تفسير سورة النحل

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة النحل من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة النحل مكية إلا ﴿ وإن عاقبتم ﴾ إلى آخرها وهي مائة وثمان وعشرون آية.

(أتى أَمْرُ الله) أي الساعة أو ما يعمُّها وغيرَها من العذاب الموعود للكفرة عبّر عن ذلك بأمر الله للتفخيم والتهويل وللإيذان بأن تحققَه في نفسه وإيتانه منوطٌ بحكمه النافذِ وقضائِه الغالب وإتيانُه عبارةٌ عن دنوّه واقترابِه على طريقة نظمِ المتوقَّعِ في سلك الواقع أو عن إتيان مباديه القريبةِ على نهج إسنادِ حال الأسبابِ إلى المسببات وأياما كان ففيه تنبيهٌ على كمال قربِه من الوقوع واتصالِه وتكميلٌ لحسن موقع التفريع في قولِه عزَّ وجلَّ (فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ) فإن النهيَ عن استعجال الشيءِ وإن صح تفريعُه على قرب وقوعِه أو على وقوع أسبابه القريبة لكنه ليس بمثابة تفريعِه على وقوعه إذ بالوقوع يستحيل الاستعجالُ رأساً لا بما ذكر من قرب وقوعِه ووقوعِ مباديه والخطابُ للكفرة خاصة كما يدل عليه القراءةُ على صيغة نهي الغائبِ واستعجالُهم وإن كان بطريق الاستهزاءِ لكنه حُمل على الحقيقة ونُهوا عنه بضرب من التهكم لا مع المؤمنين سواءٌ أريد بأمر الله ما ذُكر أو العذاب الموعود للكفرة خاصة أما الأول فلأنه لا يتصور من المؤمنين استعجالُ الساعة أو ما يعمُّها وغيرَها من العذاب حتى يعمهم النهيُ عنه وأما الثاني فلأن استعجالَهم له بطريق الحقيقةِ واستعجالَ الكفرة بطريق الاستهزاءِ كما عرَفْته فلا ينتظمها صيغةٌ واحدة والالتجاءُ إلى إرادة معنىً مجازيَ يعمهما معاً من غير أن يكون هناك رعايةُ نكتة سرّية تعسفٌ لا يليق بشأن التنزيلِ الجليلِ وما روي من أنه لما نزلت اقتربت الساعة قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعُم أن القيامة قد قرُبت فأمسِكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائنٌ فلما تأخّرت قالوا ما نرى شيئاً فنزلت اقترب لِلنَّاسِ حسابهم فأشفقوا وانتظروا اقربها فلما امتدت الأيامُ قالوا يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزلت أتى أَمْرُ الله فوثب رسول الله ﷺ فرفع الناس رءوسهم فلما نزل فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ اطمأنوا فليس فيه دَلالةٌ على عموم الخطاب كما قيل لا لما تُوهم من أن التصديرَ بالفاء يأباه فإنه بمعزل عن إبائه حسبما تحققْتَه بل لأن مناطَ اطمئنانِهم إنما وقوفُهم على أن المرادَ بالإتيان هو الإتيانُ الادّعائي لا الحقيقيُّ الموجبُ لاستحالة الاستعجال المستلزم لامتناع النهي عنه لِما إن النهيَ عن الشيء يقتضي إمكانَه في الجملة ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهيُ عن الاستعجال المستلزمِ لإمكانه المقتضي لعدم وقوعِ المستعجَل بعدُ ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجِل كائناً مَنْ كان بل فيه دَلالةٌ واضحة على عدم
94
النحل ٢ العمومِ لأن المراد بأمر الله إنما هو الساعةُ وقد عرفت استحالةَ صدور استعجالِها عن المؤمنين نعم يجوز تخصيصُ الخطاب بهم على تقدير كونِ أمر الله عبارةٌ عن العذابِ الموعودِ للكفرة خاصة لكن الذي يقضي به الإعجازُ التنزيليُّ أنه خاصٌّ بالكفرة كما ستقف عليه ولمّا كان استعجالُهم ذلك من نتائج إشراكِهم المستتبعِ لنسبة الله عزَّ وجلَّ إلى مالا يليق به من العجز والاحتياج إلى الغير واعتقادِ أن واحدا يحجُزه عن إنجاز وعدِه وإمضاء وعيدِه وقد قالوا في تضاعيفه إن صح مجيءُ العذاب فالأصنامُ تخلّصنا عنه بشفاعتها رُدَّ ذلك فقيل بطريق الاستئناف (سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه وتقدّس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدِّي إلى صدور أمثالِ هذه الأباطيلِ عنهم أو عن أنْ يكون له شريكٌ فيدفعَ ما أراد بهم بوجه من الوجوه وصيغةُ الاستقبالِ للدِلالة على تجدد إشراكِهم واستمرارِه والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذانِ باقتضاء ذكرِ قبائحِهم للإعراض عنهم وطرحِهم عن رتبة الخطاب وحكايةِ شنائعهم لغيرهم وعلى تقدير تخصيصِ الخطابِ بالمؤمنين تفوت هذه النُّكتةُ كما يفوت ارتباطُ المنهي عنه بالمتنزه عنه وقُرىء على صيغة الخطاب
95
(يُنَزّلُ الملائكة) بيانٌ لتحتم التوحيدِ حسبما نُبّه عليه تنبيهاً إجمالياً ببيان تقدّس جنابِ الكبرياءِ وتعاليه عن أن يحوم حول شائبةُ أنْ يشارَكه شيءٌ في شيء وإيذانٌ بأنه دينٌ أجمع عليه جمهورُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأُمروا بدعوة الناسِ إليه مع الإشارة إلى سر البغتة والتشريعِ وكيفية إلقاءِ الوحي والتنبيهِ على طريق علمِ الرسول ﷺ بإتيان ما أوعدهم به وباقترابه إزاحةً لاستبعادهم اختصاصَه عليه الصلاة والسلام بذلك وإظهاراً لبُطلان رأيهم في الاستعجال والتكذيب وإيثارُ صيغةَ الاستقبالِ للإشعارِ بأن ذلك عادةٌ مستمرةٌ له سبحانه والمرادُ بالملائكة إما جبريلُ عليهِ السَّلامُ قالَ الواحدي يسمَّى الواحدُ بالجمع إذا كان رئيساً أو هُو ومَنْ مَعَهُ من حفَظَة الوحي بأمر الله تعالى وقرىء يُنْزِل من الإنزال وتَنَزَّلُ بحذف إحدى التاءين وعلى صيغةِ المبنيِّ للمفعولِ من التنزيل (بالروح) أي بالوحي الذي من جملته القرآنُ على نهج الاستعارة فإنه يحي القلوب المبتة بالجهل أو يقوم في الدين مقامَ الروح في الجسد والباء متعلقةٌ بالفعل أو بما هو حالٌ من مفعوله أي ملتبسين بالروح (مِنْ أَمْرِهِ) بيانٌ للروحِ الذي أريدَ بهِ الوحيُ فإنَّه أمرٌ بالخيرِ أو حالٌ منِهُ أيْ حالَ كونِه ناشئاً ومبتدأً منه أو صفةٌ له على رأي من جوّز حذفَ الموصول مع بعض صلته أي بالروح الكائن من أمره الناشىءِ منه أو متعلقٌ بينزّل ومِنْ للسببيةِ كالباءِ مثلُ ما في قوله تعالى مّمَّا خطيئانهم أي ينزلهم بأمره (على مَن يَشَاء مِنْ عباده) أن ينزِّلَهم به عليهم لاختصاصهم بصفات تؤهّلهم لذلك (أَنْ أَنْذِرُواْ) بدلٌ من الروح أي ينزلهم ملتبسين بأن أنذِروا أي بهذا القول والمخاطَبون به الأنبياءُ الذين نزلت الملائكةُ عليهم والآمرُ هو الله سبحانه والملائكةُ نَقَلةٌ للأمر كما يُشعر به الباء في المبدَل منه وأن إما مخففةٌ من أنَّ وضميرُ الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ أي ينزلهم ملتبسين بأن
95
النحل ٣ ٥ الشأنَ أقول لكم أنذِروا أو مفسّرةٌ على أن تنزيلَ الملائكة بالوحي فيه معنى القولِ كأنه قيل يقول بواسطة الملائكةِ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أنذروا فلا محلَّ لها من الإعرابِ أو مصدريةٌ لجواز كون صلتِها إنشائيةً كما في قوله تعالى وأن أَقِمْ وَجْهَكَ حسبما ذكر في أوائل سورة هودٍ فمحلُّها الجرُّ على البدلية أيضاً والإنذارُ الإعلام خلا أنه مختصٌّ بإعلام المحذورِ من نذر بالشيء إذا علمه فخذوه وأنذره بالأمر إنذاراً أي أعلمه وحذره وخوفه في إبلاغه كذا في القاموس أي أعلِموا الناس (أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ) فالضمير للشأن ومدارُ وضعِه موضعَه ادِّعاءُ شهرتِه المُغْنية عن التصريحِ بهِ وفائدةُ تصديرِ الجملة به الإيذانُ من أول الأمرِ بفَخامة مضمونِها مع ما فيه من زيادة تقريرٍ له في الذهن فإنَّ الضميرَ لا يُفهمُ منه ابتداءً إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما يعقبه فيتمكن لديه عند وروده فضلُ تمكن كأنه قيل أنذروا إن الشأنَ الخطيرَ هذا وإنباءُ مضمونِه عن المحذور ليس لذاته بل من حيث اتصافُ المنذَرين بما يضادُّه من الإشراك وذلك كافٍ في كون إعلامِه إنذاراً وقوله سبحانه (فائقون) خطابٌ للمستعجِلين على طريقة الالتفاتِ والفاءُ فصيحةٌ أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادتِه تعالى بتنزيل الملائكةِ على الأنبياءِ عليهم السلامُ وأمرِهم بأن ينذِروا الناسِ أنه لا شريكٍ له في الألوهية فائقون في الإخلال بمضمونه ومباشرةِ ما ينافيه من الإشراك وفروعِه التي من جُملتها الاستعجالُ والاستهزاءُ وبعد تمهيدِ الدليل السمعيِّ للتوحيد شُرِع في تحرير الأدلة العقلية فقيل
96
(خُلِقَ السموات والأرض بالحق) أي أوجدهما على ما هما عليه من الوجه الفائق والنمطِ اللائق (تَعَالَى) وتقدّس بذاته لا سيما بأفعاله التي من جملتها إبداعُ هذين المخلوقين (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكِهم المعهودِ أو عن شركِة ما يشركونه به من الباطل الذي لا يُبدىء ولا يعيد وبعد ما نبّه على صنعه الكليِّ المنطوي على تفاصيل مخلوقاتِه شرَع في تعداد ما فيه من خلائقه فبدأ بفعله المتعلق بالأنفس فقال
(خَلَقَ الإنسان) أي هذا النوعَ غيرَ الفرد الأول منه (مِن نُّطْفَةٍ) جماد لا حسَّ له ولا حَراكَ سيالٍ لا يحفظ شكلاً ولا وضعاً (فَإِذَا هُوَ) بعد الخلق (خَصِيمٌ) مِنطيقٌ مجادِلٌ عن نفسه مكافِحٌ للخصوم (مُّبِينٌ) لحجته لقِنٌ بها وهذا أنسبُ بمقام الامتنانِ بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته تعالى ووحدتِه أو مخاصمٌ لخالقه منكِرٌ له قائلٌ مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ وهذا أنسبُ بمقام تعداد هَناتِ الكفرة روى أن ابي به خلفٍ الجُمَحي أتى النبيَّ صلَّى الله عليهِ وسلم بعظم رميم فقال يا محمدا أترى الله تعالى يحي هذا بعدما قد رمّ فنزلت
(والانعام) وهي الأزواجُ الثمانية من الإبلُ والبقرُ والضَّأنُ والمعزُ وانتصابه بمضمر يفسره قوله تعالى (خَلَقَهَا) أو بالعطف على الإنسان وما بعده بيانُ ما خُلق لأجله والذي بعده تفصيلٌ لذلك وقوله تعالى (لَكُمْ) إما متعلقٌ بخلَقها وقوله (فِيهَا) خبرٌ مقدم وقوله (دِفْء) مبتدأٌ وهو ما يُدفأ به فيقي من البرد والجملةُ حالٌ منَ المفعولِ أوِ
96
النحل ٦ ٧ الظرفُ الأول خبرٌ للمبتدأ المذكور وفيها حال من دفء إذ لو تأخر لكان صفة (ومنافع) هي دَرّها ورُكوبها وحملُها والحِراثة بها وغيرُ ذلك وإنما عبّر عنها بها ليتناول الكل مع أنه الأنسب بمقام الامتنان بالنعم وتقديمُ الدفء على المنافع لرعاية أسلوب الترقي إلى الأعلى (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) أي تأكُلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم وغيرِ ذلك وتغييرُ النظم للإيماء إلى أنها لا تبقى عند الأكل كما في السابق واللاحقِ فإن الدفءَ والمنافعَ والجَمال يحصل منها وهي باقيةٌ على حالها ولذلك جُعلت محالَّ لها بخلاف الأكل وتقديمُ الظرف للإيذان بأن الأكلَ منها هو المعتادُ المعتمدُ في المعاش لأن الأكلَ مما عداها من الدجاج والبط وصيد البرِّ والبحرِ من قبيل التفكّه مع أنَّ فيهِ مراعاةً للفواصل ويحتمل أن يكون معنى الأكلِ منها أكلَ ما يحصل بسببها فإن الحبوبَ والثمارَ المأكولة تُكتسب بإكراء الإبلِ وبإثمار نِتاجها وألبانها وجلودها
97
(وَلَكُمْ فِيهَا) مع ما فصل من أنواع المنافع الضرورية (حمال) أي زينةٌ في أعين الناس ووَجاهةٌ عندهم (حِينَ تُرِيحُونَ) ترُدّونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) تخرِجونها بالغداة من حظائرها إلى مسارحها فالمفعول محذوفٌ من كلا الفعلين لرعاية الفواصل وتعيين الوقتيين لأن ما يدور عليه أمرُ الجمال من تزين الأفنية والأكنافِ بها وبتجاوب ثُغائها ورُغائها إنما هو عند ورودها وصدورها في ذينك الوقتين وأما عند كونِها في المراعي فينقطع إضافتُها الحسية إلى أربابها وعند كونِها في الحظائر لا يراها راءٍ ولا ينظر إليها ناظرٌ وتقديمُ الإراحةِ على السَّرْح لتقدم الورودِ على الصدور ولكنوها أظهرَ منه في استتباع ما ذُكر من الجمال وأتمَّ في استجلاب الأنسِ والبهجة إذ فيها حضورٌ بعد غَيبة وإقبالٌ بعد إدبار على أحسنِ ما يكون ملأى البطونِ مرتفعةَ الضروع وقرىء حيناً تريحون وحيناً تسرحون على أن كِلا الفعلين وصفٌ لحيناً بمعنى تريحون فيه وتسرحون فيه
(وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ) جمعُ ثَقَلٍ وهُو متاعُ المسافر وقيل أثقالكم أجرامكم (إلى بَلَدٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما أريد به اليمنُ ومصرُ والشامُ ولعله نظر إلى أنها متاجرُ أهل مكة وقال عكرمةَ أريد به مكةُ ولعله نظر إلى أن أثقالَهم وأحمالهم عند القُفول من متاجرهم أكثرُ وحاجتُهم إلى الحمولة أمسُّ والظاهرُ أنه عام لكل بلد سحيق (لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه) واصلين إليه بأنفسكم مجردين عن الأثقال لولا الإبل (إِلاَّ بِشِقّ الأنفس) فضلاً عن استصحابها معكم وقرىء بفتح الشين وهما لغتان بمعنى الكُلفة والمشقة وقيل المفتوحُ مصدرٌ من شق الأمرُ عليه شقاً وحقيقتُه راجعة إلى الشِق الذي هو الصَّدْع والمكسورُ النصفِ كأنه يُذهب نصفَ القوة لما يناله من الجهد فالإضافة إلى الأنفس مجازيةٌ أو على تقديرِ مضافٍ أي وإلا بشق قُوى الأنفس وهو استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأشياء أي لم تكونوا بالغيه بشيءٍ من الأشياءِ إلا بشق الأنفس ولعل تغييرَ النظمِ الكريم السابقِ الدال على كون الأنعامِ مدار للنعم السابقة إلى الجملة الفعلية المفيدة لمجرد الحوث للإشعار بأن
97
النحل ٨ ٩ هذه النعمةَ ليست في العموم بحسب المنشأ وبحسب المتعلق وفي الشمول للأوقات والاطّراد في الأحيان المعهودة بمثابة النعمِ السالفة فإنها بحسب المنشأ وخاصةٌ بالإبل وبحسب المتعلق بالضاربين في الأرض المتقلبين فيها للتجارة وغيرِها في أحايينَ غيرِ مطّردة وأما سائرُ النعم المعدودةِ فموجودةٌ في جميع أصناف الأنعامِ وعامةٌ لكافة المخاطبين دائماً أو في عامة الأوقات (إِنَّ رَبَّكُمْ لرءوف رَّحِيمٌ) ولذلك أسبغ عليكم هذه النعمَ الجليلةَ ويسّر لكم الأمورَ الشاقة
98
(والخيل) هو اسمُ جنس للفرس لا واحد له من لفظه كالإبل وهو عطفٌ على الأنعام أي خلق الخيل (والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا) تعليلٌ بمعظم منافعها وإلا فالانتفاعُ بها بالحمل أيضاً مما لا ريب في تحققه (وَزِينَةٌ) عطفٌ على محل لتركبوها وتجريدُه عن اللام لكونه فعلاً لفاعل المعلل دون الأولِ وتأخيرُه لكون الركوبِ أهمَّ منه أو مصدرٌ لفعل محذوفٍ أي وتتزيّنوا بها زينةً وقرىء بغير واو أي خلقها زينةً لتركبوها ويجوزُ أنْ يكونَ مصدراً واقعاً موقعَ الحالِ من فاعلِ تركبوها أو مفعولِه أي متزينيين بها أو متزينا بها (ويخلق مالا تَعْلَمُونَ) أي يخلق في الدنيا غيرَ ما عُدد من أصناف النعم فيكم ولكم مالا تعلمون كنهَه وكيفيةَ خلقِه فالعدولُ إلى صيغة الاستقبال للدِلالة على الاستمرار والتجددِ أو لاستحضار الصورة أو يخلق لكم في الجنة غيرَ ما ذُكر من النعم الدنيوية مالا تعلمون أي ما ليس من شأنكم أن تعلموه وهو ما أُشير إليه بقوله ﷺ حكاية عن الله تعالى أعددت لعبادى الصالحين مالا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر ويجوز أن يكون هذا إخباراً بأنه سبحانه يخلق من الخلائق مالا علمَ لنا به دَلالةً على قدرته الباهرة الموجبةِ للتوحيد كنعمته الباطنة والظاهرة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عن يمين العرش نهراً من نور مثلَ السمواتِ السبع والأرضين السبع والبحارِ السبعة يدخل فيه جبريلُ عليه السلام كل سَحَر فيغتسل فيزداد نوراً إلى نور وجمالاً إلى جمال وعِظماً إلى عظم ثم ينتفض فيخلق الله تُعالى مِنْ كلِّ قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألفَ ملَك فيدخل منهم كل يوم سبعون ألفَ ملكٍ البيتَ المعمور وسبعون ألف ملك الكعبة لا يعودون إليه إلى يوم القيامة
(وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل) القصدُ مصدر بمعنى الفاعل يقال سبيلٌ قصْدٌ وقاصدٌ أي مستقيم على طريقة الاستعارة أو على نهج إسنادِ حال سالكِه إليه كأنه يقصِد الوجهَ الذي يؤمه السالكُ لا يعدِل عنه أي حقٌّ عليه سبحانه وتعالى بموجب رحمته ووعدِه المحتوم بيانُ الطريق المستقيمِ الموصلِ لمن يسلكه إلى الحقِّ الذي هو التوحيدُ بنصب الأدلةِ وإرسالِ الرسل وإنزال الكتبِ لدعوة الناس إليه أو مصدرٌ بمعنى الإقامة والتعديل قاله أبو البقاء ي عليه عز وجل تقويمُها وتعديلها أي جعلُها بحيث يصل سالكُها إلى الحق لكن لا بعدما كانت في نفسها منحرفةً عنه بل إبداعُها ابتداءً كذلك على نهج قوله سُبحان مَنْ صغر البعوضَ وكبّر الفيل وحقيقتُه راجعةٌ إلى ما ذكر من نصب الأدلةِ وقد فَعل ذلك حيث أبدع هذه البدائعَ التى كلُّ واحد منها
98
لاحبٌّ يهتدى بمناره وعلَمٌ يُستضاء بناره وأَرسل رسلاً مبشرين ومنذرين وأَنزل عليهم كتباً من جملتها هذا الوحيُ الناطقُ بحقيقة الحقِّ الفاحصِ عن كل ما جلّ من الأسرار ودقّ الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك الأدلةِ المفضية إلى معالم الهدى المنحية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى ألا يُرى كيف بيّن أولاً تنزُّهَ جنابِ الكبرياء وتعالِيَه بحسب الذات عن أن يحوم حوله شائبةُ توهمِ الإشراك ثم أوضح سرَّ إلقاءِ الوحي على الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسلام وكيفيةَ أمرِهم بإنذار الناس ودعوتِهم إلى التوحيد ونهيِهم عن الإشراك ثم كرّ على بيان تعاليه عن ذلك بحسب الأفعالِ مرشداً إلى طريقة الاستدلالِ فبدأ بفعله المتعلق بمحيط العالم الجُسماني ومركزِه بقوله تعالى خُلِقَ السموات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم فصّل أفعالَه المتعلقةَ بما بينهما فبدأ بفعله المتعلّق بأنفس المخاطَبين ثم ذكر ما يتعلق بما لا بد لهم منه في معايشهم ثم بين قدرته على خلق مالا يحيط به علمُ البشر بقوله ويخلق مالا تَعْلَمُونَ وكلُّ ذلك كما ترى بيانٌ لسبيل التوحيد غِبَّ بيانٍ وتعديلٌ له أيُّما تعديلٍ فالمرادُ بالسبيل على الأول الجنسُ بدليل إضافة القصد إليه قوله تعالى (وَمِنْهَا) في محلِ الرفعِ على الابتداء إما باعتبار مضمونِه وإما بتقدير الموصوف كما في قوله تعالى ومنادون ذلك وقد مرَّ في قولِه تعالى وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله وباليوم الأخر الخ أي بعضُ السبيل أو بعضٌ من السبيل فإنها تؤنث وتذكر (جَائِرٌ) أي مائلٌ عن الحق منحرفٌ عنه لا يوصِل سالكَه إليه وهو طرقُ الضلال التي لا يكاد يحصى عددُها المندرجُ كلُّها تحت الجائر وعلى الثاني نفسُ السبيل المستقيم والضميرُ في منها راجع إليها بتقدير المضاف أي ومن جنسها لما عرفتَ من أنَّ تعديلَ السبيل وتقويمَه إبداعُه ابتداءً على وجه الاستقامةِ والعدالةِ لا تقويمُه بعد انحرافه وأياما كان فليس في النظم الكريم تغييرُ الأسلوب رعايةً لأمر مطلوب كما قيل فإن ذلك إنما يكون فيما اقتضى الظاهر سبكاً معيناً ولكن يُعدل عن ذلك لنُكتة أهمَّ منه كما في قوله سبحانه الذى يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ فإن مقتضى الظاهرِ أن يقال والذي يُسقِمني ويشفينِ ولكن غُيِّر إلى مَا عليهِ النظمُ الكريمُ تفادياً عن إسناد ما تكرهه النفسُ إليه سبحانه وليس المرادُ ببيان قصدِ السبيل مجردَ إعلامِ أنه مستقيمٌ حتى يصِحّ إسنادُ أنه جائرٌ إليه تعالى فيُحتاجَ إلى الاعتذار عن عدم ذلك على أنه لو اريد ذاك لم يوجد لتغيير الأسلوبِ نكتةٌ وقد بُين ذلك في مواضعَ غير معدودةٍ بل المرادُ ما مر من نصب الأدلةِ لهداية الناسِ إليه ولا إمكانَ لإسناد مثلِه إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق الجائر بأن يقال وجائرها ثم يُغير سبكُ النظم عن ذلك لداعية أقوى منه بل الجملةُ الظرفيةُ اعتراضيةٌ جيء بها لبيان الحاجةِ إلى البيان والتعديل وإظهارِ جلالة قدرِ النعمة في ذلك والمعنى على الله تعالى بيانُ الطريق المستقيم الموصِل إلى الحقِّ وتعديلُه بما ذكر من نصب الأدلةِ ليسلُكَه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصِد وهذا هو الهدايةُ المفسرة بالدلالة على ما يوصلُ إلى المطلوب لا الهدايةُ المستلزمةُ للاهتداء البتةَ فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته بل هو مُخلٌّ بحكمته حيث يستدعيه تسويةَ المحسِن والمسيء والمطيعِ والعاصي بحسب الاستعدادِ وإليه أُشير بقوله تعالى (وَلَوْ شَاء الله لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لو شاء أن يهديَكم إلى ما ذكر من التوحيد هدايةً موصلةً إليه البتةَ مستلزِمةً لاهتدائكم أجمعين لفعل ذلك ولكن لم يشأه لأن مشيئتَه تابعةٌ للحكمة الداعية إليها ولا
99
النحل ١٠ ١١ حكمةَ في تلك المشيئةِ لِما أن الذي عليه يدورُ فلَكُ التكليفِ وإليه ينسحب الثوابُ والعقابُ إنما هو الاختيارُ الجُزئي الذي عليه يترتب الأعمالُ التي بها نيط الجزاءُ هذا هو الذي يقتضيهِ المقامُ ويستدعيه حسنُ الانتظام وقد فُسّر كونُ قصدِ السبيل عليه تعالى بانتهائه إليه نهج الاستقامةِ وإيثارُ حرفِ الاستعلاءِ على أداة الانتهاءِ لتأكيد الاستقامةِ على وجه تمثيليَ من غير أن يكون هناك استعلاءٌ لشيء عليه سبحانه وتعالى عنه علواً كبيراً كما في قوله تعالى هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ فالقصدُ مصدرٌ بمعنى الفاعل والمرادُ بالسبيل الجنس كما مرَّ وقوله تعالى وَمِنْهَا جَائِرٌ معطوفٌ على الجملة الأولى والمعنى أن قصدَ السبيلِ واصلٌ إليه تعالى بالاستقامة وبعضُها منحرفٌ عنه ولو شاء لهداكم جميعاً إلى الأول وأنت خبيرٌ بأنَّ هَذا حقٌّ في نفسه ولكنه بمعزل عن نكتة موجبةٍ لتوسيطه بين ما سبق من أدلة التوحيدِ وبين ما لحِق ولمّا بُيِّن الطريقُ السمعيُّ للتوحيد على وجه إجماليَ وفصِّلَ بعضُ أدلتِه المتعلقة بأحوال الحيواناتِ وعُقب ذلك ببيان السرِّ الداعي إليه بعثاً للمخاطبين على التأمل فيما سبق وحثًّا على حسن التلقي لما لحِق أُتبِع ذلك ذِكرَ ما يدل عليه من أحوال النبات فقيل
100
(هُوَ الذى أَنَزلَ) بقدرته القاهرة (مّنَ السماء) أي من السحاب أو من جانب السماء (مَاء) أي نوعاً منه وهو المطرُ وتأخرُه عن المجرور لِما مر مرارا من أن المقصودَ هو الإخبارُ بأنه أنزل من السماء شيئاً هو الماء لا أنه أنزله من السماء والسرُّ فيه ما سلف من أن عند تأخيرِ ما حقُّه التقديم يبقى الذهنُ مترقباً له مشتاقاً إليه فيتمكّن لديه عند وروده عليه فضل تمكن (لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ) أي ما تشربونه وهو إما مرتفعٌ بالظرف الأول أو مبتدأٌ وهو خبرُه والجملةُ صفة لماءً والظرفُ الثاني نصبَ على الحالية من شراب ومن تبعيضيةٌ وليس في تقديمه إيهامُ حصر المشروب فيه حتى يفتقر إلى الاعتذار بأنه لا بأس به لأن مياهَ العيون والأبيارِ منه لقوله تعالى فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الارض وقولُه تعالى فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأرض وقيل الظرفُ الأولُ متعلقٌ بأنزل والثاني خبرٌ لشرابٌ والجملةُ صفةٌ لماءً وأنت خبير بأن ما فيه من توسيط المنصوبِ بين المجرورين وتوسيطِ الثاني منهما بين الماء وصفتِه مما لا يليقُ بجزالةِ نظمِ التنزيلِ الجليل (وَمِنْهُ شَجَرٌ) من ابتدائيةٌ أي ومنه يحصل شجرٌ ترعاه المواشي والمرادُ به ما ينبُت من الأرض سواءٌ كان له ساق أو لا أو تبعيضيةٌ مجازاً لأنه لما كان سقيُه من الماء جعل كأنه منه كقوله أسنمةُ الآبالِ في ربابه يعني به المطرَ الذي ينبت به الكلأُ الذي تأكله الإبلُ فتسمَن أسنمتُها وفي حديث عكرِمة لا تأكُلوا ثمنَ الشجر فإنه سُحْت يعني الكلأ (فيه تسيمون) ترعون من سامت الماشيةُ وأسامها صاحبها وأصلُها السُّومة وهي العلامةُ لأنها تؤثر بالرعي علاماتٍ في الأرض
(ينبت) أي الله عزَّ وجلَّ وقرىء بالنون (لَكُمْ بِهِ) بما أنزل من السماء (الزرع والزيتون والنخيل والاعناب) بيان للنعم الفائضة عليهم من الأرض
100
النحل ١٢ بطريق الاستئنافِ وإيثارُ صيغةِ الاستقبال للدِّلالةِ على التَّجددِ والاستمرارِ وأنها سنتُه الجاريةُ على مر الدهور أو لاستحضار صورةِ الإنبات وتقديمُ الظرفين على المفعول الصريحِ لما مر آنفاً مع ما في تقديم أولهما من الاهتمام به لإدخال المسرّةِ ابتداءً وتقديمُ الزرعِ على ما عداه لأنه أصلُ الأغذية وعَمودُ المعاش وتقديمُ الزيتون لما فيه من الشرف من حيث إنه أدام من وجه وفاكهة من وجه وتقديم النخيل على الأعناب لظهور أصالتِها وبقائها وجمع الأعناب للإشارة إلى ما فيها من الاشتمال على الأصناف المختلفةِ وتخصيصُ الأنواعِ المعدودة بالذكرِ مع اندراجِها تحتَ قولِه تعالى (وَمِن كُلّ الثمرات) للإشعار بفضلها وتقديمُ الشجر عليها مع كونه غذاءً للأنعام لحصوله بغير صنعٍ من البشر أو للإرشاد إلى مكارم الأخلاقِ فإن مقتضاها أن يكون اهتمامُ الإنسان بأمر ما تحت يده وأكمل من اهتمامه بأمر نفسه أو لأن أكثرَ المخاطَبين من أصحاب المواشي ليس لهم زرعٌ ولا ثمرٌ وقيل المراد تقديمُ ما يسام لا تقديمُ غذائه فإنه غذاءٌ حيوانيّ للإنسان وهو أشرف الأغذية وقرىء يَنبُت من الثلاثي مسنداً إلى الزرع وما عُطف عليهِ (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي في إنزال الماء وإنباتِ ما فُصّل (لآيَةً) عظيمة دالة على تفرده تعالى بالألوهية لاشتماله على كمال العلمِ والقدرةِ والحكمة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإن من تفكر في أن الحبةَ أو النواة تقع في الأرض وتصِل إليها نداوةٌ تنفُذ فيها فينشق أسفلُها فيخرُج منه عروق تنبسط في أعماق الأرضِ وينشق أعلاها وإن كانت منتكِسةً في الوقوع ويخرج منه ساقٌ فينمو ويخرج منه الأوراقُ والأزهارُ والحبوبُ والثمار المشتملةُ على أجسام مختلفةِ الأشكال والألوان والخواصِّ والطبائع وعلى نواة قابلةٍ لتوليد الأمثالِ على النمط المحرر لا إلى نهاية مع اتحاد الموادِّ واستواءِ نسبة الطبائعِ السفلية والتأثيراتِ العلوية بالنسبة إلى الكل علم أن مَنْ هذه أفعالُه وآثارُه لا يمكن أن يشبهه شيءٌ في شيءٍ من صفات الكمالِ فضلاً عن أن يشاركه أخص الأشياء في أخص صفاتِه التي هي الألوهيةُ واستحقاقُ العبادة تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً وحيث افتقر سلوكُ هذه الطريقةِ إلى ترتيب المقدّماتِ الفكرية قطَع الآيةَ الكريمةَ بالتفكر
101
(وسخر لكم الليل والنهار) يتعاقبان خِلْفةً لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها (والشمس والقمر) يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالةً وخلافةً وإصلاحِهما لما نيط بهما صلاحُه من المكونات التي من جملتها ما فُصّل وأُجْمل كلُّ ذلك لمصالحكم ومنافعكم وليس المرادُ بتسخيرها لها تمكينهم من تصرفها كيف شاءوا كما في قوله تعالى سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا ونظائرِه بل هو تصريفُه تعالى لها حسبما يترتب عليه منافعُهم ومصالحُهم كأن ذلك تسخيرٌ لهم وتصرفٌ من قبلهم حسب إرادتِهم وفي التعبير عن ذلك التصريف بالتسخير إيماءٌ إلى ما في المسخَّرات من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبين وإيثارُ صيغةِ الماضي للدَلالة عَلى أنَّ ذلكَ أمرٌ واحدٌ مستمر وإن تجددت آثارُه (والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ) مبتدأٌ وخبرٌ أي سائرُ النجوم في
101
النحل ١٣ حركاتها وأوضاعها من التثليث والتربيع ونحوهما مسخراتٌ لله تعالى أو لما خُلقن له بإرادته ومشيئتِه وحيث لم يكن عَودُ منافعِ النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من المَلَوَين والقمَرَين لم يُنسَبْ تسخيرُها إليهم بأداة الاختصاص بل ذُكر على وجه يفيد كونَها تحتَ ملكوتِه تعالى من غير دِلالةٍ على شيء آخرَ ولذلك عُدِل عن الجملة الفعليةِ الدَّالَّةِ على الحدوث إلى الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار وقرىء برفع الشمسَ والقمرَ أيضاً وقرىء بنصب النجوم على أنَّه مفعولٌ أولٌ لفعل مقدر ينبىء عنه الفعل المذكور ومسخرات مفعولٌ ثانٍ له أي وجعل النجوم مسخرات بأمره أو على أنه معطوفٌ على المنصوبات المتقدمة ومسخراتٌ حالٌ من الكل والعامل ما في سخّر من معنى نفعَ أي نفعكم بها حالَ كونها مسخرات الله الذي خلقها ودبرها كيف شاء أو لما خُلقن له بإيجاده وتقديرِه أو لحكمه أو مصدرٌ ميميّ جُمع لاختلاف الأنواعِ أي أنواعاً من التسخير وما قيل من أن فيه إيذاناً بالجواب عما عسى يقال أن المؤثرَ في تكوين النباتِ حركاتُ الكواكب وأوضاعُها بأن ذلك إنْ سَلِم فلا ريب في أنها أيضاً أمورٌ ممكنةُ الذات والصفات واقعةٌ على بعض الوجوه الممْكِنة فلا بد لها من موجد مخصّصٍ مختار واجبِ الوجود دفعاً للدَّوْر والتسَلْسُل فمبناه حسبانُ ما ذُكر أدلةً على وجودِ الصَّانعِ تعالى وقدرته واختيارِه وأنت تدري أنْ ليس الأمرُ كذلك فإنه ليس مما ينازَع فيه الخصمُ ولا يتلعثم في قبوله قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السمواتِ والأرضِ وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ وقال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السماء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الارض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله الآية وإنما ذلك أدلةُ التوحيد من حيث إن مَنْ هذا شأنُه لا يتوهم أنْ يشارَكه شيءٌ في شيء فضلاً عن أن يشاركه الجمادُ في الألوهية (إِنَّ فِى ذَلِكَ) أي فيما ذكر من التسخير المتعلّق بما ذكر مُجملاً ومفصلاً (لاَيَاتٍ) باهرةً متكاثرة (لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وحيث كانت هذه الآثارُ العلويةُ متعددةً ودلالةُ إما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمةِ على الوحدانية أظهرَ جُمع الآياتُ وعُلّقت بمجرد العقلِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى التأمل والتفكر ويجوز أن يكون المرادُ لقوم يعقلون ذلك فالمشار إليه حينئذ تعاجيبُ الدقائق المُودعةِ في العلويات المدلولِ عليها بالتسخير التي لا يتصدَّى لمعرفتها إلا المهَرةُ من أساطين علماءِ الحكمة ولا ريب في أن احتياجَها إلى التفكر أكثرُ
102
(وَمَا ذَرَأَ) عطفٌ على قوله تعالى والنجوم رفعاً ونصباً على أنه مفعولٌ لجعل أي وما خلق (لَكُمْ فِى الأرض) من حيوان ونبات حالِ كونه (مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) أي أصنافُه فإن اختلافها غالباً يكون باختلاف اللون مسخرٌ لله تعالى أو لما خُلق له من الخواصّ والأحوال والكيفياتِ أو جُعل ذلك مختلفَ الألوان أي الأصنافِ لتتمتعوا من ذلك بأي صنف شئتم وقد عُطف على ما قبله من المنصوبات وعُقِّب بأن ذكرَ الخلق لهم مغنٍ عن ذكر التسخير واعتُذر بأن الأول لا يستلزم الثانيَ لزوماً عقلياً لجواز كونِ ما خُلق لهم عزيزَ المرام صعبَ المنال وقيل هو منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ أي خلق وأنبت على أن قوله مختلفاً ألوانه حالٌ من مفعوله (إِنَّ فِى ذَلِكَ) الذي ذكر من التسخيرات ونحوها (لآيَةً) بينةَ الدِلالةِ على أن مَنْ هذا شأنُه واحد لا نِدَّ له ولا ضِدّ (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فإن ذلك غيرُ محتاج إلا إلى تذكرِ ما عسى يغفل عنه من العلوم
102
النحل ١٤ ١٥ الضرورية وأما ما يقال من أن اختلافها في الطباع والهيآت والمناظر ليس إلا بصنع صانع حكيم فمداره مالو حنا به من حسبان ما ذُكر دليلاً على إثبات الصانعِ تعالى وقد عرفتَ حقيقةَ الحال فإن إيراد ما يدل على اتصافه سبحانه بما ذُكر من صفاتِ الكمالِ ليس بطريق الاستدلالِ عليه بل من المقدِّمات المسلَّمةِ جيء به للاستدلال به على ما يقتضيه ضرورة من وحدانيته تعالى واستحالةُ أنْ يشاركَه شيءٌ في الألوهية
103
(وَهُوَ الذى سَخَّرَ البحر) شروعٌ في تعدادِ النعمِ المتعلقة بالبحر إثرَ تفصيل النعمِ المتعلقة بالبر حيواناً ونباتاً أي جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والغَوْص والاصطياد (لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا) هو السمك والتعبيرُ عنه باللحم مع كونه حيواناً للتلويح بانحصار الانتفاعِ به في الأكل ووصفُه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيهِ على وجوب المسارعةِ إلى أكله كيلا يتسارع إليه الفسادُ كما ينبىء عنه جعلُ البحر مبتدأَ أكلِه وللإيذان بكمال قدرتِه تعالى في خلقه عذباً طرياً في ماء زعاق ومن إطلاق اللحمِ عليه ذهب مالكٌ والثوري أن مَنْ حلفَ لا يأكلُ اللحم حنِث بأكله والجوابُ أن مبنى الأيمان العُرفُ ولا ريب في أنه لا يُفهم من اللحم عند الإطلاق ولذلك لو أمر خادمه بشراء اللحمِ فجاء بالسمك لم يكن ممتثلاً بالأمر ألا يرى إلى أن الله تعالى سمّى الكافرَ دابة حيث قال إِنَّ شَرَّ الدواب عند الله الذي كفروات ولا يحنَث بركوبه من حلَف لا يركب دابة (وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً) كاللؤلؤ والمَرْجان (تَلْبَسُونَهَا) عبر في مقام الامتنان عن لُبس نسائِهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لُبسِهن لأجلهم (وَتَرَى الفلك) السفن (مَوَاخِرَ فِيهِ) جواريَ فيه مُقبلةً ومدبرة ومعترضة بريح واحدة تشقه بحَيزومها من المخْر وهو شقُّ الماء وقيل هو صوتُ جَرْي الفلك (وَلِتَبْتَغُواْ) عطف على تستخرجوا وما عُطف هو عليه وما بينهما اعتراضٌ لتمهيد مبادىء الابتغاءِ ودفعِ توهم كونِه باستخراج الحِلية أو على علةٍ محذوفةٍ أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ذكره ابن الأنباري أو متعلقةٌ بفعل محذوفٍ أي وفعَل ذلك لتبتغُوا (من فضلِه) من سَعة رزقِه بركوبها للتجارة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي تعرِفون حقوقَ نعمِه الجليلةِ فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد ولعل تخصيصَ هذه النعمةِ بالتعقيب بالشكر من حيث إن فيها قطعاً لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلةٍ في مدة قليلة من غير مزاولةِ أسبابِ السفر بل من غير حركة أصلاً مع أنها في تضاعيف المهالكِ وعدمُ توسيط الفوزِ بالمطلوب بين الابتغاء والشكر للإيذان باستغنائه عن التَّصريحِ به وبحصولهما معاً
(وألقى فِى الارض رَوَاسِىَ) أي جبالاً ثوابتَ وقد مرَّ تحقيقُه في أول سُورة الرَّعدِ (أَن تَمِيدَ بِكُمْ) كراهةَ أنْ تميلَ بكم وتضطرب أولئلا تميدبكم فإن الأرضَ قبل أن تُخلقَ فيها الجبالُ كانت كرةً خفيفةً بسيطةَ الطبع وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك أو تتحركَ بأدنى سبب محرِّك فلما خُلقت الجبال تفاوتت حافاتها وتوجهت الجبال
103
النحل ١٦ ١٧ بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد وقيل لما خلق الله تعالى الأرضَ جعلت تمورُ فقالت الملائكة ما هي بمقر أحدٍ على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال ﴿وأنهارا﴾ أي وجعل فيه أنهاراً لأن في ألقى معنى الجعل ﴿وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ بها إلى مقاصدكم
104
﴿وعلامات﴾ معالمَ يَستدِلّ بها السابلةُ بالنهار من جبل ومنهل وريح وقد نُقل أن جماعة يشمّون الترابَ ويتعرفون به الطرقات ﴿وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ بالليل في البراري والبحارِ حيث لا علامة غيرُه والمرادُ بالنجم الجنسُ وقيل هو الثريا والفَرْقدان وبنات النعش والجدي وقرئ بضمتين وبضمة وسكون وهو جمع كرُهْن ورُهُن وقيل الأول بطريق حذف الواو من النجوم للتخفيف ولعل الضميرَ لقريش فإنهم كانوا كثيري الترددِ للتجارة مشهورين بالاهتداء بالنجوم في أسفارهم وصرفُ النظمِ عن سنن الخطاب وتقديمُ النجم وإقحامُ الضمير للتخصيص كأنه قيل وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون فالاعتبار بذلك والشكر عليه ألزم لهم وأوجب عليهم
﴿أَفَمَن يَخْلُقُ﴾ هذه المصنوعاتِ العظيمةَ ويفعل هاتيك الأفاعيلَ البديعة أو يخلق كلَّ شيء ﴿كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ شيئاً أصلاً وهو تبكيتٌ للكفرة وإبطالٌ لإشراكهم وعبادتِهم للأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينها وبينه سبحانه وتعالى بعد تعدادِ ما يقتضي ذلك اقتضاء ظاهراً وتعقيبُ الهمزة بالفاء لتوجيه الإنكارِ إلى توهم المشابهةِ المذكورة على ما فُصِّل من الأمور العظيمة الظاهرةِ الاختصاصِ به تعالى المعلومة كذلك فيما بينهم حسبما يُؤذِن به ما تلوناه من قولُه تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ الآيتين والاقتصارُ على ذكر الخلقِ من بينها لكونه أعظمَها وأظهرَها واستتباعِه إياها أو لكون كلَ منها خلقاً مخصوصاً أي أبعدَ ظهورِ اختصاصِه تعالى بمبدئية هذه الشئون الواضحةِ الدَّلالةِ على وحدانيته تعالى وتفرّدِه بالألوهية واستبدادِه باستحقاق العبادةِ يُتصوّر المشابهةُ بينه وبين ما هو بمعزل من ذلك بالمرة كما هو قضيةُ إشراكِكم ومدارها وإن كان على تشبيه غير الخالق بالخالق لكن التشبيه حيث كان نسبةٍ تقوم بالمنتسبين اختير مَا عليهِ النظمُ الكريمُ مراعاةً لحقّ سبْقِ الملَكةِ على العدم وتفادياً عن توسيط عدمِها بينها وبين جزئياتها المفصلة قبلها تبيها على كمالِ قبحِ ما فعلوه من حيث إن ذلك ليس مجردَ رفعِ الأصنام عن محلها بل هو حطٌّ لمنزلة الربوبيةِ إلى مرتبة الجماداتِ ولا ريب في أنه أقبحُ من الأول والمرادُ بمن لا يخلق كلُّ ما هذا شأنُه كائناً ما كان والتعبير عنه بما يختص بالعقلاء للمشاكلة أو العقلاءِ خاصة ويُعرف منه حالُ غيرهم لدِلالة النص فإن من يخلق حيث لم يكن كمن لا يخلق وهو من جملة العقلاءِ فما ظنُّك بالجماد وأياما كان فدخولُ الأصنام في حكم عدمِ المماثلة والمشابهةِ إما بطريق الاندراجِ تحت الموصولِ العام وإما بطريق الانفهام بدلالة النص على الطريقة البرهانية لا بأنها هي المرادةُ بالموصول خاصة ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ أي أَلاَ تلاحظون فلا تتذكرون ذلك فإنه لوضوحه بحيث لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر
﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله﴾ تذكيرٌ إجمالي لنعمه تعالى بعد تعدادِ طائفة منها وكان الظاهرُ إيرادَه عقيبَها تكملةً لها على طريقة قوله تعالى ويخلق مالا تَعْلَمُونَ ولعل فصلَ ما بينهما بقوله تعالى أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ للمبادرة إلى إلزام الحجة وإلقام الحجر إثرَ تفصيلِ ما فُصل من الأفاعيل التي هي أدلةُ الوحدانية مع ما فيه من سر ستقف عليه ودَلالتُها عليها وإن لم تكن مقصورةً على حيثية الخلق ضرورةَ ظهور دلالتِها من حيثية الإنعام أيضاً لكنها حيث كانت مستتبعاتِ الحيثيةِ الأولى استُغنيَ عن التصريح بهائم بُين حالها بطريق الإجمال أي إن تعدو نعمته الفائضةَ عليكم ممَّا ذُكر ومَا لم يذكر حسبما يُعرب عنه قوله تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً ﴿لاَ تُحْصُوهَا﴾ أي لا تطيقوا حصرَها وضبطَ عددِها ولوْ إجمالاً فضلاً عن القيام بشكرها قد خرجنا عن عُهدة تحقيقه في سورة إبراهيمَ بفضل الله سبحانه ﴿إِنَّ الله لَغَفُورٌ﴾ حيث يستُر ما فرَط منكُم من كفرانها والإخلالِ بالقيام بحقوقها ولا يعاجلُكم بالعقوبة على ذلك ﴿رَّحِيمٌ﴾ حيث يُفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحِرمان بما تأتون وتذرون من أصناف الكفرِ التي من جملتها عدمُ الفرق بين الخالقِ وغيرِه وكلٌّ من ذلك نعمةٌ وأيُّما نعمة فالجملة تعليلٌ للحكم بعدم الإحصاءِ وتقديمُ وصفِ المغفرة على نعت الرحمةِ لتقدم التخلية على التحلية
﴿والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ﴾ تُضمرونه من العقائد والأعمال ﴿وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ أي تظهرونه منهما وحُذف العائد لمراعاة الفواصلِ أي يستوي بالنسبة إلى علمه المحيطِ سرُّكم وعلنُكم وفيه من الوعيد والدِلالة على اختصاصه سبحانه بنعوت الإلهية مالا يخفى وتقديمُ السرِّ على العلن لما ذكرناه في سُورةِ البقرةِ وسُورة هودٍ من تحقيق المساواة بين عِلْميه المتعلِّقَين بهما على أبلغ وجهٍ كأن عِلمَه تعالى بالسرّ أقدمُ منه بالعلن أو لأن كلَّ شيء يعلن فهو قبل ذلك مضمرٌ في القلب فتعلّقُ علمِهِ تعالَى بحالتِهِ الأولى أقدمُ من تعلقه بحالته الثانية
﴿والذين يَدْعُونَ﴾ شروع في تحقيق كونِ الأصنام بمعزل من استحقاق العبادةِ وتوضيحُه بحيث لا يبقى فيه شائبةُ ريب بتعديد أوصافِها وأحوالِها المنافية لذلك منافاةً ظاهرةً وتلك الأحوالُ وإن كانت غنيةً عن البيان لكنها شُرحت للتنبيه على كمال حماقةِ عبدَتِها وأنهم لا يعرفون ذلك إلا بالتصريح أي والآلهةُ الذين يعبدهم الكفار ﴿مِن دُونِ الله﴾ سبحانه وقرئ على صيغة المبني للمفعول وعلى الخطاب ﴿لاَ يَخْلُقُونَ شيئا﴾ من الأشياء أصلا أي ليس من شأنهم ذلك ولمَّا لم يكُنْ بينَ نفي الخالقية وبين المخلوقية تلازمٌ بحسب المفهومِ وإن تلازما في الصدق أثبت لهم ذلك تصريحا فقيل ﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ أي شأنُهم ومقتضى ذاتِهم المخلوقيةُ لأنها ذواتٌ ممكنةٌ مفتقرةٌ في ما هياتها ووجوداتها إلى الموجد وبناء الفعل للمفعول لتحقيق التضادّ والمقابلة بين ما أُثبت لهم وبين ما نُفي
105
النحل ٢١ ٢٣ عنهم من وصفي المخلوقية والخالقية وللإيذان بعدم الافتقار إلى بيان الفاعلِ لظهور اختصاصِ الفعل بفاعله جل جلاله ويجوز أن يُجعل الخلقُ الثاني عبارةً عن النحت والتصوير رعايةً للمشاكلة بينه وبين الأول ومبالغةً في كونها مصنوعين لعبدتهم وأعجز عنهم وإيذاناً بكمال ركاكةِ عقولهم حيث أشركوا بخالقهم مخلوقَهم وأما جعلُ الأول أيضاً أيضاً عبارةً عن ذلك كما فعل فلا وجه له إذ القدرةُ على مثل ذلك الخلقِ ليست مما يدور عليه استحقاقُ العبادة أصلاً ولِما أن إثباتَ المخلوقية لهم غيرُ مستدعٍ لنفي الحياة عنهم لِما أن بعض المخلوقين أحياءٌ صرح بذلك فقيل
106
﴿أَمْوَاتٌ﴾ وهو خبرٌ ثان للموصول لا للضمير كما قيل أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وحيث كان بعضُ الأموات مما يعتريه الحياة سابقاً أو لاحقاً كأجساد الحيوان والنطف التي يُنشِئها الله تعالى حيواناً احتُرز عن ذلك فقيل ﴿غَيْرُ أَحْيَاء﴾ أي لا يعتريها الحياة أصلاً فهي أمواتٌ على الإطلاق وأما قوله تعالى ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ أي ما يشعر أولئك الآلهةُ أيان يُبعث عَبَدتُهم فعلى طريقة التهكمِ بهم لأن شعورَ الجماد بالأمور الظاهرة بديهيُّ الاستحالة عند كل أحد فكيف بما لا يعلمُه إلا العليمُ الخبيرُ وفيه إيذانٌ بأن البعث من لوازم التكليفِ وأن معرفةَ وقته مما لابد منه في الألوهية
﴿إلهكم إله واحد﴾ لا يشارَكه شيءٌ في شيءٍ وهو تصريحٌ بالمدعى وتمحيضٌ للنتيجة غِبَّ إقامةِ الحجة ﴿فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة﴾ وأحوالِها التي من جملتها ما ذُكر من البعث وما يعقُبه من الجزاء المستلزِمِ لعقوبتهم وذِلتهم ﴿قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ﴾ للوَحدانية جاحدةٌ لها أو للآيات الدالة عليها ﴿وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾ عن الاعتراف بها أو عن الآيات الدالة عليها والفاء للإيذان بأن إصرارَهم على الإنكار واستمرارَهم على الاستكبار وقعَ موقع النتيجة للدلائل الظاهرةِ والبراهينِ الباهرة والمعنى أنه قد ثبت بما قُرّر من الحجج والبينات اختصاصُ الإلهية به سبحانه فكان من نتيجة ذلك إصرارُهم على ما ذكر من الإنكار والاستكبار وبناءُ الحكم المذكورِ على الموصول للإشعار بكونه معللاً بما في حيز الصلة فإن الكفرَ بالأخرة وبما فيها من البعث والجزاءِ المتنوِّع إلى الثواب على الطاعة والعقابِ على المعصية يؤدِّي إلى قصر النظر على العاجل والإعراضِ عن الدلائل السمعية والعقليةِ الموجبِ لإنكارها وإنكارِ مؤدّاها والاستكبارِ عن اتباع الرسول ﷺ وتصديقِه وأما الإيمانُ بها وبما فيها فيدعو لا محالة إلى التأمل في الآيات والدلائلِ رغبةً ورهبة فيورث ذلك يقيناً بالوحدانية وخضوعاً لأمر الله تعالى
﴿لاَ جَرَمَ﴾ أي حقاً وقد مرَّ تحقيقُه في سورة هود ﴿أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ من إنكار قلوبِهم ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ من استكبارهم وقولِهم للقرآن أساطيرُ الأولين وغيرِ ذلك من قبائحهم فيجازيهم بذلك ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين﴾ تعليلٌ لما تضمنه الكلامُ من الوعيد أي لا يحب المستكبرين عن التوحيد أو عن الآيات الدالة عليها أو
106
النحل ٢٤ ٢٦ لا يحب جنسَ المستكبرين فكيف بمن استكبر عما ذكر
107
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ أي لأولئك المنكِرين المستكبرين وهو بيانٌ لإضلالهم غِبَّ بيانِ ضلالهم ﴿مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ﴾ القائلُ الوافدون عليهم أو المسلمون أو بعضٌ منهم على طريق التهكم وماذا منصوبٌ بما بعده أو مرفوع أي أيَّ شيءٍ أنزل أو ما الذي أنزله ﴿قَالُواْ أساطير الأولين﴾ أي ما تدّعون نزوله والمنزلُ بطريق السخرية أحاديثُ الأولين وأباطيلهم وليس من الإنزال في شيء قيل هؤلاء القائلون هم المقتسمون الذين اقتسموا مداخل مكة ينفِّرون عن رسول الله ﷺ عند سؤال وفودِ الحاجِّ عما نزل عليه صلى الله عليه وسلم
﴿لِيَحْمِلُواْ﴾ متعلق بقالوا أي قالوا ما قالوا ليحملوا ﴿أَوْزَارَهُمْ﴾ الخاصةَ بهم وهي أوزارُ ضلالهم ﴿كَامِلَةٌ﴾ لم يكفَّرْ منها شيءٌ بنكبة أصابتهم في الدنيا كما يكفّر بها أوزارُ المؤمنين ﴿يَوْمُ القيامة﴾ ظرفٌ ليحمِلوا ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ﴾ وبعضِ أوزارِ مَنْ ضل بإضلالهم وهو وِزرُ الإضلال لأنهما شريكان هذا يُضله وهذا يطاوعه فيتحاملان الوزر واللام للتعليل في نفس الأمر من غير أن يكون غرضاً وصيغةُ الاستقبال الدلالة على استمرار الإضلالِ أو باعتبار حال قولِهم لا حالِ الحمل ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ حالٌ من الفاعل أي يضلونهم غيرَ عالمين بأن ما يدْعون إليه طريقٌ الضلال وأمَّا حملُه على مَعْنَى غيرَ عالمين بأنهم يحمِلون يوم القيامة أوزارَ الضلال والإضلال على أن يكونَ العاملُ في الحال قالوا وتأييده بما سيأتي م قوله تعالى وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ من حيث إن مَنْ حملِ ما ذكر من أوزار الضلالِ والإضلال من قبيل إتيانِ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ فيردُّه أن الحملَ المذكورَ إنما هو يوم القيامة والعذابَ المذكور إنما هو العذابُ الدنيوي كما ستقف عليه أوحال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّلٌ وفائدةُ التقييد بها الإشعارُ بأن مكرهم لا يرُوج عند ذي لُب وإنما يتبعهم الأغبياءُ والجهلة والتنبيهُ على أن جهلَهم ذلك لا يكون عذراً إذ كان يجبُ عليهم أنْ يبحثوا ويميزوا بين المحق الحقيقِ بالاتباع وبين المُبطل ﴿أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ﴾ أي بئس شيئاً يَزِرُونه ما ذكر
﴿قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وعيدٌ لهم برجوع غائلة مكرِهم إلى أنفسهم كدأبِ مِن قَبْلِهِم منَ الأممِ الخاليةِ الذين أصابهم ما أصابهُم من العذابِ العاجل أي قدسوا منصوباتٍ ليمكروا بها رسلَ الله تعالى ﴿فَأَتَى الله﴾ أي أمر هـ وحكمه ﴿بنيانهم﴾ وقرئ بيتهم وبيوتهم ﴿مّنَ القواعد﴾ وهي الأساطينُ التي تعمِده أو أساسُه فضعضَعَتْ أركانَه ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ﴾ أي سقط عليهم سقفُ بنيانهم إذ لا يتصور له القيام
107
النحل ٢٧ بعد تهدّم القواعدِ شُبّهت حالُ أولئك الماكرين في تسويتهم المكايدَ والمنصوباتِ التي أرادوا بها الإيقاعَ برسل الله سبحانه وفي إبطاله تعالى تلك الحيلَ والمكايدَ وجعلِه إياها أسباباً لهلاكهم بحال قومٍ بنَوا بنياناً وعمَدوه بالأساطين فأُتيَ ذلك من قِبل أساطينِه بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف فهلكوا وقرئ فخر عليهم السُّقُفُ بضمتين ﴿وأتاهم العذاب﴾ أي الهلاك والدمار ﴿مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ بإتيانه منه بل يتوقعون إتيانَ مقابلِه مما يريدون ويشتهون والمعنى أن هؤلاء الماكرين القائلين للقرآن العظيم أساطيرُ الأولين سيأتيهم من العذاب مثلُ ما أتاهم وهم لا يحتسبون والمرادُ به العذابُ العاجل لقوله سبحانه
108
﴿ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ﴾ فإنه عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلام أي هذا الذي فُهم من التمثيل من عذاب هؤلاءِ أو ما هو أعمُّ منه ومما ذكر من عذاب أولئك جزاؤُهم في الدُّنيا وَيَوْمَ القيامة يُخزيهم أي يُذِلهم بعذاب الخِزْي على رؤس الأشهادِ وأصلُ الخزي ذُلٌّ يستحي منه وثم للإيماء إلى ما بين الجزاءين من التفاوت مع ما يدل عليه من التراخي الزماني وتغييرُ السبك بتقديم الظرف ليس لقصر الخزي على يوم القيامة كما هو المتبادَرُ من تقدير الظرف على الفعل بل لأن الإخبارَ بجزائهم في الدنيا مؤذِنٌ بأن لهم جزاء أخرويا فتقي النفسُ مترقبة إلى وروده سائلةً عنه بأنه ماذا مع تيقنها بأنه في الآخرة فسيق الكلامُ على وجه يُؤذِن بأن المقصود بالذكر إخزاؤهم لا كونُه يوم القيامة والضمير إما للمفترين في حقِّ القرآنِ الكريمِ أولهم ولمن مُثّلوا بهم من الماكرين كما أشير إليه وتخصيصُه بهم يأباه السِّباقُ والسياق كما ستقف عليه ﴿وَيَقُولُ﴾ لهم تفضيحاً وتوبيخاً فهو الخ بيان للإخزاء ﴿أَيْنَ شُرَكَائِىَ﴾ أضافهم إليه سبحانه حكاية لإضافتهم الكاذبة ففيه توبيخ إثر توبيخٌ مع الاستهزاء بهم ﴿الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ﴾ أي تخاصمون الأنبياءَ والمؤمنين في شأنهم بأنهم شركاءُ حقاً حين بينوا لكم بطلانها والمراد بالاستفهام استحضارها للشفاعة أو المدافعةُ على طريقة الاستهزاء والتبكيتِ والاستفسارُ عن مكانهم لا يوجب غَيبتَهم حقيقةً حتى يُعتذَرَ بأنهم يجوز أن يُحال بينهم وبين عبدَتِهم حينئذ ليتفقدوها في ساعة علقوا بها الرجاءَ فيها أو بأنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم غُيّب بل يكفي في ذلك عدمُ حضورهم بالعنوان الذي كانوا يزعُمون أنهم متصفون من عنوان الإلهية فليس هناك شركاءُ ولا أماكنُها على أن قوله ليتفقدوا ليس بسديد فإنه قد تبين عندهم الأمرُ حينئذ فرجعوا عن ذلك الزعم الباطلِ فكيف يتصور منهم التفقد وقرئ بكسر النون أي تشاقّونني على أن مشاقّةَ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين لا سيما في شأن متعلق به سبحانه مشاقةٌ له عز وجل (قَالَ الذين أُوتُواْ العلم) من أهل الموقفِ وهم الأنبياءُ والمؤمنون الذين أوتوا علماً بدلائل التوحيدِ وكانوا يدْعونهم في الدنيا إلى التوحيد فيجادلونهم ويتكبرون عليهم أي توبيخا لهم وإظهار للشماتة بهم وتقريراً لما كانوا يعِظونهم وتحقيقاً لما أوعدوهم به وإيثارُ صيغةِ الماضي الدلالة على تحققه وتحتّم وقوعِه حسبما هو
108
النحل ٢٨ ٢٩ المعتادُ في إخباره سبحانه وتعالى كقوله وَنَادَى أصحاب الجنة ونادى أصحاب الأعراف ﴿إِنَّ الخزى﴾ الفضيحةَ والذل والهوان ﴿اليوم﴾ منصوبٌ بالخزي على رأي من يرى إعمالَ المصدرِ المصدّر باللام أو بالاستقرار في الظرف وفيه فصلٌ بين العامل والمعمول بالمعطوف إلا إنه مغتفر في الظروف وإبراده للإشعار بأنهم كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ في عزّة وشِقاق ﴿والسوء﴾ العذاب ﴿عَلَى الكافرين﴾ بالله تعالى وبآياته ورسله
109
﴿الذين تتوفاهم الملائكة﴾ بتأنيث الفعل وقرئ بتذكيره وبإدغام التاء في التاء والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لاستحضار صورةِ توفِّيهم إياهم لما فيها من الهول والموصولُ في محل الجرِّ على أنه نعتٌ للكافرين أو بدلٌ منه أوفى محل النصبِ أو الرفع على الذم وفائدتُه تخصيصُ الخزي والسوءِ بمن استمر كفرُه إلى حينِ الموت دون مَن آمن منهم ولو في آخر عُمره أي على الكافرين المستمرين على الكفر إلى أن يتوفاهم الملائكة ﴿ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ﴾ أي حالَ كونهم مستمرين على الكفر فإنه ظلمٌ منهم لأنفسهم وأيُّ ظلم حيث عرّضوها للعذاب المخلّد وبدّلوا فطرةَ الله تبديلاً ﴿فَأَلْقَوُاْ السلم﴾ أي فيُلقون والعدولُ إلى صيغة الماضي الدلالة على تحقق الوقوعِ وهو عطف على قوله تعالى وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ وما بينهما جملةٌ اعتراضية جيء بها تحقيقاً لما حاق بهم من الخزي على رؤوس الأشهادِ أي فيُسالمون ويتركون المُشاقّةَ وينزِلون عما كانُوا عليهِ في الدُّنيا من الكِبْر وشدةِ الشكيمة قائلين ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ﴾ في الدنيا ﴿مِن سُوء﴾ أي من شرك قالوه منكِرين لصدوره عنهم كقولهم والله رَبّنَا مَا كُنَّا مشركين وإنما عبر واعنه بالسوء اعترافاً بكونه سيئاً لا إنكاراً لكونه كذلك مع الاعتراف بصدوره عنهم ويجوز أن يكون تفسيراً للسَّلَم على أن يكون المرادُ به الكلامَ الدالَّ عليه وعلى التقديرين فهو جوابٌ عن قوله سبحانه أين شركائي في سورة الأنعام لا عن قول أولي العلمِ ادعاءً لعدم استحقاقهم لما دهمهم من الخزي والسوء ﴿بلى﴾ رد عليهم من قِبل أولي العلم وإثباتٌ لما نفَوْه أي بلى كنتم تعملون ما تعملون ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فهو يجازيكم عليه وهذا أوانُه
﴿فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ﴾ أي كل صنف بابه المعدلة وقيل أبوابُها أصنافُ عذابها فالدخولُ عبارةٌ عن الملابسة والمقاساة ﴿خالدين فِيهَا﴾ إن أريد بالدخول حدوثُه فالحال مقدّرة وإن أريد مطلقُ الكون فيها فهي مقارِنة ﴿فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين﴾ عن التوحيد كما قال تعالى قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ وذكرُهم بعنوان التكبر للإشعار بعلّيته لثُوائهم فيها والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي جهنم وتأويلُ قولهم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء بأنا ما كنا عاملين ذلك في اعتقادنا رَوْماً للمحافظة على أن لا كذِبَ ثمة يرده الردُّ المذكور وما فيه سورة الأنعام من قوله تعالى انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أنفسهم
109
النحل
110
٣٠ - ٣٢ ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا﴾ أي المؤمنين وُصفوا بالتقوى إشعاراً بأنَّ ما صدرَ عنُهم من الجواب ناشئ عن التقوى ﴿مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا﴾ سلكوا في الجواب مسلك السؤالِ من غير تلعثم ولا تغييرٍ في الصورة والمعنى أي أنزل خيراً فإنه جوابٌ مطابق للسؤال ولسبك الواقع في نفس الأمر مضموناً وأما الكفرةُ فإنهم خذلهم الله تعالى كما غيروا الجوابَ عن نهج الحق الواقعِ الذي ليس له من دافع غيّروا صورتَه وعدَلوا بها عن سَنن السؤال حيث رفعوا الأساطير رَوماً لما مر من إنكار النزول رُوي أن أحياءَ العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فإذا جاء الوافد كفّه المقتسمون وأمروه بالانصراف وقالوا إن لم تلفه كان خيراً لك فيقول أنا شرُّ وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمرَ محمد وأراه فيلقى أصحابَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ورضي عنهم فيخبرونه بحقيقة الحالِ فهم الذين قالوا خيراً ﴿لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ﴾ أي أعمالَهم أو فعلوا الإحسانَ ﴿فِى هذه﴾ الدار ﴿الدنيا حَسَنَةٌ﴾ أي مثوبةٌ حسنةٌ مكافأة فيها ﴿وَلَدَارُ الاخرة﴾ أي مثوبتُهم فيها ﴿خَيْرٌ﴾ مما أوتوا في الدنيا من المثوبة أو خيرٌ على الإطلاق فيجوز إسنادُ الخيرية إلى نفس دارِ الآخرة ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين﴾ أي دار الآخرة حُذف لدلالةِ ما سبق عليه وهذا كلام مبتدأ مدَح الله تعالى به المتقين وعدّ جوابَهم المَحْكيَّ من جملة إحسانِهم ووعدهم بذلك ثوابي الدنيا والآخرة فلا محلَّ له من الإعراب أو بدلٌ من خيراً أوتفسير له أي أنزل خيراً هو هذا الكلامُ الجامعُ قالوه ترغيباً للسائل
﴿جنات عَدْنٍ﴾ خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي لهم جنات ويجوز أن يكون هو المخصوصَ بالمدح ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ صفةٌ لجناتُ على تقدير تنكيرِ عدنٍ وكذلك ﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أو كلاهما حال على تقدير عَلَميته ﴿لَّهُمْ فِيهَا﴾ في تلك الجنات ﴿ما يشاؤون﴾ الظرفُ الأول خبرٌ لما والثاني حالٌ منه والعاملُ ما في الأول أو متعلق به أي حاصلٌ لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ من أنواع المشتَهيات وتقديمُه للاحتراز عن توهم تعلّقِه بالمشيئة أو لما مر مرارا من أن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ يوجب ترقب النفس إليه فيتمكن عند ورودِه عليها فضلُ تمكن ﴿كذلك﴾ مثلَ ذلك الجزاءِ الأوفى ﴿يَجْزِى الله المتقين﴾ اللام للجنس أي كلَّ من يتقي من الشِرْك والمعاصي ويدخُل فيه المتقون المذكورون دخولاً أولياً ويكون فيه بعثٌ لغيرهم على التقوى أو للعهد فيكون فيه تحسيرٌ للكفرة
﴿الذين تتوفاهم الملائكة﴾ نعت للمتقين وقوله تعالى ﴿طَيّبِينَ﴾ أي طاهرين عن دنس الظلمِ لأنفسهم حال من الضمير
110
النحل ٣٣ ٣٤ وفائدتُه الإيذانُ بأن مَلاكَ الأمر في التقوى هو الطهارةُ عما ذكر إلى وقت توفيهم ففيه حثٌّ للمؤمنين على الاستمرار على ذلك ولغيرهم على تحصيله وقيل فرحين طيِّبي النفوسِ ببشارة الملائكة إياهم بالجنة أو طيبين بقبض أرواحِهم لتوجه نفسهم بالكلية إلى جناب القُدس ﴿يَقُولُونَ﴾ حالٌ من الملائكة أي قائلين لهم ﴿سلام عَلَيْكُمُ﴾ قال القرظي رحمه الله إذا استُدْعيَت نفسُ المؤمن جاءه ملكُ الموت عليه السلام فقال السلام عليك يا وليَّ الله الله تعالى يقرأ عليك السلام وبشّره بالجنة ﴿ادخلوا الجنة﴾ اللام للعهد أي جناتِ عدن الخ لذلك جُرّدت عن النعت والمرادُ دخولُهم لها في وقته فإن ذلك بشارةٌ عظيمة وإن تراخى المبشَّرُ به لا دخولُ القبر الذي هو روضةٌ من رياضها إذ ليس في البِشارة به ما في البشارة بدخول نفسِ الجنة ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بسبب ثباتِكم على التقوى والطاعة أو بالذي كنتم تعملونه من ذلك وقيل المرادُ بالتوفّي التوفي للحشر لأن الأمر بالدخول حينئذ يتحقق
111
﴿هَلْ يَنظُرُونَ﴾ أيْ ما ينتظر كفارُ مكةَ المارُّ ذكرُهم ﴿إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة﴾ لقبض أرواحِهم بالعذاب جُعلوا منتظرين لذلك وشتان بينهم وبين انتظارِه لا لأنه يلحقهم البتةَ لحوقُ الأمر المنتظرِ بل لمباشرتهم لأسبابه الموجبة المؤديةِ إليه فكأنهم يقصِدون إتيانه ويترصدون لوردوه وقرئ بتذكير الفصل ﴿أو يأتي أمر ربك﴾ التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره ﷺ إشعارٌ بأن إتيانَه لطفٌ به ﷺ وإن كان عذاباً عليهم والمرادُ بالأمر العذابُ الدنيويُّ لا القيامةُ لكن لا لأن انتظارها يجامع انتظارِ إتيان الملائكةِ فلا يلائمة العطفُ بأو لأنها ليست نصافى العناد إذ يجوز أن يعتبر منعُ الخلوّ ويرادَ بإيرادها كفايةُ كل واحد من الأمرين في عذابهم بل لأن قوله تعالى فيما سيأتي ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فأصابهم الآية صريحٌ في أنَّ المرادَ به ما أصابهُم من العذابِ الدنيوي ﴿كذلك﴾ أي مثلَ فعلِ هؤلاء من الشرك والظلمِ والتكذيب والاستهزاء ﴿فَعَلَ الذين﴾ خلَوا ﴿مِن قَبْلِهِم﴾ من الأممِ ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ الله﴾ بما سيُتلى من عذابهم ﴿ولكن كَانُواْ﴾ بما كانوا مستمرين عليه من القبائح الموجبةِ لذلك ﴿أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ كان الظاهرُ أن يقال ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين كما في سورة الزخرف لكنه أوثر مَا عليهِ النظمُ الكريمُ لإفادة أن غائلةَ ظلمِهم آيلةٌ إليهم وعاقبتَه مقصورةٌ عليهم مع استلزام اقتصارِ ظلمِ كل أحد على نفسه من حيث الوقوعُ اقتصارَه عليه من حيث الصدور وقد مرَّ تحقيقُه في سورة يونس
﴿فَأَصَابَهُمْ﴾ عطف على قوله تعالى فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وما بينهما اعتراضٌ لبيان أن فعلهم ذلك ظلمٌ لأنفسهم ﴿سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ﴾ أي أجزيةُ أعمالِهم السيئة على طريقة تسمية المسبَّب باسم سببِه إيذانا بفظاعته لا على حذف المضاف فإنه يُوهِم أن لهم أعمالاً غيرَ سيئاتهم ﴿وَحَاقَ بِهِم﴾ أي أحاط بهم من الحَيق الذي هو إحاطةُ الشر وهو أبلغ من الإصابة وأفظع ﴿مَّا كانوا به يستهزؤون﴾ من العذاب
٦ - ﴿وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ﴾ أي أهلُ مكة وهو بيانٌ لفنٍ آخرَ من كفرهم والعدولُ عن الإضمار إلى الموصول لتقريعهم بما في حيز الصلة وذمِّهم بذلك من أول الأمر ﴿لَوْ شآء الله ما عبدنا مِن دُونِهِ مِن شَىْء﴾ أيْ لو شاءَ عدمَ عبادتِنا لشيء غيرِه كما تقول لما عبدنا ذلك ﴿نحن ولا آباؤنا﴾ الذي نقتدي بهم في ديننا ﴿وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء﴾ من السوائب والبحائرِ وغيرِها وإنما قالوا ذلك تكذيبا للرسول ﷺ وطعناً في الرسالة رأساً متمسكين بأن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأْ يمتنع فلو أنه شاء أن نوحّده وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا نحرِّمَ مما حرمنا شيئاً كما يقول الرسلُ وينقُلونه من جهةِ الله عزَّ وجل لكان الأمرُ كما شاء من التوحيد ونفي الإشراكِ وما يتبعهما وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئاً من ذلك وإنما يقوله الرسل من تلقاء أنفسهم فأجيب عنه بقوله عز وجل ﴿كذلك﴾ أي مثلَ ذلك الفعلِ الشنيع ﴿فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِم﴾ من الأمم أي أشركوا بالله وحرموا حِلَّه وردوا رسلَه وجادلوهم بالباطل حين نبهوهم على الخطأ وهدوهم إلى الحق ﴿فَهَلْ عَلَى الرسل﴾ الذين يُبَلّغُونَ رسالاتِ الله وعزائمَ أمره ونهيِه ﴿إِلاَّ البلاغ المبين﴾ أي ليست وظيفتُهم إلا تبليغَ الرسالة تبليغاً واضحاً أو موضَّحاً وإبانةً طريقَ الحق وإظهارَ أحكام الوحي الذي من جملتها تحتّمُ تعلقِ مشيئةِ الله تعالى باهتداء من صرف قدرته واختباره إلى تحصيل الحق لقوله تعالى والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وأما إلجاؤهم إلى ذلك وتنفيذُ قولِهم عليهم شاءوا أو أبواكما هو مقتضى استدلالِهم فليس ذلك من وظيفتهم ولا من الحكمةِ التي عليَها يدورُ أمرُ التكليفِ في شيء حتى يُستدلَّ بعدم ظهور آثارِه على عدم حقيقة الرسلِ أو على عدم تعلقِ مشيئتِه تعالى بذلك فإن ما يترتب عليه الثوابُ والعقابُ من أفعال العباد لابد في تعلق مشيئتِه تعالى بذلك فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من أفعال العباد لابد في تعلق مشيئتِه تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختياريةِ له وصرفِ اختيارِهم الجزئيِّ إلى تحصيله وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريَّيْن فالفاءُ للتعليل كأنه قيل كذلك فعل أسلافهم وذلك باطل فإن الرسلَ ليس شأنُهم إلا تبليغَ أوامرِ الله تعالى ونواهيه لا تحقيقَ مضمونِهما وإجراءَ موجبهما على الناس قسرا وإلجاء وإبراد كلمة على للإيذان بأنهم في ذلك مأمورون أو بأن ما يبلغونه حقٌّ للناس عليهم إيفاؤه وبهذا ظهر أن حملَ قولِهم لَوْ شَاء الله الخ على الاستهزاء لا يلائم الجواب والله تعالى أعلم بالصواب
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً﴾ تحقيقٌ لكيفية تعلقِ مشيئتِه تعالى بأفعال العبادِ بعد بيانِ أن الإلجاءَ ليس من وظائف الرسالةِ ولا من باب المشيئةِ المتعلقةِ بما يدور عليه الثواب والعقاب من الأفعال الاختياريةِ لهم أي بعثنا فى كُلّ أمَّةٍ منَ الأممِ الخالية رسولاً خاصة بهم ﴿أَنِ اعبدوا الله﴾ يجوز أن تكونَ أنْ مفسرةً لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدريةً أي بعثنا بأن اعبدوا الله حده ﴿واجتنبوا الطاغوت﴾
112
هو الشيطانُ وكلُّ ما يدعو إلى الضلالة ﴿فَمِنْهُمْ﴾ أي من تلك الأمم والفاء فصيحة أي فبلَّغوا ما بُعثوا به من الأمر بعبادة الله وحده واجتنابِ الطاغوت فتفرقوا فمنهم ﴿مَّنْ هَدَى الله﴾ إلى الحقِّ الذي هو عبادتُه واجتنابُ الطاغوت بعد صَرْفِ قدرتهم واختيارِهم الجزئيّ إلى تحصيله ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة﴾ أي وجبت وثبتت إلى حين الموت لعِناده وإصرارِه عليها وعدمِ صرفِ قدرته إلى تحصيل الحق وتغيير الأسلوبِ للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارِهم كقوله تعالى وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ فلم يكن كلٌّ من مشيئة الهدايةِ وعدمِها إلا حسبما حصل منهم من التوجهُ إلى الحق وعدمه إلا بطريق القسرِ والإلجاءِ حتى يُستدلَ بعدمهما على عدم تعلقِ مشيئتِه تعالى بعبادتهم له تعالى وحده ﴿فَسِيرُواْ﴾ يا معشرَ قريش ﴿فِى الارض فانظروا﴾ في أكنافها ﴿كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين﴾ من عاد وثمودَ ومن سار سيرتَهم ممن حقت عليه الضلالةُ لعلكم تَعتبرون حين تشاهدون في منازلهم وديارهم آثارَ الهلاك والعذابِ وترتيبُ الأمرِ بالسير على مجرد الإخبارِ بثبوت الضلالةِ عليهم من غير إخبارٍ بحلول العذابِ للإيذان بأنه غنيٌّ عن البيان وأنْ ليس الخبرُ كالعِيان وترتيبُ النظر على السير لما أنه بعده وأن مَلاك الأمر في تلك العاقبة هو التكذيبُ والتعلّلُ بأنه لو شآء الله ما عبدنا مِن دُونِهِ مِن شَىْء
113
﴿إِن تَحْرِصْ﴾ خطاب لرسول الله ﷺ وقرئ بفتح الراء وهي لغية ﴿على هُدَاهُمْ﴾ أي إن تطلب هدايتَهم بجهدك ﴿فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ يُضِلُّ﴾ أي فاعلم أنه تعالى لا يخلق الهدايةَ جبراً وقسراً فيمن يخلق فيه الضلالةَ بسوء اختيارِه والمرادُ به قريش وإنما وضع الموصول موضع الضمير للتنصيص على أنهم ممن حقت عليه الضلالةُ وللإشعار بعلة الحُكمِ ويجوزُ أنْ يكونَ المذكورُ علةً للجزاء المحذوف أي إن تحرص على هداهم فلست بقادر على ذلك لأن الله لاَ يَهْدِى مَنْ يُضله وهؤلاء من جملتهم وقرئ لا يهدى على بناء المفعول أي لا يقدِرُ أحدٌ على هداية من يضله الله تعالى وقرئ لا يهَدّي بفتح الهاء وإدغام تاء يهتدي في الدال ويجوز أن يكون يهدي بمعنى يهتدي وقرئ يضل بفتح الياء وقرئ لا هاديَ لمن يُضِل ولمن أضل ﴿وَمَا لَهُم مِن ناصرين﴾ ينصرونهم في الهداية أو يدفعون العذابَ عنهم وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار الجمعية في الضمير فإن مقابلةَ الجمعِ بالجمع يقتضي انقسامَ الآحادِ إلى الآحاد لا لأن المرادَ نفيُ طائفةٍ من الناصرين من كل منهم
﴿وَأَقْسَمُواْ بالله﴾ شروع في بيان فنٍ آخرَ من أباطيلهم وهو إنكارهم البعث ﴿جهد أيمانهم﴾ مصدرفي موقع الحال أي جاهدين في أيمانهم ﴿لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ﴾ ولقد رد الله تعالى عليهم أبلغَ ردَ بقوله الحق ﴿بلى﴾ أي بلى يبعثهم ﴿وَعْداً﴾ مصدرٌ مؤكدٌ لما دَلَّ عليه بلى فإن ذلك موعدٌ من الله سبحانه أو المحذوف أي وعَد بذلك وعداً ﴿عَلَيْهِ﴾ صفة لوعد أي وعداً ثابتاً عليه
113
النحل ٣٩ ٤٠ إنجازُه لامتناع الخُلفِ في وعدِه أو لأن البعثَ من مقتضيات الحِكمة ﴿حَقّاً﴾ صفةٌ أخرى له أو نُصبَ على المصدريةِ أي حقَّ حقاً ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس﴾ لجهلهم بشئون الله عز شأنه من العلم والقدرةِ والحكمة وغيرِها من صفات الكمالِ وبما يجوز عليه وما لا يجوز وعدمِ وقوفِهم على سرّ التكوين والغايةِ القصوى منه وعلى أن البعثَ مما يقتضيه الحكمةُ التي جرت عادتُه سبحانه بمراعاتها ﴿لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ أنه يبعثهم فيبتون القولَ بعدمه أو أنه وعدٌ عليه حق فيكذبونه قائلين لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وآباؤنا هذا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أساطير الاولين
114
﴿لِيُبَيّنَ لَهُمُ﴾ غايةٌ لما دل عليه بلى من البعث والضمير لمن يموت إذ التبيينُ يعم المؤمنين أيضاً فإنهم وإن كانوا عالمين بذلك لكنه عند معاينةِ حقيقةِ الحال يتضح الأمرُ فيصل علمُهم إلى مرتبة عينِ اليقين أي يبعثهم ليبينَ لهم بذلك وبما يحصُل لهم من مشاهدة الأحوالِ كما هي ومعاينتِها بصورها الحقيقيةِ الشأن ﴿الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ من الحق المنتظمِ لجميع ما خالفوه مما جاء به الشرعُ المبين ويدخل فيه البعثُ دخولاً أولياً ﴿وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ﴾ بالله سبحانه بالإشراك وإنكارِ البعث وتكذيبِ وعده الحق ﴿أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين﴾ في كل ما يقولون لا سيما في قولهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يموت والتعبيرُ عن الحق بالموصول للدِلالة على فخامته وللإشعار بعلية ما ذكر في حيز الصلةِ للتبيين وما عُطف عليه وجعلهما غاية للبعث المشار إليه باعتبار ورودِه في معرِض الردّ على المخالفين وإبطال مقالةِ المعاندين المستدعي للتعرض لما يردعهم عن المخالفة ويُلجِئهم إلى الإذعان للحق فإن الكفرة إذا علِموا أن تحقيقَ البعث إذا كان لتبيين أنه حق وليعلموا أنهم كاذبون في إنكاره كان ذلك أزجرَ لهم عن إنكاره وأدعى إلى الاعتراف به ضرورة أنه يدل على صدق العزيمةِ على تحقيقه كما تقول لمن ينكر أنك تصلّي لأصَلينّ رغماً لأنفك وإظهار لكذبك ولأن تكررَ الغايات أدلُّ على وقوع الفعل المغيابها وإلا فالغايةُ الأصلية للبعث باعتبار ذاتَه إنما هو الجزاءُ الذي هو الغايةُ القصوى للخلق المغيا بمعرفته عز وجل وعبادته وإنما لم يُذكر ذلك لتكرار ذكرِه في مواضعَ أُخَرَ وشهرتِه وإنما لم يُدرَج علمُ الكفار بكذبهم تحت التبيين بأن يقال وإن الذين كفروا كانوا كاذبين بل جئ بصيغة العلم لأن ذلك ليس مما تعلق به التبيينُ الذي هو عبارةٌ عن إظهار ما كان مُبهماً قبل ذلك بأن يخبرَ به فيُختلفَ فيه كالبعث الذي نطق به القرآن فاختلف فيه المختلفون وأما كذِبُ الكافرين فليس من هذا القبيل فما يتعلق به علمٌ ضروريٌّ حاصل لهم من قِبل أنفسِهم وقد مرَّ تحقيقُه في سورة التوبة عند قوله تعالى حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وإنما خُص الإسنادُ بهم حيث لم يقل وليعلموا أن الكافرين الآية لأن علمَ المؤمنين بذلك حاصل قبل ذلك أيضاً
﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا﴾ استئناف لبيان كيفية التكوينِ على الإطلاق إبداءً وإعادةً بعد التنبيهِ على آنية البعثِ ومنه يظهر كيفيتُه فما كافةٌ وقولُنا مبتدأ وقوله ﴿لِشَىْء﴾ أي أيِّ شيءٍ كان مما عزو هان متعلقٌ به على أن اللامَ للتبليغ كهي في قولك قلت له قم فقام وجعلها الزجاجُ سببيةً أي لأجل شيءٍ وليس بواضح والتعبيرُ عنه بذلك باعتبار وجودِه عند تعلُّقُ مشيئتِه تعالى به لا أنه كان شيئا
114
النحل ٤١ قبل ذلك ﴿إِذَا أَرَدْنَاهُ﴾ ظرفٌ لقولنا أي وقت إرادتِنا لوجوده ﴿أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ﴾ خبر للمبتدأ ﴿فَيَكُونُ﴾ إما عطفٌ على مقدر يُفصِحُ عنه الفاء وينسحب عليه الكلام أي فنقول ذلك فيكون كقوله تعالى إذا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فيَكُونُ وإما جوابٌ لشرط محذوف أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون وليس هناك قولٌ ولا مقولٌ له ولا أمرٌ ولا مأمورٌ حتى يقال إنه يلزم منه أحدُ المُحالين إما خطابُ المعدومِ أو تحصيلُ الحاصل أو يقال إنما يستدعيه انحصار قوله تعالى كُنَّ وليس يلزم منه انحصارُ أسباب التكوين فيه كما يفيده قوله تعالى إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فإن المرادَ بالأمر هو الشأنُ الشاملُ للقول والفعل ومن ضرورة انحصارِه في كلمة كن انحصارُ أسبابه على الإطلاق فيه بل إنما هو تمثيلٌ لسهولة تأتّي المقدورات حسب تعلقِ مشيئتِه تعالى بها وتصويرٌ لسرعة حدوثِها بما هو علم في ذلك من طاعة المأمورِ المطيعِ لأمر الآمر المُطاع فالمعنى إنما إيجادُنا لشيء عند تعلق مشيئتِنا به أن نوجدَه في أسرع ما يكون ولما عبر عنه بالأمر الذي هو قولٌ مخصوصٌ وجب أن يُعبّر عن مطلق الإيجادِ بالقول المطلقِ فتأمل وفي الآية الكريمة من الفخامة والجزالةِ ما يحار فيه العقول والألباب وقرئ بنصب يكون عطفاً على نقول أو تشبيهاً له بجواب الأمر
115
﴿والذين هاجروا فِى الله﴾ أي في شأن الله تعالى ورِضاه وفي حقه ولوجهه ﴿مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ ولعلهم الذين ظلمهم أهلُ مكة من أصحابِ رسولِ الله ﷺ وأخرجوهم من ديارهم فهاجروا إلى الحبشة ثم بوّأهم الله تعالى المدينةَ حسبما وعد بقوله سبحانه ﴿لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدنيا حَسَنَة﴾ أي مباءة حسنة أو توئة حسنة كما قال قتادة وهو الأنسبُ بما هو المشهورُ من كون السورةِ غيرَ ثلاثِ آياتٍ من آخرها مكيةً وأما ما نُقلَ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنُهمَا مَنْ أنها نزلت في صهيبٍ وبلال وعمار وخباب وعايس وجُبير وأبي جندل بن سهيل أخذهم المشركون فجعلوا يعذّبونهم ليردوهم عن الإسلام فأما صهيبٌ فقال لهم أنا رجلٌ كبير إن كنت معكم لم أنفعْكم وإن كنت عليكم لم أضرَّكم فافتدى منهم بماله وهاجر فلما رآه أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه قال ربح البيعُ يا صهيب وقال عمر رضي الله عنه نعم العبدُ صهيبٌ لو لم يخَفِ الله لم يَعْصِهِ فإنما يناسب ما حُكي عن الأصم من كون كل السورةِ مدنيةً وما نقل عن قتادةَ من كون هذه الآية إلى آخر السورةِ مدنيةً فيُحمل ما نقلناه عنه من نزول الآيةِ في أصحاب الهجرتين على أن يكون نزولُها بالمدينة بين الهجرتين وأما جعلُ رسول الله ﷺ من جملتهم فلا يساعده نظمُ التنزيلِ ولا شأنُه الجليل وقرئ لنُثْوِينّهم ومعناه إثواءةً حسنةً أو لنُنزّلنهم في الدنيا منزلة حسنة وهي الغَلبةُ على من ظلمهم من أهل مكةَ وعلى العرب قاطبةً وأهلِ الشرقِ والغربِ كافة ﴿وَلاَجْرُ الاخرة﴾ أي أجرُ أعمالِهم المذكورةِ في الآخرة ﴿أَكْبَرَ﴾ مما يعجّل لهم في الدنيا وعن عمر رضيَ الله عنه أنَّه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاءً قال له خُذ بارك الله تعالى لك فيه هذا ما وعدك الله تعالَى في الدُّنيا وما ادّخر في الآخرة أفضلُ ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ الضمير للكفار أي لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خيرَ الدارين لوافقوهم في الدين وقيل للمهاجرين
115
النحل ٤٢ ٤٤ أي لو علموا ذلك لزادوا فى الاجتهاد أو لَما تألموا لما أصابهم من المهاجَرة وشدائدِها
116
﴿الذين صَبَرُواْ﴾ على الشدائد من أذية الكفار ومفارقةِ الأهل والوطن وغيرِ ذلك ومحلُّه النصبُ أو الرفع على المدح ﴿وعلى رَبّهِمْ﴾ خاصة ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾ منقطعين إليه تعالى معرِضين عما سواه مفوِّضين إليه الأمرَ كلَّه والجملةُ إما معطوفةٌ على الصلة وتقديمُ الجار والمجرور للدِلالة على قصر التوكلِ على الله تعالى وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على دوام التوكل أو حالٌ من ضميرِ صبروا
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ﴾ وقرئ بالياء مبنياً للمفعول وهو ردٌّ لقريش حين قالوا الله أجلُّ من أن يكون له رسولٌ من البشر كما هو مبنى قولهم لو شاء الله مَا عَبَدْنَا الخ أي جرت السنةُ الإلهية حسبما اقتضتْه الحكمةُ بأن لا يَبعَثَ للدعوة العامة إلا بشراً يوحي إليهم بواسطة الملَك أوامرَه ونواهيَه ليبلّغوها الناس ولما كان المقصودُ من الخطاب لرسول الله ﷺ تنبيهَ الكفار على مضمونه صُرف الخطاب إليهم فقيل ﴿فاسألوا أَهْلَ الذكر﴾ أي أهلَ الكتاب أو علماءَ الأخبار أو كلَّ من يُذكرُ بعلم وتحقيقٍ ليعلّموكم ذلك ﴿إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ﴾ حذفَ جوابُه لدِلالة ما قبله عليه وفيهِ دَلالةٌ عَلى أنَّه لم يُرسِلْ للدعوة العامة ملَكاً وقولُه تعالى جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً معناه رسلاً إلى الملائكة أو إلى الرسل ولا امرأةً ولا صبياً ولا ينافيه نبوةُ عيسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو في المهْد لأنها أعمُّ من الرسالة وإشارةٌ إلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يُعلم
﴿بالبينات والزبر﴾ بالمعجزات والكتبِ والباءُ متعلقةٌ بمقدر وقع جوابا عن سؤال من قال بمَ أُرسلوا فقيل أرسلوا بالبينات والزبر أو بما أرسلنا داخلاً تحت الاستثناء مع رجالاً عند من يجوّزه أي ما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات كقولك ما ضربت إلا زيداً بالسوط أو على نية التقديمِ قبل أداة الاستثناءِ أي مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ بالبينات والزبر إلا رجالاً عند من يجوّز تأخرَ صلةِ ما قبل إلا إلى ما بعده أو بما وقع صفةً للمستثنى أي إلا رجالاً ملتبسين بالبينات أو بنوحي على المفعولية أو الحالية من القائم مقامَ فاعل يوحى وهو إليهم على أنَّ قولَه تعالى فاسئلوا اعتراضٌ أو بقوله لاَ تَعْلَمُونَ على أن الشرطَ للتبكيت كقول الأجير إنْ كنتُ عمِلتُ لك فأعطِني حقي ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر﴾ أي القرآنَ وإنما سُمّي به لأنه تذكيرٌ وتنبيهٌ للغافلين ﴿لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ﴾ كافةً ويدخل فيهم أهلُ مكة دخولاً أولياً ﴿مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ﴾ في ذلك الذكرِ من الأحكام والشرائعِ وغير ذلك من أحوال القرونِ المهلَكة بأفانين العذابِ حسب أعمالِهم الموجبةِ لذلك على وجه التفصيلِ بياناً شافياً كما ينبئ عنه صيغةُ التفعيل في الفعلين لا سيما بعد ورود الثاني أولا على صيغة الإفعالِ ولِما أن التبيينَ أعمُّ من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه دخل تحته القياسُ على الإطلاق سواءٌ كان في الأحكام الشرعية أو غيرِها ولعل قوله عز وجل ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ إشارةٌ إلى
116
النحل ٤٥ ٤٧ ذلك أي إرادةَ أن يتأملوا فيتنبّهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترزوا عما يؤدي إلى مثل ما أصاب الأولين من العذاب
117
﴿أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات﴾ هم أهلُ مكةَ الذين مكروا برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وراموا صدَّ أصحابِه عن الإيمان عليهم الرضوان لا الذين احتالوا الهلاك الأنبياءِ كما قيل ولا من يعُمّ الفريقين لِما أن المرادَ تحذيرُ هؤلاء عن إصابة مثلِ ما أصاب أولئك من فنون العذابِ المعدودة والسيئاتِ نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي مكروا المكَراتِ السيئاتِ التي قصت عنهم أو مفعولٌ به للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل أي علموا السيئاتِ فقوله تعالى ﴿أَن يخسف الله بهم الارض﴾ مفعولٌ لأمِن أو السيئاتِ صفةٌ لما هو المفعولُ أي أي أفأمن الماكرون العقوباتِ السيئةَ وقوله أن يخسف الخ بدلٌ من ذلك وعلى كل حال فالفاءُ للعطفِ على مقدَّر ينسحبُ عليه النظم الكريم أي أنزلنا إليك الذكرَ لتبين لهم مضمونَه الذي من جملته إنباءُ الأممِ المهلَكة بفنون العذاب ويتفكروا في ذلك ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئاتِ أن يخسف الله بهم الارض كما فعل بقارون على توجيه الإنكارِ إلى المعطوفين معاً أو أتفكروا فأمِنوا على توجيهه إلى المعطوف على أن الأمنَ بعد التفكرِ مما لا يكاد يفعله أحد وقيل هو عطف على مقدر ينبئ عنه الصلةُ أي أَمُكِر فأمن الذين مكروا الخ ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ بإتيانه أي في حالة غفلتِهم أو من مأمنهم أو من حيث يرجون إيتان ما يشتهون كما حُكي فيما سلف مما نزل بالماكرين
﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ﴾ أي في حالة تقلُّبهم في مسائرهم ومتاجرهم ﴿فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ﴾ بممتنعين أو فائتين بالهرب والفِرار على ما يوهمه حالُ التقلب والسير والفاءُ إما لتعليل الأخذِ أو لترتيب عدمِ الإعجاز عليه دلالةً على دوامِ النفي لا نفْيِ الدوام
﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ﴾ أي مخافةٍ وحذرٍ عن الهلاك والعذاب بأن يُهلك قوماً قبلهم فيتخوّفوا فيأخذَهم العذابُ وهم متخوّفون وحيث كانت حالتا التقلّبِ والتخوّف مَظِنةً للهرب عُبّر عن إصابة العذابِ فيهما بالأخذ وعن إصابته حالةَ الغفلة المنبئة عن السكون بالإيتان وقيل التخوّفُ التنقّص قال قائلهم... تخوّفَ الرحلُ منها تامكاً قردا... كما تخوّفَ عودَ النبعة السفن...
أي يأخذُهم على أن يَنْقُصَهم شيئاً بعد شيءٍ في أنفسهم وأموالِهم حتى يهلِكوا والمرادُ بذكر الأحوال الثلاثِ بيانُ قدرة الله سبحانه على إهلاكهم بأي وجهٍ كان لا الحصرُ فيها ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ حيث لا يعاجلكم بالعقوبة ويحلُم عنكم مع استحقاقكم لها
117
النحل
118
٤٨ - ٤٩ ﴿أولم يروا﴾ استفهام إنكاري وقرئ على صيغة الخِطاب والواو للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقامُ أي ألم ينظروا ولم يرَوا متوجهين ﴿إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَىْء﴾ أي من كل شيء ﴿يَتَفَيَّأُ ظلاله﴾ أي يرجِع شيئاً فشيئاً حسبما يقتضيه إرادةُ الخالق تعالى فإن التفيّؤَ مطاوِعُ الإفاءةِ وقرئ بتأنيث الفعل ﴿عَنِ اليمين والشمآئل﴾ أي ألم يرَوا الأشياءَ التي لها ظلالٌ متفيِّئةٌ عن أيْمانها وشمائلِها أي عن جانبي كل واحد منها استُعير لهما ذلك من يمين الإنسانِ وشمالِه ﴿سُجَّدًا لِلَّهِ﴾ حالٌ من الظلال كقوله تعالى وظلالهم بالغدو والاصال والمرادُ بسجودها تصرّفُها على مشيئة الله سبحانه وتأتّيها لإرادته تعالى في الامتداد والتقلصِ وغيرِهما غيرَ ممتنعةٍ عليه فيما سخرها له وقوله تعالى ﴿وَهُمْ داخرون﴾ أي صاغرون منقادون حال من الضمير في ظلاله والجمعُ باعتبار المعنى وإيرادُ الصيغةِ الخاصة بالعقلاء لما أن الدخورَ من خصائصهم والمعنى ترجِع الظلالُ من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارِها أو باختلاف مشارقِها ومغاربها فإنها كلَّ يوم من أيام السنة تتحرك على مدار معين من المدارات اليومية بتقدير العزيزِ العليم منقادةٌ لما قُدّر لها من التفيّؤ أو واقعةٌ على الأرض ملتصقةٌ بها على هيئة الساجد والحالُ أن أصحابها من الأجرام داخرةٌ منقادةٌ لحكمه تعالى ووصفُها بالدخور مغنٍ عن وصف ظلالها به أو كلاهما حالٌ من الضمير المشار إليه والمعنى ترجع ظلالُ تلك الأجرامِ حالَ كونها منقادةً لله تعالى داخرةً فوصفُها بهما مغنٍ عن وصف ظلالِها بهما ولعل المرادَ بالموصول الجماداتُ من الجبال والأشجارِ والأحجارِ التي لا يظهر لظلالها أثرٌ سوى التفيّؤِ بما ذُكر من ارتفاع الشمسِ وانحدارِها أو اختلافِ مشارقها ومغاربها وأما الحيوانُ فظلُّه يتحرك بتحركه وقيل المرادُ باليمين والشمائل يمينُ الفَلكِ وهو جانبُه الشرقيُّ لأن الكواكبَ منه تظهر آخذةً في الارتفاع والسطوعِ وشمالُه وهو جانبُه الغربيُّ المقابل له فإن الظلال في أول النهار تبتدئ من الشرق واقعةً على الرُّبع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتدئ من الغرب واقعةً على الربع الشرقي منها وبعد ما بُيّن سجودُ الظلالِ وأصحابِها من الأجرام السفلية الثابتة في أخبارها ودخورُها له سبحانه وتعالى شُرع في بيان سجودِ المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أو لا فقيل
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ﴾ أي له تعالى وحَدهُ يخضع وينقاد لا لشيء غيرِه استقلالا أو اشتراكا فالقصرُ ينتظم القلبَ والإفراد إلا أن الأنسب بحال المخاطبين قصرُ الإفراد كما يُؤذِن به قوله تعالى وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين ﴿ما في السماوات﴾ قاطبة ﴿وَمَا فِى الأرض﴾ كائناً ما كانَ ﴿منْ دَابَّةٍ﴾ بيانٌ لما في الأرض وتقديمُه لقلته ولئلا يقعَ بين المبين والمبين فصلٌ والإفرادُ مع أن المراد الجمل لإفادة وضوحِ شمولِ السجود لكل فرد من الدواب قال الأخفش هو كقولك ما أَتَانِي من رَجُلٍ مثلِه وما أتاني من الرجال مثله ﴿والملائكة﴾ عطف
118
النحل ٥٠ ٥٢ على ما في السموات عطفَ جبريلَ على الملائكة تعظيماً وإجلالاً أو على أنْ يُرادَ بما في السموات الخلْقُ الذي يقال له الروح أو يراد به ملائكةُ السموات وبقوله والملائكةُ ملائكةُ الأرض من الحفَظة وغيرِهم ﴿وَهُمْ﴾ أي الملائكةُ مع علو شأنِهم ﴿لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ عَنْ عِبَادَتِهِ عز وجل والسجود له وتقديمُ الضمير ليس للقصر والجملةُ إما حالٌ من ضمير الفاعل في يسجد مسندٌ إلى الملائكة أواستئناف أخبر عنهم بذلك
119
﴿يخافون رَبّهِمْ﴾ أي مالكَ أمرِهم وفيه تربيةٌ للمهابة وإشعارٌ بعلة الحكم ﴿مّن فوقهم﴾ أي يخافون جل وعلا خوفَ هيبةٍ وإجلالٍ وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ أو يخافون أن يرسِل عليهم عذاباً من فوقهم والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في لا يستكبرون أو بيانٌ له وتقريرٌ لأن من يخاف الله سبحانه لا يستكبر عن عبادته ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ أي ما يُؤمرونَ بهِ من الطاعات والتدبيرات وإيرادُ الفعل مبنياً للمفعول جرْيٌ على سَنن الجلالة وإيذان بعدمِ الحاجة إلى التَّصريحِ بالفاعل لاستحالة استنادِه إلى غيره سبحانه وفيه أن الملائكة مكلّفون مُدارون بين الخوف والرجاء وبعد ما بُيّن أن جميعَ الموجودات يخصون الخضوع والانقياد الطبيعي ومَا يَجري مَجراه من عبادة الملائكة حيث لا يتصور منهم عدم الانقياد أصلا لله عز وجل أُردف ذلك بحكاية نهْيِه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الإشراك فقيل
﴿وقال الله﴾ عطفا على قوله ولله يسجد وإظهارُ الفاعل وتخصيصُ لفظة الجلالة بالذكر للإيذان بأنه متعيِّنُ الألوهية وإنما المنهيُّ عنه هو الإشراكُ به لا أن المنهيَّ عنه مطلقُ اتخاذِ إلهين بحيث يتحقق الانتهاءُ عنه برفض أيِّهما كان أي قال تعالى لجميع المكلفين ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين﴾ وإنما ذُكر العددُ مع أن صيغة التثنيةِ مغنيةٌ عن ذلكَ دلالةٌ على أنَّ مساق النهي هي الاثنَيْنيّة وأنها منافيةٌ للألوهية كما أن وصفَ الإله بالوَحدة في قولِه تعالى ﴿إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾ لدلالة على أن المقصودَ إثباتُ الوحدانية وأنها من لوازم الإلهية وأما الإلهية فأمرٌ مسلَّمُ الثبوت له سبحانه وإليه أشير حيث أُسند إليه القول وفيه التفاتٌ منَ التكلمِ إلى الغَيبةِ على رأي من اكتفى في تحقق الالتفاتِ بكون الأسلوب الملتفَتِ عنه حقَّ الكلام ولم يشترِط سبقَ الذكرِ على ذلك الوجه ﴿فإياي فارهبون﴾ التفاتٌ من الغَيبةِ إلى التَّكلمِ لتربية المهابةِ وإلقاءِ الرهبة في القلوب ولذلك قدم وكرر الفعلَ أي إن كنتم راهبين شيئاً فإيايَ ارهبوا فارهبوا لا غيرُ فإني ذلك الواحدُ الذي يسجُد لَّهُ مَا فِي السموات والارض
﴿وله ما في السماوات والأرض﴾ خلقاً ومُلكاً تقريرٌ لعلة انقيادِ ما فيها له سبحانه خاصة وتحقيقٌ لتخصيص الرهبة به تعالى وتقديم الظرف لتقوية ما في اللام من معنى الاختصاصِ وكذا في قولِه تعالى ﴿وَلَهُ الدين﴾ أي الطاعةُ والانقياد ﴿وَاصِبًا﴾ أي واجباً ثابتاً لا زوالَ له لِما تقرّر أنه الإله وحده الحقيقُ بأن يُرهَبَ وقيل واصباً من الوصب أي وله الدين ذا كلفة وقيل الدينُ الجزاءُ أي وله
119
النحل ٥٣ ٥٥ الجزاءُ الدائمُ بحيث لا ينقطع ثوابُه لمن آمن وعقابُه لمن كفر ﴿أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ﴾ الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه السياقُ أي أعقيب تقرر الشئون المذكور من تخصيص جميعِ الموجودات للسجود به تعالى وكونِ ذلك كلِّه له ونهيِه عن اتخاذ الأندادِ وكونِ الدين له واصباً المستدعي ذلك لتخصيص التقوى به سبحانه غير الله الذي شأنُه ما ذكر تتقون فتطيعون
120
﴿وَمَا بِكُم﴾ أيُ أيُّ شيءٍ يلابسكم ويصاحبكم ﴿مِن نّعْمَةٍ﴾ أية نعمةٍ كانت ﴿فَمِنَ الله﴾ فهي من الله فما شرطيةٌ أو موصولةً متضمنة لمعنى الشَّرطِ باعتبار الإخبارِ دون الحصول فإن ملابسةَ النعمةِ بهم سببٌ للإخبار بأنها منه تعالى لا لكونها منه تعالى ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر﴾ مساما يسيرا ﴿فإليه تجأرون﴾ تتضرعون في كشفه لا إلى غيره والجُؤار رفعُ الصوت بالدعاء والاستغاثة قال الأعشى... يرواح من صلوات المليك... طوراً سجوداً وطوراً جؤارا...
وقرئ تَجَرون بطرح الهمزة وإلقاءِ حركتِها إلى ما قبلَها وفي ذكر المساس المنبئ عن أدنى إصابةٍ وإيرادِه بالجملة الفعلية المعربةِ عن الحدوث مع ثم الدالةِ على وقوعه بعد برهةٍ من الدهر وتحليةِ الضُّر بلام الجنس المفيدةِ لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسمُ الجنس مع إيراد النعمةِ بالجملة الاسميةِ الدالةِ على الدوام والتعبير عن ملابستها للمخاطبين بباء الصاحبة وإيرادِ ما المعربةَ عن العموم مالا يخفى من الجزالة والفخامة ولعل إيرادَ إذا دون إن للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب
﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عنكم﴾ وقرئ كاشَفَ الضر وكلمةُ ثم ليست للدلالة على تمادي زمانِ مِساس الضرّ ووقوعِ الكشفِ بعد برهة مديدةٍ بل للدلالة على تراخي رتبةِ ما يترتبُ عليه من مفاجأة الإشراك المدلولِ عليها بقوله سبحانه ﴿إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ فإنّ ترتبها على ذلك في أبعد غايةٍ من الضلال ثم إن وُجّه الخطابُ إلى الناس جميعاً فمِن للتبعيض والفريقُ فريقُ الكفرة وإن وجه إلى الكفرة فمن للبيان كأنه قيل إذا فريق كافر وهم أنتم ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر وازدجر كقوله تعالى فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ فمن تبعيضية أيضا التعرض لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبحِ ما ارتكبوه من الإشراك والكفر ان
﴿ليكفروا بما آتيناهُم﴾ من نعمةِ الكشف عنهم كأنهم جعلوا غرضَهم في الشرك كفر ان النعمة وإنكارَ كونها من الله عز وجل ﴿فَتَمَتَّعُواْ﴾ أمرُ تهديد والالتفاتُ إلى الخطابِ للإيذانِ بتناهي السخط وقرئ بالياء مبنياً للمفعول عطفاً على ليكفروا على أن يكون كفرانُ النعمة والتمتعُ غرضاً لهم من الإشراك ويجوز أن يكون اللامُ لامَ الأمرِ الواردِ للتهديد ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عاقبةَ أمرِكم وما ينزل بكم من العذاب وفيه وعيدٌ أكيدٌ منبىءٌ عن أخذٍ شديد حيث لم يُذكر المفعولُ إشعاراً بأنه مما لا يوصف
120
النحل
121
٥٧ - ٥٩ ﴿وَيَجْعَلُونَ﴾ لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعداداً لجناياتهم أي يفعلُون ما يفعلُون من الجُؤار إلى الله تعالى عند مساس الضر ومن الإشراك به عند كشفِه ويجعلون ﴿لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي لما لا يعلمون حقيقتَه وقدرَه الخسيسَ من الجمادات التي يتخذونها شركاءَ لله سبحانه وتعالى جهالةً وسَفاهةً ويزعُمون أنها تنفعهم وتشفعَ لهم على أن ما موصولةٌ والعائدُ إليها محذوف أو لما لا علم له أصلاً وليس من شأنه ذلك فما موصولةٌ أيضاً والعائدُ ما في الفعل من الضمير المستكنْ وصيغةُ جمعِ العقلاءِ لكون ما عبارةً عن آلهتهم التي وصفوها بصفات العقلاءِ أو مصدريةٌ واللامُ للتعليل أي لعدم علمهم والمجعول له للعلم بمكانه ﴿نَصِيبًا مّمّا رزقناهم﴾ من الزرع والأنعام وغيرِهما تقرباً إليها ﴿تالله لتسألن﴾ سؤالَ توبيخٍ وتقريع ﴿عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾ في الدنيا بأنها آلهة حقيقةٍ بأن يُتقرَّب إليها وفي تصدير الجملةِ بالقسم وصرفِ الكلامِ من الغَيْبة إلى الخطاب المنبئ عن كمال الغضبِ من شدة الوعيد مالا يخفى
﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنَاتِ﴾ هم خُزاعةُ وكِنانةُ الذين يقولون الملائكةُ بناتُ الله ﴿سبحانه﴾ تنزيه وتقديس له عز وجل عن مضمون قولِهم ذلك أو تعجيب من جرائتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة ﴿وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ﴾ من البنين وما مرفوعةُ المحلِّ على أنه مبتدأ والظرف مقدم خبرُه والجملةُ حاليةٌ وسبحانه اعتراضٌ في حق موقعِه وجعلُها منصوبةً بالعطف على البنات أي يجعلون لأنفسهم ما يشتهون من البنين يؤدّي إلى جعل الجعْلِ بمعنى يعمّ الزعمَ والاختيارَ
﴿وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالانثى﴾ أي أخبر بولادتها ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ﴾ أي صار أو دام النهارَ كلَّه ﴿مُسْوَدّا﴾ من الكآبة والحياءِ من الناس واسودادُ الوجه كنايةٌ عن الاغتمام والتشويش ﴿وَهُوَ كظيم﴾ ممتلى حَنقاً وغيظاً
﴿يتوارى﴾ أي يستخفي ﴿مِنَ القوم مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ﴾ من أجل سوئِه والتعبيرُ عنها بما لإسقاطه عن درجة العقلاء ﴿أَيُمْسِكُهُ﴾ أي متردداً في أمره محدّثاً نفسَه في شأنه أيمسكه ﴿على هُونٍ﴾ ذل وقرئ هو أن ﴿أَمْ يَدُسُّهُ﴾ يُخفيه ﴿فِى التراب﴾ بالوأد والتذكيرُ باعتبار لفظ ما وقرئ بالتأنيث ﴿أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ﴾ حيث يجعلون ما هذا شأنُه عندهم من الهُون والحقارة لله المتعالي عن الصاحبة والولد والحالُ أنهم يتحاشَون عنه ويختارون لأنفسهم البنين فمدارُ الخطأ جعلُهم ذلك لله سبحانه مع إبائهم إياه لا جعلُهم البنين لأنفسهم ولا عدمُ جعلهم له سبحانه ويجوز أن يكون مدارُه التعكيس لقوله تعالى تِلْكَ إذا قسمة ضيزى
121
النحل
122
٦٠ - ٦٢ ﴿لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة﴾ ممن ذكرت قبائحُهم ﴿مَثَلُ السوء﴾ صفةُ السَّوْء الذي كالمثَل في القبح وهي الحاجةُ إلى الولد ليقوم مقامهم عند موتهم وإيثارُ الذكور للاستظهار بهم ووأدُ البنات لدفع العار وخشيةُ الإملاق المنادي كلَّ ذلك بالعجز والقصورِ والشحِّ البالغ ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ للإشعار بأن مدارَ اتصافِهم بتلك القبائح هو الكفرُ بالآخرة ﴿وَللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿المثل الاعلى﴾ أي الصفةُ العجيبةُ الشأنِ التي هي مَثَلٌ في العلو مطلقاً وهو الوجوبُ الذاتيُّ والغِنى المطلقُ والجودُ الواسعُ والنزاهةُ عن صفات المخلوقين ويدخل فيه علوُّه تعالى عما قالوه علواً كبيراً ﴿وَهُوَ العزيز﴾ المتفرد بكمال القدرة لا سيما على مؤاخذتهم بذنوبهم ﴿الحكيم﴾ الذي يفعلُ كلَّ ما يفعلُ بمقتضى الحكمةِ البالغةِ وهذا أيضاً من جُملة صفاتِه العجيبة تعالى
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس﴾ الكفارَ ﴿بِظُلْمِهِمْ﴾ بكفرهم ومعاصيهم التي مِن جُملتِها ما عُدّد من قبائحهم وهذا تصريحٌ بما أفاده قوله تعالى ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ وإيذانٌ بأن ما أتَوْه من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غايةَ وراءَه ﴿مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا﴾ على الأرض المدلولِ عليها بالناس وبقوله تعالى ﴿مِن دَابَّةٍ﴾ أي ما ترك عليها شيئاً من دابة قطُّ بل أهلكها بالمرة بشؤم ظلمِ الظالمين كقولِه تعالى ﴿واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً﴾ وعن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّه سمع رجلاً يقول إن الظالم لا يضُرُّ إلا نفسَه فقال بلى والله حتى إن الحُبارَى لتموت في وَكرها بظلم الظالم وعن ابن مسعود رضي الله عنه كاد الجُعَلُ يهلِك في حجره بذنب ابن آدمَ أو من دابة ظالمة وقيل لو أَهْلك الآباءَ لم يكن الأبناءُ فيلزم أنْ لا يكونَ في الأرض دابةٌ لِما أنها مخلوقةٌ لمنافعِ البشر لقوله سبحانه هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً ﴿ولكن﴾ لا يؤاخذهم بذلك بل ﴿يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى﴾ لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا أو يكثر عذابُهم ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ﴾ المسمّى ﴿لاَ يَسْتَأْخِرُونَ﴾ عن ذلك الأجلِ أي لا يتأخرون وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم عنه مع طلبهم له ﴿سَاعَةِ﴾ فذّةً وهي مثَلٌ في قلة المدة ﴿وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ أي لا يتقدمون وإنما تعرض لذكره مع أنه لا يتصور الاستقدام عند مجئ الأجلِ مبالغةً في بيان عدمِ الاستئخارِ بنظمه في سلك ما يمتنع كما في قوله تعالى وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الآن ولا الذين يموت وَهُمْ كُفَّارٌ فإن من مات كافراً مع أنه لا توبةَ له رأساً قد نُظم في سِمْطِ من لم تُقبل توبته للإيذان فأنهما سيان في ذلك وقد مرَّ في تفسيرِ سورة يونس
﴿ويجعلون لله﴾
122
النحل ٦٣ ٦٥ أي يُثْبتون له سبحانه وينسُبون إليه في زعمهم ﴿مَا يَكْرَهُونَ﴾ لأنفسهم مما ذكر وهو تكريرٌ لما سبق تثنيةً للتقريع وتوطئةً لقوله تعالى ﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب﴾ أي يجعلون له تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو ﴿أَنَّ لَهُمُ الحسنى﴾ العاقبةَ الحسنى عند الله تعالَى كقولِه وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى وقرئ الكُذُبُ وهو جمع الكَذوب على أنه صفةُ الألسنة ﴿لاَ جَرَمَ﴾ رد لكلامهم ذلك وإثباتٌ لنقيضه أي حقا ﴿أن لهم﴾ مكانه ما أمّلوا من الحسنى ﴿النار﴾ التي ليس وراءَ عذابها عذابٌ وهي عَلَمٌ في السُّوآى ﴿وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ﴾ أي مقدَّمون إليها من أفرطتُه أي قدّمتُه في طلب الماء وقيل مَنْسيّون من أفرطتُ فلاناً خلفي إذا خلفته ونسيته وقرئ بالتشديد وفتح الراء من فرَّطتُه في طلب الماء وبكسر الراء المشددة من التفريط في الطاعات وبكسر المخففة من الإفراط في المعاصي فلا يكونانِ حينئذ من أحوالهم الأخروية كما عطف عليه
123
﴿تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ﴾ تسليةٌ لرسول الله ﷺ عما يناله من جهالات الكفرةِ ووعيدٌ لهم على ذلك أي أرسلنا إليهم رسلاً فدعَوْهم إلى الحق فلم يجيبوا إلى ذلك ﴿فزين لهم الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾ القبيحةَ فعكفوا عليها مُصِرّين ﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ﴾ أي قرينُهم وبئس القرينُ ﴿اليوم﴾ أي يوم زين لهم الشيطانُ أعمالهم فيه على طريق حكاية الحال الماضيةِ أو في الدنيا أو يومَ القيامةِ على طريق حكايةِ الحال الآتية وهي حالُ كونهم معذبين في النار والوليُّ بمعنى الناصر أي فهو ناصرهم اليوم لا ناصرَ لهم غيرُه مبالغةً في نفي الناصرِ عنهم ويجوزُ أنْ يكونَ الضميرُ عائداً إلى مشركي قريش والمعنى زيّن للأمم السالفة أعمالَهم فهو وليُّ هؤلاء لأنهم منهم وأن يكون على حذفِ المضافِ أي وليُّ أمثالهم ﴿وَلَهُمْ﴾ فى الأخرة ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ هو عذابُ النار
﴿وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب﴾ أي القرآنَ ﴿إِلاَّ لِتُبَيّنَ﴾ استثناء مفرغ من أعم العلل أي ما أنزلنا عليك لعلّةٍ من العلل إلا لتبين ﴿لَهُمْ﴾ أي للناس ﴿الذى اختلفوا فِيهِ﴾ من التوحيد والقدَر وأحكامِ الأفعال وأحوال المعاد ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ معطوفان على محل لتبين أي وللهداية والرحمة ﴿لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ وإنما انتصبا لكونهما أثرَيْ فاعلِ الفعل المعلل بخلاف التبين حيث لم ينتصِبْ لفقدان شرطِه ولعل تقديمَه عليهما لتقدُّمه في الوجود وتخصيصُ كونهما هدًى ورحمةً بالمؤمنين لأنهم المغتنِمون آثارَه
﴿والله أَنزَلَ مِنَ السماء﴾ من السحاب أو من جانب السماء حسبما مرّ وهذا تكرير لما سبق تأكيداً لمضمونه وتوطئةً لما يعقُبه من أدلة التوحيد ﴿مَاء﴾ نوعاً خاصاً من الماء هو المطرُ وتقديمُ المجرور على المنصوب لما مر مرارا
123
النحل ٦٦ من التشويق إلى المؤخر فَأَحْيَا بِهِ الأرض بما أنبت به فيها من أنواع النباتات ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي بعد يُبْسها وما يفيده الفاءُ من التعقيب العاديّ لا ينافيه ما بين المعطوفين من المهلة ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي في إنزالِ الماءِ من السَّماءِ وإحياءِ الأرض الميتةِ به ﴿لآيَةً﴾ وأيةَ آيةٍ دالةٍ على وحدته سبحانه وعلمه وقدرتِه وحكمتِه ﴿لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ هذا التذكيرَ ونظائرَه سماعَ تفكرٍ وتدبُّر فكأن مَنْ ليس كذلك أصمُّ
124
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام لَعِبْرَةً﴾ عظيمةً وأيَّ عبرةٍ تَحار في دركها العقولُ وتهيم في فهمها ألبابُ الفحول ﴿نُّسْقِيكُمْ﴾ استئنافٌ لبيانِ ما أُبهم أولاً من العبرة ﴿مّمَّا فِى بُطُونِهِ﴾ أي بطون الأنعامِ والتذكيرُ هنا لمراعاة جانبِ اللفظِ فإنه اسم جمع ولذلك عدّه سيبويه في المفردات المبنيّة على أفعال كأكباش وأخلاق كما أن تأنيثه في سورة المؤمنين لرعاية جانب المعنى ومَن جعله جمعَ نَعَمٍ جعل الضميرَ للبعض فإن اللبَن ليس لجميعها أوله على المعنى فإن المرادَ به الجنس وقرئ بفتح النون ههنا وفي سورة المؤمنين ﴿مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا﴾ الفرْثُ فُضالةُ ما يبقى من العلف في الكَرِش المنهضمةِ بعضَ الانهضام وكثيفُ ما يبقى في المعاء وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن البهيمةَ إذا اعتلفت وانطبخ العلفُ في كرشها كان أسفلُه فرثاً وأوسطُه لبناً وأعلاه دماً ولعل المرادَ به أن أوسطَه يكون مادةَ اللبن وأعلاه مادةَ الدم الذي يغذو البدنَ لأن عدم تكونهما في الكرش مما لا ريبَ فيه بل الكبِدُ تجذب صفاوة الطعام المنهضمِ في الكرش ويبقى ثفلُه وهو الفرثُ ثم يُمسكها ريثما يهضمها فيُحدثُ أخلاطاً أربعة معها مائيةً فتُميَّز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المِرَّتين الصفراءِ والسوداء وتدفعها إلى الكِلْية والمرارة والطّحال ثم توزِّع الباقي على الأعضاء بحسبها فتُجري على كلَ حقَّه على ما يليق به بتقدير العزيز العليم ثم إن كان الحيوانُ أنثى زاد أخلاطَها على قدر غذائها لاستيلاء البردِ والرطوبةِ على مزاجها فيندفع الزائد أولا لأجل الجنينِ إلى الرحم فإذا انفصل انصب ذلك الزائدُ أو بعضُه إلى الضروع فيبيّض لمجاورته لحومَها العذوية البِيضِ ويلَذّ طعمُه فيصيرُ لبناً ومن تدبر في بدائعِ صنعِ الله تعالى فيما ذكر من الأخلاط والألبانِ وإعداد مقارّها ومجاريها والأسبابِ الموَلّدة لها وتسخيرِ القُوى المتصرفة فيها كلَّ وقت على ما يليق به اضطُرّ إلى الاعتراف بكمال علمِه وقدرتِه وحكمتِه وتناهي رأفته ورحمتِه فمِن الأولى تبعيضيةٌ لما أن اللبن بعضُ ما في بطونه لأنه مخلوقٌ من بعض أجزاءِ الدم المتولّدِ من الأجزاء اللطيفةِ التي في الفرث حسبما فصل والثانية ابتدائية كقوله سقَيت من الحوض لأن بين الفرث والدمِ مبدأَ الإسقاء وهي متعلقةٌ بنُسقيكم وتقديمه على المفعول لما مر مرارا من أن تقديم ما حقُّه التأخيرُ يبعث للنفس شوقاً إلى المؤخر موجبا لفضل تمكينه عند ورودِه عليها لا سيما إذا كان المقدمُ متضمناً لوصف منافٍ لوصف المؤخَّر كالذي نحن فيه فإن بين وصفَيْ المقدّمِ والمؤخر تنافياً وتنائياً بحيث لا يتراءى ناراهما فإن ذلك مما يزيد الشوقَ والاستشراف إلى المؤخر
124
النحل ٦٧ ٦٩ كما في قوله تعالى الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الأخضر نَاراً أو حالٌ من لبناً قُدّم عليه لتنكيره والتنبيه على أنه موضعُ العبرة ﴿خَالِصًا﴾ عن شائبة ما في الدم والفرثِ من الأوصاف ببرزخٍ من القدرة القاهرة الحاجزةِ عن بغي أحدِهما عليه مع كونهما مكتنفين له ﴿سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾ سهلَ المرور في حلقهم قيل لم يغَصَّ أحدٌ باللبن وقرئ سيِّغاً بالتشديد وبالتخفيف مثل هيْن وهيِّن
125
﴿وَمِن ثمرات النخيل والأعناب﴾ متعلقٌ بما يدلُّ عليهِ الإسقاء من مطلق الإطعامِ المنتظمِ لإعطاء المطعومِ والمشروبِ فإن اللبن مطعومٌ كما أنه مشروبٌ أي ونطعمكم من ثمرات النخيل ومن الأعناب أي من عصيرهما وقوله تعالى ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا﴾ استئنافٌ لبيان كُنه الإطعامِ وكشفِه أو بقوله تتخذون منه وتكريرُ الظرفِ للتأكيد أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ صفتُه تتخذون أي وَمِن ثمرات النخيل والأعناب ثمرٌ تتخذون منه وحَذْفُ الموصوف إذا كان في الكلام كلمةُ مِنْ سائغٌ نحو قوله تعالى ﴿وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ وتذكيرُ الضمير على الوجهين الأولين لأنه للمضاف المحذوفِ أعني العصير أو لأن المراد هو الجنسُ والسَّكَر مصدرٌ سُمّي به الخمرُ وقيل هو النبيذُ وقيل هو الطعم ﴿وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ كالتمر والدبس والزبيب والخلّ والآية إن كانت سابقةَ النزول على تحريم الخمر فدالّةٌ على كراهتها وإلا فجامعةٌ بين العتاب والمِنّة ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً﴾ باهرةً ﴿لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ يستعملون عقولَهم في الآيات بالنظر والتأمل
﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل﴾ أي ألهمها وقذف في قلوبها وعلمها بوجه لا يعلمُه إلا العليمُ الخبيرُ وقرئ بفتحتين ﴿أَنِ اتخذى﴾ أي بأن اتخذي على أنَّ أنْ مصدريةٌ ويجوز أن تكون مفسِّرةً لما في الإيحاء من معنى القول وتأنيثُ الضمير مع أن النحلَ مذكر للحمل على المعنى أو لأنه جمعُ نحلة والتأنيثُ لغة أهل الحجاز ﴿مِنَ الجبال بُيُوتًا﴾ أي أوكاراً مع ما فيها من الخلايا وقرئ بيوتاً بكسر الباء ﴿وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ أي يعرِشه الناسُ أي يرفعه من كرْم أو سقف وقيل المرادُ به ما يرفعه الناسُ ويبنونه للنحل والمعنى اتخذي لنفسك بيوتاً من الجبال والشجر إذا لم يكن لك أرباب وإلا فاتخذي ما يعرِشونه لك وإيرادُ حرفِ التبعيض لما أنها لا تبنى في كل جبل وكل شجر وكل عرش ولا في كل مكان منها
﴿ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات﴾ من كل ثمرة تشتهينها حُلوِها ومُرِّها ﴿فاسلكى﴾ ما أكلتِ منها ﴿سُبُلَ رَبّكِ﴾ أي مسالكَه التي برَأها بحيث يُحيل فيها بقدرته القاهرة النَّوَر المرَّ عسلاً من أجوافك أو فاسلكي الطرقَ التي ألهمك في عمل العسلِ أو فاسلكي راجعةً إلى بيوتك سبلَ ربك لا تتوعّر عليك ولا
125
النحل ٦٧ ٦٩ تلتبس ﴿ذُلُلاً﴾ جمع ذَلول وهو حال من السبل أي مذللة غيرَ متوعرة ذللها الله سبحانه وسهلها لك أو من الضميرِ في اسلكي أي اسلكي منقادةً لما أُمرتِ به ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا﴾ استئناف عُدل به عن خطاب النحلِ لبيان ما يظهر منها من تعاجيب صنعِ الله تعالى التي هي موضعُ العبرة بعد ما أُمِرتْ بما أمرتْ ﴿شَرَابٌ﴾ أي عسل لأنه مشروب واحتج به وبقوله تعالى كُلِى من زعم أن النحلَ تأكلُ الأزهار والأوراقَ العطِرة فتستحيل في بطنها عسلا ثم تقيئ ادّخاراً للشتاء ومن زعم أنها تلتقط بأفواهها أجزاءً قليلةً حُلوة صغيرة متفرقةً على الأزهار والأوراق وتضعها في بيوتها فإذا اجتمع فيها شئ كثيرٌ يكون عسلاً فسّر البطونَ بالأفواه ﴿مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾ أبيضُ وأسودُ وأصفرُ وأحمرُ حسب اختلاف سنِّ النحل أو الفصلِ أو الذي أخذت منه العسل ﴿فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ﴾ إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض إذ قلما يكون معجونٌ لا يكون فيه عسلٌ مع أن التنكيرَ فيه مُشعرٌ بالتبعية ويجوز كونه للتفخيم وعن قتادةَ أن رجلاً جاء إلى رسول الله ﷺ فقال إن أخي يشتكي بطنه فقال ﷺ اسقِه العسلَ فذهب ثم رجع فقال قد سقَيتُه فما نفع فقال اذهبْ فاسقِه عسلاً فقد صدق الله وكذب بطنُ أخيك فسقاه فبرئ كأنَّما أُنْشِط مِنْ عِقال وقيل الضميرُ للقرآن أو لما بين الله تعالى من أحوال النحل وعن ابن مسعود رضي الله عنه العسل شفاه لكل داء والقرآنُ شفاء لما في الصدور فعليكم بالشفاءَين العسلِ والقرآنِ ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ الذي ذكر من أعاجيب آثارِ قُدرةِ الله تعالى ﴿لآيَةً﴾ عظيمة ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فإن من تفكر في اختصاص النحلِ بتلك العلومِ الدقيقة والأفعالِ العجيبةِ المشتملةِ على حسن الصنعةِ وصِحة القسمة التي لا يقدر عليها حُذّاقُ المهندسين إلا بآلات رقيقة وأدواتٍ أنيقة وأنظار دقيقة جزم قطعاً بأن له خالقاً قادراً حكيماً يلهمها ذلك ويهديها إليه جل جلاله
126
﴿والله خَلَقَكُمْ﴾ لما ذكر سبحانه من عجائب أحوالِ ما ذَكَر من الماء والنبات والأنعام والنحل أشار إلى بعض عجائبِ أحوالِ البشر من أول عمُره إلى آخره وتطوراتِه فيما بين ذلك وقد ضبطوا مراتبَ العمُر في أربع الأولى سن النشور والنماء والثانية سنُّ الوقوف وهي سن الشباب والثالثة سنُّ الانحطاط القليل وهي سنُّ الكهولة والرابعة سنُّ الانحطاط الكبير وهي سنُّ الشيخوخة ﴿ثُمَّ يتوفاكم﴾ حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على حِكَم بالغةٍ بآجال مختلفة أطفالاً وشباباً وشيوخاً ﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ﴾ قبل توفّيه أي يعاد ﴿إلى أَرْذَلِ العمر﴾ أي أخسِّه وأحقرِه وهو خمسٌ وسبعون سنة على ما رُوي عن علي رضي الله عنه وتسعون سنة على ما نقل عن قتادة رضيَ الله عنه وقيلَ خمسٌ وتسعون وإيثارُ الردِّ على الوصول والبلوغِ ونحوهما للإيذان بأن بلوغَه والوصولَ إليه رجوعٌ في الحقيقة إلى الضُّعف بعدَ القوةِ كقولِه تعالَى وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الخلق ولا عمُرَ أسوأُ حالاً من عمر الهرِمِ الذي يشبه الطفلَ في نقصان العقل والقوة ﴿لكي لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ﴾ كثير ﴿شَيْئاً﴾ من العلم أو من
126
النحل المعلومات أو لكيلا يعلم شيئاً بعد علمٍ بذلك الشيء وقيل لئلا يعقِلَ بعد عقله الأولِ شيئاً ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ﴾ بمقادير أعماركم ﴿قَدِيرٌ﴾ على كل شيء يميت الشابَّ النشيطَ ويُبقي الهرِمَ الفانيَ وفيه تنبيهٌ على أن تفاوتَ الآجالِ ليس إلا بتقدير قادرٍ حكيم ركب أبنيتَهم وعدّل أمزجتَهم على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لما بلغ التفاوتُ هذا المبلغ
127
﴿والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِى الرزق﴾ أي جعلكم متفاوتين فيه فأعطاكم منه أفضلَ مما أعطى مماليكَكم ﴿فَمَا الذين فُضّلُواْ﴾ فيه على غيرهم ﴿بِرَآدّى رزقهم﴾ الذي رزقهم إياه ﴿على مَا مَلَكَتْ أيمانهم﴾ على مماليكهم الذين هم شركاؤُهم في المخلوقية والمرزوقية ﴿فَهُمُ﴾ أي المُلاّك والمماليك ﴿فِيهِ﴾ أي في الرزق ﴿سَوَآء﴾ أي لا يردونه عليهم بحيث يساوونهم في التصرف ويشاركونهم في التدبير والفاء للدِلالة على ترتيب التساوي على الرد أي لا يردونه عليهم ردًّا مستتبعاً للتساوي وإنما يردون عليهم منه شيئاً يسيراً فحيث لا يرضَون بمساواة مماليكِهم لأنفسهم وهم أمثالُهم في البشرية والمخلوقية لله عز سلطانُه في شيء لا يختصّ بهم بل يعُمهم وإياهم من الرزق الذي هم أُسوةٌ لهم في استحقاقه فما بالُهم يشركون بالله سبحانه وتعالى فيما لا يليق إلا به من الألوهية والمعبوديةِ الخاصّة بذاته تعالى لذاته بعضَ مخلوقاته الذي هو بمعزل من درجة الاعتبار وهذا كما ترى مثل ضُرب لكمال قباحةِ ما فعله المشركون تقريعاً عليهم كقوله تعالى ﴿هَلْ لَّكُمْ من ما مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء في ما رزقناكم فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء﴾ الآية ﴿أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ﴾ حيث يفعلون ما يفعلون من الإشراك فإن ذلك يقتضي أن يضيفوا نعم الله سبحانه الفائضةَ عليهم إلى شركائهم ويجحدوا كونَها من عند الله تعالى أو يحث أنكروا أمثالَ هذه الحجج البالغة بعدما أنعم الله بها عليهم والباء لتضمين الجحودِ معنى الكفر نحوُ وَجَحَدُواْ بِهَا والفاء للعطف على مقدر وهي داخلةٌ في المعنى على الفعل أي أيشركون به فيجحدون نعمته وقرئ تجحدون على الخطاب أو ليس الموالي برادّي رزقهم على مماليكهم بل أنا الذي أرزقهم وإياهم فلا يحسبوا أنهم يعطونهم شيئاً وإنما هو رزقي أُجريه على أيدهم فهم جميعاً في ذلك سواءٌ لا مزيةَ لهم على مماليكهم ألا يفهمون ذلك فيجحدون نعمة الله فهو ردّ على زعم المفضَّلين أو على فعلهم المؤذِن بذلك أو ما المفضَّلون برادّي بعضِ فضلهم على مماليكهم فيتساووا في ذلك جميعاً مع أن التفضيلَ ليس إلا ليبلوَهم أيشكرون أم يكفرون ألا يعرِفون ذلك فيجحدون نعمةَ الله تعالى كأنه قيل فلم يردوه عليهم والجملةُ الاسميةُ للدلالة على استمرارهم على عدم الرد يحكى عن أبي ذرَ رضيَ الله عنْهُ أنَّه سمع رسول الله ﷺ يقول إنما هم إخوانُكم فاكسُوهم مما تلبَسون وأطعِموهم مما تَطعَمون فما رؤيَ عبدُه بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزراره من غير تفاوت
﴿والله جعل لكم من أنفسكم﴾
127
النحل ٧٣ ٧٤ أي من جنسكم ﴿أزواجا﴾ لتأنَسوا بها وتقيموا بذلك جميعَ مصالحِكم ويكون أولادُكم أمثالَكم وقيل هو خلقُ حواءَ من ضِلْع آدمَ عليه الصلاة والسلام ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم﴾ وُضع الظاهرُ موضعَ المُضمرِ للإيذان بأن المرادَ جعلَ لكل منكم من زوجه لا من زوج غيره ﴿بنين﴾ وبأن نتيجةَ الأزواج هو التوالد ﴿وَحَفَدَةً﴾ جمعُ حافد وهو الذي يُسرع في الخِدمة والطاعة ومنه قولُ القانت وإليك نسعى ونحفد أي جعل لكم خدماً يسرعون في خدمتكم وطاعتِكم فقيل المرادُ بهم أولادُ الأولاد وقيل البناتُ عبّر عنهن بذلك إيذاناً بوجه المنة فإنهن يخْدُمن البيوت أتمَّ خدمة وقيل أولادُ المرأة من الزوج الأول وقيل البنون والعطفُ لاختلاف الوصفين وقيل الأختان على البنات وتأخيرُ المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مر من التشويق وتقديمُ المجرور باللام على المجرور بمن للإيذانِ من أولِ الأمرِ بعَود منفعة الجعل إليهم إمداد للتشويق وتقويةً له أي جعل لمصلحتكم مما يناسبكم أزواجاً وجعل لمنفعتكم من جهة مناسبةٍ لكم بنين وحفَدة ﴿وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات﴾ من اللذائذ أو من الحلالات ومن للتبعيض إذ المرزوقُ في الدنيا أنموذجٌ لما في الآخرة ﴿أفبالباطل يُؤْمِنُونَ﴾ وهو أن الأصنامَ تنفعهم وأن البحائرَ ونحوها حرامٌ والفاء في المعنى داخلةٌ على الفعل وهي للعطفِ على مقدَّرٍ أي أيكفرون بالله الذي شأنُه هذا فيؤمنون بالباطل أو أبعد تحقق ما ذكر من نعمِ الله تعالَى بالباطل يؤمنون دون الله سبحانه ﴿وبنعمة الله﴾ تعالى الفائضةِ عليهم مما ذكر ومما لا يحيطُ بهِ دائرةُ البيان ﴿هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ حيث يضيفونها إلى الأصنام وتقديمُ الصلة على الفعل للاهتمام أو لإيهام الاختصاص مبالغةً أو لرعاية الفواصل والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذانِ باستيجاب حالِهم للإعراض عنهم وصرفِ الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيباً لهم مما فعلوه
128
﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ لعله عطفٌ على يكفرون داخلٌ تحت الإنكار التوبيخيّ أي أيكفرون بنعمة الله ويعبدون مِن دونه ﴿مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا من السماوات والأرض شَيْئاً﴾ إنْ جُعل الرزقُ مصدراً فشيئاً نُصب على المفعولية منه أي فنصْبٌ على البدلية منه بمعنى قليلاً ومن السموات مطراً ولا من الأرض نباتاً وإن جُعل اسماً للمرزوق فنصْبٌ على البدلية منه بمعنى قليلاً ومن السموات والأرض صفةٌ لرزقاً أي كائناً منهما ويجوز كونه تأكيداً لِلا يملك أي لا يملك رزقاً ما شيئاً من الملك ﴿وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ أن يملكوه إذ لا استطاعةَ لهم رأساً لأنها مَواتٌ لا حَراك بها فالضميرُ للآلهة ويجوز أن يكون للكفرة على معنى أنهم مع كونهم أحياءً متصرفين في الأمور لا يستطيعون من ذلك شيئاً فكيف بالجماد الذي لا حِسّ به
﴿فلا تضربوا لله الأمثال﴾ التفاتٌ إلى الخطاب للإيذان بالاهتمام بشأن النهي أي لا تشركوا به شيئاً والتعبيرُ عن ذلك بضرب المثَل للقصد إلى النهي عن الإشراك به تعالى في شأن من الشئون فإن ضربَ المثلِ مبناه تشبيهُ حالة بحالة وقصةٍ بقصة أي لا تُشَبّهوا بشأنه تعالى شأناً من الشئون واللامُ مَثَلُها في قولِه تعالَى ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأة نُوحٍ وَضَرَبَ الله مَثَلاً للذين آمنوا امرأة فِرْعَوْنَ لا مثلُها في قولِه تعالَى واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية
128
النحل ٧٥ ونظائرِه والفاءُ للدلالة على ترتب النهي على ما عُدِّد من النِّعم الفائضةِ عليهم من جهته سبحانه وكونِ ما يشركون به تعالى بمعزل من أن يملِك لهم مِنْ أقطار السموات والأرض شيئاً من رزق ما فضلاً عما فُصّل من نعمة الخلق والتفضيل في الرزق ونعمةِ الأزواج والأولاد ﴿أَنَّ الله يَعْلَمُ﴾ تعليلٌ للنهي المذكور ووعيدٌ على المنهيّ عنه أي إنه تعالى يعلم كنهَ ما تأتونَ وما تذرونَ وأنه في غاية العِظم والقبح ﴿وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ذلك وإلا لَما فعلتموه أو أنه تعالى يعلم كُنهَ الأشياء وأنتم لا تعلمونه فدعوا رأيَكم وقِفوا مواقفَ الامتثالِ لِما ورد عليكم من الأمر والنهي ويجوز أن يُراد فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم كيف تُضرب الأمثال وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ذلك فتقعون فيما تقعون فيه من مهاوي الردى والضلال ثم علمهم كيفيةَ ضرب الأمثال في هذا الباب فقال
129
﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً﴾ أي ذكر وأورد شيئاً يُستدل به على تباين الحالِ بين جنابه عز وجل وبين ما أشركوا به وعلى تباعدهما بحيث ينادى بفساد ما ارتكبوه نداء جلياً ﴿عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء﴾ بدلٌ من مثلاً وتفسيرٌ له والمثَلُ في الحقيقة حالتُه العارضة له من المملوكية والعجزِ التامّ وبحسَبها ضربُ نفسِه مثلاً ووصفُ العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لاشتراكهما في كونهما عبدان لله سبحانه وقد أُدمج فيه أن الكل عبيدٌ له تعالى وبعدم القدرة لتمييزه عن المكاتَب والمأذون اللذين لهما تصرف في الجملة وفي إبهام المثلِ أولاً ثم بيانِه بما ذكر مالا يخفى من الفخامة والجزالة ﴿وَمَن رَّزَقْنَاهُ﴾ مَنْ موصوفةٌ معطوفة على عبداً أي رزقناه بطريق المُلك والالتفاتُ إلى التكلم للإشعار باختلاف حالَيْ ضرب المثل والرزق ﴿مِنَّا﴾ من جنابنا الكبير المتعالي ﴿رِزْقًا حَسَنًا﴾ حلالاً طيباً أو مستحسَناً عند الناس مرضياً ﴿فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ﴾ تفضّلاً وإحساناً والفاءُ لترتيب الإنفاق على الرزق كأنه قيل ومَنْ رزقناه منا رزقاً حسناً فأنفق وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريم من الجملة الاسمية الفعلية الخير للدِلالة على ثبات الإنفاقِ واستمرارِه التجدديّ ﴿سِرّا وَجَهْرًا﴾ أي حالَ السر والجهر أو إنفاقَ سرَ وإنفاقَ جهر والمرادُ بيانُ عمومِ إنفاقِه للأوقات وشمولِ إنعامه لمن يجتنب عن قبوله جهراً والإشارةُ إلى أصناف نعمِ الله تعالى الباطنةِ والظاهرةِ وتقديمُ السرِّ على الجهرِ للإيذان بفضله عليه والعدول عن تطبيق القرينتين بأن يقال وحرًّا مالكاً للأموال مع كونه أدلَّ على تباين الحالِ بينه وبين قسيمه لتوخّي تحقيقِ الحقِّ بأن الأحرارَ أيضاً تحت ربقة عبوديتِه سبحانه وتعالى وأن مالكيتَهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزُقَهم الله تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخلٌ في ذلك مع محاولة المبالغة في الدِلالة على ما قُصد بالمثل من تباين الحالِ بين الممثَّلين فإن العبدَ المملوك حيث لم يكن مثلَ العبد المالكِ فما ظنُّك بالجماد ومالكِ المُلك خلاّق العالمين ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ﴾ جمعُ الضمير للإيذان بأن المرادَ بما ذُكر مَن اتصفَ بالأوصافِ المذكورةِ من الجنسين المذكورين لا فردان معنيان منهما أي هل يستوي العبيد والأحرار المصوفون بما ذُكر من الصِّفاتِ مع أن الفريقين سيانِ في البشرية والمخلوقية لله سبحانه
129
النحل ٧٦ ٧٧ وأن ما ينفقه الأحرارُ ليس مما لهم دخلٌ في إيجاده ولا في تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستوِ الفريقان فَمَا ظنُّكم بِرَبّ العالمين حيث تشركون به ما لا ذليلَ أذلُّ منه وهو الأصنام ﴿الحمد للَّهِ﴾ أي كله لأنه مولى جميع النعم لا يستحقه أحدٌ غيرُه وإن ظهرت على أيدي بعض الوسايط فضلاً عن استحقاقِ العبادة وفيه إرشادٌ إلى ما هو الحقُّ من أنّ ما يظهر على يد مَنْ ينفق مما ذكر راجع إلى الله سبحانه كما لوح به قوله تعالى رَّزَقْنَاهُ ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ما ذكر فيُضيفون نعمَه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها ونفيُ العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لا يعلمون بموجبه عناداً كقوله تعالى ﴿يعرفون نعمة الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون﴾
130
﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً﴾ أي مثلاً آخرَ يدل على ما دلَّ عليه المثلُ السابقُ على وجه أوضحَ وأظهرو بعد ما أبهم ذلك لتنتظرَ النفسُ إلى وروده وتترقبه حتى يتمكّن لديها عند وروده بيّن فقيل ﴿رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ﴾ وهو من وُلد أخرسَ ﴿لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء﴾ من الأشياء المتعلّقةِ بنفسه أو بغيره بحدْس أو فراسة لقِلة فهمِه وسوءِ إدراكِه ﴿وَهُوَ كَلٌّ﴾ ثِقَلٌ وعِيالٌ ﴿على مَوْلاهُ﴾ على مَن يعوله ويلي أمرَه وهذا بيانٌ لعدم قدرتِه على إقامة مصالحِ نفسه بعد ذكر عدم قدرتِه على شيء مطلقاً وقوله تعالى ﴿أَيْنَمَا يُوَجّههُّ﴾ أي حيث يرسله مولاه في أمر بيانٌ لعدم قدرتِه على إقامة مصالحِ مولاه ولو كانت مصلحةً يسيرة وقرئ على البناء للمفعول وعلى صيغة الماضي من التوجه ﴿لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾ بنُجْح وكفايةِ مُهمّ البتةَ ﴿هَلْ يَسْتَوِى هُوَ﴾ مع ما فيه من الأوصاف المذكورةِ ﴿وَمَن يَأْمُرُ بالعدل﴾ أي من هو منطبق فهو ذو رأي وكفاية ورشد ينفع الناسَ بحثهم على العدل الجامع لمجامعِ الفضائل ﴿وَهُوَ﴾ في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام للخاص والعام ﴿على صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ ومقابلةُ الصفاتِ المذكورة بهذين الوصفين لأنهما في حاق ما يقابلها فإن محصل الصفاتِ المذكورة عدمُ استحقاقِ المأمورية وملخصُ هذين استحقاقُ كمالِ الآمرية المستتبِعِ لحيازة المحاسنِ بأجمعها وتغييرُ الأسلوب حيث لم يقل والآخر آمرٌ بالعدل الآية لمراعاة الملائمة بينه وبين ما هو المقصودُ من بيان التبايُنِ بين القرينتين واعلم أن كلاًّ من الفعلين ليس المرادُ بهما حكايةَ الضربِ الماضي بل المرادُ إنشاؤُه بما ذُكر عَقيبه ولا يبعُد أن يقال إن الله تعالى ضرب مثلاً بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقُهما كذلك للاستدلال بعدم تساويهما على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يشركون فيكون كلٌّ من الفعلين حكايةً للضرب الماضي
﴿وَللَّهِ﴾ تعالى خاصةً لا لأحد غيرِه استقلالا ولا اشتراكا ﴿غيب السماوات والارض﴾ أي الأمورُ الغائبةُ عن علوم المخلوقين
130
النحل ٧٨ قاطبةً بحيث لا سبيلَ لهم إليها لا مشاهدةً ولا استدلالاً ومعنى الإضافةِ إليهما التعلقُ بهما إما باعتبار الوقوعِ فيهما حالاً أو مآلاً وإما باعتبار الغَيبة عن أهلهما والمرادُ بيانُ الاختصاصِ به تعالى من حيثُ المعلوميةُ حسبما ينبئ عنه عنوان الغيبة لا من حيث المخلوقيةُ والمملوكيةُ وإنْ كان الأمرُ كذلك في نفس الأمر وفيه إشعارٌ بأنَّ علمَه سبحانه حضوريٌّ فإن تحقق الغيوب في نفسها علم بالنسة إليه تعالى ولذلك لم يقل ولله علمُ غيبِ السموات والأرض ﴿وَمَا أَمْرُ الساعة﴾ التي هي أعظمُ ما وقع فيه المماراةُ من الغيوب المتعلقة بهما من حيث غيبتُها عن أهلهما أو ظهورُ آثارها فيهما عند وقوعها فأن وقتَ وقوعها بعينه من الغيوب المختصة به سبحانه وإن كان آنيّتُها من الغيوب التي نُصبت عليها الأدلة أي ما شأنُها في سرعة المجيء ﴿إِلاَّ كَلَمْحِ البصر﴾ أي كرجع الطرفِ من أعلى الحدَقة إلى أسفلها ﴿أَوْ هُوَ﴾ أي بل أمرُها فيما ذكر ﴿أَقْرَبُ﴾ من ذلك وأسرعُ زماناً بأن يقع في بعضٍ من زمانه فإن ذلك وإن قصر عن حركةٌ آنيةٌ لها هُوِيةٌ اتصاليةٌ منطبقةٌ على زمان له هويةٌ كذلك قابلٌ للانقسام إلى أبعاض هي أزمنة أيضاً بل في آن غيرِ منقسمٍ من ذلك الزمان وهو آنُ ابتداءِ تلك الحركةِ أو ما أمرُها إلا كالشيء الذي يُستقرب ويقال هو كلمح البصر أو هو أقرب وأياما كان فهو تمثيلٌ لسرعة مجيئها حسبما عبّر عنها في فاتحة السورة الشريفة بالإتيان ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ﴾ ومن جملة الأشياء أن يجيء بها أسرعَ ما يكون فهو قادر على ذلك أو وما أمرُ إقامةِ الساعة التي كُنهُها وكيفيتُها من الغيوب الخاصةِ به سبحانه وهي إماتةُ الأحياءِ وإيحاء الأمواتِ من الأولين والآخرين وتبديلُ صورِ الأكوان أجمعين وقد أنكرها المنكرون وجعلوها من قبيل مالا يدخُل تحت الإمكان في سرعة الوقوعِ وسهولةِ التأتي إلا كلمح البصر أو هو أقرب على ما مر من الوجهين أَنَّ الله على كُلّ شىء قدير فهو قادر على ذلك لا محالة وقيل غيبُ السموات والأرض عبارةٌ عن يوم القيامة بعينه لما أن علمه بخصوصه غائبٌ عن أهلهما فوضْعُ الساعة موضعَ الضمير لتقوية مضمونِ الجملة
131
﴿والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم﴾ عطف على قوله تعالى والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا منتظمٌ معه في سلك أدلةِ التوحيد من قوله تعالى والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء وقولِه تعالى والله خَلَقَكُمْ وقوله تعالى والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ والأمهات بضم الهمزة وقرئ بكسرها أيضا جمع الأمر زيدت الهاء فيه كما زيدت في أهراق من أراق وشذّت زيادتُها في الواحدة قال... أُمهتي خِندِفُ والياسُ أبي...
﴿لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ في موقعِ الحالِ أي غيرَ عالمين شيئاً أصلاً ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة﴾ عطف على أخرجكم وليس فيه دلالةٌ على تأخر الجعل المذكورِ عن الإخراج لما أن مدلولَ الواو هو الجمعُ مطلقاً لا الترتيبُ على أن أثر ذلك الجعلِ لا يظهر قبل الإخراج أي جعل لكم هذه الأشياءَ آلاتٍ تحصّلون بها العلمَ والمعرفة بأن تُحِسوا بمشاعركم جزئياتِ الأشياء وتُدركوها بأفئدتكم وتتنبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرر الإحساسِ فيحصل لكم علوم
131
النحل ٧٩ ٨٠ بديهيةٌ تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلومِ الكسبية والأفئدة جمع فؤاد وهو وسط القلب وهو من القلب كالقلب من الصدور وهو من جموع القلة التي جرت مَجرى جموعِ الكثرة وتقديمُ المجرور على المنصوبات لما مر من الإيذانُ من أول الأمرِ بكون المجعول نافعاً لهم وتشويقِ النفس إلى المؤخر ليتمكن عند ورودِه عليها فضلُ تمكن ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ كي تعرِفوا ما أنعم به عليكم طوراً غِبَّ طَورٍ فتشكروه وتقديمُ السمع على البصر لما أنه طريق تلقي الوحي أو لأن إدراكه أقدمُ من إدراك البصر وإفرادُه باعتبار كونه مصدراً في الأصل
132
﴿ألم يروا﴾ وقرئ بالتاء ﴿إِلَى الطير﴾ جمع طائر أي ألم ينظروا إليها ﴿مسخرات﴾ مذلّلاتٍ للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسبابِ المساعدة له وفيه مبالغةٌ من حيث إن معنى التسخيرِ جعلُ الشيء منقاداً لآخرَ يتصرَّفُ فيه كيفَ يشاءُ كتسخير البحر والفُلك والدوابِّ للإنسان والواقع ههنا تسخيرُ الهواء للطير لتطير فيه كيف تشاء فكان مقتضى طبيعةِ الطير السقوطَ فسخرها الله تعالى للطيران وفيه تنبيه على أن الطيران ليس مقتضى طبعِ الطير بل ذلك بتسخير الله تعالى ﴿فِى جَوّ السمآء﴾ أي في الهواء المتباعدِ من الأرضَ والسكاك واللوح أبعدُ منه وإضافتُه إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر ولإظهار كمال القدرة ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ﴾ في الجوِّ حين قبْضِ أجنحتهن وبسطِها ووقوفِهن ﴿إِلاَّ الله﴾ عزَّ وجلَّ بقدرته الواسعة فإن ثقلَ جسدها ورِقّةَ قوامِ الهواء يقتضيان سقوطَها ولا عِلاقةَ من فوقها ولا دِعامة من تحتها وهو إما حالٌ من الضمير المستتر في مسخّرات أو من الطير وإما مستأنف ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ الذي ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها خِلْقةً تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحةً خفيفة وأذناباً كذلك وجعل أجسادها من الخِفة بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابَها لا يطيق ثقلها يخرق ما تحتها من الهواء الرقيق القوام وتخرق ما بين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه بحجم كبير ﴿لاَيَاتٍ﴾ ظاهرة ﴿لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي من شأنهم أن يؤمنوا وإنما خص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به
﴿والله جَعَلَ لَكُمُ﴾ معطوف على ما مر وتقديم لكم على ما سيأتي من المجرور والمنصوب لما مر من الإيذانُ من أول الأمرِ بأنه لمصلحتهم ومنفعتهم لتشويق النفسِ إلى وروده وقولُه تعالى ﴿مِن بيوتكم﴾ أي من بيوتكم المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدر تبيين لذلك المجعول المبْهمِ في الجملة وتأكيدٌ لما سبق من التشويق ﴿سَكَناً﴾ فَعَلٌ بمعنى مفعول أي موضعاً تسكنون فيه وقت إقامتِكم أو تسكنون إليه من غير أن ينتقل من مكانه أي جعل بعضَ بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الانعام بُيُوتًا﴾
132
أي بيوتاً أُخَرَ مغايرةً لبيوتكم المعهودةِ هي الخيامُ والقباب والأخبية والفاساطيط ﴿تَسْتَخِفُّونَهَا﴾ تجدونها خفيفةً سهلةَ المأخذ ﴿يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾ وقت تَرحالِكم في النقض والحمل والنقل وقرئ بفتح العين ﴿وَيَوْمَ إقامتكم﴾ وقت نزولِكم في الضرب والبناء ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا﴾ عطفٌ على قوله تعالى مّن جُلُودِ والضمائر للأنعام على وجه التنويع أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبارِ الإبل وأشعار المعْزِ ﴿أَثَاثاً﴾ أي متاعَ البيت وأصلُه الكثرةُ والاجتماعُ ومنه شعرٌ أثيثٌ ﴿ومتاعا﴾ أي شيئاً يُتمتّع بهِ بفنون التمتع ﴿إلى حِينٍ﴾ إلى أن تقضوا منه أوطارَكم أو إلى أن يبلى ويفنى فإنه في معرض البلا والفناء وقيل إلى أن تموتوا والكلام في ترتيب المفاعيل مثلُ ما مر من قبل
133
﴿والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ﴾ من غير صُنْع مِنْ قِبلكم ﴿ظلالا﴾ أشياءَ تستظلون بها من الحر كالغمام والشجرِ والجبل وغيرها امتنّ سبحانه بذلك لِما أن تلك الديارَ غالبةُ الحرارة ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا﴾ مواضيع تسكنون فيها من لكهوف والغِيران والسُّروب والكلام في الترتيب الواقع بين المفاعيل كالذي مرَّ غير مرة ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ﴾ جمع سِربال وهو كل ما يُلبس أي جعل لكم ثياباً من القُطن والكَتان والصوف وغيرها ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ خصّه بالذكر اكتفاءً بذكر أحد الضدّين عن ذكر الآخر أو لأن وقايتَه هي الأهم عندهم لما مر آنفاً ﴿وسرابيل﴾ من الدروع والجواشن ﴿تَقِيكُم بَأْسَكُمْ﴾ أي البأسَ الذي يصل إلى بعضكم من بعض في الحرب من الضرب والطعن ولقد منّ الله سبحانه علينا حيث ذكر جميعَ نعمِه الفائضةِ على جميع الطوائف فبدأ بما يخُص المقيمين حيث قال والله جعل لكم من بُيُوتِكُمْ سَكَنًا ثم بما يخص المسافرين ممن لهم قدرةٌ على الخيام وأضرابِها حيث قال وجعل لكم مّن جُلُودِ الانعام الخ ثم بما يعم من لا يقدرُ على ذلك ولا يأويه إلا الظلالُ حيث قال ﴿جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظلالا﴾ الخ ثم بما لابد منه لأحد حيث قال ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ﴾ الخ ثم بمالا غنى عنه في الحروب حيث قال وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ثم قَالَ ﴿كذلك﴾ أي مثلَ ذلك الإتمامِ البالغِ ﴿يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ أي إرادةَ أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرةِ والباطنةِ والأنفسيةِ والآفاقية فتعرِفوا حق منعهما فتؤمنوا به وحده وتذروا ما كنتم به تشركون وتنقادوا لأمره وإفرادُ النعمة إما لأن المرادَ بها المصدرُ أو لإظهار أنَّ ذلكَ بالنسبةِ إلى جانب الكبرياء شيء قليل وقرئ تَسلمون أي تسلمون من العذاب أو من الشرك وقيل من الجراح بلبس الدروع
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ فعل ماض على طريقة الالتفات وصرفُ الخطابِ عنهم إلى رسول الله ﷺ تسليةٌ له أي فإنْ أعرضُوا عن الإسلام ولم يقبلوا منك ما ألقيَ إليهم من البينات والعبرة والعظات ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين﴾ أي فلا قصور من جهتك لأن وظيفتك هي البلاغُ الموضح أو الواضح وقد فعلتَه بما لا مزيدَ عليهِ فهو من باب وضعِ السببِ موضعَ المسبب
133
النحل
134
٨٣ - ٨٦ ﴿يعرفون نعمة الله﴾ استئنافٌ لبيان أن تولّيَهم وإعراضَهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم بما عُدد من نعمِ الله تعالَى أصلاً فإنهم يعرِفونها ويعترفون أنها من الله تعالى ﴿ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾ بأفعالهم حيث يعبدون غيرَ مُنعمها أو بقولهم إنها بشفاعة آلهتنا أو بسب كذا وقيل نعمةُ الله تعالى نبوة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم عرفوها بالمعجزات كما يعرفون أبناءَهم ثم أنكروها عِناداً ومعنى ثم لاستبعاد الإنكار بعد المعرفة لأن حق مَنْ عرف النعمة الاعترافُ بها لا الإنكارُ وإسنادُ المعرفة والإنكارِ المتفرِّعِ عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاقِ من باب إسنادِ حالِ البعض إلى الكل كقولهم بنُو فلان قتلُوا فلاناً وإنما القاتلُ واحدٌ منهم فإن بعضهم ليسوا كذلك لقوله سبحانه ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون﴾ أي المنكرون بقلوبهم غيرُ المعترفين بما ذكر والحُكم عليهم بمطلق الكفر المؤذِن بالكمال من حيث الكميةُ لا ينافي كمالَ الفِرقة الأولى من حيث الكيفية هذا وقد قيل ذكرُ الأكثر إما لأن بعضهم لم يَعرِفوا لنقصان العقل أو التفريطِ في النظر أو لم يقُم عليه الحجةُ لأنه لم يبلغ حد التكليف فتدبر
﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ يشهد لهم بالإيمان والطاعةِ وعليهم بالكفر والعصيان وهو نبيها ﴿ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ في الاعتذار إذ لا عذرَ لهم وثمَّ للدَّلالة على أنَّ ابتلاءهم بالمنع عن الاعتذار المنيء عن الإقناط الكليِّ وهو عند ما يقال لهم اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ أشدُّ من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام عليهم وأطمُّ ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ يُسترضَون أي لا يقال لهم ارضُوا ربكم إذ الآخرةُ دارُ الجزاء لا دارُ العمل وانتصابُ الظرف بمحذوف تقديرُه اذكرْ أو خوِّفْهم يوم نبعث الخ أو يوم نبعث يحيق بهم ما يحيق مما لا يوصف وكذا قوله تعالى
﴿وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب﴾ الذي يستوجبونه بظلمهم وهو عذابُ جهنم ﴿فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ﴾ ذلك ﴿وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ أي يُمهلون كقوله تعالى بَلْ تَأْتِيهِم بغتة فتبهتهم
﴿وإذا رأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ﴾ الذين كانوا يدعونهم في الدنيا وهم الأوثانُ أو الشياطينُ الذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه وقارنوهم في الغيّ والضلال ﴿قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا ندعو مِن دُونِكَ﴾ أي نعبدهم أو نطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعاً في توزيع العذاب بينهم كما ينبئ عنه قوله سبحانه ﴿فَأَلْقَوُاْ﴾ أي شركاؤهم ﴿إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون﴾ فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ليس إلا للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه وإنما كذبوهم وقد كانوا يعذبونهم ويطيعونهم لأن الأوثانَ ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة لهم كما قالت الملائكةُ عليهم
134
النحل ٨٧ ٨٩ السلام بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن يعنون أن الجنَّ هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن أو كذبوهم في تسميتهم شركاءَ وآلهةً تنزيهاً لله سبحانه عن الشريك والشياطينُ وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر والإلجاءِ كما قال إبليسُ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى فكأنهم قالوا ما عبدتمونا حقيقة بل إنما عبدتم أهواءكم
135
﴿وَأَلْقَوْاْ﴾ أي الذين أشركوا ﴿إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم﴾ الاستسلامَ والانقيادَ لحُكمه العزيز الغالب عبد الاستكبار عنه في الدنيا ﴿وَضَلَّ عَنْهُم﴾ أي ضاع وبطل ﴿مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ من أن لله سبحانه شركاءَ وأنهم ينصُرون ويشفعون لهم وذلك حين كذبوهم وتبرءوا منهم
﴿الذين كَفَرُواْ﴾ في أنفسهم ﴿وَصُدُّواْ﴾ غيرهم ﴿عَن سَبِيلِ الله﴾ بالمنع عن الإسلام والحمل على الكفر ﴿زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب﴾ الذي كانوا يتسحقونه بكفرهم قيل في زيادة عذابهم حياتٌ أمثالُ البُخْت وعقاربُ أمثالُ البغال تلسَع إحداهن فيجد صاحبها حُمَتَها أربعين خريفاً وقيل يُخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة البرد إلى النار ﴿بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ﴾ متعلق بقوله زدناهم أي زدنا عذابهم بسب استمرارِهم على الإفساد وهو الصدّ المذكور
﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ﴾ تكريرٌ لما سبق تثنيةً للتهديد ﴿فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ﴾ أي نبياً ﴿مّنْ أَنفُسِهِمْ﴾ من جنسهم قطعاً لمعذرتهم وفي قوله تعالى عَلَيْهِمْ إشعارٌ بأن شهادةَ أنبيائِهم على الأمم تكون بمحضر منهم ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ إيثارُ لفظ المجيء على البعث لكمال العنايةِ بشأنه عليه السلام وصيغةُ الماضِي للدِلالة على تحقق الوقوع ﴿شَهِيدًا على هَؤُلآء﴾ الأممِ وشهدائِهم كقولِه تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً وقيل على أمتك والعاملُ في الظرف محذوفٌ كما مر والمراد به يوم القيامة ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب﴾ الكاملَ في الكتابية الحقيقَ بأن يُخَص باسم الجنس وهو إما استئنافٌ أو حال بتقدير قد ﴿تِبْيَانًا﴾ بياناً بليغاً ﴿لّكُلّ شَىْء﴾ يتعلق بأمور الدين ومن جملة ذلك أحوالُ الأممِ مع أنبيائهم عليهم السلام فيكون كالدليل على كونه عليه السلام شهيداً عليهم وكذا من جملته ما أخبر به هذه الآيةُ الكريمة من بعث الشهداءِ وبعثِه عليه السلام شهيداً عليهم عليهم الصلاة والسلام والتبيانُ كالتِلقاء في كسر أوله وكونُه تبياناً لكل شيء من أمور الدين باعتبار أن فيه نصاً على بعضها وإحالةً لبعضها على السنة حيث أمر باتباع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وطاعته وقيل فيه وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى وحثًّا على الإجماع وقد رضي رسول الله ﷺ لأمته باتباع أصحابه حيث قال أصحابي كالنّجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقد اجتهدوا وقاسوا ووطئوا طرقَ الاجتهاد فكانت السنة والإجماعُ والقياسُ مستندةً إلى تبيان
135
النحل ٩٠ ٩١ الكتاب ولم يضُرَّ ما في البعض من الخفاء في كونه تبياناً فإن المبالغةَ باعتبار الكمية دون الكيفية كما قيل في قوله تعالى ﴿وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ﴾ إنه من قولك فلان ظالم لعبيده وظلام لعبيده ومنه قوله سبحانه وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ للعالمين فإن حرمان الكفر من مغانم آثارِه من تفريطهم لا من جهة الكتاب ﴿وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ خاصة أو يكون كلُّ ذلك خاصاً بهم لأنهم المنتفِعون بذلك
136
﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ﴾ أي فيما نزّله تبياناً لكل شيء وهدًى ورحمةً وبشرى للمسلمين وإيثارُ صيغةِ الاستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجددِ والاستمرار ﴿بالعدل﴾ بمراعاة التوسطِ بين طرفي الإفراطِ والتفريطِ وهو رأسُ الفضائل كلِّها يندرج تحته فضيلةُ القوةِ العقلية المَلَكية من الحكمة المتوسطة بين الحر مزة والبَلادة وفضيلةُ القوةِ الشهوية البهيمية من العِفة المتوسّطة بين الخلاعة والخمود وفضيلةُ القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهوُّرِ والجُبن فمن الحِكم الاعتقادية التوحيدُ المتوسطُ بين التعطيل والتشريك نُقلَ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ العدلَ هو التوحيدُ والقولُ بالكسب المتوسّطِ بين الجبر والقدَر ومن الحِكم العملية التبعد بأداء الواجبات المتوسطِ بين البَطالة والترهب ومن الحِكم الخليقية الجودُ المتوسط بين البخل والتبذير ﴿والإحسان﴾ أي الإتيانِ بما أمر به على الوجه اللائقِ وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل أو بحسب الكيفيةِ كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام الإحسانُ أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراه فإنه يراك ﴿وَإِيتَآء ذِى القربى﴾ أي إعطاءِ الأقارب ما يحتاجون إليه وهو تخصيصٌ إثرَ تعميمٍ اهتماماً بشأنه ﴿وينهى عَنِ الفحشاء﴾ الإفراط في مشايعة القوة الشهوية كالزنا مثلاً ﴿والمنكر﴾ ما يُنكَر شرعاً أو عقلاً من الإفراط في إظهار آثار القوةِ الغضبية ﴿والبغى﴾ الاستعلاءُ والاستيلاءُ على الناس والتجبرُ عليهم وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانيةِ التي هي حاصلةٌ من رذيلتَيْ القوتين المذكورتين الشهويةِ والغضبية وليس في البشر شرٌّ إلا وهو مندرجٌ في هذه الأقسام صادرٌ عنه بواسطة هذه القُوى الثلاث ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه هي أجمعُ آيةٍ في القرآن للخير والشر ولو لم يكن فيه غيرُ هذه الآية الكريمة لكفَتْ في كونه تبياناً لكل شيءٍ وهدى ﴿يَعِظُكُمُ﴾ بما يأمر وينهى وهو إما استئنافٌ وإما حالٌ من الضميرين في الفعلين ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ طلباً لأن تتعظوا بذلك
﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله﴾ هو البيعة لرسول الله ﷺ فإنها مبايعةٌ لله سبحانه لقولِه تعالى إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ﴿إِذَا عاهدتم﴾ أي حافظوا على حدود ما عاهدتم الله عليه وبايعتم به رسول الله صلى الله عليه وسلم
136
انحل ٩٢ ٩٣ ﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان﴾ التي تحلِفون بها عند المعاهدة ﴿بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ حسبما هو المعهودُ في أثناء العهودِ لا على أنْ يكونَ النهيُ مقيداً بالتوكيد مختصاً به ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً﴾ شاهداً رقيباً فإن الكفيلَ مُراعٍ لحال المكفول به محافظٌ عليه ﴿أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ من نقض الأيمان والعهودِ فيجازيكم على ذلك
137
﴿وَلاَ تَكُونُواْ﴾ فيما تصنعون من النقض ﴿كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا﴾ أي ما غزلتْه مصدرٌ بمعنى المفعول ﴿مِن بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ متعلق بنقضت أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامِه ﴿أنكاثا﴾ طاقاتٍ نكثتْ فتلَها جمع نِكْث وانتصابُه عَلى الحاليةِ من غزْلَها أو على أنَّه مفعولٌ ثانٍ لنقضت فإنه بمعنى صيّرت والمرادُ تقبيحُ حالِ النقض بتشبيه الناقض بمثل هذه الخرقاءِ المعتوهةِ قيل هي رَيْطةُ بنتُ سعد بن تيم وكانت خرقاءَ اتخذت مِغزلاً قدرَ ذراعٍ وصَنّارةً مثلَ أصبع وفلكةً عظيمةً على قدرها فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقُضْن ما غزَلْن ﴿تَتَّخِذُونَ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ﴾ حالٌ من الضمير في لا تكونوا أو في الجار والمجرور الواقعِ موقعَ الخبر أي مشابهين لا مرأة شأنُها هذا حالَ كونِكم متَّخذين أيمانَكم مفسدةً ودخَلاً بينكم وأصلُ الدخَل ما يدخُل الشيء ولم يكن منه ﴿أَن تَكُونَ أُمَّةٌ﴾ أي بأن تكون جماعة ﴿هِىَ أَرْبَى﴾ أي أزيد عدداً وأوفر مالاً ﴿مِنْ أُمَّةٍ﴾ من جماعة أخرى أي لا تغدُروا بقوم لكثرتكم وقلتهم أو لكثرة مُنابذيهم وقوتهم كقريش فإنهم كانوا إذا رأوا شوكةً في أعادي حلفائِهم نقضوا عهدَهم وحالفوا أعداءهم ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ﴾ أي بأن تكون أمةٌ أربى من أمة أي يعاملكم بذلك معاملةَ من يختبركم لينظر أتتمسكون بحبل الوفاءِ بعهد الله وبَيعةِ رسولِه ﷺ أم تغترّون بكثرة قريشٍ وشوكتِهم وقلةِ المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال ﴿وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ حين جازاكم بأعمالكم ثواباً وعقاباً
﴿وَلَوْ شَاء الله﴾ مشيئةَ قسرٍ وإلجاءٍ ﴿لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدةً﴾ متفقةٌ على الإسلام ﴿ولكن﴾ لا يشاء ذلك لكونه مزاحِماً لقضية الحِكمة بل ﴿يُضِلُّ مَن يَشَاء﴾ إضلالَه أي يخلق فيه الضلالَ حسبما يصرِفُ اختيارَه الجزئيَّ إليه ﴿وَيَهْدِى مَن يَشَاء﴾ هدايته حسبما يصرِف اختياره إلى تحصيلها ﴿ولتسألن﴾ جميعاً يوم القيامة ﴿عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدُنيا وهذا إشارةٌ إلى ما لُوِّح به من الكسب الذي عليه يدورُ أمرُ الهداية والضلال
137
النحل
138
٩٤ - ٩٦ ﴿وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ﴾ تصريحٌ بالنهي عنه بعد التضمين تأكيداً ومبالغةً في بيان قبحِ المنهيِّ عنه وتمهيداً لقوله سبحانه ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ﴾ عن مَحَجّة الحق ﴿بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ عليها ورسوخها فهيا بالإيمان وإفراد القديم وتنكيرُها للإيذان بأن زلَلَ قدمٍ واحدة أيَّ قدمٍ كانت عزّت أو هانت محذورٌ عظيم فكيف بأقدام كثيرة ﴿وَتَذُوقُواْ السوء﴾ أي العذابَ الدنيوي ﴿بِمَا صَدَدتُّمْ﴾ بصدودكم أو بصدّكم غيرَكم ﴿عَن سَبِيلِ الله﴾ الذين ينتظم الوفاءَ بالعهود والأيمان فإن من نقض البَيعةَ وارتدّ جَعل ذلك سنةً لغيره ﴿ولكم﴾ فِى الاخرة ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله﴾ أي لا تأخذوا بمقابلة عهدِه تعالى وبَيعةِ رسوله ﷺ أو آياتِه الناطقة بإيجاب المحافظةِ على العهود والأيمان ﴿ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي لا تستبدلوا بها عرَضاً يسيراً وهو ما كانت قريشٌ يعِدّون ضعفةَ المسلمين ويشترطون لهم على الارتداد من حُطام الدنيا ﴿إِنَّمَا عِنْدَ الله﴾ عز وجل من النصر والتغنيم والثوابِ الأخرويّ ﴿هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ مما يعِدونكم ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي إنْ كنتُم من أهلِ العلمِ والتمييزِ وهو تعليلٌ للنهي على طريقة التحقيقِ كما أن قوله تعالى
﴿مَا عِندَكُمْ﴾ تعليلٌ للخيرية بطريق الاستئنافِ أي ما تتمتعون به من نعيم الدنيا وإن جل بل الدنيا وما فيها جميعاً ﴿يَنفَدُ﴾ وإن جمّ عددُه وينقضي وإن طال أمدُه ﴿وَمَا عِندَ الله﴾ من خزائن رحمتِه الدنيوية والأخروية ﴿باق﴾ لا نفاذ له أما الأخرويةُ فظاهرةٌ وأما الدنيويةُ فحيث كانت موصولةً بالأخروية ومستتبِعةً لها فقد انتظمت في سِمْط الباقيات الصالحات وفي إيثار الاسمِ على صيغة المضارعِ من الدِّلالةِ على الدوام ما لا يخفى وقوله تعالى ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ﴾ بنون العظمةِ على طريقة الالتفات تكرير الموعد المستفادِ من قولِه تعالَى إِنْ ما عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ على نهج التوكيدِ القسميِّ مبالغةٌ في الحمل على الثبات في الدين والالتفاتُ عما يقتضيه ظاهرُ الحال من أن يقال ولنجزينكم أجركم بأحسن ما كنتم تعملون للتوسل إلى التعرض لأعمالهم والإشعارِ بعليتها للجزاء أي والله لنجزين ﴿الذين صَبَرُواْ﴾ على أذيَّةِ المشركينَ ومشاقِّ الإسلام التي من جملتها الوفاءُ بالعهود والفقر وقرئ بالياء من غير التفاتٍ ﴿أَجْرَهُمْ﴾ مفعولٌ ثانٍ لنجزين أي لنُعطِينّهم أجرَهم الخاصَّ بهم بمقابلة صبرِهم على ما مُنوا به من الأمور المذكورة ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي لنجزينهم بما كانوا يعملونه من الصبر المذكورِ وإنما أضيف إليه الأحسنُ للإشعار بكمال حسنِه كما في قوله سبحانه وَحُسْنَ ثَوَابِ الأخرة لا لإفادة قصرِ الجزاءِ على الأحسن منه دون الحسَن فإن ذلك مما لا يخطر ببال أحد لا سيما بعد قوله تعالى أجرهم أو لنجزينهم بحسب أحسنِ أفرادِ أعمالهم المذكور على معنى لنعطيهم بمقابلة الفردِ الأدنى من أعمالهم المذكورة ما نعطيه بمقابلة الفردِ الأعلى منها من الأجر الجزيلِ لا أنا نُعطي الأجر بحسب
138
النحل ٩٧ ٩٨ أفرادِها المتفاوتةِ في مراتب الحسن بأن نجزيَ الحسنَ منها بالأجر الحسَنِ والأحسنَ بالأحسن وفيه ما لا يَخفْى من العدة الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم في تضاعيف الصبر من بعض جزَعٍ ونظمِه في سلك الصبر الجميل أو لنجزينهم بجزاءٍ أحسنَ من أعمالهم وأما التفسيرُ بما ترجح فعلُه من أعمالهم كالواجبات والمندوبات أو بما ترجح تركُه أيضاً كالمحرمات والمكروهات دلالةً على أنَّ ذلك هو المدارُ للجزاء دون ما يستوي فعلُه وتركُه كالمباحات فلا يساعده مقامُ الحثِّ على الثبات على ما هم عليه من الأعمال الحسنةِ المخصوصة والترغيبِ في تحصيل ثمراتها بل التعرضُ لإخراج بعض أعمالِهم عن مدارية الجزاءِ من قبيل تحجيرِ الرحمةِ الواسعة في مقام توسيع حماما
139
﴿مَّنْ عَمِلَ صالحا﴾ أي عملاً صالحاً أيَّ عملٍ كان وهذا شروعٌ في تحريض كافةِ المؤمنين على كل عملٍ صالح غِبَّ ترغيبِ طائفةٍ منهم في الثبات على ما هم عليه من عمل صالحٍ مخصوصٍ دفعاً لتوهم اختصاصِ الأجر الموفورِ بهم وبعملهم المذكور وقولُه تعالى ﴿من ذَكَرٍ أَوْ أنثى﴾ مبالغةٌ في بان شمولِه للكل ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ قيّده به إذ لا اعتدادَ بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب أو تخفيفِ العذاب لقوله تعالى وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً وإيثارُ إيرادِه بالجملة الاسميةِ الحالية على نظمه في سلك الصلةِ لإفادة وجوبِ دوامه ومقارنتِه للعمل الصالح ﴿فلنحيينه حياة طيبة﴾ في الدنيا يعيش عيشا طيبا أما إن كان موسراً فظاهرٌ وأما إن كان معسِراً فيطيب عيشُه بالقناعة والرضى بالقسمة وتوقعِ الأجرِ العظيم كالصائم يطيب نهارُه بملاحظة نعيمِ ليلِه بخلاف الفاجر فإنه إن كان معسراً فظاهرٌ وإن كان موسراً فلا يدعه الحِرصُ وخوفُ الفوات أن يتهنأ بعيشه ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ﴾ في الآخرة ﴿أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ حسبما نفعل بالصابرين فليسَ فيه شائبةُ تكرارٍ والجمعُ في الضمائر العائدةِ إلى الموصول لمراعاة جانبِ المعنى كما أن الإفراد فيما سلف لرعاية جانب اللفظ وإيثار ذلك على العكس لِما أن وقوعَ الجزاءِ بطريق الاجتماعِ المناسبِ للجمعية ووقوعَ مَا في حيزِ الصلةِ وما يترتب عليه بطريق الافتراقِ والتعاقُب الملائمِ للإفراد وإذ قد انتهى الأمرُ إلى أن مدار الجزاء المذكور هو صلاحُ العمل وحسنُه رُتّب عليه بالفاء الإرشاد إلى ما به يحسُن العمل الصالح ويخلُص عن شوب الفاسد فقيل
﴿فإذا قرأت القرآن﴾ أي إذا أردت قراءتَه عبّر بها عن إرادتها على طريقة إطلاقِ اسمِ المُسبَّبِ على السبب إيذاناً بأن المرادَ هي الإرادةُ المتصلةُ بالقراءة ﴿فاستعذ بالله﴾ فاسأله عز جارُه أن يعيذك ﴿مِنَ الشيطان الرجيم﴾ من وساوسه وخطَراتِه كيلا يوسوسَك عند القراءة فإن له هَمّةً بذلك قال تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ﴾ الآية وتوجيهُ الخطاب إلى رسول الله ﷺ وتخصيصُ قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لغيره ﷺ وفي سائر الأعمال
139
النحل ٩٩ ١٠١ الصالحة أهم فإنه ﷺ حيث أُمر بها عند قراءةِ القرآن الذي لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا منْ خلفه فما ظنكم بمن عداه ﷺ فما عدا القراءةَ من الأعمال والأمرُ للندب وهذا مذهبُ الجمهور وعند عطاءٍ للوجوب وقد أخذ بظاهر النظمِ الكريم فاستعاذ عَقيبَ القراءة أبو هريرةَ رضيَ الله عنه ومالكٌ وابنُ سيرينَ وداودُ وحمزةُ من القراء وعن ابن مسعود رضي الله عنه قرأتُ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم فقلت أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم فقال ﷺ قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريلُ عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ
140
﴿أَنَّهُ﴾ الضمير للشأن أو للشيطان ﴿لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ﴾ تسلّطٌ وولاية ﴿على الذين آمنوا وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أي إليه يفوضون أمروهم وبه يعوذون في كلِّ ما يأتُون وما يذرون فإن وسوستَه لا تؤثر فيهم ودعوتَه غيرُ مستجابة عندهم وإيثارُ صيغةِ الماضي في الصلةِ الأُولى للدلالةِ على التحقق كما أن اختيارَ صيغةِ الاستقبالِ في الثانية لإفادة الاستمرارِ التجدّدي وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ عِدَةٌ كريمةٌ بإعادة المتوكلين والجملة تعليلٌ للأمر بالاستعاذة أو لجوابه المنويِّ أي يُعِذْك أو نحوه
﴿إِنَّمَا سلطانه﴾ أي تسلّطُه وولايتُه بدعوته المستتبعةِ للاستجابة لا سلطانُه بالقسر والإلجاء فإنه مُنتفٍ عن الفريقين لقوله سبحانه حكايةً عنه وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى وقد أفصح عنه قولُه تعالى ﴿على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ أي يتخذونه وليًّا ويستجيبون دعوتَه ويطيعونه فإنه المقسورَ بمعزل من ذلك ﴿والذين هُم بِهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مُّشْرِكُونَ﴾ أو بسبب الشيطانِ مشركون إذ هو الذي حملهم على الإشراك بالله سبحانه وقصُر سلطانه عليهم غِبَّ نفيه عن المؤمنين المتوكلين دليلٌ على أنْ لا واسطة في الخارج بين التوكلِ على الله تعالى وبين تولي الشيطان وإن كان بينهما واسطةٌ في المفهوم وأن من لم يتوكل عليه تعالى ينتظمُ في سلك مَنْ يتولّى الشيطانَ مِن حيثُ لاَ يحتسبُ إذ به يتم التعليلُ ففيه مبالغة في الحمل على التوكل والتحذيرِ عن مقابله وإيثارُ الجملة الفعليةِ الاستقبالية في الصلة الأولى لما مر من إفادة الاستمرارِ التجدّدي كما أن اختيارَ الجملةِ الاسميةِ في الثانية للدلالة على الثبات وتكريرُ الموصولِ للاحتراز عن توهم كونِ الصلةِ الثانية حاليةً مفيدةً لعدم دخول غيرِ المشركين من أولياء الشيطانِ تحت سلطانِه وتقديمُ الأولى على الثانية التي هي بمقابلة الصلة الأولى فيما سلف لرعاية المقارَنةِ بينها وبين ما يقابلها من التوكلِ على الله تعالى ولو رُوعيَ الترتيبُ السابق لا نفصل كلٌّ من القرينتين عما يقابلها
﴿وإذا بدلنا آية مكان آية﴾ أي إذا أنزلنا آيةً من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلاً منها بأن نسخناها بها ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ﴾ أولاً وآخِراً وبأن كلاًّ من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيهِ الحكمةُ والمصلحة فإن
140
النحل ١٠٢ ١٠٣ كل وقت له مقتض غيرُ مقتضى الآخَر فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخرَ مفسدةً وبالعكس لانقلاب الأمورِ الداعية إلى ذلك وما الشرائعُ إلا مصالحُ للعباد في المعاش والمعاد تدور حسبما تدور المصالحُ والجملةُ إما معترضةٌ لتوبيخ الكفرةِ والتنبيهِ على فساد رأيهم وفي الالتفات إلى الغَيبة مع إسناد الخبرِ إلى الاسم الجليلِ المستجمِع للصفات ما لا يَخفْى من تربية المهابةِ وتحقيقِ معنى الاعتراض أو حالية وقرئ بالتخفيف من الإنزال ﴿قَالُواْ﴾ أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ﴾ أي متقوّلٌ على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وحكايةُ هذا القول عنهم ههنا للإيذان بأن ذلك كَفْرةٌ ناشئة من نزغات الشياطين وأنه وليُّهم ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي لا يعملون شيئاً أصلاً أَوْ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ في النسخ حِكَماً بالغةً وإسنادُ هذا الحكمِ إلى الأكثر لما أن منهم مَنْ يعلمُ ذلكَ وإنما ينكره عِناداً
141
﴿قُلْ نَزَّلَهُ﴾ أي القرآنَ المدلول عليه بالآية ﴿رُوحُ القدس﴾ يعني جبريلُ عليه السلام أي الروحُ المطهّر من الأدناس البشرية وإضافةُ الروحِ إلى القدس وهو الطُهْرُ كإضافة حاتم إلى الجود حيث قيل حاتمُ الجودِ للمبالغة في ذلك الوصفِ كأنه طبعٌ منه وفي صيغة التفعيلِ في الموضعين إشعارٌ بأن التدريجَ في الإنزال مما تقتضيه الحِكَمُ البالغة ﴿مِن رَبّكَ﴾ في إضافة الربِّ إلى ضميره ﷺ من الدلالة على تحقيق إفاضةِ آثارِ الربوبية عليه ﷺ ما ليس في إضافته إلى ياء المتكلم المبنيةِ على التلقين المحض ﴿بالحق﴾ أي ملتبساً بالحق الثابتِ الموافقِ للحكمة المقتضيةِ له بحيث لا يفارقها إنشاءً ونسخاً وفيه دَلالةٌ على أن النسخ حق ﴿لِيُثَبّتَ الذين آمنوا﴾ على الإيمان بأنه كلامُه تعالى فإنهم إذا سمعوا الناسخَ وتدبّروا ما فيهِ من رعايةِ المصالحِ اللائقة بالحال رسَخت عقائدُهم واطمأنت قلوبهم وقرئ ليُثبت من الإفعال ﴿وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ المنقادين لحُكمه تعالى وهما معطوفان على محل ليثبت أي تثبيتاً وهدايةً وبشارةً وفيه تعريضٌ بحصول أضدادِ الأمورِ المذكورة لمن سواهم من الكفار
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ﴾ غيرَ ما نُقلَ عنهم من المقالة الشنعاء ﴿إِنَّمَا يُعَلّمُهُ﴾ أي القرآنَ ﴿بُشّرَ﴾ على طريق البتّ مع ظهور أنه نزّله روحُ القدس عليه الصلاة والسلام وتحليةُ الجملةِ بفنون التأكيدِ لتحقيق ما تتضمنه من الوعيد وصيغةُ الاستقبال لإفادة استمرارِ العلم بحسب الاستمرارِ التجدّدي في متعلَّقه فإنهم مستمرون على تفوهِ تلكَ العظيمةِ يعنون بذلك جبر الروميَّ غلامَ عامر بنِ الحضرمي وقيل جبرا ويسيرا كانا يصنعانِ السيفَ بمكَّةَ ويقرآن التوراة والإنجيل وكان الرسول ﷺ يمرّ عليهما ويسمع ما يقرآنه قيل عابساً غلامَ حويطِب بنِ عيد العزي قد أسلم وكان صاحبَ كتب وقيل سلمانَ الفارسي وإنما لم يصرَّح باسم من زعموا أنه يعلمه مع كونه أدخلَ في ظهور كذبِهم للإيذان بأن مدار خطابهم ليس بنسبته عليه السلام إلى التعلم من شخص معينٍ بل من البشر كائناً مَنْ كان مع كونه عليه
141
النحل ١٠٤ ١٠٦ السلام معدِناً لعلوم الأولين والآخرين ﴿لّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ﴾ الإلحادُ الإمالةُ مِنْ ألحد القبرَ إذا أمال حفرَه عن الاستقامة فحفر في شق منه ثم استُعير لكل إمالةٍ عن الاستقامة فقالوا ألحد فلانٌ في قوله وألحد في دينه أي لغةُ الرجلِ الذي يُميلون إليه القول عن الاستقامة أعجميةٌ غير بينة وقرئ بفتح الياء والحاء وبتعريف اللسان ﴿وهذا﴾ أي القرآنُ الكريم ﴿لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ﴾ ذوبيان وفصاحة والجملتان متسأنفتان لإبطال طعنهم وتقريرُه أن القرآن معجزٌ بنظمه كما أنه معجزٌ بمعناه فإن زعمتم أن بشراً يعلّمه معناه فكيف يعلّمه هذا النظمَ الذي أعجز جميعَ أهل الدنيا والتشبثُ في أثناء الطعن بأذيال أمثالِ هذه الخرافاتِ الركيكة دليلٌ كمال عجزهم
142
﴿إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله﴾ أي لا يصدّقون أنها من عند الله بل يقولون فيها ما يقولون يسمّونها تارة افتراءً وأخرى أساطيرَ معلَّمةً من البشر ﴿لاَ يَهْدِيهِمُ الله﴾ إلى الحق أو إلى سبيل النجاةِ هدايةً موصِّلةً إلى المطلوبِ لما علم أنهم لا يستحقون ذلك لسوء حالهم ﴿وَلَهُمْ﴾ فى الأخرة ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وهذا تهديدٌ لهم ووعيدٌ على ما هم عليه من الكفر بآياتِ الله تعالى ونسبة رسول الله ﷺ إلى الافتراء والتعلم من البشر بعد إماطةِ شبُهتِهم وردّ طعنهم وقوله تعالى
﴿إِنَّمَا يَفْتَرِى الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله﴾ ردٌّ لقولهم إنما أنت مفترٍ وقلبٌ للأمر عليهم ببيان أنهم هم المفترون بعد رده بتحقيق أنه منزلٌ من عند الله بواسطة روحِ القدس وإنما وُسّط بينهما قوله تعالى وَلَقَدْ نَعْلَمُ الآية لما لا يخفى من شدة اتصالِه بالرد الأول والمعنى والله تعالى أعلم إن المفترى هو الذين يكذّب بآيات الله ويقول إنه افتراءٌ ومعلَّمٌ من البشر أي تكذيبُها على الوجه المذكور هو الافتراءُ على الحقيقة لأن حقيقتَه الكذبُ والحكم بأن ما هو كلامُه تعالى ليس بكلامه تعالى في كونه كذباً وافتراءً كالحكم بأن ما ليس بكلامه تعالى كلامُه تعالى والتصريحُ بالكذب للمبالغة في بيان قُبحِه وصيغةُ المضارع لرعاية المطابقة بينه وبين ما هو عبارةٌ عنه أعني قولَه لاَ يُؤْمِنُونَ وقيل المعنى إنما يفتري الكذبَ ويليق ذلك بمن لا يؤمن بآيات الله لأنه لا يتقرب عقابا عليه ليرتدع عنها وأما من يؤمن بها ويخاف ما نطقتْ به من العقاب فلا يمكن أن يصدر عنه افتراءٌ البتةَ ﴿وَأُوْلئِكَ﴾ الموصوفون بما ذكر من عدم الإيمانِ بآيات الله ﴿هُمُ الكاذبون﴾ على الحقيقة أو الكاملون في الكذب إذ لا كذِبَ أعظمُ من تكذيب آياتِه تعالى والطعنِ فيها بأمثال هاتيك الأباطيلِ والسرُّ في ذلك أن الكذِبَ الساذَجَ الذي هو عبارةٌ عن الإخبار بعدم وقوعِ ما هو واقعٌ في نفس الأمرِ بخلق الله تعالى أو بوقوعِ ما لم يقعْ كذلك مدافعةٌ لله تعالى في فعله فقط والتكذيبُ مدافعةٌ له سبحانه في فعله وقولِه المنبئ عنه معاً أو الذين عادتُهم الكذبُ لا يزَعُهم عنه وازعٌ من دين أو مروءةٍ وقيل الكاذبون في قولهم إنما أنت مفتر
﴿مَن كَفَرَ بالله﴾ أي تلفظ بكلمة الكفر ﴿مِن بَعْدِ إيمانه﴾ به تعالى وهو ابتداءُ كلامٍ لبيان حال
142
النحل ١٠٧ ١٠٨ من كفر بآيات الله بعد ما آمن بها بعد بيانِ حالِ مَن لم يؤمن بها رأساً ومَنْ موصولةٌ ومحلُّها الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ محذوفٌ لدِلالة الخبرِ الآتي عليه أو هو خبرٌ لهما معاً أو النصبُ على الذم ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ﴾ على ذلك بأمر يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه وهو استثناءٌ متّصلٌ من حكم الغضبِ والعذاب أو الذمّ لأن الكفرَ لغة يتم بالقول كما أشير إليه وقوله تعالى ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان﴾ حالٌ من المستثنى والعاملُ هو الكفرُ الواقع بالإكراه لا نفس الاكراه لأن مقارنةَ اطمئنان القلبِ بالإيمان للإكراه لا تجدي نفعاً وإنما المجدي مقارنتُه للكفر الواقعِ به أي إلا مَنْ كفر بإكراه من إلا من أكره فكفروا والحالُ أن قلبه مطمئنٌّ بالإيمان لم تتغير عقيدتُه وإنما لم يصرح به إيماءً إلى أنه ليس بكفر حقيقة وفيه دليلٌ على أنَّ الإيمانَ هو التصديقُ بالقلب ﴿ولكن مَّن﴾ لم يكن كذلك بل ﴿شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ أي اعتقده وطاب به نفساً ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾ عظيم لا يُكتنه كُنهه ﴿مِنَ الله﴾ إظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابة وتقوية تعظيم العذاب ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ إذ لا جُرم أعظمُ من جرمهم والجمعُ في الضميرين المجرورين لمراعاة جانبِ المعنى كما أن الإفراد في المستكنّ في الصلة لرعاية جانب اللفظ روى أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسمية على الارتداد فأباه أبواه فربطوا سمية بين بعيرين ووجئت بحربة في قبلها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا يسارا وهما أول قتيلين في الإسلام وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوا عليه فقيل يا رسولَ الله إنَّ عمارا كفر فقال رسول الله ﷺ كلا إن عمارا مليء إيمانا من قَرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله ﷺ وهو يبكي فجعل رسول الله ﷺ يمسح عينيه وقال مالك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت وهو دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه الملجئ وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازا للدين كما فعله أبواه وروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين فقال لأحدهما ما تقول في محمد قال رسول الله قال فما تقول في قال أنت أيضا فخلاه وقال للآخر ما تقول في محمد قال رسول الله قال فما تقول في قال أنا أصم فأعاد ثلاثا فأعاد جوابه فبلغ رسول الله ﷺ فقال أما الأول فقد أخذ برخصة وأما الثاني فقد صدع بالحق
143
﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى الكفر بعد الإيمان أو إلى الوعيد المذكور ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ بسبب أنهم ﴿استحبوا الحياة الدنيا﴾ آثروها ﴿على الاخرة وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى﴾ إلى الإيمان وإلى ما يوجب الثبات عليه هداية قسروا إلجاء ﴿القوم الكافرين﴾ في علمه المحيطِ فلا يعصمهم عن الزيغ وما يؤدِّي إليهِ من الغضب والعذابِ العظيم ولولا أحدا لأمرين إما إيثارُ الحياة الدنيا على الآخرة وإما عدمُ هدايةِ الله سبحانه للكافرين هدايةَ قسرٍ بأن آثروا الآخرة على الدنيا أو بأن هداهم الله تعالى هدايةَ قسرٍ لَما كان ذلك لكنّ الثانيَ مخالفٌ للحكمة والأولُ مما لا يدخُل تحت الوقوعِ وإليه أشير بقوله تعالى
﴿أولئك﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذكر من القبائح ﴿الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم﴾ فأبت عن إدراك الحقِّ والتأمل فيه ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الغافلون﴾
143
أي الكاملون في الغفلة إذ لا غفلةَ أعظمُ من الغفلة عن تدبر العواقب
144
﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاخرة هُمُ الخاسرون﴾ إذْ ضيّعوا أعمارَهم وصرفوها إلى مالا يفضي إلا إلى العذاب المخلد
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا﴾ إلى دار الإسلام وهم عمار وأصحابه رضي الله عنهم أي لهم بالولاية والنصرِ لا عليهم كما يوجبه ظاهرُ أعمالِهم السابقةِ فالجارُّ والمجرور خبرٌ لإن ويجوز أن يكون خبرُها محذوفاً لدِلالة الخبرِ الآتي عليهِ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلك خبراً لها وتكون إن الثانيةُ تأكيداً للأولى وثم للدِلالة على تباعد رتبةِ حالهم هذه عن رتبةِ حالهم التي يفيدها الاستثناءُ من مجرد الخروجِ عن حكم الغضب والعذابِ بطريق الإشارة لا عن رتبة حالِ الكفرة ﴿مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ﴾ أي عُذّبوا على الارتداد وتلفظوا بما يرضيهم مع اطمئنان قلوبهم بالإيمان وقرئ على بناء الفاعل أي عذَّبوا المؤمنين كالحضْرمي أكره مولاه جبرا حتى ارتدتم أسلما وهاجرا ﴿ثُمَّ جاهدوا﴾ في سبيل الله ﴿وَصَبَرُواْ﴾ على مشاقّ الجهاد ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا﴾ من بعد المهاجِرةَ والجهاد والصبرِ فهو تصريحٌ بما أَشعَرَ به بناء الحكم على الموصول من علية الصلة له أو من بعد الفتنة المذكورة فهو لبيان عدمِ إخلالِ ذلك بالحكم ﴿لَغَفُورٌ﴾ لما فعلوا من قبلُ ﴿رَّحِيمٌ﴾ يُنعم عليهم مجازاةً على ما صنعوا من بعد وفي التعرض لعنوان الربوبية في الموضعين إيماءٌ إلى علة الحُكم وفي إضافة الربِّ إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ مع ظهور الأثرِ في الطائفة المذكورة إظهارٌ لكمال اللطفِ به عليه السلام وإشعارٌ بأن إفاضة آثارِ الربوبيةِ عليهم من المغفرة والرحمةِ بواسطته عليه السلام ولكونهم أتباعاً له
﴿يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ﴾ منصوب برحيم وما رُتِّب عليه أو بالذكر وهو يومُ القيامةِ يومَ يقوم الناس لرب العالمين ﴿تجادل عَن نَّفْسِهَا﴾ عن ذاتها تسعى في خلاصها بالاعتذار لا يُهِمّها شأنُ غيرها فتقول نفسي نفسي ﴿وتوفى كُلُّ نَفْسٍ﴾ أي تعطى وافياً كاملاً ﴿مَّا عَمِلَتْ﴾ أي جزاءَ ما عمِلت بطريق إطلاقِ اسمِ السببِ عَلى المسبَّب إشعاراً بكمال الاتصالِ بين الأجزية والأعمال وإيثارُ الإظهار على الإضمار لزيادة التقريرِ وللإيذان باختلاف وفتى المجادلةِ والتوفيةِ وإن كانتا في يوم واحد ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ لا يُنقَصون أجورهم أولا يعاقبون بغير موجب ولا يُزاد في عقابهم على ذنوبهم
﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً﴾ قيل ضرْبُ المثل صنعُه واعتمالُه وقد مرَّ تحقيقُه في سورة البقرة ولا يتعدى إلا إلى مفعول واحد وإنما عدى إلى الاثنين لتضمنه معنى الجعْل وتأخيرُ قريةً مع كونها
144
النحل ١١٣ مفعولا أول لئلا يحولَ المفعولُ الثاني بينها وبين صفتِها وما يترتب عليها إذْ التأخيرُ عن الكل مُخِلٌّ بتجاذب أطرافِ النظم وتجاوبها ولأن تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ مما يورث النفسَ ترقباً لوروده وتشوقا إليه لا سيما إذا كان في المقدَّم ما يدعو إليه فإن المثلَ مما يدعو إلى المحافظة على لا تفاصيل أحوالِ ما هو مثلٌ فيتمكن المؤخرُ عند ورودِه لديها فضلَ تمكنٍ والقريةُ إما محققةٌ في الغابرين وإما مقدرةٌ أي جعلها مثلاً لأهل مكةَ خاصةً أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمةُ ففعلوا ما فعلوا فبدل الله تعالى بنعمتهم نقمةً ودخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا ﴿كانت آمنة﴾ ذاتَ أمنٍ من كل مَخُوف ﴿مُّطْمَئِنَّةً﴾ لا يُزعج أهلَها مزعجٌ ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا﴾ أقواتُ أهلها صفةٌ ثانية لقريةً وتغييرُ سبكها عن الصفة الأولى لما أن إتيانَ رزقِها متجددٌ وكونَها آمنةً مطمئنةً ثابتٌ مستمرٌّ ﴿رَغَدًا﴾ واسعاً ﴿مّن كُلّ مَكَانٍ﴾ من نواحيها ﴿فَكَفَرَتْ﴾ أي كفرَ أهلُها ﴿بِأَنْعُمِ الله﴾ أي بنِعَمه جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدِرع وأدرُع أو جمع نُعْم كبؤس وأبؤس والمراد بها نعمةُ الرزقِ والأمن المستمرِّ وإيثارُ جمعِ القلةِ للإيذان بأن كفرانَ نعمة قلية حيث أوجب هذا العذابَ فما ظنك بكفران نِعمٍ كثيرة ﴿فَأَذَاقَهَا الله﴾ أي أذاق أهلها ﴿لِبَاسَ الجوع والخوف﴾ شُبِّه أثرُ الجوعِ والخوف وضررُهما المحيطُ بهم باللباس الغاشي للاّبس فاستُعير له اسمُه وأُوقِع عليه الإذاقةُ المستعارة لمطلق الإيصالِ المنبئة عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسةِ والذائقة على نهج التجريد فإنها لشيوع استعمالِها في ذلك وكثرةِ جرَيانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقةِ كقول كثيِّر [غمْرُ الرداءِ إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقابُ المال] فإن الغمْرَ مع كونه في الحقيقة من أحوال الماءِ الكثير لمّا كان كثيرَ الاستعمال في المعروف المشبَّهِ بالماء الكثير جرى مجرى الحقيقةِ فصارت إضافتُه إلى الرداء المستعارِ للمعروف تجريداً أو شبّه أثرُهما وضررُهما من حيث الإحاطةُ بهم والكراهةُ لديهم تارة باللباس الغاشي لِلاّبس المناسبِ للخوف بجامع الإحاطةِ واللزوم تشبيهَ معقولٍ بمحسوس فاستُعير له اسمُه استعارةً تصريحيةً وأخرى بطعم المرِّ البشعِ الملائمِ للجوع الناشىءِ من فقد الرزق بجامع الكراهة فأُوميَ إليه بأن أوقع عليه الإذاقة المستعارة لإيصال المضار المنبئة عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسة والذائقة وتقديمُ الجوع الناشئ مما ذكر من فقدان الرزقِ على الخوف المترتب على زوال الأمن المقدمِ فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسبَ بالإذاقة أو لمراعاة المقارنة بينها وبين إتيان الرزقِ وقد قرئ بتقديم الخوفِ وبنصبه أيضاً عطفاً على المضاف أو إقامةً له مُقامَ مضافٍ محذوف وأصله ولبسا الخوف ﴿بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ فيما قبلُ أو على وجه الاستمرار وهو الكفرانُ المذكور أسند ذلك إلى أهل القريةِ تحقيقاً للأمر بعد إسنادِ الكفرانِ إليها وإيقاعِ الإذاقة عليها إرادةً للمبالغة وفي صيغة الصنعة إيذان بأن كفران نعمة صار صنعةً راسخةً لهم وسنةً مسلوكة
145
﴿وَلَقَدْ جَاءهُمْ﴾ من تتمة المثل جئ بها لبيان أن ما فعلوه من كفران النعم لم يكن مزاحمةً منهم لقضية العقلِ فقط بل كان ذلك معارضةً لحجة الله على
145
النحل ١١٤ الخلق أيضاً أي ولقد جاء أهلَ تلك القرية ﴿رَسُولٌ مّنْهُمْ﴾ أي من جنسهم يعرِفونه بأصله ونسبِه فأخبرهم بوجوب الشكرِ على النعمة وأنذرهم سوءَ عاقبة ما يأتون وما يذرون ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ في رسالته أو فيما أخبرهم به مما ذكر فالفاءُ فصيحةٌ وعدم ذكرِه للإيذان بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تلعثم ﴿فَأَخَذَهُمُ العذاب﴾ المستأصِلُ لشأفتهم غِبَّ ما ذاقوا نُبذةً من ذلك ﴿وَهُمْ ظالمون﴾ أي حالَ التباسهم بما هم عليه من الظلم الذي هو كفرانُ نعمِ الله تعالى وتكذيبُ رسوله غيرَ مُقلعين عنه بما ذاقوا من مقدماته الزاجرةِ عنه وفيه دَلالةٌ على تماديهم في الكفر والعِناد وتجاوزِهم في ذلك كلَّ حدَ معتاد وترتيبُ العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قولُه سبحانه وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً وبه يتم التمثيلُ فإن حالَ أهل مكةَ سواءٌ ضُرب المثلُ لهم خاصة أو لمن سار سيرتَهم كافةً محاذيةٌ لحال أهلِ تلك القريةِ حذو القذة بالقذة من غيرِ تفاوتٍ بينَهما ولو في خصلة فَذّة كيف لا وقد كانوا في حرم آمنٍ وَيُتَخَطَّفُ الناسُ مِنْ حَوْلِهِمْ وما يمر ببالهم طيفٌ من الخوف وكانت تجبى إليه ثمراتُ كُلّ شَىْء ولقد جاءهم رسولٌ منهم وأيُّ رسول يحار في إدراك سموِّ رتبته العقول ﷺ ما اختلف الدبور والقبول فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله ﷺ فأذاقهم الله لباسَ الجوعِ والخوف حيث أصابهم بدعائه ﷺ بقوله اللهمَّ أعِنِّي عليهم بسبْعٍ كسبع يوسفَ ما أصابهم من جدب شديدٍ وأزمة حصت كلَّ شيء حتى اضطرتهم إلى أكل الجِيف والكلابِ الميتة والعظام المحرفة والعلهز وهو الوبرُ المعالَجُ بالدم وقد ضاقت عليهم الأرضُ بما رَحُبتْ من سرايا رسول الله ﷺ حيث كانوا يُغيرون على مواشيهم وعِيرهم وقوافلهم ثم أخذهم يومَ بدرٍ ما أخذهم من العذاب هذا هو الذي يقتضيهِ المقامُ ويستدعيه حسنُ النظام وأما ما أجمع عليه أكثرُ أهلِ التفسيرِ من إنَّ الضَّمير في قولِه تعالى وَلَقَدْ جَاءهُمْ لأهل مكةَ قد ذُكر حالُهم صريحاً بعد ما ذكر مَثلُهم وأن المرادَ بالرسول محمدٌ رسول الله ﷺ وبالعذاب ما أصابهم من الجدب ووقعة بدر فبمعزل من التَّحقيقِ كيف لا وقوله سبحانه
146
﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ مفرّعٌ على نتيجة التمثيل وصدٌّ لهم عما يؤدّي إلى مثل عاقبته والمعنى وإذ قد استبان لكم حالُ من كفر بأنعم الله وكذّب رسوله وما حل بهم بسبب ذلك من اللتيا والتي أولاً وآخِراً فانتهُوا عما أنتم عليهِ منْ كُفرانِ النعمِ وتكذيب الرسول ﷺ كيلا يحِلَّ بكم مثلُ ما حلَّ بهم واعرِفوا حقَّ نِعم الله تعالى وأطيعوا رسوله ﷺ في أمره ونهيه وكلوا من رزق الله حال كونه ﴿حلالا طَيّباً﴾ وذروا ما تفترون من تحريم البحائر ونحوها ﴿واشكروا نعمة الله﴾ واعرِفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران والفاءُ في المعنى داخلةٌ على الأمر بالشكر وإنما أُدخلت على الأمر بالأكل لكون الأكل ذريعةً إلى الشكر فكأنه قيل فاشكروا نعمةَ الله غِبَّ أكلها حلالاً طيباً وقد أُدمج فيه النهيُ عن زعم الحرمة ولا ريب في أن هذا إنما يُتصوّر حين كان العذاب المستأصل متوقعا بعدو قد تمهدت مباديه وبعدما وقع ما وقع فمن ذا الذي يحظر ومن ذا الذي يُؤمر بالأكل والشكر وحمْلُ قوله تعالى فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظالمون على الإخبار بذلك قبل الوقوع يأباه الصدى لاستصلاحهم بالأمر والنهي وتوجيهُ خطاب الأمرِ بالأكل إلى المؤمنين
146
النحل ١١٥ ١١٦ مع أن ما يتلوه من خطاب النهي متوجّهٌ إلى الكفار كما فعله الواحديُّ حيث قال فكلوا أنتم يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله من الغنائم مما لا يليق بشأن التنزيلِ الجليل ﴿إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ أي تطيعون أو إن صح زعمُكم أنكم تقصِدون بعبادة الآلهة عبادتَه تعالى
147
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ تعليلٌ لحِلّ ما أمرهم بأكله مما رزقهم أي إنما حرم هذه الأشياءَ دون ما تزعُمون حرمتَه من البحائر والسوائبِ ونحوِها ﴿فَمَنِ اضطر﴾ بما اعتراه من الضرورة فتناول شيئاً من ذلك ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ أي على مضطر آخرَ ﴿وَلاَ عَادٍ﴾ أي متجاوزٍ قدرَ الضرورة ﴿فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي لا يؤاخذه بذلك فأُقيم سببُه مُقامه وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ إيماءٌ إلى علة الحُكم وفي الإضافة إلى ضميره ﷺ إظهارٌ لكمال اللطفِ به ﷺ وتصديرُ الجملة بإنما لحصر المحرماتِ في الأجناس الأربعة إلا ما ضُمّ إليه كالسّباع والحمُر الأهلية ثم أكّد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم فقال
﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ﴾ اللامُ صلةٌ مِثلُها في قولِه تعالى وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ أي لا تقولوا في شأن ما تصفه ألسنتُكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا من غير ترتب ذلك الوصفِ على ملاحظةٍ وفكر فضلاً عن استناده إلى وحي أو قياس مبنيَ عليه ﴿الكذب﴾ منتصب بلا تقولوا وقولُه تعالى ﴿هذا حلال وهذا حَرَامٌ﴾ بدلٌ منه ويجوز أن يتعلق بتصفُ على إرادةِ القولِ أيْ لا تقولوا لما تصف ألسنتُكم فتقولُ هذا حلالٌ وهذا حرام وأن يكون القول المقدر حالا من ألسنتهم أي قائلةً هذا حلال الخ ويجوز أن ينتصب الكذبَ بتصف ويتعلق هذا حلال الخ بلا تقولوا واللامُ للتعليل وما مصدريةٌ أي لا تقولا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتِكم الكذبَ أي لا تُحِلوا ولا تحرّموا لمجرد وصفِ ألسنتكم الكذبَ وتصويرِها له بصورة مستحسنة وتزيينِها له في المسامع كأن ألسنتهم لكونها منشأً للكذب ومنبعاً للزور شخصٌ عالمٌ بكنهه ومحيطٌ بحقيقته يصفه للناس ويعرِّفه أوضحَ وصفٍ وأبينَ تعريف على طريقة الاستعارة بالكناية كما يقال وجهُه يصفُ الجمالَ وعينُه تصف السحر وقرئ بالجر صفةً لما مع مدخولها كأنه قيل لوصفها الكذبِ بمعنى الكاذبِ كقوله تعالى بِدَمٍ كَذِبٍ والمرادُ بالوصف وصفُها البهائمَ بالحل والحرمة وقرب الكُذُبُ جمع كَذوب بالرفع صفةٌ للألسنة وبالنصب على الشتم أو بمعنى الكلِمِ الكواذب أو هو جمعُ الكذاب من قولهم كذب كذبا ذكره ابن جني ﴿لّتَفْتَرُواْ على الله الكذب﴾
147
النحل ١١٧ ١٢٠ فإن مدارَ الحِلّ والحُرمة ليس إلا أمرُ الله تعالى فالحكمُ بالحل والحرمةِ إسنادٌ للتحليل والتحريم إلى الله سبحانه من غير أن يكون ذلك منه واللامُ لام العاقبة ﴿إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب﴾ في أمرٍ من الأمورِ ﴿لاَ يُفْلِحُونَ﴾ لا يفوزون بمطالبهم التي ارتكبوا الافتراءَ للفوز بها
148
﴿متاع قَلِيلٌ﴾ خبرُ مبتدأ محذوف أي منفعتُهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعةٌ قليلة ﴿وَلَهُمْ﴾ فى الأخرة ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ لا يكتنه كُنهُه
﴿وعلى الذين هادوا﴾ خاصة دون غيرِهم من الأولين والآخِرين ﴿حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ﴾ أي بقوله تعالى حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا الآية ﴿مِن قَبْلُ﴾ متعلقٌ بقصصنا أو بحرمنا وهو تحقيقٌ لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون لسنا أولَ من حُرِّمتْ عليه وإنما كانت محرمةً على نوح وإبراهيم ومن بعدهما حتى انتهى المر إلينا ﴿وَمَا ظلمناهم﴾ بذلك التحريم ﴿ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه حسبما نعى عليهم قولُه تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ الآية ولقد ألقمهم الحج قوله تعالى كُلُّ الطعام كَانَ حلا لبني إسرائيلَ إلا ما حرم إسرائيل على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين روى أنه ﷺ لما قال لهم ذلك بهتوا ولم يجسروا أن يخرجوا التوراة كيف وقد بُيّن فيها أن تحريمَ ما حُرِّم عليهم من الطيبات لظلمهم وبغيهم عقوبةً وتشديداً أوضحَ بيانٍ وفيه تنبيهٌ على الفرقَ بينهم وبين غيرِهم في التحريم
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة﴾ أي بسبب جهالةٍ أو ملتبسين بها ليعُمَّ الجهلُ بالله وبعقابه وعدمِ التدبر في العواقب لغلبة الشهوة والسوءُ يعم الافتراءَ على الله تعالى وغيرَه ﴿ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك﴾ أي من بعد ما عملوا ما عملوا والتصريحُ به مع دَلالة ثُمَّ عليه للتأكيد والمبالغة ﴿وَأَصْلَحُواْ﴾ أي أصلحُوا أعمالَهم أو دخلوا في الصلاح ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا﴾ من بعد التوبة ﴿لَغَفُورٌ﴾ لذلك السوءِ ﴿رَّحِيمٌ﴾ يثيب على طاعته تركاً وفعلاً وتكريرُ قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لتأكيد الوعدِ وإظهارِ كمال العناية بإنجازه والتعرضُ لوصفِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضميره ﷺ مع ظهور الأثرِ في التائبين للإيماء إلى أن إفاضةَ آثارِ الربوبية من المغفرة والرحمة عليهم بتوسطه ﷺ وكونِهم من أتباعه كما أُشيرَ إليهِ فيما مر
﴿إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً﴾ على حياله لحيازته من الفضائل البشريةِ ما لا تكاد توجد إلا متفرّقةً في
148
النحل ١٢١ ١٢٣ أمة جمّةً حسبما قيل [ليس على الله بمستَنْكَر أن يجمع العالَمَ في واحدِ] وهو رئيسُ أهل التوحيد وقدوةُ أصحابِ التحقيق جادل أهلَ الشرك وألقمهم الحجرَ ببينات باهرةٍ لاَ تُبقي وَلاَ تَذَرُ وأبطل مذاهبهم الزائغة بالبراهين القاطعة والحُججِ الدامغة أو لأنه ﷺ كان مؤمناً وحده والناسُ كلُّهم كفارٌ وقيل هي فُعْلة بمعنى مفعول كالرُّحلة والنُّخبة من أمّه إذا قصده أو اقتدى به فإن الناسَ كانوا يقصِدونه ويقتدون بسيرته لقوله تعالى إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا وإيراد ذكره ﷺ عَقيبَ تزييفِ مذاهبِ المشركين من الشرك والطعنِ في النبوة وتحريمِ ما أحله الله تعالى للإيذان بأن حقِّيةَ دينِ الإسلام وبطلانَ الشرك وفروعِه أمرٌ ثابت لا ريب فيه ﴿قانتا لِلَّهِ﴾ مطيعاً له قائماً بأمره ﴿حَنِيفاً﴾ مائلاً عن كل دينٍ باطل إلى الدين الحقِّ غيرَ زائلٍ عنه بحال ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين﴾ في أمر من أمور دينهم أصلا وفرعاً صرح بذلك مع ظهوره لا رداً على كفار قريشٍ فقط في قولهم نحن على ملة أبينا إبراهيمَ بل عليهم وعلى اليهود المشركين بقولهم عزيرٌ ابنُ الله في افترائهم وادعائهم أنه عليه الصلاةُ والسلام كان على ما هم عليه كقوله سبحانه مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نصرانيا ولكن كان حنفيا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين إذ به ينتظم أمر إيراد التحريم والسبت سابقاً ولاحقاً
149
﴿شَاكِراً لاّنْعُمِهِ﴾ صفةٌ ثالثة لأُمةً وإنما أوثر صيغةُ جمعِ القلة للإيذان بأنه عليه السلام كان لا يُخِلُّ بشكر النعمة القليلة فكيف بالكثيرة وللتصريح بكونه عليه السلام على خلاف ما هم عليه من الكفرانَ بأنعم الله تعالى حسبما بيّن ذلك بضرب المثل ﴿اجتباه﴾ للنبوة ﴿وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ موصلٍ إليه سبحانه وهو ملةُ الإسلامِ وليست نتيجةُ هذه الهدايةِ مجردَ اهتدائِه عليه السلام بل مع إرشاد الخلقِ أيضاً بمعونة قرينةِ الاجتباء
﴿وآتيناه فِى الدنيا حَسَنَةً﴾ حالةً حسنةً من الذكر الجميل والثناءِ فيما بين الناس قاطبةً حتى إنه ليس من أهلِ دينٍ إلا وهم يتولَّوْنه وقيل هي الخُلّة والنبوةُ وقيل قولُ المصلِّي منا كما صليتَ على إبراهيمَ والالتفاتُ إلى التكلم لإظهار كمالِ الاعتناء بشأنه وتفخيم مكانِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين﴾ أصحابِ الدرجات العالية في الجنة حسبما سأله بقوله وَأَلْحِقْنِى بالصالحين واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الأخرين واجعلنى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم
﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ مع علو طبقتك وسموِّ رتبتك ﴿أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم﴾ الملةُ اسمٌ لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياءِ عليهم السلام من أمللتُ الكتابَ إذا أمليتُه وهو الدينُ بعينه لكنْ باعتبار الطاعة له وتحقيقُه أن الوضع الإلهي مهما نُسب إلى من يؤدّيه عن الله تعالى يسمّى ملةً ومهما نُسب إلى من يقيمه ويعمل به يسمى ديناً قال الراغب الفرقُ بينهما أن الملة لا تضاف إلا إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ولا تكاد توجد مضافةً إلى الله سبحانه ولا إلى آحاد الأمة ولا تستعمل إلا في جملة الشرائعِ دون آحادها والمرادُ بملّته عليه السلام الإسلام الذي عبر عنه آنفاً بالصراط المستقيم ﴿حَنِيفاً﴾
149
النحل ١٢٤ حالٌ من المضاف إليه لما أن المضافَ لشدة اتصالِه به عليه السلام جرى منه مجرى البعضِ فعد بذلك من قبيل رأيتُ وجهَ هندٍ قائمةً والمأمورُ به الاتباع في الأصول دون الشرائعِ المتبدّلة بتبدل الأعصار وما في ثم من التراخي في الرتبة للإيذان بأن هذه النعمةَ من أجلّ النعم الفائضةِ عليه السلام ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ تكريرٌ لما سبق لزيادة تأكيدٍ وتقريرٍ لنزاهته عليه السلام عمَّا هُم عليهِ من عقد وعمل وقوله تعالى
150
﴿إِنَّمَا جُعِلَ السبت﴾ أي فُرض تعظيمُه والتخلي فيه للعبادة وتركُ الصيد فيه تحقيقٌ لذلك النفي الكليِّ وتوضيحٌ له بإبطال ما عسى يُتوهم كونُه قادحاً في كلّيته حسبما سلفَ في قولِه تعالى وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا الخ فإن اليهود كانوا يدّعون أن السبتَ من شعائر الإسلام وأن إبراهيمَ عليه السلام كان محافظاً عليه أي ليس السبتُ من شرائع إبراهيمَ وشعائرِ ملّته التي أُمرْتَ باتباعها حتى يكون بينه عليه الصلاةُ والسَّلامُ وبين بعض المشركين علاقةٌ في الجملة وإنما شرُع ذلك لبني إسرائيل بعد مدةٍ طويلة وإيرادُ الفعل مبنيا للمفعول جري على سنن الكبرياء وإيذانٌ بعدمِ الحاجة إلى التَّصريحِ بالفاعل لاستحالة الإسنادِ إلى الغير وقد قرئ على البناء للفاعل وإنما عبر عن ذلك بالجعل موصولا بكلمة على وعنهم بالاسم الموصول باختلافهم فقيل إنما جعل السبت ﴿على الذين اختلفوا فِيهِ﴾ للإيذان بتضمنه للتشديد والابتلاءِ المؤدّي إلى العذاب وبكونه معلَّلاً باختلافهم في شأنه قبل الوقوعِ إيثاراً له على ما أمر الله تعالى به واختياراً للعكس لكن لا باعتبار شمولِ العلّية لطرفي الاختلاف وعمومِ الغائلةِ للفريقين بل باعتبار حالِ منشأ الاختلافِ من الطرف المخالفِ للحق وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام أمرَ اليهودَ أن يجعلوا في الأسبوع يوماً واحداً للعبادة وأن يكون ذلك يومَ الجمعة فأبَوا عليه وقالوا نريد اليوم الذي فرَغ الله تعالى فيه من خلقِ السمواتِ والأرضِ وهو السبت إلا شرذمةً منهم قد رضُوا بالجمعة فأذِن الله تعالى لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه فأطاع أمرَ الله تعالى الراضون بالجمعة فكانوا لا يَصيدون وأعقابُهم لم يصبِروا عن الصيد فمسخهم الله سبحانه قردةً دون أولئك المطيعين ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ أي بين الفريقين المختلفَين فيه ﴿يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أي يفصِل ما بينهما من الخصومة والاختلاف فيجازي كلّ فريق بما يستحقه من الثواب والعقاب وفيه إيماءٌ إلى أنَّ ما وقع في الدنيا من مسخ أحدِ الفريقين وإنجاءِ الآخر بالنسبة إلى ما سيقعُ في الآخرةِ شيءٌ لا يعتدّ به هَذَا هُو الذي يستدعيه الإعجازُ التنزيليُّ وقيل المعنى إنما جُعل وبالُ السبت وهو المسخُ على الذين اختلفوا فِيهِ أي أحلوا الصيدَ فيه تارةً وحرّموه أخرى وكان حتماً عليهم أن يتّفقوا على تحريمه حسبما أمر الله سبحانه به وفسّر الحكمُ بينهم بالمجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارةً والتحريمِ أخرى ووجهُ إيراده ههنا بأنه أريد به إنذارُ المشركين من سخط الله تعالى على العصاة والمخالفين لأوامره كضرب المثلِ بالقرية التي كفرت بأنعُم الله تعالى ولا ريب في أن كلمة بينهم تحكم بأن المرادَ بالحكم هو فصلُ ما بينَ الفريقينِ من الاختلاف وأن توسيطَ حديث المسخِ للإنذار المذكورِ بين
150
النحل ١٢٥ ١٢٦ حكاية أمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم باتباع ملَّةِ إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسلام وبين أمره ﷺ بالدعوة إليها من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه فتأمل
151
﴿ادع﴾ أي مَنْ بُعثتَ إليهم من الأمة قاطبةً فحذف المفعولُ للتعميم أو افعل الدعوةَ كما في قولهم يُعطِي ويمنعُ أيْ يفعلُ الإعطاءَ والمنع فحذفُه للقصد إلى إيجاد نفسِ الفعل إشعاراً بأن عموم الدعوةِ غنيٌّ عن البيان وإنما المقصود الأمر بإيجادها على وجه مخصوص ﴿إلى سَبِيلِ رَبّكَ﴾ إلى الإسلام الذي عبّر عنه تارةً بالصراط المستقيم وأخرى بملة إبراهيمَ عليه السلامُ وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئةِ عن المالكية وتبليغِ الشيء إلى كماله اللائقِ شيْئاً فشيئاً معَ إضافة الربِّ إلى ضمير النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في مقام الأمر بدعوة الأمة على الوجه الحكيم وتكميلِهم بأحكام الشريعةِ الشريفة من الدِلالة على إظهار اللطفِ به عليه الصلاة والسلام والإيماءِ إلى وجه بناءِ الحُكم ما لا يخفى ﴿بالحكمة﴾ أي بالمقالة المحكمةِ الصحيحة وهو الدليلُ الموضحُ للحق المزيحُ للشبهة ﴿والموعظة الحسنة﴾ أي الخطابياتِ المقنعةِ والعِبر النافعةِ على وجهٍ لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتقصِد ما ينفعهم فالأولى لدعوة خواصِّ الأمةِ الطالبين للحقائق والثانيةُ لدعوة عوامِّهم ويجوز أن يكون المرادُ بهما القرآنَ المجيد فإنه جامعٌ لكلا الوصفين ﴿وجادلهم﴾ أي ناظِرْ معانديهم ﴿بالتى هِىَ أَحْسَنُ﴾ بالطريقة التي هي أحسنُ طرقِ المناظرةِ والمجادلة من الرفق واللينِ واختيار الوجهِ الأيسرِ واستعمالِ المقدّمات المشهورةِ تسكيناً لشغَبهم وإطفاءً لِلَهبهم كما فعله الخليلُ عليه السلام ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ﴾ الذي أمرك بدعوة الخلقِ إليه وأعرضَ عن قَبول الحق بعدما عاين ما عاين من الحِكم والمواعظ والعبر ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ إليه بذلك وهو تعليلٌ لما ذُكر من الأمرين والمعنى والله تعالى أعلم اسلُكْ في الدعوة والمناظرةِ الطريقةَ المذكورةَ فإنه تعالى هو أعلمُ بحال من لا يرعوِي عنِ الضلالِ بموجب استعدادِه المكتسَب وبحال من يصير أمرُه إلى الاهتداء لما فيه من خير جبلي فما شرعه لك في الدعوة هو الذي تقتضيه الحكمةُ فإنه كافٍ في هداية المهتدين وإزالةِ عذر الضالّين أو ما عليك إلا ما ذكر من الدعوة والمجادلةِ بالأحسن وأما حصولُ الهداية أو الضلال والمجازاةُ عليهما فإلى الله سبحانه إذ هو أعلم بمن يبقى على الضلال وبمن يهتدي إليه فيجازي كلاًّ منهما بما يستحقة وتقديمُ الضالين لما أنَّ مساقَ الكلامِ لهم وإيرادُ الضلال بصيغة الفعلِ الدالِّ على الحدوث لما أنه تغييرٌ لفطرة الله التي فطرَ الناسَ عليها وإعراضٌ عن الدعوة وذلك أمرٌ عارضٌ بخلاف الاهتداء الذي هو عبارةٌ عن الثبات على الفطرة والجرَيانِ على موجب الدعوةِ ولذلك جيء به على صيغة الاسمِ المنبئ عن الثبات وتكريرُ هو أعلمُ للتأكيد والإشعارِ بتبايُنِ حالِ المعلومَين ومآلهما من العقاب والثواب وبعد ما أمره عليه الصلاة والسلام فيما يختص به من شأن الدعوةِ بما أمره به من الوجه اللائق عقّبه بخطاب شاملٍ له ولمن شايعه فيما يعم الكل فقال
﴿وإن عاقبتم﴾
151
النحل ١٢٧ أي إن أردتم المعاقبةَ على طريقة قول الطبيبِ للمحتمي إن أكلتَ فكلْ قليلاً (فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) أي بمثل ما فُعل بكم وقد عبّر عنه بالعقاب على طريقة إطلاقِ اسمِ المُسبَّبِ على السبب نحوُ كما تَدين تُدان أو على نهج المشاكلةِ والمقصودُ إيجابُ مراعاةِ العدل مع مَنْ يناصبُهم من غير تجاوزٍ حين ما آل الجِدالُ إلى القتال وأدّى النزاعُ إلى القِراع فإن الدعوةَ المأمورَ بها لا تكاد تنفك عن ذلك كيف لا وهي موجبةٌ لصرف الوجوهِ عن القُبل المعبودةِ وإدخالِ الأعناق في قِلادة غيرِ معهودةٍ قاضيةٍ عليهم بفساد ما يأتون وما يذرون وبطلان دين استمرت عليه آباؤهم الأولون وقد ضاقتْ عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العِللُ وسُدّت عليهم طرقُ المُحاجّة والمناظرة وأُرتجتْ دونهم أبوابُ المباحثةِ والمحاورة وقيلَ إنَّه عليه الصلاةُ والسلام لما رأى حمزة رضيَ الله عنه يومَ أُحد قد مُثّل به قال لئن أظفَرني الله بهم لأمثّلنّ بسبعين مكانك فنزلت فكفّر عن يمينه وكف عما أراده وقرئ وإن عَقّبتم فعقِّبوا أي وإن قَفَّيْتم بالانتصار فقفّوا بمثل ما فُعل بكم غيرَ متجاوزين عنه والأمرُ وإن دل على إباحة المماثلة في المُثْلة من غير تجاوزٍ لكن في تقييده بقوله وإن عاقبتم حيث على العفو تعريضاً وقد صرّح به على الوجه الآكد فقيل ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ﴾ أي عن المعاقبة بالمثل ﴿لَهُوَ﴾ أي لَصَبرُكم ذلك ﴿خَيْرٌ﴾ لكم من الانتصار بالمعاقبة وإنما قيل ﴿للصابرين﴾ مدحاً لهم وثناءً عليهم بالصبر أو وصفاً لهم بصفة تحصل لهم عند تركِ المعاقبةِ ويجوز عَودُ الضميرِ إلى مطلق الصبرِ المدلولِ عليه بالفعل فيدخُل فيه صبرُهم كدخول أنفسِهم في جنس الصابرين دخولاً أوليا ثم أُمرَ عليه الصلاةُ والسلامُ صريحاً بما ندَب إليه غيرَه تعريضاً من الصبر لأنه أولى الناس بعزائم الأمور لزيادة علمه بشئونه سبحانه ووفورِ وثوقِه به فقيل
152
﴿واصبر﴾ أي على مَا أَصَابَكَ من جهتهم من فنون الآلامِ والأَذية وعاينتَ من إعراضهم عن الحق بالكلية ﴿وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله﴾ استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأشياء أي وما صبرُك ملابساً ومصحوباً بشيءٍ من الأشياءِ إلا بالله أي بذكره والاستغراقِ في مراقبة شئونه والتبتّلِ إليه بمجامع الهِمّة وفيه من تسليته عليه الصلاة والسلام وتهوينِ مشاقِّ الصبرِ عليه وتشريفه مالا مزبد عليه أو إلا بمشيئته المبينة على حِكَمٍ بالغة مستتبِعةٍ لعواقبَ حميدةٍ فالتسليةُ من حيث اشتمالُه على غايات جميلة وقيل إلا بتوفيقه ومعونتِه فهي من حيث تسهيلُه وتيسيرُه فقط ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ أي على الكفارين بوقوع اليأسِ من إيمانهم بك ومتابعتِهم لك نحو فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين وقيل على المؤمنين وما فُعل بهم والأولُ هو الأنسب بجزالة النظمِ الكريم ﴿وَلاَ تَكُ فِى ضيق﴾ بالفتح وقرئ بالكسر وهما لغتان كالقَوْل والقيل أي لا تكُن في ضيق صدرٍ وحرَج ويجوز أن يكون الأولُ تخفيفَ ضيِّق كهيْن من هيِّن أي في أمر ضيِّقٍ ﴿مّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ أي من مكرهم بك فيما يُستقبل فالأولُ نهيٌ عن التألم بمطلوبٍ مِنْ قبلَهم فاتَ والثاني عن التألم بمحذور من جهتهم آتٍ والنهيُ عنهما مع أن انتفاءَهما من لوازم الصبرِ المأمورِ بهِ لا سيَّما على الوجه الأولِ لزيادة التأكيدِ وإظهارِ كمالِ العنايةِ بشأن التسليةِ وإلا فهل يخطُر ببال من توجّه إلى الله سبحانه بشر اشر نفسِه متنزهاً عن كلِّ ما سواهُ من الشواغل شيء من المطلوب فينهي عن الحزن
152
النحل ١٢٨ بفوانه أو محظور فكيف عن الخوف من وقوعه
153
﴿إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا﴾ تعليلٌ لما سبقَ من الأمرِ والنَّهي والمرادُ بالمعية الولايةُ الدائمةُ التي لا تحوم حول صاحبها شائبة شيءٍ من الجزَع والحزنِ وضيق الصدر وما يشعر به دخول كلمة مع من متبوعية المتقين إنما هي من حيث إنهم المباشرون للتقوى وكذا الحالُ في قولِه سبحانه إِنَّ الله مَعَ الصابرين ونظائرِهما كافة والمرادُ بالتقوى المرتبةُ الثالثة منه الجامعة لما تحتها من مرتبة التوقي عن الشرك ومرتبة التجنبُ عن كلِّ ما يُؤثِّمُ من فعلٍ وتركٍ أعني التنزّهَ عن كل ما شغل سره عن الحق والتبتل إليه بشر اشر نفسِه وهو التقوى الحقيقيُّ المُورِث لولايته تعالى المقرونة ببشارة قوله سبحانه أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ والمعنى أن الله وليُّ الذين تبتلوا إليه بالكلية وتنزّهوا عن كل ما يشغل سرَّهم عنه فلم يخطُرْ ببالِهم شيءٌ من مطلوب أومحذور فضلاً عن الحزن بفواته أو الخوفِ من وقوعه وهو المعنيُّ بما به الصبرُ المأمورُ به حسبما أشير إليه وبه يحصل التقريب ويتم التعليل كما في قوله تعالى فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ على أحد التفسيرين كما حُقق في مقامه وإلا فمجردُ التوقي عن المعاصي لا يكون مداراً لشيء من العزائم المرخصِ في تركها فكيف بالصبر المشارِ إليه ورديفيه وإنما مدارُه المعنى المذكورُ فكأنه قيل إِنَّ الله مَعَ الذين صبروا وإنما أوثر مَا عليهِ النظمُ الكريمُ مبالغةً في الحث على الصبر بالتنبيه على أنه من خصائص أجل النعوتِ الجليلة وروادفِه كما أن قوله تعالى ﴿والذين هُم مُّحْسِنُونَ﴾ للإشعار بأنَّه من باب الإحسانِ الذي يتنافس فيه المتنافسون على ما فُصل ذلك حيث قيل واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين وقد نُبّه على أنَّ كلاً من الصبر والتقوى من قبيل الإحسان في قوله تعالى إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين وحقيقةُ الإحسانُ الإتيانُ بالأعمال على الوجه اللائقِ الذي هو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي وقد فسَّره عليهِ الصَّلاة والسَّلام بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ وتكريرُ الموصولِ للإيذان بكفاية كلَ من الصلتين في ولايته سبحانه من غير أن تكون إحداهما تتمةً للأخرى وإيرادُ الأولى فعليةٌ للدِلالة على الحدوث كما أن إيرادَ الثانيةِ اسميةٌ لإفادة كونِ مضمونِها شيمةً راسخةً لهم وتقديمُ التقوى على الإحسان لما أنَّ التخليةَ متقدِّمةٌ على التحلية والمرادُ بالموصولَين إما جنسُ المتقين والمحسنين وهو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ داخلٌ في زُمرتهم دُخولاً أوليَّا وإما هو عليهِ الصلاةُ والسلامُ ومنْ شايعه عبَّر عنهم بذلك مَدْحاً لهم وثناءً عليهم بالنعتين الجميلين وفيه رمزٌ إلى أنَّ صنيعَه عليه الصلاة والسلام مستتبع لإقتداء الأمةِ به كقول من قال لابن عباس رضي الله عنهما عند التعزية [اصبِرْ نكنْ بك صابرين فإنما صبرُ الرعية عند صبرِ الرأسِ] عن هرم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضارِ أوصِ قال إنما الوصيةُ من المال وأوصيكم بخواتيم سورة النحل عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة النحل لَمْ يحاسبْه الله تعالَى بما أنعم عليهِ في دارِ الدُّنيا وإن مات في يومِ تلاها أو ليلتَه كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية والحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله أجمعين
153
سورة الإسراء مكية إلا الآيات ٢٦ ٣٢ ٣٣ ٥٧ ومن آية ٧٣ إلى آية ٨٠ فمدنية وآياتها ١١١)

بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم

154
Icon