ما نحن فيه بدون الضمير لكانت الآية تكراراً بحسب الظاهر فأتى بالضمير الدال على المبالغة والتأكيد ليكون ترقياً في الذم بعيداً عن اللغوية، ثم قال : وقيل إنه أجرى على عادة العباد إذا أخبروا عن أحد بمنكر يجدون موجدة فيخبروا عن حاله الأخرى بكلام آكد من الأول، ولا يخفى أن هذا إنما ينفع إذا سئل لم قيل :﴿ أفبالباطل يُؤْمِنُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ] بدون ضمير وقيل :﴿ وبنعمة الله هم يكفرون ﴾ به، وأما في الفرق بين ما هنا وما هناك فلا، وقيل : آيات العنكبوت استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب وأما الآية التي نحن فيها فقد سبق قبلها مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب، وتخصيص هذه بالزيادة دون ﴿ أفبالباطل يُؤْمِنُونَ ﴾ مع أنها الأولى بها بحسب الظاهر لتقدمها لئلا يلزم زيادة الفاصلة الأولى على الثانية، واعترض عليه بأنه لا يخفى أنه لا مقتضى للزوم الغيبة ولا لبس لو ترك الضمير.
وقد يقال : إنما لم يؤت في آية العنكبوت بالضمير وينبى الفعل عليه إفادة للتقوى استغناءً بتكرر ما يفيد كفر القوم بالنعم مع قربه من تلك الآية عن ذلك، على أنه قد تقدم هناك ما تستمد منه الجملتان أتم استمداد وإن كان فيه نوع بعد ومغايرة ما وذلك قوله تعالى :﴿ والذين ءامَنُواْ بالباطل وَكَفَرُواْ بالله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون ﴾ [ العنكبوت : ٥٢ ] ولما لم تكن آية النحل فيما ذكر بهذه المرتبة جىء فيها بما يفيد التقوى، أو يقال : إنه لما كان سرد النعم هنا على وجه ظاهر في وصولها إليهم والامتنان بها عليهم كان ذلك أوفق بأن يؤتى بما فيه بما ذكر، ولعل التعبير هنا بيكفرن وفيما قبل ﴿ يَجْحَدُونَ ﴾ [ النحل : ٧١ ] لأن ما قبل كان مسبوقاً على ما قيل بضرب مثل لكمال قباحة ما فعلوه والجحود أوفق بذلك لما أن كمال القبح فيه أتم ولا كذلك فيما البحث فيه كذا قيل فافهم والله تعالى بأسرار كتابه أعلم.
١ - هنا بياض بالأصل..
﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله ﴾ قال أبو حيان : هو استئناف اخبار عن حالهم في عبادة الأصنام وفيه تبيين لقوله تعالى :﴿ أفبالباطل يُؤْمِنُونَ ﴾ [ النحل : ٧٢ ] وقال بعض أجلة المحققين : لعله عطف على ﴿ يَكْفُرُونَ ﴾ [ النحل : ٧٢ ] داخل تحت الإنكار التوبيخي أي أيكفرون بنعمة الله ويعبدون من دونه سبحانه ﴿ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ * السموات والأرض * شَيْئاً ﴾ أي ما لا يقدر أن يرزقهم شيئاً لا من السموات مطراً ولا من الأرض نباتاً فرزقاً مصدر، و ﴿ شَيْئاً ﴾ نصب على المفعولية له وإلى ذلك ذهب أبو علي. وغيره. وتعقبه ابن الطراوة بأن الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن والمصدر إنما هو الرزق بفتح الراء كالرعي والطحن. ورد عليه بأن مكسور الراء مصدر أيضاً كالعلم وسمع ذلك فيه فصح أن يعمل في المفعول، وقيل : هو اسم مصدر والكوفي يجوز عمله في المفعول فشيئاً مفعوله على رأيهم، وجوز أن يكون بمعنى مرزوق و ﴿ شَيْئاً ﴾ بدل منه أي لا يملك لهم شيئاً. وأورد عليه السمين. وأبو حيان أنه غير مفيد إذ من المعلوم أن الرزق من الأشياء والبدل يأتي لأحد شيئين البيان والتأكيد وليسا بموجودين هنا. وأجيب بأن تنوين ﴿ شَيْئاً ﴾ للتقليل والتحقير فإن كان تنوين ﴿ رِزْقاً ﴾ كذلك فهو مؤكد وإلا فمبين وحينئذٍ فيصح فيه أن يكون بدل بعض أو كل ولا إشكال.
وجوز أن يكون ﴿ شَيْئاً ﴾ مفعولاً مطلقاً ليملك أي لا يملك شيئاً من الملك و ﴿ مِنْ * السموات ﴾ اما متعلق بقوله تعالى :﴿ لاَ يَمْلِكُ ﴾ أو بمحذوف وقع صفة لرزقا أي رزقاً كائناً منهما، واطلاق الرزق على المطر لأنه ينشأ عنه.
﴿ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾ جوز أن يكون عطفاً على صلة ﴿ مَا ﴾ وأن يكون مستأنفاً للأخبار عن حالة الآلهة ؛ واستطاع متعد ومفعوله محذوف هو ضمير الملك أي لا يستطيعون أن يملكوا ذلك ولا يمكنهم، فالكلام تتميم لسابقه وفيه من الترقي ما فيه فلا يكون نفي استطاعة الملك بعد نفي ملك الرزق غير محتاج إليه، وان جعل المفعول ضمير الرزق كما جوزه في الكشاف يكون هذا النفي تأكيداً لما قبله. وأورد عليه أنه قد قرر في المعاني أن حرف العطف لا يدخل بين المؤكد والمأكد لما بينهما من كمال الاتصال. ودفع بأن ذلك غير مسلم عند النحاة وليس مطلقاً عند أهل المعاني ألا ترى قوله تعالى :﴿ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ﴾ [ النبأ : ٤، ٥ ] نعم يرد عليه حديث أن التأسيس خير من التأكيد، ويجوز ولعله الأولى أن يكون الفعل منزلاً منزلة اللازم فيكون المراد نفي الاستطاعة عنهم مطلقاً على حد يعطي ويمنع المعنى أنهم أموات لا قدرة لهم أصلاً فيكون تذييلاً للكلام السابق، وفيه ما فيه على الوجه الأول وزيادة.
وجمع الضمير فيه وتوحيده في «لا يملك » لرعاية جانب اللفظ أولا والمعنى ثانياً فإن «ما » مفرد بمعنى الآلهة ومثل هذه الرعاية وارد في الفصيح وان أنكره بعضهم لما يلزمه من الإجمال بعد البيان المخالف للبلاغة فإنه مردود كما بين في محله، وقد روعي أيضاً في التعبير حال معبوداتهم في نفس الأمر فإنها أحجار وجمدات فعبر عنها بما الموضوعة في المشهور لغير العالم وحالها باعتبار اعتقادهم فيها أنها آلهة فعبر عنها بضمير الجمع الموضوع لذوي العلم، هذا إذا كان المراد بما الأصنام، ولا يخفى عليك الحال إذا كان المراد بها المعبودات الباطلة مطلقاً ملكاً كانت أو بشراً أو حجراً أو غيرها.
وجوز أن يكون ضمير الجمع عائداً على الكفار كضمير ﴿ يَعْبُدُونَ ﴾ و ﴿ مَا ﴾ على المعنى المشهور فيها على معنى أنهم مع كونهم أحياء متصرفين في الأمور لا يستطيعون من ذلك شيئاً فكيف بالجماد الذي لا حس له، فجملة ﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾ معترضة لتأكيد نفي الملك عن الآلهة والمفعول محذوف كما أشير إليه، وهذا وان كان خلاف الظاهر لكنه سالم عن مخالفة المشهور في العود على المعنى بعد مراعاة اللفظ.
﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ الله الامثال ﴾ التفات إلى الخطاب للإيذان بالاهتمام بشأن النهي، والفاء للدلالة على ترتيب النهي على ما عدد من النعم الفائضة عليهم منه تعالى وكون آلهتهم بمعزل من أن يملكوا لهم رزقاً فضلاً عما فضل، والأمثال جمع مثل كعلم، والمراد من الضرب الجعل فكأنه قيل : فلا تجعلوا لله تعالى الأمثال والاكفاء فالآية كقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً ﴾ [ البقرة : ٢٢ ] وهذا ما يقتضيه ظاهر كلام ابن عباس، فقد أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال في الآية : يقول سبحانه لا تجعلوا معي إلهاً غيري فإنه لا إله غيري.
وجعل كثير الأمثال جمع مثل بالتحريك، والمراد من ضرب المثل لله سبحانه الإشراك والتشبيه به جل وعلا من باب الاستعارة التمثيلية، ففي الكشف إن الله تعالى جعل المشرك به الذي يشبهه تعالى بخلقه بمنزلة ضارب المثل فإن المشبه المخذول يشبه صفة بصفة وذاتاً بذات كما ان ضارب المثل كذلك فكأنه قيل : ولا تشركوا بالله سبحانه، وعدل عنه إلى المنزل دلالة على التعميم في النهي عن التشبية وصفاً وذاتاً، وفي لفظ ﴿ الامثال ﴾ لمن لا مثال له أصلاً نعى عظيم عليهم بسوء فعلهم، وفيه ادماج أن الأسماء توقيفية وهذا هو الظاهر لدلالة الفاء وعدم ذكر ضرب مثل منهم سابقاً، وهذا الوجه هو الذي اختاره الزمخشري وكلام الحبر رضي الله تعالى عنه لا يأباه فقوله تاعلى :﴿ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ تعليل للنهي أي أنه تعالى يعلم كنه ما تفعلون وعظمه وهو سبحانه معاقبكم عليه أعظم العقاب وأنتم لا تعلمون كنهه وكنه عقابه فلذا صدر منكم وتجاسر تم عليه.
وجوز أن يكون المراد النهي عن قياس الله تعالى على غيره بجعل ضرب المثل استعارة للقياس، فإن القياس الحاق شيء بشيء وهو عند التحقيق تشبيه مركب بمركب، والفرق بينه وبين الوجه السابق قليل، وأمر التعليل على حاله، وجوز الزمخشري وغيره أن يكون المراد النهي عن ضرب الأمثال لله سبحانه حقيقة والمعنى فلا تضربوا لله تعالى الأمثال التي يضربها بعضكم لبعض ان الله تعالى يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون، ووجه التعليل ظاهر، واللام على سائر الأوجه متعلقة بتضربوا وعزم ابن المنير تعلقها بالأمثال فيما إذا كان المراد التمثيل للإشراك والتشبيه ثم قال : كأنه قيل فلا تمثلوا الله تعالى ولا تشبهوه، وتعلقها بتضربوا على هذا الوجه ثم قال كأنه قيل فلا تمثلوا لله تعالى الأمثال فإن ضرب المثل إنما يستعمل من العالم لغير العالم ليبين له ما خفي عنه والله تعالى هو العالم وأنتم لا تعلمون فتمثيل غير العالم للعالم عكس للحقيقة، وليس بشيء ؛ والمعنى الذي ذكره على تقدير تعلقه بالفعل خلاف ما يقتضيه السياق وان كان التعليل عليه أظهر، ومن هنا قال العلامة المدقق في الكشف في ذلك بعد أن قال إنه نهى عن ضرب الأمثال حقيقة : كأنه أريد المبالغة في أن لا يلحدوا في أسمائه تعالى وصفاته فإنه إذا لم يجز ضرب المثل والاستعارات يكفي فيها سبه ما والإطلاق لتلك العلاقة كاف فعدم جواز إطلاق الأسماء من غير سبق تعليم منه تعالى وإثبات الصفات أولى وأولى، ووجه ربط قوله تعالى :
( هذا ومن باب الإشارة ) :﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الامثال ﴾ لتقدسه تعالى عن الأوهام والإشارات والعبارات وتنزهه سبحانه عن درك الخليقة فإن الخلق لا يدرك إلا خلقاً، ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه : إنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها فلا يعرف الله تعالى إلا الله عز وجل وعل النهي بقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ النحل : ٧٤ ]
﴿ ضَرَبَ الله مَثَلاً ﴾ الخ على هذا عند المدقق أنه تعالى عبد أن نهاهم عن ضرب الأمثال له سبحانه ضرب مثلاً دل به على أنهم ليسوا أهلاً لذلك وانهم إذا كانوا على هذا الحد من المعرفة والتقليد أو المكابرة فليس لهم إلى ضرب الأمثال المطابقة المستدعي ذكاء وهداية سبيل، وقال غيره في ذلك ولعله أظهر منه : إنه تعالى لما ذكر أنه يعلم كيف تضرب الأمثال وانهم لا يعلمون علمهم كيف تضرب الأمثال في هذا الباب فقال تعالى :﴿ ضرِبَ ﴾ الخ.
ووجه الربط على ما تقدم من أن انلهي عن الإشراك أنه سبحانه لما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك عقبه بالكشف لذي البصيرة عن فساد ما ارتكبوه بقوله سبحانه :﴿ ضرِبَ ﴾ الخ أي أورد وذكر ما يستدل به على تباين الحال بين جنابه تعالى شأنه وبين ما أشركوه به سبحانه وينادي بفساد ما هم عليه نداء جلياً ﴿ عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء ﴾ بدل من مثلا وتفسير له والمثل في الحقيقة حالته العارضة له من المملوكية والعجز التام وبحسبها ضرب نفسه مثلا ووصف العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لاشتراكهما في كونهما عبداً الله تعالى، وقد أدمج فيه على ما قيل إن الكل عبيد له تعالى وبعدم القدر لتمييزه عن المكاتب والمأذون اللذين لهما تصرف في الجملة، وفي إبهام المثل أولا ثم بيانه بما ذكر ما لا يخفى من الجزالة ﴿ وَمَن رَّزَقْنَاهُ ﴾ ﴿ مِنْ ﴾ نكرة موصوفة على ما استظهره الزمخشري ليطابق ﴿ عَبْداً ﴾ فإنه أيضاً نكرة موصوفة وإلى ذلك ذهب أبو البقاء، وقال الحوفي : هي موصولة واستظهره أبو حيان، وزعم بعضهم ان ذلك لكون استعمالها موصولة أكثر من استعمالها موصوفة، والأول مختار الأكثرين أي حرا رزقناه بطريق الملك ؛ والالتفات إلى التكلم للإشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق، وفي اختيار ضمير العظمة تعظيم لأمر ذلك الرزق ويزيد ذلك تعظيماً قوله سبحانه :﴿ مِنَّا ﴾ أي من جنابنا الكبير المتعالي ﴿ رِزْقًا حَسَنًا ﴾ حلالاً طيباً أو مستحسناً عند الناس مرضياً ويؤخذ منه على ما قيل كونه كثيراً بناء على أن القلة التي هي أخت العدم لا حسن في ذتها ﴿ فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ ﴾ تفضلاً وإحساناً، والفاء لترتب الانفاق على الرزق كأنه قيل : ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فأنفق وإيثار المنزل من الجملة الاسمية الفعلية الخبر للدلالة على ثبات الإنفاق واستمراره التجددي ﴿ سِرّا وَجَهْرًا ﴾ أي حال السر وحال الجهر أو إنفاق سر وإنفاق جهر والمراد بيان عموم انفاقه للأوقات وشمول انعامة لمن يجتنب عن قبوله جهراً.
وجوز أن يكون وصفه بالكثرة مأخوذاً من هذا بناء أن المراد منه كيف يشاء وهو يدل على انحاء التصرف وسعة المتصرف منه، وتقديم السر على الجهر للإيذان بفضله عليه، وقد مر الكلام في ذلك ؛ والعدول عن تطبيق القرينتين بأن يقال : وحرا مالكاً للأموال مع كونه أدل على تباين الحال بينه وبين قسيمه لما في ارشاد العقل السليم من توخي تحقيق الحق بأن الأحرار أيضاً تحت ربقة عبوديته تعالى وأن مالكيتهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزقهم الله تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخل في ذلك مع محاولة المبالغة في الدلالة على ما قصد بالمثل من تباين الحال بين الممثلين فإن العبد المملوك حيث لم يكن مثل العبد المالك فما ظنك بالجماد ومالك الملك خلاق العالمين ﴿ هَلْ يَسْتَوُونَ ﴾ جمع الضمير وأن تقدمه اثنان وكان الظاهر يستويان للإيذان بأن المراد بما ذكر من اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معينان منهما وان أخرج ابن عساكر.
وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله سراً وجهراً وفي عبده أبي الجوزاء الذي كان بنهاه والله تعالى أعلم بصحته. وقيل نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وعبد له ولا يصح إسناده كما في البحر، وفيه أنه يحتمل أن يكون الجمع باعتبار أن المراد بمن الجمع وأن يكون باعتبار عود الضمير على العبيد والأحرار وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة ﴿ عَبْدُ * شَىْء وَمَن رَّزَقْنَاهُ ﴾ عليهما، والمعول عليه ما ذكر أولاً، والمعنى هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بما ذكر من الصفات مع أن الفريقين سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وأن ما ينفقه الأحرار ليس مما لهم دخل في إيجاده ولا تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستو الفريقان فما ظنكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليل أذله منه وهو الاصنام، وقيل : إن هذا تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق شبه الأول بمملوك لا تصرف له لأنه لا حباط عمله وعدم الاعتداد بأفعاله واتباعه لهواه كالعبد المنقاد الملحق بالبهائم بخلاف المؤمن الموفق، وجعله تمثيلاً لذلك مروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقتادة ولا تعيين أيضاً وإن قيل : إن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل، على أن أبا حيان قال إنه لا يصح إسناد ذلك، هذا ثم أعلم أنهم اختلفوا في العبد هل يصح له ملك أم لا قال في الكشاف : المذهب الظاهر أنه لا يصح وبه قال الشافعي، وقال ابن المنير على ما لخصه في الكشف من كلام طويل إنه يصح له الملك عند مالك : وظاهر الآية تشهد له لأنه أثبت له العجز بقوله تعالى :﴿ مَّمْلُوكًا ﴾ ثم نفى القدرة العارضة بتمليك السيد بقوله سبحانه :﴿ لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء ﴾ وليس المعنى القدرة على التصرف لأن مقابله ﴿ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا ﴾ والحمل على إخراج المكاتب مع شذوذه إيجاز مع اخلال كما قال امام الحرمين رحمه الله تعالى في «أيما أمرأة نكحت بغير اذن وليها » الحمل على المكاتبة بعيد لا يجوز والمأذون لم يخرج لما مر من أن المراد بالقدرة ما هو، وليس لقائل أن يقول : إنه صفة لازمة موضحة فالأصل في الصفات التقييد اه.
وتعقبه المدقق بقوله : والجواب أن المعنى على نفي القدرة عن التصرف فالآية واردة في تمثيل حال الاصنام به تعالى عن ذلك علوا كبيراً وكلما بولغ في حال عجز المشبه به وكمال المقابل دل في المشبه به أيضاً على ذلك فالذي يطابق المقام القدرة على التصرف وهو في مقابلة قوله تعالى :﴿ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّا وَجَهْرًا ﴾ وما ذكره لا حاصل له ولا إخلال في إخراج المكاتب لشمول اللفظ مع أن المقام مقام مبالغة فما يتوهم دخوله بوجه ينبغي أن ينفي وأين هذا مما نقله عن إمام الحرمين اه. واستدل بالآية أيضاً على أن العبد لا يملك الطلاق أيضاً وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : ليس للعبد طلاق إلا باذن سيده وقرأ الآية ؛ وقد فصلت أحكام العبيد في حكم الفقه على أتم وجه ﴿ الحمد للَّهِ ﴾ أي كله له سبحانه لا يستحقه أحد غيره تعالى لأنه جل شأنه الملوى للنعم وإن ظهرت على أيدي بعض الوسائل فضلاً عن استحقاق العبادة.
وفيه إرشاد إلى ما هو الحق من أن ما يظهر على يد من ينفق فيما ذكر راجع إليه تعالى كما لوج به ﴿ رَّزَقْنَاهُ ﴾ وقال غير واحد هذا حمد على ظهور المحجة وقوة هذه الحجة ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ما ذكر فيضيفون نعمه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجل أو لا يعلمون ظهور ذلك وقوة ما هنالك فيبقون على شركهم وضلالهم، ونفي العلم عن أكثرهم للاشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لم يعملوا بموجبه عناداً ؛ وقيل : المراد بالأكثر الكل فكأنه قيل : هم لا يعلمون، وقيل : ضمير ﴿ هُمْ ﴾ للخلق والأكثر هم المشركون، وكلا القولين خلاف الظاهر.
( هذا ومن باب الإشارة ) :﴿ ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا ﴾ محباً لغير الله تعالى ولا شك أن المحب أسير بيد المحبوب لا يقدر على شيء لأنه مقيد بوثاق المحبة ﴿ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا ﴾ فجعلناه محباً لنا مقبلاً بقلبه علينا متجرداً عما سوانا وآتيناه من لدنا علماً ﴿ فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّا ﴾ وذلك من النعم الباطنة ﴿ وَجَهْرًا ﴾ [ النحل : ٧٥ ] وذلك من النعم الظاهرة
﴿ وَضَرَبَ الله مَثَلاً ﴾ أي مثلا آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على وجه أظهر وأوضح، وأبهم ثم بين بقوله تعالى :﴿ رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَاأبكم ﴾ لما تقدم والبكم الخرس المقارن للخلقة ويلزمه الصمم فصاحبه لا يفهم لعدم السمع ولا يفهم غيره لعدم النطق، والإشارة لا يعتد بها لعدم تفهيمها حق التفهيم لكل أحد فكأنه قيل : أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم ﴿ مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء ﴾ من الأشياء المتعلقة بنفسه أو غيره بحدس أو فراسة لسوء فهمه وإدراكه ﴿ وَهُوَ كَلٌّ ﴾ ثقيل وعيال ﴿ على مَوْلاهُ ﴾ على من يعوله ويلي أمره، وهذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصاله نفسه بعد ذكر عدم قدرته مطلقاً، وقوله سبحانه :
﴿ أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ ﴾ أي حيثما برسله مولاه في أمر لا يأت بنجح وكفاية مهم، بيان لعدم قدرته على مصالح مولاه. وقرأ عبد الله في رواية ﴿ *توجهه ﴾ على الخطاب، وقرأ علقمة. وابن وئاب. ومجاهد. وطلحة وهي رواية أخرى عن عبد الله ﴿ *يوجه ﴾ بالبناء للفاعل والجزم، وخرج على أن الفاعل يعود على المولى والمفعول محذوف وهو ضمير الا بكم أي يوجهه، ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الا بكم ويكون الفعل لازم وجه بمعنى توجه، وعلى ذلك جاء قول الاضبط بن قريع السعدي :
أينما أوجه ألق سعدا. . . وعن علقمة. وطلحة. وابن وثاب أيضاً ﴿ *يوجه ﴾ بالجزم والبناء للمفعول، وفي رواية أخرى عن علقمة. وطلحة أنهما قرءا ﴿ *يوجه ﴾ بكسر الجيم وضم الهاء، قال صاحب اللوامح. فإن صح ذلك فالهاء التي هي لام الفعل محذوفة فراراً من التضعيف أو لم يرد بأينما الشرط، والمراد أينما هو يوجه وقد حذف منه ضمير المفعول به فيكون حذف الياء من آخر ﴿ لَمْ يَأْتِ ﴾ للتخفيف، وتعقبه أبو حيان بأن أين لا تخرج عن الشرط أو الاستفهام. ونقل عن أبي حاتم أن هذه القراءة ضعيفة لأن الجزم لازم، ثم قال : والذي توجه به هذه القراءة أن ﴿ أَيْنَمَا ﴾ شرط حملت على إذا بجامع ما اشتركا فيه من الشرط ثم حذفت ياء ﴿ يَأْتِ ﴾ تخفيفاً أو جزم على توهم أنه جيء بأينما جازمة كقراءة من قرأ ﴿ إنه من يتقي ويصبر ﴾ [ يوسف : ٩٠ ] في أحد الوجهين، ويكون معنى يوجه يتوجه كما مر آنفاً ﴿ هَلْ يَسْتَوِى هُوَ ﴾ أي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات المذكورة ﴿ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل ﴾ ومن هو منطيق فهم ذو رأي ورشد يكفي الناس في مهماتهم وينفعهم بحثهم على العدل الجامع لمجامع الفضائل ﴿ وَهُوَ ﴾ في نفسه مع ما ذكر من نفعه الخاص والعام ﴿ على صراط مُّسْتَقِيمٍ ﴾ لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي، فالجملة حالية مبينة لكماله في نفسه ولما كان ذلك مقدماً على تكميل الغير أتى بها اسمية فإنها تشعر بذلك مع الثبوت إلى مقارنة ذي الحال، فلا يقال.
الأنسب تقديمها في النظم الكريم، ومقابلة تلك الصفات الأربع بهذين الوصفين لأنهما كمال ما يقابلها ونهايته فاختير آخر صفات الكامل المستدعية لما ذكر وأزيد حيث جعل هادياً مهدياً، وتغيير الأسلوب حيث لم يقل : والآخر يأمر بالعدل الآية لمراعاة الملاءمة بينه وبين ما هو المقصود من بيان التباين بين الفريقين، ويقال هنا كما قيل في المثل السابق : إنه حيث لم يستو الفريقان في الفضل والشرف مع استوائهما في الماهية والصورة فلأن يحكم بأن الصنم الذي لا ينطق ولا يسمع وهو عاجز لا يقدر على شيء كل على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويمسح عنه الأذى إذا وقع عليه ويخدمه وإن وجهه إلى أي مهم من مهماته لا ينفعه ولا يأت له به لا يساوي رب العالمين وهو هو في استحقاق المعبودية أحرى وأولى، وقيل : هذا تمثيل للمؤمن والكافر فالأبكم هو الكافر ومن يأمر بالعدل هو المؤمن، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإياماً كان فليس المراد برجلين رجلان متصفان بما ذكر من الصفات مطلقاف، وما روي من أن الأبكم أبو جهل والآمر بالعدل عمار أو الأبكم أبي ابن خلف والآمر عثمان بن مظعون فقال أبو حيان : لا يصح إسناده، وما أخرج ابن جرير. وابن عساكر. وغيرهما عن ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية ﴿ وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ ﴾ الخ في عثمان بن عفان ومولى له كافر وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤنة وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف فنزلت فيهما فبعد تحقق صحته لا يضرنا في إرادة الموصوفين مطلقاً بحيث يدخل فيهما من ذكر. فقد صرحوا بأن خصوص السبب لا ينافي العمون.
هذا وقد اقتصر شيخ الإسلام على كون الغرض من التمثيلين نفي المساواة بينه جل جلاله وبين ما يشركون، وهو دليل على أنه مختاره ثم قال : اعلم أن كلا الفعلين ليس المراد بهما حكاية الضرب الماضي بل المراد انشاؤه بما ذكر عقيبه، ولا يبعد أن يقال : إن الله تعالى ضرب مثلا بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقهما كذلك للاستدلال بعدم تساويهما على امتناع التساوي بينه سبحانه وتعالى وبين ما يشركون فيكون كل من الفعلين حكاية للضرب الماضي اه، ولا يخفى أنه لا كلام في حسن اختياره لكن في النفس من قوله لا يبعد شيء.
( هذا ومن باب الإشارة ) :﴿ وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ ﴾ لا استعداد فيه للنطق وهو مثل المشرك ﴿ لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء ﴾ لعدم استطاعته وقصور قوته للنقص اللازم لاستعداده ﴿ وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ ﴾ لعجزه بالطبع عن تحصيل حاجة ﴿ أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ ﴾ لعدم استعداده وشرارته بالطبع فلا يناسب إلا الشر الذي هو العدم ﴿ هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل ﴾ وهو الموحد القائم بالله تعالى الفاني عن غيره، والعدل على ما قيل : ظل الوحدة في عالم الكثرة ﴿ وَهُوَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ النحل : ٧٦ ] صراط العزيز الحميد الذي عليه خاصته تعالى من أهل البقاء بعد الفناء الممدود على نار الطبيعة لأهل الحقيقة يمرون عليه كالبرق اللامع
﴿ وَللَّهِ ﴾ تعالى خاصة لا لأحد غيره استقلال ولا اشتركا ﴿ غَيْبَ السموات والأرض ﴾ أي جميع الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين بحيث لا سبيل لهم إلى إدراكها حساولاً إلى فهمها عقلاً، ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما إما باعتبار الوقوع فيهما حالا أو مآلا واما باعتبار الغيبة عن أهلهما، ولا حاجة إلى تقدير هذا المضاف، والمراد بيان الاختصاص به تعالى من حيث المعلومية حسبما ينبىء عنه عنوان الغيبة لا من حيث المخلوقية والمملوكية وإن كان الأمر كذلك في نفس الأمر، وفيه كما في إرشاد العقل السليم اشعار بأن علمه تعالى حضوري وأن تحقق الغيوب في نفسها بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ولذلك لم يقل تعالى : ولله علم غيب السموات والأرض، وقيل : المراد بغيب السموات والأرض ما في قوله سبحانه :﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزّلُ الغيث ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] الآية، وقيل : يوم القيامة، ولا يخفى أن القول بالعموم أولى.
﴿ وَمَا أَمْرُ الساعة ﴾ التي هي أعظم ما وقع فيه المماراة من الغيوب المتعلقة بالسموات والأرض من حيث الغيبة عن أهلهما أو ظهور آثارها فيهما عند وقوعها أي وما شأنها في سرعة المجيء، ﴿ إِلاَّ كَلَمْحِ البصر ﴾ أي كرجع الطرف من أعلا الحدقة إلى أسفلها. وفي البحر اللمح النظر بسرعة يقال : لمحه لمحا ولمحانا إذا نظره بسرعة ﴿ أَوْ هُوَ ﴾ أي أمرها ﴿ أَقْرَبُ ﴾ أي من ذلك وأسرع بأن يقع في بعض أجزاء زمانه فإن رجع الطرف من أعلا الحدقة إلى أسفلها وإن قصر حركة أينية لها هوية اتصالية منطبقة على زمان له هو كذلك قابل للانقسام إلى أبعاض هي أزمنة أيضاً بل بأن يقع فيما يقال به آن وهو جزء غير منقسم من أجزاء الزمان كآن ابتداء الحركة، و ﴿ أَوْ ﴾ قال الفراء : بمعنى بل. ورده في البحر بأن بل للإضراب وهو لا يصح هنا بقسيمه، أما الإبطال فلأنه يؤل إلى أن الحكم السابق غير مطابق فيكون الأخبار به كذباً والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، وأما الانتقال فلأنه يلزمه التنافي بين الأخبار بكونه مثل لمح البصر وكونه أقرب فلا يمكن صدقهما معا ويلزم الكذب المحال أيضاً. وأجيب باختيار الثاني ولا تنافي بين تشبيهه في السرعة بما هو غاية ما يتعارفه الناس في بابه وبين كونه في الواقع أقرب من ذلك، وهذا بناء على أن الغرض من التشبيه بيان سرعته لا بيان مقدار زمان وفوعه وتحديده. وأجيب أيضاً بما يصححه بشقيه وهو أنه ورد على عادة الناس يعني أن أمرها إذا سئلتم عنها أن يقال فيه : هو كلمح البصر ثم يضرب عنه إلى ما هو أقرب.
وقيل : هي للتخيير. ورده في البحر أيضاً بأنه إنما يكون في المحظورات كخذ من مالي ديناراً أو درهماً أو في التكليفات كآية الكفارات. وأجيب بأن هذا مبني على مذهب ابن مالك من أن ﴿ أَوْ ﴾ تأتي للتخيير وأنه غير مختص بالوقوع بعد الطلب بل يقع في الخبر ويكثر في التشبيه حتى خصه بعضهم به. وفي شرح الهادي اعلم أن التخيير والإباحة مختصان بالأمر إذ لا معنى لهما في الخبر كما أن الشك والإبهام مختصان بالخبر. وقد جاءت الإباحة في غير الأمر كقوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً ﴾ إلى قوله سبحانه :﴿ أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء ﴾ [ البقرة : ١٩ ] أي بأي هذين شبهت فأنت مصيب وكذا ان شبهت بهما جميعاً، ومثله في الشعر كثير، وقيل : إن المراد تخيير المخاطب بعد فرض الطلب والسؤال فلا حاجة إلى البناء على ما ذكر، وهو كما ترى، وزعم بعضهم أن التخيير مشكل من جهة أخرى وهي أن أحد الأمرين من كونه كلمح البصر أو أقرب غير مطابق للواقع فكيف يخير الله تعالى بين ما لا يطابقه، وفيه أن المراد التخيير في التشبيه وأي ضرر في عدم وقوع المشبه به بل قد يستحسن فيه عدم الوقوع كما في قوله :
أعلام ياقوت نشر. . . ن على رماح من زبرجد
وقال ابن عطية : هي للشك على بابها على معنى أنه لو اتفق أن يقف على أمرها شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هو كلمح البصر أو أقرب. وتعقبه في البحر أيضاً بأن الشك بعيد لأن هذا اختبار من الله تعالى عن أمر الساعة والشك مستحيل عليه سبحانه أي فلا بد أن يكون ذلك بالنسبة إلى غير المتكلم، وفي ارتكابه بعد، ويدل على أن هذا مراده تعليله البعد بالاستحالة فليس اعتراضه مما يقضي منه العجب كما توهم، وقال الزجاج : هي للإبهام وتعقب بأنه لا فائدة في إبهام أمرها في السرعة وإنما الفائدة في إبهام وقت مجيئها. وأجيب بأن المراد أنه يستبهم على ما يشاهد سرعتها هل هي كلمح البصر أو أقل فتدبر. والمأثور عن ابن جريج أنها بمعنى بل وعليه كثيرون، والمراد تمثيل سرعة مجيئها واستقرابه على وجه المبالغة، وقد كثر في النظم مثل هذه المبالغة، ومنه قول الشاعر :
قالت له البرق وقالت له الريح جميعا وهما ما هما. . . أأنت تجري معنا قال إن. . . نشطت أضحكتكما منكما
ان ارتداد الطرف قد فته. . . إلى المدى سبقا فمن أنتما
وقيل : المعنى وما أمر إقامة الساعة المختص علمها به سبحانه وهي اماتة الاحياء واحياء الأموات من الأولين والآخرين وتبديل صور الأكوان أجمعين وقد أنكرها المنكرون وجعلوها من قبيل ما لا يدخل تحت دائرة الإمكان في سرعة الوقوع وسهولة التأتي إلا كلمح البصر أو هو أقرب على ما مر من الأقوال في ﴿ أَوْ ﴾ ﴿ إِنَّ الله على شَىْء قَدِيرٌ ﴾ ومن جملة الأشياء أن يجيء بها في أسرع ما يكون فهو قادر على ذلك، وتقول على الثاني : ومن جملة ذلك أمر إقامتها فهو سبحانه قادر عليه فالجملة في موضع التعليل.
وفي الكشف على تقدير عموم الغيب وشموله لجميع ما غاب في السموات والأرض ان قوله تعالى :﴿ وَمَا أَمْرُ الساعة ﴾ كالمستفاد من الأول وهو اكلتمهيد له أي يختص به علم كل غيب الساعة وغيرها فهو الآتي بها للعلم والقدرة، ولهذا عقب بقوله سبحانه :﴿ إِنَّ الله ﴾ الخ، وأما إذا أريد بالغيب الساعة فهو ظاهر اه. ولا يخفي الحال على القول بأن المراد بالغيب ما في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزّلُ الغيث ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] الآية، وعلى القول الأخير في الغيب يكون ذكر الساعة من وضع الظاهر موضع الضمير لتقوية مضمون الجملة.
( هذا ومن باب الإشارة ) :﴿ وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض ﴾ علم مراتب الغيوب أو ما غاب من حقيقتهما أو ما خفي فيهما من أمر القيامة الكبرى ﴿ وَمَا أَمْرُ الساعة ﴾ أي القيامة الكبرى بالقياس إلى الأمور الزمانية ﴿ إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾ وهو بناءً على التمثيل وإلا فقد قيل : إن أمر الساعة ليس بزماني وما كان كذلك يدركه من يدركه لا في الزمان ﴿ إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ﴾ [ النحل : ٧٧ ] ومن ذلك أمر الساعة
﴿ والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم ﴾ عطف على قوله تعالى :﴿ والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ﴾ [ النحل : ٧٢ ] منتظم معه في سلك أدلة التوحيد، ويفهم من قول العلامة الطيبي أنه تعالى عقب قوله سبحانه :﴿ إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ﴾ [ النحل : ٧٧ ] بقوله جل وعلا :﴿ والله أَخْرَجَكُم ﴾ الخ معطوفاً بالواو إيذاناً بأن مقدوراته تعالى لا نهاية لها والمذكور بعض منها أن العطف على قوله سبحلنه :﴿ إِنَّ الله ﴾ الخ، والذي تنبسط له النفس هو الأول.
والأمهات بضم الهمزة( ١ ) وفتح الهمزة جمع أم والهاء فيه مزيدة وكثر زيادتها فيه وورد بدونها، والمعنى في الحالين واحد، وقيل : ذو الزيادة للإناسي والعاري عنها للبهائم، ووزن المفرد فعل لقولهم الأمومة، وجاء بالهاء كقول قصى بن كلاب عليهما الرحمة :
أمهتي خندف والياس أبى. . . وهو قليل، وأقل من ذلك زيادة الهاء في الفعل كما قيل في إهراق، وفيه بحث فارجع إلى الصحاح وغيره.
وقرأ حمزة بكسر الهمزة والميمي هنا، وفي الزمر، والنجم. والورم، والكسائي بكسر الميم فيهن ؛ والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم، قال أبو حاتم : حذف الهمة رديء ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب، وكانت كذلك على ما في البحر لأن كسر الميم إنما هو لإتباعها حركة الهمزة فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الإتباع بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقر الميم على حركتها ﴿ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ في موضع الحال و ﴿ شَيْئاً ﴾ منصوب على المصدرية أو مفعول ﴿ تَعْلَمُونَ ﴾، والنفي منصب عليه، والعلم بمعنى المعرفة أي غير عارفين شيئاً أصلاً من حق المنعم وغيره، وقيل : شيئاً من منافعكم، وقيل : مما قضى عليكم من السعادة أو الشقاوة، وقيل : مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم، والظاهر العموم ولا داعي إلى التخصيص. وعن وهب يولد المولود خدراً إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألماً.
وادعى بعضهم أن النفس لا تخلو في مبدأ الفطرة عن العلم الحضوري وهو علمها بنفسها إذ المجرد لا يغيب عن ذاته أصلاً، فقد قال الشيخ في بعض تعليقاته عند إثبات تجرد النفس : إنك لا تغفل عن ذاتك أصلاً في حال من الأحوال ولو في حال النوم والسكر، ولو جوز مجوز أن يغفل عن ذاته في بعض الأحوال حتى لا يكون بينه وبين الجماد في هذه الحالة فرق فلا يجدي هذا البرهان معه، وقال بهمنيار في التحصيل في فصل العقل والمعقول : ثم إن النفس الإنسانية تشعر بذاتها فيجب أن يكون وجودها عقلياً فيكون نفس وجودها نفس إدراكاً ولهذا لا تعزب عن ذاتها البتة، ومثله في الشفاء، وأنت تعلم أن عدم الخلو مبني على مقدمات خفية كتجرد النفس الذي أنكره الطبيعيون عن آخرهم وأن كل مجرد عالم ولا يتم البرهان عليه، وأيضاً ما نقل من أن علم النفس بذاتها عين ذاتها لا ينافي أن يكون لكون الذات علماً بها شرط فما لم يتحقق ذلك الشرط لم تكن الذات علماً بها كما أن لكون المبتدأ الفياض خزانة لمعقولات زيد مثلاً شرطاً إذا تحقق تحقق وإلا فلا، ويؤيد ذلك أن علم النفس بصفاتها أيضاً نفس صفاتها عندهم ؛ ومع ذلك يجوز الغفلة عن الصفة في بعض الأحيان كما لا يخفى.
وأيضاً إذا قلنا : إن حقيقة الذات غير غائبة عنها، وقلنا : إن ذلك علم بها يلزم أن يكون حقيقة النفس المجردة معلومة لكل أحد ؛ ومن البين أنه ليس كذلك، على أن المحقق الطوسي قد منع قولهم : إنك لا تغفل عن ذاتك أبداً، وقال : إن المغمى عليه ربما غفل عن ذاته في وقت الإغماء، ومثله كثير من الأمراض النفسانية، ومن العجائب أن بعض الأجلة ذكر أن المراد بخلوها في مبدأ الفطرة خلوها حال تعلقها بالبدن، وقال : إنه لا ينافي ذلك ما قاله الشيخ من أن الطفل يتعلق بالثدي حال التولد بإلهام فطري لأن حال التعلق سابق على ذلك، وذلك بعد أن ذكر أن الخلو في مبدأ الفطرة إنما يظهر لذوي الحدس بملاحظة حال الطفل وتجارب أحواله ووجه العجب ظاهر فافهم ولا تغفل.
وتفسير العلم بالمعرفة مما ذهب إليه غير واحد، وفي أمالي العز لا يجوز أن يجعل باقياً على بابا ويكون ﴿ شَيْئاً ﴾ مصدراً أي لا تعلمون علماً لوجهين. الأول : الأول أنه يلزم حذف المفعولين وهو خلاف الأصل. الثاني : أنه لو كان باقياً على بابه لكان الناس يعلمون المبتدأ الذي هو أحد المفعولين قبل الخروج من البطون وهو محال لاستحالة العلم على من لم يولد، بيان ذلك أنا إذا قلنا : علمت زيداً مقيماً يجب أن يكون العلم بزيد متقدماً قبل هذا العلم وهذا العلم إنما يتعلق بإقامته، وكذلك إذا قلت : ما علمت زيداً مقيماً فالذي لم يعلم هو إقامة زيد وأما هو فمعلوم وذلك مستفاد من جهة الوضع فحيث أثبت العلم أو نفى فلا بد أن يكون الأول معلوماً فيتعين حمل العلم على المعرفة اه.
ويعلم منه عدم استقامة جعل العلم على بابه، و ﴿ شَيْئاً ﴾ مفعوله الأول والمفعول الثاني محذوف. وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة ﴾ يحتمل أن يكون جملة ابتدائية ويحتمل أن يكون معطوفاً على الجملة الواقعة خبراً والواو لا تقتضي الترتيب، ونكتة تأخيره أن السمع ونحوه من آلات الإدراك إنما يعتد به إذا أحس وأدرك وذلك بعد الإخراج، وجعل إن تعدى لواحد بأن كان بمعنى خلق فلكم متعلق به وإن تعدى لاثنين بأن كان بمعنى صير فهو مفعوله الثاني، وتقديم الجار والمجرور على المنصوبات لما مر غير مرة.
والمعنى جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة بأن تحسوا بمشاعركم جزئيات الأشياء وتدركوها بأفئدتكم وتنتبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرير الإحساس فيحصل لكم علوم بديهية تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلوم الكسبية، وهذا خلاصة ما ذكره الإمام في هذا المقام ومستمد ما ذهب إليه الكثير من الحكماء من أن النفس في أول أمرها خالية عن العلوم فإذا استعملت الحواس الظاهرة أدركت بالقوة الوهمية أموراً جزئية بمشاركات ومباينات جزئية بينها فاستعدت لأن يفيض عليها المبدأ الفياض المشاركات الكلية، ويثبتون للنفس أربع مراتب. مرتبة العقل الهيولاني. ومرتبة العقل بالملكة. ومرتبة العقل بالفعل. ومرتبة العقل المستفاد، ويزعمون أن النفس لا تدرك الجزئي المادي، ولهم في هذا المقام كلام طويل وبحث عريض.
وأهل السنة يقولون : إن النفس تدرك الكلي والجزئي مطلقاً باستعمال المشاعر وبدونه كما فصل في محله، وتحقيق هذا المطلب بماله وما عليه يحتاج إلى بسط كثير، وقد عرض والمستعان بالحي القيوم جل جلاله وعم نواله من الحوادث الموجبة لاختلال أمر الخاصة والعامة ما شوش ذهني وحال بين تحقيق ذلك وبيني، أسأل الله سبحانه أن يمن علينا بما يسر الفؤاد وييسر لنا ما يكون عوناً على تحصيل المراد وبالجملة المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الآية أنه قال : يريد سبحانه أنه جعل لكم ذلك لتسمعوا مواعظ الله تعالى وتبصروا ما أنعم الله تعالى به عليكم من إخراجكم من بطون أمهاتكم إلى أن صرتم رجالاً وتعقلوا عظمته سبحانه. وقيل : المعنى جعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص الكتاب والسنة التي هي دلائل سمعية لتستدلوا بها على ما يصلحكم في أمر دينكم والأبصار لتبصروا بها عجائب مصنوعاته تعالى وغرائب مخلوقاته سبحانه فتستدلوا بها على وحدانيته جل وعلا. والأفئدة لتعقلوا بها معاني الأشياء التي جعلها سبحانه دلائل لكم، والسمع والأبصار على هذين القولين على ظاهرهما ولم نر من جوز إخراجهما عن ذلك.
وجوزأن يراد بهما الحواس الظاهرة على الأول، والأفئدة جمع فؤاد وهو وسط القلب وهو من اقللب كالقلب من الصدر، وهذا الجمع على ما في «الكشاف » من جموع القلة الجارية مجرى جموع الكثرة والقلة إذا لم يرد في السماع غيرها كما جاء شسوع في جمع شسع لا غير فجرى ذلك المجرى، وقال الزجاج : لم يجمع فؤاد على أكثر العدد وربما قيل : أفئدة وفئدان كما قيل : أغربة وغربان في جمع غراب، وفي «التفسير الكبير » لعل الفؤاد إنما جمع على بناء القلة تنبيها على أن السمع والبصر كثر وأما الفؤاد فقليل لأنه إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية وأكثر الخلق ليس لهم ذلك بل يكونون مشتغلين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية فكأن فؤادهم ليس بفؤاد فلذا ذكر في جمعه جمع القلة اه، ويرد عليه الأبصار فإنه جمع قلة أيضاً.
وفي «البحر » بعد نقله أنه قول هذياني ولولا جلالة قائله لم نسطره في الكتب وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري مما ذكر سابقاً إلا أن قوله : لم يجء في جمع شسع إلا شسوع لس بصحيح بل جاء فيه إشساع جمع قلة على قلة اه فاحفظ ولا تغفل.
وزعم بعضهم أن الفؤاد إنما يدرك ما ليس بمحدود بنحو أين وكيف وكم وغير ذلك وإن لكل مدرك قوة مدركة له تناسبه لا يمكن أن يدرك بغيرها على نحو المحسوسات الظاهرة من الأصوات والألوان والطعوم ونحوها والحواس الظاهرة من السمع والبصر والذوق إلى غير ذلك وهو كما ترى.
وإفراد السمع باعتبار أنه مصدر في الأصل، وقيل : إنما أفرد وجمع الأبصار للإشارة إلى أن من مدركاته نوع واحد ومدركات البصر أكثر من ذلك وتقديمه لما أنه طريق تلقي الوحي أو لأن إدراكه من إدراك البصر، وقيل : لأن مدركاته أقل من مدركاته، والخلاف في الأفضل منهما شهير وقد مر، وتقديمها على الأفئدة المشار بها إلى العقل لتقدم الظاهر على الباطن أو لأن لهما مدخلاً في إدراكه في الجملة بل هما من خدمه والخدم تتقدم بين يدي السادة، وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة أو لأن مدركاتهما أقل قليل بالنبة إلى مدركاته كيف لا ومدركاته لا تكاد تحصى وإن قيل : إن للعقل حداً ينتهي إليه كما أن للبصر حداً كذلك، واستأنس بعضهم بذكر ما يشير إليه فقط دون ضم ما يشير إلى سائر المشاعر الباطنة إليه لنفي الحواس الخمس الباطنة التي أثبتها الحكماء بما لا يخلو عن كدر، وتفصيل الكلام في محله ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ كي تعرفوا ما أنعم سبحانه به عليكم طوراً غب طور فتشكروه، وقيل : المعنى جعل ذلك كي تشكروه تعالى باستعمال ما ذكر فيما خلق لأجله.
( هذا ومن باب الإشارة ) :﴿ والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [ النحل : ٧٨ ] الآية، قال في أسرار القرآن : أخبر سبحانه أنه أخرجهم من بطون الأقدار وأرحام العدم وأصلاب المشيئة على نعت الجهل لا يعلمون شيئاً من أحكام الربوبية وأمور العبودية وأوصاف الأزل فألبسهم أسماعاً من نور سمعه وكساهم أبصاراً من نور بصره وأودع في قلوبهم علوم لعلهم يشكرونه انتهى. وهو ظاهر في أن المراد بالأفئدة القلوب.
وذكر بعض من أدركناه من المرتاضين في كتابه «الفوائد » وشرحه أن مشاعر الإنسان الصدر، والمراد به الخيال والنفس الكلية التي هي محل الصور العلمية كلية أو جزئية فهو محل العلم المقابل للجهل، والقلب وهو محل المعاني واليقين بالنسب الحكمية ويقابله الشك والريب، والفؤاد وهو محل المعارف الإلهية المجرد عن جميع الصور والنسب والأوضاع والإشارات والجهات والأوقات ويقابلها الإنكار وهو أعلى المشاعر، ونور الله تعالى المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم :" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور
١ - قوله: وفتح الهمزة كذا بخط المؤلف ولعله سبق قلم وصوابه وفتح الميم..
﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ وقرأ حمزة. وابن عامر. وطلحة. والأعمش. وابن هرمز ﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ ﴾ بالتاء الفوقية على أنه خطاب العامة، والمراد بهم جميع الخلق المخاطبون قبل في قوله تعالى :﴿ والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم ﴾ [ النحل : ٧٨ ] لا على أن المخاطب من وقع في قوله تعالى :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله ﴾ [ النحل : ٧٣ ] بتلوين الخطاب لأنه المناسب للاستفهام الإنكاري ولذا جعل قراءة الجمهور بياء الغيبية باعتبار غيبة ﴿ يَعْبُدُونَ ﴾ ولم يجعلوا ذلك التفاتاً حينئذ فالإنكار باعتبار اندراجهم في العامة، والرؤية بصرية أي ألم ينظروا ﴿ إِلَى الطير ﴾ جمع طائر كركب وراكب ويقع على الواحد أيضاً وليس بمراد ويقال في الجمع أيضاً طيور وأطيار ﴿ مسخرات ﴾ مذلللات للطيران، وفيه إشارة إلى أن طيرانها ليس بمقتضى طبعها ﴿ فِى جَوّ السمآء ﴾ أي في الهواء المتباعد من الأرض واللوح السكاك أبعد منه، وقيل : الجو مسافة ما بين السماء والأرض والجوة لغة فيه، وإضافته إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر ولا إظهار كمال القدرة، وعن السدي تفسير الجو بالجوف وفسرت السماء على هذا بجهة العلو والطير قد يطير في هذه الجهة حتى يغيب عن النظر ولم يعلم منتهى ارتفاعه في الطيران إلا الله تعالى، وعن كعب أن الطير لا ترتفع أكثر من اثني عشر ميلاً.
﴿ مَا يُمْسِكُهُنَّ ﴾ في الجو عن الوقوع ﴿ إِلاَّ الله ﴾ عز وجل بقدرته الواسعة فإن ثقل جسدها ورقة الهواء يقتضيات سقوطها ولاعلاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها، والجملة إما حال من الضمير المستترفي ﴿ مسخرات ﴾ أو من ﴿ الطير ﴾ وإما مستأنفة ﴿ إِنَّ في ذَلِكَ ﴾ الذي ذكر من التسخير في الجو والإمساك فيه، وقيل المشار إليه ما اشتملت عليه هذه الآية والتي قبلها ﴿ لاَيَاتٍ ﴾ دالة على كمال قدرته جل شأنه ﴿ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي ن شأنهم أن يؤمنوا، وخص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به، واقتصر الإمام على جعل المشار إليه ما فيه هذه الآية قال : وهذا دليل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته سبحانه فإنه جل شأنه خلق الطائر خلقة معها يمكه الطيران أعطاه جناحاً يبسطه مرة ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ولولا ذلك لما كان الطيران ممكناً اه.
وكذا المولى أبو السعود قال : إن في ذلك الذي ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحة خفيفة وأذناباً كذلك وجعل أجسادها من الخفة بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابها لا يطيق ثقلها أن يخرق ما تحتها من الهواء الرقيق القوام وتخرق ما بين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه بحجم كبير لآيات ظاهرة، وذكر أن تسخرها بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المساعدة.
وتعقب ذلك أبو حيان بقوله : والذي نقوله إنه كان يمكن الطائر أن يطير ولو لم يخلق له جناح وأنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى ولا نقول : إنه لولا الجناح ولطف الجو والآلات ما أمكن الطيران اه وأنا لا أظن أن أحداً ينفي الإمكان الذاتي للطيران بدون الجناح مثلاً لكن لا يبعد نفيه بدون لطف المطار والكثيف متى خرق كان المطار لطيفاً فافهم. واستدل بالآية على أن العبد خالق لأفعاله، وأولها القاضي وهو ارتكاب لخلاف الظاهر لغير دليل.
( هذا ومن باب الإشارة ) :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مسخرات في جَوّ السمآء ﴾ فيه إشارة إلى تسخير طير القوى الروحانية والنفسانية من الفكر والعقل النظري والعملي بل الوهم والتخيل في فضاء عالم الأرواح ﴿ مَا يُمْسِكُهُنَّ ﴾ من غير تعلق بمادة ولا اعتماد على جسم ثقيل ﴿ إِلاَّ الله ﴾ [ النحل : ٧٩ ] عز وجل.
﴿ والله جَعَلَ لَكُمُ ﴾ معطوف على ما مر، وتقديم ﴿ لَكُمْ ﴾ على ما بعده للتشويق والإيذان من أول الأمر بأن هذا الجعل لمنفعتهم، وقوله تعالى :﴿ مِن بُيُوتِكُمْ ﴾ تبيين لذلك المجعول المبهم في الجملة وتأكيد لما سبق من التشويق والإضافة للعهد أي من بيوتكم المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدر والأخشاب ﴿ سَكَناً ﴾ فعل بمعنى مفعول كنقض وأنشد الفراء :
جاء الشتاء ولما أتخذ سكنا. . . يا ويح نفسي من حفر القراميص
وليس بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية أي موضعاً تسكنون فهي وقت إقامتكم، وجوز أن يكون المعنى تسكنون إليه من غير أن ينتقل من مكانه أي جعل بعض بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به.
﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الانعام بُيُوتًا ﴾ أي بيوتاً أخر مغايرة لبيوتكم المعهودة وهي القباب المتخذة من الأدم والظاهر أنه لا يندرج في هذه البيوت البيوت المتخذة من الشعر والصوف ولوبر، وقال ابن سلام وغيره : بالإندراج لأنها من حيث أنها ثابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها. واعترض بأن ﴿ مِنْ ﴾ على الأول تبعيضية وعلى إرادة البيوت التي من الشعر ونحوه ابتدائية، فإذا عمم ذلك يلزم استعمال المشترك في معنييه وأجيب بأن القائل بذلك لعله يى جواز هذا الاستعمال، وممن قال بذلك البيضاوي وهو شافعي. وقيل : الجلود مجاز عن المجموع ﴿ تَسْتَخِفُّونَهَا ﴾ أي تجدونها خفيفة سهلة المأخذ فالسين ليست للطلب بل للوجدان كأحمدته وجدته محموداً ﴿ يَوْمٍ ﴾ وقت ترحالكم في النقض والحمل ﴿ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقامتكم ﴾ ووقت نزولكم وإقامتكم في مسايركم حسبما يتفق في الضرب والبناء، وجوز أن يكون المعنى تجدونها خفيفة في أوقات السفر وفي أوقات الحضر، واختار ابن المنير الأول وقال : إنه التفسير لأن المنة في خفتها في السفر أتم وأقوى إذا لا يهم المقيم أمرها، قال في «الكشف » : وهو حق، وقال بعض الفضلاء : ينبغي أن يكون الثاني أولى للعموم فإن حالتي السفر اندرجتا في يوم ظعنكم حيث أريد به مقابل الحضر والخفة على المقيم نعمة في حقه أيضاً فإنه يضربها وقد ينقلها من مكان إلى مكان قريب لداع يدعو إليه فالأولى أن لا تخلو الآية عن التعرض لذلك اه ولا يخفى أن الاندراج ظاهر إن أريد بالظعن مقال الحضر وأما إذا أريد به مقابل النزول كما سمعت فغير ظاهر.
نعم يجوز إرادة ذلك، وقرأ الحرميان. وأبو عمرو ﴿ ظَعْنِكُمْ ﴾ بفتح العين. وباقي السبعة بسكونها وهما لغتان والفتح على ما في المعالم أجزلهما، وقيل : الأصل الفتح والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق كالشعر والشعر.
﴿ وَمِنْ * أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا ﴾ عطف على قوله تعالى :﴿ وَمِنْ * جُلُودِ ﴾ والضمير للأنعام على وجه التنويع أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز ﴿ أَثَاثاً ﴾ أي متاع البيت كالفرش وغيرها كما قال المفضل، قال الفراء : لا واحد له من لفظه كما أن المتاع كذلك ولو جمعت قلت : أأثثة في القليل وأثث في الكثير.
وقال أبو زيد : واحده أثاثة وأصله كما قال الخليل من قولهم : أثث النبات والشعر وهو أثيث إذا كثر قال امرؤ القيس :
وفرع يزين المتن أسود فاحم. . . أثيث كقنو النخلة المتعثكل
ونصبه على أنه معطوف على ﴿ بُيُوتًا ﴾ مفعول جعل فيكون مما عطف فيه جار ومجرور مقدم ومنصوب على مثلهما نحو ضربت في الدار زيداً وفي الحجرة عمراً وهو جائز وليس بمستقبح كما زعم في الإيضاح.
وجوز أن يكون نصباً على الحال فيكون من عطف الجار والمجرور فقط على مثله أي وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها حال كونها أثاثاً. وتعقبه السمين بأن المعنى ليس على ذا وهو ظاهر.
﴿ ومتاعا ﴾ أي شيثاً يتمتع به وينتفع في المتجر والمعاش قاله المفضل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المتاع الزينة، وقال الخليل : الأثاث والمتاع واحد، والعطف لتنزيل تغاير اللفظ منزلة تغاير المعنى كما في قوله :
وألفى قولها كذباً وميناً. . . والأولى أولى ﴿ إلى حِينٍ ﴾ إلى انقضاء حاجاتكم منه، وعن مقاتل إلى بلى ذلك وفنائه ؛ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى الموت، والكلام في ترتيب المفاعيل مثله في مر غير مرة.
﴿ والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ﴾ من غير صنع منكم ﴿ ظلالا ﴾ أشياء تستظلون بها من الغمام والشجر والجبال وغيرها وهو الذي يقتضيه الظاهر وروى ذلك عن قتادة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد الاقتصار على الغمام، وعن الزجاج. وقتادة أيضاً الاقتصار على الشجر، وعن ابن قتيبة الاقتصار على الشجر والجبال ولعل كل ذلك من باب التمثيل، وعن ابن السائب أن المراد ظلال البيوت وهو كما ترى، ومن سبحانه بما ذكر لأن تلك الديار كانت غالبة الحرارة ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا ﴾ مواضع تستكنون فيها من الغيران ونحوها، والواحد كن وأصله السترة من أكنه وكنه أي ستره ويجمع على أكنان وأكنة.
﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ ﴾ جمع سربال وهو كل ما يلبس أي جعل لكم لباساً من القطن والكتان والصوف وغيرها ﴿ تَقِيكُمُ الحر ﴾ خصه بالذكر كما قال المبرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر أعني البرد، ولم يخص هو بالذكر اكتفاء لأن وقاية الحر أهم عندهم لما مر آنفاً.
وقال بعضهم : من الرأس خص الحر بالذكر لأن وقايته أهم. وتعقب دعوى الأهمية بأنه يبعدها ذكر وقاية البرد سابقاً في قوله تعالى :﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْء ﴾ [ النحل : ٥ ] ثم قيل : وهذا وجه الاقتصار على الحر هنا لتقدم ذكر خلافه ثمت.
واعترض بأنا لا نسلم أن إثبات الدفء هناك يبعد دعوى الأهمية بل في تغاير الأسلوبين ما يشعر بهذه الأهمية، وقال الزجاج : خص الحر بالذكر لأن ما يقي من الحر يقي من البرد، وذكر ذلك الزمخشري بعد ذكر الأهمية، وقال في «الكشف » : هو الوجه، وتخصيص الحر بالذكر لما قدمه في الوجه الأول يعني الأهمية، وما قيل : من أولوية الأول لقوله تعالى :﴿ مّمَّا خَلَقَ ظلالا ﴾ فليس بيء لأنه تعالى عقبه بقوله بسحانه :﴿ مّنَ الجبال أكنانا ﴾ كيف وهو في مقام الاستيعاب اه، وصاحب القيل هو ابن المنير، وقد اعترض أيضاً على قوله : إن ما يقي من الحر يقي من البرد بأنه خلاف المعروف فإن المعروف أن وقاية الحر رقيق القمصان ورفيعها ووقاية البرد ضده ولو لبس الإنسان في كل واحد من الفصلين القيظ والشتاء لباس الآخر لعد من الثقلاء اه فتدبر.
﴿ وسرابيل ﴾ من الجواشن والدروع ﴿ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾ أي البأس الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحروب من الضرب والطعن، وقال بعضهم : أصل البأس الشدة وأريد به هنا الحرب، والكلام على حذف مضاف أي إذا بأسكم وعلى الأول لا حاجة إليه وقد رجح لذلك ﴿ كذلك ﴾ أي مثل ذلك الاتمام للنعمة في الماضي ﴿ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ﴾ في المستقبل، ومن هنا قيل :
كما أحسن الله فيما مضى. . . كذلك يحسن فيما بقي
أو مثل هذا الاتمام البالغ يتم نعمته عليكم، وإفراد النعمة أما لأن المراد بها المصدر أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياء شيء قليل. وقرأ ابن عباس ﴿ *تتم ﴾ بتاء مفتوحة و ﴿ نِعْمَتَهُ ﴾ بالرفع على الفاعلية وإسناد التمام إليها على الاتساع، وعنه أيضاف رضي الله تعالى عنه ﴿ نِعَمَهُ ﴾ بصيغة الجمع ﴿ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾ أي إرادة أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم فتعرفوا حق منعمها فتؤمنوه به تعالى وحده وتذروا ما كنتم به تشركون على أن الإسلام بمعناه المعروف أي رديف الإيمان، ويجوزأن يكون بمعناه اللغوي وهو الاستسلام والانقياد أي لعلكم تستسلمون له سبحانه وتنقادون لأمره عز وجل، وأياً ما كان فهو موضوع موضع سببه كما أشير إليه أو مكني به عنه.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ﴿ تُسْلِمُونَ ﴾ بفتح التاء واللام من السلامة أي تشكرون فتسلمون من العذاب أو تنظرون فيها فتسلمون من الشرك، وقيل : تسلمون من الجراح بلبس تلك السرابيل، ولا بأس أن يفسر ذلك بالسلامة من الآفات مطلقاً ليشمل آفة الحر والبرد، والأقرب إلى معنى قراءة الجمهور التفسير الثاني.
هذا وفي بعض الآثار أن أعرابياً سمع قوله تعالى :﴿ والله جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا ﴾ [ النحل : ٨٠ ] إلى آخر الآيتين فقال عند كل نعمة : اللهم نعم فلما سمع قوله سبحانه :﴿ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾ اللهم هذا فلا، فنزلت.
( هذا ومن باب الإشارة ) :﴿ والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظلالا ﴾ وهو ما يستظل به من وهج نار الحاجة فالماء ظل للعطشان والطعام ظل للجيعان( ١ ) وكل ما يقوم بحاجة شخص ظل له، وفي الخبر «السلطان ظل الله تعالى في الأرض يأوي إليه كل مظلوم »، وقيل : الظلال الأولياء يستظل بهم المريدون من شدة حر الهجران ويأوون إليهم من قهر الطغيان، وقد يؤل قوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا ﴾ بنحو هذا فما أشبه الأولياء بالجبال ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر ﴾ فيه إشارة إلى ما جعل للعارفين من سرابيل روح الأنس لئلا يحترقوا بنيران القدس وأشار تعالى بقوله جل جلاله :﴿ وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾ إلى ما من به من المعرفة والمحبة ليدفع بذلك كيد الشياطين والنفوس ﴿ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾ [ النحل : ٨١ ] تنقادون لأمره سبحانه في العبودية وتخضعون لعز الربوية، قال ابن عطاء : تمام النعمة السكون إلى المنعم، وقال حمدون : تمامها في الدنيا المعرفة وفي الآخرة الرؤية، وقال أبو محمد الحريري : تمامها خلو القلب من الشرك الخفي وسلامة النفس من الرياء والسمعة ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ﴾ وهي هداية النبي أو وجوده بقوة الفطرة.
١ - قوله الجيعان كذا بالأصل وحقه "جوعان"..
﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ فعل ماض على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وتوجيه الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له عليه الصلاة والسلام أي فإن داموا على التولي والإعراض وعدم قبول ما ألقي إليهم من البينات ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين ﴾ أي فلا يضرك لأن وظيفتك هي البلاغ الموضح أو الواضح وقد فعلته بما لا مزيد عليه فهو من باب وضع السبب موضع المسبب، وقال ابن عطية : تقدير المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم فإنما عليك البلاغ لا خلق الإيمان، وجوز أن يكون ﴿ تَوَلَّوْاْ ﴾ مضارعاً حذفت إحدى تاءيه وأصله تتولوا فلا التفات لكن قيل عليه : إنه لا يظهر حينئذ ارتباط الجزاء بالشرط إلا بتكلف ولذا لم يلتفت إليه بعض المحققين، وفي التعبير بصيغة التفعيل إشارة كما قيل إلى أن الفطرة الأولى داعية إلى الإقبال على الله تعالى والإعراض لا يكون إلا بنوع تكلف ومعالجة.
﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ﴾ استئناف لبيان أن تولي المشركين وإعراضهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم نعمة الله سبحانه أصلاً فإنهم يعرفونها أن من الله تعالى ﴿ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ﴾ بأفعالهم حيث لم يفردوا منعمها بالعبادة فكأنهم لم يعبدوه سبحانه أصلاً وذلك كفران منزل منزلة الإنكار.
وأخرج ابن جرير. وغيره عن مجاهد أنه قال : إنكارهم إياها قولهم : ورثناها من آبائنا، وأخرج هو وغيره أيضاً عن عون بن عبد الله أنه قال : إنكارهم إياها أن يقول الرجل : لولا فلان أصابني كذا وكذا ولولا فلان لم أصب كذا وكذا وفي لفظ إنكارها إضافتها إلى الأسباب، وقيل : قولهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله تعالى، وحكى صاحب الغنيان يعرفونها في الشدة ثم ينكرونها في الرخاء، وقيل : يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن السدي أنه قال النعمة هنا محمد صلى الله عليه وسلم ورجح ذلك الطبري أي يعرفون أنه عليه الصلاة والسلام نبي بالمعجزات ثم ينكروه ذلك ويجحدونه عناداً، وفي لفظ ابن أبي حاتم أنه قال هذا في حديث أبي جهل والأخنس حين سأل الأخنس أبا جهل عن محمد صلى الله عليه وسلم فقال : هو نبي.
ومعنى ﴿ ثُمَّ ﴾ الاستبعاد الإنكار بعد المعرفة لأن حق من عرف النعمة الاعتراف بها وأداء حقها لا إنكارها، وإسناد المعرفة والإنكار المتفرع عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب حال البعض إلى الكل فإن بعضهم ليسوا كذلك كما هو ظاهر قوله سبحانه :﴿ وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون ﴾ أي المنكرون بقلوبهم غير المعترفين بما ذكر، والحكم عليهم بمطلق الكفر المئذن بالكمال من حيث الكمية لا ينافي كمال الفرقة الأولى من حيث الكيفية كذا قيل، وجوز أن يكون الإسناد السالف على ظاهره والمراد أن أكثرهم المصرون الثابتون على كفرهم إلى يوم يلقونه فالتعبير بالأكثر لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن، وقيل : المعنى وأكثرهم الجاحدون عناداً، والتعبير بالأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله وعدم اهتدائه إليه أو لعدم نظره في الأدلة نظراً يؤدي إلى المطلوب أو لأنه لم يقم عليه الحجة لكونه لم يصل إلى حد المكلفين لصغر ونحوه وإما لأنه يقام مقام الكل فتأمل.
( هذا ومن باب الإشارة ) :﴿ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ﴾ لعنادهم وغلبة صفات نفوسهم ﴿ وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون ﴾ [ النحل : ٨٣ ] لشهادة فطرهم بحقيته
﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ ﴾ جماعة من الناس ﴿ شَهِيداً ﴾ يثشهد لهم بالإيمان والطاعة وعليهم بالكفر والعصيان، والمراد به كما روى ابن المنذر. وغيره عن قتادة نبي تلك الأمة ﴿ ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي في الاعتذار كما قال سبحانه :﴿ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٥، ٣٦ ] والظاهر أنهم يستأذنون في ذلك فلا يؤذن لهم، ويحتمل أنهم لا استئذان منهم ولاإذن إلا لا حجة لهم حتى تذكر ولا عذر حتى يعتذر، وقال أبو مسلم : المعنى لا يسمع كلامهم بعد شهادة الشهداء ولا يلتفت إليه كما في قول عدي بن زيد :
في سماع يأذن الشيخ له. . . وحديث مثل ماذي مشار
وقيل : لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا، والأول مروي عن ابن عباس وأبي العالية وثم للدلالة على أن ابتلاءهم بعدم الإذن المنبىء عن الاقناط الكلي وذلك عندما يقال لهم :﴿ اخسئوا فيها ولا تكلمون ﴾ [ المؤمنون : ١٠٨ ] أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام فهي للتراخي الرتبي ﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ أي لا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم أي غضبه بالتوبة والعمل الصالح إذ الآخرة دار الجزاء لا دار العمل والرجوع إلى الدنيا مما لا يكون، وقول الزمخشري : أي لا يقال لهم ارضوا ربكم تفسير باللازم، وقيل : المعنى ولا يطلب رضاهم في أنفسهم بالتلطف بهم من استعتبه كأعتبه إذا أعطاه العتبي وهي الرضا وأياً ما كان فالمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وانتصاب الظرف على ما قال الحوفي. وغيره بمحذوف تقديره اذكر وقدره بعضهم خوفهم وهو في ذلك مفعول به، وقيل : وهو نصب على الظرفية بمحذوف أي يوم نبعث يحيث بهم ما يحيق، وقال الطبري : هو معطوف على ظرف محذوف العالم فيه ينكرونها أي ثم ينكرونها اليوم ويوم نبعث من كل أمة شهيداً فيشهد عليهم ويكذبهم وليس بشيء وتجري هذه الاحتمالات في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب ﴾.
( هذا ومن باب الإشارة ) :﴿ وَيَوْمَ نَبْعَث ُمن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ في الاعتذار عن التخلف عن دعوته إذ لا عذر لهم ﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ [ النحل : ٨٤ ] لأنهم قد حق عليهم القول بمقتضى استعدادهم نسأل الله تعالى العفو والعافية
﴿ وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب ﴾ أي الذين يستوجبونه بظلمهم وهو عذاب جهنم، والمراد من الذين ظلموا الذين كفروا وكان الظاهر الضمير إلا أنه أقيم المظهر مقامه للنعي عليهم بما ذكر في حيز الصلة وتعليق الرؤية بالعذاب للمبالغة، وقيل : المراد به جهنم نفسها مجازاً، ويراد بضميره في قوله تعالى :﴿ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ﴾ معناه الحقيقي على سبيل الاستخدام وليس بذاك وهذه الجملة قيل : مستأنفة، وقيل : جواب إذا بتقدير فهو لا يخفف لأن المضارع مثبتاً كان أو منفياً إذا وقع جواب إذا لا يقترن بالفاء، واستظهره ذلك أبو حيان ونقل عن الحوفي القول بأنه جواب وأنه العامل في ﴿ إِذَا ﴾ ثم قال : وقد تقدم لنا أن ما تقدم فاء الجواب في الجواب في غير أما لا يعمل فيما قبله وبينا أن العامل في ﴿ إِذَا ﴾ ثم قال : وقد تقدم لنا أن ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا يعمل فيما قبله وبينا أن العامل في ﴿ إِذَا ﴾ الفعل الذي يليلها كسائر أدوات الشرط وإن كان ليس قول الجمهور تعقب الخفاجي القول بالجوابية بأنه محتاج إلى ما سمعت من التقدير وهو مع كونه خلاف الأصل مناف للغرض في تغاير الجملتين في النظم يعني قوله تعالى :﴿ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب ﴾ وقوله سبحانه :﴿ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ أي يمهلون وهو أن عدم التخفيف واقع بعد رؤية العذاب فلذا لم يؤت بجملة اسمية بخلاف عدم الإمهال فإنه ثابت لهم في تلك الحالة اه.
وفي كلام الزمخشري كما في «الكشف » إشعار بأن الناصب المحذوف لإذا بغتهم وإنه هو الجواب حيث قال بعد أن بين وجه انتصاب اليوم وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون كقوله تعالى :﴿ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ ﴾ [ الأنبياء : ٤٠ ] الآية، وفيه إشعار أيضاً بأن عدم التخفيف والأنظار يدل على أثقاله ومباغتته كما صرح به الآية الأخرى حيث أبت الإتيان بغتة والبهت هو الأثقال وزيادة ورتب عليه ﴿ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٤٠ ] ومثل هذه الفاء فصيحة عندهم فافهم، وفي «التفسير الكبير » قال المتكلمون إن العذاب يجب أن يكون خالصاً عن شوائب النفع وهو المراد بقوله تعالى :﴿ لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ﴾ ويجب أن يكون دائمياً وهو المراد من قوله سبحانه :﴿ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ وفيه نظر.
﴿ وَإِذَا رَءا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ ﴾ الذين كانوا يزعمونهم شركاء لله سبحانه وتعالى ويعبدونهم معه عز وجل ؛ والمراد بهم كل من اتخذوه شريكاً له جل وعلا من صنم ووثن وشيطان وآدمي وملك وإضافتهم إلى ضمير المشركين لهذا الاتخاذ، وقيل : أريد بهم معبوداتهم الباطلة كما تقدم، والإضافة إليهم لأنهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم وأنعامهم، واقتصر بعضهم على الأصنام ولعل التعميم أولى، وقال الحسن : شركاؤهم الشياطين شركوهم في الأموال والأولاد، وقيل : شركوهم في الكفر أي كفروا مثل كفرهم، وقيل : شركوهم في وبال ذلك حيث حملوهم عليه ﴿ قَالُواْ ﴾ أي بألسنتهم وقيل : ختم الله تعالى على أفواههم وأنطق جوارحهم فقالت عنهم ﴿ رَبَّنَا هَؤُلآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ ﴾ أي نعبدهم ونطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعاً في توزيع العذاب بينهم. واعترض بأنه لا يناسب تفسير الشركاء بالأصنام وفيه أنها تجيء على حالة يعقل معها عذابها فلا بأس في ذلك سواء فسرت الشركاء بالأصنام فقط أو بما يعمها وغيرها، وقال أبو مسلم : مقصودهم من ذلك إحالة الذنب على الشركاء طناً منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم شيئاً.
وتعقبه القاضي بأنه بعيد لأن الكفار يعلمون علماً ضرورياً في الآخرة أن العذاب سينزل بهم ولا نصرة ولا فدية ولا شفاعة، وأورد نحوه على ما ذكرنا بناء على أنهم يعلمون علماً ضرورياً أيضاً أنه لا يحمل أحد من عذابهم شيئاً.
وأجيب بأنه على تقدير تسليم حصول العلم الضروري لهم بذلك إذ ذاك يجوز أن يدهشوا فيغفلوا عن ذلك فيقولوا ما يقولون طامعين فيما ذكر وهو نظير قولهم :﴿ يخفف عنا يوماً من العذاب ﴾ [ غافر : ٤٩ ] ﴿ يا مالك ليقض علينا ربك ﴾ [ الزخرف : ٧٧ ] ﴿ ربنا أخرجنا نعمل صالحاً ﴾ [ فاطر : ٣٧ ] إلى غير ذلك مما لهم علم ضروري عند بعضهم بأنه لا يكون. وقيل : إن القوم مع علمهم بأن ما يرجونه ويطمعون فيه لا يحصل لهم أصلاًوعدم غفلتهم عن ذلك تغلبهم أنفسهم بمقتضى الطبيعة لشدة ما هم فيه والعياذ بالله تعالى حتى تعلق آمالها بالمحال، وقيل : قالوا ذلك اعترافاً بأنهم كانوا مخطئين في عبادتهم. وتعقب بأنه لا يناسب قوله تعالى :﴿ مِن دُونِكَ ﴾ وفيه تأمل. نعم قوله تعالى :﴿ فَأَلْقَوُاْ ﴾ أي شركاؤهم ﴿ إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون ﴾ أظهر ملاءمة للأول فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ظاهر في كونه للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه والظاهر أن التكذيب راجع إلى دعوى أنهم كانوا يعبدونهم أو يطيعونهم من دون الله تعالى ومرادهم على ما قيل : إنكم ما عبدتمونتا حقيقة وإنما عبدتم أشياء تصورتموها بأذهانكم الفاسدة وزعمتم أنا هاتيك الأشياء وهيهات هيهات ليس بيننا وبينها جهة جامعة ولا علاقة نافعة، وقيل : إنما كذبوهم وقد كانوا يعبدونهم لأن الأوثان ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة لهم كما قالت الملائكة عليهم السلام :
﴿ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن ﴾ [ سبأ : ٤١ ] يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن، والشياطين وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر والالجاء كما قال إبليس :﴿ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ] فكأنهم قالوا : ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أهواءكم، وقيل : يجوز أن يكون الشياطين كاذبين في أخبارهم بكذب من عبدهم كما كذب إبليس عليه اللعنة في قوله :﴿ إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ] وجوز أن يكون التكذيب راجعاً إلى أنهم شركاء لله سبحانه لا إلى أنهم كانوا يعبدونهم ومرادهم تنزيه الله جل وعلا عن الشريك في ذلك الموقف، وخص هذا بعضهم بتقدير إرادة الشياطين من الشركاء فافهم، والظاهر أن قائل هذا جميع الشركاء ولا يمنع من ذلك تفسيره بما يعم الأصنام إذ لا بعد في أن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء بذلك، وجوز على التعميم أن يكون القائل بعضهم وهو من يعقل منهم ؛ وكان الظاهر فقالوا لهم أنكم لكاذبون إلا أنه عدل إلى ما في «النظم الكريم » للإشارة إلى أنهم قالوا ذلك لهم على وجه الإفصاح بحيث يدرك ويمتاز عن غيره، وفيه من الإشعار بالحرص على تكذيبهم ما فيه، ويؤيد ذلك تأكيدهم الجملة الدالة على تكذيبهم أتم تأكيد، وهي في موضع البدل من القول كما قال الإمام أي ألقوا إليهم أنكم لكاذبون.
﴿ وَأَلْقَوْاْ ﴾ أي الذين أشركوا، وقيل : هم وشركاؤهم جميعاً، والأكثرون على الأول ﴿ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم ﴾ الاستسلام الانقياد لحكمه تعالى العزيز الغالب بعد الإباء والاستكبار في الدنيا فلم يكن لهم إذا ذاك حيلة ولا دفع. وروى يعقوب عن أبي عمرو أنه قرأ ﴿ السلام ﴾ بإسكان اللام، قرأ مجاهد السلم بضم السين واللام ﴿ وَضَلَّ عَنْهُم ﴾ ضاع وبطل ﴿ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ من أن لله سبحانه شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين سمعوا ما سمعوا.
( هذا ومن باب الإشارة ) :﴿ وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم ﴾ [ النحل : ٨٧ ] قيل : هذا في الموقف الثاني حين تضعف غواشي أنفسهم المظلمة وترق حجبها الكثيفة وأما في الموقف الأول حين قوة هيآت الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة فلا يستسلمون كما يشير إليه قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ﴾ [ المجادلة : ١٨ ] وقيل : المستسلمون بعض والحالفون بعض فافهم والله تعالى أعلم.
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﱿ
في الأم وكذا في الأب غير ما ذكر، وذلك أنه يطلق الأب على المادة والأم على الصورة، وزعم أن قول الصادق رضي الله تعالى عنه: إن الله تعالى خلق المؤمنين من نوره وصبغهم في رحمته فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه أبوه النور وأمه الرحمة إشارة إلى ذلك وأن ما اصطلح عليه المتقدمون والحكماء من أن الأب هو الصورة والأم هي المادة وأن الصورة إذا نكحت المادة تولد عنهما الشيء توهما منهم أن النشور والخلق في بطن المادة بعيدة من جهة المناسبة إلى آخر ما قال فتفطن وإياك أن تعدل عن الطريق السوي أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ فيه إشارة إلى تسخير طير القوى الروحانية والنفسانية من الفكر والعقل النظري والعملي بل الوهم والتخيل في فضاء عالم الأرواح ما يُمْسِكُهُنَّ من غير تعلق بمادة لا اعتماد على جسم ثقيل إِلَّا اللَّهُ عز وجل وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وهو ما يستظل به من وهج نار الحاجة فالماء ظل للعطشان والطعام ظل للجيعان (١) وكل ما يقوم بحاجة شخص ظل له، وفي الخبر السلطان ظل الله تعالى في الأرض يأوي إليه كل مظلوم، وقيل: الظلال الأولياء يستظل بهم المريدون من شدة حر الهجران ويأوون إليهم من قهر الطغيان، وقد يؤول قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً بنحو هذا فما أشبه الأولياء بالجبال وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ فيه إشارة إلى ما جعل للعارفين من سرابيل روح الأنس لئلا يحترقوا بنيران القدس وأشار تعالى بقوله جل جلاله: وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ إلى ما من به من المعرفة والمحبة ليدفع بذلك كيد الشياطين والنفوس كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ تنقادون لأمره سبحانه في العبودية وتخضعون لعز الربوبية، قال ابن عطاء: تمام النعمة السكون إلى المنعم، وقال حمدون: تمامها في الدنيا المعرفة وفي الآخرة الرؤية، وقال أبو محمد الحريري: تمامها خلو القلب من الشرك الخفي وسلامة النفس من الرياء والسمعة يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ وهي هداية النبي أو وجوده بقوة الفطرة ثُمَّ يُنْكِرُونَها لعنادهم وغلبة صفات نفوسهم وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ لشهادة فطرهم بحقيقته وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار عن التخلف عن دعوته إذ لا عذر لهم وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لأنهم قد حق عليهم القول بمقتضى استعدادهم نسأل الله تعالى العفو والعافية وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ قيل: هذا في الموقف الثاني حين تضعف غواشي أنفسهم المظلمة وترق حجبها الكثيفة وأما في الموقف الأول حين قوة هيئات الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة فلا يستسلمون كما يشير إليه قوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وقيل:
المستسلمون بعض والحالفون بعض فافهم والله تعالى أعلم.
(١) قوله الجيعان كذا بالأصل وحقه «جوعان».
447
الَّذِينَ كَفَرُوا في أنفسهم وَصَدُّوا غيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بمنع من يريد الإسلام عنه وبحمل من استخفوه على الكفر فالصد عن السبيل أعم من المنع عنه ابتداء وبقاء كذا قيل: والظاهر الأول، والظاهر أن الموصول مبتدأ وقوله تعالى: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ خبره، وجوز ابن عطية كون الموصول بدلا من فاعل يَفْتَرُونَ ويكون زِدْناهُمْ مستأنفا، وجوز بعضهم كون الأول نصبا على الذم أو رفعا عليه فيضمر الناصب والمبتدأ وجوبا وزِدْناهُمْ بحاله، وهذه الزيادة إما بالشدة أو بنوع آخر من العذاب والثاني هو المأثور،
فقد أخرج ابن مردويه.
والخطيب (١) عن البراء أن النبي ﷺ سئل عن ذلك فقال: «عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم» وروى نحوه الحاكم وصدمه. والبيهقي. وغيره عن ابن مسعود.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: إن أهل النار إذا جزعوا من حرها استغاثوا بضحضاح في النار فإذا أتوه تلقاهم عقارب كأنهن البغال الدهم وأفاعي كأنهن البخاتي فتضربهم فذلك الزيادة، وعن ابن عباس أنها أنهار من صفر مذاب يسيل من تحت العرش يعذبون بها، وعن الزجاج يخرجون من حر النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار بِما كانُوا يُفْسِدُونَ متعلق- بزدناهم- أي زدناهم عذابا فوق العذاب الذي يستحقونه بكفرهم بسبب
(١) في تالي التلخيص اه منه.
449
استمرارهم على الإفساد وهو الصد عن السبيل، وجوز أن يفسر ذلك بما هو أعم من الكفر والصد، والمعنى زدناهم عذابا فوق عذابهم الذي يستحقونه بمجرد الكفر والصد بسبب استمرارهم على هذين الأمرين القبيحين، ووجه ذلك أن البقاء على المعصية يومين مثلا أقبح من البقاء عليها يوما والبقاء ثلاثة أيام أقبح من البقاء يومين وهكذا، ومن هنا قالوا:
الإصرار على الصغيرة كبيرة، وقيل: إن أهل جهنم يستحقون من العذاب مرتبة مخصوصة هي ما يكون لهم أول دخولها والزيادة عليها إنما هي لحفظها إذ لو لم تزد لألفوها وطابت أنفسهم بها كمن وضع يده في ماء حار مثلا فإنه يجد أول زمان وضعها ما لا يجده بعد مضي ساعة وهو كما ترى.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ وهو كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نبيهم الذي بعث فيهم في الدنيا، ومعنى كونه مِنْ أَنْفُسِهِمْ أنه منهم، وذلك ليكون أقطع للمعذرة، ولا يرد لوط عليه السلام فإنه لما تأهل فيهم وسكن معهم عد منهم أيضا، وقال ابن عطية: يجوز أن يبعث الله تعالى شهداء من الصالحين مع الأنبياء عليهم السلام، وقد قال بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: إذا رأيت أحدا على معصية فانهه فإن أطاعك وإلا كنت شهيدا عليه يوم القيامة، وذكر الإمام في الآية قولين الأول أن كل نبي شاهد على قومه كما تقدم، والثاني إن كل قرن وجمع يحصل في الدنيا فلا بد أن يحصل فيهم من يكون شهيدا عليهم ولا بد أن لا يكون جائزا الخطأ وإلا لاحتاج إلى آخر وهكذا فيلزم التسلسل، ووجود الشهيد كذلك في عصر النبي ﷺ ظاهر وأما بعده فلا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وهم قائمون مقام الشهيد المعصوم، ثم قال: وهذا يقتضي أن يكون إجماع الأمة حجة انتهى، وإلى أنه لا بد في كل عصر ممن يكون قوله حجة على أهل عصره ذهب الجبائي وأكثر المعتزلة، قال الطبرسي في مجمع البيان: ومذهبهم يوافق مذهب أصحابنا يعني الشيعة وإن خالفه في أن ذلك الحجة من هو. وأنت تعلم أن الاستدلال بالآية على هذا المطلب ضعيف، وتحقيق الكلام في ذلك يطلب من محله.
وقال الأصم: المراد بالشهيد أجزاء من الإنسان، وذلك أنه تعالى ينطق عشرة أجزاء منه وهي الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان فتشهد عليه لأنه سبحانه قال في صفة الشهيد من أنفسهم.
وتعقبه القاضي وغيره بأن كونه شهيدا على الأمة يقتضي أن يكون غيرهم. وأيضا قوله تعالى: فِي كُلِّ أُمَّةٍ يأبى ذلك إذ لا يصح وصف آحاد الأعضاء بأنها من الأمة وأيضا مقابلة ذلك بقوله سبحانه: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ يبعد ما ذكر كما لا يخفى، والمراد بهؤلاء أمته ﷺ عند أكثر المفسرين، ولم يستبعد أن يكون المراد بهم ما يشمل الحاضرين وقت النزول وغيرهم إلى يوم القيامة فإن أعمال أمته عليه الصلاة والسلام تعرض عليه بعد موته.
فقد روي عنه ﷺ أنه قال: «حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ومماتي خير لكم تعرض على أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه وما رأيت من شر استغفرت الله تعالى لكم»
بل
جاء أن أعمال العبد تعرض على أقاربه من الموتى،
فقد أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «لا تفضحوا أمواتكم بسيئات أعمالكم فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور»
وأخرج أحمد عن أنس مرفوعا «إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا» وأخرجه أبو داود من حديث جابر بزيادة «وألهمهم أن يعملوا بطاعتك».
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء أنه قال: «إن أعمالكم تعرض على موتاكم فيسرون ويساؤون» فكان أبو الدرداء يقول عنه ذلك: اللهم إني أعوذ بك أن يمقتني خالي عبد الله بن رواحة إذا لقيته يقول ذلك في سجوده. والنبي ﷺ لأمته بمنزلة الوالد بل أولى، ولم أقف على عرض أعمال الأمم السابقة على أنبيائهم بعد الموت ولم أر من تعرض
450
لذلك لا نفيا ولا إثباتا، فإن قيل: إنها تعرض فأمر الشهادة مما لا غبار عليه في نبي لم يبعث في أمته خلوهم عنه نبي آخر، وإن قيل: إنها لا تعرض احتاج أمر الشهادة إلى الفحص عن وجود أمر يفيد العلم المصحح لها أو التزام أن الشهيد ليس هو النبي وحده كما سمعت فيما سبق، ثم إن حديث العرض على نبينا عليه الصلاة والسلام يشكل عليه
حديث «ليذادن عن الحوض أقوام» الخبر،
وقد ذكر ذلك المناوي ولم يجب عنه، وقد أجبت عنه في بعض تعليقاتي فتأمل، وقيل: المراد بهم شهداء الأمم وهم الأنبياء عليهم السلام لعلمه عليه الصلاة والسلام بعقائدهم واستجماع شرعه لقواعدهم لا الأمة لأن كونه ﷺ شهيدا على أمته علم مما تقدم فالآية مسوقة لشهادته عليه الصلاة والسلام على الأنبياء ﷺ فتخلو عن التكرار. ورد بأن المراد بشهادته عليهم الصلاة والسلام على أمته تزكيته وتعديله لهم بعد أن يشهدوا على تبليغ الأنبياء عليهم السلام حسبما علموه من كتابهم وهذا لم يعلم مما مر ليكون تكرارا وهو الوارد في الحديث، وقد ذكره غير واحد في تفسير قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: ١٤٣] وعَلى لا مضرة فيها وإن ضرت فالضرر مشترك. نعم لم يفهم مما قبل شهادة هذه الأمة على تبليغ الأنبياء عليهم السلام ليظهر كون هذه الشهادة للتزكية كما في آية البقرة، ولعل الأمر في ذلك سهل. وفي إرشاد العقل السليم أن قوله تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ تكرير لما سبق تثنية للتهديد، والمراد بهؤلاء الأمم وشهداؤهم، وإيثار لفظ المجيء على البعث لكمال العناية بشأنه صلى الله عليه وسلم، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع انتهى. وتعقب بأن حمل هؤُلاءِ على ما ذكر خلاف الظاهر، وجوز أن يكون إيثار المجيء على البعث للإيذان بالمغايرة بين الشهادتين بناء على أن شهادته ﷺ على أمته للتزكية ولا كذلك شهادة سائر الأنبياء عليهم السلام على أممهم.
والظرف معمول لمحذوف كما مر، والمراد به يوم القيامة وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ الكامل في الكتابية الحقيق بأن يخص به اسم الجنس، وهذا- على ما في البحر- استئناف أخبار وليس داخلا مع ما قبله لاختلاف الزمانين.
وجوز غير واحد كونه حالا بتقدير قد، وذكر بعض الأفاضل أن قوله تعالى: وَجِئْنا بِكَ إلخ إن كان كلاما مبتدأ غير معطوف على قوله سبحانه: نَبْعَثُ وشَهِيداً حالا مقدرة فلا إشكال في الحالية وإن كان عطفا عليه، والتعبير بالماضي لما عرف في أمثاله، فمضمون الجملة الحالية متقدم بكثير فلا يتمشى التأويل الذي ذكروه في تصحيح كون الماضوية حالا هنا، ففي صحة كونه حالا كلام إلا أن يبنى على عدم جريان الزمان عليه سبحانه وتعالى. وتعقب بأنه ليس بشيء لأن قوله سبحانه: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ يدخل فيه العقائد والقواعد بالدخول الأولى، وذلك مستمر إلى البعث وما بعده، ولا حاجة إلى ما قيل من أن المعنى بحيث أو بحال أنا كما نزلنا عليك وتلك الحيثية ثابتة له سبحانه وتعالى إلى الأبد انتهى، وفيه نظر.
وزعم بعضهم أن الجملة حال من ضمير الرفع في الفعل العامل في الظرف أي خوفهم ذلك اليوم وقد نزلنا عليك الكتاب، وهو كما ترى والأسلم الاستئناف والتبيان مصدر يدل على التكثير على ما روى ثعلب عن الكوفيين.
والمبرد عن البصريين، قال سلامة الأنباري في شرح المقامات: كل ما ورد من المصادر عن العرب على تفعال فهو بفتح التاء إلا لفظتين وهما تبيان وتلقاء، وقال ابن عطية: هو اسم وليس بمصدر، وهذه الصيغة أيضا في الأسماء قليلة، فعن ابن مالك أنه قال في نظم الفرائد: جاء على تفعال بالكسر وهو غير مصدر رجل تكلام وتلقام وتلعاب وتمساح للكذاب وتضراب للناقة القريبة بضراب الفحل وتمراد لبيت الحمام وتلفاف لثوبين ملفوفين وتجفاف لما تجلل به
451
الفرس وتهواء لجزء ماض من الليل وتنبال للقصير اللئيم وتعشار وتبراك لموضعين، وزاد ابن جعوان تمثال وتيفاق لموافقة الهلال، واقتصر أبو جعفر النحاس في شرح المعلقات على أقل من ذلك فقال: ليس في كلام العرب على تفعال إلا أربعة أسماء وخامس مختلف فيه يقال تبيان ويقال لقلادة المرأة تقصار وتعشار وتبراك والخامس تمساح وتمسح أكثر وافصح انتهى، والمعروف أن تِبْياناً مصدر وليس باسم وإن قيل: إن قول أكثر النحويين، وجوز الزجاج فيه الفتح في غير القرآن، والمراد من كل شيء على ما ذهب إليه جمع ما يتعلق بأمور الدين أي بيانا بليغا لكل شيء يتعلق بذلك ومن جملته أحوال الأمم من أنبيائهم عليهم السلام، وكذا ما أخبرت به هذه الآية من بعث الشهداء وبعثه عليه الصلاة والسلام، فانتظام الآية بما قبلها ظاهر، والدليل على تقدير الوصف المخصص للشيء المقام وأن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما هي لبيان الدين، ولذا أجيب السؤال عن الأهلة بما أجيب،
وقال صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»
وكون الكتاب تبيانا لذلك باعتبار أن فيه نصا على البعض وإحالة للبعض الآخر على السنة حيث أمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل فيه: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: ٣] وحثا على الإجماع في قوله سبحانه: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: ١١٥] الآية فإنها على ما روي عن الشافعي وجماعة دليل الإجماع، وقد رضي ﷺ لأمته باتباع أصحابه حيث
قال عليه الصلاة والسلام. «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ».
وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤوا طرق الاجتهاد فكانت السنة والإجماع والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب، وقال بعض:
كل للتكثير والتفخيم كما في قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف: ٢٥] إذ يأبى الإحاطة والتعميم ما في التبيان من المبالغة في البيان وأن من أمور الدين تخصيصا لا يقتضيه المقام. ورد الثاني بما سمعت آنفا والأول بأن المبالغة بحسب الكمية لا الكيفية كما قيل في قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦] إنه من قولك: فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده، ومنه قوله سبحانه: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [البقرة: ٢٧، آل عمران: ١٩٢، المائدة: ٧٢] وقال بعضهم: لكل من القولين وجهة والمرجح للأول إبقاء كل على حقيقتها في الجملة، وتعقب بأنه يرجح الثاني إبقاء شَيْءٍ على العموم وسلامته من التقدير الذي هو خلاف الأصل ومن المجاز على قول. نعم ذهب أكثر المفسرين إلى اعتبار التخصيص وروي ذلك عن مجاهد.
وقال الجلال المحلي في الرد على من لم يجوز تخصيص السنة بالكتاب: إنه يدل على الجواز قوله تعالى:
وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وإن خص من عمومه ما خص بغير القرآن، وتوجيه كونه تبيانا لكل ما يتعلق بالدين بما تقدم هو الذي يقتضيه كلام غير واحد من الأجلة. فعن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال مرة بمكة: سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله تعالى فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: ٧]
وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان عن النبي ﷺ أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»
وحدثنا سفيان عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه أمر بقتل المحرم الزنبور، وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: «لعن الله تعالى الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى» فقالت له امرأة في ذلك فقال:
ما لي لا ألعن من لعن رسول الله ﷺ وهو في كتاب الله تعالى فقالت له: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» قالت: بلى. قال:
فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عنه. وذهب بعضهم إلى ما يقتضيه ظاهر الآية غير قائل بالتخصيص ولا بأن كل
452
للتكثير فقال: ما من شيء من أمر الدين والدنيا إلا يمكن استخراجه من القرآن وقد بين فيه كل شيء بيانا بليغا واعتبر في ذلك مراتب الناس في الفهم فرب شيء يكون بيانا بليغا ولا يكون كذلك لآخرين بل قد يكون بيانا لواحد ولا يكون بيانا لآخر فضلا عن كون البيان بليغا أو غير بليغ وليس هذا إلا لتفاوت قوى البصائر، ونظير ذلك اختلاف مراتب الإحساس لتفاوت قوى الأبصار، وقيل: معنى كونه تبيانا أنه كذلك في نفسه وهو لا يستدعي وجود مبين له فضلا عن تشارك الجميع في تحقق هذا الوصف بالنسبة إليهم بأن يفهموا حال كل شيء منه على أتم وجه، ونظير ذلك الشمس فإنها منيرة في حد ذاتها وإن لم يكن هناك مستنير أو ناظر، ويغني عن هذا الاعتبار اعتبار أن المبالغة بحسب الكمية لا الكيفية، ويؤيد القول بالظاهر أن الشيخ الأكبر قدس سره وغيره قد استخرجوا منه ما لا يحصى من الحوادث الكونية. وقد رأيت جدولا حرفيا منسوبا إلى الشيخ كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل المحشر، وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل الجنة، وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل النار وكل ذلك على ما يزعمون مستخرج من الكتاب الكريم، ومثل هذا الجفر الجامع المنسوب إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه فإنهم قالوا: إنه جامع لما شاء الله تعالى من الحوادث الكونية وهو أيضا مستخرج من القرآن العظيم.
وقد نقل الجلال السيوطي عن المرسي أنه قال: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله خلافا استأثر به سبحانه ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن عباس وابن مسعود حتى قال الأول: لو ضاع لي عقال بعد لوجدته في كتاب الله تعالى ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه، وقيل: لا يخلو الزمان من عارف بجميع ذلك وهو الوارث المحمدي ويسمى الغوث وقطب الأقطاب والمظهر الأتم ومظهر الاسم الأعظم إلى غير ذلك، ويرد على هؤلاء القائلين حديث التأبير
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»
وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك منه ﷺ قبل نزوله ما يعلم منه عليه الصلاة والسلام حال التأبير، ويحتمل أن يكون بعد النزول وقال ذلك ﷺ قبل الرجوع إليه والنظر فيه ولو رجع ونظر لعلم فوق ما علموا فأعلميتهم بأمور دنياهم إنما جاءت لكون علمهم بذلك لا يحتاج إلى الرجوع والنظر وعلمه عليه الصلاة والسلام يحتاج إلى ذلك وهذا كما
قال ﷺ «لو استقبلت ما استدبرت لما سقت الهدى»
مع أن سوق الهدى من الأمور الدينية، وقد قالوا: إن القرآن العظيم تبيان لها، وهذا يرد عليهم لولا هذا الجواب فتأمل فالبحث بعد غير خال عن القيل والقال، وقال بعضهم: إن الأمور إما دينية أو دنيوية والدنيوية لا اهتمام للشارع بها إذ لم يبعث لها والدينية إما أصلية أو فرعية والاهتمام بالفرعية دون الاهتمام بالأصلية فإن المطلوب أولا بالذات من بعثة الأنبياء عليهم السلام هو التوحيد وما أشبهه بل المطلوب من خلق العباد هو معرفته تعالى كما يشهد له قوله سبحانه: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] بناء على تفسير كثير العبادة بالمعرفة، وقوله تعالى
في الحديث القدسي المشهور على الألسنة المصحح من طريق الصوفية: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف»
والقرآن العظيم قد تكفل ببيان الأمور الدينية الأصلية على أتم وجه فليكن المراد من كل شيء ذلك، ولا يحتاج هذا إلى توجيه كونه تبيانا إلى ما احتاج إليه حمل كل شيء على أمور الدين مطلقا من قولنا: إنه باعتبار أن فيه نصا على البعض وإحالة للبعض الآخر على السنة إلخ، واختار بعض المتأخرين إن كل شيء على ظاهره إلا أن المراد بالتبيان التبيان على سبيل الإجمال وما من شيء إلا بين في الكتاب حاله إجمالا، ويكفي في ذلك بيان بعض أحواله والمبالغة باعتبار الكمية لا الكيفية على ما علمت سابقا، ولو
453
حمل التبيان على ما يعم الإجمال والتفصيل مع اعتبار المبين لهم واعتبر التوزيع جاز أيضا فليتدبر، ونصب تِبْياناً على الحال كما قال أبو حيان.
وجوز أن يكون مفعولا من أجله أي نزلنا عليك الكتاب لأجل التبيان وَهُدىً وَرَحْمَةً للجميع بقرينة قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧] وحرمان الكفرة من جهة تفريطهم وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ خاصة، وجوز صرف الجميع لهم لأنهم المنتفعون بذلك أو لأنه الهداية الدلالة الموصولة والرحمة الرحمة التامة.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ أي فيما نزله عليك تبيانا لكل شيء، وإيثار صيغة الاستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجدد والاستمرار بِالْعَدْلِ أي بمراعاة التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وهو رأس الفضائل كلها يندرج تحته فضيلة القوة العقلية الملكية من الحكمة المتوسطة بين الجهبذة والبلادة، وفضيلة القوة الشهوية البهيمية من العفة المتوسطة بين الخلاعة والجمود، وفضيلة القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهور والجبن. فمن الحكم الاعتقادية التوحيد المتوسط بين التعطيل ونفي الصنائع كما تقوله الدهرية والتشريك كما تقوله الثنوية والوثنية، وعليه اقتصر ابن عباس في تفسير العدل على ما رواه عنه البيهقي في الأسماء والصفات. وابن جرير. وابن المنذر. وغيرهم، وضم إليه بعضهم القول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر. ومن الحكم العملية التعبد بأداء الواجبات المتوسط بين الباطلة وترك العمل لزعم أنه لا فائدة فيه إذ الشقي والسعيد متعينان في الأزل كما ذهب إليه بعض الملاحدة والترهب بترك المباحات تشبيها بالرهبان. ومن الحكم الخلقية الجود المتوسط بين البخل والتبذير. وعن سفيان بن عيينة أن العدل استواء السريرة والعلانية في العمل. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال لي: صف لي العدل فقلت بخ سألت عن أمر جسيم كن لصغير الناس أبا ولكبيرهم ابنا وللمثل منهم أخا وللنساء كذلك وعاقب الناس على قدر ذنوبهم وعلى قدر أجسادهم ولا تضربن لغضبك سوطا واحدا فتكون من العادين، ولعل اختيار ذلك لأنه الأوفق بمقام السائل وإلا فما تقدم في تفسيره أولى وَالْإِحْسانِ
أي إحسان الأعمال والعبادة أي الإتيان بها على الوجه اللائق، وهو إما بحسب الكيفية كما يشير إليه ما
رواه البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
أو بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل الجابرة لما في الواجبات من النقص، وجوز أن يراد بالإحسان المتعدي بإلى لا المتعدي بنفسه فإنه يقال: أحسنه وأحسن إليه أي الإحسان إلى الناس والتفضل عليهم،
فقد أخرج ابن النجار في تاريخه من طريق العكلي عن أبيه قال: مر علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه بقوم يتحدثون فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة فقال: أو ما كفاكم الله عز وجل ذاك في كتابه إذ يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ فالعدل الإنصاف والإحسان التفضل فما بقي بعد هذا،
وأعلى مراتب الإحسان على هذا الإحسان إلى المسيء وقد أمر به نبينا صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: قال عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك،
وابن عباس رضي الله تعالى عنهما بعد ما فسر العدل بالتوحيد فسر الإحسان بأداء الفرائض، وفيه اعتبار الإحسان متعديا بنفسه، وقيل: العدل أن ينصف وينتصف والإحسان أن ينصف ولا ينتصف وقيل العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال.
وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أي إعطاء الأقارب حقهم من الصلة والبر، وهذا داخل في العدل أو الإحسان وصرح به اهتماما بشأنه، والظاهر أن المراد بذي القربى ما يعم سائر الأقارب سواء كانوا من جهة الأم أو من جهة الأب، وهذا هو المراد بذوي الأرحام الذين حث الشارع ﷺ على صلتهم على الأصح، وقيل: ذوو الأرحام الأقارب من جهة الأم،
454
وذكر الطبرسي أن المروي عن أبي جعفر أن المراد من ذي القربى هنا قرابته ﷺ المرادون في قوله سبحانه: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى.
وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ الإفراط في متابعة القوة الشهوية كالزنا مثلا، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الفحشاء به، ولعله تمثيل لا تخصيص وَالْمُنْكَرِ ما ينكر على متعاطيه من الإفراط في إظهار القوة الغضبية، وعن ابن عباس. ومقاتل تفسيره بالشرك، وعن ابن السائب أنه ما وعد عليه بالنار، وعن ابن عيينة أنه مخالفة السريرة للعلانية، وقيل: ما لا يوجب الحد في الدنيا لكن يوجب العذاب في الآخرة.
وقال الزمخشري: ما تنكره العقول. وتعقبه ابن المنير فقال: إنه لفتة إلى الاعتزال ولو قال: المنكر ما أنكره الشرع لوافق الحق لكنه لا يدع بدعة المعتزلة في التحسين والتقبيح بالعقل، وقال في الكشف بعد قوله: ما تنكره العقول أي بعد رده إلى قوانين الشرع فالإنكار بالعقل بالضرورة، وإنما الخلاف في مأخذه والمقصود أن ما يمكن أن يجري على المذهبين لا يحق المحاقة فيه وهو كالتعريض بابن المنير، واستظهر أبو حيان أن المنكر أعم من الفحشاء قال: لاشتماله على المعاصي والرذائل، وعلى (١) أولا ليس الأمر كذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى وَالْبَغْيِ الاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم، وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانية التي هي حاصلة من رذيلتي القوتين المذكورتين الشهوانية والغضبية، وأصل معنى البغي الطلب ثم اختص بطلب التطاول بالظلم والعدوان، ومن ثم فسر بما فسر وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتخصيص كل من المتعاطفات الثلاثة المنهي عنها بالإشارة إلى قوة من القوى الثلاثة مما ذهب إليه غير واحد.
واعترض بأن ذلك مما لا دليل عليه، وقال بعضهم: المنكر أعم الثلاثة باعتبار أن المراد به ما ينكره الشرع ويقبحه من الأقوال أو الأفعال سواء عظم قبحه ومفسدته أم لا وسواء كان متعديا إلى الغير أم لا، وأن المراد بالفحشاء ما عظم قبحه من ذلك، ومنه قيل لمن عظم قبحه في البخل فاحش، وعلى ذلك حمل الراغب قول الشاعر:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
والبغي التطاول بالظلم والعدوان ففي الآية عطف العام على الخاص وعطف الخاص على العام، وقيل: المراد بالفحشاء مقابل العدل ويفسر بما خرج عن سنن الاعتدال إلى جانب الإفراط، وبالمنكر ما يقابل ما فيه الإحسان ويفسر بما أتى به على غير الوجه اللائق بل على وجه ينكر ويستقبح وبالبغي ما يقابل إيتاء ذي القربى ويفسر بما فسر ويكون قد قوبل في الآية الأمر بالنهي وكل من المأمور به بكل من المنهي عنه وجمع بين الآمر والنهي مع أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده لمزيد الاهتمام والاعتناء. والإمام الرازي قد أطال الكلام في هذا المقام وذكر أن ظاهر الآية يقتضي المغايرة بين الثلاثة المأمور بها ويقتضي أيضا المغايرة بين الثلاثة المنهي عنها وشرع في بيان المغايرة بين الأول ثم قال: والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات والإحسان عبارة عن الزيادة في الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية وبحسب الدواعي والصوارف وبحسب الاستغراق في شهود مقام العبودية والربوبية، ويدخل في تفسيره العظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلقه سبحانه، ومن الظاهر أن الشفقة على الخلق أقسام كثيرة أشرفها وأجلها صلة الرحم لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر، ثم شرع في بيان المغايرة بين الأخيرة وقال:
تفصيل القول في ذلك أنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة وهي الشهوانية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية
(١) محل هذا البياض كلمة مقطوعة في نسخة المؤلف وهو من كلام المؤلف وليس من كلام أبي حيان ولعلها ما فسر به.
455
الشيطانية والعقلية الملكية، وهذه الأخيرة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها لأنها من جوهر الملائكة عليهم السلام ونتائج الأرواح القدسية العلوية وإنما المحتاج إلى التهذيب الثلاثة قبلها، ولما كانت الأولى أعني القوة الشهوانية إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية وكان هذا النوع مخصوصا باسم الفحش- ألا ترى أنه تعالى سمى الزنا فاحشة- أشار إلى تهذيبها بقوله سبحانه: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ المراد منه المنع من تحصيل الذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة، ولما كانت الثانية أعني القوة الغضبية السبعية تسعى أبدا في إيصال الشر والبلاء والإيذاء إلى سائر الناس أشار سبحانه إلى تهذيبها بنهيه تعالى عن المنكر إذ لا شك أن الناس ينكرون تلك الحالة فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية، ولما كانت الثالثة أعني القوة الوهمية الشيطانية تسعى أبدا في الاستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرياسة والتقدم أشار سبحانه إلى تهذيبها بالنهي عن البغي إذ لا معنى له إلا التطاول والترفع على الناس، ثم قال:
ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا: أخس هذه القوى الثلاث الشهوانية وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية، والله تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ سبحانه بذكر الفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية ثم بالبغي الذي هي نتجية القوة الوهمية اه. وما تقدم عن غير واحد مأخوذ من هذا، ولينظر هل يثبت بما قرره دليل التخصيص فيندفع الاعتراض السابق أم لا، ثم إن الظاهر عليه أن عطف البغي على ما قبله كعطف إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى على ما قبله.
وبالجملة أن الآية كما أخرج البخاري في الأدب. والبيهقي في شعب الإيمان. والحاكم وصححه عن ابن مسعود أجمع آية للخير والشر، وأخرج البيهقي عن الحسن نحو ذلك،
وأخرج الباوردي. وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال: بلغ أكتم بن صيفي مخرج رسول الله فأراد أن يأتيه فأتى قومه فانتدب رجلان فأتيا رسول الله ﷺ فقالا: نحن رسل أكتم يسألك من أنت وما جئت به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا محمد بن عبد الله ورسوله ثم تلا عليهم هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ إلخ قالوا: ردد علينا هذا القول فردده عليه الصلاة والسلام عليهم حتى حفظوه فأتيا أكتم فأخبراه فلما سمع الآية قال: إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن مذامها فكونوا في هذا الأمر رأسا ولا تكونوا فيه أذنابا.
وقد صارت هذه الآية أيضا كما أخرج أحمد والطبراني والبخاري في الأدب عن ابن عباس سبب استقرار الإيمان في قلب عثمان بن مظعون ومحبته للنبي ﷺ ولجمعها ما جمعت أقامها عمر بن عبد العزيز حين آلت الخلافة إليه مقام ما كان بنو أمية غضب الله تعالى عليهم يجعلونه في أواخر خطبهم من سب علي كرم الله تعالى وجهه ولعن كل من بغضه وسبه وكان ذلك من أعظم مآثره رضي الله تعالى عنه، وقال غير واحد: لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية الكريمة لكفت في كونه تبيانا لكل شيء وهدى. ولعل إيرادها عقيب قوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ للتنبيه عليه فإنها إذا نظر إلى أنها قد جمعت ما جمعت مع وجازتها استيقظت عيون البصائر وتحركت للنظر فيما عداها
وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله جالسا إذ شخص بصره فقال: أتاني.
جبريل عليه السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع إن الله يأمر إلخ.
واستدل بها على أن صيغة تتناول الواجب والمندوب وموضوعها القدر المشترك وتحقيق ذلك في الأصول.
يَعِظُكُمْ أي ينبهكم بما يأمر وينهى سبحانه أحسن تنبيه، وهو إما استئناف وإما حال من الضمير في الفعلين لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ طلبا لأن تتعظوا بذلك وتنتبهوا.
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ قال قتادة. ومجاهد: نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر أنها نزلت في بيعة النبي ﷺ كان من أسلم بايع على
456
الإسلام. وظاهره أنها في البيعة على الإسلام مطلقا، فالمراد بعهد الله تلك البيعة كما نص عليه غير واحد. واعترض بأن الظاهر أنه عام في كل موثق وهو الي يقتضيه كلام ميمون بن مهران، وسبب النزول ليس من المخصصات، ولذا قالوا: الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأجيب بأن قرينة التخصيص قوله تعالى فيما قبل: إن الَّذِينَ كَفَرُوا بالآية، وفيه نظر، وقال الأصم: المراد به الجهاد وما فرض في الأموال من حق ولا يلائمه قوله تعالى: إِذا عاهَدْتُمْ وقيل: المراد به النذر، وقيل: اليمين: وتعقب ذلك الإمام بأنه حينئذ يكون قوله تعالى.
وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها تكرارا لأن الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان لأن الأمر بالفعل يستلزم النهي عن الترك، وإذا حمل العهد على العموم بحيث دخل تحته اليمين كان هذا من باب تخصيص بعض الإفراد بالذكر للاعتناء به وبعض من فسر العهد بالبيعة لرسول الله ﷺ حمل الأيمان على ما وقع عند تلك البيعة، وجوز بعضهم حملها على مطلق الأيمان.
وفي الحواشي السعدية أن الظاهر أن المراد بها الأشياء المحلوف عليها كما في قوله عليه الصلاة والسلام:
«ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» لأنه لو كان المراد ذكر اسم الله تعالى كان عين التأكيد لا المؤكد فلم يكن محل ذكر العطف كما تقرر في المعاني ورد بأن المراد بها العقد لا المحلوف عليه لأن النقض إنما يلائم العقد ولا ينافي ذلك قوله تعالى: بَعْدَ تَوْكِيدِها لأن المراد كون العقد مؤكدا بذكر الله تعالى لا بذكر غيره كما يفعله العامة الجهلة فالمعنى أن ذلك النهي لما ذكر لا عن نقض الحلف بغير الله تعالى وقال الواحدي: إن قوله سبحانه: بَعْدَ تَوْكِيدِها لإخراج لغو اليمين نحو لا والله بلى والله بناء على أن المعنى بعد توكيدها بالعزم والعقد ولغو اليمين ليست كذلك. ثم إذا حمل الإيمان على مطلقها فهو- كما قال الإمام- عام دخله التخصيص بالحديث السابق الدال على أنه متى كان الصلاح في نقض اليمين جاز نقضها. وتعقب بأن فيه تأملا لأن الحظر لو لم يكن باقيا لما احتيج إلى الكفارة الساترة للذنب. وأجيب بأن وجوب الكفارة بطريق الزجر إذ أصل الإيمان الانعقاد ولو محظوره فلا ينافي لزوم موجبها، وجوز أن يقال: إن ذلك للإقدام على الحلف بالله تعالى في غير محله فليتأمل، والتوكيد التوثيق، ومنه أكد بقلب الواو همزة على ما ذهب إليه الزجاج وغيره، من النحاة، وذهب آخرون إلى أن وكد وأكد لغتان أصليتان لأن الاستعمالين في المادة متساويان فلا يحسن القول بأن الواو بدل من الهمزة كما في الدر المصون وهو الذي اختاره أبو حيان.
وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي شاهدا رقيبا فإن الكفيل مراع لحال المكفول به رقيب عليه واستعمال الكفيل في ذلك إما من باب الاستعارة أو المجاز المرسل والعلاقة اللزوم.
والظاهر أن جعلهم مجاز أيضا لأنهم لما فعلوا ذلك والله تعالى مطلع عليهم فكأنهم جعلوه سبحانه شاهد قاله الخفاجي ثم قال: ولو أبقي الكفيل على ظاهره وجعل تمثيلا لعدم تخلصهم من عقوبته وإنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله كما يقال: من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه تنبيها على أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب لكان معنى بليغا جدا فتدبر. والظاهر أن الجملة في موضع الحال من فاعل تَنْقُضُوا وجوز أن تكون حالا من فاعل المصدر وإن كان محذوفا، وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ أي من النقض فيجازيكم على ذلك في وضع التعليل للنهي السابق، وقال الخفاجي: إنه كالتفسير لما قبله وَلا تَكُونُوا فيما تصنعون من النقض كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مصدر بمعنى المفعول أي مغزولها، والفعل منه غزل يغزل بكسر الزاي، والنقض ضد الإبراء، وهو في الجرم فك أجزائه بعضها من بعض، وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ متعلق بنقضت على أنه ظرف له لا حال و
457
من- زائدة مطردة في مثله أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامه.
أَنْكاثاً جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله وانتصابه قيل على إنه حال مؤكدة من غَزْلَها وقيل:
على أنه مفعول ثان لنقض لتضمنه معنى جعل، وجوز الزجاج كون النصب المصدرية لأن نَقَضَتْ بمعنى نكثت فهو ملاق لعامله في المعنى.
وقال في الكشف: إن جعله مفعولا على التضمين أولى من جعله حالا أو مصدرا، وفي الإتيان به مجموعا مبالغة وكذلك في حذف الموصوفة ليدل على الخرقاء الحمقاء وما أشبه ذلك، وفي الكشاف ما يشير إلى اعتبار التضمين حيث قال: أي لا تكونوا كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته فجعلته أنكاثا، وفي قوله: أنحت- على ما قال القطب- إشارة إلى أن نَقَضَتْ مجاز عن أرادت النقض على حد قوله تعالى: «إذا قمتم إلى الصلاة» وذكر أنه فسر بذلك جمعا بين القصد والفعل ليدل على حماقتها واستحقاقها اللوم بذلك فإن نقضها لو كان من غير قصد لم تستحق ذلك ولأن التشبيه كلما كان أكثر تفصيلا كان أحسن، ولا يخفى ما في اعتبار التضمين وهذا المجاز من التكلف وكأنه لهذا قيل: إن اعتبار القصد لأن المتبادر من الفعل الاختياري وفي الكشف خرج ذلك المعنى من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ فإن نقض المبرم لا يكون إلا بعد إنحاء بالغ وقصد تام ولم يرد بالموصول امرأة بعينها بل المراد من هذه صفته ففي الآية حال الناقض بحال الناقض في أخس أحواله تحذيرا منه وإن ذلك ليس من فعل العقلاء وصاحبه داخل في عداد حمقى النساء، وقيل: المراد امرأة معلومة عند المخاطبين كانت تغزل فإذا برمت غزلها تنقضه وكانت تسمى خرقاء مكة، قال ابن الأنباري: كان اسمها ربطة بنت عمرو المرية تلقب الحفراء، وقال الكلبي. ومقاتل:
هي امرأة من قريش اسمها ربطة بنت سعد التيمي اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكه عظيمة على قدرها فكانت تغزل هي وجوارها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال: كانت سعيدة الأسدية مجنونة تجمع الشعر والليف فنزلت هذه الآية وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها
ورورى ابن مردويه عن ابن عطاء أنها شكت جنونها إلى رسول الله ﷺ وطلبت أن يدعو لها بالمعافاة فقال لها عليه الصلاة والسلام «إن شئت دعوت فعافاك الله تعالى وإن شئت صبرت واحتسبت ولك الجنة» فاختارت الصبر والجنة،
وذكر عطاء أن ابن عباس أراه إياها، وعن مجاهد هذا فعل نساء نجد تنقض إحداهن غزلها ثم تنفشه فتغزله بالصوف، وإلى عدم التعيين ذهب قتادة عليه الرحمة تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ حال من الضمير في لا تَكُونُوا أو في الجار والمجرور الواقع موقع الخبر.
وجوز أن يكون خبر تكونوا وكَالَّتِي نقضت في موضع الحال وهو خلاف الظاهر، وقال الإمام: الجملة مستأنفة على سبيل الاستفهام الإنكاري أن أتتخذون، والدخل في الأصل ما يدخل الشيء ولم يكن منه ثم كني به عن الفساد والعداوة المستبطنة كالدغل، وفسره قتادة بالغدر والخيانة، ونصبه على أنه مفعول ثان، وقيل: على المفعولية من أجله، وفائدة وقوع الجملة حالا الإشارة إلى وجه الشبه أي لا تكونوا مشبهين بامرأة هذا شأنها متخذين أيمانكم وسيلة للغدر والفساد بينكم أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أي بأن تكون جماعة هِيَ أَرْبى أي أزيد عددا وأوفر مالا مِنْ أُمَّةٍ أي من جماعة أخرى، والمعنى لا تغدروا بقوم بسبب كثرتهم وقلتهم بل حافظوا على أيمانكم معهم، وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما عن مجاهد أنه قال: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز فينقضون حلفهم ويحالفون الذين هم أعز فنهوا عن ذلك لا تغدروا بجماعة بسبب أن تكون جماعة أخرى أكثر منها وأعز بل عليكم الوفاء بالأيمان والمحافظة عليها وإن قل من خلفتم له وكثر الآخر وجوز في «تكون» أن تكون تامة وناقصة وفي- هي- أن يكون
458
مبتدأ وعمادا «فأربى» إما مرفوع أو منصوب وأنت تعلم أن البصريين لا يجوزون كون هِيَ عماد التنكير أُمَّةٌ.
وزعم بعض الشيعة أن هذه الآية قد حرفت وأصلها أن تكون أئمة هي أزكى من أئمتكم ولعمري قد ضلوا سواء السبيل إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ الضمير المجرور عائد إما على المصدر المنسبك من أَنْ تَكُونَ أو على المصدر المنفهم من أَرْبى وهو الربو بمعنى الزيادة، وقول ابن جبير. وابن السائب. ومقاتل يعني بالكثرة مرادهم منه هذا واكتفوا ببيان حاصل المعنى، وظن ابن الأنباري أنهم أرادوا أن الضمير راجع إلى نفس الكثرة لكن لما كان تأنيثها غير حقيقي صح التذكير وهو كما ترى، وقيل: إنه لأربى لتأويله بالكثير، وقيل للأمر بالوفاء المدلول عليه بقوله تعالى- وأوفوا- إلخ ولا حاجة إلى جعله منفهما من النهي عن الغدر بالعهد واختار بعضهم الأول لأنه أسرع تبادرا أي يعاملكم معاملة المختبر بذلك الكون لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله تعالى وبيعة رسوله عليه الصلاة والسلام أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيجازيكم بأعمالكم ثوابا وعقابا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أيها الناس أُمَّةً واحِدَةً متفقة على الإسلام وَلكِنْ لا يشاء ذلك رعاية للحكمة بل يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ إضلاله بأن يخلق فيه الضلال حسبما يصرف اختياره التابع لاستعداده له وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته حسبما يصرف اختياره التابع لاستعداده لتحصيلها وَلَتُسْئَلُنَّ جميعا يوم القيامة سؤال محاسبة ومجازاة لا سؤال استفسار وتفهم عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تستمرون على عمله في الدنيا بقدركم المؤثرة بإذن الله تعالى، والآية ظاهرة في أن مشيئة الله تعالى لا سلام الخلق كلهم ما وقعت وأنه سبحانه إنما شاء منهم الافتراق والاختلاف، فإيمان وكفر وتصديق وتكذيب ووقع الأمر كما شاء جل وعلا، والمعتزلة ينكرون كون الضلال بمشيئته تعالى ويزعمون أنه سبحانه إنما شاء من الجميع الإيمان ووقع خلاف ما شاء عز شأنه وأجاب الزمخشري عن الآية بأن المعنى لو شاء على طريقة الإلجاء والقسر لجعلكم أمة واحدة مسلمة فإنه سبحانه قادر على ذلك لكن اقتضت الحكمة أن يضل ويخذل من يشاء ممن علم سبحانه أنه يختار الكفر ويصمم عليه ويهدي من يشاء بأن يلطف بمن علم أنه يختار الإيمان، والحاصل أنه تعالى بنى الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب ولم ينبه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء ولو كان العبيد مضطرين للهداية والضلال لما أثبت سبحانه لهم عملا يسئلون عنه بقوله: وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اه، وللعسكري نحوه، وقد قدمنا لك غير مرة أن المذهب الحق على ما بينه علامة المتأخرين الكوراني وألف فيه عدة رسائل أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى لا إنه لا قدرة له أصلا كما يقول الجبرية ولا أن له قدرة مقارنة غير مؤثرة كما هو المشهور عند الأشعري ولا أن له قدرة مؤثرة وإن لم يؤذن لله تعالى كما يقول المعتزلة وإن له اختيارا أعطيه بعد طلب استعداده الثابت في علم الله تعالى له فللعبد في هذا المذهب اختيار والعبد مجبور فيه بمعنى أنه لا بد من أن يكون له لأن استعداده الأزلي الغير المجعول قد طلبه من الجواد المطلق والحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها والإثابة والتعذيب إنما يترتبان على الاستعداد للخير والشر الثابت في نفس الأمر والخير والشر يدلان على ذلك نحو دلالة الأثر على المؤثرة والغاية على ذي الغاية وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ومن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
وقال ابن المنير: إن أهل السنة عن الإجبار بمعزل لأنهم يثبتون للعبد قدرة واختيارا وأفعالا وهم مع ذلك يوحدون الله تعالى حق توحيده فيجعلون قدرته سبحانه هي الموجدة والمؤثرة وقدرة العبد مقارنة فحسب وبذلك يميز بين الاختياري والقسري وتقوم حجة الله تعالى على عباده اه وهذا هو المشهور من مذهب الأشعرية وهو كما ترى، وسيأتي ان شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام وما فيه من النقض والإبرام.
459
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ قالوا هو تصريح بالنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا بعد التضمين لأن الاتخاذ المذكور فيما سبق وقع قيدا للمنهي عنه فكان منهيا عنه ضمنا تأكيدا ومبالغة في قبح المنهي عنه وتمهيدا لقوله تعالى:
فَتَزِلَّ قَدَمٌ عن محجة الحق بَعْدَ ثُبُوتِها عليها ورسوخها فيها بالإيمان، وقيل ما تقدم كان نهيا عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة وما هنا نهي عن الدخل في الأيمان التي يراد بها اقتطاع الحقوق فكأنه قيل: لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم لتتوصلوا بذلك إلى قطع حقوق المسلمين.
وقال أبو حيان: لم يتكرر النهي فإن ما سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلا معللا بشيء خاص وهو أن تكون أمة هي أربى من أمة وجاء النهي المستأنف الإنشائي عن اتخاذ الإيمان دخلا على العموم فيشمل جميع الصور من الحلف في المبايعة وقطع الحقوق المالية وغير ذلك. ورد بأن قيد المنهي عنه فليس إخبارا صرفا ولا عموم في الثاني لأن قوله تعالى: فَتَزِلَّ إلخ إشارة إلى العلة السابقة إجمالا على أنه قد يقال إن الخاص مذكور في ضمن العام أيضا فلا محيص عن التكرار أيضا ولو سلم ما ذكره فتأمل، ونصب- تزل- بأن مضمرة في جواب النهي لبيان ما يترتب عليه ويقتضيه، قال في البحر: وهو استعارة للوقوع في أمر عظيم لأن القدم إذا زلت انقلب الإنسان من حال خير إلى حال شر، وتوحيد القدم وتنكيرها- كما قال الزمخشري- للإيذان بأن زلل قدم واحدة أي قدم كانت عزت أو هانت محذور عظيم فكيف بأقدام، وقال أبو حيان: إن الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع وتارة يلحظ فيه كل فرد فرد وفي الأول يكون الإسناد معتبرا فيه الجمعية وفي الثاني يكون الإسناد مطابقا للفظ الجمع كثيرا فيجمع ما أسند إليه ومطابقا لكل فرد فيفرد كقوله تعالى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف: ٣١] فأفرد المتكأ لما لوحظ في لَهُنَّ كل واحدة منهن ولو جاء مرادا به الجمعية أو على الكثير في الوجه الثاني لجمع وعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله:
فإني وجدت الضامرين متاعهم يموت ويفنى فارضخي من وعائيا
أي كل ضامر، ولذا أفرد الضمير في يموت ويفنى، ولما كان المعنى هنا لا يتخذ كل واحد منكم جاء فَتَزِلَّ قَدَمٌ مراعاة لهذا المعنى. ثم قال سبحانه وَتَذُوقُوا السُّوءَ مراعاة للمجموع أو للفظ الجمع على الوجه الكثير إذا قلنا: إن الإسناد لكل فرد فرد فتكون الآية قد تعرضت للنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا باعتبار المجموع وباعتبار كل فرد ودل على ذلك بإفراد قَدَمٌ وجمع الضمير في وَتَذُوقُوا. وتعقب بأن ما ذكره الزمخشري نكتة سرية وهذا توجيه للأفراد من جهة العربية فلا ينافي النكتة المذكورة، والمراد من السوء العذاب الدنيوي من القتل والأسر والنهب والجلاء غير ذلك مما يسوء ولا يخفى ما في تَذُوقُوا من الاستعارة بِما صَدَدْتُمْ بسبب صدودكم وإعراضكم أو صد غيركم ومنعه عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي ينتظم الوفاء بالعهود والأيمان فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنة لغيره يتبعه فيها من بعده من أهل الشقاء والإعراض عن الحق فيكون صادا عن السبيل.
وجعل هذه بعضهم دليلا أن الآية فيمن بايع رسول الله ﷺ وهو كما ترى وَلَكُمْ في الآخرة عَذابٌ عَظِيمٌ لا يعلم عظمه إلا الله تعالى وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ المراد به عند كثير بيعة رسول الله ﷺ على الإيمان والاشتراء مجاز عن الاستبدال لمكان قوله تعالى: ثَمَناً قَلِيلًا فإن الثمن مشتري به أي لا تأخذوا بمقابلة عهده تعالى عوضا يسيرا من الدنيا، قال الزمخشري: كان قوم ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ولما كانوا يعدونهم من المواعيد إن رجعوا أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله ﷺ فثبتهم الله تعالى بهذه الآية ونهاهم عن أن يستبدلوا ذلك بما وعدوهم به من عرض الدنيا، وقال ابن عطية: هذا
460
نهي عن الرشا وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الآخذ فعله أو فعل ما يجب عليه تركه، فالمراد بعهد الله تعالى ما يعم ما تقدم وغيره ولا يخفى حسنه إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ أي ما أخباه وادخره لكم في الدنيا والآخرة هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من ذلك الثمن القليل إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم من أهل العلم والتمييز، فالفعل منزل منزلة اللازم، وقى: متعد والمفعول محذوف وهو فضل ما بين العوضين والأول أبلغ ومستغن عن التقدير، وفي التعبير بإن ما لا يخفى، والجملة تعليل للنهي على طريقة التحقيق كما أن قوله تعالى: ما عِنْدَكُمْ إلخ تعليل للخيرية بطريق الاستئناف أي ما تتمتعون به من نعيم الدنيا بل الدنيا وما فيها جميعا يَنْفَدُ ينقضي ويفنى وإن جم عدده وطال مدده، يقال: نفد بكسر العين ينفد بفتحها نفادا ونفودا إذا ذهب وفني، وأما نفذ بالذال المعجمة فبفتح العين ومضارعه ينفذ بضمها وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته الدنيوية والأخروية باقٍ لا نفاد له أما الأخروية فظاهر، وأما الدنيوية فحيث كانت موصولة بالأخروية ومستتبعة لها فقد انتظمت في سلك الباقيات الصالحات. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المراد بما عند الله في الموضعين الثواب الأخروي واختاره بعض الأئمة، وفي إيثار الاسم على صيغة المضارع من الدلالة على الدوام ما لا يخفى. ورد بالآية على جهم بن صفوان حيث زعم أن نعيم الجنة منقطع. وقوله تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّ بنون العظمة وهي قراءة عاصم. وابن كثير على طريقة الالتفات من الغيبة إلى التكلم تكرير للوعد المستفاد من قوله سبحانه:
إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ على نهج التوكيد القسمي مبالغة في الحمل على الثبات على العهد. وقرأ باقي السبعة بالياء فلا التفات.
والعدول عما يقتضيه ظاهر الحال من أن يقال: ولنجزينكم- بالنون أو بالياء- أجركم بأحسن ما كنتم تعلمون للتوسل إلى التعرض لاعمالهم والاشعار بعليتها للجزاء أي والله لنجزين الَّذِينَ صَبَرُوا على العهد أو على أذية المشركين ومشاق الإسلام التي من جملتها الوفاء بالعهود وإن وعد المعاهدون على نقضها بما وعدوا أَجْرَهُمْ مفعول لَنَجْزِيَنَّ أي نعطينهم أجرهم الخاص بهم بمقابلة صبرهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وهو الصبر فإنه من الأعمال القلبية، والكلام على حذف مضاف أي لنجزينهم بجزاء صبرهم، وكان الصبر أحسن الأعمال لاحتياج جميع التكاليف إليه فهو رأسها قاله أبو حيان. وفي إرشاد العقل السليم إنما أضيف الأحسن إلى مذاكر للإشعار بكمال حسنه كما في قوله: وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران: ١٤٨] لا لإفادة قصر الجزاء على الأحسن منه دون الحسن فإن ذلك مما لا يخطر ببال أحد لا سيما بعد قوله تعالى: «أجرهم» فالإضافة للترغيب.
وجوز أن يكون المعنى لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم أي لنعطينهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم ما نعطيه بمقابلة الفرد الأعلى منها من الأجر الجزيل لا أنا نعطي الأجر بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزي الحسن منها بالحسن والأحسن بالأحسن، وفيه ما لا يخفى من العدة الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم في تضاعيف الصبر من بعض جزع ونظمه في سلك الصبر الجميل، وأن يكون أحسن صفة جزاء محذوفا والإضافة على معنى من التفضيلية أي لنجزينهم بجزاء أحسن من أعمالهم، وكونه أحسن لمضاعفته، وقيل: المراد بالأحسن ما ترجح فعله على تركه كالواجبات والمندوبات أو بما ترجح تركه أيضا (١) كالمحرمات والمكروهات والحسن ما لم يترجح فعله ولا تركه وهو لا يثاب عليه. وتعقبة في الإرشاد بأنه لا يساعده مقام الحث على الثبات على ما هم عليه من الأعمال الحسنة المخصوصة والترغيب في تحصيل ثمراتها بل التعرض لإخراج بعض أعمالهم من مدارية الجزاء
(١) في أصل المصنف سقط لفظ «تركه» وزدناه من تفسير أبي السعود لأنه منقول عنه.
461
من قبيل تحجير الرحمة الواسعة في مقام توسيع حماها. وقيل: المراد بالأحسن النفل، وكان أحسن لأنه لم يحتم بل يأتي الإنسان به مختارا غير ملزم، وإذا علمت المجازاة على النفل الذي هو أحسن علمت المجازاة على الفرض الذي هو حسن، ولا يخفى أنه ليس بحسن أصلا مَنْ عَمِلَ صالِحاً أي عملا صالحا أي عمل كان، وهذا- كما قيل- شروع في تحريض كافة المؤمنين على كل عمل صالح غب ترغيب طائفة منهم في الثبات على ما هم عليه من عمل صالح مخصوص دفعا لتوهم الأجر الموفور بهم وبعملهم، وقوله تعالى: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى دفع لتوهم تخصيص مَنْ بالذكور لتبادرهم من ظاهر لفظ مَنْ فإنه مذكر وعاد عليه ضميره وإن شمل النوعين وضعا على الأصح، واستدل عليه بما
رواه الترمذي من قوله صلى الله عليه وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله تعالى إليه» وقول أم سلمة: «فكيف تصنع النساء بذيولهن» الحديث
فإن أم سلمة رضي الله تعالى عنها فهمت دخول النساء في مَنْ وأقرها على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأنهم أجمعوا على أنه لو قال: من دخل داري فهو حر فدخلها الإماء عتقن، وبعضهم يستدل على ذلك أيضا بهذه الآية إذ لولا تناوله الأنثى وضعا لما صح أن يبين بالنوعين. وفي الكشف كان الظاهر تناوله للذكور من حيث إن الإناث لا يدخلن في أكثر الأحكام والمحاورات وإن كان التناول على طريق التعميم والتغليب حاصلا لكن لما أريد التنصيص ليكون أغبط للفريقين ونصا في تناولهما بين بذكر النوعين اه، والقول الأصح أن التناول لا يحتاج إلى التغليب، وتمام الكلام في ذلك في كتاب الأصول، وقوله تعالى: وَهُوَ مُؤْمِنٌ في موضع الحال من فاعل عَمِلَ وقيد به إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة الصالحة في استحقاق الثواب إجماعا، واختلف في ترتب تخفيف العقاب عليها.
فقال بعضهم: لا يترتب أيضا لقوله تعالى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ [النحل: ٨٥] وقوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: ٢٣].
وقال الإمام: إن إفادة العمل الصالح لتخفيف العقاب غير مشروطة بالإيمان لقوله تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره» وحديث أبي طالب أنه أخف الناس عذابا بالمحبة وحمايته النبي صلى الله عليه وسلم. وفي البحر أن قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: ٧] مخصص بهذه الآية ونحوها أو يراد- بمثقال ذرة- مثقال ذرة من إيمان كما جاء فيمن يخرج من النار من عصاة المؤمنين، وقال الكرماني: إن تخفيف العذاب عن أبي طالب ليس جزاء لعمله بل هو لرجاء غيره أو هو من خصائص نبينا عليه الصلاة والسلام، وقال بعضهم: الإيمان شرط لترتب التخفيف على الأعمال الصالحة إذا كانت مما يتوقف صحتها على النية التي لا تصح من كافر وليس شرطا للترتب عليها إذا لم تكن كذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام، وإيثار الجملة الاسمية لإفادة وجوب دوام الإيمان ومقارنته للعمل الصالح في ترتب قوله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً إلخ، والمراد بالحياة الطيبة الحياة التي تكون في الجنة إذ هناك حياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم وملك بلا هلك وسعادة بلا شقاوة، أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن الحسن قال:
ما تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة، وروي نحوه عن مجاهد. وقتادة. وابن زيد، ولله تعالى در من قال:
لا طيب للعيش ما دامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم
وقال شريك: هي حياة تكون في البرزخ فقد جاء «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار».
وقال غير واحد: هي في الدنيا وأريد بها حياة تصحبها القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى له وقدره، فقد أخرج البيهقي في الشعب. والحاكم وصححه وابن أبي حاتم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسرها بذلك
وقال: «كان رسول الله ﷺ يدعو اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف على كل غائبة لي بخير»
وجاء القناعة مال لا ينفد.
462
وقال أبو بكر الوراق: هي حياة تصحبها حلاوة الطاعة، وأخرج عبد الرزاق. وغيره عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال: الحياة الطيبة الرزق الحلال، وروي عن الضحاك. ووجه بعضهم طيب هذه الحياة بأنه لا يترتب عليها عقاب بخلاف الحياة بالرزق الحرام
فقد جاء «أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به»
وهو كما ترى، وقيل: غير ذلك وأولى الأقوال على تقدير أن يكون ذلك في الدنيا تفسيرها بما يصحبه القناعة.
قال الواحدي: إن تفسيرها بذلك حسن مختار فإنه لا يطيب في الدنيا إلا عيش القانع وأما الحريص فإنه أبدا في الكد والعناء، وقال الإمام: إن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه:
الأول أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير الله تعالى وأنه سبحانه محسن كريم لا يفعل إلا الصواب كان راضيا بكل ما قضاه وقدره وعرف أن مصلحته في ذلك، وأما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبدا في الحزن والشقاء.
الثاني أن المؤمن يستحضر أبدا في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها ويجد نفسه راضية بذلك فعند الوقوع لا يستعظمها بخلاف الجاهل فإنه غافل عن تلك المعارف فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه.
الثالث أن المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى والقلب إذا كان مملوءا بالمعرفة لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا وأما الجاهل فقلبه خال عن المعرفة متفرغ للأحزان من المصائب الدنيوية، الرابع أن المؤمن عارف أن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة فلا يعظم فرحه بوجدانها ولا غمه بفقدانها والجاهل لا يعرف سعادة أخرى تغايرها فيعظم فرحه بوجدانها وغمة بفقدانها. الخامس أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير سريعة الزوال ولولا تغيرها وانقلابها ما وصلت إليه فعند وصولها إليه لا يتعلق بها قلبه ولا يعانقها معانقة العاشق فلا يحزنه فواتها والجاهل بخلاف اه، وللبحث فيه مجال. وأورد على التفسير المختار أن بعض من عمل صالحا وهو مؤمن لم يرزق القناعة بل قد ابتلي بالقنوع، وأجيب بأن المراد بالمؤمن من كمل إيمانه أو يقال: المراد- بمن عمل صالحا- من كان جميع عمله صالحا.
وقال البيضاوي في بيان ترتب إحيائه حياة طيبة: إنه إن كان معسرا فظاهر وإن كان موسرا فطيب عيشه بالقناعة والرضى بالقسمة وتوقع الأجر العظيم في الآخرة أي على تخلف بعض مراداته عنه وضنك عيشه فقال الخفاجي: إن هذه الأمور لا بد من وجود بعضها في المؤمن والأخير- يعني توقع الأجر في الآخرة- عام شامل لكل مؤمن فلا يرد عليه أن هذا لا يوجد في كل من عمل صالحا حتى يؤول المؤمن بمن كمل إيمانه إلى آخر ما سمعت. وتعقب بأن القناعة هي الرضا بالقسم كما في القاموس وغيره وتوقع الأجر العظيم لا يوجد بدون ذلك وكيف يحصل الأجر على تخلف المراد وضنك العيش مع الجزع وعدم الرضا، وكلامه ظاهر في تحقق هذا التوقع وإن لم يكن هناك قناعة ورضا ولا يكاد يقع هذا من مؤمن عارف فلا بد من التأويل.
وبحث بعضهم فيه أيضا بأن كمال الإيمان لا يكون بدون الرضا وكذا كون جميع الأعمال صالحة لا يوجد بدونه لأن الأعمال تشمل القلبية والقالبية والرضا من النوع الأول. والمراد من فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً لنعطينه ما تطيب به حياته. فيؤول معنى الآية حينئذ على تقدير أن يراد القناعة والرضا من رضي بالقسمة وفعل كذا وكذا وهو مؤمن أو من عمل صالحا وهو راض بالقسمة متصف بكذا وكذا مما فيه كمال الإيمان فلنعطينه الرضا بالقسمة الذي تطيب به حياته ويتضمن من رضي بالقسمة فلنعطينه الرضا بالقسمة الذي تطيب به حياته وهو كما ترى وفيه ما لا يخفى. نعم تفسير الحياة الطيبة بما يكون في الجنة سالم عن هذا القيل والقال، ويراد بها ما سلمت من توهم الموت والهرم وحلو الألم والسقم فيكون قوله تعالى: «فلنحيينه حياة طيبة» إشارة إلى درء المفاسد، وقوله سبحانه: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ
463
بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
إشارة إلى جلب المصالح ولكون الأول أهم قدم فليتأمل، وكأن المراد ولنجزينهم إلخ حسبما يفعل بالصابرين فليس في الآية شائبة تكرار كما زعم الطبرسي، والجمع في الضمائر العائدة إلى الموصول لمراعاة جانب المعنى كما أن الإفراد فيما سلف لرعاية جانب اللفظ، وإيثار ذلك على العكس بناء على كون الإحياء حياة طيبة في الدنيا وجزاء الأجر في الآخرة لما أن وقوع الجزاء بطريق الاجتماع المناسب للجمعية ووقوع ما في حيز الصلة وما يترتب عليه بطريق الافتراق والتعاقب الملائم للأفراد، وقيل بناء على كون ذلك في الآخرة: إن الجمع والإفراد لما تقدم، وكذا إيثار ذلك على العكس فيما عدا ضمير «لنحيينه» وإما في ضميره فلما أن الإحياء حياة طيبة بمعنى ما سلمت مما تقدم أمر واحد في الجميع لا يتفاوت فيه أهل الجنة فكأنهم في ذلك شيء واحد، ولما لم يكن الجزاء كذلك وكان أهل الجنة فيه متفاوتين جيء بضمير الجمع معه فتأمل كل ذلك. وروي عن نافع أنه قرأ «وليجزينهم» بالياء على الالتفات من التكلم إلى الغيبة.
قال أبو حيان: وينبغي أن يكون ذلك على تقدير قسم ثان لا معطوفا علي فَلَنُحْيِيَنَّهُ فيكون من عطف جملة قسمية على مثلها وكلتاهما محذوفتان، ولا يكون من عطف جواب على مثله لتغاير الإسناد وإفضاء الثاني إلى إخبار المتكلم عن نفسه إخبار الغائب وذلك لا يجوز، وعلى هذا لا يجوز زيد قال لأضربن هند أو لينفينها تريد ولينفينها زيد فإن جعلته على إضمار قسم ثان جاز أي وقال زيد لينفينها لأن في هذا التركيب حكاية المعنى وحكاية اللفظ، ومن الثاني وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى [التوبة: ١٠٧] ومن الأول يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا [التوبة: ١٧٤] ولو حكى اللفظ قيل ما قلنا اه. واستدل بالآية على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح مغايرة الشرط للمشروط.
هذا وإذ قد انتهى الأمر إلى مدار الجزاء وهو صلاح العمل وحسنه رتب عليه بالفاء الإرشاد إلى ما به يحسن العمل الصالح، ويخلص عن شوب الفساد فقيل: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي إذا أردت قراءة القرآن فاسأله عز جاره أن يعيذك مِنَ وساوس الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ كيلا يوسوسك في القراءة فالقراءة مجاز مرسل عن إرادتها إطلاقا لاسم المسبب على السبب، وكيفية الاستعاذة عند الجمهور من القراء وغيرهم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لتظافر الروايات على أنه ﷺ كان يستعيذ كذلك.
وروى الثعلبي والواحدي أن ابن مسعود قرأ عليه الصلاة والسلام فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال له صلى الله عليه وسلم: «يا ابن أم عبد قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح المحفوظ»
نعم
أخرج أبو داود. والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها في ذكر الإفك قالت «جلس رسول الله ﷺ وكشف عن وجهه وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم إن الذين جاؤوا بالإفك» الآية،
وأخرجا عن سعيد إنه قال «كان رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا قام من الليل فاستفتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ثم يقول أعوذ بالله السميع العليم» إلخ
وبذلك أخذ من استعاذ كذلك، وفي الهداية الأولى أن يقول: أستعيذ بالله ليوافق القرآن ويقرب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم اه، والمختار ما سمعت أولا لأن لفظ استعذ طلب العوذة وقوله: «أعوذ» امتثال مطابق لمقتضاه. والقرب من اللفظ مهدر، ويكفي لأولوية ما عليه الجمهور مجيئه في المأثور: وقال بعض أصحابنا: لا ينبغي أن يزيد المتعوذ السميع العليم لأنه ثناء وما بعد التعوذ محل القراءة لا محل الثناء وفيه أن هذا بعد تسليم الخبرين السابقين غير سديد على أنه ليس في ذلك إتيان بالثناء بعد التعوذ بل إتيان به في أثنائه كما لا يخفى، والأمر بها للندب عندهم، وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر عن عطاء وروي عن الثوري أنها واجبة لكل قراءة في الصلاة أو غيرها لهذه الآية فحملا الأمر فيها على الوجوب نظرا إلى أنه
464
حقيقة فيه، وعدم صلاحية كونها لدفع الوسوسة في القراءة صارفا عنه بل يصح شرع الوجوب معه، وأجيب بأنه خلاف الإجماع، ويبعد منهما أن يبتدعا قولا خارقا له من بعد علمهما بأن ذلك لا يجوز فالله تعالى أعلم بالصارف على قول الجمهور، وقد يقال: هو تعليمه ﷺ الأعرابي الصلاة ولم يذكرها عليه الصلاة والسلام.
وقد يجاب بأن تعليمه إياها بتعليمه ما هو من خصائصها وهي ليست من واجباتها بل من واجبات القراءة أو إن كونها تقال عند القراءة كان ظاهرا معهودا فاستغنى عن ذكرها، وفيه أنه لا يتأتى على ما ستسمع قريبا إن شاء الله تعالى من قول أبي يوسف عليه الرحمة. وقال الخفاجي: إن حمل الأمر على الندب لما روي من ترك النبي ﷺ لها، وإذا ثبت هذا كفى صارفا ومذهب ابن سيرين. والنخعي وهو أحد قولي الشافعي أنها مشروعة في القراءة في كل ركعة لأن الأمر معلق على شرط فيتكرر بتكرره كما في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة: ٦] وأيضا حيث كانت مشروعة في الركعة الأولى فهي مشروعة في غيرها من الركعات قياسا للاشتراك في العلة، ومذهب أبي حنيفة- وهو القول الآخر للشافعي- أنها مشروعة في الأول فقط لأن قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة، وقيل: إنها عند الإمام أبي حنيفة للصلاة ولذا لا تكرر، والمذكور في الهداية وغيرها أنها عند الإمام أبي حنيفة للصلاة ولذا لا تكرر، والمذكور في الهداية وغيرها أنها عند الإمام ومحمد للقراءة دون الثناء حتى يأتي بها المسبوق دون المقتدى، وقال أبو يوسف: إنها للثناء وفي الخلاصة أنه الأصح، وتظهر ثمرة الخلاف في ثلاثة مسائل ذكرت فيها فما ذكره صاحب القيل لم نعثر عليه في كتب الأصحاب، ومالك لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ويراه في غيرها كقيام رمضان، والمروي عنه في غير الصلاة فيما سمعت من بعض مقلديه وعن أبي هريرة. وابن سيرين. وداود. وحمزة من القراء أن الاستعاذة عقب القراء أخذ بظاهر الآية.
وللجمهور ما
رواه أئمة القراءة مسندا عن نافع عن جبير بن مطعم أنه ﷺ كان يقول قبل القراءة: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»
: قال في الكشف، دل الحديث على أن التقديم هو السنة فبقي سببية القراءة لها، والفاء في فَاسْتَعِذْ دلت على السببية فلتقدر الإرادة ليصح، وأيضا الفراغ عن العمل لا ينساب الاستعاذة من العدو وإنما يناسبها الشروع فيه والتوسط فلتقدر ليكونا- أي القراءة والاستعاذة- مسببتين عن سبب واحد لا يكون بينهما مجرد الصحبة الاتفاقية التي تنافيها الفاء، وإليه أشار صاحب المفتاح بقوله بقرينة الفاء والسنة المستفيضة انتهى.
ومنه يعلم أن ما قيل من أن الفاء لا دلالة فيها على ما ذكر وأن إجماعهم على صحة هذا المجاز يدل على أن القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة ليس بشرط فيه ليس بشيء وكذا القول بالفرق بين هذه الآية وقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة: ٦] إلخ بأن ثمة دليلا قائما على المجاز فترك الظاهر له بخلاف ما نحن فيه، والظاهر أن المراد بالشيطان إبليس وأعوانه، وقيل: هو عام في كل متمرد عات من جن وإنس، وتوجيه الخطاب إلى رسول الله ﷺ وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لغيره عليه الصلاة والسلام وفي سائر الأعمال الصالحة أهم فإنه ﷺ حيث أمر بها عند قراءة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فما الظن بمن عداه عليه الصلاة والسلام فيما عدا القراءة من الأعمال إِنَّهُ الضمير للشأن أو للشيطان لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ تسلط واستيلاء عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه يفوضون أمورهم وبه يعوذون فالمراد نفي التسلط بعد الاستعاذة فتكون الجملة تعليلا للأمر بها أو لجوابه المنوي أي أن يعذك ونحوه.
وقال البعض: المراد نفي ذلك مطلقا، قال أبو حيان: وهو الذي يقتضيه ظاهر الأخبار وتعقب بأنه إذا لم يكن له
465
تسلط فلم أمروا بالاستعاذة منه. وأجيب بأن المراد نفي ما عظم من التسلط. وقد أخرج ابن جرير. وغيره عن سفيان الثوري أنه قال في الآية: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم والاستعاذة من المحتقرات فهم لا يطيعون أوامره ولا يقبلون وساوسه إلا فيها يحتقروته على ندور وغفلة فأمروا بالاستعاذة منه لمزيد الاعتناء بحفظهم، وقد ذهب إلى هذا البيضاوي ثم قال: فذكر السلطنة بعد الأمر بالاستعاذة لئلا يتوهم منه أن له سلطانا.
وفي الكشف أن هذه الجملة جارية مجرى البيان للاستعاذة المأمور بها وأنه لا يكفي فيها مجرد القول الفارغ عن اللجأ إلى الله تعالى واللجأ إنما هو بالإيمان أولا والتوكل ثانيا، وأيا ما كان فوجه ترك العطف ظاهر وإيثار صيغة الماضي في الصلة الأولى للدلالة على التحقيق كما أن اختيار صيغة الاستقبال في الثانية لإفادة الاستمرار التجددي، وفي التعرض لوصف الربوبية تأكيد لنفي السلطان عن المؤمنين المتوكلين.
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ أي يجعلونه واليا عليهم فيحبونه ويطيعونه ويستجيبون دعوته فالمراد بالسلطان التسلط والولاية بالدعوة المستتبعة للاستجابة لا ما يعم ذلك والتسلط بالقسر والإلجاء فإن في جعل التولي صلة «ما» يفصح بنفي إرادة التسلط القسري فإن المقسور بمعزل عنه بهذا المعنى، وقد نفي هذا أيضا عن الكفرة في قوله تعالى حكاية عن اللعين: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ [إبراهيم: ٢٢] فاستجبتم لي وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ أي بسبب الشيطان وإغوائه إياهم مُشْرِكُونَ بالله تعالى، وقيل: أي باشراكهم الشيطان مشركون بالله تعالى، وجوز أن يكون الضمير للرب تعالى شأنه والباء للتعدية، وروي ذلك عن مجاهد ورجح الأول باتحاد الضمائر فيه مع تبادره إلى الذهن، وفي إرشاد العقل السليم ما يشعر باختيار الأخير، وذكر فيه أيضا أن قصر سلطان اللعين على المذكورين غب نفيه عن المؤمنين المتوكلين دليل على أنه لا واسطة في الخارج بين التوكل على الله تعالى وتولي الشيطان وإن كان بينهما واسطة في المفهوم وإن من لم يتوكل عليه تعالى ينتظم في سلك من يتولى الشيطان من حيث لا يحتسب إذ به يتم التعليل، ففيه مبالغة في الحمل على التوكل والتحذير عن مقابله.
وإيثار الجملة الفعلية الاستقبالية في الصلة الأولى لما مر آنفا والاسمية في الثانية للدلالة على الثبات، وتكرير الموصول للاحتراز عن توهم كون الصلة الثانية حالية مفيدة لعدم دخول غير المشركين من أولياء الشيطان تحت سلطانه.
وتقديم الأولى على الثانية التي هي بمقابلة الصلة الأولى فيما سلف لرعاية المقارنة بينها وبين ما يقابلها من التوكل على الله تعالى ولو روعي الترتيب السابق لا نفصل كل من القرينتين عما يقابلها اه، لما كان كل من الإيمان والتولي منشأ لما بعده قدم عليه، وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ أي إذا نزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها، والظاهر على ما في البحر أن المراد نسخ اللفظ والمعنى، ويجوز أن يراد نسخ المعنى مع بقاء اللفظ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من المصالح فكل من الناسخ والمنسوخ منزل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن كل وقت له مقتضى غير مقتضى الآخر فكم من مصلحة تنقلب مفسدة في وقت آخر لانقلاب الأمور الداعية إليها، ونرى الطبيب الحاذق قد يأمر المريض بشربة ثم بعد ذلك ينهاه عنها ويأمره بضدها، وما الشرائع إلا مصالح للعباد وأدوية لأمراضهم المعنوية فتختلف حسب اختلاف ذلك في الأوقات وسبحان الحكيم العليم، والجملة إما معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم، وفي الالتفات إلى الغيبة مع الاسناد إلى الاسم الجليل ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الاعتراض أو حالية كما قال أبو البقاء وغيره، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ينزل» من الإنزال قالُوا أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ متقول على الله تعالى تأمر
466
بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه، وقد بالغوا قاتلهم الله تعالى في نسبة الافتراء إلى حضرة الصادق المصدوق ﷺ حيث وجهوا الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام وجاؤوا بالجملة الاسمية مع التأكيد بإنما، وحكاية هذا القول عنهم هاهنا للإيذان بأنه كفرة ناشئة من نزغات الشيطان وأنه وليهم. وفي الكشف أن وجه ذكره عقيب الأمر بالاستعاذة عند القراءة أنه باب عظيم من أبوابه يفتن به الناقصين يوسوس إليهم البداء والتضاد وغير ذلك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون شيئا أصلا أو لا يعلمون أن في التبديل المذكور حكما بالغة، وإسناد هذا الحكم إلى أكثرهم لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكر عنادا. والآية دليل على نسخ القرآن بالقرآن وهي ساكتة عن نفي نسخه بغير ذلك مما فصل في كتب الأصول قُلْ نَزَّلَهُ أي القرآن المدلول عليه بالآية، وقال الطبرسي: أي الناسخ المدلول عليه بما تقدم رُوحُ الْقُدُسِ يعني جبريل عليه السلام وأطلق عليه ذلك من حيث إنه ينزل بالقدس من الله تعالى أي مما يطهر النفوس من القرآن والحكمة والفيض الإلهي، وقيل: لطهره من الأدناس البشرية، والإضافة عند بعض للاختصاص كما في رَبِّ الْعِزَّةِ [الصافات: ١٨٠] وجعلها بعض المحققين من إضافة الموصوف للصفة على جعله نفس القدس مبالغة نحو- خبر سوء ورجل صدق- على ما ارتضاه الرضي، ومثل ذلك حاتم الجود وسحبان الفصاحة وخالف في ذلك صاحب الكشف مختارا أنها للاختصاص، ولا يخفى ما في صيغة التفعيل بناء على القول بأنها تفيد التدريج من المناسبة لمقتضى المقام لما فيها من الإشارة إلى أنه أنزل دفعات على حسب المصالح مِنْ رَبِّكَ في إضافة الرب إلى ضميره ﷺ من الدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية عليه عليه الصلاة والسلام ما ليس في إضافته إلى ياء المتكلم المنبئة عن التلقين المحض كما في إرشاد العقل السليم، وكأنه اعتناء بأمر هذه الدلالة لم يقل من ربكم على أن في ترك خطابهم من حط قدرهم ما فيه، ومِنْ لابتداء الغاية مجازا بِالْحَقِّ أي ملتبسا بالحكمة المقتضية له بحيث لا يفارقها ناسخا كان أو منسوخا لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا أي على الإيمان بما يجب الإيمان به لما فيه من الحجج القاطعة والأدلة الساطعة أو على الإيمان بأن كلامه تعالى فإنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح رسخت عقائدهم واطمأنت به قلوبهم، وأول بعضهم الآية على هذا الوجه بقوله: ليبين ثباتهم وتعقب بأنه لا حاجة إليه إذ التثبيت بعد النسخ لم يكن قبله فإن نظر إلى مطلق الإيمان صح. وقرئ لِيُثَبِّتَ من الأفعال.
وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ عطف على محل لِيُثَبِّتَ عند الزمخشري ومن تابعه وهو نظير زرتك لأحدثك وإجلالا لك أي تثبيتا وهداية وبشارة، وتعقب بأنه إذا اعتبر الكل فعل المنزل على الإسناد المجازي لم يكن للفرق بإدخال اللام في البعض والترك في البعض وجه ظاهر، وكذا إذا اعتبر فعل الله تعالى كما هو كذلك على الحقيقة وإذا اعتبر البعض فعل المنزل ليتحد فاعل المصدر وفاعل الفعل المعلل به فيترك اللام له والبعض الآخر فعل الله تعالى ليختلف الفاعل فيؤتى باللام لم يكن لهذا التخصيص وجه ظاهر أيضا ويفوت به حسن النظم.
وقال الخفاجي يوجه ترك اللام في المعطوف دون المعطوف عليه مع وجود شرط الترك فيهما بأن المصدر المسبوك معرفة على ما تقرر في العربية والمفعول له الصريح وإن لم يجب تنكيره كما عزي للرياشي فخلافه قليل كقوله: واغفر عوراء الكريم ادخاره. ففرق بينهما تفننا وجريا على الأفصح فيهما، والنكتة فيه أن التثبيت أمر عارض بعد حصول المثبت عليه فاختير فيه صيغة الحدوث مع ذكر الفاعل إشارة إلى أنه فعل لله تعالى مختص به بخلاف الهداية والبشارة فإنهما يكونان بالواسطة، وقيل: إن وجود الشرط مجوز لا موجب والاختيار مرجح مع ما في ذلك من فائدة بيان جواز الوجهين، وفيه أنه لا يصلح وجها عند التحقيق، وقد اعترض أبو حيان هنا بما تقدم في الكلام على قوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً [النحل: ٦٤]، وذكر أنه لا يمتنع أن يكون العطف على المصدر
467
المنسبك لأنه مجرور فيكون هُدىً وَبُشْرى مجرورين، وجوز أبو البقاء أن يكونا مرفوعين على أنهما خبرا مبتدأ محذوف أي وهو هدى وبشرى، والجملة في موضع الحال من الهاء في نَزَّلَهُ.
والمراد بالمسلمين الذين آمنوا، والعدول عن ضميرهم لمدحهم بكلا العنوانين، وفسر بعضهم الإسلام بمعناه اللغوي فقيل: إن ذلك ليفيد بعد توصيفهم بالإيمان، والظاهر أن لِلْمُسْلِمِينَ قيد للهدى والبشرى ولم أر من تعرض لجواز كونه قيدا للبشرى فقط كما تعرض لذلك في قوله تعالى: هُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: ٨٩] على ما سمعت هناك.
وفي هذه الآية على ما قالوا تعريض لحصول أضداد الأمور المذكورة لمن سوى المذكورين من الكفار من حيث إن قوله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ جواب لقولهم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ فيكفي فيه قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ فالزيادة لمكان التعريض وقال الطيبي إن نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ بدل نزله الله فيه زيادة تصوير في الجواب وزيد قوله تعالى بِالْحَقِّ لينبه على دفع الطعن بألطف الوجوه ثم نعى قبيح أفعالهم بقوله تعالى: لِيُثَبِّتَ إلخ تعريضا بأنهم متزلزلون ضالون موبخون منذرون بالخزي والنكال واللعن في الدنيا والآخرة وأن عذابهم في خلاف ذلك ليزيد في غيظهم وحنقهم، وفي الكلام ما هو قريب من الأسلوب الحكيم اه فتأمل.
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ غير ما نقل عنهم من المقالة الشنعاء إِنَّما يُعَلِّمُهُ أي يعلم النبي ﷺ القرآن، وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام قتادة. ومجاهد. وغيرهما واختير كون الضمير للقرآن ليوافق ضمير أَنْزَلَهُ أي يقولون إنما يعلم القرآن النبي عليه الصلاة والسلام بَشَرٌ على طريق البت مع ظهور أنه نزله روح القدس عليه عليه الصلاة والسلام، وتأكيد الجملة لتحقيق ما تتضمنه من الوعيد، وصيغة الاستقبال لإفادة استمرار العلم بحسب الاستمرار التجددي في متعلقه فإنهم مستمرون على التفوه بتلك العظيمة، وفي البحر أن المعنى على المضي فالمراد علمنا وعنوا بهذا البشر قيل: جبرا الرومي غلام عامر بن الحضرمي وكان قد قرأ التوراة والإنجيل وكان ﷺ يجلس إليه إذا آذاه أهل مكة فقالوا ما قالوا.
وروي ذلك عن السدي، وقيل: مولى لحويطب بن عبد العزى اسمه عائش أو يعيش كان يقرأ الكتب وقد أسلم وحسن إسلامه قاله الفراء. والزجاج، وقيل: أبا فكيهة مولى لامرأة بمكة قيل اسمه يسار وكان يهوديا قاله مقاتل. وابن جبير إلا أنه لم يقل كان يهوديا.
وأخرج آدم بن أبي إياس. والبيهقي. وجماعة عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان نصرانيان من أهل عين التمر يقال لأحدهما يسار وللآخر جبر وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقرآن الإنجيل فربما مر بهما النبي ﷺ وهما يقرءان فيقف ويستمع فقال المشركون: إنما يتعلم منهما، وفي بعض الروايات أنه قيل لأحدهما إنك تعلم محمدا ﷺ فقال لا بل هو يعلمني،
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كان بمكة غلام أعجمي روي لبعض قريش يقال له بلعام وكان رسول الله ﷺ يعلمه الإسلام فقالت قريش: هذا يعلم محمدا عليه الصلاة والسلام من جهة الأعاجم
وأخرج ابن جرير. وابن المنذر عن الضحاك أنه سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وضعف هذا بأن الآية مكية وسلمان أسلم بالمدينة، وكونها إخبارا بأمر مغيب لا يناسب السباق، ورواية أنه أسلم بمكة واشتراه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقه بها قيل ضعيفة لا يعول عليها كاحتمال أن هذه الآية مدنية.
وقد أخبرني من أثق به عن بعض النصارى أنه قال له: كان نبيكم ﷺ يتردد إليه في غار حراء رجلان نصراني ويهودي يعلمانه، ولم أجد هذا عن أحد من المشركين وهو كذب بحت لا منشأ له وبهت محض لا شبهة فيه، وإنما لم يصرح باسم من زعموا أنه يعلمه عليه الصلاة والسلام مع أنه أدخل في ظهور كذبهم للإيذان بأن مدار خطئهم ليس بنسبته ﷺ إلى التعلم من شخص معين بل من البشر كائنا من كان مع كونه عليه الصلاة والسلام معدنا لعلوم الأولين
468
والآخرين لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ اللسان مجاز مشهور عن التكلم، والإلحاد الميل يقال: لحد وألحد إذا مال عن القصد، ومنه لحد القبر لأنه حفرة مائلة عن وسطه، والملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها، والأعجمي الغير البين، قال أبو الفتح الموصلي: تركيب ع ج م في كلام العرب للإبهام والإخفاء وضد البيان والإيضاح، ومنه قولهم: رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان وعجم الزبيب سمي بذلك لاستتارة واختفائه ويقال للبهيمة العجماء لأنه لا توضح ما في نفسها وسموا صلاتي الظهر والعصر العجماوين لأن القراءة فيهما سر وأما قولهم:
أعجمت الكتاب فمعناه أزلت عجمته كأشكيت زيدا أزلت شكواه، والأعجمي والأعجم الذي في لسانه عجمة من العجم كان أو من العرب، ومن ذلك زياد الأعجم وكان عربيا في لسانه لكنة وكذاك حبيب الأعجمي تلميذ الحسن البصري قدر الله تعالى سرهما على ما رأيته في بعض التواريخ.
والمراد من الَّذِي على القول بتعدد من زعموا نسبة التعليم إليه الجنس ومفعول يُلْحِدُونَ محذوف أي تكلم الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه أي ينسبون التعليم إليه غير بيّن لا يتضح المراد منه.
وظاهر كلام ابن عطية أن اللسان على معناه الحقيقي وهو الجارحة المعروفة. وقرأ الحسن «اللسان الذي» بتعريف اللسان بأل ووصفه بالذي. وقرأ حمزة والكسائي وعبد الله بن طلحة والسلمي والأعمش «يلحدون» بفتح الياء والحاء من لحد، وألحد ولحد لغتان فصيحتان مشهورتان وَهذا القرآن الكريم لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان وفصاحة على ما يشعر به وصفه- بمبين- بعد وصفه- بعربي- والكلام على حذف مضاف عند ابن عطية أي سرد لسان أو نطق لسان، والجملتان مستأنفتان عند الزمخشري لإبطال طعنهم، وجوز أبو حيان أن يكونا حالين من فاعل يَقُولُونَ ثم قال: وهو أبلغ من الإنكار أي يقولون هذا والحال أن علمهم بأعجمية هذا البشر وعربية هذا القرآن كان ينبغي أن يمنعهم عن مثل تلك المقالة كقولك: أتشتم فلانا وهو قد أحسن إليك وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف لأن مجيء الاسمية حالا بدون واو شاذ عنده، وهو مذهب مرجوح تبع فيه الفراء إذ مجيئها كذلك في كلام العرب أكثر من أن يحصى اه، وتقرير الابطال- كما قال العلامة البيضاوي- يحتمل وجهين: أحدهما أن ما يسمعه من ذلك البشر كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل فكيف يكون ما تلقفه منه. وثانيهما هب أنه تعلم منه المعنى باستماع كلامه ولكن لم يلقف منه اللفظ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى فهو معجز من حيث اللفظ مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاوله فكيف تعلم جميع ذلك من غلام سوقي سمع منه بعض المنقولات بكلمات أعجمية لعله لم يعرف معناها، وحاصل ذلك منع تعلمه عليه الصلاة والسلام منه مع سنده ثم تسليمه باعتبار المعنى إذ لفظه مغاير للفظ ذلك بديهية فيكفي دليلا له ما أتى به من اللفظ المعجز ويمكن تقريره بنحو هذا على سائر الأقوال السابقة في البشر، وقال الكرماني: المعنى أنتم أفصح الناس وأبلغهم وأقدرهم على الكلام نظما ونثرا وقد عجزتم وعجز جميع العرب عن الإتيان بمثله فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن وهو كما ترى، وبالجملة التشبث في أثناء الطعن بمثل هذه الخرافات الركيكة دليل قوي على كمال عجزهم فقد راموا اجتماع اليوم والأمس واستواء السها والشمس:
فدعهم يزعمون الصبح ليلا أيعمى الناظرون عن الضياء
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي يصدقون بأنها من عنده تعالى بل يقولون فيها ما يقولون يسمونها تارة افتراء وأخرى أساطير معلمة من البشر، وقيل: المراد بالآيات المعجزات الدالة على صدق النبي ﷺ ويدخل فيها الآيات القرآنية دخولا أوليا والأول على ما قيل أوفق بالمقام.
469
لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ قيل: أي إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار كما يشير إليه قوله تعالى: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
وقال بعض المحققين: المعنى لا يهديهم إلى ما ينجيهم من الحق لما يعلم من سوء استعدادهم، وقال في البحر: أي لا يخلق الإيمان في قلوبهم، وهذا عام مخصوص فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى، وقال الجلبي:
المعنى أن سبب عدم إيمانهم هو أنه تعالى لا يهديهم لختمه على قلوبهم أو لا يهديهم سبحانه مجازاة لعدم إيمانهم بأن تلك الآيات من عنده تعالى، وقال العسكري: يجوز أن يكون المعنى أنهم إن لم يؤمنوا بهذه الآيات لم يهتدوا، والمراد- بلا يهديهم الله- لا يهتدون فإنه إنما يقال هدى الله تعالى فلانا على الإطلاق إذا اهتدى هو وأما من لم يقبل الهدى فإنه يقال فيه: إن الله تعالى هداه فلم يهتد كما قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: ١٧] وقيل: المعنى إن الذين لا يصرفون اختيارهم إلى الإيمان بآياته تعالى لا يخلقه سبحانه في قلوبهم، وقال ابن عطية: المفهوم من الوجود أن الذين لا يهديهم الله تعالى لا يؤمنون بآياته ولكنه قدم وأخر تتميما لتقبيح حالهم وللتشنيع بخطئهم كما في قوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: ٥] ويؤدي مؤدى التقديم والتأخير ما ذكره الجلبي أولا والأكثر لا يخلو عن دغدغة.
وقال القاضي: أقوى ما قيل في الآية ما ذكر أولا، وكونه تفسيرا للمعتزلة مناسبا لأصولهم فيه نظرا، وأيا ما كان فالمراد من الآية التهديد والوعيد لأولئك الكفرة على ما هم عليه من الكفر بآيات الله تعالى ونسبة رسوله ﷺ إلى الافتراء والتعلم من البشر بعد إماطة شبهتهم ورد طعنهم، وقولهم سبحانه: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ تمهيد لكونهم هم المفترون وقلب عليهم بعد أن حقق بالبيان البرهاني براءة ساحته ﷺ عن لوث الافتراء، وقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ إشارة إلى قريش القائلين: إنما أنت مفتر وهو تصريح بعد التعريض ليكون كالوشم عليهم، وهذا الأسلوب أبلغ من أن يقال: أنتم معشر قريش مفترون لما أشير إليه، وإقامة الدليل على أنهم كذلك وأن من زنوه به لا يجوز أن يتعلق بذيله نشب منه أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يترقب عقابا عليه وقريش كذلك فهم الكاذبون أو إشارة إلى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فيستمر الكلام على وتيرة واحدة، والمعنى أن الكاذب بالحقيقة هذا الكاذب على ما قرروه في قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: ٥ وغيرها] واللام للجنس وهو شهادة عليهم بالكمال في الافتراء، فالكذب في الحقيقة مقيد بالكذب بآيات الله تعالى، وأطلق إشعارا بأن لا كذب فوقه ليكون كالحجة على كمال الافتراء أو الكذب غير مقيد على هذا الوجه على معنى أنهم الذين عادتهم الكذب فلذلك اجترءوا على تكذيب آيات الله تعالى دلالة على أن ذلك لا يصدر إلا ممن لهج بالكذب قيله، ويدل على اعتبار هذا المعنى التعبير بالجملة الاسمية ولذا عطفت على الفعلية، وفيه قلب حسن وإشارة إلى أن قريشا لما كان من عادتهم الكذب أخذوا يكذبون بآيات الله تعالى ومن أتى بها، ثم لم يرضوا بذلك حتى نسبوا من شهدوا له بالأمانة والصدق إلى الافتراء.
وموضع الحسن الإيماء إلى سبق حالتي النبي ﷺ وقريش أو الكذب مقيد على هذا الوجه أيضا بما نسبوا إليه عليه الصلاة والسلام من الافتراء، والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ على هذا المراد به قريش من إقامة الظاهر مقام المضمر، وإيثار المضارع على الماضي دلالة على استمرار عدم إيمانهم وتجدده عقب نزول كل آية واستحضارا لذلك وهذا الوجه مرجوح بالنسبة إلى السوابق، وقد ذكر هذه الأوجه صاحب الكشاف وقد حررها بما ذكر المولى المدقق في كشفه، والحصر في سائرها غير حقيقي، ولا استدراك في الآية لا سيما على الأول منها، وهي من الكلام المنصف في بعضها. وتعلقها بقوله سبحانه حكاية عنهم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ لأنها كما سمعت لرده، وتوسيط ما وسط لما لا يخفى
470
من شدة اتصاله بالرد الأول مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ أي بكلمة الكفر مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ به تعالى. وهذا بحسب الظاهر ابتداء كلام لبيان حال من كفر بآيات الله تعالى بعد ما آمن بها بعد بيان حال من لم يؤمن بها رأسا ومَنْ موصولة محلها الرفع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة «فعليهم غضب» الآتي عليه وحذف مثل ذلك كثير في الكلام، وجوز أيضا الرفع وكذا النصب على القطع لقصد الذم أي هم أو أذم من كفر والقطع للذم والمدح وإن تعورف في النعت، ومَنْ لا يوصف بها لكن لا مانع من اعتباره في غيره كالبدل وقد نص عليه سيبويه. نعم قال أبو حيان: إن النصب على الذم بعيد. وأجاز الحوفي والزمخشري كونها بدلا من الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وقوله تعالى:
وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ اعتراض بينهما. واعترضه أبو حيان. وغيره بأنه يقتضي أن لا يفتري الكذب إلا من كفر بعد إيمانه والوجود يقتضي أن من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن مطلقا وهم أكثر المفترين. وأيضا البدل هو المقصود والآية سيقت للرد على قريش وهم كفار أصليون. ووجه ذلك الطيبي بأن يراد بقوله تعالى: «من بعد إيمانه» من بعد تمكنه منه كقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: ١٦] وذكر أن فيه ترشيحا لطريق الاستدراج وتحسيرا لهم على ما فاتهم من التصديق وما اقترفوه من نسبته عليه الصلاة والسلام إلى الافتراء وفيه كما في الكشف أن قوله سبحانه: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ لا يساعد عليه، وحمل التمكن منه على ما هو أعم من التمكن في إحداثه وبقائه لا يخفى ما فيه.
وقال المدقق: الأولى في التوجيه أن يجعل المعنى من وجد الكفر فيما بينهم تغييرا على الارتداد أيضا وأن من وجد فيهم هذه الخصلة لا يبعد منه الافتراء ويجعل ذلك ذريعة إلى أن ينعى عليهم ما كانوا يفعلونه مع المؤمنين من المثلة ويدمج فيه الرخصة بإجراء كلمة الكفر على اللسان على سبيل الإكراه وتفاوت ما بين صاحب العزيمة والرخصة، ولا يخفى ما فيه أيضا وأنه غير ملائم لسبب النزول، وقال الخفاجي: لك أن تقول: الأقرب أن يبقى الكلام على ظاهره من غير تكلف وأن هذا تكذيب لهم على أبلغ وجه كما يقال لمن قال: إن الشمس غير طالعة في يوم صاح هذا ليس بكذب لأن الكذب يصدر فيما قد تقبله العقول ويكون هذا على تقدير أن يكون المراد في لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لا يهديهم إلى الحق فالله تعالى لما لم يهدهم إلى الحق والصدق وختم على حواسهم نزلوا منزلة من لم يعرفه حتى يساعده لسانه على النطق به فقبح إنكارهم له أجل من أن يسمى كذبا وإنما يكذب من تعمد ذلك ونطق به مرة، فتكون الآية الأولى للرد على قريش صريحا والأخرى دلالة على أبلغ وجه انتهى، ولعمري إنه نهاية في التكلف، ومثل هذا الابدال الابدال من أُولئِكَ والابدال من الْكاذِبُونَ وقد جوزهما الزمخشري أيضا وجوز الحوفي الأخير أيضا ولم يجوز الزجاج غيره.
وجوز غير واحد كون مَنْ شرطية مرفوعة المحل على الابتداء واستظهره في البحر والجواب محذوف لدلالة الآتي عليه كما سمعت في الوجه الأول، والكلام في خبر من الشرطية مشهور، وظاهر صنيع الزمخشري اختيار الابدال وهو عندي غريب منه. وفي الكشف أن كون مَنْ شرطية مبتدأ وجه ظاهر السداد إلا أن الذي حمل جار الله على إيثار كون مَنْ بدلا طلب الملاءمة بين أجزاء النظم الكريم لا أن يكون ابتداء بيان حكم، ولا يخفى ما في هذا العذر من الوهن، والظاهر أن استثناء مَنْ أُكْرِهَ أي على التلفظ بالكفر بأمر يخاف منه على نفسه أو عضو من أعضائه- من كفر- استثناء متصل لأن الكفر التلفظ بما يدل عليه سواء طابق الاعتقاد أولا.
قال الراغب: يقال كفر فلان إذا اعتقد الكفر ويقال إذا أظهر الكفر وإن لم يعتقد، فيدخل هذا المستثنى في المستثنى منه المذكور، وقيل: مستثنى من الخبر الجواب المقدر، وقيل: مستثنى مقدم من قوله تعالى فَعَلَيْهِمْ
471
غَضَبٌ
وليس بذاك، والمراد إخراجه من حكم الغضب والعذاب أو الذم وقوله سبحانه: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ حال من المستثنى، والعالم- كما في إرشاد العقل السليم- هو الكفر الواقع بالإكراه لا نفس الإكراه لأن مقارنة اطمئنان القلب بالإيمان للإكراه لا تجدي نفعا وإنما المجدي مقارنته للكفر الواقع به أي إلا من كفر بإكراه أو إلا من أكره فكفر والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته، وأصل معنى الاطمئنان سكون بعد انزعاج، والمراد هنا السكون والثبات على ما كان عليه بعد إزعاج الإكراه، وإنما لم يصرح بذلك العامل إيماء إلى أنه ليس بكفر حقيقة.
واستدل بالآية على أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار ليس ركنا فيه كما قيل. واعترض بأن من جعله ركنا لم يرد أنه ركن حقيقي لا يسقط أصلا بل أنه دال على الحقيقة التي هي التصديق إذ لا يمكن الاطلاع عليها فلا يضره عند سقوطه لنحو الإكراه والعجز فتأمل.
وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي اعتقده وطاب به نفسا وصَدْراً على معنى صدره إذ البشر في عجز عن شرح صدر غيره، ونصبه- كما قال الإمام- على أنه مفعول به- لشرح- وجوز بعضهم كونه على التمييز، ومَنْ إما شرطية أو موصولة لكن إذا جعلت شرطية- قال أبو حيان- لا بد من تقدير مبتدأ قبلها لأن لكن لا تليها الجمل الشرطية، والتقدير هنا ولكن هم من شرح بالكفر صدرا أي منهم ومثله قوله: ولكن متى يسترفد القوم أرفد. أي ولكن أنا متى تسترفد إلخ. وتعقب بأنه تقدير غير لازم، وقوله تعالى: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ جواب الشرط على تقدير شرطية مَنْ وهي على التقديرين مبتدأ وهذا خبرها على تقدير الموصولية وكذا على تقدير الشرطية في رأي والخلاف مشهور، وجعله بعضهم خبرا لمن هذه ولمن الأولى للاتحاد في المعنى إذ المراد- بمن كفر- الصنف الشارح بالكفر صدرا. وتعقبه في البحر بأن هاهنا جملتين شرطيتين وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على حدة فتقدير الحذف أحرى في صناعة الإعراب.
وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في ادعائه أن قوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة: ٩١] وقوله سبحانه: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ [الواقعة: ٨٩] جواب- لأما- ولأن هذا وهما أداتا شرط تلي إحداهما الأخرى، ويبعد بهذا عندي جعله خبرا لهما على تقدير الموصولة والاستدراك من الإكراه على ما قيل ووجه بأن قوله تعالى:
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ يوهم أن المكره مطلقا مستثنى مما تقدم، وقوله سبحانه: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ لا ينفي ذلك الوهم فاحتيج إلى الاستدراك لدفعه وفيه بحث ظاهر، وقيل: المراد مجرد التأكيد كما في نحو ذلك: لو جاء زيد لأكرمتك لكنه لم يجئ. وأنت تعلم ما في ذلك فتأمل جدا، وتنوين غَضَبٌ للتعظيم أي غضب عظيم لا يكتنه كنهه كائن مِنَ اللَّهِ جل جلاله وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم جرمهم فجوزوا من جنس عملهم، وفي اختيار الاسم الجليل من تربية المهابة وتقوية تعظيم العذاب ما فيه، والجمع في الضميرين المجرورين لمراعاة جانب المعنى كما أن الافراد في المستكن في الصلة لرعاية جانب اللفظ.
روي أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسمية على الارتداد فأبوا فربطوا سمية بين بعيرين وجيء بحربة في قبلها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا ياسرا وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه فقيل يا رسول الله إن عمارا كفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يبكي فجعل رسول الله ﷺ يمسح عينيه وقال: مالك ان عادوا فعد لهم بما قلت، وفي رواية أنهم أخذوه فلم يتركوه حتى سب النبي ﷺ وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: ما وراءك؟ قال: شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان قال ﷺ إن عادوا فعد
472
فنزلت هذه الآية،
وكأن الأمر بالعود في الرواية الأولى للترخيص بناء على ما قال النسفي إنه أدنى مراتبه وكذا الأمر في الرواية الثانية إن اعتبر مقيدا بما قيد به في الرواية الأولى، وأما إن اعتبر مقيدا بطمأنينة القلب كما في الهداية أي عد إلى جعلها نصب عينيك وأثبت عليها فالأمر للوجوب، والآية دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه وإن كان الأفضل أن يتجنب عن ذلك إعزازا للدين ولو تيقن القتل كما فعل ياسر وسمية وليس ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة بل هو كالقتل في الغزو كما صرحوا به.
وقد أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وعبد الرازق في تفسيره عن معمر أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله قال: فما تقول في؟ فقال: أنت أيضا فخلاه وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله قال: فما تقول في؟ فقال: أنا أصم فأعاد عليه ثلاثا فأعاد ذلك في جوابه فقتله فبلغ رسول الله ﷺ خبرهما فقال: أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى. وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له.
وفي أحكام الجصاص أنه يجب على المكره على الكفر إخطار أنه لا يريده فإن لم يخطر بباله ذلك كفر.
وفي شرح المنهاج لابن حجر لا توجد ردة مكره على مكفر قلبه مطمئن بالإيمان للآية، وكذا إن تجرد قلبه عنهما فيما يتجه ترجيحه لإطلاقهم أن المكره لا يلزمه التورية فافهم، وقال القاضي: يجب على المكره تعريض النفس للقتل ولا يباح له التلفظ بالكفر لأنه كذب وهو قبيح لذاته فيقبح على كل حال ولو جاز أن يخرج عن القبح لرعاية بعض المصالح لم يمتنع أن يفعل الله سبحانه الكذب لها وحينئذ لا يبقى وثوق بوعده تعالى ووعيده لاحتمال أنه سبحانه فعل الكذب لرعاية المصلحة التي لا يعلمها إلا هو، ورده ظاهر. وهذا الخلاف فيما إذا تعين على المكره إما التزام الكذب وإما تعريض النفس للتلف وإلا فمتى أمكنه نحو التعريض أو إخراج الكلام على نية الاستفهام الإنكاري لم يجب عليه تعريض النفس لذلك إجماعا. واستدل بإباحة التلفظ بالكفر عند الإكراه على إباحة سائر المعاصي عنده أيضا وفيه بحث، فقد ذكر الإمام أن من المعاصي ما يجب فعله عند الإكراه كشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير فإن حفظ النفس عن الفوات واجب فحيث تعين الأكل سبيلا ولا ضرر فيه لحيوان ولا إهانة لحق الله تعالى وجب لقوله تعالى:
وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ومنها ما يحرم كقتل إنسان محترم أو قطع عضو من أعضائه وفي وجوب القصاص على المكره قولان للشافعي عليه الرحمة، وذكر أن من الأفعال ما لا يقبل الإكراه ومثل بالزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة فحيث دل الزنا في الوجود علمنا أنه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله ذلِكَ إشارة إلى الكفر بعد الإيمان أو الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى:
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أو المذكور من الغضب والعذاب بِأَنَّهُمُ أي بسبب أن الشارحين صدورهم بالكفر اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا أي آثروها وقدموها ولتضمن الاستحباب معنى الإيثار قيل عَلَى الْآخِرَةِ فعدي بعلى، والمراد على ما في البحر أنهم فعلوا فعل المستحبين ذلك والا فهم غير مصدقين بالآخرة.
وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي إلى الإيمان وإلى ما يوجب الثبات عليه، وقيل: إلى الجنة. ورده الإمام وفسر بعضهم الهداية المنفية بهداية القسر أي لا يهدي هداية قسر وإلجاء ونسب إلى المعتزلة الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي في علمه تعالى المحيط فلا يعصمهم تعالى عن الزيغ وما يؤدي إليه من الغضب والعذاب، ولولا أحد الأمرين إما إيثار الحياة الدنيا على الآخرة وإما عدم هداية الله تعالى إياهم بأن آثروا الآخرة على الدنيا أو بأن هداهم الله سبحانه لما كان ذلك لكن كلاهما لا يكون لأنه خلاف ما في العلم بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر وقال البعض: لكن الثاني مخالف للحكمة والأول مما لا يدخل تحت الوقوع وإليه الإشارة بقوله سبحانه: أُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فلم تفتح لإدراك الحق واكتساب ما يوصل إليه، واستظهر أبو
473
حيان كون ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذاب، وقال: إن قوله تعالى استحبوا إشارة إلى الكسب وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إشارة إلى الاختراع فجمعت الآية الأمرين وذلك عقيدة أهل السنة فافهم، وقد تقدم للكلام على الطبع وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ أي الكاملون في الغفلة إذ لا غفلة أعظم من الغفلة عن تدبر العواقب والنظر في المصالح، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: غافلون عما يراد منهم في الآخرة.
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ إذ ضيعوا رؤوس أموالهم وهي أعمارهم وصرفوها فيما لا يفضي إلا إلى العذاب المخلد ولله تعالى من قال:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس عليه من الانفاق في غير واجب
ووقع في آية أخرى الْأَخْسَرُونَ [هود: ٢٢، النمل: ٥] وذلك لاقتضاء المقام على ما لا يخفى على الناظر فيه أو لأنه وقع في الفواصل هنا اعتماد الألف كالكافرين والغافلين فعبر به لرعاية ذلك وهو أمر سهل، وتقدم الكلام في لا جَرَمَ فتذكره فما في العهد من قدم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا إلى دار الإسلام وهم عمار وأضرابه أي لهم بالولاية والنصر لا عليهم كما يقتضيه ظاهر أعمالهم السابقة فالجار والمجرور في موضع الخبر لإن، وجوز أن يكون خبرها محذوفا لدلالة خبر إن الثانية عليه، والجار والمجرور متعلق بذلك المحذوف، وقال أبو البقاء: الخبر هو الآتي وإن الثانية واسمها تكرير للتأكيد ولا تطلب خبرا من حيث الإعراب، والجار والمجرور متعلق بأحد المرفوعين على الأعمال، وقيل: بمحذوف على جهة البيان كأنه قيل: أعني للذين أي الغفران وليس بشيء، وقيل: لا خبر لأن هذه في اللفظ لأن خبر الثاني أغنى عنه وليس بجيد كما لا يخفى وثُمَّ للدلالة على تباعد رتبة حالهم هذه عن رتبة حالهم التي يفيدها الاستثناء من مجرد الخروج عن حكم الغضب والعذاب لا عن رتبة حال الكفرة مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أي عذبوا على الارتداد، وأصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته ثم تجوز به عن البلاء وتعذيب الإنسان.
وقرأ ابن عامر «فتنوا» مبنيا للفاعل، وهو ضمير المشركين عند غير واحد أي عذبوا المؤمنين كالحضرمي أكره مولاه جبرا حتى ارتد ثم أسلما وهاجرا أو وقعوا في الفتنة فإن فتن جاء متعديا ولازما وتستعمل الفتنة فيما يحصل عند العذاب.
وقال أبو حيان: الظاهر أن الضمير عائد على الذين هاجروا والمعنى فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول كما فعل عمار أو لما كانوا صابرين على الإسلام وعذبوا بسبب ذلك صاروا كأنهم عذبوا أنفسهم ثُمَّ جاهَدُوا الكفار وَصَبَرُوا على مشاق الجهاد أو على ما أصابهم من المشاق مطلقا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي المذكورات من الفتنة والهجرة والجهاد والصبر، وهو تصريح بما أشعر به بناء الحكم على الموصول من علية الصلة.
وجوز أن يكون الضمير للفتنة المفهومة من الفعل السابق ويكون ما ذكر بيانا لعدم إخلال ذلك بالحكم، وقال ابن عطية: يجوز أن يكون للتوبة والكلام يعطيها وإن لم يجر لها ذكر صريح لَغَفُورٌ لما فعلوا من قبل رَحِيمٌ ينعم عليهم مجازاة لما صنعوا من بعد، وفي التعرض لعنوان الربوبية في الموضعين إيماء إلى علة الحكم وما في إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام مع ظهور الأثر في الطائفة المذكورة إظهار لكمال اللطف به ﷺ بأن إفاضة آثار الربوبية عليهم من المغفرة والرحمة بواسطة عليه الصلاة والسلام ولكونهم أتباعا له.
هذا وكون الآية في عمار واضرابه رضي الله تعالى عنهم مما ذكره غير واحد، وصرح ابن إسحاق بأنها نزلت فيه وفي عياش بن أبي ربيعة والوليد بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد، وتعقبه ابن عطية بأن ذكر عمار في ذلك غير قويم
474
فإنه أرفع طبقة هؤلاء، وهؤلاء ممن شرح بالكفر صدرا فتح الله تعالى لهم باب التوبة في آخر الآية، وذكر أن الآية مدنية وأنه لا يعلم في ذلك خلافا، ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت فكتب بها المسلمون إلى من كان أسلم بمكة إن الله تعالى قد جعل لكم مخرجا فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل، وأخرج ذلك ابن مردويه، وفي رواية أنهم خرجوا واتبعوا وقاتلوا فنزلت، وأخرج هذا ابن المنذر وغيره عن قتادة، فالمراد بالجهاد قتالهم لمتبعيهم، وأخرج ابن جرير عن الحسن. وعكرمة أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله ﷺ فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتل يوم فتح مكة فاستجار له عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد نزلت فيه وفي أشباهه كما صرح به في بعض الروايات، وفسروا فُتِنُوا على هذا بفتنهم الشيطان وأزلهم حتى ارتدوا باختيارهم، وما ذكره ابن عطية فيمن ذكر مع عمار غير مسلم، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن عياشا رضي الله تعالى عنه كان أخا أبي جهل لأمه وكان يضربه سوطا وراحلته سوطا ليرتد عن الإسلام. وفي التفسير الخازني أن عياشا وكان أخا أبي جهل من الرضاعة، وقيل: لأمه. وأبا جندل بن سهل بن عمرو. وسلمة بن هشام. والوليد بن المغيرة. وعبد الله بن سلمة الثقفي فتنهم المشركون وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا والآية نزلت فيهم، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ نصب على الظرفية- برحيم- وقيل: على أنه مفعول به لا ذكر محذوفا، ورجح الأول بارتباط النظم عليه ومقابلته لقوله تعالى: فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ولا يضر تقييد الرحمة بذلك اليوم لأن الرحمة في غيره تثبت بالطريق الأولى، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها تدافع وتسعى في خلاصها بالاعتذار ولا يهمها شأن غيرها من ولد ووالد وقريب. أخرج أحمد في الزهد. وجماعة عن كعب قال: كنت عند عمر ابن الخطاب فقال: خوفنا يا كعب فقلت: يا أمير المؤمنين أو ليس فيكم كتاب الله تعالى وحكمة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ قال:
بلى ولكن خوفنا قلت: يا أمير المؤمنين لو وافيت يوم القيامة بعمل سبعين نبيا لازدرأت عملك مما ترى قال: زدنا قلت: يا أمير المؤمنين إن جهنم لتزفر زفرة يوم القيامة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خرّ جاثيا على ركبتيه حتى إن إبراهيم خليله ليخر جاثيا على ركبتيه فيقول: رب نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي فأطرق عمر مليا قلت: يا أمير المؤمنين أو ليس تجدون هذا في كتاب الله؟ قال: كيف؟ قلت: قول الله تعالى في هذه الآية: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ إلخ، وجعل بعضهم هذا القول هو الجدال ولم يرتضه ابن عطية، والحق أنه ليس فيه إلا الدلالة على عدم الاهتمام بشأن الغير وهو بعض ما تدل عليه الآية وعن ابن عباس أن هذه المجادلة بين الروح والجسد يقول الجسد:
بك نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي ولولاك لكنت خشبة ملقاة وتقول الروح: أنت كسبت وعصيت لا أنا وأنت كنت الحامل وأنا المحمول فيقول الله تعالى: أضرب لكما مثلا أعمى حمل ومقعدا إلى بستان فأصابا من ثماره فالعذاب عليكما، والظاهر عدم صحة هذا عن هذا الحبر وهو أجل من أن يحمل المجادلة في الآية على ما ذكر.
وضمير نَفْسِها عائد على النفس الأولى فكأنه قيل: عن نفس النفس، وظاهره إضافة الشيء إلى نفسه، فوجه بأن النفس الأولى هي الذات والجملة أي الشخص بأجزائه كما في قولك، نفس كريمة ونفس مباركة، والثانية عينها أي التي تجري مجرى التأكيد ويدل على حقيقة الشيء وهويته بحسب المقام، والفرق بينهما أن الأجزاء ملاحظة في الأول دون الثاني، والأصل هو الثاني لكن لعدم المغايرة في الحقيقة بين الذات وصاحبها استعمل بمعنى الصاحب ثم أضيف الذات إليه، فوزان كُلُّ نَفْسٍ وزان قولك: كل أحد كذا في الكشف، وفي الفرائد المغايرة شرط بين المضاف إليه لامتناع النسبة بدون المنتسبين فلذلك قالوا: يمتنع إضافة الشيء إلى نفسه إلا أن المغايرة قبل الإضافة
475
كافية وهي محققة هاهنا لأنه لا يلزم من مطلق النفس نفسك ويلزم من نفسك مطلق النفس فلما أضيف ما لا يلزم أن يكون نفسك إلى نفسك صحت الإضافة وإن اتحدا بعد الإضافة، ولذا جاز عين الشيء وكله ونفسه بخلاف أسد الليث وحبس المنع ونحوهما، وقال ابن عطية: النفس الأولى هي المعروفة والثانية هي البدن، وقال العسكري: الإنسان يسمى نفسا تقول العرب: ما جاءني إلا نفس واحدة أي إنسان واحدة، والنفس في الحقيقة لا تأتي لأنها هي الشيء الذي يعيش به الإنسان فتأمل ففي النفس من بعض ما قالوه شيء، والظاهر أن السؤال والجواب المشهورين في- كل رجل وضيعته- يجريان هاهنا فتفطن.
وفي البحر إنما لم تجىء- تجادلها عنها- بدل تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها لأن الفعل إذا لم يكن من باب ظن وفقد لا يتعدى ظاهرا كان فاعله أو مضمرا إلى ضميره المتصل فلا يقال. ضربتها هند أو هند ضربتها وإنما يقال: ضربت نفسها هند وهند ضربت نفسها، وتأنيث تَأْتِي مع إسناده إلى كُلُّ وهو مذكر لرعاية المعنى، وكذا يقال فيما بعد، وعلى ذلك جاء قوله:
جادت عليها كل عين ثرة فتركن كل حديقة كالدرهم
وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ أي تعطى وافيا كاملا ما عَمِلَتْ أي جزاء عملها أو الذي عملته إن خيرا فخيرا وإن شرا بطريق اطلاق اسم السبب على المسبب إشعارا بكمال الاتصال بين الأجزية والأعمال، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير وللإيذان باختلاف وقتي المجادلة والتوفية وإن كانتا في يوم واحد.
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بزيادة العقاب أو بالعقاب بغير ذنب وقيل: بنقص أجورهم. وتعقب بأنه علم من السابق.
وأجيب بأن القائل به لعله أراد بجزاء ما علمت العقاب، وعلى تقدير إرادة الأعم فهذا تكرار للتأكيد ووجه ضمير الجمع ظاهر وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً أي أهل قرية وذلك إما بإطلاق القرية وإرادة أهلها وإما بتقدير مضاف، وانتصابه على أنه مفعول أول- لضرب- على تضمينه معنى الجعل، وأخر لئلا يفصل الثاني بين الموصوف وصفته وما يترتب عليها، وتأخيره عن الكل مخل بتجاوب أطراف النظم الجليل وتجاذبه، ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس شوقا لوروده لا سيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه كما هنا فيتمكن عند وروده فضل تمكن، وعن الزجاج أن النصب على البدلية والأصل عنده ضرب الله مثلا مثل قرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والمراد بالقرية إما قرية محققة من قرى الأولين، وإما مقدرة ووجود المشبه به غير لازم، ولم يجوز ذلك أبو حيان لمكان وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ وأنت تعلم أنه غير مانع.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أنها مكة، وروي هذا عن ابن زيد وقتادة وعطية، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن سليم بن عمر قال: صحبت حفصة زوج النبي ﷺ وهي خارجة من مكة إلى المدينة فأخبرت أن عثمان قد قتل فرجعت وقالت: ارجعوا بي فوالذي نفسي بيده إنها للقرية التي قال الله تعالى وتلت ما في الآية، ولعلها أرادت أنها مثلها ويمكن حمل ما روي عن الخبر ومن معه على ذلك، والمعنى جعلها الله تعالى مثلا لأهل مكة أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمة ففعلوا ما فعلوا فجوزوا بما جوزوا، ودخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا. ولعله المختار كانَتْ آمِنَةً قيل: ذات أمن لا يأتي عليها ما يوجب الخوف كما يأتي على بعض القرى من إغارة أهل الشر عليها وطلب الإيقاع بها مُطْمَئِنَّةً ساكنة قارة لا يحدث فيها ما يوجب الانزعاج كما يحدث في بعض القرى من الفتن بين أهاليها ووقوع بعضهم في بعض فإنها قلما تأمن من إغارة شرير عليها وهيهات هيهات أن ترى شخصين متصادقين فيها:
476
والمرء يخشى من أبيه وابنه ويخونه فيها أخوه وجاره
وقيل: يفهم من كلام بعضهم أن الاطمئنان أثر الأمن ولازمه من حيث إن الخوف يوجب الانزعاج وينافي الاطمئنان، وفي البحر أنه زيادة في الأمن يَأْتِيها رِزْقُها أقواتها رَغَداً واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ من جميع نواحيها، وغير أسلوب هذه الصفة عما تقدم إلى ما ترى لما أن إتيان الرزق متجدد وكونها آمنة مطمئنة ثابت مستمر، وذكر الإمام أن الآية تضمنت ثلاث نعم جمعها قولهم:
ثلاثة ليس لها نهايه الأمن والصحة والكفاية
فآمنة إشارة إلى الأمن ومُطْمَئِنَّةً إلى الصحة ويَأْتِيها رِزْقُها إلخ إلى الكفاية، وجعل سبب الاطمئنان ملاءمة هواء البلد لأمزجة أهله وفيه تأمل فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ جمع نعمة كشدة وأشد على ترك الاعتداد بالتاء لأن المطرد جمع فعل على أفعل لا فعلة، وقال الفاضل اليمنى: اسم جمع للنعمة، وقطرب جمع نعم بضم النون كبؤس وأبؤس، والنعم عنده بمعنى النعيم، وحمل على ذلك قولهم: هذا يوم طعم ونعم، وعند غيره بمعنى النعمة، والمراد بالنعم ما تضمنته الآية قبل ولعله في قوة نعم كثيرة بل هو كذلك، وفي إيثار جمع القلة إيذان بأن كفران نعم قليلة أوجبت هذا العذاب فما ظنك بكفران نعم كثيرة فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ شبه أثر الجوع والخوف وضررهما الغاشي باللباس بجامع الإحاطة والاشتمال فاستعير له اسمه وأوقع عليه الإذاقة المستعارة للإصابة، وأوثرت للدلالة على شدة التأثير التي تفوت لو استعملت الإصابة، وبينوا العلامة بأن المدرك من أثر الضرر شبه بالمدرك من طعم المر البشع من باب استعارة محسوس لمعقول لأن الوجدانيات لزت في قرن العقليات، وكذا يقال في الأول، ولشيوع استعمال الاذاقة في ذلك وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة ولذا جعل إيقاعها على اللباس تجريدا، فإن التجريد إنما يحسن أو يصح بالحقيق أو ما ألحق بها من المجاز الشائع، فلا فرق في هذا بين أذاقها إياه وأصابها به، وإنما لم يقل: فكساها إيثارا للترشيح لئلا يفوت ما تفيده الاذاقة من التأثير والإدراك وطعم الجوع لما في اللباس من الدلالة على الشمول. وصاحب المفتاح حمل اللباس على انتفاع اللون ورثاثة الهيئة اللازمين للجوع والخوف، والاستعارة حينئذ من باب الاستعارة المحسوس للمحسوس، وما ذكر أولا أولى إذ لا يجل موقع الاذاقة وتكون الإصابة أبلغ موقعا.
ونقل عن الأصحاب أن لفظ اللباس عندهم تخييل، وبين ذلك بأن يشبه الجوع والخوف في التأثير بذي لباس قاصد للتأثير مبالغ فيه فيخترع له صورة كاللباس ويطلق عليها اسمه واعترض بأن ذلك لا يلائم بلاغة القرآن العظيم لأن الجوع إذا شبه بالمؤثر القاصد الكامل فيما تولاه ناسب أن تخترع له صورة ما يكون آلة للتأثير لا صورة اللباس الذي لا مدخل له فيه، وتعقب بأن صاحب المفتاح يرى أن التخييلية مستعملة في أمر وهمي توهمه المتكلم شبيها بمعناه الحقيقي فاللباس إذا كان تخييلا يجوز أن يكون المراد به أمرا مشتملا على الجوع اشتمال اللباس كالقحط ومشتملا على الخوف كإحاطة العدو فلا وجه لقوله: صورة اللباس مما لا دخل له في التأثير، والقول بأنه لا يناسب مع الفاعل إلا ذكر الآلة للتأثير مما لم يصرح به أحد من القوم ولا يتأتى التزامه في كل مكنية، ألا تراك لو قلت: مسافة القريض ما زال يطويها حتى نزل ببابه على تشبيه المدح بمسافر ثبت له المسافة تخييلا وما بعده ترشيح كانت استعارة حسنة وليس قرينتها آلة لذلك الفاعل بل أمر من لوازمه، ومثله كثير في كلام البلغاء انتهى.
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يفيد عند صحيح التخيل تميز ما نقل عن الأصحاب على ما ذكر أولا ولا مساواته له، والمشهور أن في لِباسَ استعارتين تصريحية ومكنية، وبين ذلك بأن شبه ما غشي الإنسان عند الجوع والخوف من أثر الضرر من حيث الاشتمال باللباس فاستعير له اسمه ومن حيث الكراهة بالطعم المر البشع فيكون
477
استعارة مصرحة نظر إلى الأول ومكنية إلى الثانية وتكون الاذاقة تخييلا، وفيه بحث مشهور بين الطلبة، وجوز أن يكون لباس الْجُوعِ كلجين الماء أي أذاقها الله الجوع الذي هو في الإحاطة كاللباس، والأول أيضا أولى، ومثل ذلك قول كثير:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال
فإنه استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبة صون الرداء. لما يلقي عليه وأضاف إليه الغمر وهو في وصف المعروف استعارة جرت مجرى الحقيقة وحقيقته من الغمرة وهي معظم الماء وكثرته، وتقديم «الجوع» الناشئ من فقدان الرزق على الْخَوْفِ المترتب على زوال الأمن المقدم فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسب بالاذاقة أو لمراعاة المقارنة بين ذلك وبين إتيان الرزق.
وفي مصحف أبي «لباس الخوف والجوع» بتقديم الخوف، وكذا قرأ عبد الله إلا أنه لم يذكر اللباس وعد ذلك أبو حيان تفسيرا لا قراءة، وروى العباس عن أبي عمرو أنه قرأ «والخوف» بالنصب عطفا على لِباسَ وجعله الزمخشري على حذف مضاف وإقامة المضاف مقامه أي ولبسا الخوف.
وقال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل، وفي مقابلة ما تقدم بالجوع والخوف فقط ما يشير إلى عد الأمن والاطمئنان كالشيء الواحد وإلا فكان الظاهر فاذاقها الله لباس الجوع والخوف والانزعاج بِما كانُوا يَصْنَعُونَ فيما قبل أو على وجه الاستمرار وهو الكفران المذكور، وما موصولة والعائد محذوف أي يصنعونه، وجوز أن تكون مصدرية والباب على الوجهين بسببية والضميران قيل: عائدان على- أهل- المقدر المضاف إلى القرية بعد ما عادت الضمائر السابقة إلى لفظها، وقيل: عائدات إلى القرية مرادا بها أهلها.
وفي إرشاد العقل السليم أسند ما ذكر إلى أهل القرية تحقيقا للأمر بعد إسناد الكفران إليها وإيقاع الإذاقة عليها إرادة للمبالغة، وفي صيغة الصنعة إيذان بأن كفران الصنيعة صنعة راسخة لهم وسنة مسلوكة وَلَقَدْ جاءَهُمْ من تتمة التمثيل، والضمير فيه عائد على من عاد إليه الضميران قبله، وجيء بذلك لبيان أن ما صنعوه من كفران الله تعالى لم يكن مزاحمة منهم لقضية العقل فقط بل كان ذلك معارضة لحجة الله تعالى على الخلق أيضا أي ولقد جاء أهل تلك القرية رَسُولٌ مِنْهُمْ أي من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه فأخبرهم بوجوب الشكر على النعمة وأنذرهم بسوء عاقبة ما هم عليه فَكَذَّبُوهُ في رسالته أو فيما أخبرهم به مما ذكر، فالفاء فصيحة وعدم ذكر ما أفصحت عنه للإيذان بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تلعثم فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ المستأصل لشأفتهم غب ما ذاقوا منه ما سمعت وَهُمْ ظالِمُونَ أي حال التباسهم بالظلم وهو الكفران والتكذيب غير مقلعين عنه بما ذاقوا من المقدمات الزاجرة عنه، وفيه دلالة على تماديهم في الكفر والعناد وتجاوزهم في ذلك كل حد معتاد.
وترتيب أخذ العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قوله سبحانه: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥] وبه يتم التمثيل فإن حال أهل مكة سواء ضرب المثل لهم خاصة أولهم ولمن سار سيرتهم كافة أشبه بحال أهل تلك القرية من الغراب بالغراب فقد كانوا في حرم آمن يتخطف الناس من حولهم ولا يمر ببالهم طيف من الخوف ولا يزعج قطا قلويهم مزعج وكانت تجبى إليه ثمرات كل شيء ولقد جاءهم رسول منهم وأي رسول تحار في إدراك سمو مرتبة العقول ﷺ ما اختلف الدبور والقبول فانذرهم وحذرهم فكفروا بأنعم الله تعالى وكذبوه عليه الصلاة والسلام فأذاقهم الله تعالى لباس الجوع والخوف حيث أصابهم
بدعائه ﷺ «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف»
ما أصابهم من جدب شديد وأزمة ما عليها مزيد
478
فاضطروا إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحروقة والعلهز وهو طعام يتخذ في سني المجاعة من الدم والوبر وكان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول الله ﷺ حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وعيرهم وقوافلهم ثم أخذهم يوم بدر ما أخذهم من العذاب هذا ما اختاره شيخ الإسلام وقال: إنه الذي يقتضيه المقام ويستدعيه النظام، وأما ما أجمع عليه أكثر أهل التفسير من أن الضمير في قوله تعالى: «ولقد جاءهم» لأهل مكة والكلام انتقال إلى ذكر حالهم صريحا بعد ذكر مثلهم وأن المراد بالرسول محمد ﷺ وبالعذاب ما أصابهم من الجدب ووقعة بدر فبمعزل عن التحقيق كيف لا وقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مفرع على نتيجة التمثيل وصد لهم عما يؤدي إلى مثل عاقبته، والمعنى وإذا قد استبان لكم حال من كفر بأنعم الله تعالى وكذب رسوله وما حل بهم بسبب ذلك من اللتيا والتي أولا وآخرا فانتهوا عما أنتم عليه من كفران النعم وتكذيب الرسول ﷺ كيلا يحل بكم ما حل بهم واعرفوا حق نعم الله تعالى وأطيعوا الرسول عليه الصلاة والسلام في أمره ونهيه فكلوا من رزق الله تعالى حال كونه حَلالًا طَيِّباً وذروا ما تفترون من تحريم البحائر ونحوها وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ واعرفوا حقها ولا تقاتلوها بالكفران.
والفاء في المعنى داخلة على الأمر بالشكر وإنما دخلت على الأمر بالأكل لكون الأكل ذريعة إلى الشكر فكأنه قيل: فاشكروا نعمة الله غب أكلها حلالا طيبا وقد أدمج فيه النهي عن زعم الحرمة ولا ريب في أن هذا إنما يتصور حين كان العذاب المستأصل متوقعا بعد وقد تمهدت مبادية وأما بعد ما وقع فمن ذا الذي يحذر ومن ذا الذي يؤمر بالأكل والشكر وحمل قوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ على الأخبار بذلك قبل الوقوع يأباه التصدي لاستصلاحهم بالأمر والنهي وإن لم يأباه التعبير بالماضي لأن استعماله في المستقبل المتحقق الوقوع مجازا كثير.
وتوجيه خطاب الأمر بالأكل إلى المؤمنين مع أن ما يتلوه من خطاب النهي متوجه إلى الكفار كما فعل الواحدي قال: فكلوا أنتم يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله تعالى من الغنائم مما لا يليق بشأن التنزيل اه. وتعقب بأنه بعد ما فسر العذاب بالعذاب المستأصل للشأفة كيف يراد به ما وقع في بدر وما بقي منهم أضعاف ما ذهب وإن كان مثل ذلك كافيا في الاستئصال فليكن المحذر والمأمور الباقي منهم، وما ذكره عن الواحدي من توجيه خطاب الأمر بالأكل للمؤمنين رواه الإمام عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثم نقل عن الكلبي ما يستدعي أن الخطاب لأهل مكة حيث قال: إن رؤساء مكة كلموا رسول الله ﷺ حين جهدوا وقالوا: عاديت الرجال فما بال الصبيان والنساء وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله ﷺ فأذن في الحمل إليهم فحمل الطعام إليهم فقال الله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ إلخ ثم قال: والقول ما قال ابن عباس يدل عليه قوله تعالى فيما بعد: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ إلخ يعني أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهو الميتة والدم اه. وفي التفسير الخازني أن كون الخطاب للمؤمنين من أهل المدينة هو الصحيح فإن الصحيح أن الآية مدنية كما قال مقاتل وبعض المفسرين، والمراد بالقرية مكة وقد ضربها الله تعالى لأهل المدينة يخوفهم ويحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم فيصيبهم ما أصابهم من الجوع والخوف ويشهد لصحة ذلك أن الخوف المذكور في الآية كان من البعوث والسرايا التي كانت يبعثها رسول الله ﷺ في قول جميع المفسرين لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يؤمر بالقتال وهو بمكة وإنما أمر به وهو بالمدينة فكان ﷺ يبعث البعوث إلى مكة يخوفهم بذلك وهو بالمدينة، والمراد بالعذاب ما أصابهم من الجوع والخوف وهو أولى من أن يراد به القتل يوم بدر، والظاهر أن قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ إلخ عنده كما هو عند الجمهور انتقال من التمثيل بهم إلى التصريح بحالهم الداخلة فيه وليس من تتمته فإنه على ما قيل خلاف المتبادر
479
إلى الفهم. نعم كون خطاب النهي فيما بعد للمؤمنين بعيد غاية البعد، وجعله للكفار مع جعل خطاب الأمر السابق للمؤمنين بعد أيضا لكن دون ذلك. وادعى أبو حيان أن الظاهر أن خطاب النهي كخطاب الأمر للمكلفين كلهم، ونقل كون خطاب للنهي لهم عن العسكري، وكونه للكفار عن الزمخشري وابن عطية والجمهور، ولعل الأولى ما ذكره شيخ الإسلام إلا أن تقييد العذاب بالمستأصل ودعوى أن حال أهل مكة كحال أهل تلك القرية حذو القذة بالقذة من غير تفاوت بينهما ولو في خصلة فذة لا يخلو عن شيء من حيث إن أهل مكة لم يستأصلوا فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ تطيعون أو إن صح زعمكم إنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته سبحانه ومن قال: إن الخطاب للمؤمنين أبقى هذا على ظاهره أي إن كنتم تخصونه تعالى بالعبادة، والكلام خارج مخرج التهييج.
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ تعليل لحل ما أمرهم بأكله مما رزقهم، والحصر إضافي على ما قال غير واحد أي إنما حرم أكل هذه الأشياء دون ما تزعمون من البحائر والسوائب ونحوها فلا ينافي تحريم غير المذكورات كالسباع والحمر الأهلية، وقيل: الحصر على ظاهره والسباع ونحوها لم تحرم قبل وإنما حرمت بعد وليس الحصر إلا بالنظر إلى الماضي، وقال الإمام: إنه تعالى حصر المحرمات في الأربع في هذه السورة وفي سورة [الأنعام: ١٤٥] بقوله سبحانه: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً إلخ وهما مكيتان وحصرها فيها أيضا في البقرة وكذا في [المائدة: ١] فإنه تعالى قال فيها أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فأباح الكل إلا ما يتلى عليهم، وأجمعوا على أن المراد بما يتلى هو قوله تعالى في تلك السورة:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة: ٣] وما ذكره تعالى من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع داخل في الميتة وما ذبح على النصب داخل فيما أهل به لغير الله، فثبت أن هذه السور الأربع دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع، وسورتا النحل والأنعام مكيتان وسورتا البقرة والمائدة مدنيتان، والمائدة من آخر ما نزل بالمدينة فمن أنكر حصر التحريم في الأربع إلا ما خصه الإجماع والدلائل القاطعة كان في محل أن يخشى عليه لأن هذه السور دلت على أن حصر المحرمات فيها كان مشروعا ثابتا في أول أمر مكة وآخرها وأول المدينة وآخرها، وفي إعادة البيان قطع للأعذار وإزالة للشبه اه نتفطن ولا تغفل فَمَنِ اضْطُرَّ أي دعته ضرورة المخمصة إلى تناول شيء من ذلك غَيْرَ باغٍ على مضطر آخر وَلا عادٍ متعد قدر الضرورة وسد الرمق فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لا يؤاخذه سبحانه بذلك فأقيم سببه مقامه، ولتعظيم أمر المغفرة والرحمة جيء بالاسم الجليل، وقدسها شيخ الإسلام فظن أن الآية فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: ١٤٥] فبين سر التعرض لوصف الربوبية والإضافة إلى ضميره ﷺ وسبحان من لا يسهو.
واستدل بالآية على أن الكافر مكلف بالفروع، ثم إنه تعالى أكد ما يفهم من الحصر بالنهي عن التحريم والتحليل بالأهواء فقال عز قائلا: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ إلخ، ولا ينافي ذلك العطف كما لا يخفى، واللام صلة القول مثلها في قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ [البقرة: ١٥٤] وقولك: لا تقل للنبيذ إنه حلال، ومعناها الاختصاص، و «ما» موصولة والعائد محذوف أي لا تقولوا في شأن الذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام: ١٣٩] من غير ترتب ذلك الوصف على ملاحظة وفكر فضلا عن استناده إلى وحي أو قياس مبني عليه بل مجرد قول باللسان.
الْكَذِبَ منتصب على أنه مفعول به- لتقولوا- وقوله سبحانه: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ بدل منه بدل كل، وقيل: منصوب بإضمار أعني، وقيل: الْكَذِبَ منتصب على المصدرية وهذا مقول القول.
480
وجوز أن يكون بدل اشتمال، وجوز أن يكون الْكَذِبَ مقول القول المذكور ويضمر قول آخر بعد الوصف واللام على حالها أي لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقول هذا حلال وهذا حرام، والجملة مبينة ومفسرة لقوله تعالى: تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ كما في قوله سبحانه: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: ٥٤] وجوز أن لا يضمر القول على المذهب الكوفي وأن يقدر قائله على أن المقدر حال من الألسنة، ويجوز أن يكون اللام للتعليل وما مصدرية والْكَذِبَ مفعول الوصف وهذا حَلالٌ إلخ مقول القول أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لأجل وصف ألسنتكم الكذب، وإلى هذا ذهب الكسائي. والزجاج، وحاصله لا تحلوا ولا تحرموا لمجرد وصف ألسنتكم الكذب وتصويرها له وتحقيقها لماهيته كأن ألسنتهم لكونها منشأ للكذب ومنبعا للزور شخص عالم بكنهه ومحيط بحقيقته يصفه للناس ويعرفه أوضح وصف وأبين تعريف، ومثل هذا وارد في كلام العرب والعجم تقول: له وجه يصف الجمال وريق يصف السلاف وعين تصف السحر، وتقدم بيت المعري، وقد بولغ في الآية من حيث جعل قولهم كذبا ثم جعل اللسان الناطقة بتلك المقالة ينبوعه مصورة إياه بصورته التي هو عليها وهو من باب الاستعارة بالكتابة وجعله بعضهم من باب الإسناد المجازي نحو نهاره صائم كأن ألسنتهم لكونها موصوفة بالكذب صارت كأنها حقيقته ومنبعه الذي يعرف منه حتى كأنه يصفه ويعرفه كقوله:
أضحت يمينك من جود مصورة لا بل يمينك منها صور الجود
وقرأ الحسن وابن يعمر وطلحة والأعرج وابن أبي إسحاق وابن عبيد ونعيم بن ميسرة «الكذب» بالجر، وخرج على أن يكون بدلا من ما مع مدخولها، وجعله غير واحد صفة- لما- المصدرية مع صلتها.
وتعقبة أبو حيان بأن المصدر المسبوك من ما أو ان أو كي مع الفعل معرفة كالمضمر لا يجوز نعته فلا يقال:
أعجبني أن تقوم السريع كما يقال: أعجبني قيامك السريع، وليس لكل مقدر حكم المنطوق به وإنما يتبع بذلك كلام العرب. وقرأ معاذ. وابن أبي عبلة. وبعض أهل الشام «الكذب» بضم الثلاثة صفة للألسنة وهو جمع كذوب كصبور وصبر، قال صاحب اللوامح: أو جمع كذاب بكسر الكاف وتخفيف الذال مصدر كالقتال وصف به مبالغة وجمع فعل ككتاب وكتب أو جمع كاذب كشارف وشرف. وقرأ مسلمة بن محارب كما قال ابن عطية أو يعقوب كما قال صاحب اللوامح ونسب قراءة معاذ ومن معه إلى مسلمة «الكذب» بضمتين والنصب، وخرج على أوجه. الأول إن ذلك منصوب على الشتم والذم وهو نعت للألسنة مقطوع.
الثاني مفعول به- لتصف- أو تَقُولُوا والمراد الكلم الكواذب: الثالث أنه مفعول مطلق- لتصف- من معناه على أنه جمع كذاب المصدر، وأعرب هذا حَلالٌ إلخ على ما مر ولا إشكال في إبداله لأنه كلم باعتبار مواده وكلاما ظاهرا لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ اللام لام العاقبة والصيرورة وللتعليل لأن ما صدر منهم ليس لأجل الافتراء على الله تعالى بل لأغراض أخر ويترتب على ذلك ما ذكر، وإلى هذا ذهب الزمخشري وجماعة، وقال بعضهم: يجوز أن تكون للتعليل ولا يبعد قصدهم لذلك كما قالوا: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف: ٢٨] وفي البحر أنه الظاهر ولا يكون ذلك على سبيل التوكيد للتعليل السابق على احتمال كون اللام للتعليل وما مصدرية لأن في هذا التنبيه على من افتروا الكذب عليه وليس فيما مر بل فيه إثبات الكذب مطلقا ففي إشارة إلى أنهم لتمرنهم على الكذب اجترءوا على الكذب على الله تعالى فنسبوا ما حللوا وحرموا إليه سبحانه. وقال الواحدي: إن لِتَفْتَرُوا بدل من لِما تَصِفُ إلخ لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله تعالى، وهو على ما في البحر أيضا على تقدير كون ما مصدرية لأنها إذا جعلت موصولة لا تكون اللام للتعليل ليبدل من ذلك ما يفهم التعليل، وقيل: لا مانع من التعليل على
481
تقدير الموصولية فعند قصد التعليل يجوز الإبدال، وحاصل معنى الآية على ما نص عليه العسكري لا تسموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله تعالى ورسوله ﷺ حلالا ولا حراما فتكونوا كاذبين على الله تعالى لأن مدار الحل والحرمة ليس إلا حكمه سبحانه، ومن هنا قال أبو نضرة: لم أزل أخاف الفتيا منذ سمعت آية النحل إلى يومي هذا.
وقال ابن العربي: كره مالك وقوم أن يقول المفتي هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية وإنما يقال ذلك فيما نص الله تعالى عليه، ويقال في مسائل الاجتهاد: إني أكره كذا وكذا ونحو ذلك فهو أبعد من أن يكون فيه ما يتوهم منه الافتراء على الله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في أمر من الأمور لا يُفْلِحُونَ لا يفوزون بمطلوب مَتاعٌ قَلِيلٌ أي منفعتهم التي قصدوها بذلك الافتراء منفعة قليلة منقطعة عن قريب- فمتاع- خبر مبتدأ محذوف وقَلِيلٌ صفته والجملة استئناف بياني كأنه لما نفي عنهم الفوز بمطلوب قيل: كيف ذلك وهم قد تحصل لهم منفعة بالافتراء؟ فقيل: ذاك متاع قليل لا عبرة به ويرجع الأمر بالآخرة إلى أن المراد نفي الفوز بمطلوب يعتد به، وإلى كون مَتاعٌ خبر مبتدأ محذوف ذهب أبو البقاء إلا أنه قال: أي بقاؤهم متاع قليل ونحو ذلك. وقال الحوفي: مَتاعٌ قَلِيلٌ مبتدأ وخبر، وفيه أن النكرة لا يبتدأ بها بدون مسوغ وتأويله بمتاعهم ونحوه بعيد وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لا يكتنه كنهه وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا خاصة دون غيرهم من الأولين حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل نزول هذه الآية وذلك في قوله تعالى في سورة [الأنعام: ١٤٦] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الآية، والظاهر أن مِنْ قَبْلُ متعلق- بقصصنا- وجوز تعليقه- بحرمنا- والمضاف إليه المقدر ما مر أيضا.
ويحتمل أن يقدر مِنْ قَبْلُ تحريم ما حرم على أمتك، وهو أولى على ما قيل، وجوز أن يكون الكلام من باب التنازع، وهذا تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالف من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك، فإنهم كانوا يقولون: لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح. وإبراهيم. ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا وَما ظَلَمْناهُمْ بذلك التحريم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث فعلوا ما عوقبوا عليه بذلك حسبما نعى عليهم قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: ١٦٠] الآية، وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم وإنه كما يكون للمضرة يكون للعقوبة.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ هو ما يسيء صاحبه من كفر أو معصية ويدخل فيه الافتراء على الله تعالى، وعن ابن عباس أنه الشرك، والتعميم أولى بِجَهالَةٍ أي بسببها، على معنى أن الجهالة السبب الحامل لهم على العمل كالغيرة الجاهلية الحاملة على القتل وغير ذلك، وفسرت الجهالة بالأمر الذي لا يليق، وقال ابن عطية: هي هنا تعدي الطور وركوب الرأس لا ضد العلم، ومنه ما جاء
في الخبر «اللهم أعوذ بك من أن أجهل أو يجهل علي»
وقول الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
نعم كثيرا ما تصحب هذه الجهالة التي هي بمعنى ضد العلم، وفسرها بعضهم بذلك وجعل الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ملتبسين بجهالة غير عارفين بالله تعالى وبعقابه أو غير متدبرين في العواقب لغلبة الشهوة عليهم ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ما عملوا ما عملوا، والتصريح به مع دلالة ثُمَّ عليه للتوكيد والمبالغة وَأَصْلَحُوا أي أصلحوا أعمالهم أو دخلوا في الصلاح، وفسر بعضهم الإصلاح بالاستقامة على التوبة إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي التوبة كما قال غير واحد، ولعل الإصلاح مندرج في التوبة وتكميل لها.
482
وقال أبو حيان: الضمير عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي من بعد عمل السوء والتوبة والإصلاح، وقيل: يعود على الجهالة، وقيل: على السوء على معنى المعصية وليس بذاك لَغَفُورٌ لذلك السوء رَحِيمٌ يثبت على طاعته سبحانه فعلا وتركا، وتكرير إِنَّ رَبَّكَ لتأكيد الوعد وإظهار كمال العناية بإنجازه، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره ﷺ مع ظهور الأثر في التائبين للإيماء إلى أن إفاضة آثار الربوبية من المغفرة والرحمة عليهم بتوسطه ﷺ وكونهم من أتباعه كما مر عن قريب، والتقييد بالجهالة قيل: لبيان الواقع لأن كل من يعمل السوء لا يعمله إلا بجهالة.
وقال العسكري: ليس المعنى أنه تعالى يغفر لمن يعمل السوء بجهالة ولا يغفر لمن عمله بغير جهالة بل المراد أن جميع من تاب فهذه سبيله، وإنما خص من يعمل السوء بجهالة لأن أكثر من يأتي الذنوب يأتيها بقلة فكر في عاقبة الأمر أو عند غلبة الشهوة أو في جهالة الشباب فذكر الأكثر على عادة العرب في مثل ذلك، وعلى القوانين لا مفهوم للقيد إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي كان عنده عليه السلام من الخير ما كان عند أمة وهي الجماعة الكثيرة، فإطلاقها عليه عليه السلام لاستجماعه كمالات لا تكاد توجد إلا متفرقة في أمة جمة:
وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
وهو ﷺ رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي نصب أدلة التوحيد ورفع أعلامها وخفض رايات الشرك وجزم ببواتر الحجج هامها، وقال مجاهد: سمي عليه السلام أمة لانفراده بالإيمان في وقته مدة ما،
وفي صحيح البخاري أنه عليه السلام قال لسارة: ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك،
وذكر في القاموس أن من معاني الأمة من هو على الحق مخالف لسائر الأديان، والظاهر أنه مجاز بجعله كأنه جميع ذلك العصر لأن الكفرة بمنزلة العدم، وقيل: الأمة هنا فعلة بمعنى مفعول كالرحلة بمعنى المرحول إليه، والنخبة بمعنى المنتخب من أمه إذا قصده أو اقتدى به أي كان مأموما أو مؤتما به فإن الناس كانوا يقصدونه للاستفادة ويقتدون بسيرته.
وقال ابن الأنباري: هذا مثل قول العرب: فلان رحمة وعلامة ونسابة يقصدون بالتأنيث التناهي في المعنى الموصوف به. وإيراد ذكره عليه السلام عقيب تزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن في النبوة وتحريم ما أحل الله تعالى للإيذان بأن حقية دين الإسلام وبطلان الشرك وفروعه أمر ثابت لا ريب فيه. وفي ذلك أيضا رد لقريش حيث يزعمون أنهم على دينه، وقيل: إنه تعالى لما بين حال المشركين وأجرى ذكر اليهود بين طريقة إبراهيم عليه السلام ليظهر الفرق بين حاله وحال المشركين وحال اليهود قانِتاً لِلَّهِ مطيعا له سبحانه قائما بأمره تعالى حَنِيفاً مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق غير زائل عنه.
وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في أمر من أمور دينهم أصلا وفرعا، صرح بذلك مع ظهوره قيل: ردا على كفار قريش في قولهم: نحن على ملة أبينا إبراهيم، وقيل: لذلك وللرد على اليهود المشركين بقولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: ٣٠] في افترائهم وزعمهم أنه عليه السلام كان على ما هم عليه كقوله تعالى: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران: ٦٧] إذ به ينتظم أمر إيراد التحريم والسبت سابقا ولا حقا.
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ صفة ثالثة لأمة- والجار والمجرور متعلق- بشاكرا- كما هو الظاهر، وأوثر صيغة جمع القلة
483
قيل: للإيذان بأنه عليه السلام لا يخل بشكر النعمة القليلة فكيف بالكثيرة وللتصريح بأنه عليه السلام على خلاف ما هم عليه من الكفران بأنعم الله تعالى حسبما أشير إليه بضرب المثل، وقيل: إن جمع القلة هنا مستعار لجمع الكثرة ولا حاجة إليه.
وفي بعض الآثار أنه عليه السلام كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخر غداءه فإذا هو بفوج من الملائكة عليهم السلام في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا أن بهم جذاما فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم شكرا لله تعالى على أنه عافاني مما ابتلاكم به،
وجوز أبو البقاء كون الجار والمجرور متعلقا بقوله تعالى: اجْتَباهُ وهو خلاف الظاهر. وجعل بعضهم متعلق هذا محذوفا أي اختاره واصطفاه للنبوة، وأصل الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء، ويطلق على تخصيص الله تعالى العبد بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي منه ويكون للأنبياء عليهم السلام ومن يقاربهم وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إليه تعالى وهو ملة الإسلام وليس نتيجة هذه الهداية- كما في إرشاد العقل السليم- مجرد اهتدائه عليه السلام بل مع إرشاد الخلق أيضا إلى ذلك والدعوة إليه بمعونة قرينة الاجتباء.
وجوز بعضهم كون إِلى صِراطٍ متعلقا- باجتباه وهداه- على التنازع، والجملة إما حال بتقدير قد على المشهور وإما خبر ثاني لإن، وجوز أبو البقاء الاستئناف أيضا وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً بأن حببه إلى الناس حتى إن جميع أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه عليه السلام حسبما سأل بقوله: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: ٨٤] وروي هذا عن قتادة وغيره، وعن الحسن الحسنة النبوة، وقيل: الأولاد الأبرار على الكبر وقيل: المال يصرفه في وجوه الخير والبر، وقيل: العمر الطويل في السعة والطاعة- فحسنة- على الأول بمعنى سيرة حسنة وعلى ما بعده عطية أو نعمة حسنة كذا قيل: وجوز في الجميع أن يراد عطية حسنة، والالتفات إلى التكلم لإظهار كمال الاعتناء بشأنه وتفخيم مكانه عليه السلام وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ داخل في عدادهم كائن معهم في الدرجات العلى من الجنة حسبما سأل بقوله: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: ١٠١، الشعراء: ٨٣] وأراد بهم الأنبياء عليهم السلام ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ وهي على ما روي عن قتادة الإسلام المعبر عنه آنفا بالصراط المستقيم، وفي رواية أخرى عنه أنها جميع شريعته إلا ما أمر ﷺ بتركه، وفي التفسير الخازني حكاية هذا عن أهل الأصول، وعن ابن عمرو بن العاص أنها مناسك الحج.
وقال الإمام: قال قوم إن النبي ﷺ كان على ملة إبراهيم وشريعته وليس له شرع متفرد به بل بعث عليه الصلاة والسلام لإحياء شريعة إبراهيم لهذه الآية، فحملوا الملة على الشريعة أصولا وفروعا وهو قول ضعيف، والمراد من مِلَّةَ إِبْراهِيمَ التوحيد ونفي الشرك المفهوم من قوله تعالى: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فإن قيل: إنه ﷺ إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد للأدلة القطعية فلا يعد ذلك متابعة فيجب حمل الملة على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها، قلنا: يجوز أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهي أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن اه. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحتاج إليه لأن المعتقد الذي تقتضيه دلائل العقول لا يمتنع أن يوحي ليتضافر المعقول والمنقول على اعتقاده، ألا ترى قوله تعالى:
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الأنبياء: ١٠٨] كيف تضمن الوحي بما اقتضاه الدليل العقلي، فلا يمتنع أن يؤمر النبي ﷺ باتباع ملة إبراهيم عليه السلام بنفي الشرك والتوحيد وإن كان ذلك مما ثبت عنده عليه الصلاة والسلام بالدليل العقلي ليتضافر الدليلان العقلي والنقلي على هذا المطلب الجليل، وآخر بأنه ظاهر في حمل الملة على كيفية
484
الدعوة ولا شك أن ذلك ليس داخلا في مفهومها فإنها ما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء عليهم السلام من أمللت الكتاب إذا أمليته وهي الدين بعينه لكن باعتبار الطاعة له، وتحقيقه أن الوضع الإلهي مهما نسب إلى من يؤديه عن الله تعالى يسمى ملة ومهما نسب إلى من يقيمه يسمى دينا، قال الراغب: الفرق بينها وبين الدين أنها لا تضاف إلا للنبي ﷺ الذي يسند إليه ولا تكاد توجد مضافة إلى الله تعالى ولا إلى آحاد أمة النبي عليه السلام ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها ولا كذلك الدين، وأكثر المفسرين على أن المراد بها هنا أصول الشرائع، ويحمل عليه ما روي عن قتادة أولا ولا بأس بما روي عنه ثانيا.
واستدلال بعض الشافعية على وجوب الختان وما كان من شرعه عليه السلام ولم يرد به ناسخ مبني على ذلك كما لا يخفى. وما روي عن ابن عمرو بن العاص ذكره في البحر والذي أخرجه ابن المنذر والبيهقي في الشعب.
وجماعة عنه أنه قال: صلى جبريل عليه السلام بإبراهيم الظهر والعصر بعرفات ثم وقف حتى إذا غابت الشمس دفع به ثم صلى المغرب والعشاء بجمع ثم صلى به الفجر كأسرع ما يصلي أحد من المسلمين ثم وقف به حتى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين دفع به ثم رمى الجمرة ثم ذبح وحلق ثم أفاض به إلى البيت فطاف به فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ولعل ما ذكر أولا مأخوذ منه.
وأنت تعلم أنه ليس نصا فيه ولا أظن أن أحدا يوافق على تخصيص ملته عليه السلام بمناسك الحج.
وأَنِ تفسيرية أو مصدرية ومر الكلام في وصلها بالأمر، وثُمَّ قيل: للتراخي الزماني لظهور أن أيامه ﷺ بعد أيامه عليه السلام بكثير، واختار المحققون أنها للتراخي الرتبي لأنه أبلغ وأنسب بالمقام.
قال الزمخشري: إن في ثُمَّ هذه إيذانا بأنه أشرف ما أوتي خليل الله عليه السلام من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله ﷺ ملته وتعظيما لمنزلة نبينا عليه الصلاة والسلام وإجلالا لمحله، أما الأول فمن دلالة ثم على تباين هذا المؤتى وسائر ما أوتي عليه السلام من الرتب والمآثر، وأما الثاني فمن حيث إن الخليل مع جلالة محله عند الله تعالى أجل رتبته أن أوحى إلى الحبيب اتباع ملته، وفي لفظ أَوْحَيْنا ثم الأمر باتباع الملة لا اتباع إبراهيم عليه السلام ما يدل كما في الكشف على أنه ﷺ ليس بتابع له بل هو مستقل بالأخذ عمن أخذ إبراهيم عليه السلام عنه حَنِيفاً حال من إبراهيم المضاف إليه لما أن المضاف لشدة اتصاله به جرى منه مجرى البعض فعد بذلك من قبيل رأيت وجه هند قائمة.
ونقل ابن عطية عن مكي عدم جواز كونه حالا منه معللا ذلك بأنه مضاف إليه، وتعقبه بقوله: ليس كما قال لأن الحال قد يعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال نحو مررت بزيد قائما، وفي كلا الكلامين بحث لا يخفى.
ومنع أبو حيان مجيء الحال من المضاف إليه في مثل هذه الصورة أيضا وزعم أن الجواز فيها مما تفرد به ابن مالك والتزم كون حَنِيفاً حالا من مِلَّةَ لأنها والدين بمعنى أو من الضمير في اتَّبِعْ وليس بشيء ولم يتفرد بذلك ابن مالك بل سبقه إليه الأخفش وتبعه جماعة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بل كان قدوة المحققين وهذا تكرير لما سبق لزيادة تأكيد وتقرير لنزاهته عليه السلام عما هم عليه من عقد وعمل، وقوله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ بمعنى إنما فرض تعظيمه والتخلي للعبادة وترك الصيد فيه تحقيق لذلك النفي الكلي وتوضيح له بإبطال ما عسى يتوهم كونه قادحا في الكلية فإن اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شعائر الإسلام وأن إبراهيم عليه السلام كان محافظا عليه أي
485
ليس السبت من شرائع إبراهيم وشعائر ملته عليه السلام التي أمرت باتباعها حتى يكون بينه وبين بعض المشركين علاقة في الجملة، وإنما شرع ذلك لبني إسرائيل بعد مدة طويلة، وإيراد الفعل مبنيا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة الإسناد إلى الغير. وقرأ أبو حيوة «جعل» بالبناء للفاعل، وعن ابن مسعود والأعمش أنهما قرءا «إنما أنزلنا السبت» وهو على ما قال أبو حيان تفسير معنى لا قراءة لمخالفة ذلك سواد المصحف، والمستفيض عنهما أنهم قرءا كالجماعة إنما جعل السبت عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ على نبيهم حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت وهم اليهود.
أخرج الشافعي في الأم والشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله ﷺ نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يعني الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد»
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أمر موسى عليه السلام اليهود بالجمعة وقال: تفرغوا لله تعالى في كل سبعة أيام يوما واحدا وهو يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئا من أعمالكم فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله تعالى فيه من الخلق وهو يوم السبت فجعل عليهم وشدد فيه الأمر ثم جاء عيسى عليه السلام بالجمعة فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد وكأنهم إنما اختاروه لأنه مبتدأ الخلق،
واختار هذا الإمام وحمل «في» على التعليل أي اختلفوا على نبيهم لأجل ذلك اليوم، وقال الخفاجي: معنى اخْتَلَفُوا فِيهِ خالفوا جميعهم نبيهم فهو اختلاف بينهم وبين نبيهم، وظاهر الأخبار يقتضي أنه عين لهم أولا يوم الجمعة، وقال القاضي عياض: الظاهر أنه فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين ووكل إلى اجتهادهم فاختلفت أحبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله تعالى له وفرض على هذه الأمة مبينا ففازوا بفضيلته ولو كان منصوصا عليه لم يصح أن يقال اخْتَلَفُوا بل يقال خالفوا، وقال الإمام النووي:
يمكن أن يكونوا أمروا صريحا ونص عليه فاختلفوا فيه هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله فأبدلوه وغلطوا في إبداله، وقال الواحدي: قد أشكل أمر هذا الاختلاف على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم: معنى اختلافهم في السبت أن بعضهم قال هو أعظم الأيام حرمة لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فيه، وقال الآخرون: أعظمها حرمة الأحد لأن الله سبحانه ابتدأ الخلق فيه وهذا غلط لأن اليهود لم يكونوا فرقتين في السبت وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان وقيل: المراد اختلفوا فيما بينهم في شأنه ففضلته فرقة منهم على الجمعة ولم ترض بها وفضلت أخرى الجمعة عليه ومالت إليها بناء على ما
روي من أن موسى عليه السلام جاءهم بالجمعة فأبى أكثرهم إلا السبت ورضي شرذمة منهم بها فأذن الله تعالى لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه فأطاع أمر الله تعالى الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله تعالى قردة دون أولئك المطيعين،
والتفسير الأول تفسير رئيس المفسرين وترجمان القرآن وحبر الأمة المروي من طرق صحيحة عن أفضل النبيين وأعلم الخلق بمراد رب العالمين ﷺ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي المختلفين يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي يقضي بينهم بالمجازاة على اختلافهم على نبيهم ومخالفتهم له في ذلك أو يفصل ما بين الفريقين منهم من الخصومة والاختلاف فيجازي كل فريق بما يستحقه من الثواب والعقاب، وفيه على هذا إيماء إلى أن ما وقع في الدنيا من مسخ أحد الفريقين وإنجاء الآخر بالنسبة إلى ما سيقع في الآخرة شيء لا يعتد به، وعبر عن الفرض بالجعل موصولا بكلمة عَلَى للإيذان بتضمنه للتشديد والابتلاء المؤدي إلى العذاب، وعن اليهود بالاسم الموصول بالاختلاف إشارة إلى علة ذلك، وقيل: المعنى إنما جعل وبال ترك تعظيم السبت وهو المسخ كائنا أو واقعا على الذين اختلفوا فيه أي أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه
486
أخرى وكان حتما عليهم أن يتفقوا على تحريمه حسبما أمر الله تعالى به وروي ذلك عن قتادة، وفسر الحكم بينهم بالمجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارة والتحريم أخرى.
ووجه إيراد ذلك هاهنا بأنه أريد منه إنذار المشركين وتهديدهم بما في مخالفة الأنبياء عليهم السلام من الوبال كما ذكرت القرية التي كفرت بأنعم الله تعالى تمثيلا لذلك. واعترض بأن توسيط ذلك لما ذكر بين حكاية أمر النبي ﷺ باتباع ملة إبراهيم عليه السلام وبين أمره ﷺ بالدعوة إليها كالفصل بين الشجر ولحائه. وأجيب بأن فيه حثا على إجابة الدعوة التي تضمنها الكلام السابق وأمر بها في الكلام اللاحق فللمتوسط نسبة إلى الطرفين تخرجه من أن يكون الفصل به كالفصل بين الشجر ولحائه وهو كما ترى.
واعترض أيضا بأن كلمة بَيْنَهُمْ تحكم بأن المراد بالحكم هو فصل ما بين الفريقين من الاختلاف دون المجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارة والتحريم أخرى. ويرد هذا أيضا على تفسيره بالقضاء بالمجازاة على اختلافهم جميعهم على نبيهم ومخالفتهم له فيما جاءهم به، وقد فسر بذلك على التفسير المأثور عن ترجمان القرآن، ومنهم من فسره عليه بما فسر به على التفسير المروي عن قتادة فيرد عليه أيضا ما ذكر مع ما في ضمنه من القول باختلاف الاختلافين معنى، والظاهر اتحادهما. وأجاب بعضهم عن الاعتراض بمنع حكم كلمة «بينهم» بما تقدم فتأمل، وتفسير السبت باليوم المخصوص هو الظاهر الذي ذهب إليه الكثير، وجوز كونه مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها، قيل: ويجوز على هذا أن يكون في الآية استخدام ادْعُ أي من بعثت إليهم من الأمة قاطبة فحذف المفعول دلالة على التعميم، وجوز أن يكون المراد افعل الدعوة تنزيلا له منزلة اللازم للقصد إلى إيجاد نفس الفعل إشعارا بأن عموم الدعوة غني عن البيان وإنما المقصود الأمر بإيجادها على وجه مخصوص. وتعقب بأن ذلك لا يناسب المقام كما لا يناسب قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ.
إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ إلى الإسلام الذي عبر عنه تارة بالصراط المستقيم وأخرى بملة إبراهيم عليه السلام. وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير النبي ﷺ ما لا يخفى.
بِالْحِكْمَةِ بالمقالة المحكمة وهي الحجة القطعية المزيحة للشبه وقريب من هذا ما في البحر أنها الكلام الصواب الواقع من النفس أجمل موقع وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وهي الخطابات المقنعة والعبر النافعة التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وَجادِلْهُمْ ناظر معانديهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالطريقة التي هي أحسن طرق المناظرة والمجادلة من الرفق واللين واختيار الوجه الأيسر واستعمال المقدمات المشهورة تسكينا لشغبهم وإطفاء للهبهم كما فعله الخليل عليه السلام. واستدل- كما قيل- أرباب المعقول بالآية على أن المعتبر في الدعوة من بين الصناعات الخمس إنما هو البرهان والخطابة والجدل حيث اقتصر في الآية على ما يشير إليها، وإنما تفاوتت طرق دعوته عليه الصلاة والسلام لتفاوت مراتب الناس، فمنهم خواص وهم أصحاب نفوس مشرقة قوية الاستعداد لإدراك المعاني قوية الانجذاب إلى المبادئ العالية مائلة إلى تحصيل اليقين على اختلاف مراتبه وهؤلاء يدعون بالحكمة بالمعنى السابق.
ومنهم عوام أصحاب نفوس كدرة ضعيفة الاستعداد شديدة الألف بالمحسوسات قوية التعلق بالرسوم والعادات قاصرة عن درجة البرهان لكن لا عناد عندهم وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة بالمعنى المتقدم.
ومنهم من يعاند ويجادل بالباطل ليدحض به الحق لما غلب عليه من تقليد الأسلاف ورسخ فيه من العقائد الباطلة فصار بحيث لا تنفعه المواعظ والعبر بل لا بد من إلقامه الحجر بأحسن طرق الجدال لتلين عريكته وتزول شكيمته وهؤلاء الذين أمر ﷺ بجدالهم بالتي هي أحسن، وإنما لم تعتبر المغالطة والشعر لأن فائدة المغالطة تغليط
487
الخصم والاحتراز عن تغليطه إياه ومرتبة الرسول عليه الصلاة والسلام تنافي أن يغلط وتتعالى أن يغلط، والشعر وإن كان مفيدا للخواص والعوام فإن الناس في باب الإقدام والإحجام أطوع للتخييل منهم للتصديق إلا أن مداره على الكذب ومن ثمة قيل: الشعر أكذبه أعذبه فلا يليق بالصادق المصدوق كما يشهد به قوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: ٦٩] لا يقال: الشعر الذي هو أحد الصناعات قياس مؤلف من مقدمات مخيلة والشعر الذي مداره على الكذاب وهو الكلام الموزون المقفى وهو الذي نفى تعليمه عنه ﷺ لما قيل: كون الشعر مذموما ليس لكونه كلاما موزونا مقفى بل لاشتماله على تخيلات كاذبة فهما من واد واحد ذكر ذلك بعض المتأخرين، وقد ذهب غير واحد إلى أن فيها إشارة إلى تفاوت مراتب المدعوين إلا أنه خالف في بعض ما تقدم، ففي الكشف بعد أن ذكر أن كلام الزمخشري يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ينبغي أن يجمع في الدعوة بين الثلاث فيكون الكلام في نفسه حسن التأليف منتجا لما علق به من الغرض ومع ذلك مقصودا به المناصحة لمن خوطب به ويكون المتكلم حسن الخلق في ذلك معلما ناصحا شفيقا رفيقا ما نصه: والأحسن على ما ذهب إليه المحققون أنه تعميم للدعوة حسب مراتب المدعوين في الفهم والاستعداد، فمن دعى بلسان الحكمة ليفاد اليقين العياني أو البرهاني هم السابقون، ومن دعى بالموعظة الحسنة وهي الإقناعات الحكمية لا الخطابات المشهورة طائفة دون هؤلاء، ومن دعى بالمجادلة الحسنة هم عموم أهل الإسلام والكفار أيضا اه، ولا أرى ما يوجب نفي أن يكون المراد بالموعظة الحسنة الخطابات المشهورة، وكونها مركبة من مقدمات مظنونه أو مقبولة من شخص معتقد فيه ولا يليق بالنبي ﷺ استعمال الظنيات أو أخذ كلام الغير والدعوة به هو الموجب لذلك لا يخفى ما فيه فتدبره.
وذكر الإحسائي رئيس الفرقة الطاهرة في زماننا المسماة بالكشفية في كتابه شرح الفوائد ما محصله أن المدعوين من المكلفين ثلاثة أنواع، وكذا الأدلة التي أشارت إليها الآية فإن كانوا من الحكماء العقلاء والعلماء النبلاء فدعوتهم إلى الحق الذي يريده الله تعالى منهم من معرفته بدليل الحكمة وهو الدليل الذوقي العياني الذي يلزم منه العلم الضروري بالمستدل عليه لأنه نوع من المعاينة كقولنا في رد من زعم أن حقائق الأشياء كانت كامنة في ذاته تعالى بنحو أشرف ثم أفاضها إنه لا بد وأن يكون لذاته سبحانه قبل الإفاضة حال مغاير لما بعدها سواء كان التغير في نفس الذات أو فيما هو في الذات فإن حصل التغير في الذات لزم حدوثها وإن حصل فيما هو في الذات- أعني حقائق الأشياء الكامنة- لزم أن تكون الذات محلا للمتغير المختلف ويلزم من ذلك حدوثها.
وكقولنا في إثبات أنه سبحانه أظهر من كل شيء: إن كل أثر يشابه صفة مؤثرة وأنه قائم بفعله قيام صدور كالأشعة بالنيرات والكلام بالمتكلم، فالأشياء هي ظهور الواجب بها لها لأنه سبحانه لا يظهر بذاته وإلا لاختلفت حالتاه، ولا يكون شيء أشد ظهورا من الظاهر في ظهوره لأن الظاهر أظهر من ظهوره وإن كان لا يمكن التوصل إلى معرفته إلا بظهوره مثل القيام فإن القائم أظهر في القيام من القيام والقاعد أظهر في القعود من القعود وإن كان لا يمكن التوصل إلى معرفتهما إلا بالقيام والقعود فتقول: يا قائم ويا قاعد، والمعنى لك إنما هو القائم والقاعد لا القيام والقعود لأنه بظهوره لك بذلك غيب عليك مشاهدته وإن التفت إليه احتجب عنك القائم والقاعد، وهو آلة لمعرفة المعارف الحقية كالتوحيد وما يلحق به، ومستنده الفؤاد وهو نور الله تعالى المشار إليه
بقوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى»
والنقل من الكتاب والسنة، وشرطه الذي يتوقف عليه فتح باب النور ثلاثة أشياء. أحدها أن تنصف ربك وتقبل منه سبحانه قوله ولا تتبع شهوة نفسك. وثانيها أن تقف عند بيانك وتبينك وتبيينك على قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء: ٣٦] وثالثها أن تنظر في
488
تلك الأحوال أعني البيان وما بعده بعينه تعالى وهي العين التي هي وصف نفسه لك أعني وجودك من حيث كونه أثرا ونورا لا بعينك التي هي أنت من حيث- إنك أنت- أنت فإنك لا تعرف بهذه العين إلا الحادثات المحتاجة الفانية.
وإن كانوا من العلماء ذوي الألباب وأرباب القلوب فدعوتهم إلى الحق الذي يريده سبحانه منهم من اليقين الحقيقي في اعتقاداتهم بدليل الموعظة الحسنة وهي الدليل العقلي اليقيني الذي يلزم منه اليقين في الإيمان به سبحانه وبغيره مما أمرهم بالإيمان به وهو آلة لعلم الطريقة وتهذيب الأخلاق وعلم اليقين والتقوى، وهذه العلوم وإن كانت قد تستفاد من غيره ولكن بدون ملاحظته لا يوقف على اليقين والاطمئنان الذي هو أصل علم الأخلاق، ومستنده القلب والنقل، وشرط صحته والانتفاع به اتصاف عقلك به بأن تلزم ما ألزمك به ولا تظلمه وهو كقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: ٥٢] وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف:
١٠] إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، وإن كانوا من العلماء أصحاب الرسوم كالمتكلمين ونظائرهم فدعوتهم إلى الحق الذي يريده سبحانه منهم من اليقين الرسمي بمقتضى طبيعتهم القاصرة بدليل المجادلة بالتي هي أحسن وهي الدليل العلمي القطعي الذي يلزم منه العلم فيما ذكر وهو آلة لعلم الشريعة، ومستنده العلم والنقل، وشرطه إنصاف الخصم بأن يقيمه على النحو المقرر في علم الميزان، وقد ذكره العلماء في كتبهم الأصولية والفروعية بل لا يكاد يسمع منهم غير هذا الدليل وهو محل المناقشات والمعارضات، وأما الدليلان الأولان فليس فيهما مناقشة ولا معارضة فإذا اعترض عليهما معترض فقد اعترض فيهما بغيرهما اه المراد منه وهو كما ترى، وإنما ذكرته لتعلم حال المرءوس من حال الرئيس، ولقد رأيت مشايخ هذه الطائفة يتكلمون بما هو كشوك القنافذ ويحسبونه كريش الطواويس، وجوز أن يراد بالحكمة والموعظة الحسنة القرآن المجيد فإنه جامع لكلا الأمرين فكأنه قيل: ادع بالقرآن الذي هو حكمة وموعظة حسنة وقيل غير ذلك، ومنه أن الحكمة النبوة وليس من الحكمة، وفسر بعضهم المجادلة الحسنة بالإعراض عن أذاهم وادعى أن الآية منسوخة بآية السيف، والجمهور على أنها محكمة وأن معنى الآية ما تقدم، ولكون الحكمة أعلى الدلائل وأشرافها والمدعوين به الكاملين الطالبين للمعارف الإلهية والعلوم الحقيقية وقليل ما هم جيء بها أولا، ولكون الجدل أدنى الدلائل إذ ليس المقصود منه سوى إلزام الخصم وإفحامه ولا يستعمل إلا مع الناقصين الذين تغلب عليهم المشاغبة والمخاصمة وليسوا بصدد تحصيل هاتيك العلوم ذكر أخيرا، ولكون الموعظة الحسنة دون الحجة وفوق الجدل والمدعوين بها المتوسطين الذين لم يبلغوا في الكمال حد الحكماء المحققين ولم يكونوا في النقصان بمرتبة أولئك المشاغبين وسطت بين الأمرين، وكأنه إنما لم يقل: ادع إلى سبيل بالحكمة والموعظة والجدال الأحسن لما أن الجدال ليس من باب الدعوة بل المقصود منه غرض آخر مغاير لها وهو الإلزام والإفحام كما قاله الإمام فليفهم.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الذي أمرك بدعوة الخلق إليه وأعرض عن قبوله.
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إليه وهو تعليل لما ذكر أولا من الأمرين كأنه قيل: اسلك في الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة وما عليك غير ذلك وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فإلى الله سبحانه لا إلى غيره إذ هو أعلم بمن يبقى على الضلال وبمن يهتدي إليه فيجازي كلا منهما ما يستحقه كذا قيل. واعترض بأن دلالة الآية على المجازاة مسلمة وأما أن حصول الهداية والضلالة ليس لغيره تعالى فالآية لا تدل عليه أصلا. وأجيب بأنه إذا انحصر علم الهداية والضلالة فيه تعالى علم أنه لا يكون لغيره سبحانه علمهما فكيف يكون له حصولهما فالقول بعدم دلالة الآية على ذلك غير سديد، وقيل: المعنى اسلك في الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة فإنه تعالى هو أعلم بحال
489
من لا يرعوي عن الضلال لسوء اختياره وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء لما فيه من الخير فما شرعه لك في الدعوة هو الذي تقتضيه الحكمة فإنه كاف في هداية المهتدين وإزالة عذر الضالين، وقيل: المعنى إنما عليك البلاغ فلا تلح عليهم إن أبوا بعد الإبلاغ مرة أو مرتين مثلا فإن ربك هو أعلم بهم فمن كان فيه خير كفته النصيحة اليسيرة ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل. وتقديم الضالين لأن الكلام فيهم، وإيراد الضلال بصيغة الفعل الدال على الحدوث لما أنه تغيير لفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها وإعراض عن الدعوة وذلك أمر عارض بخلاف الاهتداء الذي هو عبارة عن الثبات على الفطرة والجريان على موجب الدعوة ولذلك جيء به على صيغة الاسم المنبئ عن الثبات، وجملة هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ قيل: عطف على جملة إِنَّ رَبَّكَ إلخ أو على خبر إن وتكرير هُوَ أَعْلَمُ للتأكيد والإشعار بتباين حال المعلومين ومآلهما من العقاب والثواب وهو في الجملة الأولى ضمير فصل للتخصيص كما هو ظاهر كلام البعض أو للتقوية كما قيل، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره ﷺ من اللطافة.
وَإِنْ عاقَبْتُمْ أي إن أردتم المعاقبة فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ أي مثل ما فعل بكم وقد عبر عنه بالعقاب على طريقة إطلاق اسم المسبب على السبب نحو كما تدين تدان على نهج المشاكلة، وقال الخفاجي: إن العقاب في العرف مطلق العذاب ولو ابتداء وفي أصل اللغة المجازاة على عذاب سابق فإن اعتبر الثاني فهو مشاكلة وإن اعتبر الأول فلا مشاكلة، وعلى الاعتبارين صيغة المفاعلة ليست للمشاركة، والآية نزلت في شأن التمثيل بحمزة رضي الله تعالى عنه يوم أحد،
فقد صح عن أبي هريرة أن النبي ﷺ وقف على حمزة يوم استشهد فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ونظر إليه قد مثل به فقال: رحمة الله تعالى عليك فإنك كنت ما علمت وصولا للرحم فعولا للخيرات ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله تعالى من أرواح شتى أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك فنزل جبريل عليه السلام والنبي ﷺ واقف بخواتيم النحل وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلى آخرها فكفر عليه الصلاة والسلام عن يمينه وأمسك عن الذي أراد وصبر،
فهي على هذا مدنية. وذهب النحاس إلى أنها مكية وليست في شأن التمثيل بحمزة رضي الله تعالى عنه واختاره بعضهم لما يلزم على ذلك من عدم الارتباط المنزه عنه كلام رب العزة جل شأنه إذ لا مناسبة لتلك القضية لما قبل، وأما على القول بأنها مكية فوجه الارتباط أنه لما أمر سبحانه نبيه ﷺ بالدعوة وبين طريقها أشار إليه عليه الصلاة والسلام وإلى من يتابعه بمراعاة العدل مع من يناصبهم والمماثلة فإن الدعوة لا تكاد تنفك عن ذلك كيف لا وهي موجبة لصرف الوجوه عن القبل المعبودة وإدخال الأعناق في قلادة غير معهودة قاضية عليهم بفساد ما يأتون وما يذرون وبطلان دين استمرت عليه آباؤهم الأولون وقد ضاقت بهم الحيل وعيت بهم العلل وسدت عليهم طرق المحاجة والمناظرة وارتجت دونهم أبواب المباحثة والمحاورة. وترددت في صدورهم الأنفاس ووقعوا في حيص بيص يضربون أخماسا في أسداس لا يجدون إلا الأسنة مركبا ويختارون الموت الأحمر دون دين الإسلام مذهبا، وإلى الأول ذهب جمهور المفسرين ووقع ذلك في صحيح البخاري بل قال القرطبي: إنه مما أطبق عليه المفسرون، وما ذكر من لزوم عدم الارتباط عليه ليس بشيء، فإن التنبيه على تلك القضية للإشارة إلى أن الدعوة لا تخلو من مثل ذلك وأن المجادلة تنجر إلى المجالدة فإذا وقعت فاللائق ما ذكر فلا فرق في الارتباط بحسب المآل بين أن تكون مكية وأن تكون مدنية، وخصوص السبب لا ينافي عموم المعنى، فالمعول عليه عدم العدول عما قاله الجمهور.
وقرأ ابن سيرين: «وإن عقبتم فعقبوا» بتشديد القافين أي وإن قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم غير متجاوزين عنه. واستدل بالآية على أن للمقتص أن يفعل بالجاني مثل ما فعل في الجنس والقدر وهذا مما لا خلاف
490
فيه. وأما اتحاد الآلة بأن يقتل بحجر من قتل به وبسيف من قتل به مثلا فذهب إليه بعض الأئمة، ومذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه لا قود إلا بالسيف، ووجه ذلك مع أن الآية ظاهرة في خلافه أن القتل بالحجر ونحوه مما لا يمكن مماثلة مقداره شدة وضعفا فاعتبرت مماثلة في القتل وإزهاق الروح والأصل في ذلك السيف كما ذكره الرازي في أحكامه. وذكر بعضهم أنه اختلف في هذه الآية فأخذ الشافعي بظاهرها، وأجاب الحنفية بأن المماثلة في العدد بأن يقتل بالواحد واحد لأنها نزلت
لقول النبي ﷺ لأمثلن بسبعين منهم
لما قتل حمزة ومثل به كما سمعت فلا دليل فيها، وقال الواحدي: إنها منسوخة كغيرها من المثلة وفيه كلام في شروح الهداية.
وفي تقييد الأمر بقوله سبحانه: وَإِنْ عاقَبْتُمْ حث على العفو تعريضا لما في «إن» الشرطية من الدلالة على عدم الجزم بوقوع ما في حيزها فكأنه قيل: لا تعاقبوا وإن عاقبتم إلخ كقول طبيب لمريض سأله عن أكل الفاكهة إن تأكل الفاكهة فكل الكمثرى، وقد صرح بذلك على الوجه الآكد فقيل: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ أي عن المعاقبة بالمثل لَهُوَ أي لصبركم ذلك على اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: ٨] خَيْرٌ من الانتصار بالمعاقبة لِلصَّابِرِينَ أي لكم إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل مدحا لهم وثناء عليهم بالصبر، وفيه إرشاد إلى أنه إن صبرتم فهو شيمتكم المعروفة فلا تتركوها إذا في هذه القضية أو وصفا لهم بصفة تحصل لهم إذا صبروا عن المعاقبة فهو على حد من قتل قتيلا وهو الظاهر من اللفظ، وفيه ترغيب في الصبر بالغ، ويجوز عود الضمير إلى مطلق الصبر المدلول عليه بالفعل، والمراد بالصابرين جنسهم فيدخل هؤلاء دخولا أوليا، ثم إنه تعالى أمر نبيه ﷺ صريحا بما ندب إليه غيره تعريضا من الصبر لأنه عليه الصلاة والسلام أولى الناس بعزائم الأمور لزيادة علمه بشؤونه سبحانه ووثوقه به تعالى فقال تعالى: وَاصْبِرْ على ما أصابك من جهتهم من فنون الآلام والأذية وعاينت من اعراضهم بعد الدعوة عن الحق بالكلية وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي وما صبرك ملابسا ومصحوبا بشيء من الأشياء إلا بذكر الله تعالى والاستغراق بمراقبة شؤونه والتبتل إليه سبحانه بمجامع الهمة، وفيه من تسلية النبي ﷺ وتهوين مشاق الصبر عليه وتشريفه ما لا مزيد عليه أو إلا بمشيئته المبنية على حكم بالغة مستتبعة لعواقب حميدة فالتسلية من حيث اشتماله على غايات جليلة قاله شيخ الإسلام.
وقال غير واحد: أي إلا بتوفيقه ومعونته فالتسلية من حيث تيسير الصبر وتسهيله ولعل ذلك أظهر مما تقدم.
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على الكافرين وكفرهم بك وعدم متابعتهم لك نحو فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [المائدة: ٦٨] وقيل: على المؤمنين وما فعل بهم من المثلة يوم أحد وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ بفتح الضاد، وقرأ ابن كثير بكسرها وروي ذلك عن نافع، ولا يصح على ما قال أبو حيان عنه وهما لغتان كالقول والقيل أي لا تكن في ضيق صدر وحرج وفيه استعارة لا تخفى ولا داعي إلى ارتكاب القلب، وقال أبو عبيدة: الضيق بالفتح مخفف ضيق كهين وهين أي لا تك في أمر ضيق. ورده أبو علي كما في البحر بأن الصفة غير خاصة بالموصوف فلا يجوز ادعاء الحذف ولذلك جاز مررت بكاتب وأمته بآكل. وتعقب بالمنع لأنه إذا كانت الصفة عامة وقدر موصوف عام فلا مانع منه مِمَّا يَمْكُرُونَ أي من مكرهم بك فيما يستقبل فالأول كما في إرشاد العقل السليم نهي عن التألم بمطلوب من جهتهم فات والثاني نهي عن التألم بمحذور من جهتهم آت، وفيه أن النهي عنهما مع أن انتفاءهما لمن لوازم الصبر المأمور به لزيادة التأكيد وإظهار كمال العناية بشأن التسلية وإلا فهل يخطر ببال من توجه إلى الله تعالى بشراشره متنزها عن كل ما سواه سبحانه من الشواغل شيء مطلوب فينهى عن الحزن بفواته، وقيل: يمكرون بمعنى مكروا، وإنما عبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية، والأول نهي عن الحزن على سوء حالهم في أنفسهم من اتصافهم بالكفر
491
والإعراض عن الدعوة والثاني نهي عن الحزن على سوء حالهم معه ﷺ من إيذائهم له بالتمثيل بأحبابه ونحوه والمراد من النهيين محض التسلية لا حقية النهي، وأن تعلم أن الظاهر إبقاء المضارع على حقيقته فتأمل.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا تعليل لما سبق من الأمر والنهي، والمراد بالمعية الولاية الدائمة التي لا يحول حول صاحبها شيء من الجزع والحزن وضيق الصدر وما يشعر به دخول كلمة مَعَ من متبوعية المتقين من حيث إنهم المباشرون للتقوى، والمراد بها هنا أعلى مراتبها أعني التنزه عن كل ما يشغل السر عن الحق سبحانه والتبتل إليه تعالى بالكلية لأن ذلك هو المورث لولايته عز وجل المقرونة ببشارة أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: ٦٢] والمعنى أن الله تعالى ولي الذين تبتلوا إليه سبحانه بالكلية وتنزهوا عن كل ما يشغل سرهم عنه عز وجل فلم يخطر ببالهم شيء من مطلوب أو محذور فضلا عن الحزن عليه فواتا أو وقوعا وهو المعنى بما به الصبر المأمور به على أول الاحتمالات السالفة وبذلك يحصل التقريب ويتم التعليل وإلا فمجرد التوقي عن المعاصي لا يكون مدارا لشيء من العزائم المرخص في تركها فكيف بالصبر المشار إليه ورديفيه وإنما مداره المعنى المذكور فكأنه قيل: إن الله مع الذين صبروا، وإنما أوثر عليه ما في النظم الكريم مبالغة في الحث على الصبر بالتنبيه على أنه من خصائص أجل النعوت الجليلة وروادفه كما أن قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ للإشعار بأنه من باب الإحسان الذي فيه يتنافس المتنافسون على ما يؤذن بذلك قوله تعالى: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود: ١١٥] وقد نبه سبحانه على أن كلا من الصبر والتقوى من قبيل الإحسان بقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: ٩٠] وحقيقة الإحسان الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق،
وقد فسره ﷺ بأن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك،
وتكرير الموصول للإيذان بكفاية كل من الصلتين في ولايته سبحانه من غير أن تكون إحداهما تتمة للأخرى، وإيراد الأولى فعلية للدلالة على الحدوث كما أن إيراد الثانية اسمية لإفادة كون مضمونها شيمة راسخة لهم، وتقديم التقوى على الإحسان لما أن التخلية مقدمة على التحلية، والمراد بالموصولين إما جنس المتقين والمحسنين ويدخل عليه الصلاة والسلام في زمرتهم دخولا أوليا إما هو ﷺ وأشياعه رضي الله تعالى عنهم وعبر بذلك عنهم مدحا لهم وثناء عليهم بالنعتين الجميلين، وفيه رمز إلى أن صنيعه عليه الصلاة والسلام مستتبع لاقتداء الأمة به كقول من قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما عند التعزية:
اصبر نكن بك صابرين وإنما صبر الرعية عند صبر الراس
قال كل ذلك في إرشاد العقل السليم، وإلى كون الجملة في موضع التعليل لما سبق ذهب العلامة الطيبي حيث قال: إنه تعالى لما أمر حبيبه بالصبر على أذى المخالفين ونهاه عن الحزن على عنادهم وابائهم الحق وعما يلحقه من مكرهم وخداعهم علل ذلك بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ إلخ أي لا تبال بهم وبمكرهم لأن الله تعالى وليك ومحبك وناصرك ومبغضهم وخاذلهم، وعمم الحكم إرشادا للاقتداء به عليه الصلاة والسلام، وفيه تعريض بالمخالفين وبخذلانهم كما صرح به في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد: ١١] وذكر أن إيراد الجملة الثانية اسمية وبناء مُحْسِنُونَ على هُمْ على سبيل التقوى مؤذن باستدامة الإحسان واستحكامه وهو مستلزم لاستمرار التقوى لأن الإحسان إنما يتم إذا لم يعد إلى ما كان عليه من الإساءة، وإليه الإشارة بما
ورد «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»
وما ذكر من حمل التقوى على أعلى مراتبها غير متعين، وما ذكره في بيانه لا يخلو عن نظر كما لا يخفى على المتأمل، وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن الحسن أنه قال في الآية: اتقوا فيما حرم الله تعالى عليهم وأحسنوا فيما افترض عليهم، ويوهم كلام بعضهم أن الجملة في
492
موضع التعليل للأمر بالمعاقبة بالمثل حيث قال: إن المعنى إن الله بالعون والرحمة والفضل مع الذين خافوا عقاب الله تعالى وأشفقوا منه فشفقوا على خلقه بعد الإسراف في المعاقبة، وفسر الإحسان بترك الإساءة كما قيل. ترك الإساءة إحسان وإجمال. ولا يخفى ما فيه من البعد، وقد اشتملت هذه الآيات على تعليم حسن الأدب في الدعوة وترك التعدي والأمر بالصبر على المكروه مع البشارة للمتقين المحسنين، وقد أخرج سعيد بن منصور. وابن جرير. وغيرهما عن هرم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضار: أوص فقال: إنما الوصية من المال ولا مال لي وأوصيكم بخواتيم سورة النحل هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ أي مما كان وما يكون فيفرق به بين المحق والمبطل والصادق والكاذب والمتبع والمبتدع، وقيل: كل شيء هو النبي ﷺ كما قيل إنه عليه الصلاة والسلام الإمام في قوله سبحانه: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: ١٢] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ قال السيادي: العدل رؤية المنة منه تعالى قديما وحديثا، والإحسان الاستقامة بشرط الوفاء إلى الأبد، وقيل: العدل أن لا يرى العبد فاترا عن طاعة مولاه مع عدم الالتفات إلى العوض، وإيتاء ذي القربى الإحسان إلى ذوي القرابة في المعرفة والمحبة والدين فيخدمهم بالصدق والشفقة ويؤدي إليهم حقهم، والفحشاء الاستهانة بالشريعة، والمنكر الإصرار على الذنب كيفما كان، والبغي ظلم العباد، وقيل: الفحشاء إضافة الأشياء إلى غيره تعالى ملكا وإيجادا وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ المأخوذ عليكم في عالم الأرواح بالبقاء على حكمه وهو الإعراض عن الغير والتجرد عن العلائق والعوائق في التوجه إليه تعالى إذا عاهدتم أي تذكرتموه بإشراق نور النبي ﷺ عليكم وتذكيره إياكم قال النصراباذي: العهود مختلفة فعهد العوام لزوم الظواهر وعهد الخواص حفظ السرائر وعهد خواص الخواص التخلي من من الكل لمن له الكل ما عِنْدَكُمْ من الصفات ينفد لمكان الحدوث وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ لمكان القدم فالعبد الحقيقي من كان فانيا من أوصافه باقيا بما عند الله تعالى كذا في أسرار القرآن مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى أي عملا يوصله إلى كماله الذي يقتضيه استعداده وَهُوَ مُؤْمِنٌ معتقد للحق اعتقادا جازما فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً أي حياة حقيقية لا موت بعدها بالتجرد عن المواد البدنية والانخراط في سلك الأنوار القدسية والتلذذ بكمالات الصفات ومشاهدات التجليات الإفعالية والصفاتية وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ من جنات الصفات والأفعال بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ إذ عملهم يناسب صفاتهم التي هي مبادئ أفعالهم وأجرهم يناسب صفات الله تعالى التي هي مصادر أفعاله فانظر كم بينهما من التفاوت في الحسن، ويقال: الحياة الطيبة ما تكون مع المحبوب ومن هنا قيل:
كل عيش ينقضي ما لم يكن مع مليح ما لذاك العيش ملح
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ قال سهل هو إشارة إلى الذين رجعوا القهقرى في طريق سلوكهم ثم عادوا أي إن ربك للذين هجروا قرناء السوء من بعد أن ظهر لهم منهم الفتنة في صحبتهم ثم جاهدوا أنفسهم على ملازمة أهل الخير ثم صبروا معهم على ذلك ولم يرجعوا إلى ما كانوا عليه في الفتنة لساتر عليهم ما صدر منهم منعم عليهم بصنوف الانعام، وقيل: إن ربك للذين هاجروا أي تباعدوا عن موطن النفس بترك المألوفات والمشتهيات من بعد ما فتنوا بها بحكم النشأة البشرية ثم جاهدوا في الله تعالى بالرياضات وسلوك طريقه سبحانه بالترقي في المقامات والتجريد عن التعلقات وصبروا عما تحب النفس وعلى ما تكرهه بالثبات في السير إن ربك لغفور يستر غواشي الصفات النفسانية رحيم بإفاضة الكمال والصفات القدسية
493
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للنفس المستعدة القابلة لفيض القلب الثابتة في طريق اكتساب الفضائل الآمنة من خوف فواتها المطمئنة باعتقادها يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً من العلوم والفضائل والأنوار مِنْ كُلِّ مَكانٍ من جميع جهات الطرق البدنية كالحواس والجوارح والآلات ومن جهة القلب فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ظهرت بصفاتها بطرا وإعجابا بزينتها ونظرا إلى ذاتها ببهجتها وبهائها فاحتجبت بصفاتها الظلمانية عن تلك الأنوار ومالت إلى الأمور السفلية وانقطع إمداد القلب عنها وانقلبت المعاني الواردة عليها من طرق الحس هيئات غاسقة من صور المحسوسات التي انجذبت إليها فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ بانقطاع مدد المعاني والفضائل والأنوار من القلب والخوف من زوال مقتنياتها من الشهوات والمألوفات بِما كانُوا يَصْنَعُونَ من كفران أنعم الله تعالى وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ أي من جنسهم وهي القوة الفكرية فَكَذَّبُوهُ بما ألقى إليهم من المعاني المعقولة والآراء الصادقة فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ أي عذاب الحرمان والاحتجاب وَهُمْ ظالِمُونَ في حالة ظلمهم وترفعهم عن طريق الفضيلة ونقصهم لحقوق صاحبهم إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً لاجتماع ما تفرق في غيره من الصفات الكاملة فيه وكذا كل نبي ولذا جاء في الخبر على ما قيل لو وزنت بأمتي لرجحت بهم قانِتاً لِلَّهِ مطيعا له سبحانه على أكمل وجه حَنِيفاً مائلا عن كل ما سواه تعالى وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بنسبة شيء إلى غيره سبحانه شاكِراً لأنعمه مستعملا لها على ما ينبغي اجْتَباهُ اختاره بلا واسطة عمل لكونه من الذين سبقت لهم الحسنى فتقدم كشوفهم على سلوكهم وَهَداهُ بعد الكشف إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو مقام الإرشاد والدعوة ينعون به مقام الفرق بعد الجمع وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وهي الذكر الجميل والملك العظيم والنبوة وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ قيل أي في عالم الأرواح لَمِنَ الصَّالِحِينَ المتمكنين في مقام الاستقامة وقيل أي يوم القيامة لمن الصالحين للجلوس على بساط القرب والمشاهدة بلا حجاب وهذا لدفع توهم أن ما أوتيه في الدنيا ينقص مقامه في العقبى كما قيل إن مقام الولي المشهور دون الولي الذي في زوايا الحمول، وإليه الإشارة بقولهم: الشهرة آفة، وقد نص على ذلك الشعراني في بعض كتبه إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وهم اليهود واختاروه لأنه اليوم الذي انتهت به أيام الخلق فكان بزعمهم أنسب لترك الأعمال الدنيوية وهو على ما قال الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات يوم الأبد الذي لا انقضاء له فليله في جهنم ونهاره في الجنة واختيار النصارى ليوم الأحد لأنه أول يوم اعتنى الله تعالى فيه بخلق الخلق فكان بزعمهم أولى بالتفرغ لعبادة الله تعالى وشكره سبحانه، وقد هدى الله تعالى لما هو أعظم من ذلك وهو يوم الجمعة الذي أكمل الله تعالى به الخلق وظهرت فيه حكمة الاقتداء بخلق الإنسان الذي خلق على صورة الرحمن فكان أولى بأن يتفرغ فيه الإنسان للعبادة والشكر من ذينك اليومين وسبحان من خلق فهدى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ لما في ذلك من قهر النفس الموجب لترقيها إلى أعلى المقامات وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ قيل:
الصبر أقسام: صبر لله تعالى. وصبر في الله تعالى. وصبر مع الله تعالى. وصبر عن الله تعالى. وصبر بالله تعالى، فالصبر بالله تعالى هو من لوازم الإيمان وأول درجات الإسلام وهو حبس النفس عن الجزع عند فوات مرغوب أو وقوع مكروه وهو من فضائل الأخلاق الموهوبة من فضل الله تعالى لأهل دينه وطاعته المقتضية للثواب الجزيل. والصبر في الله تعالى هو الثبات في سلوك طريق الحق وتوطين النفس على المجاهدة بالاختيار وترك المألوفات واللذات وتحمل البليات وقوة العزيمة في التوجه إلى منبع الكمالات وهو من مقامات السالكين يهبه الله تعالى لمن يشاء من أهل الطريقة، والصبر مع الله تعالى هو لأهل الحضور والكشف عند التجرد عن ملابس الأفعال والصفات والتعرض لتجليات الجمال والجلال وتوارد واردات الأنس والهيبة فهو بحضور القلب لمن كان له قلب والاحتراس عن الغفلة والغيبة عند التلوينات بظهور النفس، وهو أشق على النفس من الضرب على الهام وإن كان لذيذا جدا، والصبر عن الله تعالى هو لأهل العيان
494
والمشاهدة من العشاق المشتاقين المتقلبين في أطوار التجلي والاستتار المنخلعين عن الناسوت المتنورين بنور اللاهوت ما بقي لهم قلب ولا وصف كلما لاح لهم نور من سبحات أنوار الجمال احترقوا وتفانوا وكلما ضرب لهم حجاب ورد وجودهم تشويقا وتعظيما ذاقوا من ألم الشوق وحرقة الفرقة ما عيل به صبرهم وتحقق موتهم، والصبر بالله تعالى هو لأهل التمكين في مقام الاستقامة الذين أفناهم الله تعالى بالكلية وما ترك عليهم شيئا من بقية الآنية والاثنينية ثم وهب لهم وجودا من ذاته حتى قاموا به وفعلوا بصفاته وهو من أخلاق الله تعالى ليس لأحد فيه نصيب، ولهذا بعد أن أمر سبحانه به نبيه ﷺ بين له عليه الصلاة والسلام إنك لا تباشره إلا بي ولا تطيقه إلا بقوتي ثم قال سبحانه له صلى الله عليه وسلم: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ فالكل مني وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ لانشراح صدرك بي إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا بقاياهم وفنوا فيه سبحانه وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ بشهود الوحدة في الكثرة وهؤلاء الذين لا يحجبهم الفرق عن الجمع ولا الجمع عن الفرق ويسعهم مراعاة الحق والخلق، وذكر الطيبي أن التقوى في الآية بمنزلة التوبة للعارف والإحسان بمنزلة السير والسلوك في الأحوال والمقامات إلى أن ينتهي إلى محو الرسم والوصول إلى مخدع الأنس، هذا والله سبحانه الهادي إلى سواء السبيل فنسأله جل شأنه أن يهدينا إليه ويوفقنا للعلم النافع لديه ويفتح لنا خزائن الأسرار ويحفظنا من شر الأشرار بحرمة القرآن العظيم والرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم.
495

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الإسراء
وتسمى الإسراء وسبحان أيضا وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم مكية وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور، وقال صاحب الغنيان بإجماع، وقيل الآيتين وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء: ٧٣] وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ [الإسراء: ٧٦] وقيل إلا أربعا هاتان وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الإسراء: ٦٠] وقوله سبحانه: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [الإسراء: ٨٠] وزاد مقاتل قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ [الإسراء: ١٠٧] الآية.
وعن الحسن إلا خمس آيات وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ [الإسراء: ٣٣] الآية وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء: ٣٢] الآية أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ [الإسراء: ٥٧] الآية أَقِمِ الصَّلاةَ [الإسراء: ٧٨] الآية وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ [الإسراء:
٢٦] الآية، وقال قتادة: إلا ثماني آيات وهي قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إلى آخرهن، وقيل غير ذلك، وهي مائة وعشر آيات عند الجمهور وإحدى عشرة عند الكوفيين
وكان صلّى الله تعالى عليه وسلّم كما أخرج أحمد.
والترمذي وحسنه. والنسائي. وغيرهم عن عائشة يقرؤها والزمر كل ليلة، وأخرج البخاري. وابن الضريس وابن مردويه عن ابن مسعود
أنه قال في هذه السورة والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادي، وهذا وجه في ترتيبها، ووجه اتصال هذه بالنحل- كما قال الجلال السيوطي- أنه سبحانه لما قال في آخرها إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل: ١٢٤] ذكر في هذه شريعة أهل السبت التي شرعها سبحانه لهم في التوراة فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل، وذكر تعالى فيها عصيانهم وإفسادهم وتخريب مسجدهم واستفزازهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وإرادتهم إخراجه من المدينة وسؤالهم إياه عن الروح ثم ختمها جل شأنه بآيات موسى عليه السلام التسع وخطابه مع فرعون وأخبر تعالى أن فرعون أراد أن يستفزهم من الأرض فأهلك وورث بنو إسرائيل من بعده وفي ذلك تعريض بهم أنهم سينالهم ما نال فرعون حيث أرادوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ما أراد هو بموسى عليه السلام وأصحابه، ولما كانت هذه السورة مصدّرة بقصة تخريب المسجد الأقصى افتتحت بذكر إسراء المصطفى صلّى الله عليه وسلّم تشريفا له بحلول ركابه الشريف جبرا لما وقع من تخريبه.
وقال أبو حيان في ذلك: إنه تعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر ونهاه عن الحزن على الكفرة وضيق الصدر من مكرهم وكان من مكرهم نسبته صلّى الله عليه وسلّم إلى الكذب والسحر والشعر وغير ذلك مما رموه وحاشاه به عقب ذلك بذكر شرفه وفضله وعلو منزلته عنده عز شأنه، وقيل: وجه ذلك اشتمالها على ذكر نعم منها خاصة ومنها عامة وقد ذكر في سورة النحل من النعم ما سميت لأجله سورة النعم واشتمالها على ذكر شأن القرآن العظيم كما اشتملت تلك وذكر سبحانه هناك في النحل يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل: ٦٩] وذكر هاهنا في
3
Icon