تفسير سورة الكهف

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ١ ﴾.
علم الله جل وعلا عباده في أول هذه السورة الكريمة أن يحمدوه على أعظم نعمة أنعمها عليهم ؛ وهي إنزاله على نبينا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، الذي لا اعوجاج فيه ؛ بل هو في كمال الاستقامة. أخرجهم به من الظلمات إلى النور. وبين لهم فيه العقائد، والحلال والحرام، وأسباب دخول الجنة والنار، وحذرهم فيه من كل ما يضرهم، وحضهم فيه على كل ما ينفعهم، فهو النعمة العظمى على الخلق، ولذا علمهم ربهم كيف يحمدونه على هذه النعمة الكبرى بقوله :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾ الآية.
وما أشار له هنا من عظيم الإنعام والامتنان على خلقه بإنزال هذا القرآن العظيم، منذراً من لم يعمل به، ومبشراً من عمل به ذكره جل وعلا في مواضع كثيرة، كقوله :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءكم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وأنزلنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ١٧٤ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ في رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾، وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ في ذلك لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥١ ﴾، وقوله :﴿ إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ عَلَى بني إسرائيل أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ٧٦ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ ﴾، وقوله :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شفاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾، وقوله :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وشفاء ﴾، وقوله تعالى ﴿ إِنَّ في هذا لَبَلاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ١٠٦ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾، وقوله :﴿ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ الآية، وقوله :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ٣٢ ﴾.
وهو تصريح منه جل وعلا بأن إيراث هذا الكتاب فضل كبير والآيات بمثل هذا كثيرة جداً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ١ ﴾ أي لم يجعل في القرآن عوجاً. أي لا اعوجاج فيه البتة، لا من جهة الألفاظ، ولا من جهة المعاني. أخباره كلها صدق، وأحكامه عدل، سالم من جميع العيوب في ألفاظه ومعانيه، وأخباره وأحكامه ؛ لأن قوله «عوجا » نكرة في سياق النفي ؛ فهي تعم نفي جميع أنواع العواج.
وما ذكره جل وعلا هنا من أنه لا اعوجاج فيه بينه في مواضع أخر كثيرة كقوله :﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ في هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون ٢٧ ُقرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ٢٨ ﴾، وقوله :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ١١٠ ﴾. فقوله «صدقاً » أي في الأخبار، وقوله «عدلاً » أي في الأحكام وكقوله تعالى :﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾. والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ قَيِّماً ﴾ أي مستقيماً لا ميل فيه ولا زيغ. وما ذكره هنا من كونه ﴿ قَيِّماً ﴾ لا ميل فيه ولا زيغ بينه أيضاً في مواضع أخر، كقوله ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ١ رُسولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً ٢ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ٣ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ هذا القرآن يِهْدِى للتي هي أَقْوَمُ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ٣٧ ﴾ وقوله تعالى :﴿ ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كُلِّ شيء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ١١١ ﴾ وقوله ﴿ الم ١ ذلك الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ٢ ﴾، وقوله ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ١ ﴾ وقوله :﴿ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نشاء مِنْ عِبَادِنَا ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا الذي فسرنا به قوله تعالى ﴿ قَيِّماً ﴾ هو قول الجمهور وهو الظاهر. وعليه فهو تأكيد في المعنى لقوله ﴿ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ١ ﴾ لأنه قد يكون الشيء مستقيماً في الظاهر وهو لا يخلو من اعوجاج في حقيقة الأمر. ولذا جمع تعالى، بين نفي العوج وإثبات الاستقامة. وفي قوله «قيماً » وجهان آخران من التفسير :
الأول أن معنى كونه «قيماً » أنه قيم على ما قبله من الكتب السماوية، أي مهيمن عليها وعلى هذا التفسير فالآية كقوله تعالى :﴿ وأنزلنا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾ الآية.
ولأجل هيمنته على ما قبله من الكتب قال تعالى :﴿ إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ عَلَى بني إسرائيل أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ٧٦ ﴾ الآية. وقال :﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صادقين ٩٣ ﴾ وقال ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جاءكم رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ الآية.
الوجه الثاني أن معنى كونه «قيماً » : أنه قيم بمصالح الخلق الدينية والدنيوية. وهذا الوجه في الحقيقة يستلزمه الوجه الأول.
واعلم أن علماء العربية اختلفوا في إعراب قوله «قيِّماً » فذهب جماعة إلى أنه حال من الكتاب. وأن في الآية تقديماً وتأخيراً، وتقريره على هذا : أنزل على عبده الكتاب في حال كونه قيماً ولم يجعل له عوجاً. ومنع هذا الوجه من الإعراب الزمخشري في الكشاف قائلاً : إن قوله ﴿ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ١ ﴾ معطوف على صلة الموصول التي هي جملة ﴿ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾ والمعطوف على الصلة داخل في حيز الصلة ؛ فجعل «قيِّماً » حال من «الكتاب » يؤدي إلى الفصل بين الحال وصاحبها ببعض الصلة، وذلك لا يجوز. وذهب جماعة آخرون إلى أن «قيِّماً » حال من «الكتاب » وأن المحذور الذي ذكره الزمخشري منتف. وذلك أنهم قالوا : إن جملة ﴿ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ١ ﴾ ليست معطوفة على الصلة، وإنما هي جملة حالية. وقوله «قيِّماً » حال بعد حال، وتقريره : أن المعنى أنزل على عبده الكتاب في حال كونه غير جاعل فيه عوجاً، وفي حال كونه قيماً. وتعدد الحال لا إشكال فيه، والجمهور على جواز تعدد الحال مع اتحاد عامل الحال وصاحبها، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم وغير مفرد
وسواء كان ذلك بعطف أو بدون عطف. فمثاله مع العطف : قوله تعالى :﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ٣٩ ﴾ ومثاله بدون عطف قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ﴾ الآية. وقول الشاعر :
على إذا ما جئت ليلى بخفية زيارة بيت الله رجلان حافيا
ونقل عن أبي الحسن بن عصفور منع تعدد الحال ما لم يكن العامل فيه صيغة التفضيل في نحو قوله : هذا بسراً أطيب منه رطباً. ونقل منع ذلك أيضاً عن الفارسي وجماعة. وهؤلاء الذين يمنعون تعدد الحال يقولون : إن الحال الثانية إنما هي حال من الضمير المستكن في الحال الأولى. والأولى عندهم هي العامل في الثانية. فهي عندهم أحوال متداخلة، أو يجعلون الثانية نعتاً للأولى وممن اختار أن جملة ﴿ وَلَمْ يَجْعَل ﴾ حالية، وأن ﴿ قَيِّماً ﴾ حال بعد حال الأصفهاني.
وذهب بعضهم إلى أن قوله ﴿ قَيِّماً ﴾ بدل من قوله ﴿ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ١ ﴾ لأن انتفاء العوج عنه هو معنى كونه قيماً.
وعزا هذا القول الرازي وأبو حيان لصاحب حل العقد، وعليه فهو بدل مفرد من جملة.
كما قالوا : في عرفت زيداً أبو من. أنه بدل جملة من مفرد. وفي جواز ذلك خلاف عند علماء العربية.
وزعم قوم أن ﴿ قَيِّماً ﴾ حال من الضمير المجرور في قوله ﴿ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ١ ﴾ واختار الزمخشري وغيره أن ﴿ قَيِّماً ﴾ منصوب بفعل محذوف، وتقديره : ولم يجعل له عوجاً وجعله قَيِّماً، وحذف ناصب الفضلة إذا دل عليه المقام جائز ؛ كما قال في الخلاصة :
ويحذف الناصبها إن علما وقد يكون حذفه ملتزماً
وأقرب أوجه الإعراب في قوله «قَيِّماً » أنه منصوب بمحذوف، أو حال ثانية من «الكتاب » والله تعالى أعلم.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا ﴾ اللام فيه متعلقة ب ﴿ أَنْزَلَ ﴾ وقال الحوفي : هي متعلقة بقوله ﴿ قَيِّماً ﴾ والأول هو الظاهر.
والإنذار : الإعلام المقترن بتخويف وتهديد. فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً. والإنذار يتعدى إلى مفعولين، كما في قوله تعالى :﴿ فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى ١٤ ﴾، وقوله ﴿ إنا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ﴾ الآية.
وفي أول هذه السورة الكريمة كرر تعالى الإنذار، فحذف في الموضع الأول مفعول الإنذار الأول، وحذف في الثاني مفعول الثاني، فصار المذكور دليلاً على المحذوف في الموضعين. وتقدير المفعول الأول المحذوف في الموضع الأول : لينذر الذين كفروا بأساً شديداً من لدنه. وتقدير المفعول الثاني المحذوف في الموضع الثاني : وينذر الذين قالوا اتخذا الله ولداً بأساً شديداً من لدنه.
وقد أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى أن هذا القرآن العظيم تخويف وتهديد للكافرين. وبشارة للمؤمنين المتقين. إذ قال في تخويف الكفرة به ﴿ لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ ﴾ وقال ﴿ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ٤ ﴾ الآية. وقال في بشارته للمؤمنين :﴿ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ٢ ﴾ الآية.
وهذا الذي ذكره هنا من كونه إنذاراً لهؤلاء وبشارة لهؤلاء بينه في مواضع أخر كقوله :﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ٩٧ ﴾، وقوله :﴿ المس ١ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ٢ ﴾.
وقد أوضحنا هذا المبحث في أول سورة «الأعراف ». وأوضحنا هنا لك المعاني التي ورد بها الإنذار في القرآن. والبأس الشديد الذي أنذرهم إياه : هو العذاب الأليم في الدنيا والآخرة والبشارة : الخير بما يسر.
وقد تطلق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء، ومنعه قوله تعالى :﴿ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٧ ﴾ ومنه قول الشاعر :
وبشرتني يا سعد أن أحبتي جفوني وقالوا الود موعده الحشر
وقول الآخر :
يبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له ثكلتك من بشير
والتحقيق : أن إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء، أسلوب من أساليب اللغة العربية. ومعلوم أن علماء البلاغة يجعلون مثل ذلك مجازاً، ويسمونه استعارة عنادية، ويقسمونها إلى تهكمية وتمليحية كما هو معروف في محله.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ﴾ بينت المراد به آيات أخر، فدلت على أن العمل لا يكون صالحاً إلا بثلاثة أمور :
الأول أن يكون مطابقاً لما جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم. فكل عمل مخالف لما جاء به صلوات الله وسلامه عليه فليس بصالح، بل هو باطل، قال تعالى :﴿ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ﴾ الآية، وقال :﴿ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ وقال :﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ الآية، وقال :﴿ أَمْ لَهُمْ شركاء شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ﴾ الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
الثاني أن يكون العامل مخلصاً في عمله لله فيما بينه وبين الله، قال تعالى :﴿ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ الآية، وقال :﴿ قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ ١١ وَأُمِرْتُ لاًّنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ١٢ قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ ربّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم ١٣ ٍقُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ ديني ١٤ فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
الثالث أن يكون العمل مبنياً على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة، لأن العمل كالسقف، والعقيدة كالأساس، قال تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ الآية، فجعل الإيمان قيداً في ذلك.
وبين مفهوم هذا القيد في آيات كثيرة، كقوله في أعمال غير المؤمنين :﴿ وقدمنا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هباء مَّنثُوراً ٢٣ ﴾، وقوله :﴿ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ ﴾ الآية، وقوله :﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.
والتحقيق : أن مفرد الصالحات في قوله :﴿ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ﴾، وقوله :﴿ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ ونحو ذلك أنه صالحة، وأن العرب تطلق لفظة الصالحة على الفعلة الطيبة ؛ كإطلاق اسم الجنس لتناسى الوصيفة، كما شاع ذلك الإطلاق في الحسنة مراداً بها الفعلة الطيبة.
ومن إطلاق العرب لفظ الصالحة على ذلك قول أبي العاص بن الربيع في زوجة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم :
بنت الأمين جزاك الله صالحة وكل بعل سيثنى بالذي علماً
وقول الحطيئة :
كيف الهجاء ولا تنفك صالحة من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
وسئل إعرابي عن الحب فقال :
الحب مشغلة عن كل صالحة وسكرة الحب تنفي سكرة الوسن
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ٢ ﴾ أي وليبشرهم بأن لهم أجراً حسناً. الأجر : جزاء العمل، وجزاء عملهم المعبر عنه هنا بالأجر : هو الجنة. ولذا قال ﴿ مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ٣ ﴾ وذكر الضمير في قوله ﴿ فِيهِ ﴾ لأنه راجع إلى الأجر وهو مذكر، وإن كان المراد با
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ٣ ﴾ أي خالدين فيه بلا انقطاع.
وقد بين هذا المعنى في مواضع أخر كثيرة، كقوله :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ ففي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأرض إِلاَّ مَا شاء رَبُّكَ عطاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ١٠٨ ﴾ أي غير مقطوع، وقوله :﴿ إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ٥٤ ﴾ أي ما له من انقطاع وانتهاء، وقوله :﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾، وقوله :﴿ والآخرة خَيْرٌ وَأَبْقَى ١٧ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ٤ ﴾ أي ينذرهم بأساً شديداً ﴿ مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ٢ ﴾ أي من عنده كما تقدم. وهذا من عطف الخاص على العام، لأن قوله ﴿ لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ ﴾ شامل للذين قالوا اتخذ الله ولداً، ولغيرهم من سائر الكفار.
وقد تقرر في فن المعاني : أن عطف الخاص على العام إذا كان الخاص يمتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة أو قبيحة من الإطناب المقبول، تنزيلاً للتغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات.
ومثاله في الممتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة قوله تعالى :﴿ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ﴾.
ومثاله في الممتاز بصفات قبيحة الآية التي نحن بصددها، فإن ﴿ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴾ امتازوا عن غيرهم بفرية شنعاء. ولذا ساغ عطفهم على اللفظ الشامل لهم ولغيرهم.
والآيات الدالة على شدة عظم فريتهم كثيرة جداً. كقوله هنا :﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ الآية، وكقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً ٨٨ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّا ٨٩ ًتَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً ٩٠ أَن دَعَوْا للرحمن ٩١ وَلَداً وَمَا ينبغي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَدا ٩٢ ﴾، وقوله :﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْملائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ٤٠ ﴾ والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.
وقد قدمنا أن القرآن بين أن الذين نسبوا الولد لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ثلاثة أصناف من الناس : اليهود، والنصارى، قال تعالى :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ الآية. والصنف الثالث مشركو العرب. كما قال تعالى عنهم :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ٥٧ ﴾، والآيات بنحوها كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبائهم ﴾ يعني أن ما نسبوه له جلَّ وعلا من اتخاذ الولد لا علم لهم به. لأنه مستحيل.
والآية تدل دلالة واضحة على أن نفي الفعل لا يدل على إمكانه ؛ ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٥٧ ﴾ لأن ظلمهم لربنا وحصول العلم لهم باتخاذه الولد كل ذلك مستحيل عقلاً ؛ فنفيه لا يدل على إمكانه. ومن هذا القبيل قول المنطقيين : السالبة لا تقتضى وجود الموضوع، كما بيناه في غير هذا الموضع.
وما نفاه عنهم وعن آبائهم من العلم باتخاذه الولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً بينه في مواضع أخر، كقوله :﴿ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ١٠٠ ﴾، وقوله في آبائهم :﴿ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءنا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ١٠٤ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ يعني أن ما قالوه بأفواههم من أن الله اتخذ ولداً أمر كبير عظيم ؛ كما بينا الآيات الدالة على عظمه آنفاً ؛ كقوله :﴿ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ٤٠ ﴾، وقوله :﴿ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً ٩٠ ﴾ الآية. وكفى بهذا كبراً وعظماً.
وقال بعض علماء العربية : إن قوله ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً ﴾ معناه التعجب. فهو بمعنى ما أكبرها كلمة. أو أكبر بها كلمة.
والمقرر في علم النحو : أن «فعل » بالضم تصاغ لإنشاء الذم والمدح، فتكون من باب نعم وبئس، ومنه قوله تعالى :﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً ﴾ الآية. وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله :
واجعل كبئس ساء واجعل فعلا من ذي ثلاثة كنعم مسجلا
وقوله «كنعم » أي اجعله من باب «نعم » فيشمل بئس. وإذا تقرر ذلك ففاعل «كبر » ضمير محذوف و ﴿ كَلِمَةَ ﴾ نكرة مميزة للضمير المحذوف ؛ على حد قوله في الخلاصة.
ويرفعان مضمراً يفسره مميز كنعم قوماً معشره
والمخصوص بالذم محذوف، والتقدير : كبرت هي كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة التي فاهوا بها، وهي قولهم : اتخذ الله ولداً، وأعرب بعضهم ﴿ كَلِمَةَ ﴾ بأنها حال، أي كبرت فريتهم في حال كونها كلمة خارجة من أفواههم. وليس بشيء.
وقال ابن كثير في تفسيره ﴿ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ أي ليس لها مستند سوى قولهم ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، ولذا قال :﴿ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا ٥ ﴾.
وهذا المعنى الذي ذكره ابن كثير له شواهد في القرآن. كقوله :﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ ﴾ ونحو ذلك من الآيات.
والكذب : مخالفة الخبر للواقع على أصح الأقوال.
فائدة
لفظة «كبر » إذا أريد بها غير الكبر في السن فهي مضمومة الباء في الماضي والمضارع، كقوله هنا ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً ﴾ الآية، وقوله :﴿ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ٣ ﴾، وقوله :﴿ أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ في صُدُورِكُمْ ﴾ ونحو ذلك.
وإن كان المراد بها الكبر في السن فهي مكسورة الباء في الماضي، مفتوحتها في المضارع على القياس، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وَلاَ تأكلوها إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ ﴾، وقول المجنون :
تعشقت ليلى وهي ذات ذوائب ولم يبد للعينين من ثديها حجم
صغيرين نرعى إليهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
وقوله في هذا البيت «صغيرين » شاهد عند أهل العربية في إتيان الحال من الفاعل والمفعول معاً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً ﴾ يعني بالكلمة : الكلام الذي هو قولهم ﴿ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ٤ ﴾.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله يطلق اسم الكلمة على الكلام أوضحته آيات أخر. كقوله :﴿ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قائلها ﴾ الآية، والمراد بها قوله :﴿ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون ٩٩ ِلَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾. وقوله :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأملان جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ١١٩ ﴾ وما جاء لفظ الكلمة في القرآن إلا مراداً به الكلام المفيد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ عِوَجَا ١ ﴾ هو بكسر العين في المعاني كما في هذه الآية الكريمة. وبفتحها فيما كان منتصباً كالحائط.
قال الجوهري في صحاحه : قال ابن السكيت : وكل ما كان ينتصب كالحائط والعود قيل فيه «عوج » بالفتح. والعوج بالكسر ما كان في أرض أو دين أو معاش، يقال في دينه عوج ا ه.
وقرأ هذا الحرف حفص عن عاصم في الوصل ﴿ عِوَجَا ﴾ بالسكت على الألف المبدلة من التنوين سكتة يسيرة من غير تنفس، إشعاراً بأن ﴿ قَيِّماً ﴾ ليس متصلاً ب ﴿ عِوَجَا ﴾ في المعنى بل للإشارة إلى أنه منصوب بفعل مقدر، أي جعله قيماً كما قدمنا.
وقرأ أبو بكر عن عاصم ﴿ مِّن لَّدُنْهُ ﴾ بإسكان الدال مع إشمامها الضم وكسر النون والهاء ووصلها بياء في اللفظ.
وقوله :﴿ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ﴾ قرأه الجمهور بضم الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين مشددة. وقرأه حمزة والكسائي «يبشر » بفتح الياء وإسكان الباء الموحدة وضم الشين.
قوله تعالى :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الْحَدِيثِ أَسَفاً ٦ ﴾. اعلم أولاً أن لفظة «لعل » تكون للترجي في المحبوب، وللإشفاق في المحذور. واستظهر أبو حيان في البحر المحيط أن «لعل » في قوله هنا ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ﴾ للإشفاق عليه صلى الله عليه وسلم أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم به.
وقال بعضهم : إن «لعل » في الآية للنهي. وممن قال به العسكري، وهو معنى كلام ابن عطية كما نقله عنهما صاحب البحر المحيط.
وعلى هذا القول فالمعنى : لا تبخع نفسك لعدم إيمانهم. وقيل : هي في الآية للاستفهام المضمن معنى الإنكار. وإتيان لعل للاستفهام مذهب كوفي معروف.
وأظهر هذه الأقوال عندي في معنى «لعل » أن المراد بها في الآية النهي عن الحزن عليهم.
وإطلاق لعل مضمنة معنى النهي في مثل هذه الآية أسلوب عربي يدل عليه سياق الكلام.
ومن الأدلة على أن المراد بها النهي عن ذلك كثرة ورود النهي صريحاً عن ذلك. كقوله :﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾، وقوله :﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾، وقوله :﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ٦٨ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
والباخع : المهلك : أي مهلك نفسك من شدة الأسف على عدم إيمانهم ومنه قول ذي الرمة :
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر
كما تقدم.
وقوله ﴿ عَلَى آثَارِهِمْ ﴾ قال القرطبي : آثارهم جمع أثر. ويقال إثر. والمعنى : على أثر توليهم وإعراضهم عنك.
وقال أبو حيان في البحر : ومعنى «على آثارهم » من بعدهم، أي بعد يأسك من إيمانهم. أو بعد موتهم على الكفر. يقال : مات فلان على أثر فلان. أي بعده.
وقال الزمخشري : شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به، وما داخله من الوجد والأسف على توليهم برجل فارقته أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجداً عليهم، وتلهفاً على فراقهما والأسف هنا : شدة الحزن. وقد يطلق الأسف على الغضب ! كقوله :﴿ فلما آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾.
فإذا حققت معنى هذه الآية الكريمة فاعلم أن ما ذكره فيها جل وعلا من شدة حزن نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم، وعن نهيه له عن ذلك مبين في آيات أخر كثيرة، كقوله :﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾، وكقوله :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ٣ ﴾، وكقوله :﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ٨٨ ﴾، وكقوله :﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ٦٨ ﴾، وكقوله :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ ﴾، وكقوله ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ٩٧ ﴾ كما قدمناه موضحاً.
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ أَسَفاً ﴾ مفعول من أجله، أي مهلك نفسك من أجل الأسف. ويجوز إعرابه حالاً ؛ أي في حال كونك آسفاً عليهم. على حد قوله في الخلاصة :
ومصدر منكر حالاً يقع بكثرة كبغتة زيد طلع.
قوله تعالى :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلا ٧ ﴾.
قال الزمخشري في معنى هذه الآية الكريمة :«ما عليها » يعني ما على الأرض مما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها.
وقال بعض العلماء : كل ما على الأرض زينة لها من غير تخصيص. وعلى هذا القول فوجه كل الحيات وغيرها مما يؤدي زينة للأرض ؛ لأنه يدل على وجود خالقه، واتصافه بصفات الكمال والجلال، ووجود ما يحصل به هذا العلم في شيء زينة له.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان المذكورة فيه أن يذكر لفظ عام ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه، كقوله تعالى :﴿ ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ﴾ الآية. مع تصريحه بأن البدن داخلة في هذا العموم بقوله ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ الآية.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله في هذه الآية الكريمة :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا ﴾ قد صرح في مواضع أخر ببعض الأفراد الداخلة فيه، كقوله تعالى :﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحياة الدُّنْيَا ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ صَعِيداً ﴾ أي أرضاً بيضاء لا نبات بها. وقد قدمنا معنى «الصعيد » بشواهده العربية في سورة «المائدة ».
والجرز : الأرض التي لا نبات بها كما قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الماء إِلَى الأرض الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ٢٧ ﴾ ومنه قول ذي الرمة :
طوى النحز والأجراز ما في غروضها وما بقيت إلا الضلوع الجراشع
لأن مراده «بالأجراز » الفيافي التي لا نبات فيها، والأجراز : جمع جرزة، والجرزة : جمع جرز، فهو جمع الجمع للجرز، كما قاله الجوهري في صحاحه.
قال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة ﴿ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا ﴾ من هذه الزينة صعيداً أو جرزاً، أي مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة في إزالة بهجته، وإماطة حسنه، وإبطال ما به كان زينة من إماتة الحيوان، وتجفيف النبات والأشجار ا ه.
وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبيناً في مواضع أخر، كقوله :﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدُّنْيَا كماء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأنعام حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أهلها أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أتاها أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس كَذلك نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٢٤ ﴾، وكقوله تعالى :﴿ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحياة الدُّنْيَا كماء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شيء مُّقْتَدِرًا ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ٧ ﴾ أي لنختبرهم على ألسنة رسلنا.
وهذه الحكمة التي ذكرها هنا لجعل ما على الأرض زينة لها وهي الابتلاء في إحسان العمل بين في مواضع أخر أنها هي الحكمة في خلق الموت والحياة والسماوات والأرض، قال تعالى :﴿ تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِير ١ الذي خَلَقَ الْمَوْتَ والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ٢ ﴾، وقال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾.
وقد بين صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله :«أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » كما تقدم.
وهذا الذي أوضحنا من أنه جل وعلا جعل ما على الأرض زينة لها ليبتلى خلقه، ثم يهلك ما عليها ويجعله صعيداً جرزاً فيه أكبر واعظ للناس، وأعظم زاجر عن إتباع الهوى، وإيثار الفاني على الباقي، ولذا قال صلى الله عليه وسلم :«إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فانظروا ماذا تعملون. فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ».
قوله تعالى :﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ﴾.
﴿ أَمْ ﴾ في هذه الآية الكريمة هي المنقطعة عن التحقيق، ومعناها عند الجمهور «بل والهمزة » وعند بعض العلماء بمعنى «بل » فقط، فعلى القول الأول فالمعنى : بل أحسبت، وعلى الثاني فالمعنى : بل حبست، فهي على القول الأول جامعة بين الإضراب والإنكار. وعلى الثاني فهي للإضراب الانتقالي فقط.
وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة : أن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : إن قصة أصحاب الكهف وإن استعظمها الناس وعجبوا منها، فليست شيئاً عجباً على الأرض زينة لها، وجعلنا إياها بعد ذلك صعيداً جرزاً أعظم وأوجب مما فعلنا بأصحاب الكهف، ومن كوننا أنمناهم هذا الزمن الطويل، ثم بعثناهم، ويدل لهذا الذي ذكرنا آيات كثيرة :
منها أنه قال :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا ﴾ إلى قوله ﴿ صَعِيداً جُرُزاً ٨ ﴾، ثم أتبع ذلك بقوله :﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ ﴾ الآية، فدل ذلك على أن المراد أن قصتهم لا عجب فيها بالنسبة إلى ما خلقنا مما هو أعظم منها.
ومنها أنه يكثر في القرآن العظيم تنبيه الناس على أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الناس، ومن خلق الأعظم فهو قادر على الأصغر بلا شك، كقوله تعالى :﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ الآية، وكقوله :﴿ أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء بَنَاهَا ٢٧ ﴾ إلى قوله ﴿ مَتَاعاً لَّكُمْ ولأنعامكم ٣٣ ﴾ كما قدمناه مستوفى في سورة «البقرة والنحل ».
ومن خلق هذه المخلوقات العظام : كالسماء والأرض وما فيهما فلا عجب في إقامته أهل الكهف هذه المدة الطويلة، ثم بعثه إياهم، كما هو واضح.
والكهف : النقب المتسع في الجبل، فإن لم يك واسعاً فهو غار. وقيل : كل غار في جبل : كهف. وما يروى عن أنس من أن الكهف نفس الجبل غريب، غير معروف في اللغة.
واختلف العلماء في المراد ب ﴿ الرقيم ﴾ في هذه الآية على أقوال كثيرة، قيل : الرقيم اسم كلبهم، وهو اعتقاد أمية بن أبي الصلت حيث يقول :
وليس بها إلا الرقيم مجاورا وصيدهم والقوم في الكهف همد
وعن الضحاك أن الرقيم : بلدة بالروم، وقيل : اسم الجبل الذي فيه الكهف. وقيل : اسم للوادي الذي فيه الكهف. والأقوال فيه كثيرة. وعن ابن عباس أنه قال : لا أدري ما الرقيم ؟ أكتاب أم بنيان ؟.
وأظهر الأقوال عندي بحسب اللغة العربية وبعض آيات القرآن : أن الرقيم معناه : المرقوم، فهو فعيل بمعنى مفعول، من رقمت الكتاب إذا كتبته، ومنه قوله تعالى :﴿ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ٩ ﴾ الآية. سواء قلنا : إن الرقيم كتاب كان عندهم فيه شرعهم الذي تمسكوا به، أو لوح من ذهب كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم وسبب خروجهم، أو صخرة نقشت فيها أسماؤهم. والعلم عند الله تعالى.
والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم : طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين : أحدهما معطوف على الآخر، خلافاً لمن قال : إن أصحاب الكهف طائفة، وأصحاب الرقيم طائفة أخرى وأن الله قص على نبيه في هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف ولم يذكر له شيئاً عن أصحاب الرقيم : وخلافاً لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدت عليهم باب الكهف الذي هم فيه، فدعو الله بأعمالهم الصالحة : وهم البار بوالديه، والعفيف، والمستأجر. وقصتهم مشهورة ثابتة في الصحيح، إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد بعيد كما ترى.
واعلم أن قصة أصحاب الكهف وأسماءهم، وفي أي محل من الأرض كانوا كل ذلك لم يثبت فيه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم شيء زائد على ما في القرآن، وللمفسرين في ذلك أخبار كثيرة إسرائيلية أعرضنا عن ذكرها لعدم الثقة بها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ عَجَبًا ﴾ صفة المحذوف، أي شيئاً عجباً. أو آية عجباً.
وقوله :﴿ مِنْ آيَاتِنَا ﴾ في موضع الحال. وقد تقرر في فن النحو أن نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالاً، وأصل المعنى : كانوا عجباً كائناً من آياتنا، فلما قدم النعت صار حالاً.
قوله تعالى :﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ ربنا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وهيئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ١٠ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من صفة أصحاب الكهف أنهم فتية، وأنهم أووا إلى الكهف، وأنهم دعوا ربهم هذا الدعاء العظيم الشامل لكل خير، وهو قوله عنهم ﴿ ربنا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وهيئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ١٠ ﴾.
وبين في غير هذا الموضع أشياء أخرى من صفاتهم وأقوالهم، كقوله :﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ إلى قوله ﴿ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ ويهيئ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقًا ١٦ ﴾ و ﴿ إِذْ ﴾ في قوله هنا ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ ﴾ منصوبة ب ﴿ اذْكُرْ ﴾ مقدراً. وقيل : بقوله ﴿ عَجَبًا ٩ ﴾ ومعنى قوله ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ﴾ أي جعلوا الكهف مأوى لهم ومكان اعتصام.
ومعنى قوله :﴿ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ﴾ أي أعطنا رحمة من عندك. والرحمة هنا تشمل الرزق والهدى والحفظ مما هربوا خائفين منه من أذى قومهم، والمغفرة.
والفتية : جمع فتى جمع تكسير، وهو من جموع القلة. ويدل لفظ الفتية على قلتهم، وأنهم شباب لا شيب، خلافاً لما زعمه ابن السراج من : أن الفتية اسم جمع لا جمع تكسير. وإلى كون مثل الفتية جمع تكسير من جموع القلة أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله :
أفعلة أفعل ثم فعله *** كذاك أفعال جموع قلة
والتهيئة : التقريب والتيسير : أي يسر لنا وقرب لنا من أمرنا رشداً. والرشد : الاهتداء والديمومة عليه. و ﴿ مِنْ ﴾ في قوله ﴿ مِنْ أَمْرِنَا ﴾ فيها وجهان : أحدهما أنها هنا للتجريد، وعليه فالمعنى : اجعل لنا أمرنا رشداً كله ؛ كما تقول : لقيت من زيد أسداً. ومن عمرو بحراً.
والثاني أنها للتبعيض. وعليه فالمعنى : واجعل لنا بعض أمرنا ؛ أي وهو البعض الذي نحن فيه من مفارقة الكفار رشداً حتى نكون بسببه راشدين مهتدين.
قوله تعالى ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ في الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ١١ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ضرب على آذان أصحاب الكهف سنين عدداً. ولم يبين قدر هذا العدد هنا، ولكنه بينه في موضع آخر ؛ وهو قوله :﴿ وَلَبِثُواْ في كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا ٢٥ ﴾.
وضربه جل وعلا على آذانهم في هذه الآية كناية عن كونه أنامهم ومفعول «ضربنا » محذوف، أي ضربنا على آذانهم حجاباً مانعاً من السماع فلا يسمعون شيئاً يوقظهم. والمعنى : أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات.
وقوله ﴿ سِنِينَ عَدَدًا ﴾ على حذف مضاف ؛ أي ذات عدد، أو مصدر بمعنى اسم المفعول، أي سنين معدودة. وقد ذكرنا الآية المبينة لقدر عددها بالسنة القمرية والشمسية، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى :﴿ وَازْدَادُواْ تِسْعًا٢٥ ﴾.
وقال أبو حيان في البحر في قوله ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ ﴾ عبر بالضرب ليدل على قوة المباشرة واللصوق واللزوم، ومنه ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ﴾ وضرب الجزية وضرب البعث. وقال الفرزدق :
ضرب عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
وقال الأسود بن يعفر :
ومن الحوادث لا أبالك أنني ضربت على الأرض بالأسداد
وقال الآخر :
إن المروءة والسماحة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
وذكر الجارحة التي هي الآذان، إذ هي يكون منها السمع، لأنه لا يستحكم نوم إلا مع تعطل السمع. وفي الحديث :«ذلك رجل بال الشيطان في أذنه » أي استثقل نومه جداً حتى لا يقوم بالليل ا ه كلام أبي حيان.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا ١٢ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من حكم بعثه لأصحاب الكهف بعد هذه النومة الطويلة أن يبين للناس أي الحزبين المختلفين في مدة لبثهم أحصى لذلك وأضبط له. ولم يبين هنا شيئاً عن الحزبين المذكورين.
وأكثر المفسرين على أن أحد الحزبين هم أصحاب الكهف. والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية. وقيل : هما حزبان من أهل المدينة المذكورة، كان منهم مؤمنون وكافرون. وقيل : هما حزبان من المؤمنين في زمن أصحاب الكهف. اختلفوا في مدة لبثهم، قاله الفراء : وعن ابن عباس : الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب، وأصحاب الكهف حزب. إلى غير ذلك من الأقوال.
والذي يدل عليه القرآن : أن الحزبين كليهما من أصحاب الكهف. وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَكَذلك بَعَثْنَاهُمْ ليتساءلوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ﴾. وكأن الذين قالوا ﴿ ربكم أعلم بما لبثتم ﴾ هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول. ولقائل أن يقول : قوله عنهم ﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ﴾ يدل على أنهم لم يحصوا مدة لبثهم. والله تعالى أعلم.
وقد يجاب عن ذلك بأن رد العلم إلى الله لا ينافى العلم، بدليل أن الله أعلم نبيه بمدة لبثهم في قوله :﴿ وَلَبِثُواْ في كَهْفِهِمْ ﴾ الآية، ثم أمره برد العلم إليه في قوله :﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ﴾ الآية.
وقوله ﴿ بَعَثْنَاهُمْ ﴾ أي من نومتهم الطويلة. والبعث : التحريك من سكون، فيشمل بعث النائم والميت، وغير ذلك.
وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر الله جل وعلا حكمة لشيء في موضع، ويكون لذلك الشيء حكم أخر مذكورة في مواضع أخرى فإنا نبينها. ومثلنا لذلك، وذكرنا منه أشياء متعددة في هذا الكتاب المبارك.
وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى هنا في هذه الآية الكريمة بين من حكم بعثهم إظهاره للناس : أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً. وقد بين لذلك حكماً أخر في غير هذا الموضع.
منها أن يتساءلوا عن مدة لبثهم، كقوله :﴿ وَكَذلك بَعَثْنَاهُمْ ليتساءلوا بَيْنَهُمْ ﴾ الآية.
ومنها إعلام الناس أن البعث حق، وأن الساعة حق لدلالة قصة أصحاب الكهف على ذلك. وذلك في قوله :﴿ وَكَذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا ﴾ الآية.
واعلم أن قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ ﴾ الآية لا يدل على أنه لم يكن عالماً بذلك قبل بعثهم، وإنما علم بعد بعثهم ؛ كما زعمه بعض الكفرة الملاحدة ! بل هو جل وعلا عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون، لا يخفى عليه من ذلك شيء. والآيات الدالة على ذلك لا تحصى كثر.
وقد قدمنا أن من أصرح الأدلة على أنه جل وعلا لا يستفيد بالاختبار والابتلاء علماً جديداً سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً قوله تعالى في آل عمران :﴿ وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا في صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا في قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ١٥٤ ﴾ فقوله ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور ١٥٤ِ ﴾ بعد قوله ﴿ وَلِيَبْتَلِىَ ﴾ دليل واضح في ذلك.
وإذا حققت ذلك فمعنى ﴿ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ ﴾ أي نعلم ذلك علماً يظهر الحقيقة للناس، فلا ينافى أنه كان عالماً به قبل ذلك دون خلقه.
واختلف العلماء في قوله ﴿ أَحْصَى ﴾ فذهب بعضهم إلى أنه فعل ماض و«أَمداً » مفعوله «وما » في قوله «لما لبثوا » مصدرية ؛ وتقرير المعنى على هذا : لنعلم أن الحزبين ضبط أمداً للبثهم في الكهف.
وممن اختار أن ﴿ أَحْصَى ﴾ فعل ماض : الفارسي والزمخشري. وابن عطية وغيرهم.
وذهب بعضهم إلى أن ﴿ أَحْصَى ﴾ صيغة تفضيل، «وأمداً » تمييز. وممن اختاره الزجاج والتبريزي وغيرهما. وجوز الحوفى وأبو البقاء الوجهين.
والذين قالوا : إن ﴿ أَحْصَى ﴾ فعل ماض قالوا : لا يصح فيه أن يكون صيغة تفضيل ؛ لأنها لا يصح بناؤها هي ولا صيغة فعل التعجب قياساً إلا من الثلاثي، «وأحصى » رباعي فلا تصاغ منه صيغة التفضيل ولا التعجب قياساً. قالوا : وقولهم : ما أعطاه وما أولاه للمعروف، وأعدى من الجرب، وأفلس من ابن المذلق شاذ لا يقاس عليه، فلا يجوز حمل القرآن عليه.
واحتج الزمخشري في الكشاف أيضاً لأن ﴿ أَحْصَى ﴾ ليست صيغة تفضيل بأن ﴿ أَمَدًا ﴾ لا يخلو : إما أن ينتصب بأفعل فأفعل لا يعمل. وإما أن ينتصب ب ﴿ لَبِثُواْ ﴾ فلا يسد عليه المعنى أن لا يكون سديداً على ذلك القول، وقال : فإن زعمت نصبه بإضمار فعل يدل عليه ﴿ أَحْصَى ﴾ كما أضمر في قوله :
* وأضرب منا بالسيوف القوانسا *
أي نضرب القوانس فقد أبعدت المتناول وهو قريب حيث أبيت أن يكون ﴿ أَحْصَى ﴾ فعلاً، ثم رجعت مضطراً إلى تقديره وإضماره انتهى كلام الزمخشري.
وأجيب من جهة المخالفين عن هذا كله قالوا : لا نسلم أن صيغة التفضيل لا تصاغ من غير الثلاثي، ولا نسلم أيضاً لأنها لا تعمل.
وحاصل تحرير المقام في ذلك أن في كون صيغة التفضيل تصاغ من «أفعل » كما هنا، أو لا تصاغ منه ؛ ثلاثة مذاهب لعلماء النحو :
الأول جواز بنائها من أفعل مطلقاً، وهو ظاهر كلام سيبويه، وهو مذهب أبي إسحاق كما نقله عنه أبو حيان في البحر.
والثاني لا يبنى منه مطلقاً، وما سمع منه فهو شاذ يحفظ ولا يقاس عليه. وهو الذي درج عليه ابن مالك في الخلاصة بقوله :
وبالندور احكم لغير ما ذكر ولا تقس على الذي منه أثر
كما قدمناه في سورة «بني إسرائيل » في الكلام على قوله :﴿ فَهُوَ في الآخرة أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ٧٢ ﴾.
الثالث تصاغ من أفعل إذا كانت همزتها لغير النقل خاصة ؛ كأظلم الليل، وأشكل الأمر. لا إن كانت الهمزة للنقل فلا تصاغ منها، وهذا هو اختيار أبي الحسن بن عصفور. وهذه المذاهب مذكورة بأدلتها في كتب النحو وأما قول الزمخشري : فأفعل لا يعمل فليس بصحيح ؛ لأن صيغة التفضيل تمل في التمييز بلا خلاف، وعليه درج في الخلاصة بقوله :
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلاً كأنت أعلى منزلا
و ﴿ أَمَدًا ﴾ تمييز كما تقدم ؛ فنصبه بصيغة التفضيل لا إشكال فيه.
وذهب الطبري إلى أن :﴿ أَمَدًا ﴾ منصوب ب ﴿ لَبِثُواْ ﴾ وقال ابن عطية : إن ذلك غير متجه.
وقال أبو حيان : قد يتجه ذلك ؛ لأن الأمد هو الغاية، ويكون عبارة عن المدة من حيث إن المدة غاية. و ﴿ مَا ﴾ بمعنى الذي، و ﴿ أَمَدًا ﴾ منتصب على إسقاط الحرف ؛ أي لما لبثوا من أمد، أي مدة. ويصير من أمد تفسيراً لما انبهم في لفظ ﴿ مَا لَبِثُواْ ﴾ كقوله ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ﴾، ﴿ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ ﴾ ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل.
قال مقيده عفا الله عنه : إطلاق الأمد على الغاية معروف في كلام العرب ومنه قول نابغة ذبيان :
إلا لمثلك أو من أنت سابقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد
وقد قدمنا في سورة «النساء » أن علي بن سليمان الأخفش الصغير أجاز النصب بنزع الخافض عند أمن اللبس مطلقاً. ولكن نصب قوله ﴿ أَمَدًا ﴾، بقوله ﴿ لَبِثُواْ ﴾ غير سديد كما ذكره الزمخشري وابن عطية وكما لا يخفى ا ه.
وأجاز الكوفيون نصب المفعول بصيغة التفضيل، وأعربوا قول العباس بن مرداس السلمي :
فلم أر مثل الحي حياً مصبحا ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا
أكر وأحمي الحقيقة منهم وأضرب منا بالسيوف القوانسا
بأن «القوانس » مفعول به لصيغة التفضيل التي هي أضرب. قالوا ولا حاجة لتقدير فعل محذوف ومن قال هنا قال بعض النحويين : إن ﴿ مِنْ ﴾ في قوله تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ ﴾ منصوب بصيغة التفضيل قبله نصب المفعول به.
قال مقيده عفا الله عنه، وغفر له : ومذهب الكوفيين هذا أجرى عندي على المعنى المعقول ؛ لأن صيغة التفضيل فيها معنى المصدر الكامن فيها فلا مانع من عملها عمله. ألا ترى أن قوله : وأضرب منا بالسيوف القوانسا معناه : يزيد ضربنا بالسيوف القوانس على ضرب غيرنا، كما هو واضح. وعلى هذا الذي قررنا فلا مانع من كون ﴿ أَمَدًا ﴾ منصوب ب ﴿ أَحْصَى ﴾ نصب المفعول به على أنه صيغة تفضيل. وإن كان القائلون بأن ﴿ أَحْصَى ﴾ صيغة تفضيل أعربوا ﴿ أَمَدًا ﴾ بأنه تمييز.
تنبيه
فإن قيل : ما وجه رفع ﴿ أَيُّ ﴾ من قوله :﴿ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى ﴾ الآية، مع أنه في محل نصب لأنه مفعول به ؟ فالجواب أن العلماء في ذلك أجوبة، منها، أن ﴿ أَيُّ ﴾ فيها معنى الاستفهام، والاستفهام يعلق الفعل عن مفعوليه كما قال ابن مالك في الخلاصة عاطفاً على ما يعلق الفعل القلبي عن مفعوليه :
وإن ولا لام ابتداء أو قسم كذا والاستفهام ذاله انحتم
ومنها ما ذكره الفخر الرازي وغيره : من أن الجملة بمجموعها متعلق العلم ؛ ولذلك السبب لم يظهر عمل قوله ﴿ لَنَعْلَمُ ﴾ في لفظة ﴿ أَيُّ ﴾ بل بقيت على ارتفاعها. ولا يخفى عدم اتجاه هذا القول كما ترى.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر أوجه الأعاريب عندي في الآية : أن لفظة ﴿ أَيُّ ﴾ موصولة استفهامية. و ﴿ أَيُّ ﴾ مبنية لأنها مضافة، وصدر صلتها محذوف على حد قوله في الخلاصة :
أي كما وأعربت ما لم تضف وصدر وصلها ضمير انحذف
ولبنائها لم يظهر نصبها. وتقدير المعنى على هذا : لنعلم الحزب الذي هو أحصى لما لبثوا أمداً ونميزه عن غيره. و ﴿ أَحْصَى ﴾ صيغة تفضيل كما قدمنا توجيهه. نعم، للمخالف أن يقول : إن صيغة التفضيل تقتضى بدلالة مطابقتها الاشتراك بين المفضل والمفضل عليه في أصل الفعل، وأحد الحزبين لم يشارك الآخر في أصل الإحصاء لجهله بالمدة من أصلها، وهذا مما يقوي قول من قال : إن ﴿ أَحْصَى ﴾ أفعل، والعلم عند الله تعالى.
فإن قيل : أي فائدة مهمة في معرفة الناس للحزب المحصى أمد الليث من غيره، حتى يكون علة غائية لقوله، ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ ﴾ الآية ؟ وأي فائدة مهمة في مساءلة بعضهم بعضاً، حتى يكون علة غائية لقوله :﴿ وَكَذلك بَعَثْنَاهُمْ ليتساءلوا بَيْنَهُمْ ﴾ ؟.
فالجواب أنا لم نر من تعرض لهذا. والذي يظهر لنا والله تعالى أعلم أن ما ذكر من إعلام الناس بالحزب الذي هو أحصى أمداً لما لبثوا، ومساءلة بعضهم بعضاً عن ذلك، يلزمه أن يظهر للناس حقيقة أمر هؤلاء الفتية، وأن الله ضرب على آذانهم في الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، ثم بعثهم أحياء طرية أبدانهم ؛ لم يتغير لهم حال. وهذا من غريب صنعه جل وعلا الدال على كمال قدرته، وعلى البعث بعد الموت. ولاعتبار هذا اللازم جعل ما ذكرنا علة غائبة والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ١٣ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه يقص عليه نبأ أصحاب الكهف بالحق. ثم أخبره مؤكداً له أنهم فتية آمنوا بربهم، وأن الله جل وعلا زادهم هدى.
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من آمن بربه وأطاعه زاده ربه هدى ؛ لأن الطاعة سبب للمزيد من الهدى والإيمان.
وهذا المفهوم من هذه الآية الكريمة جاء مبيناً في مواضع أخر ؛ كقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ ١٧ ﴾، وقوله :﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا ﴾ الآية، وقوله :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ١٢٤ ﴾، وقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي أَنزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وهذه الآيات المذكورة نصوص صريحة في أن الإيمان يزيد مفهوم منها أنه ينقص أيضاً، كما استدل بها البخاري رحمه الله على ذلك. وهي تدل عليه دلالة صريحة لا شك فيها، فلا وجه معها للاختلاف في زيادة الإيمان ونقصه كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ ﴾.
أي ثبتنا قلوبهم وقويناها على الصبر، حتى لا يجزعوا ولا يخافوا من أن يصدعوا بالحق، ويصبروا على فراق الأهل والنعيم، والفرار بالدين في غار في جبل لا أنيس به، ولا ماء ولا طعام.
ويفهم من هذه الآية الكريمة : أن من كان في طاعة ربه جل وعلا أنه تعالى يقوي قلبه، ويثبته على تحمل الشدائد، والصبر الجميل.
وقد أشار تعالى إلى وقائع من هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في أهل بدر مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه :﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السماء ماء لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام ١١ إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية، وكقوله في أم موسى :﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ١٠ ﴾.
وأكثر المفسرين على أن قوله ﴿ إِذْ قَامُواْ ﴾ أي بين يدي ملك بلادهم، وهو ملك جبار يدعو إلى عبادة الأوثان، يزعمون أن اسمه : دقيانوس.
وقصتهم مذكورة في جميع كتب التفسير، أعرضنا عنها لأنها إسرائيليات. وفي قيامهم المذكور هنا أقوال أخر كثيرة. والعامل في قوله «إذ » هو «ربطنا »، على قلوبهم حين قاموا.
قوله تعالى :﴿ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض لَن ندعوا مِن دُونِهِ إلها لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ١٤ ﴾.
ذكر جل وعلا هذه الآية الكريمة : أن هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم ربهم هدى قالوا إن ربهم هو رب السماوات والأرض، وأنهم لن يدعوا من دونه إلهاً، وأنهم لو فعلوا ذلك قالوا شططاً. أي قولاً ذا شطط. أو هو من النعت بالمصدر للمبالغة ؛ كأن قولهم هو نفس الشطط. والشطط : البعد عن الحق والصواب. وإليه ترجع أقوال المفسرين، كقول بعضهم «شططا » : جواراً، تعدياً، كذباً، خطأ، إلى غير ذلك من الأقوال.
وأصل مادة الشطط : مجاوزة الحد، ومنه أشط في السوم : إذا جاوز الحد ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُشْطِطْ ﴾ الآية. أو البعد، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
تشط غداً دار جيراننا *** وللدار بعد غد أبعد
ويكثر استعمال الشطط في الجور والتعدي، ومنه قول الأعشى :
أتنتهون وان ينهى ذوي شطط *** كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن من أشرك مع خالق السماوات والأرض معبوداً آخر فقد جاء بأمر شطط بعيد عن الحق والصواب في غاية الجور والتعدي. لأن الذي يستحق العبادة هو الذي يبرز الخلائق من العدم إلى الوجود، لأن الذي لا يقدر على خلق غيره مخلوق يحتاج إلى خالق يخلقه ويرزقه ؛ ويدبر شؤونه.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبيناً في آيات أخر كثيرة، كقوله :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٢١ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بناء وَأَنزَلَ مِنَ السماء ماء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شركاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيء وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ١٦ ﴾ أي الواحد القهار الذي هو خالق كل شيء هو المستحق للعبادة وحده جل وعلا. وقوله جل وعلا :﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ١٩١ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة :﴿ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ١٤ ﴾ أي إذا دعونا من دونه إلهاً فقد قلنا شططا.
قوله تعالى :﴿ هؤلاء قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ﴾. «لولا » في هذه الآية الكريمة للتحضيض، وهو الطلب بحث وشدة. والمراد بهذا الطلب التعجيز، لأنه من المعلوم أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسلطان بين على جواز عبادة غير الله تعالى. والمراد بالسلطان البين : الحجة الواضحة.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من تعجيزهم عن الإتيان بحجة على شركهم وكفرهم وإبطال حجة المشركين على شركهم جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لنا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ١٤٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أروني مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السَّمَاوَاتِ ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هذا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٤ ﴾، وقوله تعالى منكراً عليهم :﴿ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ٢١ ﴾، وقوله جل وعلا :﴿ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ٣٥ ﴾، وقوله تعالى :﴿ قُلْ أرأيتم شركاءكم الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أروني مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً ٤٠ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ١١٧ ﴾، والآيات الدالة على أن المشركين لا مستند لهم في شركهم إلا تقليد آبائهم الضالين كثيرة جداً وقوله في هذه الآية الكريمة «هؤلاء » مبتدأ، و«قوما » قيل عطف بيان، والخبر جملة «اتخذوا » وقيل «قومنا » خبر المبتدأ، وجملة «اتخذوا في محل حال. والأول أظهر، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ١٥ ﴾.
أي لا أحد ظلم ممن افترى على الله الكذب بادعاء أن له شريكاً كما افتراه عليه قوم أصحاب الكهف، كما قال عنهم أصحاب الكهف ﴿ هؤلاء قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً ﴾ الآية.
وهذا المعنى الذي ذكره هنا من أن افتراء الكذب على الله يجعل الشركاء له هو أعظم الظلم جاء مبيناً في آيات كثيرة، كقوله :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءه ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ١٨ ﴾، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
قوله تعالى :﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللَّهَ فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ ويهيئ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقًا ١٦ ﴾.
«إذ » في قوله ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ﴾ للتعليل على التحقيق، كما قاله ابن هشام وعليه فالمعنى : ولأجل اعتزالكم قومكم الكفار وما يعبدونه من دون الله، فاتخذوا الكهف مأوى ومكان اعتصام، ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً، وهذا يدل على أن اعتزال المؤمن قومه الكفار ومعبوديهم من أسباب لطف الله به ورحمته.
وهذا المعنى يدل عليه أيضاً قوله تعالى في نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام :﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو ربّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بدعاء ربّي شَقِيًّا ٤٨ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً ٤٩ وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ٥٠ ﴾. واعتزالهم إياهم هو مجانبتهم لهم، وفرارهم منهم يدينهم.
وقوله :﴿ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ اسم موصول في محل نصب معطوف على الضمير المنصوب في قوله :﴿ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ﴾ أي واعتزلتم معبوديهم من دون الله. وقيل :«ما » مصدرية، أي اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم غير الله تعالى. والأول أظهر.
وقوله :﴿ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ قيل : هو استثناء متصل، بناء على أنهم كانوا يعبدون الله والأصنام. وقيل : هو استثناء منقطع. بناء على القول بأنهم كانوا لا يعبدون إلا الأصنام، ولا يعرفون الله ولا يعبدونه.
وقوله :﴿ مّرْفَقًا ﴾ أي ما ترتفقون به أي تنتفعون به. وقرأه نافع وابن عامر بفتح الميم وكسر الفاء مع تفخيم الراء. وقرأه باقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء وترقيق الراء، وهما قراءتان ولغتان فيما يرتفق به، وفي عضو الإنسان المعروف. وأنكر الكسائي في «المرفق » بمعنى عضو الإنسان فتح الميم وكسر الفاء، وقال : هو بكسر الميم وفتح الفاء، ولا يجوز غير ذلك.
وزعم ابن الأنباري أن «من » في قوله :﴿ ويهيئ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ ﴾ بمعنى البدلية، أي يهيئ لكم بدلاً من «أمركم » الصعب مرفقاً : وعلى هذا الذي زعم غاية كقوله تعالى :﴿ أَرَضِيتُم بالحياة الدُّنْيَا مِنَ الآخرة ﴾ أي بدلاً منها وعوضاً عنها. ومن هذا المعنى قول الشاعر :
فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان
أي بدلاً من ماء زمزم، والله تعالى أعلم.
ومعنى ﴿ يَنْشُرْ لَكُمْ ﴾ : يبسط لكم : كقوله :﴿ وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ﴾ الآية : وقوله ﴿ ويهيئ ﴾ أي أييسر ويقرب ويسهل.
قوله تعالى :﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ في فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذلك مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ﴾.
اعلم أولاً أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول. وذكرنا من ذلك أمثلة متعددة.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذه الآية على قولين وفي نفس الآية قرينة تدل على صحة أحدهما وعدم صحة الآخر.
أما القول الذي تدل القرينة في الآية على خلافه فهو أن أصحاب الكهف كانوا في زاوية من الكهف، وبينهم وبين الشمس حواجز طبيعية من نفس الكهف، تقيهم حر الشمس عند طلوعها وغروبها. على ما سنذكر تفصيله إن شاء الله تعالى.
وأما القول الذي تدل القرينة في هذه الآية على صحته فهو أن أصحاب الكهف كانوا في فجوة من الكهف على سمت تصيبه الشمس وتقابله ؛ إلا أن الله منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم على وجه خرق العادة ؛ كرامة لهؤلاء القوم الصالحين، الذين فروا بدينهم طاعة لربهم جل وعلا.
والقرينة الدالة على ذلك هي قوله تعالى :﴿ ذلك مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ﴾ إذ لو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول لكان ذلك أمراً معتاداً مألوفاً، وليس فيه غرابة حتى يقال فيه ﴿ ذلك مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ﴾ وعلى هذا الوجه الذي ذكرناه أنه تشهد له القرينة المذكورة ؛ فمعنى تزوار الشمس عن كهفهم ذات اليمين عند طلوعها، وفرضها إياهم ذات الشمال عند غروبها هو أن الله يقلص ضوئها عنهم، وببعده إلى جهة اليمين عند الطلوع، وإلى جهة الشمال عند الغروب ؛ والله جل وعلا قادر على كل شيء، يفعل ما يشاء. فإذا علمت هذا فاعلم أن أصحاب القول الأول اختلفوا في كيفية وضع الكهف. وجزم ابن كثير في تفسير بأن الآية تدل على أن باب الكهف كان من نحو الشمال، قال : لأنه تعالى أخبر بأن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزوار عنه ذات اليمين، أي يتقلص الفيء يمنة. كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة : تزاور أي تميل، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في ذلك المكان ؛ ولهذا قال تعالى ﴿ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية الشرق، فدل على صحة ما قلناه وهذا بين لمن تأمله، وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب.
وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب. ولو كان من ناحية القبلة لما دخل إليه منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب. ولا تزوار الفيء يميناً وشمالاً. ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب، فتعين ما ذكرناه، ولله الحمد. انتهى كلام ابن كثير.
وقال الفخر الرازي في تفسيره : أصحاب هذا القول قالوا إن باب الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال، فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف، وإذا غربت كانت على شماله، فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف، وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل إليه. انتهى كلام الرازي. وقال أبو حيان في تفسير هذه الآية : وهذه الصفة مع الشمس تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاوية. وقال عبد الله بن مسلم : كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش، وعلى هذا كان أعلى الكهف مستوراً من المطر.
قال ابن عطية : كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب، اختار الله لهم مضجعاً متسعاً في مقنأة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم. انتهى الغرض من كلام أبو حيان. والمقنأة : المكان الذي لا تطلع عليه الشمس، وإلى غير ذلك من أقوال العلماء.
والقول الأول أنسب للقرينة القرآنية التي ذكرنا.
وممن اعتمد القول الأول لأجل القرينة المذكورة الزجاج، ومال إليه بعض الميل الفخر الرازي والشوكاني في تفسيريهما، لتوجيههما قول الزجاج المذكور بقرينة الآية المذكورة.
وقال الشوكاني رحمه الله في تفسيره : ويؤيد القول الأول قوله تعالى :﴿ ذلك مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ﴾ فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة أنسب، بمعنى كونها آية. ويؤيده أيضاً إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا. ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر :
ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار
انتهى كلام الشوكاني.
ومعلوم أن الفجوة : هي المتسع. وهو معروف في كلام العرب ومنه البيت المذكور، وقول الآخر :
ونحن ملأنا كل واد وفجوة رجالاً وخيلاً غير ميل ولا عزل
ومنه الحديث :«فإذا وجد فجوة نص ».
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت ﴾ أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل على كهفهم. والمعنى : أنك لو رأيتهم لرأيتهم كذلك. لا أن المخاطب رآهم بالفعل، كما يدل لهذا المعنى قوله تعالى :﴿ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا ﴾ الآية والخطاب بمثل هذا مشهور في لغة العرب التي نزل بها هذا القرآن العظيم. وأصل مادة التزاور : الميل، فمعنى تزاور : تميل. والزور : الميل، ومنه شهادة الزور، لأنها ميل عن الحق. ومنه الزيادة، لأن الزائر يميل إلى المزور. ومن هذا المعنى قول عنترة في معلقته :
فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم
وقول عمر بن أبي ربيعة :
وخفض عني الصوت أقبلت مشية ال حباب وشخصي خشية الحي أزور
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ ذَاتَ الْيَمِينِ ﴾ أي جهة اليمين، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين. وقال أبو حيان في البحر : وذات اليمين : جهة يمين الكهف، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين، يعني يمين الداخل إلى الكهف، أو يمين الفتية ا ه هو منصوب على الظرف.
وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ﴾.
من القرض بمعنى القطيعة والصرم ؛ أي تقطعهم وتتجافى عنهم ولا تقربهم. وهذا المعنى معروف من كلام العرب. ومنه قول غيلان ذي الرمة :
نظرت بجرعاء السبية نظره ضحى وسواد العين في الماء شامس
إلى ظعن يقرضن أفواز مشرف شمالاً وعن أيمانهن الفوارس
فقوله :«يقرضن أفواز مشرف » أي يقطعنها ويبعدنها ناحية الشمال وعن أيمانهن الفوارس، وهو موضع أو رمال الدهناء. والأقواز : جمع قوز بالفتح وهو العالي من الرمل كأنه جبل. ويروى أجواز مشرف جمع جوز ؛ من المجاز بمعنى الطريق. وهذا الذي ذكرنا هو الصواب في معنى قوله تعالى ﴿ تَّقْرِضُهُمْ ﴾ خلافاً لمن زعم أن معنى تقرضهم : تقطعهم من ضوئها شيئاً ثم يزول سريعاً كالقرض يسترد. ومراد قائل هذا القول أن الشمس تميل عنهم بالغداة، وتصيبهم بالعشي إصابة خفيفة، بقدر ما يطيب لهم هواء المكان ولا يتعفن.
قال أبو حيان في البحر : ولو كان من القرض الذي يعطى ثم يسترد لكان الفعل رباعياً، فتكون التاء في قوله :«تقرضهم » مضمومة، لكن دل فتح التاء من قوله «تقرضهم » على أنه من القرض بمعنى القطع، أي تقطع لهم من ضوئها شيئاً، وقد علمت أن الصواب القول الأول. وقد قدمنا أن الفجوة : المتسع.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ﴾ فيه ثلاث قراءات سبعيات :
قرأه ابن عامر الشامي «تزاور » بإسكان الزاي وإسقاط الألف وتشديد الراء ؛ على وزن تحمر، وهو على هذه القراءة من الأزورار بمعنى الميل ؛ كقول عنترة المتقدم : * فازور من وقع القنا * البيت.
وقرأه الكوفيون وهم عاصم وحمزة والكسائي بالزاي المخففة بعدها ألف. وعلى هذه القراءة فأصله «تتزاور » فحذفت منه إحدى التاءين ؛ على حد قوله في الخلاصة :
وما بتاءين ابتدى قد يقتصر فيه على تاكتبين العبر
وقرأه نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري «تزاور » بتشديد الزاي بعدها ألف، وأصله «تتزاور » أدغمت فيه التاء في الزاي. وعلى هاتين القراءتين : أعني قراءة حذف إحدى التاءين، وقراءة إدغامها في الزاي فهو من التزاور بمعنى الميل أيضاً. وقد يأتي التفاعل بمعنى مجرد الفعل كما هنا، وكقولهم : سافر وعاقب وعافى.
وعلى قول من قال : إن في الكهف حواجز طبيعية تمنع من دخول الشمس بحسب وضع الكهف فالإشارة في قوله :﴿ ذلك مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ﴾ راجعة إلى ما ذكر من حديثهم ؛ أي ذلك المذكور إلى هدايتهم إلى التوحيد وإخراجهم من بين عبدة الأوثان، وإيوائهم إلى ذلك الكهف، وحمايتهم من عدوهم إلى آخر حديثهم من آيات الله. وأصل الآية عند المحققين «أيية » بثلاث فتحات، أبدلت فيه الياء الأولى ألفاً ؛ والغالب في مثل ذلك أنه إذا اجتمع موجباً إعلال كان الإعلال في الأخير ؛ لأن التغير عادة أكثر في الأواخر، كما في طوى ونوى، ونحو ذلك. وهنا أعل الأول على خلاف الأغلب، كما أشار له في الخلاصة بقوله :والآية تطلق في اللغة العربية إطلاقين. وتطلق في القرآن العظيم إطلاقين أيضاً. أما إطلاقاها في اللغة الأول منهما أنها تطلق بمعنى العلامة، وهو الإطلاق المشهور، ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ﴾ الآية، وقول عمر بن أبي ربيعة :
وإن لحرفين ذا الإعلال استحق صحح أول وعكس قد يحق
بآية ما قالت غداة لقيتها بمدفع أكنان أهذا المشهر
يعني أن قولها ذلك هو العلامة بينها وبين رسوله إليها المذكور في قوله قبله :
ألكني إليها بالسلام فإنه يشهر إلمامي بها وينكر
وقد جاء في شعر نابغة ذبيان وهو جاهلي تفسير الآية بالعلامة في قوله :
توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار بقوله بعده :
رماد ككحل العين لأياً أبينه ونؤدي كجذم الحوض أثلم خاشع
وأما الثاني منهما فهو إطلاق الآية بمعنى الجماعة، يقولون : جاء القوم بآيتهم، أي بجماعتهم. ومنه قول برج بن مسهر أو غيره :
خرجنا من النقبين لاحى مثلنا بآياتنا لزجي اللقاح المطافلا
فقوله «بآياتنا » أي بجماعتنا.
وإما إطلاقاها في القرآن فالأول منهما إطلاقها على الآية الكونية القدرية، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلافِ الليل وَالنَّهَارِ لآيات لأولى الألباب ١٩٠ ﴾ أي علامات كونية قدرية، يعرف بها أصحاب العقول السليمة أن خالقها هو الرب المعبود وحده جل وعلا. والآية الكونية القدرية في القرآن من الآية بمعنى العلامة لغة.
وأما إطلاقها الثاني في القرآن فهو إطلاقها على الآية الشرعية الدينية، كقوله :﴿ رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ ﴾ الآية ونحوها من الآيات.
والآية الشرعية الدينية قيل : هي من الآية بمعنى العلامة لغة، لأنها علامات على صدق من جاء بها. أو أن فيها علامات على ابتدائها وانتهائها.
وقيل : من الآية. بمعنى الجماعة، لاشتمال الآية الشرعية الدينية على طائفة وجماعة من كلمات القرآن.
قوله تعالى :{ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ ف
قوله تعالى :﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ﴾.
الحسبان بمعنى الظن. والأيقاظ : جمع يقظ بكسر القاف وضمها، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
فلما رأت من قد تنبه منهم وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر
والرقود : جمع راقد وهو النائم، أي تظنهم أيها المخاطب لو رأيتهم أيقاظاً والحال أنهم رقود. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى في نظيره :﴿ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا ﴾ الآية. وقال بعض العلماء : سبب ظن الرائي أنهم أيقاظ هو أنهم نيام وعيونهم مفتحة. وقيل : لكثرة تقلبهم. وهذا القول يشير له قوله تعالى بعده :﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ﴾. وكلام المفسرين هنا في عدد تقلبهم من كثرة وقلة لا دليل عليه ؛ ولذا أعرضنا عن ذكر الأقوال فيه.
وقوله في هذه الآية :﴿ وَتَحْسَبُهُمْ ﴾ قرأه بفتح السين على القياس ابن عامر وعاصم وحمزة. وقرأه بكسر السين نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي، وهما قراءتان سبعيتان، ولغتان مشهورتان، والفتح أقيس والكسر أفصح.
قوله تعالى :﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ ﴾.
اختلفت عبارات المفسرين في المراد ب «الوصيد » فقيل : هو فناء البيت. ويروى عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقيل الوصيد : الباب، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. وقيل : الوصيد العتبة. وقيل الصعيد. والذي يشهد له القرآن أن الوصيد هو الباب. ويقال له «أصيد » أيضاً. لأن الله يقول :﴿ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ ٨ ﴾ أي مغلقة مطبقة ؛ وذلك بإغلاق كل وصيد أو أصيد، وهو الباب من أبوابها. ونظير الآية من كلام العرب قول الشاعر :
تحن إلى أجبال مكة ناقتي ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة
وقول ابن قيس الرقيات :
إن في القصر لو دخلنا غزالا مصفقاً مؤصداً عليه الحجاب
فالمراد بالإيصاد في جميع ذلك : الإطباق والإغلاق ؛ لأن العادة فيه أن يكون بالوصيد وهو الباب. ويقال فيه أصيد. وعلى اللغتين القراءتان في قوله :«مؤصدة » مهموزاً من الأصيد.. وغير مهموز من الوصيد.
ومن إطلاق العرب الوصيد على الباب قول عبيد بن وهب العبسي، وقيل زهير :
بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر
أي لا يسد بابها علي، يعني ليست فيها أبواب حتى تسد علي ؛ كقول الآخر :
* ولا ترى الضب بها ينجحر *
فإن قيل : كيف يكون الوصيد هو الباب في الآية، والكهف غار في جبل لا باب له ؟
فالجواب : أن الباب يطلق على المدخل الذي يدخل للشيء منه ؛ فلا مانع من تسمية المدخل إلى الكهف باباً. ومن قال : الوصيد الفناء لا يخالف ما ذكرنا ؛ لأن فناء الكهف هو بابه. وقد قدمنا مراراً أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك : أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً وتكون في الآية قرينة تدل على خلافه.
وقد قال بعض أهل العلم في هذه الآية الكريمة : إن المراد بالكلب في هذه الآية رجل منهم لا كلب حقيقي. واستدلوا لذلك ببعض القراءات الشاذة، كقراءة «وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد » وقراءة «وكالئهم باسط ذراعيه ».
وقوله جل وعلا :﴿ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ﴾ قرينة على بطلان ذلك القول ؛ لأن بسط الذراعين معروف من صفات الكلب الحقيقي، ومنه حديث أنس المتفق عليه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب » وهذا المعنى مشهور في كلام العرب، فهو قرينة على أنه كلب حقيقي. وقراءة «وكالئهم » بالهمزة لا تنافي كونه كلباً، لأن الكلب يحفظ أهله ويحرسهم. والكلاءة : الحفظ.
فإن قيل : ما وجه عمل اسم الفاعل الذي هو «باسط » في مفعوله الذي هو «ذراعيه » والمقرر في النحو أن اسم الفاعل إذا لم يكن صلة «ال » لا يعمل إلا إذا كان واقعاً في الحال أو المستقبل ؟
فالجواب أن الآية هنا حكاية حال ماضية، ونظير ذلك من القرآن قوله تعالى :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾.
واعلم أن ذكره جل وعلا في كتابه هذا الكلب، وكونه باسطاً ذراعيه بوصيد كهفهم في معرض التنويه بشأنهم يدل على أن صحبة الأخيار عظيمة الفائدة. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : وشملت كلبهم بركتهم، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذا فائدة صحبة الأخيار، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن ا ه.
ويدل لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال إني أحب الله ورسوله :«أنت مع من أحببت » متفق عليه من حديث أنس.
ويفهم من ذلك أن صحبة الأشرار فيها ضرر عظيم. كما بينه الله تعالى في سورة «الصافات » في قوله :﴿ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إني كَانَ لي قَرِينٌ ٥١ ﴾ إلى قوله ﴿ قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتّ َوَلَوْلاَ نِعْمَةُ ربّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ٥٧ ﴾.
وما يذكره المفسرون من الأقوال في اسم كلبهم، فيقول بعضهم : اسمه قطمير. ويقول بعضهم : اسمه حمران، إلى غير ذلك لم نطل به الكلام لعدم فائدته.
ففي القرآن العظيم أشياء كثيرة لم يبينها الله لنا ولا رسوله، ولم يثبت في بيانها شيء، والبحث عنها لا طائل تحته ولا فائدة فيه.
وكثير من المفسرين يطنبون في ذكر الأقوال فيها بدون علم ولا جدوى، ونحن نعرض عن مثل ذلك دائماً ؛ كلون كلب أصحاب الكهف، واسمه، وكالبعض الذي ضرب به القتيل من بقرة بني إسرائيل، وكاسم الغلام الذي قتله الخضر، وأنكر عليه موسى قتله، وكخشب سفينة نوح من أي شجر هو، وكم طول السفينة وعرضها، وكم فيها من الطبقات، إلى غير ذلك مما لا فائدة في البحث عنه، ولا دليل على التحقيق فيه.
وقد قدمنا في سورة «الأنعام » في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُل لاَ أَجِدُ في ما أوحي إِلَىَّ مُحَرَّمًا ﴾ الآية حكم أكل لحم الكلب وبيعه، وأخذ قيمته إن قتل، وما يجوز افتناؤه منها وما يجوز. وأوضحنا الأدلة في ذلك وأقوال العلماء فيه.
قوله تعالى :﴿ وَكَذلك بَعَثْنَاهُمْ ليتساءلوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه بعث أصحاب الكهف من نومتهم الطويلة ليتساءلوا بينهم، أي ليسأل بعضهم بعضاً عن مدة لبثهم في الكهف في تلك النومة، وأن بعضهم قال إنهم لبثوا يوماً أو بعض يوم، وبعضهم رد علم ذلك إلى الله جل وعلا.
ولم يبين هنا قدر المدة التي تساءلوا عنها في نفس الأمر، ولكنه بين في موضع آخر أنها ثلاثمائة سنة بحساب السنة الشمسية، وثلاثمائة سنة وتسع سنين بحساب السنة القمرية، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَلَبِثُواْ في كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا ٢٥ ﴾ كما تقدم.
قوله تعالى :﴿ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أيها أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ ﴾.
في قوله هذه الآية «أزكى » قولان للعلماء.
أحدهما أن المراد بكونه «أزكى » أطيب لكونه حلالاً ليس مما فيه حرام ولا شبهة.
والثاني أن المراد بكونه أزكى أنه أكثر، كقولهم : زكا الزرع إذا كثر، وكقول الشاعر :
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب
أي أكثر من ثلاثة.
والقول الأول هو الذي يدل له القرآن، لأن أكل الحلال والعمل الصالح أمر الله المؤمنين كما أمر المرسلين قال :﴿ يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً ﴾ الآية، وقال :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ١٧٢ ﴾. ويكثر في القرآن إطلاق مادة الزكاة على الطهارة كقوله :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ١٤ ﴾ الآية، وقوله :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ٩ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ﴾، وقوله :﴿ فأردنا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زكاة وَأَقْرَبَ رُحْماً ٨١ ﴾ وقوله :﴿ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
فالزكاة في هذه الآيات ونحوها : يراد الطهارة من أدناس الذنوب والمعاصي، فاللائق بحال هؤلاء الفتية الأخيار المتقين أن يكون مطلبهم في مأكلهم الحلبة والطهارة، لا الكثرة. وقد قال بعض العلماء : إن عهدهم بالمدينة فيها مؤمنون يخفون إيمانهم، وكافرون. وأنهم يريدون الشراء من طعام المؤمنين دون الكافرين. وأن ذلك هو مرادهم بالزكاة في قوله ﴿ أَزْكَى طَعَامًا ﴾ وقيل : كان فيها أهل كتاب ومجوس. والعلم عند الله تعالى.
والورق في قوله تعالى :﴿ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ ﴾ الفضة، وأخذ علماء المالكية وغيرهم من هذه الآية الكريمة مسائل من مسائل الفضة :
المسألة الأولى جواز الوكالة وصحتها، لأن قولهم ﴿ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ ﴾ الآية يدل على توكيلهم لهذا المبعوث لشراء الطعام. وقال بعض العلماء : لا تدل الآية على جواز التوكيل مطلقاً بل مع التقية والخوف، لأنهم لو خرجوا كلهم لشراء حاجتهم لعلم بهم أعداؤهم في ظنهم فهم معذورون، فالآية تدل على توكيل المعذور دون غيره. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. وهو قول سحنون من أصحاب مالك في التوكيل على الخصام.
قال ابن العربي : وكان سحنون تلقه من أسد بن الفرات، فحكم به أيام قضائه. ولعله كان يفعل ذلك لأهل الظلم والجبروت إنصافاً منهم وإذلالاً لهم. وهو الحق، فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل ا ه.
وقال القرطبي : كلام ابن العربي هذا حسن ؛ فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء. والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ما أخرجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال : كان لرجل على النَّبي صلى الله عليه وسلم من الإبل، فجاء يتقاضاه فقال :«أعطوه » فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سناً فوقها. فقال «أعطوه » فقال : أوفيتني أوفي الله لك. وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم :«إن خيركم أحسنكم قضاء » لفظ البخاري.
فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن، فإن النَّبي صلى الله عليه وسلم : أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي عليه وذلك توكيل منه لهم على ذلك، ولم يكن النَّبي صلى الله عليه وسلم مريضاً ولا مسافراً. وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما : إنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح إلا برضا خصمه » وهذا الحديث خلاف قولهما ا ه كلام القرطبي. ولا يخفى ما فيه، لأن أبا حنيفة وسحنوناً إنما خالفا في الوكالة على المخاصمة بغير إذن لخصم فقط، ولم يخالفا في الوكالة في دفع الحق.
وبهذه المناسبة سنذكر إن شاء الله الأدلة من الكتاب والسنة على صحة الوكالة وجوازها، وبعض المسائل المحتاج إليها من ذلك، تنبيهاً بها على غيرها.
اعلم أولاً أن الكتاب والسنة والإجماع كلها دل على جواز الوكالة وصحتها في الجملة ؛ فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى هنا :﴿ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ ﴾ هذه الآية، وقوله تعالى :﴿ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ﴾ الآية، فإن عملهم عليها توكيل لهم على أخذها.
واستدل لذلك بعض العلماء أيضاً بقوله :﴿ اذْهَبُواْ بقميصي هذا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى ﴾ الآية ؛ فإنه توكيل لهم من يوسف على إلقائهم قميصه على وجه أبيه ليرتد بصيراً.
واستدل بعضهم لذلك أيضاً بقوله تعالى عن يوسف :﴿ قَالَ اجعلني عَلَى خَزَآئِنِ الأرض ﴾ الآية، فإنَّه توكيل على ما في خزائن الأرض.
وأما السنة فقد دلت أحاديث كثيرة على جواز الوكالة وصحتها ؛ من ذلك حديث أبي هريرة للتقدم في كلام القرطبي، الدال على التوكيل في قضاء الدين، وهو حديث متفق عليه. وأخرج الجماعة إلا البخاري من حديث أبي رافع عن النَّبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
ومنها حديث عروة بن أبي الجعد البارقي : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به له شاة، فاشترى له شاتين : فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعا بالبركة في بيعه ؛ وكان لو اشترى التراب لربح فيه، رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني وفيه التوكيل على الشراء.
ومنها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إني أردت الخروج إلى خيبر ؟ فقال :«إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته » أخرجه أبو داود والدارقطني. وفيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن له وكيلاً.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :«واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها » وهو صريح في التوكيل في إقامة الحدود.
ومنها حديث علي رضي الله عنه قال :«أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها، وألا أعطي الجازر منها شيئاً وقال : نحن نعطيه من عندنا » متفق عليه. وفيه التوكيل على القيام على البدن والتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها. وعدم إعطاء الجازر شيئاً منها.
ومنها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنماً يقسمها على أصحابه فبقي عتود، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال «ضح أنت به » متفق عليه أيضاً. وفيه الوكالة في تقسيم الضحايا، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة. وقد أخرج الشيخان في صحيحهما طرفاً كافياً منها ذكرنا بعضه هنا.
وقد قال ابن حجر في فتح الباري في كتاب الوكالة ما نصه : اشتمل كتاب الوكالة يعني من صحيح البخاري على ستة وعشرين حديثاً، المعلق منها ستة، والبقية موصولة. المكرر منها فيه وفيما مضى اثنا عشر حديثاً، والبقية خالصة وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عبد الرحمن بن عوف في قتل أمية بن خلف، وحديث كعب بن مالك في الشاة المذبوحة، وحديث وفد هوازن من طريقيه، وحديث أبي هريرة في حفظ زكاة رمضان، وحديث عقبة بن الحارث في قصة النعمان، وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم ستة آثار، والله أعلم. انتهى من فتح الباري. وكل تلك الأحاديث دالة على جواز الوكالة وصحتها.
وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على جواز الوكالة وصحتها في الجملة وقال ابن قدامة في المغني : وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك ؛ فإن لا يمكن كل أحد فعل ما يحتاج إليه فدعت الحاجة إليها، انتهى منه. وهذا مما لا نزاع فيه.
فروع تتعلق بمسألة الوكالة
الفرع الأول لا يجوز التوكيل إلا في شيء تصح النيابة فيه ؛ فلا تصح في فعل محرم، لأن التوكيل من التعاون، والله يقول :﴿ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ الآية.
ولا تصح في عبادة محضة كالصلاة والصوم ونحوهما، لأن ذلك مطلوب من كل أحد بعينه، فلا ينوب فيه أحد من أحد، لأن الله يقول :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ٥٦ ﴾ الآية.
أما الحج عن الميت والمعضوب، والصوم عن الميت فقد دلت أدلة أخر على النيابة في ذلك. وإن خالف كثير من العلماء في الصوم عن الميت، لأن العبرة بالدليل الصحيح من الوحي، لا بآراء العلماء إلا عند عدم النص من الوحي.
الفرع الثاني ويجوز التوكيل في المطالبة بالحقوق وإثباتها والمحاكمة فيها. سواء كان الموكل حاضراً أو غائباً، صحيحاً أو مريضاً. وهذا قول جمهور العلماء، منهم مالك والشافعي وأحمد وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وغيرهم. وقال أبو حنيفة : للخصم أن يمتنع من محاكمة الوكيل إذا كان الموكل حاضراً غير معذور، لأن حضوره مجلس الحكم ومخاصمته حق لخصمه عليه فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضا خصمه. وقد قدمنا في كلام القرطبي : أن هذا قول سحنون أيضاً من أصحاب مالك. واحتج الجمهور بظواهر النصوص لأن الخصومة أمر لا مانع من الاستنابة فيه.
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم في مسألة التوكيل على الخصام والمحاكمة : أن الصواب فيها التفصيل.
فإن كان الموكل ممن عرف بالظلم والجبروت والادعاء بالباطل فلا يقبل منه التوكيل لظاهر قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُنْ للخائنين خصينا ١٠٥ ﴾. وإن كان معروفاً بغير ذلك فلا مانع من توكيله على الخصومة. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث ويجوز التوكيل بجعل وبدون جعل، والدليل على التوكيل بغير جعل أنه صلى الله عليه وسلم وكل أنيساً في إقامة الحد على المرأة، وعروة البارقي في شراء الشاة من غير جعل. ومثال ذلك كثير في الأحاديث التي ذكرنا غيرها.
والدليل على التوكيل بجعل قوله تعالى :﴿ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ﴾ فإنه توكيل على جباية الزكاة وتفريقها بجعل منها كما ترى.
الفرع الرابع إذا عزل الموكل وكيله في غيبته وتصرف الوكيل بعد العزل وقبل العلم به، أو مات موكله وتصرف بعد موته وقبل العلم به، فهل يمضي تصرفه نظراً لاعتقاده، أو لا يمضي نظراً للواقع ف
قوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ في مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا ٢٠ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن أصحاب الكهف أنهم قالوا إن قومهم الكفار الذين فروا منهم بدينهم إن يظهروا عليهم، أي يطلعوا عليهم ويعرفوا مكانهم، يرجموهم بالحجارة، وذلك من أشنع أنواع القتل. وقيل : يرجموهم بالشتم والقذف، أو يعيدوهم في ملتهم، أي يردوهم إلى ملة الكفر :
وهذا الذي ذكره هنا من فعل الكفار مع المسلمين من الأذى أو الرد إلى الكفر ذكر في مواضع أخر أنه هو فعل الكفار مع الرسل وأتباعهم ؛ كقوله جل وعلا :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا ﴾، وقوله تعالى :﴿ قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قريتنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِين ٨٨ َقَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا في مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لنا أَن نَّعُودَ فيها إِلاَ أَن يشاء اللَّهُ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
مسألة
أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة، لأن قوله عن أصحاب الكهف ﴿ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ في مِلَّتِهِمْ ﴾ ظاهر في إكراههم على ذلك وعدم طواعيتهم، ومع هذا قال عنهم :﴿ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا ٢٠ ﴾ فدل ذلك على أن ذلك الإكراه ليس بعذر. ويشهد لهذا المعنى حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه مع الإكراه بالخوف من القتل ؛ لأن صاحبه الذي امتنع أن يقرب ولو ذباباً قتلوه.
ويشهد له أيضاً دليل الخطاب، أي مفهوم المخالفة في قوله صلى الله عليه وسلم :«إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » فإنه يفهم من قوله :«تجاوز لي عن أمتي » أن غير أمته من الأمم لم يتجاوز لهم عن ذلك. وهذا الحديث وإن أعله الإمام أحمد وابن أبي حاتم فقد تلقاه العلماء قديماً وحديثاً بالقبول، وله شواهد ثابتة في القرآن العظيم والسنة الصحيحة. وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة «الكهف »، في الكلام على قوله ﴿ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ﴾ الآية ؛ ولذلك اختصرناها هنا. أما هذه الأمة فقد صرح الله تعالى بعذرهم بالإكراه في قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ﴾. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا ٢١ ﴾.
لم يبين الله هنا من هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم، هل هم من المسلمين أو من الكفار ؟ وذكر ابن جرير وغيره فيهم قولين : أحدهما أنهم كفار، والثاني أنهم مسلمون، وهي قولهم :﴿ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا ٢١ ﴾ لأن اتخاذ المساجد من صفات المؤمنين لا من صفات الكفار. هكذا قال بعض أهل العلم. ولقائل أن يقول : اتخاذ المساجد على القبور من فعل الملعونين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا من فعل المسلمين، وقد قدمنا ذلك مستوفي بأدلته في سورة «الحجر » في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ٨٠ ﴾
قوله تعالى :﴿ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل ربّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾.
أخبر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فذكر ثلاثة أقوال. على أنه لا قائل برابع، وجاء في الآية الكريمة بقرينة تدل على أن القول الثالث هو الصحيح والأرلان باطلان، لأنه لما ذكر القولين الأولين بقوله :﴿ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ أتبع ذلك بقوله ﴿ رَجْماً بِالْغَيْبِ ﴾ أي قولاً بلا علم، كمن يرمى إلى مكان لا يعرفه فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب بلا قصد، كقوله :﴿ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ ﴾ وقال القرطبي : الرجم القول بالظن، يقال لكل ما يخرص رجم فيه ومرجوم ومرجم كما قال زهير :
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
ثم حكى القول الثالث بقوله :﴿ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ فأقره، ولم يذكر بعده أن ذلك رجم بالغيب، فدل على أن الصحيح. وقوله ﴿ مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ قال ابن عباس : أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم، كانوا سبعة. وقوله :﴿ قُل ربّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم ﴾ فيه تعليم للناس أن يردوا علم الأشياء إلى خالقها جل وعلا وإن علموا بها، كما أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بمدة لبثهم في قوله :﴿ وَلَبِثُواْ في كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا ٢٥ ﴾ ثم أمره مع ذلك برد العلم إليه جل وعلا في قوله جل وعلا :﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾ الآية. وما قدمنا من أنه لا قائل برابع قاله ابن كثير أخذاً من ظاهر الآية الكريمة. مع أن ابن إسحاق وابن جريج قالا : كانوا ثمانية. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْولَنَّ لشيء إني فَاعِلٌ ذلك غَداً ٢٣ إِلاَّ أَن يشاء اللَّهُ ﴾ الآية.
نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول : إنه سيفعل شيئاً في المستقبل إلا معلقاً ذلك على مشيئة الله الذي لا يقع شيء في العالم كائناً ما كان إلا بمشيئته جل وعلا فقوله :﴿ وَلاَ تَقْولَنَّ لشيء ﴾ أي لا تقولن لأجل شيء تعزم على فعله في المستقبل إني فاعل ذلك الشيء غداً. والمراد بالغد : ما يستقبل من الزمان لا خصوص الغد. ومن أساليب العربية إطلاق الغد على المستقبل من الزمان ؛ ومنه قول زهير :
واعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم
يعني أنه لا يعلم ما يكون في المستقبل، إذ لا وجه لتخصيص الغد المعين بذلك.
وقوله :﴿ إِلاَّ أَن يشاء اللَّهُ ﴾ إلا قائلاً في ذلك إلا أن يشاء الله، أي معلقاً بمشيئة الله. أو لا تقولنه إلا بإن شاء الله، أي إلا بمشيئة الله. وهو في موضع الحال، يعني إلا متلبساً بمشيئة الله قائلاً إن شاء الله، قاله الزمخشري وغيره.
وسبب نزول هذه الآية الكريمة أن اليهود قالوا لقريش : سلوا محمداً «صلى الله عليه وسلم » عن الروح، وعن رجل طواف في الأرض ( يعنون ذا القرنين )، وعن فتية لهم قصة عجيبة في الزمان الماضي ( يعنون أصحاب الكهف ). فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :«سأخبركم غداً عما سألتم عنه » ولم يقل إن شاء الله، فلبث عنه الوحي مدة، قيل خمس عشرة ليلة، وقيل غير ذلك. فأحزنه تأخر الوحي عنه، ثم أنزل عليه الجواب عن الأسئلة الثلاثة، قال في الروح :﴿ وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ ربّي ﴾ الآية. وقال في الفتية ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ ﴾ الآيات إلى آخر قصتهم. وقال في الرجل الطواف :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سأتلوا عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً ٨٣ ﴾ الآيات إلى آخر قصته.
فإذا عرفت معنى هذه الآية الكريمة وسبب نزولها، وأن الله عاتب نبيه فيها على عدم قوله إن شاء الله، لما قال لهم سأخبركم غداً فاعلم أنه دلت آية أخرى بضميمة بيان السنة لها على أن الله عاتب نبيه سليمان على عدم قوله إن شاء الله، كما عاتب نبيه في هذه الآية على ذلك. بل فتنة سليمان بذلك كانت أشد ؛ فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«قال سليمان بن داود عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة وفي رواية تسعين امرأة، وفي رواية مائة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله » فقيل له وفي رواية قال له الملك :«قل إن شاء الله » فلم يقل. فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته ». وفي رواية «ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعون » ا ه.
فإذا علمت هذا فاعلم أن هذا الحديث الصحيح بين معنى قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ﴾ الآية. وأن فتنة سليمان كانت بسبب تركه قوله «إن شاء الله »، وأنه لم يلد من تلك النساء إلا واحدة نصف إنسان، وأن ذلك الجسد الذي هو نصف إنسان هو الذي ألقي على كرسيه بعد موته في قوله تعالى :﴿ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ﴾، فما يذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى :﴿ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ﴾ الآية، من قصة الشيطان الذي أخذ الخاتم وجلس على كرسي سليمان، وطرد سليمان عن ملكه ؛ حتى وجد الخاتم في بطن السمكة التي أعطاها له من كان يعمل عنده بأجر مطروداً عن ملكه، إلى آخر القصة لا يخفى أنه باطل لا أصل له، وأنه لا يليق بمقام النبوة. فهي من الإسرائيليات التي لا يخفى أنها باطلة.
والظاهر في معنى الآية هو ما ذكرنا، وقد دلت السنة الصحيحة عليه في الجلة، واختاره بعض المحققين. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾.
في هذه الآية الكريمة قولان معروفان لعلماء التفسير :
الأول أن هذه الآية الكريمة متعلقة بما قبلها، والمعنى : أنك إن قلت سأفعل غداً كذا ونسيت أن تقول إن شاء الله، ثم تذكرت بعد ذلك فقل إن شاء الله ؛ أي اذكر ربك معلقاً على مشيئته ما تقول أنك ستفعله غداً إذا تذكرت بعد النسيان. وهذا القول هو الظاهر ؛ لأنه يدل عليه قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْولَنَّ لشيء إني فَاعِلٌ ذلك غَداً ٢٣ إِلاَّ أَن يشاء اللَّهُ ﴾ وهو قول الجمهور. وممن قال به ابن عباس والحسن البصري وأبو العالية وغيرهم.
القول الثاني أن الآية لا تعلق لها بما قبلها. أن المعنى : إذا وقع منك النسيان لشيء فاذكر الله ؛ لأن النسيان من الشيطان ؛ كما قال تعالى عن فتى موسى :﴿ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾، وكقوله :﴿ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ﴾، وقال تعالى :﴿ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٦٨ ﴾ وذكر الله تعالى يطرد الشيطان، كما يدل لذلك قوله تعالى :﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ٣٦ ﴾ وقوله تعالى :﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس ١ ِمَلِكِ النَّاسِ ٢ إله النَّاس ٣ ِمِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴾ الآية ؛ أي الوسواس عند الغفلة عن ذكر الله. الخناس الذي يخنس ويتأخر صاغراً عند ذكر الله، فإذا ذهب الشيطان النسيان. وقال بعضهم :﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ أي صل الصلاة التي كنت ناسياً لها عند ذكرك لها، كما قال تعالى :﴿ وَأَقِمِ الصلاة لِذِكْرِى ١٤ ﴾ وقول من قال إذا نسيت، أي إذا غضبت ظاهر السقوط.
مسألة
اشتهر على ألسنة العلماء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه استنبط من هذه الآية الكريمة. أن الاستثناء يصح تأخيره عن المستثنى منه زمناً طويلاً قال بعضهم إلى شهر. وقال بعضهم : إلى سنة. وقال بعضهم عنه : له الاستثناء أبداً. ووجه أخذه ذلك من الآية : أن الله تعالى نهى نبيه أن يقول : إنه سيفعل شيئاً في المستقبل إلا من الاستثناء بإن شاء الله. ثم قال :﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾، أي إن نسيت تستثنى بإن شاء الله فاستثن إذا تذكرت من غير تقييد باتصال ولا قرب.
والتحقيق الذي لا شك فيه أن الاستثناء لا يصح إلا مقترناً بالمستثنى منه. وأن الاستثناء المتأخر لا أثر له ولا تحل به اليمين. ولو كان الاستثناء المتأخر يصح لما علم في الدنيا أنه تقرر عقد ولا يمين ولا غير ذلك، لاحتمال طرو الاستثناء بعد ذلك، وهذا في غاية البطلان كما ترى. ويحكى عن المنصور أنه بلغه أن أبا حنيفة رحمه الله يخالف مذهب ابن عباس المذكور ؛ فاستحضره لينكر عليه ذلك، فقال الإمام أبو حنيفة للمنصور : هذا يرجع عليك ! إنك تأخذ البيعة بالأيمان، أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك ! ؟ فاستحسن كلامه ورضي عنه.
فائدة
قال ابن العربي المالكي : سمعت فتاة ببغداد تقول لجارتها : لو كان مذهب ابن عباس صحيحاً في الاستثناء ما قال الله تعالى لأيوب :﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ ﴾ بل يقول استثن بإن شاء الله انتهى منه بواسطة نقل صاحب نشر البنود في شرح وقوله في مراقي السعود :
بشركة وبالتوطي قالا بعض وأوجب فيه الاتصالا
وفي البواقي دون ما اضطرار وأبطلن بالصمت للتذكار
فإن قيل : فما الجواب الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما نسب إليه من القول بصحة الاستثناء المتأخر.
فالجواب أن مراد ابن عباس رضي الله عنهما أن الله عاتب نبيه على قوله إنه سيفعل كذا غداً ولم يقل إن شاء الله، وبين له أن التعليق بمشيئة الله هو الذي ينبغي أن يفعل، لأنه تعالى لا يقع شيء إلا بمشيئته، فإذا نسي التعليق بالمشيئة ثم تذكر ولو بعد طول فإنه يقول إن شاء الله، ليخرج بذلك من عهدة عدم التعليق بالمشيئة، ويكون قد فوض الأمر إلى من لا يقع إلا بمشيئة. فنتيجة هذا الاستثناء هي الخروج من عهدة تركة الموجب للعتاب السابق، لا أنه يحل اليمين لأن تداركها قد فات بالانفصال. هذا هو مراد ابن عباس كما جزم به الطبري وغيره. وهذا لا محذور فيه ولا إشكال.
وأجاب بعض أهل العلم بجواب آخر وهو أنه نوى الاستثناء بقلبه ونسي النطق به بلسانه ؛ فأظهر بعد ذلك الاستثناء الذي نواه وقت اليمين، هكذا قاله بعضهم. والأول هو الظاهر. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو المختص بعلم الغيب في السماوات والأرض. وذكر هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله :﴿ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السماوات والأرض الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ٦٥ ﴾ وقوله تعالى :﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ٩ ﴾، وقوله تعالى :﴿ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ما أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يعلمها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ ٥٩ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ في السماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ ٦١ ﴾، وقوله تعالى :﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ ٣ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شيء فِي الأرض وَلاَ في ﴾. وبين في مواضع أخر : أنه يطلع من شاء من خلقه على ما شاء من وحيه، كقوله تعالى :﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً ٢٦ إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ﴾ الآية. وقد أشار إلى ذلك بقوله :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يشاء ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ﴾.
أي ما أبصره وما أسمعه جل وعلا. وما ذكره في هذه الآية الكريمة من اتصافه جل وعلا بالسمع والبصر، ذكره أيضاً في مواضع أخر، كقوله :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ١١ ﴾ وقوله :﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تحاوركما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ١ ﴾ وقوله تعالى :﴿ اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ٧٥ ﴾. والآيات بذلك كثيرة جداً.
قوله تعالى :﴿ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أصحاب الكهف ليس لهم ولي من دونه جل وعلا، بل هو وليهم جل وعلا. وهذا المعنى مذكور في آيات أخر، كقوله تعالى :﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾، وقوله تعالى :﴿ أَلا إِنَّ أولياء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٦٢ ﴾ فبين أنه ولي المؤمنين، وأن المؤمنين أولياؤه والولي : هو من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به. فالإيمان سبب يوالي به المؤمنين ربهم بالطاعة، ويواليهم به الثواب والنصر والإعانة.
وبين في مواضع أخر : أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، كقوله :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ ﴾ الآية. وبين في مواضع أخر : أن نبينا صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو قوله تعالى :﴿ النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾.
وبين في مواضع أخر : أنه تعالى مولى المؤمنين دون الكافرين، وهو قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ١١ ﴾، وهذه الولاية المختصة بالمؤمنين هي ولاية الثواب والنصر والتوفيق والإعانة، فلا تنافي أنه مولى الكافرين ولاية ملك وقهر ونفوذ مشيئة، كقوله :﴿ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ٣٠ ﴾. وقال بعض العلماء : الضمير في قوله :﴿ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ ﴾ راجع لأهل السماوات والأرض المفهومين من قوله تعالى :﴿ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾ وقيل : الضمير في قوله «ما لهم » راجع لمعاصري النَّبي صلى الله عليه وسلم من الكفار ؛ ذكره القرطبي. وعلى كل حال فقد دلت الآيات المتقدمة أن ولاية الجميع لخالقهم جل وعلا، وأن منها ولاية ثواب وتوفيق وإعانة، وولاية ملك وقهر ونفوذ مشيئة. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَدًا ٢٦ ﴾.
قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر «ولا يشرك » بالياء المثناة التحتية، وضم الكاف على الخبر، ولا نافية والمعنى : ولا يشرك الله جل وعلا أحداً في حكمه، بل الحكم له وحده جل وعلا لا حكم لغيره البتة، فالحلال ما أحله تعالى، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه ؛ والقضاء ما قضاه. وقرأه ابن عامر من السبعة ؛ «ولا تشرك » بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي، أي لا تشرك يا نبي الله. أو لا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله جل وعلا، بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم. وحكمه جل وعلا المذكور في قوله :﴿ وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَدًا ٢٦ ﴾ شامل لكل ما يقضيه جل وعلا. ويدخل في ذلك التشريع دخولاً أولياً.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه على كلتا القراءتين جاء مبيناً في آيات أخر. كقوله تعالى :﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ يا بني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شيء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دعي اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ ١٢ ﴾، وقوله تعالى :﴿ كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٨٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ لَهُ الْحَمْدُ في الأولى والآخرة وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٧٠ ﴾، وقوله :﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ٥٠ ﴾. وقوله تعالى :﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
ويفهم من هذه الآيات كقوله ﴿ وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَدًا ٢٦ ﴾ أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله. وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر ؛ كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّه لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أوليائهم لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ١٢١ ﴾ فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم. وهذا الإشراك في الطاعة، وإتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ٦٠ وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ٦١ ﴾ وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم :﴿ يا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ للرحمن عَصِيّاً ٤٤ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً ﴾ أي ما يعبدون إلا شيطاناً، أي وذلك باتباع تشريعه. ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى :﴿ وَكَذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ ﴾ الآية. وقد بين النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى :﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ ﴾ الآية فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً. ومن أصرح الأدلة في هذا : أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب ؛ وذلك في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ٦٠ ﴾.
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور : أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.
تنبيه
اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضى تحكيمه الكفر بخالق السماوات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضى ذلك.
وإيضاح ذلك أن النظام قسمان : إداري، وشرعي. أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة، فمن بعدهم. وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم ؛ ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط، ومعرفة من غاب ومن حضر كما قدمنا إيضاح المقصود منه في سورة «بني إسرائيل » في الكلام على العاقلة التي تحمل دية الخطأ، مع أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك صلى الله عليه وسلم. وكاشترائه أعني عمر رضي الله عنه دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجناً في مكة المكرمة، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر. فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع لا بأس به. كتنظيم شؤون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع. فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة.
وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالقي السماوات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السماوات
قوله تعالى :﴿ وَاتْلُ ما أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ﴾.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يتلو هذا القرآن الذي أوحاه إليه ربه. والأمر في قوله «واتل » شامل للتلاوة بمعنى القراءة. والتلو : بمعنى الاتباع. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن العظيم واتباعه جاء مبيناً في آيات أخر ؛ كقوله تعالى في سورة «العنكبوت » :﴿ اتْلُ مَا أوحي إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصلاة ﴾ الآية، وكقوله تعالى في آخر سورة «النمل » :﴿ إنما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الذي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شيء وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ٩١ وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن ﴾ الآية، ﴿ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً ٤ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأمر بتلاوته، وكقوله تعالى على الأمر باتباعه ﴿ اتَّبِعْ ما أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ١٠٦ ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَاسْتَمْسِكْ بالذي أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ٤٣ ﴾، وقوله تعالى :﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ٩ ﴾، وقوله تعالى :﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تلقاء نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ ربّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٥ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأمر باتباع هذا القرآن العظيم. وقد بين في مواضع أخر بعض النتائج التي تحصل بسبب تلاوة القرآن واتباعه ؛ كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ٢٩ ﴾، وقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ١٢١ ﴾ والعبرة في هذه الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قوله تعالى :﴿ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا مبدل لكلماته. أي لأن أخبارها صدق : وأحكامها عدل، فلا يقدر أحد أن يبدل صدقها كذباً. ولا أن يبدل عدلها جوراً : وهذا الذي ذكره هنا جاء مبيناً في مواضع أخر، كقوله تعالى :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ١١٥ ﴾. فقوله :«صدقاً » يعني في الإخبار. وقوله «عدلاً » أي في الأحكام. وكقوله :﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جاءك مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ٣٤ ﴾.
وقد بين تعالى في مواضع أخر، أنه هو يبدل ما شاء من الآيات مكان ما شاء منها ؛ كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا بدلنا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾ الآية. وقوله :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لقاءنا ائْتِ بقرآن غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تلقاء نفسي ﴾ الآية.
قوله تعالى :﴿ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ٢٧ ﴾.
أصل الملتحد : مكان الالتحاد وهو الافتعال : من اللحد بمعنى الميل، ومنه اللحد في القبر، لأنه ميل في الحفر، ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ ﴾، وقوله :﴿ وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في أَسْمَائِهِ ﴾ الآية، فمعنى اللحد والإلحاد في ذلك : الميل عن الحق. والملحد المائل عن دين الحق. وقد تقرر في فن الصرف أن الفعل إن زاد ماضيه على ثلاثة أحرف فمصدره الميمى واسم مكانه واسم زمانه كلها بصيغة اسم المفعول كما هنا. فالملتحد بصيغة اسم المفعول، والمراد به مكان الالتحاد، أي المكان الذي يميل فيه إلى ملجإ أو منجي ينجيه مما يريد الله أن يفعله به.
وهذا الذي ذكره هنا من أن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يجد من دونه ملتحداً ؛ أي مكاناً يميل إليه ويلجأ إليه إن لم يبلغ رسالة ربه ويطعه جاء مبيناً في مواضع أخر ؛ كقوله :﴿ قُلْ إني لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً ٢١ قُلْ إني لَن يجيرني مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً ٢٢ إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ ﴾، وقوله :﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل ٤٤ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ٤٥ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِين ٤٦ َفَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ٤٧ ﴾ الآية.
وكونه ليس له ملتحد، أي مكان يلجأ إليه تكرر نظيره في القرآن بعبارات مختلفة ؛ كالمناص، والمحيص، والملجإ، والموئل، والمفر، والوزر، كقوله :﴿ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ٣ ﴾ وقوله :﴿ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً ١٢١ ﴾، وقوله :﴿ فَنَقَّبُواْ في الْبِلادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ ٣٦ ﴾، وقوله :﴿ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ ٤٧ ﴾، وقوله :﴿ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ﴾، وقوله :﴿ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ١٠ كَلاَّ لاَ ﴾ فكل ذلك راجع في المعنى إلى شيء واحد، وهو انتفاء مكان يلجؤون إليه ويعتصمون به.
قوله تعالى :﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يصبر نفسه، أي يحبسها مع المؤمنين الذي يدعون ربهم أول النهار وآخره مخلصين له، لا يريدون بدعائهم إلا رضاه جل وعلا.
وقد نزلت هذه الآية الكريمة في فقراء المهاجرين كعمار، وصهيب، وبلال، وابن مسعود ونحوهم. لما أراد صناديد الكفار من النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يطردهم عنه، ويجالسهم بدون حضور أولئك الفقراء المؤمنين، وقد قدمنا في سورة «الأنعام » أن الله كما أمره هنا بأن يصبر نفسه معهم أمره أمره بألا يطردهم، وأنه إذا رآهم يسلم عليهم، وذلك في قوله :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شيء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شيء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ٥٢ ﴾ إلى قوله ﴿ وَإِذَا جاءك الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ﴾ وقد أشار إلى ذلك المعنى في قوله :﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ١ أَن جاءه الأعمى ٢ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ٣ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى ٤ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ٥ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ٦ وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى ٧ وَأَمَّا مَن جاءك يَسْعَى ٨ وَهُوَ يَخْشَى ٩ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ١٠ كَلاَّ ﴾. وقد قدمنا أن ما طلبه الكفار من نبينا صلى الله عليه وسلم من طرده فقراء المؤمنين وضعفاءهم تكبراً عليهم وازدراء بهم طلبه أيضاً قوم نوح من نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأنه امتنع من طردهم أيضاً، كقوله تعالى عنهم :﴿ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ ١١١ ﴾، وقوله عنهم أيضاً :﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بادي الرأي ﴾، وقال عن نوح في امتناعه من طردهم :﴿ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ١١٤ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ١١٥ ﴾، وقوله تعالى عنه :﴿ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُمْ ملاَقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ٢٩ وَيا قَوْمِ مَن ينصرني مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ٣٠ ﴾.
وقوله ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ﴾ فيه الدليل على أن مادة الصبر تتعدى بنفسها للمفعول، ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي ذؤيب أو عنترة :
فصبرت عارفة بذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع
والغداة : أول النهار. والعشي آخره. وقال بعض العلماء :﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ ﴾ أي يصلون صلاة الصبح والعصر. والتحقيق أن الآية تشمل أعم من مطلق الصلاة. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدُّنْيَا ﴾.
نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن تعدو عيناه عن ضعفاء المؤمنين وفقرائهم، طموحاً إلى الأغنياء وما لديهم من زينة الحياة الدنيا. ومعنى ﴿ لاَ تَعْدُواْ عَيْنَاكَ ﴾ : أي لا تتجاوزهم عيناك وتنبوا عن رثاثة زيهم، محتقراً لهم طامحاً إلى أهل الغنى والجاه والشرف بدلاً منهم. وعدا يعدو : تتعدى بنفسها إلى المفعول وتلزم. والجملة في قوله ﴿ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدُّنْيَا ﴾ في محل حال والرابط الضمير، على حد قوله في الخلاصة :
وذات بدء بمضارع ثبت حوت ضميراً ومن الواو خلت
وصاحب الحال المذكورة هو الضمير المضاف إليه في قوله «عيناك » وإنما ساغ ذلك لأن المضاف هنا جزء من المضاف إليه، على حد قوله في الخلاصة :
ولا تجز حالاً من المضاف له إلا إذا اقتضى المضاف عمله
أو كان جزء ماله أضيفا أو مثل جزئه فلا تحيفا
وما نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة من طموح العين إلى زينة الحياة الدنيا، مع الاتصاف بما يرضيه جل وعلا من الثبات على الحق، كمجالسة فقراء المؤمنين أشار له أيضاً في مواضع أخر، كقوله ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آناء الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ١٣٠ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدُّنْيَا ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالقرآن الْعَظِيم ٨٧ َلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ ﴾ الآية.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ٢٨ ﴾. نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة عن طاعة من أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه، وكان أمره فرطاً. وقد كرر في القرآن نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن اتباع مثل هذا الغافل عن ذكر الله المتبع هواه، كقوله تعالى :﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ٢٤ ﴾، وقوله :﴿ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ٩ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ١٠ هَمَّازٍ مشاء بِنَمِيم ١١ ٍمَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيم ١٢ ٍعُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ١٣ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أمره في موضع آخر بالإعراض عن المتولين عن ذكر الله، والذين لا يريدون غير الحياة الدنيا، وبين له أن ذلك هو مبلغهم من العلم. وذلك في قوله تعالى :﴿ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدُّنْيَا ٢٩ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ ﴾.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ مَنْ أَغْفَلْنَا ﴾ يدل على أن ما يعرض للعبد من غفلة ومعصية، إنما هو بمشيئة الله تعالى ؛ إذ لا يقع شيء البتة كائناً ما كان إلا بمشيئته الكونية القدرية، جل وعلا، ﴿ وَمَا تشاءون إِلاَّ أَن يشاء اللَّهُ ﴾ الآية، ﴿ وَلَوْ شاء اللَّهُ ما أَشْرَكُواْ ﴾، ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لأتينا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾، ﴿ وَلَوْ شاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ﴾، ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ الآية، ﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل شيء من خير وشر، لا يقع إلا بمشيئة خالق السماوات والأرض. فما يزعمه المعتزلة، ويحاول الزمخشري في تفسيره دائماً تأويل آيات القرآن على نحو ما يطابقه من استقلال قدرة العبد وإرادته فأفعاله دون مشيئة الله، لا يخفى بطلانه كما تدل عليه الآيات المذكورة آنفاً، وأمثالها في القرآن كثيرة.
ومعنى اتباعه هواه : أنه يتبع ما تميل إليه نفسه الأمارة بالسوء وتهواه من الشر، كالكفر والمعاصي.
وقوله :﴿ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ٢٨ ﴾ قيل : هو من التفريط الذي هو التقصير، وتقديم العجز بترك الإيمان. وعلى هذا فمعنى ﴿ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ٢٨ ﴾ أي كانت أعماله سفهاً وضياعاً وتفريطاً. وقيل : من الإفراط الذي هو مجاوزة الحد، كقول الكفار المحتقرين لفقراء المؤمنين : نحن أشراف مضر وساداتهاا إن اتبعناك اتبعك جميع الناس. وهذا من التكبر والإفراط في القول. وقيل «فرطاً » أي قدما في الشر.. من قولهم : فرط منه أمر، أي سبق. وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة عندي بحسب اللغة العربية التي نزل بها للقرآن أن معنى قوله «فرطاً » : أي متقدماً للحق والصواب، نابذاً له وراء ظهره. من قولهم : فرس فرط، أي متقدم للخيل. ومنه قول لبيد في معلقته :
ولقد حميت الخيل تحمل شكتي فرط وشاحي إذ غدوت لجامها
وإلى ما ذكرنا في معنى الآية ترجع أقوال المفسرين كلها، كقول قتادة ومجاهد «فرطاً » أي ضياعاً. وكقول مقاتل بن حيان «فرطاً » أي سرفاً. كقول الفراء «فرطاً » أي متروكاً. وكقول الأخفش «فرطاً » أي مجاوزاً للحد، إلى غير ذلك من الأقوال.
قوله تعالى :﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ﴾.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للناس :
الحق من ربكم. وفي إعرابه وجهان : أحدهما أن «الحق » مبتدأ، والجار والمجرور خبره، أي الحق الذي جئتكم به في هذا القرآن العظيم، المتضمن لدين الإسلام كائن مبدؤه من ربكم جل وعلا. فليس من وحي الشيطان، ولا من افتراء الكهنة، ولا من أساطير الأولين، ولا غير ذلك. بل هو من خالقكم جل وعلا، الذي تلزمكم طاعته وتوحيده، ولا يأتي من لدنه إلا الحق الشامل للصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام، فلا حق إلا منه جل وعلا.
الوجه الثاني أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا الذي جئتكم به الحق.
وهذا الذي ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ذكره أيضاً في مواضع أخر. كقوله في سورة «البقرة » :﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ١٤٧ ﴾، وقوله في «آل عمران » :﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ ٦٠ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ فَمَن شاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شاء فَلْيَكْفُرْ ﴾.
ظاهر هذه الآية الكريمة بحسب الوضع اللغوي التخيير بين الكفر والإيمان ولكن المراد من الآية الكريمة ليس هو التخيير، وإنما المراد بها التهديد والتخويف. والتهديد بمثل هذه الصيغة التي ظاهرها التخيير أسلوب من أساليب اللغة العربية. والدليل من القرآن العظيم على أن المراد في الآية التهديد والتخويف أنه أتبع ذلك بقوله ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بماء كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وساءت مُرْتَفَقًا ٢٩ ﴾ وهذا أصرح دليل على أن المراد التهديد والتخويف ؛ إذ لو كان التخيير على بابه لما توعد فاعل أحد الطرفين المخير بينهما بهذا العذاب الأليم. وهذا واضح كما ترى.
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ أَعْتَدْنَا ﴾ أصله من الاعتاد، والتاء فيه أصلية وليست مبدلة من دال على الأصح ؛ ومنه العتاد بمعنى العدة للشيء. ومعنى «أعتدنا » : أرصدنا وأعددنا. والمراد بالظالمين هنا : الكفار. بدليل قوله قبله ﴿ وَمَن شاء فَلْيَكْفُرْ ﴾ وقد قدمنا كثرة إطلاق الظلم على الكفر في القرآن. كقوله :﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بني لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ١٣ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ٢٥٤ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ ١٠٦ ﴾ ونحو ذلك من الآيات. وقد قدمنا أن الظلم في لغة العرب : وضع الشيء في غير محله، ومن أعظم ذلك وضع العبادة في مخلوق. وقد جاء في القرآن إطلاق الظلم على النقص في قوله :﴿ وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئًا ﴾ وأصل معنى مادة الظلم هو ما ذكرنا من وضع الشيء في غير موضعه، ولأجل ذلك قيل الذي يضرب اللبن قبل أن يروب : ظالم لوضعه ضرب لبنه في غير موضعه، لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده. ومن هذا المعنى قول الشاعر :
وقائلة ظلمت لكم سقائي وهل يخفى على العكد الظليم
فقوله «ظلمت لكم سقائي » أي ضربته لكم قبل أن يروب. ومنه قول الآخر في سقاء له ظلمه بنحو ذلك :
وصاحب صدق لم تربني شكاته ظلمت وفي ظلمي له عامداً أجر
وفي لغز الحريري في مقاماته في الذي يضرب لبنه قبل أن يروب قال : أيجوز أن يكون الحاكم ظالماً ؟ قال : نعم، إذا كان عالماً. ومن ذلك أيضاً قولهم للأرض التي حفر فيها وليست محل حفر في السابق : أرض مظلومة، ومنه قول نابغة ذبيان :
إلا الأواري لأياً ما أبينها والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
وما زعمه بعضهم من أن «المظلومة » في البيت هي التي ظلمها المطر بتخلفه عنها وقت إبانه المعتاد غير صواب. والصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى. ولأجل ما ذكرنا قالوا للتراب المخرج من القبر عند حفره ظليم بمعنى مظلوم، لأنه حفر في غير محل الحفر المعتاد، ومنه قول الشاعر يصف رجلاً مات ودفن :
فأصبح في غبراء بعد إشاحة على العيش مرود عليها ظليمها
وقوله ﴿ أَحَاطَ بِهِمْ ﴾ أي أحدق بهم من كل جانب. وقوله ﴿ سُرَادِقُهَا ﴾ أصل السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار. وكل بيت من كرسف فهو سرادق. والكرسف : القطن، ومنه قول رؤبة أو الكذاب الحرمازي :
يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق المجد عليك ممدود
وبيت مسردق : أن مجعول له سرادق، ومنه قول سلامة بن جندل يذكر أبريويز وقتله للنعمان بن المنذر تحت أوجل الفيلة :
هو المدخل النعمان بيتاً سماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق
هذا هو أصل معنى السرادق في اللغة. ويطلق أيضاً في اللغة على الحجرة التي حول الفسطاط.
وأما المراد بالسرادق في الآية الكريمة ففيه للعلماء أقوال مرجعها إلى شيء واحد، وهو إحداق النار بهم من كل جانب، فمن العلماء من يقول «سرداقها » : أي سورها، قاله ابن الأعرابي وغيره. ومنهم من يقول «سرداقها » : سور من نار، وهو مروي عن ابن عباس. ومنهم من يقول «سرداقها » : عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة، قاله الكلبي : ومنهم من يقول : هو دخان يحيط بهم. وهو المذكور في «المرسلات » في قوله تعالى :﴿ انطَلِقُواْ إِلَى ظِلٍّ ذي ثَلاثِ شُعَبٍ ٣٠ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ ٣١ ﴾، و«الواقعة » في قوله :﴿ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ ٤٣ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ٤٤ ﴾.
ومنهم من يقول : هو البحر المحيط بالدنيا. وروى يعلى بن أمية عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«البحر هو جهنم ثم تلا ناراً أحاط بهم سرادقها ثم قال والله لا أدخلها أبداً ما دمت حياً ولا تصيبني منها قطرة » ذكره الماوردي. وروى ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدري عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«لسرادق النار أربعة جدر كثف، كل جدار مسيرة أربعين سنة » وأخرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه : حديث حسن صحيح غريب. انتهى من القرطبي. وهذا الحديث رواه أيضاً الإمام أحمد وابن جرير وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه وابن أبي الدنيا ؛ قاله صاحب الدر المنثور وتبعه الشوكاني. وحديث يعلى بن أمية رواه أيضاً ابن جرير في تفسيره. قال الشوكاني : ورواه أحمد والبخاري وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، ورواه صاحب الدر المنثور عن البخاري في تاريخه، وأحمد وابن أبي الدنيا وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي. وعلى كل حال، فمعنى الآية الكريمة : أن النار محيطة بهم من كل جانب، كما قال تعالى :﴿ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾، وقال :﴿ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ﴾، وقال :﴿ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ٣٩ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ ﴾ يعني إن يطلبوا الغوث مما هم فيه من الكرب يغاثوا، يؤتوا بغوث هو ماء كالمهل. والمهل في اللغة : يطلق على ما أذيب من جواهر الأرض، كذائب الحديد والنحاس، والرصاص ونحو ذلك.
ويطلق أيضاً على دردي الزيت وهو عكره. والمراد بالمهل في الآية : ما أذيب من جواهر الأرض. وقيل : دردي الزيت. وقيل : هو نوع من القطران. وقيل السم.
فإن قيل : أي إغاثة في ماء كالمهل مع أنه من أشد العذاب، وكيف قال الله تعالى :﴿ يُغَاثُواْ بماء كَالْمُهْلِ ﴾.
فالجواب أن هذا من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن. ونظيره من كلام العرب قول بشر بن أبي حازم :
غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
فمعنى قوله «أعتبوا بالصيلم » : أي أرضوا بالسيف. يعني ليس لهم منا إرضاء إلا بالسيف. وقول عمرو بن معد يكرب :
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
يعني لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع. وإذا كانوا لا يغاثون إلا بماء كالمهل علم من ذلك أنهم لا إغاثة لهم البتة. والياء في قوله «يستغيثوا » والألف في قوله «يغاثوا » كانا هما مبدلة من واو، لأن مادة الاستغاثة من الأحرف الواوي العين، ولكن العين أعلت للساكن الصحيح قبلها، على حد قوله في الخلاصة :
لساكن صح انقل التحريك من ذي لين آت عين فعل كأبن
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ يَشْوِى الْوجُوهَ ﴾ أي يحرقها حتى تسقط فروة الوجه، أعاذنا الله والمسلمين منها وعن النَّبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية الكريمة أنه قال :«كالمهل يشوي الوجوه »، هو كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه. قال ابن حجر رحمه الله في ( الكافي الشاف، في تخريج أحاديث الكشاف ) : أخرجه الترمذي من طريق رشدين ابن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، واستغربه وقال : لا يعرف إلا من حديث رشدين بن سعد، وتعقب قوله بأن أحمد وأبا يعلى أخرجاه من طريق ابن لهيعة عن دراج، وبأن ابن حبان والحاكم أخرجاه من طريق وهب عن عمرو بن الحارث.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ بِئْسَ الشَّرَابُ ﴾ المخصوص بالذم فيه محذوف، تقديره : بئس الشراب ذلك الماء الذي يغاثون به. والضمير الفاعل في قوله «ساءت » عائد إلى النار. والمرتفق : مكان الارتفاق. وأصله أن يتكئ الإنسان معتمداً على مرفقه. وللعلماء في المراد بالمرتفق في الآية أقوال متقاربة في المعنى. قيل مرتفقاً. أي منزلاً، وهو مروي عن ابن عباس. وقيل مقراً، وهو مروي عن عطاء. وقيل مجلساً وهو مروي عن العتبي. وقال مجاهد : مرتفقاً أي مجتمعاً. فهو عنده مكان الارتفاق بمعنى مرافقة بعضهم لبعض في النار.
وحاصل معنى الأقوال أن النار بئس المستقر هي، وبئس المقام هي. ويدل لهذا قوله تعالى :﴿ إِنَّهَا ساءت مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ٦٦ ﴾، وكون أصل الارتفاق هو الاتكاء على المرفق معروف في كلام العرب، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
نام الخلى وبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مذبوح
ويروى «وبت الليل مشتجراً » وعليه فلا شاهد في البيت. ومنه قول أعشى باهلة :
قد بت مرتفقاً للنجم أرقبه حيران ذا حذر لو ينفع الحذر
وقول الراجز :
قالت له وارتفقت ألا فتى يسوق بالقوم غزالات الضحا
وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من صفات هذا الشراب، الذي يسقى به أهل النار جاء نحوه في آيات كثيرة، كقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ٧٠ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَسُقُواْ ماء حَمِيماً فَقَطَّعَ أمعاءهم ١٥ ﴾، وقوله تعالى :﴿ تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ٥ ﴾، وقوله تعالى :﴿ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ٤٤ ﴾ والحميم الآني من الماء المتناهي في الحرارة.
وقوله تعالى :﴿ وَيُسْقَى مِن ماء صَدِيد ١٦ ٍيَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ﴾ الآية، وقوله تعالى :{ ثُ
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ٣٠ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من عمل صالحاً وأحسن في عمله أنه جلا وعلا لا يضيع أجره، أي جزاء عمله : بل يجازى بعمله الحسن الجزاء الأوفى.
وبين هذا المعنى في آيات كثيرة جداً، كقوله تعالى :﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ﴾ ؛ وقوله تعالى :﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ١٧١ ﴾ وقوله ﴿ هَلْ جزاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ٦٠ ﴾ والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جداً. وفي هذا المعنى الكريمة سؤلان معروفان عند العلماء :
الأول أن يقال أين خبر «إن » في قوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ؟ فإذا قيل : خبرها جملة ﴿ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ٣٠ ﴾ توجه السؤال.
الثاني وهو أن يقال : أين رابط الجملة الخبرية بالمبتدأ الذي هو اسم «إن » ؟.
اعلم أن خبر «إن » في قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ قيل هو جملة ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ وعليه فقوله :﴿ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ٣٠ ﴾ جملة اعتراضية. وعلى هذا فالرابط موجود ولا إشكال فيه. وقيل :«إن » الثانية واسمها وخبرها، كل ذلك خبر «إن » الأولى. ونظير الآية من القرآن في الإخبار عن «إن » ب«إن » وخبرها واسمها قوله تعالى في سورة «الحج » :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ﴾ الآية، وقول الشاعر :
إن الخليفة إن الله ألبسه سربال ملك به ترجى الخواتيم
على أظهر الوجهين في خبر «إن » الأولى في البيت. وعلى هذا فالجواب عن السؤال الثاني من وجهين :
الأول أن الضمير الرابط محذوف، تقديره : لا نضيع أجر من أحسن منهم عملاً : كقولهم : السمن منوان بدرهم، أي منوان منه بدرهم، كما تقدم في قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ﴾ الآية. أي يتربصن بعدهم.
الوجه الثاني أن ﴿ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾ هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وإذا كان الذين آمنوا، ومن أحسن عملاً ينظمها معنى واحد قام ذلك مقام الربط بالضمير. وهذا هو مذهب الأخفش، وهو الصواب. لأن الربط حاصل بالاتحاد في المعنى.
قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ ﴾ إلى قوله ﴿ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ٣١ ﴾.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أجر من أحسن عملاً، فذكر أنه جنات عدن تجري من تحتهم فيها الأنهار، ويحلون فيها أساور الذهب، ويلبسون فيها الثياب الخضر من السندس والاستبرق، في حال كونهم متكئين فيها على الأرائك وهي السرر في الحجال والحجال : جمع حجلة وهو بيت يزين للعروس بجميع أنواع الزينة. ثم أثنى على ثوابهم بقوله :﴿ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ٣١ ﴾ : وهذا الذي بينه هنا من صفات جزاء المحسنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات جاء مبيناً في مواضع كثيرة جداً من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى في سورة «الإنسان » :﴿ إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ٥ ﴾ إلى قوله ﴿ وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ٢٢ ﴾، وكقوله في سورة «الواقعة »، ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ١١ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ ١٢ ﴾ إلى قوله ﴿ لأصحاب الْيَمِينِ ٣٨ ﴾ وأمثال ذلك كثيرة في القرآن :
وقد بين في سورة «السجدة » أن ما أخفاه الله لهم من قرة أعين لا يعلمه إلا هو جل وعلا، وذلك في قوله :﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ الآية.
وقوله في هذه الآية الكريمة. ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ أي إقامة لا رحيل بعدها ولا تحول ؛ كما قال تعالى :﴿ لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ١٠٨ ﴾ أصله من عدن بالمكان : إذا أقام به. وقد تقدم في سورة «النحل » معنى السندس والاستبرق بما أغنى عن إعادته هنا، والأساور : جمع سوار. وقال بعضهم : جمع أسورة. والثواب : الجزاء مطلقاً على التحقيق ؛ ومنه قول الشاعر :
لكل أخي مدح ثواب علمته وليس لمدح الباهلي ثواب
وقول من قال : إن الثواب في اللغة يختص بجزاء الخير بالخير غير صواب : بل يطلق الثواب أيضاً على جزاء الشر بالشر ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ٣٦ ﴾، وقوله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ﴾ الآية.
وقوله :﴿ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ٣١ ﴾ الضمير في قوله «حسنت » راجع إلى «جنات عدن ». والمرتفق قد قدمنا أقوال العلماء فيه. وقوله هنا في الجنة «وحسنت مرتفقاً » يبين معناه قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً ٧٥ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ٧٦ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ ما أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً ٣٥ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن هذا الرجل الكافر الظالم لنفسه، الذي ضربه مثلاً مع الرجل المؤمن في هذه الآيات لرؤساء الكفار، الذين افتخروا بالمال والجاه على ضعفاء المسلمين الفقراء كما تقدم أنه دخل جنته في حال كونه ظالماً لنفسه وقال : إنه ما يظن أن تهلك جنته ولا تفنى : لما رأى من حسنها ونضارتها ؟ وقال : إنه لا يظن الساعة قائمة، وإنه إن قدر أنه يبعث ويرد إلى ربه ليجدن عنده خيراً من الجنة التي أعطاه في الدنيا.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة : من جهل الكفار واغترارهم بمتاع الحياة الدنيا، وظنهم أن الآخرة كالدنيا ينعم عليهم فيها أيضاً بالمال والولد، كما أنعم عليهم في الدنيا جاء مبيناً في آيات أخر، كقوله في «فصلت » :﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضراء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لي وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى ربّي إِنَّ لي عِندَهُ لَلْحُسْنَى ﴾، وقوله في «مريم » :﴿ أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ٧٧ ﴾ وقوله في «سبأ » :﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ٣٥ ﴾. وقوله في هذه السورة الكريمة :﴿ فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ٣٤ ﴾.
وبين جل وعلا كذبهم واغترارهم فيما ادعوه : من أنهم يجدون نعمة الله في الآخرة كما أنعم عليهم بها في الدنيا في مواضع كثيرة، كقوله :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين ٥٥ َنُسَارِعُ لَهُمْ في الْخَيْرَاتِ بَل ﴾، وقوله ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ١٨٢ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كيدي مَتِينٌ ١٨٣ ﴾، وقوله ﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأنفسهم إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ١٧٨ ﴾، وقوله :﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ ما أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ٢ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله :﴿ مُنْقَلَباً ٣٦ ﴾ أي مرجعاً وعاقبة. وانتصابه على التمييز. وقوله :﴿ لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا ﴾ قرأه ابن عامر ونافع وابن كثير «منهما » بصيغة تثنية الضمير. وقرأه الباقون «منها » بصيغة إفراد هاء الغائبة. فالضمير على قراءة تثنيته راجع إلى الجنتين في قوله ﴿ جَعَلْنَا لأحدهما جَنَّتَيْنِ ﴾، وقوله :﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ١٨ ﴾. وعلى قراءة الإفراد راجع إلى الجنة في قوله :﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ ﴾ الآية.
فإن قيل : ما وجه إفراد الجنة مع أنهما جنتان ؟ فالجواب أنه قال ما ذكره الله عنه حين دخل إحداهما، إذ لا يمكن دخوله فيهما معاً في وقت واحد. وما أجاب به الزمخشري عن هذا السؤال ظاهر السقوط، كما نبه عليه أبو حيان في البحر.
قوله تعالى :﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ٣٧ ﴾.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن ذلك الرجل المؤمن المضروب مثلاً للمؤمنين، الذين تكبر عليهم أولو المال والجاه من الكفار، قال لصاحبه الآخر الكافر المضروب مثلاً لذوي المال والجاه من الكفار، منكراً عليه كفره أكفرت بالذي خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم سواك رجلاً، لأن خلقه إياه من تراب ثم من نطفة، ثم تسويته إياه رجلاً، كل ذلك يقتضي إيمانه بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود، وجعله بشراً سوياً، ويجعله يستبعد منه كل البعد الكفر بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود. وهذا المعنى المبين هنا بينه في مواضع أخر، كقوله تعالى :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٢٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَمَا لي لاَ أَعْبُدُ الذي فطرني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٢٢ ﴾ وقوله تعالى :﴿ قَالَ أَفَرَأيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ٧٥ أَنتُمْ وآباؤكم الأقدمون ٧٦ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِين ٧٧ الذي خلقني فَهُوَ يَهْدِين ٧٨ والذي هُوَ يطعمني وَيَسْقِين ٧٩ ِوَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين ٨٠ والذي يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ ٨١ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبيه وَقَوْمِهِ إنني براء مِّمَّا تَعْبُدُون ٢٦ إِلاَّ الذي فطرني فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ٢٧ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا كثيراً من الآيات الدالة على أن ضابط من يستحق العبادة وحده دون غيره أن يكون هو الذي يخلق المخلوقات، ويظهرها من العدم إلى الوجوه بما أغنى عن إعادته هنا.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ﴾ معنى خلقه إياه من تراب : أي خلق آدم الذي هو أصله من التراب ؛ كما قال تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾ الآية. ونظير الآية التي نحن بصددها قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ الآية.
وقوله :﴿ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ أي بعد أن خلق آدم من التراب، وخلق حواء من ضلعه، وجعلها زوجاً له كانت طريق إيجاد الإنسان بالتناسل. فبعد طور التراب طور النطفة، ثم طور العلقة إلى آخر أطواره المذكورة في قوله :﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ١٤ ﴾، وقوله تعالى :﴿ يَخْلُقُكُمْ في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ في ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ﴾ وقد أوضحها تعالى إيضاحاً تاماً في قوله :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ ١٢ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَارٍ مَّكِين ١٣ ٍثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ١٤ ﴾.
ومما يبين خلق الإنسان من تراب، ثم من نطفة، قوله تعالى في «السجدة » :﴿ ذلك عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ٦ الذي أَحْسَنَ كُلَّ شيء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِين ٧ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن ماء مَّهِينٍ ٨ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ٩ ﴾. وقوله في هذه الآية :﴿ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ٣٧ ﴾ كقوله ﴿ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ٤ ﴾، وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ ٧٧ ﴾ أي بعد أن كان نطفة سار إنساناً خصيماً شديد الخصومة في توحيد ربه. وقوله ﴿ سَوَّاكَ ﴾ أي خلقك مستوي الأجزاء، معتدل القامة والخلق، صحيح الأعضاء في أكمل صورة، وأحسن تقويم ؛ كقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شاقوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن ﴾، وقوله :﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾، وقوله :﴿ يا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم ٦ِ الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ٧ في أي صُورَةٍ مَّا شاء ﴾، وقوله «رجلاً » أي ذكراً بالغاً مبلغ الرجال، وربما قالت العرب للمرأة : رجلة، ومنه قول الشاعر :
كل جار ظل مغتبطا *** غير جيران بني جبلة
مزقوا ثوب فتاتهم *** لم يراعوا حرمة الرجلة
وانتصاب «رجلاً » على الحال. وقيل مفعول ثان لسوى على تضمينه معنى جعلك أو صيرك رجلاً. وقيل : هو تمييز. وليس بظاهر عندي، والظاهر أن الإنكار المدلول عليه بهمزة الإنكار في قوله ﴿ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ﴾ مضمن معنى الاستبعاد، لأنه يستبعد جداً كفر المخلوق بخالقه، الذي أبرزه من العدم إلى الوجود، ويستبعد إنكار البعث ممن علم الله أن الله خلقه من تراب، ثم من نطفة، ثم سواه رجلاً ؛ كقوله :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ الآية. ونظير الآية في الدلالة على الاستعباد لوجود موجبه قول الشاعر :
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة *** يرى غمرات الموت ثم يزورها
لأن من عاين غمرات الموت يستبعد منه اقتحامها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبّي وَلاَ أُشْرِكُ بربي أَحَدًا ٣٨ ﴾ بين فيه أن هذا الرجل المؤمن قال لصاحبه الكافر : أنت كافرا لكن أنا لست بكافر ! بل مخلص عبادتي لربي الذي خلقني ؛ أي لأنه هو الذي يستحق في أن أعبده، لأن المخلوق محتاج مثلي إلى خالق يخلقه، تلزمه عبادة خالقه كما تلزمني. ونظير قول هذا المؤمن ما قدمنا عن الرجل المؤمن المذكور في «يس » في قوله تعالى :﴿ وَمَا لي لاَ أَعْبُدُ الذي فطرني ﴾ أي أبدعني وخلقني وإليه ترجعون. وما قدمنا عن إبراهيم في قوله :﴿ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ٧٧ الذي خلقني فَهُوَ يَهْدِينِ ٧٨ ﴾ الآية، وقوله :﴿ إنني براء مِّمَّا تَعْبُدُونَ ٢٦ إِلاَّ الذي فطرني ﴾ الآية.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ﴾ بعد قوله :﴿ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ﴾ يدل على أن الشك في البعث كفر بالله تعالى. وقد صرح بذلك في أول سورة «الرعد » في قوله تعالى :﴿ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أئذا كُنَّا تُرَابًا أَإنَّا لفي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ ﴾.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ لَكُنَّا ﴾ أصله «لكن أنا » فحذفت همزة «أنا » وأدغمت نون «لكن » في نون «أنا » بعد حذف الهمزة. وقال بعضهم : نقلت حركة الهمزة إلى نون «لكن » فسقطت الهمزة بنقل حركتها، ثم أدغمت النون في النون ! ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكنا إياك لم أقل
أي لكن أنا إياك لم أقل. وقال بعضهم : لا يتعين في البيت ما ذكر ؛ لجواز أن يكون المقصود لكنني فحذف اسم «لكن » كقول الآخر :
فلو كنت ضبياً عرفت قرابتي ولكن زنجي عظيم المشافر
أي لكنك زنجي في رواية من روى زنجي بالرفع. وأنشد الكسائي لنحو هذا الحذف من «لكن أنا » قول الآخر :
لهنك من عبسية لوسمية على منوات كاذب من يقولها
قال : أراد بقوله «لهنك » لله إنك ؛ فحذف إحدى اللامين من «لله »، وحذف الهمزة من «إنك » نقله القرطبي عن أبي عبيد.
وقوله تعالى :﴿ لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبّي ﴾.
قرأه جماهير القراء في الوصل «لكن » بغير ألف بعد النون المشددة. وقرأه ابن عامر من السبعة «لكنا » بالألف في الوصل. ويروى ذلك عن عاصم، ورواه المسيلي عن نافع، ورويس عن يعقوب. واتفق الجميع على إثبات الألف في الوقف. ومد نون «أنا » لغة تميم إن كان بعدها همزة. وقال أبو حيان في البحر : إن إثبات ألف «أنا » مطلقاً في الوصل لغة بني تميم، وغيرها ما يثبتونها على الاضطرار. قال : فجاءت قراءة «لكنا » بإثبات الألف في الوصل على لغة تميم. ومن شواهد مد «أنا » قبل غير الهمزة قو الشاعر :
أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميداً قد تذريت السناما
وقول الأعشى :
فكيف أنا وانتحال القوافي بعد المشيب كفى ذاك عارا
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ﴾ جملة حالية. والمحاورة : المراجعة في الكلام : ومنه قوله تعالى :﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تحاوركما ﴾، وقول عنترة في معلقته :
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الجواب مكلمي
وكلام المفسرين في الرجلين المذكورين هنا في قصتهما كبيان أسمائها، ومن أي الناس هما أعرضنا عنه لما ذكرنا سابقاً من عدم الفائدة فيه، وعدم الدليل المقنع عليه. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ أَوْ يُصْبِحَ ماؤها غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ٤١ ﴾.
معنى قوله :«غوراً » أي غائراً ؛ فهو من الوصف بالمصدر. كما قال في الخلاصة :
ونعتوا بمصدر كثيرا *** فالتزموا الإفراد والتذكيرا
والغائر : ضد النابع. وقوله :﴿ فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ٤١ ﴾ لأن الله إذا أعدم ماءها بعد وجوده، لا تجد من يقدر على أن يأتيك به غيره جل وعلا. وأشار إلى نحو هذا المعنى في قوله تعالى :﴿ قُلْ أرأيتم إِنْ أَصْبَحَ ماؤكم غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بماء مَّعِينٍ ٣٠ ﴾ ولا شك أن الجواب الصحيح : لا يقدر على أن يأتينا به إلا الله وحده ؛ كما قال هنا :﴿ فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ٤١ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرا ٤٣ ﴾.
اعلم أن في هذه الآية الكريمة : قراءات سبعية، وأقوالاً لعلماء التفسير، بعضها يشهد له قرآن، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن الآية قد تكون فيها مذاهب العلماء، يشهد لكل واحد منها قرآن ؛ فنذكر الجميع وأدلته في القرآن. فإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله في هذه الآية :﴿ وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ ﴾ قرأه السبعة ما عدا حمزة والكسائي بالتاء المثناة الفوقية. وقرأه حمزة والكسائي «ولم يكن له فئة » بالياء المثناة التحتية.
وقوله ﴿ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ﴾ قرأه السبعة ما عدا حمزة والكسائي أيضاً «الولاية » بفتح الواو. وقرأه حمزة والكسائي بكسر الواو. وقوله «الحق » قرأه السبعة ما عدا أبا عمرو والكسائي بالخفض نعتاً «لله » وقرأه أبو عمرو والكسائي بالرفع نعتاً للولاية. فعلى قراءة من قرأ «الولاية لله » بفتح الواو فإن معناها : الموالاة والصلة، وعلى هذه القراءة ففي معنى الآية وجهان :
الأول أن معنى ﴿ هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ ﴾ أي في ذلك المقام، وتلك الحال تكون الولاية من كل أحد لله، لأن الكافر إذا رأى العذاب رجع إلى الله. وعلى هذا المعنى فالآية كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ٨٤ ﴾، وقوله في فرعون :﴿ حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إسرائيل وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ٩٠ الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ٩١ ﴾ ونحو ذلك من الآيات.
الوجه الثاني أن الولاية في مثل ذلك المقام وتلك الحال لله وحده، فيوالى فيه المسلمين ولاية رحمة، كما في قوله تعالى :﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية، وقوله :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ١١ ﴾. وله على الكافرين ولاية الملك والقهر، كما في قوله :﴿ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ٣٠ ﴾. وعلى قراءة حمزة والكسائي فالولاية بالكسر بمعنى الملك والسلطان، والآية على هذه القراءة كقوله :﴿ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ١٦ ﴾ وقوله ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ للرحمن ﴾ الآية، وقوله :﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾. وعلى قراءة «الحق » بالجر نعتاً لله، فالآية كقوله ﴿ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ ما ﴾ الآية. وقوله ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ﴾ الآية، وقوله :﴿ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ٢٥ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات. وعلى قراءة «الحق » بالرفع نعتاً للولاية، على أن الولاية بمعنى الملك، فهو كقوله :﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ الآية.
وما ذكره جل وعلا عن هذا الكافر : من أنه لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله ذكره نحوه عن غيره من الكفار، كقوله في قارون :﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ٨١ ﴾، وقوله :﴿ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ ١٠ ﴾، والآيات بمثل هذا كثيرة جداً. وقوله ﴿ هُنَالِكَ ﴾ قال بعض العلماء ؛ هو متعلق بما بعده، والوقف تام على قوله ﴿ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً ٤٣ ﴾. وقال بعضهم : هو متعلق بما قبله، فعلى القول الأول فالظرف الذي هو «هنالك » عامله ما بعده، أي الولاية كائنة لله هنالك. وعلى الثاني فالعامل في الظرف اسم الفاعل الذي هو «منتصراً » أي لم يكن انتصاره واقعاً هنالك. وقوله :﴿ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا ﴾ أي جزاء كما تقدم. وقوله «عقباً » أي عاقبة ومآلاً. وقرأه السبعة ما عدا عاصماً وحمزة «عقباً » بضمتين. وقراءة عاصم وحمزة «عقباً » بضم العين وسكون القاف والمعنى واحد. وقوله «ثواباً » وقوله «عقباً » كلاهما منصوب على التمييز بعد صيغة التفضيل التي هي «خير » كما قال في الخلاصة :
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلاً كأنت أعلى منزلا
ولفظة خير وشر كلتاهما تأتي صيغة تفضيل حذفت منها الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال، قال ابن مالك في الكافية.
وغالباً أغناهم خير وشر عن قولهم أخير منه وأشر
تنبيه
قوله في هذه الآية الكريمة ﴿ فِئَةٌ ﴾ محذوف منه حرف بلا خلاف، إلا أن العلماء اختلفوا في الحرف المحذوف ؛ هل هو ياء أو واو، وهل هو العين أو اللام ؟ قال بعضهم : المحذوف العين، وأصله ياء. وأصل المادة ف ي أ، من فاء يفيء : إذا رجع، لأن فئة الرجل طائفته التي يرجع إليها في أموره، وعلى هذا فالتاء عوض عن العين المحذوفة، ووزنه بالميزان الصرفي «فلة » وقال بعضهم : المحذوف اللام. وأصله واو، من فأوت رأسه : إذا شققته نصفين. وعليه فالفئة الفرقة من الناس. وعلى هذا فوزنه بالميزان الصرفي «فعة » والتاء عوض عن اللام. وكلا القولين نصره بعض أهل العلم، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحياة الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا ٤٦ ﴾ الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، وأن الباقيات الصالحات خير عند الله ثواباً وخير أملاً.
والمراد من الآية الكريمة تنبيه الناس للعمل الصالح ؛ لئلا يشتغلوا بزينة الحياة الدنيا من المال والبنين عما ينفعهم في الآخرة عند الله من الأعمال الباقيات الصالحات. وهذا المعنى الذي أشار له هنا جاء مبيناً في آيات أخر ؛ كقوله تعالى :﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النساء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلك مَتَاعُ الحياة الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَئاب ١٤ ِقُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ الآية، وقوله :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ٩ ﴾، وقوله :﴿ إنما أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ١٥ ﴾، وقوله :﴿ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ الآية، وقوله :﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون ٨٨ َإِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ٨٩ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الإنسان لا ينبغي له الاشتغال بزينة الحياة الدنيا عما ينفعه في آخرته. وأقوال العلماء في الباقيات الصالحات كلها راجعة إلى شيء واحد، وهو الأعمال التي ترضي الله، سواء قلنا : إنها الصلوات الخمس، كما هو مروي عن جماعة من السلف ؛ منهم ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبو ميسرة، وعمرو بن شرحبيل. أو أنها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وعلى هذا القول جمهور العلماء، وجاءت دالة عليه أحاديث مرفوعة عن أبي سعيد الخدري، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، والنعمان بن بشير، وعائشة رضي الله عنهم.
قال مقيده عفا الله عنه : التحقيق أن «الباقيات الصالحات » لفظ عام، يشمل الصلوات الخمس، والكلمات الخمس المذكورة، وغير ذلك من الأعمال التي ترضي الله تعالى : لأنها باقية لصاحبها غير زائلة. ولا فانية كزينة الحياة الدنيا، ولأنها أيضاً صالحة لوقوعها على الوجه الذي يرضي الله تعالى. وقوله ﴿ خَيْرٌ ثَوَابًا ﴾ تقدم معناه. وقوله ﴿ وَخَيْرٌ أَمَلاً ٤٦ ﴾ أي الذي يؤمل من عواقب الباقيات الصالحات، خير مما يؤمله أهل الدنيا من زينة حياتهم الدنيا وأصل الأمل : طمع الإنسان بحصول ما يرجوه في المستقبل. ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى في «مريم » :﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ٧٦ ﴾ والمرد :
المرجع إلى الله يوم القيامة. وقال بعض العلماء :«مرداً » مصدر ميمي، أي وخير رداً للثواب على فاعلها، فليست كأعمال الكفار التي لا ترد ثواباً على صاحبها.
قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ٤٧ ﴾ الآية.
قوله «ويوم » منصوب باذكر مقدراً. أو بفعل القول المحذوف قبل قوله :﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ﴾ أي قلنا لهم يوم نسير الجبال : لقد جئتمونا فرادى. وقول من زعم أن العامل فيه «خير » يعني والباقيات الصالحات خير يوم نسير الجبال بعيد جداً كما ترى.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن يوم القيامة يختل فيه نظام هذا العام الدنيوي، فتسير جباله، وتبقى أرضه بارزة لا حجر فيها ولا شجر، ولا بناء ولا وادي ولا علم ذكره في مواضع أخر كثيرة، فذكر أنه يوم القيامة يحمل الأرض والجبال من أماكنهما، ويدكهما دكة واحدة، وذلك في قوله :﴿ فَإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ١٣ وَحُمِلَتِ الأرض وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ١٤ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ١٥ ﴾ الآية.
وما ذكره من تسيير الجبال في هذه الآية الكريمة ذكره أيضاً في مواضع أخر، كقوله :﴿ يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْراً ٩ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً ١٠ ﴾، وقوله :﴿ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً ٢٠ ﴾، وقوله :﴿ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ٣ ﴾، وقوله :﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾ الآية.
ثم ذكر في مواضع أخر أنه جل وعلا يَفتتها حتى تذهب صلابتها الحجرية وتلين، فتكون في عدم صلابتها ولينها كالعهن المنفوش، وكالرمل المتهايل، كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَكُونُ السماء كَالْمُهْلِ ٨ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ٩ ﴾، وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث ٤ ِوَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ﴾ والعهن : الصوف. وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً ٥ ﴾ أي فتتت حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن، على أشهر التفسيرات.
ثم ذكر جل وعلا ب أنه يجعلها هباء وسراباً ؛ قال :﴿ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّا ٥ ًفَكَانَتْ هباء مُّنبَثّاً ٦ ﴾، وقال :﴿ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً ٢٠ ﴾.
وبين في موضع آخر أن السراب عبارة عن لا شيء ؛ وهو قوله ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ﴾ إلى قوله ﴿ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾.
وقوله :﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ ﴾ قرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو «تسير الجبال » بالتاء المثناة الفوقية وفتح الياء المشددة من قوله «تسير » مبيناً للمفعول. و﴿ الْجِبَالُ ﴾ بالرفع نائب فاعل ﴿ تسير ﴾ والفاعل المحذوف ضمير يعود إلى الله جل وعلا. وقرأه باقي السبعة «نسير » بالنون وكسر الياء المشددة مبنياً للفاعل، و«الجبال » منصوب مفعول به، والنون في قوله «نسير » التعظيم.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَتَرَى الأرض بَارِزَةً ﴾ البروز : الظهور ؛ أي ترى الأرض ظاهرة منكشفة لذهاب الجبال والظراب والآكام، والشجر والعمارات التي كانت عليها. وهذا المعنى الذي ذكره هنا بينه أيضاً في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى :﴿ وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا ربّي نَسْفاً ١٠٥ فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ١٠٦ لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً ١٠٧ ﴾. وأقوال العلماء في معنى ذلك راجعة إلى شيء واحد، وهو أنها أرض مستوية لا نبات فيها، ولا بناء ولا ارتفاع ولا انحدار. وقول من قال : إن معنى ﴿ وَتَرَى الأرض بَارِزَةً ﴾ أي بارزاً ما كان في بطنها من الأموات والكنوز بعيد جداً كما ترى. وبروز ما في بطنها من الأموات والكنوز دلت عليه آيات أخر ؛ كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا الأرض مُدَّتْ ٣ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ٤ ﴾، وقوله تعالى :﴿ أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا في الْقُبُورِ ٩ وَحُصِّلَ مَا في الصُّدُورِ ١٠ ﴾، وقوله :﴿ وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا ٢ ﴾، وقوله :﴿ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ٤ ﴾.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ ﴾ أي جمعناهم للحساب والجزاء. وهذا الجمع المعير عنه بالحشر هنا جاء مذكوراً في آيات أخر، كقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين ٤٩ َلَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ٥٠ ﴾، وقوله تعالى :﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴾، وقوله تعالى :﴿ ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ١٠٣ ﴾. وقوله :﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وبين في مواضع آخر أن هذا الحشر المذكور شامل للعقلاء وغيرهم من أجناس المخلوقات، وهو قوله تعالى :﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ في الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِن شيء ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ٣٨ ﴾.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ٤٧ ﴾ أي لم نترك. والمغادرة : الترك ؛ ومنه الغدر. لأنه ترك الوفاء والأمانة. وسمي الغدير من الماء غديراً، لأن السيل ذهب وتركه. ومن المغادرة بمعنى الترك قول عنترة في مطلع معلقته :
هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم
وقوله أيضاً :
غادرته متعفراً أوصاله والقوم بين مجرح ومجدل
وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أنه حشرهم ولم يترك منهم أحداً جاء مبيناً في مواضع أخر، كقوله :﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ﴾ الآية، ونحوها من الآيات، لأن حشرهم جميعاً هو معنى أنه لم يغادر منهم أحداً.
قوله تعالى :﴿ وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَا ﴾ الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الخلائق يوم القيامة يعرضون على ربهم صفاً، أي في حال كونهم مصطفين. قال بعض العلماء : صفاً بعد صف. وقال بعضهم : صفاً واحداً وقال بعض العلماء «صفاً » أي جميعاً، كقوله ﴿ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً ﴾ على القول فيه بذلك. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع : يا عبادي، أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين. يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. أحضروا حجتكم ويسروا جواباً فإنكم مسؤولون محاسبون. يا ملائكتي، أقيموا عبادي صفوفاً على أطراف أنامل أقدامهم للحساب ». قلت : هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية. ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة ومنه نقلناه، والحمد لله. انتهى كلام القرطبي. والحديث المذكور يدل على أن «صفا » في هذه الآية يراد به صفوفاً ؛ كقوله في الملائكة :﴿ وجاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ٢٢ ﴾. ونظير الآية قوله في الملائكة :﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَاباً ٣٨ ﴾.
فإذا علمت أن الله جل وعلا ذكر في هذه الآية الكريمة حالاً من أحوال عرض الخلائق عليه يوم القيامة فاعلم أنه بين في مواضع أخر أشياء أخر من أحوال عرضهم عليه ؛ كقوله :﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ١٨ ﴾. وبين في مواضع أخر ما يلاقيه الكفار، وما يقال لهم عند ذلك العرض على ربهم ؛ كقوله :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ١٨ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ويبغضونها عِوَجًا وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ ﴾.
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ صَفَّا ﴾ أصله مصدر، والمصدر المنكر قد يكون حالاً على حد قوله في الخلاصة :
ومصدر منكر حالاً يقع *** بكثرة كبغتة زيد طلع
قوله تعالى :﴿ لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ الآية.
هذا الكلام مقول قول محذوف. وحذف القول مطرد في اللغة العربية، كثير جداً في القرآن العظيم. والمعنى : يقال لهم يوم القيامة لقد جئتمونا، أي والله لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة، أي حفاة عراة غرلاً، أي غير مختونين، كل واحد منكم فرد لا مال معه ولا ولد، ولا خدم ولا حشم.
وقد أوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله :﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شفعاءكم الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شركاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ٩٤ ﴾، وقوله :﴿ لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً ٩٤ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ٩٥ ﴾ وقوله تعالى :﴿ كَمَا بدأنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ ﴾ الآية، وقوله :﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ٢٩ ﴾ تقدم.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ ﴾ «ما » مصدرية، والمصدر المنسبك منها ومن صلتها نعت لمصدر محذوف على حذف مضاف. وإيضاح تقريره : ولقد جئتمونا كما خلقناكم، أي مجيئاً مثل مجيء خلقكم، أي حفاة غراة غرلاً كما جاء في الحديث، وخالين من المال والولد. وهذا الإعراب هو مقتضى كلام أبي حيان في البحر. ويظهر لي أنه يجوز إعرابه أيضاً حالاً، أي جئتمونا في حال كونكم مشابهين لكم في حالتكم الأولى، لأن التشبيه يؤول بمعنى الوصف، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
ويكثر الجمود في سعر وفي *** مبدي تأول بلا تكلف
كبعه مدا بكذا يداً بيد *** وكر زيد أسداً أي كأسد
فقوله «وكر زيد أسداً أي كأسد » مثال لمبدي التأول، لأنه في تأويل كر في حال كونه مشابهاً للأسد كما ذكرنا واعلم أن حذف القول وإثبات مقوله مطرد في اللغة العربية، وكثير في القرآن العظيم كما ذكرناه آنفاً. لكن عكسه وهو إثبات القول وحذف مقوله قليل جداً، ومنه قول الشاعر :
لنحن الألى قلتم فأني ملئتم *** برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا
لأن المراد لنحن الألى قلتم نقاتلهم، فحذف جملة نقاتلهم التي هي مقول القول.
وقوله ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا ﴾ عبر فيه بالماضي وأراد المستقبل، لأن تحقيق وقوع ذلك ينزله منزلة الواقع بالفعل. والتعبير بصيغة الماضي عن المستقبل لما ذكرنا كثير جداً في القرآن العظيم، ومنه قوله هنا :﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ ﴾، وقوله :﴿ وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ ﴾، وقوله :﴿ لَّقَدْ جِئْتُمُونَا ﴾. ومنه قوله :﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ﴾، وقوله :﴿ وَنُفِخَ في الصُّورِ ﴾، وقوله :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ وقوله :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ ﴾ ونحو ذلك كثير في القرآن لما ذكرنا.
قوله تعالى :﴿ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا ٤٨ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار زعموا أن الله لن يجعل لهم موعداً. والموعد يشمل زمان الوعد ومكانه. والمعنى : أنهم زعموا أن الله لم يجعل وقتاً ولا مكاناً لإنجاز ما وعدهم على ألسنة رسله من البعث والجزاء والحساب.. وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من إنكارهم البعث جاء مبيناً في آيات كثيرة، كقوله تعالى :﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ ﴾ الآية. وقوله عنهم :﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ٢٩ ﴾، ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ٣٥ ﴾ ونحو ذلك من الآيات.
وقد بين الله تعالى كذبهم في إنكارهم للبعث في آيات كثيرة. كقوله في هذه السورة الكريمة :﴿ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ٥٨ ﴾، وقوله ﴿ قُلْ بَلَى وَربّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ﴾، وقوله :﴿ كَمَا بدأنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ١٠٤ ﴾ والآيات بمثل هذا كثيرة جداً. وقد قدمنا في سورة «البقرة » وسورة «النحل » البراهين التي يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ بَلْ زَعَمْتُمْ ﴾ إضراب انتقالي من خبر إلى خبر آخر، لا إبطالي كما هو واضح. وأن في قوله ﴿ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ ﴾. مخففة من الثقيلة، وجملة الفعل الذي بعدها خبرها، والاسم ضمير الشأن المحذوف ؛ على حد قوله في الخلاصة : وإن تخفف أن.. البيت والفعل المذكور متصرف وليس بدعاء، ففصل بينه وبينها بالنفي ؛ على حد قوله في الخلاصة : وإن يكن فعلاً ولم يكن دعا.. البيتين.
قوله تعالى :﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنَا مَال هذا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكتاب يوضع يوم القيامة. والمراد بالكتاب : جنس الكتاب ؛ فيشمل جميع الصحف التي كتبت فيها أعمال المكلفين في دار الدنيا. وأن المجرمين يشفقون مما فيه ؛ أي يخافون منه، وأنهم يقولون ﴿ يا وَيْلَتَنَا مَال هذا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ ﴾. أي لا يترك ﴿ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً ﴾ من المعاصي التي عملنا ﴿ إِلاَّ أَحْصَاهَا ﴾ أي ضبطها وحصرها.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في مواضع أخر. كقوله :﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ في عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ١٣ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ١٤ ﴾. وبين أن بعضهم يؤتى كتابه بيمينه. وبعضهم يؤتاه بشماله. وبعضهم يؤتاه وراء ظهره. قال :﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ٢٥ ﴾ الآية، وقال تعالى :﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ٧ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ٨ وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ٩ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وراء ظَهْرِهِ ١٠ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً ١١ وَيَصْلَى سَعِيراً ١٢ ﴾ وقد قدمنا هذا في سورة «بني إسرائيل ». وما ذكره من وضع الكتاب هنا ذكره في «الزمر » في قوله :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وجيء بِالنَّبِيِّيْنَ والشهداء وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ ﴾ الآية.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ ﴾ تقدم معنى مثله في الكلام على قوله :﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت ﴾ الآية. والمجرمون : جمع المجرم، وهو اسم فاعل الإجرام. والإجرام : ارتكاب الجريمة، وهي الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه عليه النكال. ومعنى كونهم «مشفقين مما فيه » : أنهم خائفون مما في ذلك الكتاب من كشف أعمالهم السيئة، وفضيحتهم على رؤوس الأشهاد، وما يترتب على ذلك من العذاب السرمدي. وقولهم ﴿ يا وَيْلَتَنَا ﴾ الويلة : الهلكة، وقد نادوا هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات فقالوا : يا ويلتنا ! أي يا هلكتنا احضري فهذا أوان حضورك ! وقال أبو حيان في البحر : المراد من بحضرتهم : كأنهم قالوا : يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا. وكذا ما جاء من نداء ما لا يعقل كقوله ﴿ يا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ﴾، ﴿ يا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ في جَنبِ اللَّهِ ﴾، ﴿ يا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ﴾، وقوله : يا عجباً لهذه الفليقة، فيا عجباً من رحلها المتحمل، إنما يراد به تنبيه من يعقل بالتعجب مما حل بالمنادى انتهى كلام أبي حيان. وحاصل ما ذكره : أن أداة النداء في قوله «يا ويلتنا » ينادى بها محذوف، وأن ما بعدها مفعول فعل محذوف، والتقدير كما ذكره : يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا. ومعلوم أن حذف المنادى مع إثبات أداة النداء، ودلالة القرينة على المنادى المحذوف مسموع في كلام العرب ؛ ومنه قول عنترة في معلقته :
يا شاة ما قنص لمن حلت له حرمت على وليتها لم تحرم
يعني : يا قوم انظروا شاة قنص. وقول ذي الرمة :
ألا يا اسلمي يا دارمي على البلا ولا زال منهلا بجر عائك القطر
يعني : يا هذه اسلمي. وقوله تعالى :﴿ مَا لِ هذا الْكِتَابِ ﴾ أي أي شيء ثبت لهذا الكتاب ﴿ لاَ يُغَادِرُ ﴾ أي لا يترك ﴿ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً ﴾ أي من المعاصي. وقول من قال : الصغيرة القبلة، والكبيرة الزنا، ونحو ذلك من الأقوال في الآية إنما هو على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر. وللعلماء اختلاف كثير في تعريف الكبيرة معروف في الأصول. وقد صرح تعالى بأن المنهيات منها كبائر. ويفهم من ذلك أن منها صغائر. وبين أن اجتناب الكبائر يكفر الله به الصغائر ؛ وذلك في قوله :﴿ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ الآية. ويروى عن الفضيل بن عياض في هذه الآية أنه قال : ضجوا من الصغائر قبل الكبائر. وجملة «لا يغادر » حال من «الكتاب ».
تنبيه
هذه الآية الكريمة يفهم منها أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ؛ لأنهم وجدوا في كتاب أعمالهم صغائر ذنوبهم محصاة عليهم، فلو كانوا غير مخاطبين بها لما سجلت عليهم في كتاب أعمالهم. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنهم في يوم القيامة يجدون أعمالهم التي عملوها في الدنيا حاضرة محصاة عليهم. وأوضح هذا أيضاً في غير هذا الموضع، كقوله :﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا ﴾، وقوله تعالى :﴿ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ ﴾ الآية، وقوله :﴿ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّر ١٣َ ﴾، وقوله :﴿ يَوْمَ تُبْلَى السرائر ٩ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ٤٩ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا يظلم أحداً، فلا ينقص من حسنات محسن، ولا يزيد من سيئات مسيء، ولا يعاقب على غير ذنب.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٤٤ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ٤٠ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ٤٧ ﴾، وقوله :﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ ٤٦ ﴾ وقوله :﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون ٣٣ ﴾، وقوله :﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ١١٨ ﴾ والآيات بمثل ذلك كثيرة.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾.
قدمنا في سورة «البقرة » أن قوله تعالى :﴿ اسْجُدُواْ لآدم ﴾ محتمل لأن يكون أمرهم بذلك قبل وجود آدم أمراً معلقاً على وجوده. ومحتمل لأنه أمرهم بذلك تنجيزاً بعد وجود آدم. وأنه جل وعلا بين في سورة «الحجر » وسورة «ص » أن أصل الأمر بالسجود متقدم على خلق آدم معلق عليه. قال في «الحجر » وسورة «الحجر » :﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إني خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ٢٨ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن روحي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ٢٩ ﴾ وقال في «ص » :﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إني خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ ٧١ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن روحي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ٧٢ ﴾ ولا ينافي هذا أنه بعد وجود آدم جدَّدَ لهم الأمر بالسجود له تنجيزاً.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ فَسَجَدُواْ ﴾ محتمل لأن يكونوا سجدوا كلهم أو بعضهم، ولكنه بين في مواضع أخر أنهم سجدوا كلهم، كقوله :﴿ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ٣٠ ﴾ ونحوها من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة، ﴿ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ ظاهر في أن سبب فسقه عن أمر ربه كونه من الجن. وقد تقرر في الأصول في «مسلك النص » وفي «مسلك الإيماء والتنبيه » : أن الفاء من الحروف الدالة على التعليل، كقولهم : سرق فقطعت يده، أي لأجل سرقته. وسها فسجد، أي لأجل سهوه، ومن هذا القبيل قوله تعالى :﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ﴾ أي لعلة سرقتهما. وكذلك قوله هنا ﴿ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ ﴾ أي لعلة كينونته من الجن، لأن هذا الوصف فرق بينه وبين الملائكة، لأنهم امتثلوا الأمر وعصا هو. ولأجل ظاهر هذه الآية الكريمة ذهبت جماعة من العلماء إلى أن إبليس ليس من الملائكة في الأصل بل من الجن، وأنه كان يتعبد معهم، فأطلق عليهم اسمهم لأنه تبع لهم، كالحليف في القبيلة يطلق عليه اسمها. والخلاف في إبليس هل هو ملك في الأصل وقد مسخه الله شيطاناً، أو ليس في الأصل بملك، وإنما شمله لفظ الملائكة لدخوله فيهم وتعبده معهم مشهور عند أهل العلم. وحجة من قال : إن أصله ليس من الملائكة أمران : أحدهما عصية الملائكة من ارتكاب الكفر الذي ارتكبه إبليس ؛ كما قال تعالى عنهم :﴿ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ٦ ﴾، وقال تعالى :﴿ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ٢٧ ﴾. والثاني : أن الله صرح في هذه الآية الكريمة بأنه من الجن، والجن غير الملائكة. قالوا : وهو نص قرآني في محل النزاع. واحتج من قال : إنه ملك في الأصل بما تكرر في الآيات القرآنية من قوله :﴿ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون ٣٠ َإِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ قالوا : فإخراجه بالاستثناء من لفظ الملائكة دليل على أنه منهم. وقال بعضهم : والظواهر إذا كثرت صارت بمنزلة النص. ومن المعلوم أن الأصل في الاستثناء الاتصال لا الانقطاع. قالوا : ولا حجة لمن خالفنا في قوله تعالى ﴿ كَانَ مِنَ الْجِنّ ﴾ لأن الجن قبيلة من الملائكة، خلقوا من بين الملائكة من نار السموم كما روي عن ابن عباس. والعرب تعرف في لغتها إطلاق الجن على الملائكة ؛ ومنه قول الأعشى في سليمان بن داود :
وسخر من جن الملائك تسعة قياماً لديه يعملون بلا أجر
قالوا : ومن إطلاق الجن على الملائكة قوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ﴾ عند من يقول : بأن المراد بذلك قولهم : الملائكة بنات الله ؛ سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علواً كبيراً ! وممن جزم بأنه ليس من الملائكة في الأصل لظاهر هذه الآية الكريمة : الحسن البصري، وقصره الزمخشري في تفسيره. وقال القرطبي في تفسير سورة «البقرة » : إن كونه من الملائكة هو قول الجمهور : ابن عباس، وابن مسعود، وابن جريج، وابن المسيب، وقتادة وغيرهم. وهو اختيار الشيخ أبي الحسن، ورجحه الطبري، وهو ظاهر قوله «إلا إبليس » ا ه وما يذكره المفسرون عن جماعة من السلف كابن عباس وغيره : من أنه كان من أشراف الملائكة، ومن خزان الجنة، وأنه كان يدبر أمر السماء الدنيا، وأنه كان اسمه عزازيل كله من الإسرائيليات التي لا معول عليها.
وأظهر الحجج في المسألة حجة من قال : إنه غير ملك ؛ لأن قوله تعالى :﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ ﴾ الآية، وهو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحي. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ أي خرج عن طاعة أمر ربه. والفسق في اللغة : الخروج ؛ ومنه قول رؤبة بن العجاج :
يهوين في نجد وغوراً غائرا فواسقاً عن قصدها جوائرا
وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه. فلا حاجة لقول من قال : إن «عن » سببية، كقوله :﴿ وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ ﴾ أي بسببه وأن المعنى : ففسق عن أمر ربه، أي بسبب أمره حيث لم يمتثله، ولا غير ذلك من الأقوال.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أولياء مِن دوني وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ٥٠ ﴾ الهمزة فيه للإنكار والتوبيخ، ولا شك أن فيها معنى الاستبعاد كما تقدم نظيره مراراً. أي أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان، وشدة العداوة لكم ولأبويكم آدم وحواء تتخذونه وذريته أولياء من دون خالقكم جل وعلا ! بئس للظالمين بدلاً من الله إبليس وذريته ! وقال ﴿ لّلظَّالِمِينَ ﴾ لأنهم اعتاضوا الباطل من الحق، وجعلوا مكان ولايتهم لله ولايتهم لإبليس وذريته. وهذا من أشنع الظلم الذي هو في اللغة : وضع الشيء في غير موضعه ؛ كما تقدم مراراً. والمخصوص بالذم في الآية محذوف دل عليه المقام، وتقديره : بئس البدل من الله إبليس وذريته. وفاعل «بئس » ضمير محذوف يفسره التمييز الذي هو «بدلاً » على حد قوله له في الخلاصة :
ويرفعان مضمراً يفسره مميز كنعم قوماً معشره
والبدل : العوض من الشيء، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من عداوة الشيطان لبني آدم جاء مبيناً في آيات أخر ؛ كقوله :﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ﴾. وكذلك الأبوان، كما قال تعالى :﴿ فَقُلْنَا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ١١٧ ﴾.
وقد بين في غير هذا الموضع : أن الذين اتخذوا الشياطين أولياء بدلاً من ولاية الله يحسبون أنهم في ذلك على حق ؛ كقوله تعالى :﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أولياء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ٣٠ ﴾. وبين في مواضع أخر أن الكفار أولياء الشيطان ؛ كقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أولياء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ٢٧ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أولياؤهم الطَّاغُوتُ ﴾ الآية، وقوله :﴿ إِنَّمَا ذلكمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ١٧٥ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَذُرّيَّتَهُ ﴾ دليل على أن للشيطان ذرية ؛ فادعاء أنه لا ذرية له مناقض لهذه الآية مناقضة صريحة كما ترى. وكل ما ناقض صريح القرآن فهو باطل بلا شك ! ولكن طريقة وجود نسله هل هي عن تزويج أو غيره. لا دليل عليها من نص صريح، والعلماء مختلفون فيها. وقال الشعبي : سألني الرجل : هل لإبليس زوجة ؟ فقلت : إن ذلك عرس لم أشهده ! ثم ذكرت قوله تعالى :﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أولياء مِن دوني ﴾ فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة فقلت : نعم. وما فهمه الشعبي من هذه الآية من أن الذرية تستلزم الزوجة روي مثله عن قتادة. وقال مجاهد : إن كيفية وجود النسل منه أنه أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات : قال : فهذا أصل ذريته. وقال بعض أهل العلم : إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكراً، وفي اليسرى فرجاً، فهو ينكح هذا بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطاناً وشيطانة. ولا يخفى أن هذه الأقوال ونحوها لا معول عليها لعدم اعتضادها بدليل من كتاب أو سنة. فقد دلت الآية الكريمة على أن له ذرية. أما كيفية ولادة تلك الذرية فلم يثبت فيه نقل صحيح، ومثله لا يعرف بالرأي. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : قلت : الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميري في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني : أنه خرج في كتابه مسنداً عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ، من رواية عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فيها باض الشيطان وفرخ » وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه.
قال مقيده عفا الله عنه : هذا الحديث إنما يدل على أنه يبيض ويفرخ، ولكن لا دلالة فيه على ذلك. هل هي من أنثى هي زوجة له، أو من غير ذلك. مع أن دلالة الحديث على ما ذكرنا لا تخلو من احتمال ؛ لأنه يكثر في كلام العرب إطلاق باض وفرخ على سبيل المثل ؛ فيحتمل معنى باض وفرخ على سبيل المثل ؛ فيحتمل معنى باض وفرخ أنه فعل بها ما شاء من إضلال وإغواء ووسوسة ونحو ذلك على سبيل المثل، لأن الأمثال لا تغير ألفاظها. وما يذكره كثير من المفسرين وغيرهم من تعيين أسماء أولاده ووظائفهم التي قلدهم إياها ؛ كقوله : زلنبور صاحب الأسواق. وتبر صاحب المصائب يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب ونحو ذلك. والأعور صاحب أبواب الزنى. ومسوط صاحب الأخبار يلقها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلاً. وداسم هو الشيطان الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره ما لم يرفع من المتاع وما لم يحسن موضعه يثير شره على أهله. وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. والولهان صاحب المزامير وبه كان يكنى إبليس، إلى غير ذلك من تعيين أسمائهم ووظائفهم كله لا معول عليه ؛ إلا ما ثبت منه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. ومما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من تعيين وظيفة الشيطان واسمه ما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن خلف الباهلي، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد الجريري عن أبي العلاء : أن عثمان بن أبي العاص أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليا ! ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذاك شيطان يقال له خنرب. فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثاً » قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني.
وتحريش الشيطان بين الناس وكون إبليس يضع عرشه على البحر، ويبعث سرايا فيفتنون الناس فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة كل ذل
قوله تعالى :﴿ ما أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ٥١ ﴾ آية.
التحقيق في معنى هذه الآية الكريمة أن الله يقول : ما أشهدت إبليس وجنوده ؛ أي ما أحضرتهم خلق السماوات والأرض، فأستعين بهم على خلقها ولا خلق أنفسهم، أي ولا أشهدتهم خلق أنفسهم، أي ما أشهدت بعضهم خلق بعضهم فأستعين به على خلقه، بل تفردت بخلق جميع ذلك يغير معين ولا ظهيرا فكيف تصرفون لهم حقي وتتخذونهم أولياء من دوني وأنا خالق كل شيء ! ؟
وهذا المعنى الذي أشارت له الآية من أن الخالق هو المعبود وحده جاء مبيناً في آيات كثيرة، وقد قدمنا كثيراً منها في مواضع متعددة، كقوله :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ١٧ ﴾، وقوله :﴿ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شركاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيء وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ١٦ ﴾، وقوله :﴿ هذا خَلْقُ اللَّهِ فأروني مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ في ضَلالٍ مُّبِينٍ ١١ ﴾، وقوله تعالى :﴿ قُلْ أرأيتم شركاءكم الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أروني مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السَّمَاوَاتِ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أروني مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السَّمَاوَاتِ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات كما قدمناه مراراً. وقال بعض العلماء ﴿ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ﴾ أي : ما أشهدتهم خلق أنفسهم ؛ بل خلقتهم على ما أردت وكيف شئت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ٥١ ﴾ فيه الإظهار في محل الإضمار، لأن الأصل الظاهر. وما كنت متخذهم عضداً، كقوله :﴿ مَّا أَشْهَدتُّهُمْ ﴾ والنكتة البلاغية في الإظهار في محل الإضمار هي ذمه تعالى لهم بلفظ الإضلال. وقوله «عَضُداً » أي أعواناً.
وفي هذه الآية الكريمة التنبيه على أن الضالين المضلين لا تنبغي الاستعانة بهم، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. والمعنى المذكور أشير له في مواضع أخر ؛ كقوله تعالى :﴿ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ ١٧ ﴾ والظهير : المعين. والمضلون : الذين يضلون أتباعهم عن طريق الحق. وقد قدمنا معنى الضلال وإطلاقاته في القرآن بشواهده العربية.
قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَائيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقا ٥٢ً ﴾ الآية.
أي واذكر يوم يقول الله جل وعلا للمشركين الذين كانوا يشركون معه الآلهة والأنداد من الأصنام وغيرها من المعبودات من دون الله توبيخاً لهم وتقريعاً : نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم شركاء معي، فالمفعولان محذوفان : أي زعمتموهم شركاء لي كذباً وافتراء. أي ادعوهم واستغيثوا بهم لينصروكم ويمنعوكم من عذابي، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم، أي فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من عدم استجابتهم لهم إذا دعوهم يوم القيامة جاء موضحاً في مواضع أخر، كقوله تعالى في سورة «القصص » :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ٦٢ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هؤلاء الَّذِينَ أغوينا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تبرأنا إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ٦٣ وَقِيلَ ادْعُواْ شركاءكم فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ ٦٤ ﴾، وقوله تعالى :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير ١٣ ٍإِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دعاءكم وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ١٤ ﴾، وقوله :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دعائهم غَافِلُون ٥ َوَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أعداء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ٦ ﴾، وقوله :﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً ٨١ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ٨٢ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شفعاءكم الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شركاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ٩٤ ﴾، والآيات في تبرئهم منهم يوم القيامة، وعدم استجابتهم لهم كثيرة جداً. وخطبة الشيطان المذكورة في سورة إبراهيم في قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الأمر إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾ إلى قوله ﴿ إني كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ﴾ من قبيل ذلك المعنى المذكور في الآيات المذكورة.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ٥٢ ﴾ اختلف العلماء فيه من ثلاث جهات :
الأولى في المراد بالظرف الذي هو «بين ». والثانية في مرجع الضمير. والثالثة في المراد بالموبق. وسنذكر هنا أقوالهم، وما يظهر لنا رجحانه منها إن شاء الله تعالى.
أما الموبق : فقيل : المهلك. وقيل واد في جهنم. وقيل الموعد. قال صاحب الدر المنثور : أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ٥٢ ﴾ يقول : مهلكاً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في قوله «موبقاً » يقول : مهلكاً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في قوله «موبقاً » قال. واد في جهنم. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن أنس في قوله ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ﴾ قال : واد في جهنم من قيح ودم. وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عمر في قوله ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ٥٢ ﴾ قال : هو واد عميق في النار، فرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى والضلالة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمرو البكالي قال : الموبق الذي ذكر الله : واد في النار، بعيد القعر، يفرق الله به يوم القيامة بين أهل الإسلام وبين من سواهم من الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله تعالى ﴿ مَّوْبِقاً ﴾ قال : هو نهر يسيل ناراً على حافتيه حيات أمثال البغال الدهم، فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال : إن في النار أربعة أودية يعذب الله بها أهلها : غليظ، وموبق، وأثام، وغي. انتهى كلام صاحب الدر المنثور. ونقل ابن جرير عن بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة : أن الموبق : الموعد، واستدل لذلك بقول الشاعر :
وحاد شروري والستار فلم يدع تعاراً له والواديين بموبق
يعني بموعد. والتحقيق : أن الموبق المهلك، من قولهم وبق يبق، كوعد بعد : إذا هلك. وفيه لغة أخرى وهي وبق يوبق كرجل يوجل. ولغة ثالثة أيضاً وهي : وبق يبق كورث يرث. ومعنى كل ذلك : الهلاك. والمصدر من وبق بالفتح الوبوق على القياس، والوبق. ومن وبق بالكسر الوبق بفتحتين على القياس. وأوبقته ذنوبه : أهلكته، ومن هذا المعنى قوله تعالى :﴿ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا ﴾ أي يهلكهن، ومنه الحديث، «فموبق نفسه أو بائعها فمعتقها » وحديث «السبع الموبقات » أي المهلكات، ومن هذا المعنى قول زهير :
ومن يشتري حسن الثناء بماله يصن عرضه عن كل شنعاء موبق
وقول من قال، إن الموبق العداوة، وقول من قال : إنه المجلس كلاهما ظاهر السقوط. والتحقيق فيه هو ما قدمنا. وأما الأقوال العلماء في المراد بلفظه «بين » فعلى قول الحسن ومن وافقه : أن الموبق العداوة فالمعنى واضح ؛ أي وجعلنا بينهم عداوة ؛ كقوله :﴿ الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ في الحياة الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات. ولكن تفسير الموبق بالعداوة بعيد كما قدمنا. وقال بعض العلماء : المراد بالبين في الآية : الوصل ؛ أي وجعلنا تواصلهم في الدنيا ملكاً لهم يوم القيامة ؛ كما قال تعالى :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب ١٦٦ ﴾ أي المواصلات التي كانت بينهم في الدنيا. وكما قال :﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ٨٢ ﴾، وكما قال تعالى :﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾ ونحو ذلك من الآيات. وقال بعض العلماء :﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ٥٢ ﴾ : جعلنا الهلاك بينهم ؛ لأن كلاً منهم معين على هلاك الآخر لتعاونهم على الكفر والمعاصي فهم شركاء في العذاب ؛ كما قال تعالى :﴿ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ في الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴾، وقوله :﴿ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْف وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ ٣٨ ﴾ ومعنى هذا القول مروي عن ابن زيد. وقال بعض العلماء :﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ٥٢ ﴾ : أي بين المؤمنين والكافرين موبقاً، أي مهلكاً يفصل بينهم، فالداخل فيه، في هلاك، والخارج عنه في عافية. وأظهر الأقوال عندي وأجراها على ظاهر القرآن، أن المعنى : وجعلنا بين الكفار وبين من كانوا يعبدونهم ويشركونهم مع الله موبقاً أي مهلكاً، لأن الجميع يحيط بهم الهلاك من كل جانب، كما قال تعالى :﴿ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ﴾ الآية، وقوله :﴿ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾ الآية، وقوله :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ الآية. وقال ابن الأعرابي : كل شيء حاجز بين شيئين يسمى موبقاً، نقله عنه القرطبي. وبما ذكرنا تعلم أن الضمير في قوله «بينهم » قيل راجع إلى أهل النار. وقيل راجع إلى أهل الجنة وأهل النار معاً. وقيل راجع للمشركين وما كانوا يعبدونه من دون الله. وهذا هو أظهرها لدلالة ظاهره السياق عليه، لأن الله يقول :﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ ﴾ ثم قال مخبراً عن العابدين والمعبودين :﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ٥٢ ﴾ أي مهلكاً يفصل بينهم ويحيط بهم. وهذا المعنى كقوله :
﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وشركاؤكم فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ﴾ الآية. أي فرقنا بينهم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ ﴾ قرأه عامة السبعة ما عدا حمزة بالياء المثناة التحتية، وقرأه حمزة «نقول » بنون العظمة، وعلى قراءة الجمهور فالفاعل ضمير يعود إلى الله، أي يقول هو أي الله.
قوله تعالى :﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا ٥٣ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المجرمين يرون النار يوم القيامة، ويظنون أنهم مواقعوها، أي مخالطوها وواقعون فيها. والظن في هذه الآية بمعنى اليقين ؛ لأنهم أبصروا الحقائق وشاهدوا الواقع. وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم موقنون بالواقع ؛ كقوله عنهم :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ ربنا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ١٢ ﴾، وكقوله :﴿ فَكَشَفْنَا عَنكَ غطاءك فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ٢٢ ﴾، وقوله تعالى :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾ الآية. ومن إطلاق الظن على اليقين تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ٤٥ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ٤٦ ﴾ أي يوقنون أنهم ملاقوا ربهم. وقوله تعالى :﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ٢٤٩ ﴾. وقوله تعالى :﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ١٩ إني ظَنَنتُ أَنِّى مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ٢٠ ﴾ فالظن في هذه الآيات كلها بمعنى اليقين. والعرب تطلق الظن على اليقين وعلى الشك. ومن إطلاقه على اليقين في كلام العرب قول دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
وقول عميرة بن طارق :
بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المجرمين يرون النار، وبين في موضع آخر أنها هي تراهم أيضاً، وهو قوله تعالى :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ١١ الَّذِينَ هُمْ في خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ١٢ ﴾. وما جرى على ألسنة العلماء من أن الظن جل الاعتقاد اصطلاح للأصوليين والفقهاء. ولا مشاحة في الاصطلاح. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا ٥٣ ﴾ المصرف : المعدل، أي ولم يجدوا عن النار مكاناً ينصرفون إليه ويعدلون إليه، ليتخذوه ملجأ ومعتصماً ينجون فيه من عذاب الله. ومن إطلاق المصرف على المعدل بمعنى مكان الانصراف للاعتصام بذلك المكان قول أبي كبير الهذلي :
أزهير هل عن شيبة من مصرف أم لا خلود لباذل متكلف
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ﴾ من رأى البصرية، فهي تتعدى لمفعول واحد، والتعبير بالماضي عن المستقبل نظراً لتحقق الوقوع، فكان ذلك لتحقق وقوعه كالواقع بالفعل، كما تقدم مراراً. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا في هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شيء جَدَلاً ٥٤ ﴾.
قوله :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ﴾ أي رددنا وكثرنا تصريف الأمثال بعبارات مختلفة، وأساليب متنوعة في هذا القرآن للناس ؛ ليهتدوا إلى الحق، ويتعظوا ؛ فعارضوا بالجدل والخصومة. والمثل : هو القول الغريب السائر في الآفاق. وضرب الأمثال كثير في القرآن جداً ؛ كما قال تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ ومن أمثلة ضرب المثل فيه ﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ الآية، وقوله :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أولياء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٤١ ﴾، وقوله :﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذلك مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ساء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ الآية، وكقوله :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحياة الدُّنْيَا كماء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ الآية، وقوله :﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شيء وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٧٥ ﴾، وقوله :﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شيء وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يستوي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ٧٦ ﴾، وقوله :﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شركاء في مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سواء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ الآية. والآيات بمثل هذا كثيرة جداً. وفي هذه الأمثال وأشباهها في القرآن عبر ومواعظ وزواجر عظيمة جداً، لا لبس في الحق معها ؛ إلا أنها لا يعقل معانيها إلا أهل العلم ؛ كما قال تعالى :﴿ وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يعقلها إِلاَّ الْعَالِمُونَ ٤٣ ﴾. ومن حكم ضرب المثل : أن يتذكر الناس ؛ كما قال تعالى :﴿ وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ٢١ ﴾.
وقد بين تعالى في مواضع أخر : أن الأمثال مع إيضاحها للحق يهدي بها الله قوماً، ويضل بها قوماً آخرين. كما في قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ ماذا أَرَادَ اللَّهُ بهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ٢٦ ﴾، وأشار إلى هذا المعنى في سورة «الرعد ». لأنه لما ضرب المثل بقوله :﴿ أَنَزَلَ مِنَ السماء ماء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النَّارِ ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذلك يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جفاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الأرض كَذلك يَضْرِبُ اللَّهُ الأمثال ١٧ ﴾ أتبع ذلك بقوله :﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا في الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ١٨ ﴾. ولا شك أن الذين استجابوا لربهم هم العقلاء الذين عقلوا معنى الأمثال، وانتفعوا بما تضمنت من بيان الحق. وأن الذين لم يستجيبوا له هم الذين لم يعقلوها، ولم يعرفوا ما أوضحته من الحقائق. فالفريق الأول هم الذين قال الله فيهم ﴿ وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ﴾، والفريق الثاني هم الذين قال فيهم ﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ﴾ وقال فيهم ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴾.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ﴾ قال بعض العلماء : مفعول «صرفنا » محذوف، تقديره : البينات والعبر. وعلى هذا ف«من » للناس في هذا القرآن ليذكروا، فقابلوا ذلك بالجدال والخصام ؛ ولذا قال :﴿ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شيء جَدَلاً ٥٤ ﴾ وهذا هو الذي استظهره أبو حيان في البحر، ثم قال : وقال ابن عطية يجوز أن تكون «من » زائدة التوكيد ؛ فالتقدير : ولقد صرفنا كل مثل ؛ فيكون مفعول «صَرَّفْنَا » :«كل مثل » وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش، لا على مذهب جمهور البصريين. انتهى الغرض من كلام صاحب البحر المحيط. وقال الزمخشري :«من كل مثل » من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه ا ه. وضابط ضرب المثل الذي يرجع إليه كل معانيه التي يفسر بها : هو إيضاح معنى النظير بذكر نظيره ؛ لأن النظير يعرف بنظيره. وهذا المعنى الذي ذكره في هذه الآية الكريمة جاء مذكوراً في آيات أخر ؛ كقوله في «الإسراء » :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ في هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ٨٩ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا في هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا ٤١ ﴾، وقوله :﴿ وَكَذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ١١٣ ﴾، وقوله :﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ في هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٢٧ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ٢٨ ﴾، وقوله :﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ في هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ ٥٨ ﴾. والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
وقوله في هذه الآية :﴿ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شيء جَدَلا ٥٤ً ﴾ أي أكثر الأشياء التي من شأنها الخصومة إن فصلتها واحداً بعد واحد. «جدلاً » أي خصومة ومماراة بالباطل ليدحضوا به الحق هو السياق الذي نزلت فيه الآية الكريمة، لأن قوله :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا في هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾ أي ليذكروا ويتعظوا وينيبوا إلى ربهم : بدليل قوله :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا في هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ ﴾، وقوله :﴿ وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ٢١ ﴾ فلما أتبع ذلك بقوله :﴿ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شيء جَدَلاً ٥٤ ﴾ علمنا من سياق الآية أن الكفار أكثروا الجدل والخصوصة والمراء لإدحاض الحق الذي أوضحه الله بما ضربه في هذا القرآن من كل مثل. ولكن كون هذا هو ظاهر القرآن وسبب النزول لا ينافي تفسير الآية الكريمة بظاهر عمومها ؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما بيناه بأدلته فيما مضى. ولأجل هذا لما طرق النَّبي صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة رضي الله عنهما ليلة فقال :«ألا تصليان » ؟ وقال علي رضي الله عنه : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. انصرف النَّبي صلى الله عليه وسلم راجعاً وهو يضرب فخذه ويقول :«وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً » والحديث مشهور متفق عليه. فإيراده صلى الله عليه وسلم الآية على قول علي رضي الله عنه «إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا » دليل على عموم الآية الكريمة، وشمولها لكل خصام وجدل، لكنه قد دلت آيات أخر على أن من الجدل ما هو محمود مأمور به لإظهار الحق، كقوله تعالى :﴿ وَجَادِلْهُم بالتي هي أَحْسَنُ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بالتي هي أَحْسَنُ ﴾. وقوله «جدلاً » منصوب على التمييز، على حد قوله في الخلاصة :
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلاً كانت أعلى منزلا
وقوله ﴿ في هذا القرآن ﴾ أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل جدلاً كما تقدم. وصيغة التفضيل إذا أضيفت إلى نكرة كما في هذه الآية، أو جردت من الإضافة والتعريف بالألف واللام لزم إفرادها وتذكيرها كما عقده في الخلاصة بقوله :
وإن لمنكور يضف أو جردا ألزم تذكيراً وأن يوحدا
وقال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة مبيناً بعض الآيات المبينة للمراد بجدل الإنسان في الآية الكريمة، بعد أن ساق سنده إلى ابن زيد في قوله ﴿ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شيء جَدَلاً ٥٤ ﴾ قال : الجدل الخصومة خصومة القوم لأنبيائهم وردهم عليهم ما جاؤوا به. وقرأ ﴿ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ٣٣ ﴾، وقرأ :﴿ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾، وقرأ «حتى توفي » الآية، ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً في قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ٧ ﴾، وقرأ :﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُون ١٤ َلَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ١٥ ﴾ انتهى من تفسير الطبري. ولا شك أن هذه الآيات التي ذكر عن ابن زيد أنها مفسرة لجدل الإنسان المذكور في الآية أنها كذلك، كما قدمنا أن ذلك هو ظاهر السياق وسبب النزول، والآيات الدالة على مثل ذلك كثيرة في القرآن العظيم. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جاءهم الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ٥٥ ﴾.
في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند أهل العلم، وكلاهما تدل على مقتضاه آيات من كتاب الله تعالى، وأحد الوجهين أظهر عندي من الآخر.
الأول منهما أن معنى الآية : وما منع الناس من الإيمان والاستغفار إذ جاءتهم الرسل بالبينات الواضحات، إلا ما سبق في علمنا : من أنهم لا يؤمنون، بل يستمرون على كفرهم حتى تأتيهم سنة الأولين من الكفار، وإتيان العذاب إياهم يوم القيامة قبلاً. وعلى هذا القول فالآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جداً، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُون ٩٦ َوَلَوْ جاءتهم كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأليم ٩٧ ﴾، وقوله :﴿ وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ١٠١ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ٣٧ ﴾، وكقوله تعالى :﴿ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ في الدُّنْيَا خزي وَلَهُمْ في الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ ٤١ ﴾. والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة.
القول الثاني أن في الآية الكريمة مضافاً محذوفاً، تقديره : وما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلبهم أن تأتيهم سنة الأولين، أو يأتيهم العذاب قبلاً.
والآيات الدالة على طلبهم الهلاك والعذاب عناداً وتعنتاً كثيرة جداً، كقوله عن قوم شعيب :﴿ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السماء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ١٨٧ ﴾، وكقوله عن قوم هود :﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تعدنا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ٢٢ ﴾، وكقوله عن قوم صالح :﴿ وَقَالُواْ يَا صَالحُ ائْتِنَا بِمَا تعدنا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ٧٧ ﴾، وكقوله عن قوم لوط :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ٢٩ ﴾، وكقوله عن قوم نوح :﴿ قَالُواْ يا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تعدنا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ٣٢ ﴾.
فهذه الآيات وأمثالها في القرآن ذكر الله فيها شيئاً من سنة الأولين : أنهم يطلبون تعجيل العذاب عناداً وتعنتاً. وبين تعالى أنه أهلك جميعهم بعذاب مستأصل، كإهلاك قوم نوح بالطوفان، وقوم صالح بالصيحة، وقوم شعيب بعذاب يوم الظلة، وقوم هود بالريح العقيم، وقوم لوط بجعل عالي قراهم سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم، كما هو مفصل في الآيات القرآنية.
وبين في آيات كثيرة : أن كفار هذه الأمة كمشركي قريش سألوا العذاب كما سأله من قبلهم، كقوله :﴿ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً منَ السماء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٣٢ ﴾، وقوله :﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ١٦ ﴾ وأصل القط : كتاب الملك الذي فيه الجائزة، وصار يطلق على النصيب : فمعنى ﴿ عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا ﴾ أي نصيباً المقدر لنا من العذاب الذي تزعم وقوعه بنا إن لم نصدقك ونؤمن بك، كالنصيب الذي بقدره الملك في القط الذي هو كتاب الجائزة، ومنه قول الأعشى :
ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق
وقوله «يأفق » أي يفضل بعضاً على بعض في العطاء. والآيات بمثل ذلك كثيرة. والقول الأول أظهر عندي، لأن ما لا تقدير فيه أولى مما فيه تقدير إلا بحجة الرجوع إليها تثبت المحذوف المقدر. والله تعالى أعلم. وقد ذكرنا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) وجه الجمع بين قوله تعالى هنا :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جاءهم الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين ﴾ الآية وبين قوله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جاءهم الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ٩٤ ﴾ بما حاصله باختصار : أن المانع المذكور في سورة «الإسراء » مانع عادي يجوز تخلفه، لأن استغرابهم بعث رسول من البشر مانع عادي يجوز تخلفه لإمكان أن يستغرب الكافر بعث رسول من البشر ثم يؤمن به مع ذلك الاستغراب ؛ فالحضر في قوله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جاءهم الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ٩٤ ﴾ حضر في المانع العادي. وأما الحصر في قوله هنا ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جاءهم الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ٥٥ ﴾ فهو حصر في المانع الحقيقي، لأن إرادته جل وعلا عدم إيمانهم، وحكمه عليهم بذلك، وقضاءه به مانع حقيقي من وقوع غيره.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ٥٥ ﴾ قرأه الكوفيون : وهم عاصم وحمزة والكسائي «قبلاً » بضم القاف والباء. وقرأه الأربعة الباقون من السبعة : وهم نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر «قبلاً » بكسر القاف وفتح الباء. أما على قراءة الكوفيين فقوله «قبلاً » بضمتين جمع قبيل. والفعيل إذا كان اسماً يجمع على فعل كسرير وسرر، وطريق وطرق، وحصير وحصر، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :
وفعل لاسم رباعي بمد قد زيد قبل الام اعلالاً فقد
ما لم يضاعف في الأعم ذو الألف... إلخ.
وعلى هذا، فمعنى الآية ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ٥٥ ﴾ أي أنواعاً مختلفة، يتلو بعضها بعضاً. وعلى قراءة من قرأوا «قبلاً » كعنب، فمعناه عياناً، أي أو يأتيهم العذاب عياناً. وقال مجاهد رحمه الله «قبلاً » أي فجأة. والتحقيق : أن معناها عياناً. وأصله من المقابلة، لأن المتقابلين يعاين كل واحد منهما الآخر. وذكر أبو عبيد : أن معنى القراءتين واحد، وأن معناهما عياناً، وأصله من المقابلة. وانتصاب «قبلاً » على الحال على كلتا القراءتين. وهو على القولين المذكورين في معنى «قبلاً » إن قدرنا أنه بمعنى عياناً، فهو مصدر منكر حال كما قدمنا مراراً. وعلى أنه جمع قبيل : فهو اسم جامد مؤول بمشتق، لأنه في تأويل : أو يأتيهم العذاب في حال كونه أنواعاً وضروباً مختلفة. والمصدر المنسبك من «أن » وصلتها في قوله ﴿ أَن يُؤْمِنُواْ ﴾ في محل نصب ؛ لأنه مفعول «منع » الثاني، والمنسبك من «أَنْ » وصلتها في قوله ﴿ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين ﴾ في محل رفع، لأنه فاعل «منع » لأن الاستثناء مفرغ، وما قبل «إلا » عامل فيما بعدها، فصار التقدير : منع الناس الإيمان إتيان سنة الأولين، على حد قوله في الخلاصة :
وإن يفرغ سابق إلا لما بعد يكن كما لو إلا عدما
والاستغفار في قوله ﴿ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ ﴾ هو طلب المغفرة منه جل وعلا لجميع الذنوب السالفة بالإنابة إليه، والندم على ما فات، والعزم المصمم على عدم العود إلى الذنب.
قوله تعالى :﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾ آية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه ما يرسل الرسل إلا مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم بالنار. وكرر هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله :﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٤٨ ﴾. وقد أوضحنا معنى البشارة والإنذار في أول هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله تعالى :﴿ لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ ﴾ الآية، وانتصاب قوله «مبشرين » على الحال، أي ما نرسلهم إلا في حال كونهم مبشرين ومنذرين.
قوله تعالى :﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ ﴾ الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الذين كفروا يجادلون بالباطل، أي يخاصمون الرسل بالباطل، كقولهم في الرسول : ساحر، شاعر، كاهن. وكقولهم في القرآن : أساطير الأولين، سحر، شعر، كهانة. وكسؤالهم عن أصحاب الكهف، وذي القرنين. وسؤالهم عن الروح عناداً وتعنتا، ليبطلوا الحق بجدالهم وخصامهم بالباطل، فالجدال : المخاصمة. ومفعول «يجادل » محذوف دل ما قبله عليه، لأن قوله ﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ يدل على أن الذين يجادلهم الكفار بالباطل هم المرسلون المذكورون آنفاً، وحذف الفضلة إذا دل المقام عليها جائز، وواقع كثيراً في القرآن وفي كلام العرب : كما عقده في الخلاصة بقوله :
وحذف فضلة أجز إن لم يضر كحذف ما سيق جواباً أو حصر
والباطل : ضد الحق وكل شيء ذائل مضمحل تسميه العرب : باطلاً، ومنه قول لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
ويجمع الباطل كثيراً على أباطيل على غير القياس، فيدخل في قول ابن مالك في الخلاصة :
وحائد عن القياس كل ما خالف في البابين حكماً رسما
ومنه قول كعب بن زهير :ويجمع أيضاً على البواطل قياساً. والحق : ضد الباطل. وكل شيء ثابت غير زائل ولا مضمحل نسميه العرب حقاً. وقوله تعالى :﴿ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ ﴾ أي ليبطلوه ويزيلوه به وأصله من إدحاض القدم، وهو إزلاقها وإزالتها عن موضعها. تقول العرب، دحضت رجله : إذا زلقت، وأدحضها الله، أزلقها ودحضت حجته إذا بطلت، وأدحضها الله أبطلها، والمكان الدحض : هو الذي تزل فيه الأقدام ؟ ومنه قول طرفة :
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا وما مواعيده إلا الأباطيل
أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض
وهذا الذي ذكره هنا من مجادلة الكفار للمرسل بالباطل أوضحه في مواضع أخر : كقوله :﴿ وَالَّذِينَ يحاجون في اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ الآية. وقوله جل وعلا :﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ٣٢ ﴾، وقوله تعالى :﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ٨ ﴾ وإرادتهم إطفاء نور الله بأفواههم، إنما هي بخصامهم وجدالهم بالباطل.
وقد بين تعالى في مواضع أخر. أن ما أراده الكفار من إدحاض الحق بالباطل لا يكون، وأنهم لا يصلون إلى ما أرادوا، بل الذي سيكون هو عكس ما أرادوه فيحق ويبطل الباطل، كما قال تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ٣٣ ﴾. وكقوله :﴿ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ٣٢ ﴾، وقوله :﴿ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَقُلْ جاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ٨١ ﴾، وقوله تعالى :﴿ أَنَزَلَ مِنَ السماء ماء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النَّارِ ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذلك يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جفاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الأرض كَذلك يَضْرِبُ اللَّهُ الأمثال ١٧ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحق سيظهر ويعلو، وأن الباطل سيضمحل ويزهق ويذهب جفاء. وذلك هو نقيض ما كان يريده الكفار من إبطال الحق وإدحاضه بالباطل عن طريق الخصام والجدال.
قوله تعالى :﴿ وَاتَّخَذُواْ آياتي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً ٥٦ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار اتخذوا آياته التي أنزلها على رسوله، وإنذاره لهم هزؤا، أي سخرية واستخفافاً، والمصدر بمعنى اسم المفعول، أي اتخذوها مهزوءاً بها مستخفاً بها : كقوله :﴿ إِنَّ قومي اتَّخَذُواْ هذا القرآن مَهْجُوراً ٣٠ ﴾.
وهذا المعنى المذكور هنا جاء مبيناً في آيات كثيرة، كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً ﴾، وكقوله تعالى :﴿ يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ٣٠ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ١٠ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ ٦٥ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات. و«ما » في قوله «ما أنذروا » مصدرية، كما قررنا، وعليه فلا ضمير محذوف. وقيل هي موصولة والعائد محذوف. تقديره : وما أنذروا به هزؤا. وحذف العائد المجرور بحرف إنما يطرد بالشروط التي ذكرنا في الخلاصة بقوله :
كذلك الذي جر بما الموصول جر كمر بالذي مررت فهو بر
وفي قوله «هزوا » ثلاث قراءات سبعية قرأه حمزة بإسكان الزاي في الوصل. وبقية السبعة بضم الزاي وتحقيق الهمزة. إلا حفصاً عن عاصم فإنه يبدل الهمزة واواً، وذلك مروي عن حمزة في الوقف.
قوله تعالى ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه لا أحد أظلم ؛ أي أكثر ظلماً لنفسه ممن ذكر ؛ أي وعظ بآيات ربه، وهي هذا القرآن العظيم «فأعرض عنها » أي تولى وصد عنها. وإنما قلنا : إن المراد بالآيات هذا القرآن العظيم لقرينة تذكير الضمير العائد إلى الآيات في قوله ﴿ أَن يَفْقَهُوهُ ﴾، أي القرآن المعبر عنه بالآيات. ويحتمل شمول الآيات للقرآن وغيره، ويكون الضمير في قوله ﴿ أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ أي ما ذكر من الآيات، كقول رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجلد توليع البهق
وتظهر ذلك في القرآن قوله تعالى :﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك ﴾ أي ذلك الذي ذكر من الفارض والبكر. ونظيره من كلام العرب قول ابن الزبعري :
إن للخير وللشر مدى *** وكلا ذلك وجه وقبل
أي كلا ذلك المذكور من خير وشر. وقد قدمنا إيضاح هذا. وقوله ﴿ وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ أي من المعاصي والكفر، مع أن الله لم ينسه بل هو محصيه عليه ومجازيه، كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيد ٦ٌ ﴾، وقال تعالى :﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ٦٤ ﴾، وقال تعالى :﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ ربّي في كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ ربّي وَلاَ يَنسَى ٥٢ ﴾. وقال بعض العلماء في قوله ﴿ وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ أي تركه عمداً ولم يتب منه. وبه صدر القرطبي رحمه الله تعالى. وما ذكره في هذه الآية الكريمة من إن الإعراض عن التذكرة بآيات الله من أعظم الظلم، قد زاد عليه في مواضع أخر بيان أشياء من النتائج السيئة، والعواقب الوخيمة الناشئة من الإعراض عن التذكرة. فمن نتائجه السيئة : ما ذكره هنا من أن صاحبه من أعظم الناس ظلماً. ومن نتائجه السيئة جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق، وعدم الاهتداء أبداً كما قال هنا مبيناً بعض ما ينشأ عنه من العواقب السيئة :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً ٥٧ ﴾ ومنها انتقام الله جل وعلا من المعرض عن التذكرة، كما قال تعالى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عنها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ ٢٢ ﴾. ومنها كون المعرض كالحمار، كما قال تعالى :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين ٤٩ َكَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ٥٠ ﴾ الآية. ومنها الإنذار بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، كما قال تعالى :﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ الآية. ومنها المعيشة الضنك والعمى، كما قال تعالى :﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى ١٢٤ ﴾. ومنها سلكه العذاب الصعد، كما قال تعالى :﴿ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ١٧ ﴾ ومنها تقبيض القرناء من الشياطين، كما قال تعالى :﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ٣٦ ﴾ إلى غير ذلك من النتائج السيئة، والعواقب الوخيمة، الناشئة عن الإعراض عن التذكير بآيات الله جل وعلا. وقد أمر تعالى في موضع آخر بالإعراض عن المتولي عن ذكره، القاصر نظره على الحياة الدنيا. وبين أن ذلك هو مبلغه من العلم، فلا علم عنده بما ينفعه في معاده، وذلك في قوله تعالى :﴿ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدُّنْيَا ٢٩ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ ﴾. وقد نهى جل وعلا عن طاعة مثل ذلك المتولي عن الذكر الغافلي عنه في قوله :﴿ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ٢٨ ﴾ كما تقدم إيضاحه.
وقوله في هذه الآية :﴿ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ أي ما قدم من أعمال الكفر. ونسبة التقديم إلى خصوص اليد لأن اليد أكثر مزاولة للأعمال من غيرها من الأعضاء، فنسبت الأعمال إليها على عادة العرب في كلامهم، وإن كانت الأعمال التي قدمها منها ما ليس باليد كالكفر باللسان والقلب، وغير ذلك من الأعمال التي لا تزوال باليد كالزنى. وقد بينا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) وجه الجمع بين قوله ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ﴾ ونحو ذلك من الآيات. وأشهر أوجه الجمع في ذلك وجهان : أحدهما أن كل من قال الله فيه : ومن أظلم ممن فعل كذا، لا أحد أظلم من واحد منهم. وإذاً فهم متساوون في الظلم لا يفوق بعضهم فيه بعضاً، فلا إشكال في كون كل واحد منهم لا أحد أظلم منه. والثاني أن صلة الموصول تعين كل واحد في محله ؛ وعليه فالمعنى في قوله ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ﴾. لا أحد أظلم ممن ذكر فأعرض أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها. وفي قوله :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ﴾، لا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذباً، وهكذا. والأول أولى ؛ لأنه جار على ظاهر القرآن ولا إشكال فيه. وممن اختاره أبو حيان في البحر.
قوله تعالى :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه جعل على قلوب الظالمين المعرضين عن آيات الله إذا ذكروا بها أكنة أي أغطية تغطي قلوبهم فتمنعها من إدراك ما ينفعهم مما ذكروا به. وواحد الأكنة كنان، وهو الغطاء. وأنه جعل في آذانهم وقراً، أي ثقلاً يمنعها من سماع ما ينفعهم من الآيات الذي ذكروا بها. وهذا المعنى أوضحه الله تعالى في آيات أخر ؛ كقوله :﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾، وقوله :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهه هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا ٤٥ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ٤٦ ﴾، وقوله :﴿ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾، وقوله :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ٢٠ ﴾. والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
فإن قيل : إذا كانوا لا يستطيعون السمع ولا يبصرون ولا يفقهون، لأن الله جعل الأكنة المانعة من الفهم على قلوبهم. والوقر الذي هو الثقل المانع من السمع في آذانهم فهم مجبورون. فما وجه تعذيبهم على شيء لا يستطيعون العدول عنه والانصراف إلى غيره ؟ !
فالجواب أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة من كتابه العظيم : أن تلك الموانع التي يجعلها على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، كالختم والطبع والغشاوة والأكنة، ونحو ذلك إنما جعلها عليهم جزاء وفاقاً لما بادروا إليه من الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم، فأزاغ الله قلوبهم بالطبع والأكنة ونحو ذلك، جزاء على كفرهم، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ أي بسبب كفرهم، وهو نص قرآني صريح في أن كفرهم السابق هو سبب الطبع على قلوبهم. وقوله :﴿ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ وهو دليل أيضاً واضح على أن سبب إزاغة الله قلوبهم هو زيغهم السابق. وقوله :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾، وقوله تعالى :﴿ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ١١٠ ﴾، وقوله تعالى :﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ١٤ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الطبع على القلوب ومنعها من فهم ما ينفع عقاب من الله على الكفر السابق على ذلك. وهذا الذي ذكرنا هو وجه رد شبهة الجبرية التي يتمسكون بها في هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم. وبهذا الذي قررنا يحصل الجواب أيضاً عن سؤال يظهر لطالب العلم فيما قررنا : وهو أن يقول : قد بينتم في الكلام على الآية التي قبل هذه أن جعل الأكنة على القلوب من نتائج الإعراض عن آيات الله عند التذكير بها، مع أن ظاهر الآية يدل عكس ذلك من أن الإعراض المذكور سببه هو جعل الأكنة على القلوب، لأن «إن » من حروف التعليل كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، كقولك : اقطعه إنه سارق، وعاقبه إنه ظالم، فالمعنى : اقطعه لعله سرقته، وعاقبه لعلة ظلمه. وكذلك قوله تعالى :﴿ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ﴾ أي أعرض عنها لعلة جعل الأكنة على قلوبهم ؛ لأن الآيات الماضية دلت على أن الطبع الذي يعبر عنه تارة بالطبع، وتارة بالختم، وتارة بالأكنة، ونحو ذلك سببه الأول الإعراض عن آيات الله والكفر بها كما تقدم إيضاحه.
وفي هذه الآية الكريمة سؤالان معروفان : الأول أن يقال : ما مفسر الضمير في قوله :﴿ أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ وقد قدمنا أنه الآيات في قوله ﴿ ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ ﴾ بتضمين الآيات معنى القرآن. فقوله ﴿ أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ أي القرآن المعبر عنه بالآيات كما تقدم إيضاحه قريباً.
السؤال الثاني أن يقال : ما وجه إفراد الضمير في قوله ﴿ ذُكِرَ ﴾ وقوله :﴿ أَعْرَضَ عَنْهَا ﴾ وقوله ﴿ وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ مع الإتيان بصيغة الجمع في الضمير في قوله :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ مع أن مفسر جميع الضمائر المذكورة واحد، وهو الاسم الموصول في قوله :﴿ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ ﴾ الآية.
والجواب هو أن الإفراد باعتبار لفظ «من » والجمع باعتبار معناها، وهو كثير في القرآن العظيم. والتحقيق في مثل ذلك جواز مراعاة اللفظ تارة، ومراعاة المعنى تارة أخرى مطلقاً ؛ خلافاً لمن زعم أن مراعاة اللفظ بعد مراعاة المعنى لا تصح ؛ والدليل على صحة قوله تعالى
قوله تعالى :﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه غفور، أي كثير المغفرة، وأنه ذو الرحمة يرحم عباده المؤمنين يوم القيامة، ويرحم الخلائق في الدنيا.
وبين في مواضع أخر : أن هذه المغفرة شاملة لجميع الذنوب بمشيئته جل وعلا إلا الشرك ؛ كقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يشاء ﴾، وقوله :﴿ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ ﴾.
وبين في موضع آخر : أن رحمته واسعة، وأنه سيكتبها للمتقين ؛ وهو قوله :﴿ ورحمتي وَسِعَتْ كُلَّ شيء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة ﴾ الآية.
وبين في مواضع أخر سعة مغفرته ورحمته : كقوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾، وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾. ونحو ذلك من الآيات.
وبين في مواضع أخر أنه مع سعة رحمته ومغفرته شديد العقاب ؛ كقوله :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ٦ ﴾ وقوله :﴿ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ﴾، وقوله تعالى :﴿ نَبِّىءْ عبادي أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ٤٩ وَأَنَّ عذابي هُوَ الْعَذَابُ الأليم ٥٠ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ﴾ الآية.
بين في هذه الآية الكريمة : أنه لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من الذنوب كالكفر والمعاصي لعجل لهم العذاب لشناعة ما يرتكبونه، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة ؛ فهو يمهل ولا يهمل.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾، وقوله :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾ وقد قدمنا هذا في سورة «النحل » مستوفى.
قوله تعالى :﴿ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ٥٨ ﴾ الآية.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه وإن لم يعجل لهم العذاب في الحال فليس غافلاً عنهم ولا تاركاً عذابهم، بل هو تعالى جاعل لهم موعداً يعذبهم فيه، لا يتأخر العذاب عنه ولا يتقدم.
وبين هذا في مواضع أخر، كقوله في «النحل » :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٦١ ﴾، وقوله في آخر سورة «فاطر » :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ٤٥ ﴾، وكقوله :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ٤٢ ﴾، وكقوله :﴿ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لجاءهم الْعَذَابُ ﴾ الآية.
وقد دلت آيات كثيرة على أن الله لا يؤخر شيئاً عن وقته الذي عين له ولا يقدمه عليه، كقوله :﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جاء أجلها ﴾، وقوله :﴿ يَسْتَقْدِمُونَ ٣٤ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جاء لاَ يُؤَخَّرُ ﴾ الآية، وقوله :﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ٣٨ ﴾، وقوله :﴿ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ٥٨ ﴾ أي ملجأ يلجؤون إليه فيعتصمون به من ذلك العذاب المجعول له الموعد المذكور. وهو اسم مكان، من وأل يئل وألا ووؤلاً بمعنى لجأ. ومعلوم في فن الصرف أن واوي الفاء من الثلاثي ينقاس مصدره الميمي واسم مكانه وزمانه على المفعل بكسر العين كما هنا، ما لم يكن معتل اللام فالقياس فيه الفتح كالمولى. والعرب تقول : لا وألت نفسه، أي لا وجدت منجى تنجو به، ومنه قول الشاعر :
لا وألت نفسك خليتها *** للعامرين ولم تكلم
وقال الأعشى :
وقد أخالس رب البيت غفلته *** وقد يحاذر مني ثم ما يئل
أي ما ينجو.
وأقوال المفسرين في «الموئل » راجعة إلى ما ذكرنا، كقول بعضهم : موئلاً محيصاً، وقول بعضهم منجى. وقول بعضهم محرزاً، إلى غير ذلك. فكله بمعنى ما ذكرنا.
وقوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا ٥٩ ﴾ الآية. بين في هذه الآية الكريمة : أن القرى الماضية لما ظلمت بتكذيب الرسل والعناد واللجاج في الكفر والمعاصي أهلكهم الله بذنوبهم.
وهذا الإجمال في تعيين هذه القرى وأسباب هلاكها، وأنواع الهلاك التي وقعت بها جاء مفصلاً في آيات أخر كثيرة، كما جاء في القرآن من قصة قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وقوم موسى، كما تقدم بعض تفاصيله. والقرى : جمع قرية على غير قياس، لأن جمع التكسير على «فعل » بضم ففتح لا ينقاس إلا في جمع «فعلة » بالضم اسماً كغرفة وقربة. أو «فعلى » إذا كانت أنثى الأفعل خاصة، كالكبرى والكبر، كما أشار لذلك في الخلاصة بقوله :
وفعل جمعاً لفعلة عرف ونحو كبرى.. الخ
أي وأما في غير ذلك فسماع يحفظ ولا يقاس عليه. وزاد في التسهيل نوعاً ثالثاً ينقاس فيه «فعل » بضم ففتح، وهو الفعلة بضمتين إن كان اسماً كجمعة وجمع. واسم الإشارة في قوله :﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى ﴾ إنما أشير به لهم لأنهم يمرون عليها في أسفارهم، كقوله :﴿ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ ١٣٧ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ١٣٨ ﴾، وقوله :﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ٧٦ ﴾، وقوله :﴿ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ ٧٩ ﴾ ونحو ذلك من الآيات.
وقوله «وتلك » مبتدأ و«القرى » صفة له. أو عطف بيان. وقوله :«أهلكناهم » هو الخبر. ويجوز أن يكون الخبر هو «القرى » وجملة «أهلكناهم » في محل حال، كقوله :﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ ﴾. ويجوز أن يكون قوله :«وتلك » في محل نصب بفعل محذوف يفسره العامل المشتغل بالضمير، على حد قوله في الخلاصة :
إن مضمر اسم سابق فعلا شغل عنه بنصب لفظه أو المحل
فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهرا
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا ٥٩ ﴾ قرأه عامة السبعة ما عدا عاصماً بضم الميم وفتح اللام على صيغة اسم المفعول. وهو محتمل على هذه القراءة أن يكون مصدراً ميمياً، أي جعلنا لإهلاكهم موعداً. وأن يكون اسم زمان، أي وجعلنا لوقت إهلاكهم وعداً. وقد تقرر في فن الصرف أن كل فعل زاد ماضيه على ثلاثة أحرف مطلقاً فالقياس في مصدره الميمي واسم مكانه واسم زمانه أن يكون الجميع بصيغة اسم المفعول. والمهلك بضم الميم من أهلكه الرباعي. وقرأه حفص عن عاصم «لمهلكهم » بفتح الميم وكسر اللام. وقرأه شعبة عن عاصم «لمهلكهم » بفتح الميم واللام معاً. والظاهر أنه على قراءة حفص اسم زمان، أي وجعلنا لوقت هلاكهم موعداً. لأنه من هلك يهلك بالكسر. وما كان ماضيه على «فعل » بالفتح ومضارعه «يفعل » بالكسر كهلك يهلك، وضرب يضرب، ونزل ينزل فالقياس في اسم مكانه وزمانه «المفعل » بالكسر. وفي مصدره الميمي المفعل بالفتح. تقول هذا منزله بالكسر أي مكان نزوله أو وقت نزوله، وهذا «منزله » بفتح الزاي. أي نزوله، وهكذا. منه قول الشاعر :
أأن ذكرتك الدار منزلها جمل بكيت فدمع العين منحدر سجل
فقوله «منزلها جمل » بالفتح ؛ أي نزول جمل إياها وبه تعلم أنه على قراءة شعبة «لمهلكهم » بفتح الميم واللام أنه مصدر ميمي ؛ أي وجعلنا لهلاكهم موعداً. والموعد : الوقت المحدد لوقوع ذلك فيه.
تنبيه
لفظة «لما » ترد في القرآن وفي كلام العرب على ثلاثة أنواع :
الأول لما النافية الجازمة للمضارع. نحو قوله :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ﴾، وقوله :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ﴾ الآية. وهذه حرف بلا خلاف، وهي مختصة بالمضارع. والفوارق المعنوية بينها وبين لم النافية مذكورة في علم العربية، وممن أوضحها ابن هشام وغيره.
الثاني أن تكون حرف استثناء بمعنى إلا ؛ فتدخل على الجملة الاسمية ؛ كقوله تعالى :﴿ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ٤ ﴾ في قراءة من شدد «لما » أي ما كل نفس إلا عليها حافظ. ومن هذا النوع قول العرب : أنشدك الله لما فعلت ؛ أي ما أسألك إلا فعلك. ومنه قول الراجز :
قالت له الله يا ذا البردين لما غنثت نفساً أو نفسين
فقولها «غنثت » بغين معجمة ونون مكسورة وثاء مثلثة مسنداً لتاء المخاطب. والمراد بقولها «غنث » تنفست في الشرب ؛ كنت بذلك عن الجماع، تريد عدم متابعته لذلك، وأن يتنفس بين ذلك. وهذا النوع حرف أيضاً بلا خلاف. وبعض أهل العلم يقول : إنه لغة هذيل.
الثالث من أنواع «لما » هو النوع المختص بالماضي المقتضي جملتين، توجد ثانيتهما عند وجود أولاهما، كقوله :﴿ لَمَّا ظَلَمُواْ ﴾ أي لما ظلموا أهلكناهم، فما قبلها دليل على الجملة المحذوفة. وهذا النوع هو الغالب في القرآن وفي كلام العرب. «ولما » هذه التي تقتضي ربط جملة بجملة اختلف فيها النحويون : هل هي حرف، أو اسم، وخلافهم فيها مشهور، وممن انتصر لأنها حرف ابن خروف وغيره. وممن انتصر لأنها اسم ابن السراج والفارسي وابن جني وغيرهم. وجواب «لما » هذه يكون فعلاً ماضياً بلا خلاف ؛ كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ﴾ الآية، ويكون جملة اسمية مقروية ب «إذا » الفجائية. كقوله :﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ٦٥ ﴾، أو مقرونة بالفاء كقوله :﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ الآية،
ويكون حواساً فعلاً مضارعاً كما قاله ابن عصفور ؛ كقوله :﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وجاءته الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا في قَوْمِ لُوطٍ ٧٤ ﴾ الآية. وبعض ما ذكرنا لا يخلو من مناقشة عند علماء العربية، ولكنه هو الظاهر.
هذه الأنواع الثلاثة، هي التي تأتي لها «لما » في القرآن وفي كلام العرب.
أما «لما » المتركبة من كلمات أو كلمتين فليست من «لما » التي كلامنا فيها، لأنها غيرها. فالمركبة من كلمات كقول بعض المفسرين في معنى قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ ﴾ في قراءة ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بتشديد نون «إن » وميم «لما » على قول من زعم أن الأصل على هذه القراءة : لمن ما بمن التبعيضية، وما بمعنى من، أ ي و إن كلا لمن جملة ما يوفيهم ربك أعمالهم، فأبدلت نون «من » ميما وأدغمت في ما، فلما كثرت الميمات حذفت الأولى فصار لما. وعلى هذا القول : ف«لما » مركبة من ثلاث كلمات : الأولى الحرف الذي هو اللام، والثانية من، والثالثة ما، وهذا القول وإن قال به بعض أهل العلم لا يخفى ضعفه وبعده، وأنه لا يجوز حمل القرآن عليه. وقصدنا مطلق التمثيل ل«لما » المركبة من كلمات على قول من قال بذلك. وأما المركبة من كلمتين فكقول الشاعر :
لما رأيت أبا يزيد مقاتلا أدع القتال وأشهد الهيجاء
لأن قوله «لما » في هذه البيت، مركبة من «لن » النافية الناصبة للمضارع و«ما » المصدرية الظرفية، أي لن أدع القتال ما رأيت أبا يزيد مقاتلاً، أي مدة رؤيتي له مقاتلاً.
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ﴾ الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن موسى وفتاه نصبا حوتهما لما بلغ مجمع البحرين، ولكنه تعالى أوضح أن النسيان واقع من فتى موسى، لأنه هو الذي كان تحت يده الحوت، وهو الذي نسيه. وإنما أسند النسيان إليهما، لأن إطلاق المجموع مراداً بعضه أسلوب عربي كثير في القرآن وفي كلام العرب. وقد أوضحنا أن من أظهر أدلته قراءة حمزة والكسائي ﴿ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ من القتل في الفعلين لا من القتال، أي فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر. والدليل على أن النسيان إنما وقع من فتى موسى دون موسى قوله تعالى عنهما :﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غداءنا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً ٦٢ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أوينا إِلَى الصَّخْرَةِ فإني نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾ الآية، لأن قول موسى :«آتنا غداءنا » يعني به الحوت فهو يظن أن فتاه لم ينسه، كما قاله غير واحد. وقد صرح فتاه : بأنه نسيه بقوله :﴿ فإني نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ ﴾ الآية.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ ﴾ دليل على أن النسيان من الشيطان كما دلت عليه آيات أخر ؛ كقوله تعالى :﴿ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٦٨ ﴾ وقوله تعالى :﴿ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ﴾ الآية.
وفتى موسى هو يوشع بن نون. والضمير في قوله تعالى :﴿ مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ﴾ عائد إلى «البحرين » المذكورين في قوله تعالى :﴿ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ﴾ الآية. والمجمع : اسم مكان على القياس، أي مكان اجتماعهما.
والعلماء مختلفون في تعيين «البحرين » المذكورين. فذهب أكثرهم إلى أنهما بحر فارس مما يلي المشرق، وبحر الروم مما يلي المغرب. وقال محمد بن كعب القرطي :«مجمع البحرين » عند طنجة في أقصى بلاد المغرب وروى ابن أبي حاتم من طريق السدى قال : هما الكر والرأس حيث يصبان في البحر. وقال ابن عطية :«مجمع البحرين » ذراع في أرض فارس من جهة أذربيجان، يخرج من البحر المحيط من شماله إلى جنوبه، وطرفيه مما يلي بر الشام. وقيل : هما بحر الأردن والقلزم. وعن ابن المبارك قال : قال بعضهم بحر أرمينية. وعن أبي بن كعب قال : بإفريقية. إلى غير ذلك من الأقوال. ومعلوم أن تعيين «البحرين » من النوع الذي قدمنا أنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، وليس في معرفته فائدة، فالبحث عنه تعب لا طائل تحته، وليس عليه دليل يجب الرجوع إليه. وزعم بعض الملاحدة الكفرة المعاصرين : أن موسى لم يسافر إلى مجمع بحرين، بدعوى أنه لم يعرف ذلك في تاريخه زعم في غاية الكذب والبطلان. ويكفي في القطع بذلك أنه مناقض لقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ﴾ الآية. مع التصريح بأنه سفر فيه مشقة وتعب، وذلك لا يكون إلا في بعيد السفر، ولذا قال تعالى عن موسى :﴿ لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً ﴾. ومعلوم أن ما ناقض القرآن فهو باطل، لأن نقيض الحق باطل بإجماع العقلاء لاستحالة صدق النقيضين معاً.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ ﴾ قرأه عامة القراء ما عدا حفصاً «أنسانيه » بكسر الهاء. وقرأه حفص عن عاصم «أنسانيه » بضم الهاء.
قوله تعالى :﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عبادنا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ﴾ الآية.
هذا العبد المذكور في هذه الآية الكريمة هو الخضر عليه السلام بإجماع العلماء، ودلالة النصوص الصحيحة على ذلك من كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما لم يبين هنا هل هما رحمة النبوة وعلمها، أو رحمة الولاية وعلمها. والعلماء مختلفون في الخضر : هل هو نبي، أو رسول، أو ولي. كما قال الراجز :
واختلفت في خضر أهل العقول قيل نبي أو ولي أو رسول
وقيل ملك. ولكنه يفهم من بعض الآيات أن هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوة. وأن هذا العلم اللدني علم وحي، مع العلم بأن في الاستدلال بها على ذلك مناقشات معروفة عند العلماء.
اعلم أولاً أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن. وكذلك العلم المؤتى من الله تكرر إطلاقه فيه على علم الوحي. فمن إطلاق الرحمة على النبوة قوله تعالى في «الزخرف » :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ٣١ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ﴾ الآية. أي نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين. وقوله تعالى في سورة «الدخان » :﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ٤ ﴾ ﴿ أَمْراً مِّنْ عندنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِين ٥ َرَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ الآية، وقوله تعالى في آخر «القصص » :﴿ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ الآية. ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله تعالى :﴿ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ١١٣ ﴾، وقوله :﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها. والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف. ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى عنه :﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أمري ﴾ أي وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا. وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي، إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا. ولاسيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها. لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى. وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى :﴿ قُلْ إنما أُنذِرُكُم بالوحي ﴾ و«إنما » صيغة حصر. فإن قيل : قد يكون ذلك عن طريق الإلهام ؟ فالجواب أن المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء، لعدم العصمة، وعدم الدليل على الاستدلال به. بل لوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به، وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره، وما يزعمه بعض الجبرية أيضاً من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره جاعلين الإلهام كالوحي المسموع مستدلين بظاهر قوله تعالى :﴿ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ﴾، وبخبر «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله » كله باطل لا يعول عليه، لعدم اعتضاده بدليل. وغير المعصوم لا ثقة بخواطره، لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان. وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات. والإلهام في الاصطلاح : إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي ولا نظر في حجة عقلية، يختص الله به من يشاء من خلقه. أما ما يلهمه الأنبياء مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كالإلهام غيرهم، لأنهم معصومون بخلاف غيرهم. قال في مراقي السعود في كتاب الاستدلال :
وينبذ الإلهام بالعراء أعني به إلهام الأولياء
وقد رآه بعض من تصوفا وعصمة النَّبي توجب اقتفا
وبالجملة، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه، وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي. فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل، وما جاؤوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته. والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ١٥ ﴾ ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاماً. وقال تعالى :﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾. وقال :﴿ وَلَوْ أنا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ ﴾ الآية. والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جداً. وقد بينا طرفاً من ذلك في سورة «بني إسرائيل » في الكلام على قوله :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ١٥ ﴾. وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره.
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره ما نصه : قال شيخنا الإمام أبو العباس : ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه هذه الأحكام الشرعية فقالوا : هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة. وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص ؛ بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم. ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. وقالوا : وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وقد جاء فيما ينقلون «استفت قلبك وإن أفتاك المفتون ». قال شيخنا رضي الله عنه : وهذا القول زندقة وكفر، يقتل قائله ولا يستتاب. لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالتهم وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى :﴿ اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ٧٥ ﴾، وقال تعالى :﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ وقال تعالى :﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات. وعلى الجملة، فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل. فمن قال إن هناك طريقاً أخرى يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل حيث يستغني عن الرسل فهو كافر يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال وجواب. ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول.
وبيان ذلك أن من قال : يأخذ عن قلبه ؛ وأن ما يقع فيه حكم الله تعالى، وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه ولا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة ؛ فإن هذا نحو ما قاله صلى الله عليه وسلم :«إن روح القدس نفث في روعي.. » الحديث. انتهى من تفسير القرطبي.
وما ذكره في كلام شيخه المذكور من أن الزنديق لا يستتاب هو مذهب مالك ومن وافقه، وقد بينا أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم، وما يرجحه الدليل في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة «آل عمران ». وما يستدل به بعض الجهلة ممن يدعي التصوف على اعتبار الإلهام من ظواهر بعض النصوص كحديث «استفت قلبك وأن أفتاك الناس وأفتوك » لا دليل فيه البتة على اعتبار الإلهام : لأنه لم يقل أحد ممن يعتد به أن المفتي الذي تتلقى الأحكام الشرعية من قبله القلب، بل من الحديث : التحذير من الشبه، لأن الحرام بين والحلال بين، وبينهما أمور مشتبهة لا يعلمها كل الناس. فقد يفتيك المفتي بحلية شيء وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراماً، وذلك باستناد إلى الشرع، فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة، والحديث، كقوله «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » وقوله صلى الله عليه وسلم :«البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس » رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، وحديث وابصة بن معبد رضي الله عنه المشار إليه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :«جئت تسأل عن البر » ؟ قلت نعم : قال :«استفت قلبك. البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأنت إليه القلب. والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك » قال النووي في ( رياض الصالحين ) : حديث حسن، رواه أحمد والدارمي في مسنديهما. ولا شك أن المراد بهذا الحديث ونحوه الحث على الورع وترك الشبهات، فلو التبست مثلاً ميتة بمذكاة، أو امرأة محرم بأجنبية، وأفتاك بعض المفتين بحلية إحداهما لاحتمال أن تكون هي المذكاة في الأول، والأجنبية في الثاني. فإنك إذا استفتيت قلبك علمت أنه يحتمل أن تكون هي الميتة أو الأخت، وأن ترك الحرام والاستبراء للدين والعرض لا يتحقق إلا بتجنب الجميع، لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب. فهذا يحيك في النفس ولا تنشرح له، لاحتمال الوقوع في الحرام فيه كما ترى. وكل ذلك مستند لنصوص الشرح لا للإلهام.
ومما يدل على ما ذكرنا من كلام أهل الصوفية المشهود لهم بالخير والدين والصلاح قول الشيخ أبي القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخزاز القواريري رحمه الله :( مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة )، نقله عنه غير واحد ممن ترجمه رحمه الله، كابن كثير وابن خلكان وغيرهما. ولا شك أن كلامه المذكور هو الحق، فلا أمر ولا نهي إلا على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام. وبهذا كله تعلم أن قتل الخضر للغلام، وخرقه للسفينة، وقوله :﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أمري ﴾ دليل ظاهر على نبوته. وعزا الفخر الرازي في تفسيره القول بنبوته للأكثرين، ومما يستأنس به للقول بنبوته تواضع موسى عليه الصلاة والسلام له في قوله :﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ٦٦ ﴾، وقوله :﴿ قَالَ ستجدني إِن شاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً ٦٩ ﴾ مع قول الخضر له ﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ٦٨ ﴾.
قوله تعالى :﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ﴾ الآية.
هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون : بأن المجاز في القرآن ؛ زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة، وإنما هي مجاز. وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة، لأن الله تعالى يعلم للجمادات إرادات وأفعالاً وأقوالاً لا يدركها الخلق كما صرح تعالى بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جل وعلا :﴿ وَإِن مِّن شيء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها هو جل وعلا ونحن لا نعلمها. وأمثال ذلك كثيرة في القرآن والسنة.
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ الآية. فتصريحه تعالى بأن بعض الحجارة يهبط من خشية الله دليل واضح في ذلك ؛ لأن تلك الخشية بإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه. وقوله تعالى :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السَّمَاوَاتِ والأرض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ﴾ الآية. فتصريحه جل وعلا بأن السماء والأرض والجبال أبت وأشفقت أي خافت دليل على أن ذلك واقع بإرادة وإدراك يعلمه هو جل وعلا ونحن لا نعلمه.
ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«إني لأعرف حجراً كان يسلم علي بمكة » وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم جزعاً لفراقه فتسليم ذلك الحجر، وحنين ذلك الجذع كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه، كما صرح بمثله في قوله :﴿ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾. وزعم من لا علم عنده أن هذه الأمور لا حقيقة لها، وإنما هي ضرب أمثال زعم باطل، لأن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه. وأمثال هذا كثيرة جداً. وبذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض، وإن لم يعلم خلقه تلك الإرادة. وهذا واضح جداً كما ترى. مع أنه من الأساليب المربية إطلاق الإرادة على المقاربة والميل إلى الشيء. كما في قول الشاعر :
يريد الرمح صدر أبي براء *** ويعدل عن دماء بني عقيل
أي يميل إلى صدر أبي براء. وكقول راعي نمير :
إن دهراً يلف شمل بجمل *** لزمان يهم بالإحسان
فقوله «لزمان يهم بالإحسان فيه. وقد بينا في رسالتنا المسماة ( منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز ) أن جميع الآيات التي يزعمون أنها مجاز أن ذلك لا يتعين في شيء منها. وبينا أدلة ذلك. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَكَانَ وراءهم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ٧٩ ﴾ الآية.
ظاهر هذه الآية الكريمة أن ذلك الملك يأخذ كل سفينة، صحيحة كانت أو معيبة. ولكنه يفهم من آية أخرى أنه لا يأخذ المعيبة، وهي قوله :﴿ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾ أي لئلا يأخذها، وذلك هو الحكمة في خرقه لها المذكور في قوله :﴿ حَتَّى إِذَا رَكِبَا في السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ﴾ ثم بين أن قصده بخرقها سلامتها لأهلها من أخذ ذلك الملك الغاصب. لأن عيبها يزهده فيها. ولأجل ما ذكرنا كانت هذه الآية الكريمة مثالاً عند علماء العربية لحذف النعت ؛ أي وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غير معيبة بدليل ما ذكرنا. وقد قدمنا الشواهد العربية على ذلك في سورة «بني إسرائيل » في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ﴾ الآية. واسم ذلك الملك : هدد بن بدر : وقوله «وراءهم » أي أمامهم كما تقدم في سورة «إبراهيم ».
قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾ الآية.
قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم «حمئة » بلا ألف بعد الحاء، وبهمزة مفتوحة بعد الميم المكسورة. وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم «حامية » بألف بعد الحاء، وياء مفتوحة بعد الميم المكسورة على صيغة اسم الفاعل. فعلى القراءة الأولى فمعنى «حمئة » ذات حمأة وهي الطين الأسود، ويدل لهذا التفسير قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ٢٦ ﴾ والحمأ : الطين كما تقدم. ومن هذا المعنى قول تبع الحميري فيما يؤثر عنه يمدح ذا القرنين :
بلغ المشارق والمغارب يبتغى أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد
والخلب في لغة حمير : الطين. والثأط : الحمأة. والحرمد : الأسود. وعلى قراءة «حامية » بصيغة اسم الفاعل، فالمعنى : أنها حارة، وذلك لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها، وملاقاتها الشعاع بلا حائل. ولا منافاة بين القراءتين حق. قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره :«وجدها تغرب في عين حمئة » أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنها تغرب فيه إلى آخر كلامه. ومقتضى كلامه أن المراد بالعين في الآية البحر المحيط، وهو ذو طين أسود. والعين تطلق في اللغة على ينبوع الماء. والينبوع : الماء الكثير. فاسم العين يصدق على البحر لغة. وكون من على شاطئ المحيط الغربي يرى الشمس في نظر عينه تسقط في البحر أمر معروف. وعلى هذا التفسير فلا إشكال في الآية، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ قَالَ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَبّي فَإِذَا جاء وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبّي حَقّاً ٩٨ ﴾.
اعلم أولاً أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أنه إن كان لبعض الآيات بيان من القرآن لا يفي بإيضاح المقصود وقد بينه النَّبي صلى الله عليه وسلم فإنا نتمم بيانه بذكر السنة المبينة له. وقد قدمنا أمثلة متعددة لذلك. فإذا علمت ذلك فاعلم أن هاتين الآيتين لهما بيان من كتاب أوضحته السنة، فصار بضميمة السنة إلى القرآن بياناً وافياً بالمقصود، والله جل وعلا قال في كتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ٤٤ ﴾ فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه الآية الكريمة، وآية الأنبياء قد دلتا في الجملة على أن السد الذي بناه ذو القرنين دون يأجوج ومأجوج إنما يجعله الله دكا عند مجيء الوقت الموعود بذلك فيه. وقد دلتا على أنه بقرب يوم القيامة، لأنه قال هنا :﴿ فَإِذَا جاء وَعْدُ ربّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ ربّي حَقّاً ٩٨ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ وَنُفِخَ في الصُّورِ ﴾ الآية.
وأظهر الأقوال في الجملة المقدرة التي عوض عنها تنوين «يومئذ » من قوله ﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ ﴾ أنه يوم إذ جاء وعد ربي بخروجهم وانتشارهم في الأرض. ولا ينبغي العدول عن هذا القول لموافقته لظاهر سياق القرآن العظيم. وإذا تقرر أن معنى «يومئذ » يوم إذ جاء الوعد بخروجهم وانتشارهم فاعلم أن الضمير في قوله ﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ ﴾ على القول بأنه لجميع بني آدم فالمراد يوم القيامة. وإذاً فقد دلت الآية على اقترانه بالخروج إذا دك السد، وقربه منه. وعلى القول بأن الضمير راجع إلى يأجوج ومأجوج. فقوله بعده ﴿ وَنُفِخَ في الصُّورِ ﴾ يدل في الجملة على أنه قريب منه. قال الزمخشري في تفسير هذه الآية «قال هذا رحمة من ربي » هو إشارة إلى السد ؛ أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده. أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته ﴿ فَإِذَا جاء وَعْدُ ربّي ﴾ يعني فإذا دنا مجيء يوم القيامة، وشارف أن يأتي جعل السد دكا ؛ أي مدكوكاً مبسوطاً مسوى بالأرض. وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك ؛ ومنه الجمل الأدك المنبسط السنام ا ه.
وآية الأنبياء المشار إليها هي قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ٩٦ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هي شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية ؛ لأن قوله :﴿ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ﴾ وإتباعه لذلك بقوله ﴿ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هي شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ يدل في الجملة على ما ذكرنا في تفسير آية الكهف التي نحن بصددها. وذلك يدل على بطلان قول من قال : إنهم روسية، وأن السد فتح منذ زمان طويل. فإذا قيل : إنما تدل الآيات المذكورة في «الكهف » و«الأنبياء » على مطلق اقتراب يوم القيامة من دك السد واقترابه من يوم القيامة لا ينافي كونه قد وقع بالفعل ؛ كما قال تعالى :﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾ الآية. وقال :﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ١ ﴾، وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم :«ويل للعرب، من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها.. » الحديث، وقد قدمنا في سورة «المائدة ». فقد دل القرآن والسنة الصحيحة على أن اقتراب ما ذكر لا يستلزم اقترانه به، بل يصح اقترابه مع مهلة، وإذاً فلا ينافي دك السد الماضي الزعوم الاقتراب من يوم القيامة، فلا يكون في الآيات المذكورة دليل على أنه لم يدك السد إلى الآن.
فالجواب هو ما قدمنا أن هذا البيان بهذه الآيات ليس وافياً بتمام الإيضاح إلا بضميمة السنة له، ولذلك ذكرنا أننا نتمم مثله من السنة لأنها مبينة للقرآن. قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص، حدثني عبد الرحمن بن جبير عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي : أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي ( ح ) وحدثني محمد بن مهران الرازي ( واللفظ له )، حدثني الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن يحيى بن جابر الطائي، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه جبير بن نفير، عن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال :«ما شأنكم » ؟ قلنا : يا رسول الله، ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت، حتى ظنناه في طائفة النخل ؟ فقال :«غير الدجال أخوفني عليكم ! إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي هل كل مسلم. إنه شاب قطط، عينه طائفته، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة «الكهف » إنه خارج خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً. «يا عباد فاثبتوا » قلنا : يا رسول الله، وما لبثه في الأرض ؟ قال :«أربعون يوماً، يوم، كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم » قلنا : يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنه، أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال :«لا، أقدروا له قدره » قلنا : يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض ؟ قال :«كالغيث استدبرته الريح ». فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له : فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذراً وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله ؛ فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعون فيقبل ويتهلل وجهه يضحك. فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ. فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله. ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى : إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ؛ فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم. فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم. فيصبحون فرسي كموت نفس واحدة. ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم ؛ فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله. ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض : انبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، يبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس. واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس. واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ الفخذ من الناس. فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم ؛ فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم. ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة » انتهى بلفظه من صحيح مسلم رحمه الله تعالى.
وهذا الحديث الصحيح قد رأيت فيه تصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم : بأن الله يوحي إلى عيسى بن مريم خروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال. فمن يدعي أنهم روسية. وأن السد قد اندك منذ زمان فهو مخالف لما أخبر به النَّبي صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة لا وجه لها. ولا شك أن كل خبر ناقض خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فهو باطل ؛ لأن نقيض الخبر الصادق كاذب ضرورة كما هو معلوم. ولم يثبت في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يعارض هذا الحديث الذي رأيت صحة سنده، ووضوح دلالته على المقصود.
والعمدة في الحقيقة لمن ادعى أن يأجوج ومأجوج هم روسية، ومن ادعى من الملحدين أنهم لا وجود لهم أصلاً هي حجة عقلية في زعم صاحبها، وهي بحسب المقرر في الجدل قياس استثنائي مركب من شرطية متصلة لزومية في زعم المستدل به يستثنى فيه نقيض التالي، فينتج نقيض المقدم. وصورة نظمه أن يقول : لو كان يأجوج ومأجوج وراء السد إلى الآن، لا طلع عليهم الناس لتطور طرق المواصلات، لكنهم لم يطلع عليهم أحد ينتج فهم ليسوا وراء السد إلى الآن، لأن استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم كما هو معلوم. وبعبارة أوضح لغير المنطقي : لأن نفي اللازم يقتضي نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم هذا هو عمدة حجة المنكرين وجودهم إلى الآن وراء السد. ومن المعلوم أن القياس الاستثنائي المعروف بالشرطي، إذا كان مركباً من شرطية متصلة واستثنائية، فإنه يتوجه عليه القدح من ثلاث وجهات :
الأولى أن يقدح فيه من جهة شرطيته، لكون الربط بين المقدم والتالي ليس صحيحاً.
الثانية أن يقدح فيه من جهة استثنائيته.
الثالثة أن يقدح فيه من جهتهما معاً. وهذا القياس المزعوم يقدح فيه من جهة شرطيته فيقول للمعترض : الربط فيه بين المقدم والتالي غير صحيح. فقولكم : لو كانوا موجودين وراء السد إلى الآن لاطلع عليهم الناس غير صحيح ؛ لإمكان أن يكونوا موجودين والله يخفي مكانهم على عامة الناس حتى يأتي الوقت المحدد لإخراجهم على الناس، ومما يؤيد إمكان هذا ما ذكره الله تعالى في سورة «المائدة » من أنه جعل بني إسرائيل يتيهون في الأرض أربعين سنة. وذلك في قوله تعالى :﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الأرض ﴾ الآية، وهم في فراسخ قليلة من الأرض، يمشون ليلهم ونهارهم ولم يطلع عليهم الناس حتى انتهى أمد التيه، لأنهم لو اجتمعوا بالناس لبينوا لهم الطريق. وعلى كل حال، فربك فعال لما يريد. وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه صادقة، وما يوجد بين أهل الكتاب مما يخالف ما ذكرنا ونحوه من القصص الواردة في القرآن والسنة الصحيحة، زاعمين أنه منزل في التوراة أو غير من الكتب السماوية باطل يقيناً لا يعول علينا ؛ لأن الله جل وعلا صرح في هذا القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد بأنهم بدلوا وحرفوا وغيروا في كتبهم، كقوله :﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ﴾، وقوله :﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ﴾، وقوله :﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ٧٩ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ٧٨ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات بخلاف هذا القرآن العظيم، فقد تولى الله جل وعلا حفظه بنفسه، ولم يكلمه أحد حتى يغير فيه أو يبدل أو يحرف، كما قال تعالى :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ٩ ﴾، وقال :﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ١٦ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾، وقال :﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ﴾. وقال في النَّبي صلى الله عليه وسلم :{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ٣ إِنْ هُوَ إِل
قوله تعالى :﴿ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً ١٠٠ ﴾ الآية.
قوله :﴿ وَعَرَضْنَا ﴾ أي أبرزنا وأظهرنا جهنم ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ أي يوم إذ جمعناهم جمعاً ؛ كما دل على ذلك قوله قبله :﴿ وَنُفِخَ في الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً ٩٩ ﴾. وقال بعض العلماء : اللام في قوله «للكافرين » بمعنى على، أي عرضنا جهنم على الكافرين، وهذا يشهد له القرآن في آيات متعددة. لأن العرض في القرآن يتعدى بعلى لا باللام. كقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ ﴾، وقوله :﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَا ﴾، ونظيره في كلام العرب من إتيان اللام بمعنى على البيت الذي قدمناه في أول سورة «هود »، وقدمنا الاختلاف في قائله، وهو قوله :
هتكت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعاً لليدين وللفم
أي خر صريعاً على اليدين :
وقد علم من هذه الآيات : أن النار تعرض عليهم ويعرضون عليها ؛ لأنها تقرب إليهم ويقربون إليها ؛ كما قال تعالى في عرضها عليهم هنا :﴿ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً ١٠٠ ﴾، وقال في عرضهم عليها :﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ ﴾ الآية، ونحوها من الآيات. وقد بينا شيئاً من صفات عرضهم دلت عليه آيات أخر من كتاب الله في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَا ﴾. وقول من قال : إن قوله هنا :«وعرضنا جهنم » الآية فيه قلب. وأن المعنى : وعرضنا الكافرين لجهنم أي عليها بعيد كما أوضحه أبو حيان في البحر. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غطاء عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ١٠١ ﴾ الآية.
التحقيق في قوله :﴿ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ﴾ أنه في محل خفض نعتاً للكافرين. وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من صفات الكافرين الذين تعرض لهم جهنم يوم القيامة أنهم كانت أعينهم في دار الدنيا في غطاء عن ذكره تعالى، وكانوا لا يستطيعون سمعاً. وقد بين هذا من صفاتهم في آيات كثيرة، كقوله في تغطية أعينهم :﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ الآية، وقوله ﴿ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ﴾ الآية، وقوله :﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أنما أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ﴾، وقوله :﴿ وَمَا يستوي الأعمى وَالْبَصِيرُ ﴾ الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً. وقال في عدم استطاعتهم السمع :﴿ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ٢٣ ﴾، وقال :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً ﴾. وقد بينا معنى كونهم لا يستطيعون السمع في أول سورة «هود » في الكلام على قوله تعالى :﴿ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ٢٠ ﴾ فأغنى عن إعادته هنا. وقد بينا أيضاً طرفاً من ذلك في الكلام على قوله تعالى في هذه السورة الكريمة :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ وقد بين تعالى في موضع آخر : أن الغطاء المذكور الذي يعشو بسببه البصر عن ذكره تعالى يقيض الله لصاحبه شيطاناً فيجعله له قريناً ؛ وذلك في قوله تعالى :﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ٣٦ ﴾.
قوله تعالى :﴿ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عبادي مِن دوني أولياء إنا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً ١٠٢ ﴾ الآية.
الهمزة في قوله تعالى :﴿ أَفَحَسِبَ ﴾ للإنكار والتوبيخ. وفي الآية حذف دل المقام عليه. قال بعض العلماء : تقدير المحذوف هو : أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء، ولا أعاقبهم العقاب الشديد ! كلا ! ! بل سأعاقبهم على ذلك العقاب الشديد ؛ بدليل قوله تعالى بعده :﴿ إنا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً ١٠٢ ﴾ وقال بعض العلماء : تقديره : أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ! وأن ذلك ينفعهم. كلا ! لا ينفعهم بل يضرهم. ويدل لهذا قوله تعالى عنهم :﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ ليقربونا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ وقوله عنهم :﴿ وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ﴾. ثم إنه تعالى بين بطلان ذلك بقوله :﴿ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾، وما أنكره عليهم هنا من ظنهم أنهم يتخذون من دونه أولياء من عباده ولا يعاقبهم ؛ أو أن ذلك ينفعهم جاء مبيناً في مواضع، كقوله في أول سورة «الأعراف » :﴿ اتَّبِعُواْ ما أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أولياء ﴾ الآية. فقد نهاهم عن اتباع الأولياء من دونه في هذه الآية، لأنه يضرهم ولا ينفعهم، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن من الأدلة على أنه لا ولي من دون الله لأحد، وإنما الموالاة في الله، كقوله :﴿ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أولياء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ١١٣ ﴾، وقوله :﴿ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ ﴾ الآية، وقوله ﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِىٌّ ﴾ الآية، ونحو ذلك من الآيات. وسيأتي له قريباً إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح وأمثلة.
والأظهر المتبادر من الإضافة في قوله «عبادي » أن المراد بهم نحو الملائكة وعيسى وعزيز، لا الشياطين ونحوهم، لأن مثل هذه الإضافة للتشريف غالباً. وقد بين تعالى : أنهم لا يكونون أولياء لهم في قوله :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٤٠ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ ﴾ الآية، وقوله ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا ﴾ قد أوضحنا معناه في قوله تعالى :﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا ﴾ الآية، فأغنى عن إعادته هنا. وفي قوله ﴿ نُزُلاً ﴾ أوجه من التفسير للعلماء، أظهرها : أن «النزل » هو ما يقدم للضيف عند نزوله، والقادم عند قدومه. والمعنى : أن الذي يهيأ لهم من الإكرام عند قدومهم إلى ربهم هو جهنم المعدة لهم، كقوله :﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٢١ ﴾. وقوله :﴿ يُغَاثُواْ بماء كَالْمُهْلِ ﴾. وقد قدمنا شواهده العربية في الكلام على قوله تعالى ؛ ﴿ يُغَاثُواْ بماء كَالْمُهْلِ ﴾ لأن ذلك الماء الذي يشوى الوجوه ليس فيه إغاثة، كما أن جهنم ليست نزل إكرام الضيف أو قادم.
الوجه الثاني أن «نزلاً » بمعنى المنزل، أي اعتدنا جهنم للكافرين منزلاً، أي مكان نزول، لا منزل لهم غيرها. وأضعف الأوجه ما زعمه بعضهم من أن «النزل » جمع نازل، كجمع الشارف على شرف بضمتين. والذي يظهر في إعراب «نزلاً » أنه حال مؤولة بمعنى المشتق. أو مفعول ل«أعتدنا » بتضمينه معنى صيرنا أو جعلنا. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً ١٠٣ ﴾. الآية.
المعنى : هل لهم يا نبي الله : هل ننبئكم أي نخبركم بالأخسرين أعمالاً، أي بالذين هم أخسر الناس أعمالاً وأضيعها. فالأخسر صيغه تفضيل من الخسران وأصله نقص مال التاجر، والمراد به في القرآن غبنهم بسبب كفرهم ومعاصيهم في حظوظهم مما عند الله لو أطاعوه ؛ وقوله ﴿ أَعْمَالاً ﴾ منصوب على التمييز :
فإن قيل : نبئنا بالأخسرين أعمالاً من هم ؟
كان الجواب هم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وبه تعلم أن «الذين » من قوله ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ ﴾ خبر مبتدأ محذف جواباً للسؤال المفهوم من المقام، ويجوز نصبه على الذم، وجره على وأنه بدل من الأخسرين، أو نعت له، وقوله ﴿ ضَلَّ سَعْيُهُمْ ﴾ أي بطل عملهم وحبط، فصار كالهباء وكالسراب وكالرماد ! كما في قوله تعالى :﴿ وقدمنا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هباء مَّنثُوراً ٢٣ ﴾، وقوله :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ﴾ الآية ؟ وقوله :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ ومع هذا فهم يعتقدون أن عملهم حسن مقبول عند الله.
والتحقيق. أن الآية نازلة في الكفار الذين يعتقدون أن كفرهم صواب وحق، وأن فيه رضى ربهم ؛ كما قال عن عبدة الأوثان :﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ ليقربونا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾، وقال عنهم ﴿ وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ﴾، وقال عن الرهبان الذين يتقربون إلى الله على غير شرع صحيح :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ٢ عَامِلَةٌ ناصِبَةٌ ٣ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً ٤ ﴾ الآية، على القول فيها بذلك. وقوله تعالى في الكفار :﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أولياء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ٣٠ ﴾ وقوله :﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ٣٧ ﴾ والدليل على نزولها في الكفار تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ الآية. فقول من قال : إنهم الكفار، وقول من قال : إنهم الرهبان، وقول من قال : إنهم أهل الكتاب الكافرون بالنَّبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك تشمله هذه الآية. وقد روى البخاري في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه سأله ابنه مصعب عن «الأخسرين أعمالاً » في هذه الآية هل هم الحرورية ؟ فقال لا هم اليهود والنصارى. أما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأما النصارى فكفروا بالجنة، وقالوا لا طعام فيها، ولا شراب. والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان سعيد يسميهم الفاسقين. ا ه من البخاري. وما روي عن علي رضي الله عنه من أنهم أهل حروراء المعروفون بالحروريين معناه أنهم يكون فيهم من معنى الآية بقدر ما فعلوا، لأنهم يرتكبون أموراً شنيعة من الضلال، ويعتقدون أنها هي معنى الكتاب والسنة، فقد ضل سيعهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. وإن كانوا في ذلك أقل من الكفار المجاهرين ؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب كما قد قدمنا إيضاحه وأدلته.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٣:قوله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً ١٠٣ ﴾. الآية.
المعنى : هل لهم يا نبي الله : هل ننبئكم أي نخبركم بالأخسرين أعمالاً، أي بالذين هم أخسر الناس أعمالاً وأضيعها. فالأخسر صيغه تفضيل من الخسران وأصله نقص مال التاجر، والمراد به في القرآن غبنهم بسبب كفرهم ومعاصيهم في حظوظهم مما عند الله لو أطاعوه ؛ وقوله ﴿ أَعْمَالاً ﴾ منصوب على التمييز :
فإن قيل : نبئنا بالأخسرين أعمالاً من هم ؟
كان الجواب هم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وبه تعلم أن «الذين » من قوله ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ ﴾ خبر مبتدأ محذف جواباً للسؤال المفهوم من المقام، ويجوز نصبه على الذم، وجره على وأنه بدل من الأخسرين، أو نعت له، وقوله ﴿ ضَلَّ سَعْيُهُمْ ﴾ أي بطل عملهم وحبط، فصار كالهباء وكالسراب وكالرماد ! كما في قوله تعالى :﴿ وقدمنا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هباء مَّنثُوراً ٢٣ ﴾، وقوله :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ﴾ الآية ؟ وقوله :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ ومع هذا فهم يعتقدون أن عملهم حسن مقبول عند الله.
والتحقيق. أن الآية نازلة في الكفار الذين يعتقدون أن كفرهم صواب وحق، وأن فيه رضى ربهم ؛ كما قال عن عبدة الأوثان :﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ ليقربونا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾، وقال عنهم ﴿ وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ﴾، وقال عن الرهبان الذين يتقربون إلى الله على غير شرع صحيح :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ٢ عَامِلَةٌ ناصِبَةٌ ٣ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً ٤ ﴾ الآية، على القول فيها بذلك. وقوله تعالى في الكفار :﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أولياء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ٣٠ ﴾ وقوله :﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ٣٧ ﴾ والدليل على نزولها في الكفار تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ الآية. فقول من قال : إنهم الكفار، وقول من قال : إنهم الرهبان، وقول من قال : إنهم أهل الكتاب الكافرون بالنَّبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك تشمله هذه الآية. وقد روى البخاري في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه سأله ابنه مصعب عن «الأخسرين أعمالاً » في هذه الآية هل هم الحرورية ؟ فقال لا هم اليهود والنصارى. أما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأما النصارى فكفروا بالجنة، وقالوا لا طعام فيها، ولا شراب. والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان سعيد يسميهم الفاسقين. ا ه من البخاري. وما روي عن علي رضي الله عنه من أنهم أهل حروراء المعروفون بالحروريين معناه أنهم يكون فيهم من معنى الآية بقدر ما فعلوا، لأنهم يرتكبون أموراً شنيعة من الضلال، ويعتقدون أنها هي معنى الكتاب والسنة، فقد ضل سيعهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. وإن كانوا في ذلك أقل من الكفار المجاهرين ؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب كما قد قدمنا إيضاحه وأدلته.


وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ ﴾ [ ١٠٤ ] أي بطل واضمحل. وقد قدمنا أن الضلال يطلق في القرآن واللغة العربية ثلاثة إطلاقات :
الأول الضلال بمعنى الذهاب عن طريق الحق إلى طريق الباطل ؛ كالذهاب عن الإسلام إلى الكفر. وهذا أكثر استعمالاته في القرآن ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين ٧ ﴾، وقوله :﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أهواء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سواء السَّبِيلِ ٧٧ ﴾.
الثاني الضلال بمعنى الهلاك والغيبة والاضمحلال، ومنه قول العرب : ضل السمن في الطعام إذا استهلك فيه وغاب فيه. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى :﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ٧٥ ﴾ أي غاب واضمحل، وقوله هنا :﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ ﴾ أي بطل واضمحل، وقول الشاعر :
ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا
أي عن الحي الذي غاب واضمحل، ومن هنا سمي الدفن إضلالاً ؛ لأن مآل الميت المدفون إلى أن تختلط عظامه بالأرض، فيضل فيها كما يضل السمن في الطعام. ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغه ذبيان :
فآب مضلوه بعين جلية وغودو بالجولان حزم ونائل
فقوله «مضلوه » يعني دافنيه في قبره. ومن هذا المعنى قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ أئذا ضَلَلْنَا في الأرض أَإنَّا لفي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ الآية. فمعنى ﴿ ضَلَلْنَا في الأرض ﴾ أنهم اختلطت عظامهم الرميم بها لغابت واستهلكت فيها.
الثالث الضلال بمعنى الذهاب عن علم حقيقة الأمر المطابقة للواقع، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى :﴿ وَوَجَدَكَ ضالا فَهَدَى ٧ ﴾ أي ذاهباً عما تعلمه الآن من العلوم والمعارف التي لا تعرف إلا بالوحي فهداك إلى تلك العلوم والمعارف بالوحي. وحدد هذا المعنى قوله تعالى عن أولاد يعقوب :﴿ قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لفي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ٩٥ ﴾ أي ذهابك عن العلم بحقيقة أمر يوسف، ومن أجل ذلك تطمع في رجوعه إليك، وذلك لا طمع فيه على أظهر التفسيرات وقوله تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا ﴾ أي نذهب عن حقيقة علم المشهود به بنسيان أو نحوه، بدليل قوله ﴿ فَتُذَكّرَ أَحَدُهُمَا الأخرى ﴾، وقوله تعالى :﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ ربّي في كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ ربّي وَلاَ يَنسَى ٥٢ ﴾ ومن هذا المعنى قول الشاعر :
وتظن سلمى أنثى أبغى بها بدلاً أراها في الضلال تهيم
فقوله «أراها في الضلال » أي الذهاب عن علم حقيقة الأمر حيث تظنني أبغى بها بدلاً، والواقع بخلاف ذلك.
وقوله في هذه الآية :﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ ﴾ أي يظنون. وقرأه بعض السبعة بكسر السين، وبعضهم بفتحها كما قدمنا مراراً في جميع القرآن. ومفعولاً «حسب » هما المبتدأ والخبر اللذان عملت فيهما «أن » والأصل ويحسبون أنفسهم محسنين صنعهم. وقوله «صنعاً » أي عملاً وبين قوله «يحسبون، ويحسنون » الجناس المسمى عند أهل البديع «تجنيس التصحيف » وهو أن يكون النقط فرقاً بين الكلمتين، كقول البحتري :
ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ليعجز والمعتز بالله طالبه
فبين «المغتر والمعتز » الجناس المذكور.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ الآية، نص في أن الكفر بآيات الله ولقائه يحبط العمل، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً، كقوله تعالى في «العنكبوت » ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ ولقائه أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رحمتي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٢٣ ﴾ والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، وسيأتي بعض أمثلة لذلك قريباً إن شاء الله.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ١٠٥ ﴾ فيه للعلماء أوجه :
أحدها أن المعنى أنهم ليس لهم حسنات توزن في الكفة الأخرى في مقابلة سيئاتهم، بل لم يكن إلا السيئات، ومن كان كذلك فهو في النار، كما قال تعالى :﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ في جَهَنَّمَ خَالِدُون ١٠٣ َتَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ١٠٤ ﴾. وقال :﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٨ ﴾. ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم ﴾ الآية، وقال :﴿ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ٨ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ٩ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا نَارٌ حَامِيَةٌ ١١ ﴾. إلى غير ذلك من الآيات. وقال بعض أهل العلم ؛ معنى ﴿ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ١٠٥ ﴾ أنهم لا قدر لهم عند الله لحقارتهم، وهو أنهم بسبب كفرهم ؛ وذلك كقوله عنهم :﴿ سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠ ﴾، أي صاغرين أذلاء حقيرين، وقوله :﴿ قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ ١٨ ﴾ وقوله :﴿ قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ١٠٨ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هوانهم وصغارهم وحقارتهم.
وقد دلت السنة الصحيحة على أن معنى الآية يدخل فيه الكافر السمين العظيم البدن ؛ لا يزن عند الله يوم القيامة جناح بعوضة. قال البخاري في صحيحه في تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن عبد الله. حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا المغيرة بن عبد الرحمن، حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرءوا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً » وعن يحيى بن بكير، عن المغير بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد مثله ا ه. من البخاري.
وهذا الحديث أخرجه أيضاً مسلم في صحيحه، وهو يدل على أن نفس الكافر العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة. وفيه دلالة على وزن الأشخاص. وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره هذه الآية بعد أن أشار إلى حديث أبي هريرة المذكور ما نصه : وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه ؛ لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم. بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية، المبتغى به الترفه والسمن ؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم :«إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الحبر السمين » ومن حديث عمران بن حصين عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«خيركم قرني ثم الذين يلونهم قال عمران. فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم إن من بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن » وهذا ذم. وسبب ذلك : أن السمن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشره والدعة والراحة والأمن، والاسترسال مع النفس على شهواتها ؛ فهو عبد نفسه لا عبد ربه. ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام، وكل لحم تولد من سحت فالنار أولى به. وقد ذم الله تعالى الكفار بكثرة الأكل فقال :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ١٢ ﴾ فإذا كان المؤمن يتشبه بهم ؛ ويتنعم تنعمهم في كل أحواله وأزمانه، فأين حقيقة الإيمان والقيام بوظائف الإسلام. ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه، وزاد بالليل كسله ونومه، فكان نهاره هائماً، وليله نائماً ا ه. محل الغرض من كلام القرطبي ؛ وما تضمنه كلامه من الجزم بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله يبغض الحبر السمين » فيه نظر، لأنه لم يصح مرفوعاً، وقد حسنه البيهقي من كلام كعب. وما ذكر من ذم كثرة الأكل والشرب والسمن المكتسب ظاهر وأدلته كثيرة «وحسب المؤمن لقيمات يقمن صلبه ».
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ١٠٧ ﴾ الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الأعمال الصالحة والإيمان سبب في نيل جنات الفردوس. والآيات الموضحة لكون العمل الصالح سبباً في دخول الجنة كثيرة جداً ؛ كقوله تعالى :﴿ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ٢ مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ٣ ﴾، وقوله :﴿ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٤٣ ﴾ أي بسببه، وقوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٧٢ ﴾. وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً ٦٠ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
فإن قيل هذه ا لآيات فيها الدلالة على أن طاعة الله بالإيمان والعمل الصالح سبب في دخول الجنة. وقوله صلى الله عليه وسلم :«لن يدخل أحدكم عمله الجنة » قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال :«ولا أنا إلا ان يتغمدني الله برحمة منه وفضل » يرد بسببه إشكال على ذلك.
فالجواب أن العمل لا يكون سبباً لدخول الجنة إلا إذا تقبله الله تعالى وتقبله له فضل منه. فالفعل الذي هو سبب لدخول الجنة هو الذي تقبله الله بفضله، وغيره من الأعمال لا يكون سبباً لدخول الجنة. والجمع بين الحديث والآيات المذكورة أوجه أخر، هذا أظهرها عندي. والعلم عند الله تعالى. وقد قدمنا أن «النزل » هو ما يهيأ من الإكرام للضيف أو القادم.
قوله تعالى :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ١٠٨ ﴾ الآية.
أي خالدين في جنات الفردوس لا يبغون عنها حولاً، أي تحولاً إلى منزل آخر، لأنها لا يوجد منزل أحسن منها يرغب في التحول إليه عنها، بل هم خالدون فيها دائماً من غير تحول ولا انتقال. وهذا المعنى المذكور هنا جاء موضحاً في مواضع أخر، كقوله :﴿ الذي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ ﴾ أي الإقامة أبداً، وقوله :﴿ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ٢ مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ٣ ﴾، وقوله :﴿ إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ٥٤ ﴾، وقوله :﴿ عطاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ١٠٨ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على دوامهم فيها، ودوام نعيمها لهم. والحول : اسم مصدر بمعنى التحول.
قوله تعالى :﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ ربّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ ربّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ١٠٩ ﴾ الآية.
أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يقول ﴿ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ ربّي ﴾ أي لو كان ماء البحر مداداً للأقلام التي تكتب بها كلمات الله «لنفد البحر » أي فرغ وانتهى قبل أن تنفد كلمات ربيَ ﴿ وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ١٠٩ ﴾ أي ببحر آخر مثله مدداً، أي زيادة عليه. وقوله «مددا » منصوب على التمييز، ويصح إعرابه حالاً. وقد زاد هذا المعنى إيضاحاً في سورة «لقمان » في قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّمَا في الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ﴾ الآية. وقد دلت هذه الآيات على أن كلماته تعالى لا نفاد لها سبحانه وتعالى علواً كبيراً.
قوله تعالى :﴿ قُلْ إنما أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أنما إلهاكم إله وَاحِدٌ ﴾ الآية.
أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للناس :﴿ إنما أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ أي لا أقول لكم إني ملك ولا غير بشر، بل أنا بشر مثلكم أي بشر من جنس البشر، إلا أن الله تعالى فضلني وخصني بما أوحى إلي من توحيده وشرعه. وقوله هنا ﴿ يُوحَى إِلَىَّ أنما إلهاكم إله وَاحِدٌ ﴾ أي فوحدوه ولا تشركوا به غيره. وهذا الذي بينه تعالى في هذه الآية ؛ أوضحه في مواضع أخر. كقوله في أول «فصّلت » :﴿ قُلْ إنما أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أنما إلهاكم إله وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ٦ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ ٧ ﴾، وقوله تعالى :﴿ قُلْ سُبْحَانَ ربّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ﴾ وقوله :﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عندي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إني مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ ﴾ الآية. وهذا الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية من أنه يقول للناس أنه بشر، ولكن الله فضله على غيره بما أوحى إليه من وحيه جاء مثله عن الرسل غيره صلوات الله وسلامه عليهم في قوله تعالى :﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يشاء مِنْ عِبَادِهِ ﴾ الآية. فكون الرسل مثل البشر من حيث أن أصل الجميع وعنصرهم واحد، وأنهم تجري على جميعهم الأعراض البشرية لا ينافي تفضيلهم على سائر البشر بما خصهم الله به من وحيه واصطفائه وتفضيله كما هو ضروري.
وقال بعض أهل العلم : معنى هذه الآية قل يا محمد للمشركين : إنما أنا بشر مثلكم، فمن زعم منكم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به، فإنني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به عما سألتم عنه من أخبار الماضين كقصة أصحاب الكهف. وخبر ذي القرنين. وهذا له اتجاه والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لقاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا ١١٠ ﴾ الآية.
قوله في هذه الآية :﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لقاء رَبِّهِ ﴾ يشمل كونه يأمل ثوابه، ورؤية وجهه الكريم يوم القيامة، وكونه يخشى عقابه ؛ أي فمن كان راجياً من ربه يوم يلقاه الثواب الجزيل والسلامة من الشر فليعمل عملاً صالحاً. وقد قدمنا إيضاح العمل الصالح وغير الصالح في أول هذه السورة الكريمة وغيرها، فأغنى عن إعادته هنا.
وقوله :﴿ وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا ١١٠ ﴾ قال جماعة من أهل العلم ؛ أي لا يرائي الناس في عمله، لأن العمل بعبادة الله لأجل رياء الناس من نوع الشرك، كما هو معروف عند العلماء أن الرياء من أنواع الشرك. وقد جاءت في ذلك أحاديث مرفوعة. وقد ساق طرفها ابن كثير في تفسير هذه الآية. والتحقيق أن قوله :﴿ وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا ١١٠ ﴾ أعم من الرياء وغيره، أي لا يعبد ربه رياء وسمعة، ولا يصرف شيئاً من حقوق خالقه لأحد من خلقه، لأن الله يقول :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾ الآية في الموضعين، ويقول :﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ في مَكَانٍ سَحِيقٍ ٣١ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة : أن الذي يشرك أحداً بعبادة ربه، ولا يعمل صالحاً أنه لا يرجو لقاء ربه، والذي لا يرجو لقاء ربه لا خير له عند الله يوم القيامة.
وهذا المفهوم جاء مبيناً في مواضع أخر، كقوله تعالى فيما مضى قريباً :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ١٠٥ ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ الآية لأن من كفر بلقاء الله لا يرجو لقاءه. وقوله في «العنكبوت » ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ ولقائه أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رحمتي ﴾ الآية، وقوله في «الأعراف » :﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ولقاء الآخرة حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ١٤٧ ﴾ وقوله في «الأنعام » :﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بلقاء اللَّهِ حَتَّى إِذَا جاءتهم السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ﴾ الآية، وقوله تعالى في «يونس » :﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بلقاء اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ٤٥ ﴾، وقوله في «الفرقان » :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لقاءنا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ٢١ ﴾، وقوله في «الروم » :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ولقاء الآخرة فَأُوْلَئِكَ في الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ١٦ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
اعلم أن الرجال كقوله هنا ﴿ يَرْجُو لقاء رَبِّهِ ﴾ [ ١١٠ ] يستعمل في رجاء الخير، ويستعمل في الخوف أيضاً. واستعماله في رجاء الخير مشهور. ومن استعمال الرجاء في الخوف قول أبي ذؤيب الهذلي :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عواسل
فقوله «لم يرج لسعها » أي لم يخف لسعها. ويروى حالفها بالحاء والخاء، ويروى عواسل بالسين، وعوامل بالميم.
فإذا علمت أن الرجاء يطلق على كلا الأمرين المذكورين فاعلم أنهما متلازمان، فمن كان يرجوا ما عند الله من الخير فهو يخاف ما لديه من الشر كالعكس. واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية الكريمة ؛ أعني قوله تعالى :﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لقاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾ الآية، فعن ابن عباس أنها نزلت في جندب بن زهير الأزدي الغامدي، قال : يا رسول الله، إنني أعمل العمل لله تعالى وأريد وجه الله تعالى، إلا أنه إذا اطلع عليه سرني ؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم :«إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب، ولا يقبل ما شورك فيه » فنزلت الآية وذكره القرطبي في تفسيره، وذكر ابن حجر في الإصابة : أنه من رواية ابن الكلبي في التفسير عن أبي صالح عن أبي هريرة، وضعف هذا السند مشهور، وعن طاوس أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أحب الجهاد في سبيل الله تعالى، وأحب أن يرى مكاني. فنزلت هذه الآية. وعن مجاهد قال : جاء رجل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إني أتصدق وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله تعالى، فيذكر ذلك مني، وأحمد عليه فيسرني ذلك، وأعجب به فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً، فأنزل الله تعالى :﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لقاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا ١١٠ ﴾ انتهى من تفسير القرطبي. ومعلوم أن من قصد بعمله وجه الله فعله لله ولو سره اطلاع الناس على ذلك، ولاسيما إن كان سروره بذلك لأجل أن يقتدوا به فيه. ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. والعلم عند الله تعالى. وقال صاحب الدر المنثور : أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله :﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لقاء رَبِّهِ ﴾ الآية قال : نزلت في المشركين الذين عبدوا مع الله إلهاً غيره، وليست هذه في المؤمنين. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي الدنيا في الإخلاص، وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم عن طاوس قال : قال رجل : يا نبي الله إني أقف موقف أبتغي وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه شيئاً حتى نزلت هذه الآية :﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لقاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا ١١٠ ﴾. وأخرجه الحاكم وصححه، والبيهقي موصولاً عن طاوس عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان من المسلمين من يقاتل وهو يحب أن يرى مكانه. فأنزل الله ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لقاء رَبِّهِ ﴾ الآية. وأخرج ابن منده وأبو نعيم في الصحابة، وابن عساكر من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك لمقالة الناس فلامه الله، فنزل في ذلك :﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لقاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا ١١٠ ﴾، وأخرج هناد في الزهد عن مجاهد قال : جاء رجل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، أتصدق بالصدقة وألتمس بها ما عند الله، وأحب أن يقال لي خير، فنزلت :﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لقاء رَبِّهِ ﴾ ا ه من «الدر المنثور في التفسير بالمأثور » والعلم عند الله تعالى.
Icon