تفسير سورة البقرة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة البقرة
قال سيدنا علي – كرم الله وجهه- :( أول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة )١. وفيها ستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة، ومائتان وست وثمانون آية، وقيل : سبع وثمانون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة. من قرأها في بيته نهارا لم يدخله شيطان ثلاثة أيام، ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال، وفيها سيدة أي القرآن، وهي آية الكرسي " ٢. وإنما كانت سنام القرآن، أي ذروته ؛ لأنها اشتملت على جملة ما فيه من أحوال الإيمان وفروع الإسلام.
وقال صلى الله عليه وسلم :" أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب، وخواتيم البقرة من تحت العرش " ٣.
١ أخرجه السيوطي في الدر المنثور (١/٤٦)..
٢ أخرجه الترمذي في ثواب القرآن باب ٢، والدارمي في فضائل القرآن باب ١٣..
٣ أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، ١٠/٩، والحاكم في المستدرك ١/٥٦١، والبغوي في شرح السنة ٤/٢٦٢..

ثم افتتح السورة برموز رمز بها بينه وبين حبيبه، فقال :
بسم الله الرحمان الرحيم ﴿ الم ﴾
وقد حارت العقول في رموز الحكماء، فكيف بالأنبياء ؟ فكيف بالمرسلين ؟ فكيف بسيد المرسلين ؟، فكيف يطمع أحد في إدراك حقائق رموز رب العالمين ؟ ! قال الصديق رضي الله عنه :( في كل كتاب سر، وسر القرآن فواتح السور ). ه. فمعرفة أسرار هذه الحروف لا يقف عليها إلا الصفوة من أكابر الأولياء. وكل واحد يلمع له على قدر صفاء شربه.
وأقرب ما فيها أنها أشياء أقسم الله بها لشرفها. فقيل : إنها مختصرة من أسمائه تعالى، فالألف من الله، واللام من اللطيف، والميم من مهيمن أو مجيد. وقيل : من أسماء نبيه صلى الله عليه وسلم فالميم مختصرة إما من المصطفى، ويدل عليه زيادة الصاد في ﴿ المص ﴾ [ الأعرَاف : ١ ]، أو من المرسل، ويدل عليه زيادة في الراء
﴿ المر ﴾ [ الرعّد : ١ ]. و ﴿ الر ﴾ [ الحِجر : ١ ] مختصرة من الرسول. فكأن الحق تعالى يقول : يا أيها المصطفى، أو يا أيها الرسول ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ البَقَرَة : ٢ ] أو هذا ﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ [ الأعراف : ٢ ] أو غير ذلك، ويدل على هذا توجيه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم بعد هذه الرموز. و﴿ كهيعص ﴾ [ مريَم : ١ ] مختصرة من الكافي والهادي والولي والعالم والصادق، و﴿ طه ﴾ [ طه : ١ ] من طاهر، و﴿ طس ﴾
[ النَّمل : ١ ] من يا طاهر يا سيد، ويا محمد في ﴿ طسم ﴾ [ الشُّعَرَاء : ١ ]، إلى غير ذلك.
وعند أهل الإشارة يقول الحق جلّ جلاله : ألف : أفْرِدْ سِرَّك إِلّيَّ، انفراد الألف عن سائر الحروف، واللام : لَيِّنْ جوارحك لعبادتي، والميم : أقم معي بمحو رسومك وصفاتك، أزينك بصفاء الأنس والقرب مني. قاله الثعلبي.
قلت : والأظهر أنها حروف تشير للعوالم الثلاثة، فالألف لوحدة الذات في عالم الجبروت، واللام لظهور أسرارها في عالم الملكوت، والميم لسريان أمدادها في عالم الرحموت، والصاد لظهور تصرفها في عالم الملك. وكل حرف من هذه الرموز يدل على ظهور أثر الذات في عالم الشهادة، فالألف يشير إلى سريان الوحدة في مظاهر الأكوان، واللام : يشير إلى فيضان أنوار الملكوت من بحر الجبروت، والميم يشير إلى تصرف الملك في عالم الملك، وكأن الحق تعالى يقول : هذا الكتاب الذي تتلو يا محمد - هو فائض من بحر الجبروت إلى عالم الملكوت، ومن عالم الملكوت إلى الرحموت، ثم نزل به الروح الأمين إلى عالم الملك والشهادة، فلا ينبغي أن يرتاب فيه، ولذلك رتب عليه قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾
﴿ ذّلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ. . . ﴾
قلت : الريب : تحرُّك القلب واضطرابه بالشكوك والأوهام، وتقابله الطمأنينة بالسكون إلى الحق على الدوام.
يقول الحقّ جلَ جلاله : يا أيها الرسول المصطفى والنبيّ المجتبى ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ الذي أنزلناه عليه من جبروت قدسنا وملكوت عزِّنا ﴿ لا رَيْبَ فِيهِ ﴾ أنه من عندنا. فمن ارتاب فيه، أو نسبه إلى غيرنا، فقد استحق البعد من ساحة رحمتنا، وحلّت عليه شدائد نقمتنا، ومن تحقق به أنه من لدنا، وآمن بمن جاء به من عندنا، فقد استحق دخول حضرة قدسنا حتى يسمع منا ويتكلم بنا، فإذا أحببته كنت له، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يتكلم. . . الحديث. فيكون من الصديقين المقربين مع النبيين والمرسلين، وكان في ذروة درجات المتقين، الذين يهتدون بهدي القرآن المبين، كما أشار إلى ذلك بقوله :
﴿. . . هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ قلت :﴿ هدى ﴾ خبر عن مبتدأ مضمر، أو مبتدأ بتقديم الخبر. أي : هو هاد للمتقين، أو فيه الهدى لهم. والهدى : هو الإرشاد والبيان، ومعناه : الدلالة الموصلة إلى الحق. والمتقي : من جعل بينه وبين مقت الله وقاية، وله ثلاث درجات :
* حفظ الجوارح من المخالفات،
* وحفظ القلوب من المساوئ والهفوات،
* وحفظ السرائر من الوقوف مع المحسوسات،
فالأولى لمقام الإسلام، وإليه توجه الخطاب بقوله :﴿ فَاتَقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [ التّغَابُن : ١٦ ]، والثانية لمقام الإيمان، وإليه توجه الخطاب بقوله :﴿ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾
[ المَائدة : ١٠٠ ]، والثالثة لمقام الإحسان، وإليه توجه الخطاب بقوله :﴿ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [ آل عِمرَان : ١٠٢ ].
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ذَلِكَ الكِتَابُ ﴾ الذي لا يقرب ساحتَه شكٍّ ولا ارتياب، هو عين الهداية لأهل التقى من ذوي الألباب، فلا يزالون يَتَرَقَّوْنَ به في المقامات والأحوال حتى يسمعوه من الكبير المتعال، بلا واسطة تبليغ ولا إرسال، قد انمحت في حقهم الرسوم والأشكال، وهذه غاية الهداية، وتحقيق سابق العناية.
قال جعفر الصادق :( والله لقد تجلّى الله تعالى لخلقه في كلامه ولكن لا يشعرون ).
وقال أيضاً - وقد سألوه عن حالة لحقَته في الصلاة حتى خرّ مغشيّاً عليه، فلما سُرِّيَ عنه، قيل له في ذلك فقال :( ما زلت أرددت الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته ).
فدرجات القراءة ثلاث :
أدناها : أن يقرأ العبد كأنه يقرأ على الله تعالى واقفاً بين يديه، وهو ناظر له ومستمع منه، فيكون حاله السؤال والتملق والتضرّع والابتهال.
والثانية : أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يخاطبه بألفاظه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم، والإصغاء والفهم.
والثالثة : أن يرى في الكلام المتكلم، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته، بل يكون فانيّا عن نفسه، غائباً في شهود ربه، لم يبق له عن نفسه إخبار ولا مع غير الله قرار.
فالأولى لأهل الفناء في الأفعال، والثانية لأهل الفناء في الصفات، والثالثة لأهل الفناء في شهود الذات، رضي الله عنهم، وحشرنا على منهاجهم. . . آمين.
ثم وصف المتقين، الذين خصوا بهداية كتابه المبين، بثلاثة أوصاف، فقال :
﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾
قلت : هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال، الأول : عمل قلبي وهو الإيمان، والثاني : عمل بدني، وهو الصلاة، والثالث : عمل مالي، وهو الإنفاق في سبيل الله، وهذه الأعمال هي أساس التقوى التي تدور عليها.
أما العمل القلبي : فهو الإيمان أولاً، والمعرفة ثانياً، فما دام العبد محجوباً بشهود نفسه، محصوراً في الأكوان وفي هيكل ذاته فهو مؤمن بالغيب، يؤمن بوجود الحق تعالى، وبما أخبر به من أمور الغيب، يستدل بوجود أثره عليه، فإذا فني عن نفسه وتلطفت دائرة حسه، وخرجت فكرته عن دائرة الأكوان، أفضى إلى الشهود والعيان، فصار الغيب عنده شهادة، والملك ملكوتاً، والمستقبل حالاً، والآتي واقعاً، وقد قلت ذلك :
فَلا تَرْضى بغَيْرِ الله حِبّاً وكُنْ أبداً بعِشْقٍ واشْتِيَاقِ
تَرَى الأمْرَ الْمُغَيَّبَ ذا عيَانٍ وتَحْظَى بالوصُولِ وبالتَّلاَقِي
وفي الحكم :" لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت بهجة الدنيا وكسوة الفناء ظاهرة عليها ". وقال في التنوير : ولو انْهَتَكَ حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطّى وجود الأكوان. ه.
وإنما اقتصر الحق تعالى على الإيمان بالغيب لأنه هو المكلف به ؛ إذ هو الذي يطيقه جلّ العباد، بخلاف المعرفة الخاصة فلا يطيقها إلا الخصوص، والله تعالى أعلم.
وأما العمل البدني : فهو إقامة الصلاة، والمراد بإقامتها إتقان شروطها وأركانها وخشوعها، وحفظ السر فيها، قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه :( كل موضع ذكر فيه المصلّون في معرض المدح فإنما جاء لمن أقام الصلاة، إما بلفظ الإقامة، وإما بمعنى يرجع إليها، قال تعالى :﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصَّلاَةَ ﴾، وقال تعالى :﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ ﴾ [ الإسرَاء : ٧٨ ]، ﴿ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ ﴾ [ الحَجّ : ٣٥ ]، ولما ذكر المصلّين بالغفلة قال :﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ( ٤ ) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ( ٥ ) ﴾ [ الماعون : ٤، ٥ ] ولم يقل : فويل للمقيمين الصلاة ).
وأما العمل المالي فهو الإنفاق في سبيل الله واجباً أو مندوباً، وهو من أفضل القربات، يقول الله - تبارك وتعالى :" يا ابنَ آدم أنفِقْ، أنفقْ عليك "، وفي حديث آخر :" أنفِقْ ولا تخَفْ مِنْ ذي العرشِ إقْلالاً " وقال صلى الله عليه وسلم :" إنّ فِي الجنَةِ غُرفاً يُرى ظَاهِرُهَا مِنْ باطنها وباطِنَها مِنْ ظَاهِرهَا ". قيل : لِمَنْ هِي يا رسولَ الله ؟ قال :" لِمَنْ أطْعَمَ الطعَامَ، وأفْشَى، السلام، وصَلى باللَّيْلِ والناسُ نِيام ". وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم :" إن الله - عزّ وجلّ - ليُدْخلُ باللقمةِ مِن الخبز والقبضةِ مِن التمْر ومثله ممَّا ينتفع به المسكين ثلاثةً، الجنةَ : رَب البيتِ الآمرَ به، والزوجة تصلحه، والخادمَ الذي يناولهُ المسْكِين ". وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم :" إنّ الصدقةَ لتسُدُّ سَبعينَ باباً من السّوء ".
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم :" صنائِع المعْرُوف تقي مَصارعَ السُّوءِ، وصدقةُ السِّر تُطفِئ غَضَبَ الربِّ، وصِلةُ الرَّحِم تزيدُ في العمرِ ".
الإشارة : يا من غرق في بحر الذات وتيار الصفات ﴿ ذلك الكتاب ﴾ الذي تسمع من أنوار ملكوتنا، وأسرار جبروتنا ﴿ لا ريب فيه ﴾ أنه من عندنا، فلا تسمعه من غيرها،
﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ﴾ [ القيامة : ١٨ ]، فهو هاد لشهود ذاتنا، ومرشد للوصول إلى حضرتنا، لمن اتقى شهود غيرِنا، وغرق في بحر وحدتنا، الذي يؤمن بغيب غيبنا، وأسرار جبروتنا، التي لا تحيط بها العلوم، ولا تسمو إلى نهايتها الأفكار والفهوم، الذي جمع بين مشاهدة الربوبية، والقيام بوظائف العبودية، إظهاراً لسر الحكمة بعد التحقق بشهود القدرة، فهو على صلاته دائم، وقلبه في غيب الملكوت هائم، ينفق مما رزقه الله من أسرار العلوم ومخازن الفهوم، فهو دائماً ينفق من سعة علمه وأنوار فيضه، فلا جرم أنه على بينة من ربه.
ولما ذكر الحق تعالى من آمن من العرب، ذكر من آمن من أهل الكتاب، فقال :
﴿ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( ٤ ) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( ٥ ) ﴾
يقول الحقّ جل جلاله :﴿ وَالَّذينَ ﴾ يصدقون ﴿ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ يا محمد من الأخبار الغيبية والأحكام الشرعية، والأسرار الربانية والعلوم اللدنية ﴿ ومَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ من الكتب السماوية، والأخبار القدسية، وهم ﴿ يُوقِنُونَ ﴾ بالبعث والحساب والرجوع إلينا والمآب، على نعتٍ ما أخبرتُ به في كتابي وأخبار أنبيائي.
قلت : الموصول مبتدأ، و﴿ أولئك ﴾ خبره، أو عطف على ﴿ المتقين ﴾، وحذف المنزل عليه في جانب الكتب المتقدمة، فلم يقُلْ : وما أنزل على مَن قبلك ؛ إشارة إلى أن الإيمان بالكتب المتقدمة دون معرفة أعيان المنزل عليهم كاف، إلا من ورد تعيينُه في الكتاب والسنّة فلا بد من الإيمان به، أما القرآن العظيم فلا بد من الإيمان أنه منزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن اعتقد أنه منزل على غيره كالروافض فإنه كافر بإجماع، ولذلك ذكر المتعلق بقوله :﴿ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قلت : كأن الآية الأولى في الواصلين، والثانية في السائرين، لأن الأولين وصفهم بالإنفاق من سعة علومهم، وهؤلاء وصفهم بالتصديق في قلوبهم، فإن داموا على السير كانوا مفلحين فائزين بما فاز به الأولون. فأهل الآية الأولى من أهل الشهود والعيان، وأهل الثانية من أهل التصديق والإيمان. أهل الأولى ذاقوا طعم الخصوصية، فقاموا بشهود الربوبية وآداب العبودية، وأهل الثانية صدقوا بنزول الخصوصية ودوامها، واستنشقوا شيئاً من روائح أسرارها وعلومها، فهم يوقنون بوجود الحقيقة، عالمون برسوم الطريقة، فلا جرم أنهم على الجادة وطريق الهداية، وهم مفلحون بالوصول إلى عين العناية. دون الفرقة الثالثة التي هي الإنكار موسومة، ومن نيل العناية محرومة، التي أشار إليها الحق تعالى بقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾.
﴿ أُولَئِكَ ﴾ راكبون على مَتْنِ الهداية، مُسْتَعْلون على محمل العناية، محفوفون بجيش النصر والرعاية، ﴿ وَأُولَئِكَ هُم ﴾ الظافرون بكل مطلوب، الناجون من كل مخوف ومرهوب، دون من عداهم ممن سبق له الخذلان، فلم يكن له إيمان ولا إيقان، فلا هداية له ولا نجاح، ولا نجاة له ولا فلاح، نسأل الله العصمة بمنّه وكرمه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قلت : كأن الآية الأولى في الواصلين، والثانية في السائرين، لأن الأولين وصفهم بالإنفاق من سعة علومهم، وهؤلاء وصفهم بالتصديق في قلوبهم، فإن داموا على السير كانوا مفلحين فائزين بما فاز به الأولون. فأهل الآية الأولى من أهل الشهود والعيان، وأهل الثانية من أهل التصديق والإيمان. أهل الأولى ذاقوا طعم الخصوصية، فقاموا بشهود الربوبية وآداب العبودية، وأهل الثانية صدقوا بنزول الخصوصية ودوامها، واستنشقوا شيئاً من روائح أسرارها وعلومها، فهم يوقنون بوجود الحقيقة، عالمون برسوم الطريقة، فلا جرم أنهم على الجادة وطريق الهداية، وهم مفلحون بالوصول إلى عين العناية. دون الفرقة الثالثة التي هي الإنكار موسومة، ومن نيل العناية محرومة، التي أشار إليها الحق تعالى بقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ * ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾
قلت :﴿ سواء ﴾ خبر مقدم، و﴿ أنذرتهم ﴾ مبتدأ لسبك همزة التسوية، أي : الإنذار وعدمه سواء في حق هؤلاء الكفرة، والجملة خبر إن.
يقول الحقّ جلّ جلاله : يا محمد ﴿ إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ بما أنزل إليك جهراً، وسبقت لهم مني الشقاوة سرّاً، لا ينفع فيهم الوعظ والإنذار، ولا البشارة والتذكار، فإنذارك وعدمه في حقهم سواء، لما سبق لهم مني الطرد والشقاء، فالتذكير في حقهم عناء، والغيبة عن أحوالهم راحة وهناء، لأني ختمتُ على قلوبهم بطابع الكفران، فلا يهتدون إلى إسلام ولا إيمان، ومنعت أسماعهم أن تصغي إلى الوعظ والتذكير، فلا ينجع فيهم تخويف ولا تحذير، وغشيت أبصارهم بظلمة الحجاب فلا يبصرون الحق والصواب، قد أعددتُهم لعذابي ونقمتي، وطردتهم عن ساحة رحمتي ونعمتي.
وإنما أمرتك بإنذارهم لإقامة الحجة عليهم، وإني وإن حكمت عليهم أنهم من أهل مخالفتي وعنادي ؛ فإني لا أظلم أحداً من خلقي وعبادي، ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الأنعَام : ١٤٩ ]. فما ظلمتُهم ؛ لأني بعثتُ الرسلَ مبشرين ومنذرين، ولكن ظلموا أنفسهم فكانوا هم الظالمين، فحكمتي اقتضيت الإنذار، وقدرتي اقتضت القهر والإجبار، فالواجب عليك أيها العبد أن تكون لك عينان : عين تنظر لحكمتي وشريعتي فتتأدب، وعينٌ تنظر لقدرتي وحقيقتي فتُسلم، وتكون بي الأمن والرّهْب، فلا تأمَنْ مَكْرِي وإن أمَّنتُك، ولا تيأس من حلمي وإن أبعدتك، فعلمي لا يحيط به محيط، إلا من هو بكل شيء محيط.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إن الذين أنكروا وجود الخصوصية، وجحدوا أهل مشاهدة الربوبية من أهل التربية النبوية، لا ينفع فيهم الوعظ والتذكير، بما سبق لهم في علم الملك القدير، فسواء عليهم أأنذرتهم وبال القطيعة والحجاب، أم لم تنذرهم ؛ لعدم فتح الباب، قد ختم الله على قلوبهم بالعوائد والشهوات، أو حلاوة الزهد والطاعات، أو تحرير المسائل والمشكلات، وعلى سمع قلوبهم بالخواطر والغفلات، وجعل على أبصارهم غشاوة الحجاب، فلا يبصرون إلا المحسوسات، غائبون عن أسرار المعاني وأنوار التجليات، بخلاف قلوب العارفين، فإنها ترى من أسرار المعاني ما لا يُرى للناظرين، وفي ذلك يقول الشاعر :
قلوبُ العَارفِينَ لَهَا عُيُونٌ تَرى ما لا يُرى للناظرينا
وألسنةٌ بأسْرارٍ تُنَاجِي تغيبُ عَنَ الكِرَام الكَاتِبِينَا
وأجنحةٌ تَطِيرُ بغير ريشٍ إلى ملكُوتٍ ربِّ العَالَمِينَا
فسبحان من حجب العالمين بصلاحهم عن مصلحهم، وحجب العلماء بعلمهم عن معلومهم، واختصّ قوماً بنفوذ عزائمهم إلى مشاهدة ذات محبوبهم، فهم في رياض ملكوته يتنزهون، وفي بحار جبروته يسبحون، ﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ [ الصَّافات : ٦١ ].

و﴿ غشاوة ﴾ مبتدأ، والجار قبله خبره، والغشاوة : ما يغشى الشيء ويغطيه، كنى به عن مانع قهرهم عن الإيمان.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ * ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾
قلت :﴿ سواء ﴾ خبر مقدم، و﴿ أنذرتهم ﴾ مبتدأ لسبك همزة التسوية، أي : الإنذار وعدمه سواء في حق هؤلاء الكفرة، والجملة خبر إن.
يقول الحقّ جلّ جلاله : يا محمد ﴿ إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ بما أنزل إليك جهراً، وسبقت لهم مني الشقاوة سرّاً، لا ينفع فيهم الوعظ والإنذار، ولا البشارة والتذكار، فإنذارك وعدمه في حقهم سواء، لما سبق لهم مني الطرد والشقاء، فالتذكير في حقهم عناء، والغيبة عن أحوالهم راحة وهناء، لأني ختمتُ على قلوبهم بطابع الكفران، فلا يهتدون إلى إسلام ولا إيمان، ومنعت أسماعهم أن تصغي إلى الوعظ والتذكير، فلا ينجع فيهم تخويف ولا تحذير، وغشيت أبصارهم بظلمة الحجاب فلا يبصرون الحق والصواب، قد أعددتُهم لعذابي ونقمتي، وطردتهم عن ساحة رحمتي ونعمتي.
وإنما أمرتك بإنذارهم لإقامة الحجة عليهم، وإني وإن حكمت عليهم أنهم من أهل مخالفتي وعنادي ؛ فإني لا أظلم أحداً من خلقي وعبادي، ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الأنعَام : ١٤٩ ]. فما ظلمتُهم ؛ لأني بعثتُ الرسلَ مبشرين ومنذرين، ولكن ظلموا أنفسهم فكانوا هم الظالمين، فحكمتي اقتضيت الإنذار، وقدرتي اقتضت القهر والإجبار، فالواجب عليك أيها العبد أن تكون لك عينان : عين تنظر لحكمتي وشريعتي فتتأدب، وعينٌ تنظر لقدرتي وحقيقتي فتُسلم، وتكون بي الأمن والرّهْب، فلا تأمَنْ مَكْرِي وإن أمَّنتُك، ولا تيأس من حلمي وإن أبعدتك، فعلمي لا يحيط به محيط، إلا من هو بكل شيء محيط.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إن الذين أنكروا وجود الخصوصية، وجحدوا أهل مشاهدة الربوبية من أهل التربية النبوية، لا ينفع فيهم الوعظ والتذكير، بما سبق لهم في علم الملك القدير، فسواء عليهم أأنذرتهم وبال القطيعة والحجاب، أم لم تنذرهم ؛ لعدم فتح الباب، قد ختم الله على قلوبهم بالعوائد والشهوات، أو حلاوة الزهد والطاعات، أو تحرير المسائل والمشكلات، وعلى سمع قلوبهم بالخواطر والغفلات، وجعل على أبصارهم غشاوة الحجاب، فلا يبصرون إلا المحسوسات، غائبون عن أسرار المعاني وأنوار التجليات، بخلاف قلوب العارفين، فإنها ترى من أسرار المعاني ما لا يُرى للناظرين، وفي ذلك يقول الشاعر :
قلوبُ العَارفِينَ لَهَا عُيُونٌ تَرى ما لا يُرى للناظرينا
وألسنةٌ بأسْرارٍ تُنَاجِي تغيبُ عَنَ الكِرَام الكَاتِبِينَا
وأجنحةٌ تَطِيرُ بغير ريشٍ إلى ملكُوتٍ ربِّ العَالَمِينَا
فسبحان من حجب العالمين بصلاحهم عن مصلحهم، وحجب العلماء بعلمهم عن معلومهم، واختصّ قوماً بنفوذ عزائمهم إلى مشاهدة ذات محبوبهم، فهم في رياض ملكوته يتنزهون، وفي بحار جبروته يسبحون، ﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ [ الصَّافات : ٦١ ].


ولما ذكر الحق – جل جلاله- من أعلن بالإنكار، ذكر من أسر بالجحود وأظهر الإقرار، فقال جل وعلا :
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ * ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾
قلت :﴿ من ﴾ موصوفة مبتدأ، والخبر مقدم، أي : ومن الناس ناس يقولون كذا، والمخادعة : إظهار خلاف ما يخفي من المكروه، وأصل الخدع : الإخفاء، ومنه المخدع للبيت الذي يخبأ فيه المتاع. وقيل : الفساد لأن المنافقين يفسدون إيمانهم بما يُخْفُون.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وَمِنَ النَّاسِ ﴾ مَن هم مغموص عليهم بالنفاق كبعض اليهود والمنافقين، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يقولون :﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِاليَومِ الآخِر ﴾ وما هُم في عداد المؤمنين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ومن الناس مَن يترامى بالدعوى على الخصوصية، ويدعي تحقيق مشاهدة الربوبية، وهو في الدرك الأسفل من العمومية، يظهر خلوص الإيمان وتحقيق العرفان، وهو في أودية الشكوك والخواطر حيران، وفي فيافي القطيعة والفَرْقِ ظمآن، لسانه منطلق بالدعوى، وقلبه خارب من الهدي، يخادع الله بالرضا عن عيوبه ومساوئه، ويخادع المسلمين بتزيين ظاهره، وباطنه معمور بحظوظه ومهاويه، يتزيى بِزِيِّ العارفين ويتعامل معاملة الجاهلين، ويصدق عليه قول القائل١ :
أمَّا الخِيَامُ فَإنَّها كخِيَامهمْ وأَرَى نِسَاءَ الحيِّ غَيْرَ نِسَائِهَا
وما يخادع في الحقيقة إلا نفسه، حيث حرمها الوصول، وتركها في أودية الأكوان تجول، قلبه بمرض الفرق والقطعية سقيم، وهو يظن أنه في عداد مَن يأتي الله بقلب سليم، فزاده الله مرضاً على مرضه حيث رضي بسقمه وعيبه، وله عذاب الحرص والتعب في ضيق الحجاب والنصب بسبب كذبه على الله، وإنكاره على أولياء الله، فجزاؤه البعد والخذلان، وسوء العاقبة والحرمان، عائذاً بالله من المكر والطغيان.

وجملة ﴿ وما يشعرون ﴾ حالية، أي : غير شاعرين، والشعور : التفطن، وفعله من باب كَرُمَ ونَصَرَ. وليت شعري : أي : ليت فطنتي تدرك هذا.
﴿ يُخَادِعُونَ ﴾ بزعمهم ﴿ اللَّهَ والَّذينَ آمَنُوا ﴾ بما يظهرون من الإيمان، ﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ ﴾ في الحقيقة ﴿ إلاَّ أَنفُسَهُمْ ﴾ ؛ لأن وبال خداعهم راجع إليهم، ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ أن خداعهم وبال عليهم، وإنما حصلت لهم هذه المخادعة لأن ﴿ في قُلُوبِهِم مرض ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ومن الناس مَن يترامى بالدعوى على الخصوصية، ويدعي تحقيق مشاهدة الربوبية، وهو في الدرك الأسفل من العمومية، يظهر خلوص الإيمان وتحقيق العرفان، وهو في أودية الشكوك والخواطر حيران، وفي فيافي القطيعة والفَرْقِ ظمآن، لسانه منطلق بالدعوى، وقلبه خارب من الهدي، يخادع الله بالرضا عن عيوبه ومساوئه، ويخادع المسلمين بتزيين ظاهره، وباطنه معمور بحظوظه ومهاويه، يتزيى بِزِيِّ العارفين ويتعامل معاملة الجاهلين، ويصدق عليه قول القائل١ :
أمَّا الخِيَامُ فَإنَّها كخِيَامهمْ وأَرَى نِسَاءَ الحيِّ غَيْرَ نِسَائِهَا
وما يخادع في الحقيقة إلا نفسه، حيث حرمها الوصول، وتركها في أودية الأكوان تجول، قلبه بمرض الفرق والقطعية سقيم، وهو يظن أنه في عداد مَن يأتي الله بقلب سليم، فزاده الله مرضاً على مرضه حيث رضي بسقمه وعيبه، وله عذاب الحرص والتعب في ضيق الحجاب والنصب بسبب كذبه على الله، وإنكاره على أولياء الله، فجزاؤه البعد والخذلان، وسوء العاقبة والحرمان، عائذاً بالله من المكر والطغيان.

وجملة ﴿ في قلوبهم مرض ﴾ تعليلية للمخادعة، والمرض : الضعف والفتور، وهو هنا مرض القلوب بالشك والنفاق. والعياذ بالله.
﴿ في قُلُوبِهِم ﴾ مرضاً من الشك والحسد، فقلوبهم مذبذبة، وأنفسهم مغمومة، ﴿ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ﴾ على مرضهم بما ينزل عليهم من الآيات التي تفضحهم، ﴿ وَلَهُمْ ﴾ في الآخرة - إذا قدموا على الله - ﴿ عَذَابٌ ﴾ موجع بسبب تكذيبهم رسول الله أو كذبهم على الله. هذا مُضَمَّنُ الآية.
افتتح الحق - جلّ جلاله - بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، ثم ثنى بالكافرين الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً، ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة ؛ لأنهم خلطوا بالكفر استهزاء وخداعاً، ولذلك كانوا في الدرك الأسفل من النار.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ومن الناس مَن يترامى بالدعوى على الخصوصية، ويدعي تحقيق مشاهدة الربوبية، وهو في الدرك الأسفل من العمومية، يظهر خلوص الإيمان وتحقيق العرفان، وهو في أودية الشكوك والخواطر حيران، وفي فيافي القطيعة والفَرْقِ ظمآن، لسانه منطلق بالدعوى، وقلبه خارب من الهدي، يخادع الله بالرضا عن عيوبه ومساوئه، ويخادع المسلمين بتزيين ظاهره، وباطنه معمور بحظوظه ومهاويه، يتزيى بِزِيِّ العارفين ويتعامل معاملة الجاهلين، ويصدق عليه قول القائل١ :
أمَّا الخِيَامُ فَإنَّها كخِيَامهمْ وأَرَى نِسَاءَ الحيِّ غَيْرَ نِسَائِهَا
وما يخادع في الحقيقة إلا نفسه، حيث حرمها الوصول، وتركها في أودية الأكوان تجول، قلبه بمرض الفرق والقطعية سقيم، وهو يظن أنه في عداد مَن يأتي الله بقلب سليم، فزاده الله مرضاً على مرضه حيث رضي بسقمه وعيبه، وله عذاب الحرص والتعب في ضيق الحجاب والنصب بسبب كذبه على الله، وإنكاره على أولياء الله، فجزاؤه البعد والخذلان، وسوء العاقبة والحرمان، عائذاً بالله من المكر والطغيان.

ثم ذكر أقوالهم الشنيعة، وأحوالهم الفظيعة، فقال :
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ * ﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾
قلت :﴿ إذا ﴾ ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه، أي : قالوا نحن مصلحون، وقت قول القائل لهم : لا تفسدوا، والجملة بيان وتقرير لخداعهم، أو معطوفة على
﴿ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا ﴾ [ البقرة : ٨ ]، أي : ومن الناس فرقة إذا قيل لهم : لا تفسدوا، قالوا : إنما نحن مصلحون.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وَإذَا قيل ﴾ لهؤلاء المنافقين :﴿ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ ﴾ بالمعاصي والتعويق عن الإيمان، وإغراء أهل الكفر والطغيان على أهل الإسلام والإيمان، وتهييج الحروب والفتن، وإظهار الهرج والمرج والمحن، وإفشاء أسرار المسلمين إلى أعدائهم الكافرين، فإن ذلك يؤدي إلى فساد النظام، وقطع مواد الإنعام، ﴿ قَالُوا ﴾ في جوابهم الفاسد :﴿ إنما نحن مصلحون ﴾ في ذلك، فلا تصح مخاطبتنا بذلك، فإن من شأننا الإصلاح والإرشاد، وحالنا خالص من شوائب الفساد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإذ قيل لمن يشتغل بالتعويق عن طريق الله والإنكار على أولياء الله : أقصر من هذا الإفساد، وارجع عن هذا الغي والعناد، فقد ظهرت معالم الإرشاد لأهل المحبة والوداد. قال : إنما أنا مصلح ناصح، وفي أحوالي كلها صالح، يقول له الحق جلّ جلاله : بل أفسدت قلوب عبادي، ورددتهم عن طريق محبتي وودادي، وعوقتهم عن دخول حضرتي، وحرمتهم شهود ذاتي وصفاتي، سددت بابي في وجه أحبابي، آيستهم من وجود التربية، وتحكمت على القدرة الأزلية، ولكنك لا تشعر بما أنت فيه من البلية.
ولقد صدق من سبقت له العناية، وأُتحف بالرعاية والهداية، حيث يقول :
فَهَذِهِ طريقَةُ الإشْرَاقِ كَانَتْ وتَبْقَى ما الوُجُودُ بَاقِ

وقال أيضاً :
وأَنْكَرُوهُ مَلاٌ عَوَامٌ لَمْ يَفْهَمُوا مَقْصُودَهُ فَهَامُوا
فَتُبْ أيها المذكر قبل الفوات، واطلب من يأخذ بيدك قبل الممات، لئلا تلقى الله بقلب سقيم، فتكون في الحضيض الأسفل من عذابه الأليم، فسبب العذاب وجود الحجاب، وإتمام النعيم النظر لوجهه الكريم، منحنا الله منه الحظ الأوفى في الدنيا والآخرة. آمين.

قال تعالى :﴿ ألا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ ﴾ هنالك، ولكن لا شعور لهم بذلك.
قلت : فردّ الله ما ادعوه من الانتظام في سلك المصلحين بأقبح رد وأبلغه، من وجوه الاستئناف الذي في الجملة، والاستفتاح بالتنبيه، والتأكيد بإن وضمير الفعل، وتعريف الخبر، والتعبير بنفي الشعور، إذ لو شعروا أدنى شعور لتحققوا أنهم مفسدون.
وهذه الآية عامة لكل مَن اشتغل بما لا يعنيه، وعوق عن طريق الخصوص، ففيه شعبة من النفاق، وفي صحيح البخاري :" ثَلاثٌ من كُنَّ فِيهِ كان مُنَافِقاً خالِصاً : إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا أؤْتُمِنَ خانَ ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإذ قيل لمن يشتغل بالتعويق عن طريق الله والإنكار على أولياء الله : أقصر من هذا الإفساد، وارجع عن هذا الغي والعناد، فقد ظهرت معالم الإرشاد لأهل المحبة والوداد. قال : إنما أنا مصلح ناصح، وفي أحوالي كلها صالح، يقول له الحق جلّ جلاله : بل أفسدت قلوب عبادي، ورددتهم عن طريق محبتي وودادي، وعوقتهم عن دخول حضرتي، وحرمتهم شهود ذاتي وصفاتي، سددت بابي في وجه أحبابي، آيستهم من وجود التربية، وتحكمت على القدرة الأزلية، ولكنك لا تشعر بما أنت فيه من البلية.
ولقد صدق من سبقت له العناية، وأُتحف بالرعاية والهداية، حيث يقول :
فَهَذِهِ طريقَةُ الإشْرَاقِ كَانَتْ وتَبْقَى ما الوُجُودُ بَاقِ

وقال أيضاً :
وأَنْكَرُوهُ مَلاٌ عَوَامٌ لَمْ يَفْهَمُوا مَقْصُودَهُ فَهَامُوا
فَتُبْ أيها المذكر قبل الفوات، واطلب من يأخذ بيدك قبل الممات، لئلا تلقى الله بقلب سقيم، فتكون في الحضيض الأسفل من عذابه الأليم، فسبب العذاب وجود الحجاب، وإتمام النعيم النظر لوجهه الكريم، منحنا الله منه الحظ الأوفى في الدنيا والآخرة. آمين.

ثم ذكر الحق تعالى استهزائهم بالإسلام وامتناعهم منه، فقال :
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَآءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾
قلت : الكاف من ﴿ كَمَا آمَنَ ﴾ صفة لمصدر محذوف، و﴿ ما ﴾ مصدرية. أي : إذا قيل لهم آمنوا إيماناً خالصاً من النفاق مثل إيمان المسلمين، أو من أسلم من جلدتهم، والسفه : خفة وطيش في العقل، يقال : ثوب سفيه، أي : خفيف.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وَإذَا قِيلَ ﴾ لهؤلاء المنافقين من المشركين واليهود : اتركوا ما أنتم عليه من الكفر والجحود، وراقبوا الملك المعبود، وطهروا قلوبكم من الكفر والنفاق، وأقصروا مما أنتم فيه من العباد والشقاق و﴿ آمنوا ﴾ إيماناً خالصاً مثل إيمان المسلمين، لتكونوا معهم في أعلى عليين، " مَنْ أحَبَّ قَوْماً حُشرِ مَعهم ". " المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ "، ﴿ قَالُوا ﴾ مترجمين عما في قلوبهم من الكفر والنفاق :﴿ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفُهَاءُ ﴾ الذين لا عقل لهم، إذ جُلهم فقراء ومَوَالي.
قال الحق تعالى في الرد عليهم وتقبيح رأيهم :﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ ﴾ لا غيرهم، حيث تركوا ما هو السبب في الفوز العظيم بالنعيم المقيم، وارتكبوا ما استوجبوا به الخلود في الدرك الأسفل من الجحيم ﴿ وَلَكَن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾، ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَي مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾ [ الشُّعَراء : ٢٢٧ ]، عبَّر الحق في هذه الآية ب ﴿ لا يعلمون ﴾ وفي الأولى ب
﴿ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ الأعرَاف : ٩٥ ] ؛ لأن الفساد في الأرض يدرك بأدنى شعور، بخلاف الإيمان والتمييز بين الحق والباطل ؛ فيحتاج إلى زيادة تفكر واكتساب علم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : وإذا قيل لأهل الإنكار على أهل الخصوصية، القاصدين مشاهدة عظمة الربوبية، قد تجرّدوا عن لباس العز والاشتهار، ولبسوا أطمار الذل والافتقار، آمنوا بطريق هؤلاء المخصوصين، وادخلوا معهم كي تكونوا من المقربين. قالوا :﴿ أنؤمن كما آمن السفهاء ﴾ ونترك ما نحن عليه من العز والكبرياء، قال الله تعالى في تسفيه رأيهم وتقبيح شأنهم :﴿ ألا إنهم هم السفهاء ﴾ ؛ حيث تعززوا بعز يفنى، وتركوا العز الذي لا يفنى، قال الشاعر :
تَذَلَّلْ لِمَنْ تَهْوَى لِتَكْسِبَ عِزَّةً فَكَمْ عِزَّةً قَدْ نَالَهَا المَرْءُ بِالذُّلِّ
إذَا كانَ مَنْ تَهْوَى عَزِيزاً، ولم تكُنْ ذَلِيلاً لَهُ، فَاقْرَ السَّلامَ عَلَى الوَصْلِ
فلو علموا ما في طيّ الذل من العز، وما في طي الفقر من الغنى، لجالدوا عليه بالسيوف، ولكن لا يعلمون.
ثم بين الحق تعالى ما أضمروه من النفاق وأظهروه من الوفاق، فقال :
﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ * ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ * ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾
قلت : اللقاء : المصادفة بلا قصد، والخلو بالشيء أو معه : الانفراد به، ضمنه هنا معنى رجع، ولذلك تعدَّى بإلى، و( الشيطان ) فَيْعَالٌ، من شَطَنَ، إذا بعد، أو فَعْلاَن من شاط، إذا بطل، والاستهزاء بالشيء : الاستخفاف بحقه، والعَمَهُ في البصيرة كالعمى في البصر.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في وصف المنافقين تقريراً لنفاقهم : إنهم كانوا ﴿ إذَا لَقُوا ﴾ الصحابة أظهروا الإيمان، وإذا رجعوا ﴿ إلَى شَيَاطِينِهِمْ ﴾ أي : كبرائهم المتمردين في الكفر والطغيان، ﴿ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ﴾ لم نخرج عن ديننا ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ بهم، ومستسخرون بشأنهم، نزلت في عبد الله بن أُبَيّ - رأس المنافقين - كان إذا لقي سعداً قال : نعم الدين دين محمد، وإذا خلا برؤساء قومه من أهل الكفر، شدوا أيديكم على دين آبائكم.
وخرج ذات يوم مع أصحابه فاستقبلهم نفر من الصحابة - رضوان الله عليهم - فقال عبدُ الله لأصحابه : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال : مرحباً بالصدِّيق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد عمر، فقال : مرحباً بسيد بني عدي بن كعب، الفاروق، القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد عَلِيّ ؛ فقال : مرحباً بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخِتِنِه١، سيد بني هاشم، ما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليّ رضي الله عنه : يا عبد الله، اتق الله ولا تنافق، فإن المنافقين شرُّ خليقة الله، فقال عبد الله : مهلاً يا أبا الحسن، أنى تقول هذا ؟ والله إن إيماننا كإيمانكم، وتصديقنا كتصديقكم، فنزلت الآية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الناس في طريق الخصوص على أربعة أقسام :
قسم : سبقت لهم من الله العناية، وهبت عليهم ريح الهداية : فصدقوا ودخلوا فيها، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، فَتَجِرُوا فيه وربحوا، فعوّضهم الله تعالى جنة المعارف، يتبوؤون منها حيث شاءوا، فإذا قدموا عليه أدخلهم جنة الزخارف، يسرحون فيها حيث شاءوا، وأتحفهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم.
وقسم : سبقت لهم من الله الهداية، وحفتهم الرعاية، فصدقوا وأقروا، ولكنهم ضعفوا عن الدخول، ولم تتعلق همتهم بالوصول، فبقوا في ضعفاء المسلمين ﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ... ﴾ [ التّوبَة : ٩١ ].
وقسم : أنكروا وأظهروا وجحدوا وكفروا، فتجروا وخسروا، " مَنْ عَادَى لي وَلِياً فقَد آذنْتُهُ بالْحَربِ ".
وقسم رابع : هم مذبذبون بين ذلك إذا لقوا أهل الخصوصية قالوا : آمنا وصدقنا فأنتم على الجادة، وإذا رجعوا إلى أهل التمرد من المنكرين - طعنوا وجحدوا، وقالوا : إنما كنا بهم مستهزئين، ﴿ الله يستهزئ بهم ﴾ بما يظهر لهم من صور الكرامات والاستدراجات، ويمدهم في تعاطي العوائد والشهوات، وطلب العلو والرئاسات، متحيرين في مهامه الخواطر والغفلات.
﴿ أولئك الذي اشتروا الضلالة ﴾ عن طريق الخصوص من أهل الوصول، ﴿ بالهدى ﴾ الذي كان بيدهم، لو حصل لهم التصديق والدخول، فما ربحوا في تجارتهم، وما كانوا مهتدين إلى بلوغ المأمول. قال بعض العارفين :( التصديق بطريقتنا ولاية، والدخول فيها عناية، والانتقاد عليها جناية ). وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.


١ الختن: كل ما كان من قبل المرأة كأبيها وأخيها، وكذلك زوج البنت أو الأخت..
ثم ردّ الله تعالى عليهم فقال :﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾ أي : يفعل بهم فعل المستهزئ ؛ بأن يفتح لهم باباً إلى الجنة وهم في النار، ويطلع المؤمنين عليهم، فيقول لهم : ادخلوا الجنة، فإذا جاءوا يستبقون إليها وطمعوا في الدخول، سُدَّتْ عليهم ورجعوا إلى النار،
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾ [ المطفّفِين : ٣٤ ] الآية.
﴿ وَيَمُدُّهُمْ ﴾ أي : يمهلهم ﴿ فِي ﴾ كفرهم، و﴿ طُغْيَانِهِمْ ﴾ يتحيرون إلى يوم يبعثون لأنهم ﴿ اشْتَرُوا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الناس في طريق الخصوص على أربعة أقسام :
قسم : سبقت لهم من الله العناية، وهبت عليهم ريح الهداية : فصدقوا ودخلوا فيها، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، فَتَجِرُوا فيه وربحوا، فعوّضهم الله تعالى جنة المعارف، يتبوؤون منها حيث شاءوا، فإذا قدموا عليه أدخلهم جنة الزخارف، يسرحون فيها حيث شاءوا، وأتحفهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم.
وقسم : سبقت لهم من الله الهداية، وحفتهم الرعاية، فصدقوا وأقروا، ولكنهم ضعفوا عن الدخول، ولم تتعلق همتهم بالوصول، فبقوا في ضعفاء المسلمين ﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ... ﴾ [ التّوبَة : ٩١ ].
وقسم : أنكروا وأظهروا وجحدوا وكفروا، فتجروا وخسروا، " مَنْ عَادَى لي وَلِياً فقَد آذنْتُهُ بالْحَربِ ".
وقسم رابع : هم مذبذبون بين ذلك إذا لقوا أهل الخصوصية قالوا : آمنا وصدقنا فأنتم على الجادة، وإذا رجعوا إلى أهل التمرد من المنكرين - طعنوا وجحدوا، وقالوا : إنما كنا بهم مستهزئين، ﴿ الله يستهزئ بهم ﴾ بما يظهر لهم من صور الكرامات والاستدراجات، ويمدهم في تعاطي العوائد والشهوات، وطلب العلو والرئاسات، متحيرين في مهامه الخواطر والغفلات.
﴿ أولئك الذي اشتروا الضلالة ﴾ عن طريق الخصوص من أهل الوصول، ﴿ بالهدى ﴾ الذي كان بيدهم، لو حصل لهم التصديق والدخول، فما ربحوا في تجارتهم، وما كانوا مهتدين إلى بلوغ المأمول. قال بعض العارفين :( التصديق بطريقتنا ولاية، والدخول فيها عناية، والانتقاد عليها جناية ). وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

﴿ اشْتَرُوا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ﴾ أي : استبدلوا بها رأس مالهم، فضلاً عن الربح، إذ الإيمان رأس المال، وأعمال الطاعات ربح، فإذا ذهب الرأس فلا ربح ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُمْ ﴾، بل خسرت صفقتهم، ﴿ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ إلى أسباب الربح أبداً، لاستبدالهم الهدى - التي هي رأس المال - بالضلالة - التي هي سبب الخسران. وبالله التوفيق.
وها هنا استعارات وبلاغات يطول سردها، إذ مرادنا تربية اليقين بكلام رب العالمين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الناس في طريق الخصوص على أربعة أقسام :
قسم : سبقت لهم من الله العناية، وهبت عليهم ريح الهداية : فصدقوا ودخلوا فيها، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، فَتَجِرُوا فيه وربحوا، فعوّضهم الله تعالى جنة المعارف، يتبوؤون منها حيث شاءوا، فإذا قدموا عليه أدخلهم جنة الزخارف، يسرحون فيها حيث شاءوا، وأتحفهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم.
وقسم : سبقت لهم من الله الهداية، وحفتهم الرعاية، فصدقوا وأقروا، ولكنهم ضعفوا عن الدخول، ولم تتعلق همتهم بالوصول، فبقوا في ضعفاء المسلمين ﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ... ﴾ [ التّوبَة : ٩١ ].
وقسم : أنكروا وأظهروا وجحدوا وكفروا، فتجروا وخسروا، " مَنْ عَادَى لي وَلِياً فقَد آذنْتُهُ بالْحَربِ ".
وقسم رابع : هم مذبذبون بين ذلك إذا لقوا أهل الخصوصية قالوا : آمنا وصدقنا فأنتم على الجادة، وإذا رجعوا إلى أهل التمرد من المنكرين - طعنوا وجحدوا، وقالوا : إنما كنا بهم مستهزئين، ﴿ الله يستهزئ بهم ﴾ بما يظهر لهم من صور الكرامات والاستدراجات، ويمدهم في تعاطي العوائد والشهوات، وطلب العلو والرئاسات، متحيرين في مهامه الخواطر والغفلات.
﴿ أولئك الذي اشتروا الضلالة ﴾ عن طريق الخصوص من أهل الوصول، ﴿ بالهدى ﴾ الذي كان بيدهم، لو حصل لهم التصديق والدخول، فما ربحوا في تجارتهم، وما كانوا مهتدين إلى بلوغ المأمول. قال بعض العارفين :( التصديق بطريقتنا ولاية، والدخول فيها عناية، والانتقاد عليها جناية ). وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

ثم ضرب مثل المنافقين، زيادة في توبيخهم وتقبيح شأنهم، فقال :
﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ * ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾
قلت :﴿ استوقد ﴾ يحتمل أن تكون للطلب، أو زائدة بمعنى أوقد، و﴿ لما ﴾ شرطية، و﴿ ذهب ﴾ جواب، وإذا كان لفظ الموصول مفرداً واقعاً على جماعة، يصح في الضمير مراعاة لفظه فيفرد، ومعناه فيجمع، فأفرد في الآية أولاً، وجمع ثانياً، ويقال : أضاء يضيء إضاءة، وضَاء يضُوء ضَوْءاً.
يقول الحقّ جلّ جلاله : مثل هؤلاء المنافقين من اليهود ﴿ كَمَثَلِ ﴾ رجل في ظلمة، تائه في الطريق، فاستوقد ناراً ليبصر طريق القصد ﴿ فَلَمَّا ﴾ اشتعلت و﴿ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ﴾ فأبصر الطريق، وظهرت له معالم التحقيق، أطفأ الله تلك النار وأذهب نورها، ولم يبق إلا جمرها وحرّها. كذلك اليهود كانوا في ظلمة الكفر والمعاصي ينتظرون ظهور نور النبيّ صلى الله عليه وسلم ويطلبونه، فلما قدم عليهم، وأشرقت أنواره بين أيديهم كفروا به، فأذهب الله عنهم نوره، ﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ﴾ الكفر والشك والنفاق، ﴿ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ ولا يهتدون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مَثَلُ مَنْ كان في ظلمات الحجاب قد أحاطت به الشكوك والارتياب، وهو يطلب من يأخذ بيده ويهديه إلى طريق رشده، فلما ظهرت أنوار العارفين، وأحدقت به أسرار المقربين، حتى أشرقت من نورهم أقطارُ البلاد، وحَيِيَ بهم جلّ العباد، أنكرهم وبعد منهم، فتصامم عن سماع وعظهم، وتباكَمَ عن تصديقهم، وعَمِيَ عن شهود خصوصيتهم، فلا رجوع له عن حظوظه وهواه، ولا انزجار له عن العكوف على متابعة دنياه، مثله كمن كان في ظلمات الليل ضالاً عن الطريق، فاستوقد ناراً لتظهر له الطريق، فلما اشتعلت وأضاءت ما حوله أذهب الله نورها، وبقي جمرها وحرّها، وهذه سنة ماضية : لا ينتفع بالولي إلا مَن كان بعيداً منه. وفي الحديث :" أزْهَدُ النَّاسِ في العَالِم جيرانُه "، وقد مَثَّلُوا الولي بالنهر الجاري كلما بَعُدَ جَرْيُه عَمَّ الانتفاعُ به، ومثَّلوه أيضاً بالنخلة لا تُظِلُّ إلا عن بُعْد. والله تعالى أعلم.
﴿ صُمٌّ ﴾ عن سماع الحق، ﴿ بُكْمٌ ﴾ عن النطق به ﴿ عُمْي ﴾ عن رؤية نوره، ﴿ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ﴾ عن غيّهم، ولا يقصرون عن ضلالتهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مَثَلُ مَنْ كان في ظلمات الحجاب قد أحاطت به الشكوك والارتياب، وهو يطلب من يأخذ بيده ويهديه إلى طريق رشده، فلما ظهرت أنوار العارفين، وأحدقت به أسرار المقربين، حتى أشرقت من نورهم أقطارُ البلاد، وحَيِيَ بهم جلّ العباد، أنكرهم وبعد منهم، فتصامم عن سماع وعظهم، وتباكَمَ عن تصديقهم، وعَمِيَ عن شهود خصوصيتهم، فلا رجوع له عن حظوظه وهواه، ولا انزجار له عن العكوف على متابعة دنياه، مثله كمن كان في ظلمات الليل ضالاً عن الطريق، فاستوقد ناراً لتظهر له الطريق، فلما اشتعلت وأضاءت ما حوله أذهب الله نورها، وبقي جمرها وحرّها، وهذه سنة ماضية : لا ينتفع بالولي إلا مَن كان بعيداً منه. وفي الحديث :" أزْهَدُ النَّاسِ في العَالِم جيرانُه "، وقد مَثَّلُوا الولي بالنهر الجاري كلما بَعُدَ جَرْيُه عَمَّ الانتفاعُ به، ومثَّلوه أيضاً بالنخلة لا تُظِلُّ إلا عن بُعْد. والله تعالى أعلم.
ثم ضرب لهم مثلا آخر، فقال :
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيا آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ * ﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
قلت :﴿ أو ﴾ للتنويع، أو بمعنى الواو، و﴿ الصيب ﴾ : المطر، فَيْعِلٌ، من صاب المطر إذا نزل، وهو على حذف مضاف، أي : أو كذي صيب، وأصله : صيوب، كسيد، قلبت الواو ياء وأدغمت، ولا يوجد هذا إلا في المعتل كميت وهين وضيق وطيب.
و﴿ الرعد ﴾ : الصوت الذي يخرج من السحاب، و﴿ البرق ﴾ : النور الذي يخرج منه. قال ابن عزيز : رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إنَّ الله عزَّ وجلَّ ينشىءُ السَّحَابَ فَتنطِقُ أحْسَنَ النطْق، وتَضْحَكُ أحسَنُ الضحك، فنطقها الرعدُ، وضَحِكُها البَرْقُ ". وقال ابن عباس :" الرعدُ مَلَكٌ يسوقُ السَّحابَ، والبرقُ سَوْطٌ مِنْ نُورٍ يَزْجُرُ بهِ السَّحَاب ). ه. والصواعق : قطعة من نار تسقط من المخراق الذي بيد سائق السحاب، وقيل : تسقط من نار بين السماء والأرض، والله تعالى أعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ومثل المنافقين أيضاً كأصحاب مطر غزير ﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ ﴾ وهدير أصابهم في ليلة مظلمة وقفراء مُدْلهمة. فيه ﴿ بَرْقٌ ﴾ يلمع، وصاعقة تقمع، إذا ضرب الرعد وعظم صوته جعلوا ﴿ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم ﴾ من الهول والخوف حذراً من موت أنفسهم، وقد ماتت أرواحهم وقلوبهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أهل الخصوصية إذا ظهروا بين العموم بأحوال غريبة وعلوم وَهْبية، وأسرار ربانية وأذكار نورانية، دهشوا منهم وتحيّروا في أمرهم، وخافوا على أنفسهم، فإذا سمعوا منهم علوماً لدنية وأسراراً ربانية فرّوا منها، وجعلوا أصابعهم في آذانهم، خوفاً على نفسهم أن تفارق عوائدها وهواها، وإذا خاصمهم أحد من العموم ألجموه بالحجة، فتكاد تلك الحجة تخطفه إلى الحضرة، كلما لمع له شيء من الحق مشى إلى حضرته، وإذا كرّت عليه الخصوم والخواطر، وأظلم عليه الحال، وقف في الباب حيران، ولو شاء الله لذهب بعقله وسمعه وبصره، فيبصر به إلى حضرته. من استغرب أن ينقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ مُّقْتَدِراً ﴾ [ الكهف : ٤٥ ].
فالصِّيَّب الذي نزل من السماء كِنَايةٌ عن الواردات والأحوال التي ترد على قلوب العارفين، ويظهر أثرها على جوارحهم، والظلمات التي فيها كناية عن اختفاء بعضها عن أهل الشريعة فينكرونها، والرعد كناية عن اللهج بذكر الله جهراً في المحافل والحلق، والبرق كناية عن العلوم الغريبة التي ينطقون بها والحجج التي يحتجون بها على الخصوم، فإذا سمعها العوام اشمأزت قلوبهم عن قبولها، فإذا وقع منهم إنصاف تحققوا صحتها فمالوا إلى جهتها، ومَشَوْا إلى ناحيتها، فإذا كَرَّت عليهم الخصوم قاموا منكرين، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ [ هُود : ١١٨ ].

وإذا ضرب البرق كاد ﴿ أن يخطف أبصارهم ﴾، فإذا لمع أبصروا الطريق، و﴿ مشوا فيه، وإذا أظلم عيهم قاموا ﴾ متحيرين حائدين عن عين التحقيق، ﴿ وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطُ ﴾ [ البُرُوج : ٢٠ ]. ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ﴾ بصوت ذلك الرعد، ﴿ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾ بلمعان ذلك البرق، ﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ لا يعجزه شيء.
هذا مثلهم في تحيّرهم واضطرابهم، فيحتمل أن يكون من التشبيه المركب، وهو تشبيه الجملة بالجملة، أو من المفَصَّل، فيكون المطر مثالاً للقرآن، وفيه ذكر الكفر والنفاق المُشَبَّهَيْن بالظلمات، والوعد عليه والزجر المشبّه بالرعد، والحُجج الباهرة التي تكاد أحياناً تبهرهم المشبهة بالبرق، وتخوفهم وروعُهم هو جَعْل أصابعهم في آذانهم، لئلا يسمعوا فيميلوا إلى الإيمان، وفَضْحُ نفاقهم وتكاليفُ الشرع التي يكرهونها هي الصواعق. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أهل الخصوصية إذا ظهروا بين العموم بأحوال غريبة وعلوم وَهْبية، وأسرار ربانية وأذكار نورانية، دهشوا منهم وتحيّروا في أمرهم، وخافوا على أنفسهم، فإذا سمعوا منهم علوماً لدنية وأسراراً ربانية فرّوا منها، وجعلوا أصابعهم في آذانهم، خوفاً على نفسهم أن تفارق عوائدها وهواها، وإذا خاصمهم أحد من العموم ألجموه بالحجة، فتكاد تلك الحجة تخطفه إلى الحضرة، كلما لمع له شيء من الحق مشى إلى حضرته، وإذا كرّت عليه الخصوم والخواطر، وأظلم عليه الحال، وقف في الباب حيران، ولو شاء الله لذهب بعقله وسمعه وبصره، فيبصر به إلى حضرته. من استغرب أن ينقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ مُّقْتَدِراً ﴾ [ الكهف : ٤٥ ].
فالصِّيَّب الذي نزل من السماء كِنَايةٌ عن الواردات والأحوال التي ترد على قلوب العارفين، ويظهر أثرها على جوارحهم، والظلمات التي فيها كناية عن اختفاء بعضها عن أهل الشريعة فينكرونها، والرعد كناية عن اللهج بذكر الله جهراً في المحافل والحلق، والبرق كناية عن العلوم الغريبة التي ينطقون بها والحجج التي يحتجون بها على الخصوم، فإذا سمعها العوام اشمأزت قلوبهم عن قبولها، فإذا وقع منهم إنصاف تحققوا صحتها فمالوا إلى جهتها، ومَشَوْا إلى ناحيتها، فإذا كَرَّت عليهم الخصوم قاموا منكرين، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ [ هُود : ١١٨ ].

ولما ذكر الحق من تخلق بالإيمان ظاهراً وباطناً، ومن تحلّى به كذلك، ومن أخفى الكفر وأظهر الإيمان، دعا الكل إلى توحيده وعبادته، فقال :
﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ( ٢١ ) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ( ٢٢ ) ﴾.
قلت : جملة الترجي حال من الواو في ﴿ اعبدوا ﴾ أي : اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدي والفلاح، والمستوجبين جوار الله تعالى، نبه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين ؛ وهو التبري من كل شيء سوى الله تعالى –إلى الله تعالى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : توجه الخطاب إلى العارفين الكاملين في الإنسانية الذين يعبدون الله تعظيما لحق الربوبية، وقياما بوظائف العبودية، وفيهم قال صحاب العينية١ :
هم الناس فالزم إن عرفت جنابهم ففيهم لضر العالمين منافع

وقال قبل ذلك :
هم القصد للملهوف والكنز والرجا ومنهم ينال الصب ما هو طامع
بهم يهتدي للعين من ضل في العمى بهم يجذب العشاق، والربع شاسع
هم القصد والمطلوب والسؤل والمنى واسمهم للصب في الحب شافع
فعبادة العارفين : بالله ومن الله وإلى الله، وعبادة الجاهلين : بأنفسهم ومن أنفسهم ولأنفسهم، عبادة العارفين حمد وشكر، وعبادة الغافلين اقتضاء حظ وأجر، عبادة العارفين قلبية باطنية وعبادة الغافلين حسية ظاهرية، يا أيها الناس المخصوصون بالأنس والقرب دوموا على عبادة القريب، ومشاهدة الحبيب، فقد رفعت بيني وبينكم الحجب والأستار، وأشهدتكم عجائب الألطاف والأسرار، أبرزتكم إلى الوجود، وأدخلتكم من باب الكرم والجود، ومنحتكم بفضلي غاية الشهود، لعلكم تتقون الإنكار والجحود، وتعرفونني في كل شاهد ومشهود.
فقد جعلت أرض نفوسكم مهادا لعلوم الشريعة، وسماء قلوبكم سقفا لأسرار الحقيقة، وأنزلت من سماء الملكوت ماء غيبيا تحيا به أرض النفوس، وتهتز بواردات حضرة القدوس، فتخرج من ثمرات العلوم اللدنية، والأسرار الربانية والأحوال المرضية، ما تتقوت به عائلة المستمعين، وتنتعش به أسرار السائرين، فلا تشهدوا معي غيري، ولا تميلوا لغير إحساني وبري، فقد علمتم أني منفرد بالوجود، ومختص بالكرم والجود، فكيف يرجى غيري وأنا ما قطعت الإحسان ؟ ! وكيف يلتفت إلى ما سواي وأنا بذلت عادة الامتنان ؟ ! مني كان الإيجاد وعلي دوام الإمداد، فثقوا بي كفيلا، واتخذوني وكيلا، أعطكم عطاء جزيلا، وأمنحكم فخرا جليلا.

و﴿ الذي جعل ﴾ صفة للرب، و﴿ فلا تجعلوا ﴾ معطوف على ﴿ اعبدوا ﴾ على أنه نهي، أو منصوب بأن، جواب له، و( الأنداد ) جمع ند، بكسر النون. وهو الشبه والمثل، و﴿ أنتم تعلمون ﴾ حال من ضمير ﴿ فلا تجعلوا ﴾ أي : فلا تجعلوا لله أندادا والحال أنكم من أهل العلم.
يقول الحق جل جلاله : يا عبادي اعبدوني بقلوبكم بالتوحيد والإيمان، وبجوارحكم بالطاعة والإذعان، وبأرواحكم بالشهود والعيان، فأنا الذي أظهرتكم من العدم –أنتم ومن كان قبلكم- وأسبلت عليكم سوابغ النعم، الأرض تقلكم والسماء تظلكم، والجهات تكتنفكم، وأنزلت من السماء ماء فأخرجت به أصنافا ﴿ من الثمرات رزقا لكم ﴾، فأنتم جوهرة الصدق، تنطوي عليكم أصداف مكنوناتي، وأنتم أطلعتكم على أسرار مكنوناتي، فكيف يمكنكم أن تتوجهوا إلى غيري ؟ وقد أغنيتكم بلطائف إحساني وبري، أنعمت عليكم أولا بالإيجاد، وثانيا بتوالي الإمداد، خصصتكم بنور العقل والفهم، وأشرقت عليكم نبذة من أنوار القدم، فبي عرفتموني، وبقدرتي عبدتموني، فلا شريك معي ولا ظهير، ولا احتياج إلى معين ولا وزير.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : توجه الخطاب إلى العارفين الكاملين في الإنسانية الذين يعبدون الله تعظيما لحق الربوبية، وقياما بوظائف العبودية، وفيهم قال صحاب العينية١ :
هم الناس فالزم إن عرفت جنابهم ففيهم لضر العالمين منافع

وقال قبل ذلك :
هم القصد للملهوف والكنز والرجا ومنهم ينال الصب ما هو طامع
بهم يهتدي للعين من ضل في العمى بهم يجذب العشاق، والربع شاسع
هم القصد والمطلوب والسؤل والمنى واسمهم للصب في الحب شافع
فعبادة العارفين : بالله ومن الله وإلى الله، وعبادة الجاهلين : بأنفسهم ومن أنفسهم ولأنفسهم، عبادة العارفين حمد وشكر، وعبادة الغافلين اقتضاء حظ وأجر، عبادة العارفين قلبية باطنية وعبادة الغافلين حسية ظاهرية، يا أيها الناس المخصوصون بالأنس والقرب دوموا على عبادة القريب، ومشاهدة الحبيب، فقد رفعت بيني وبينكم الحجب والأستار، وأشهدتكم عجائب الألطاف والأسرار، أبرزتكم إلى الوجود، وأدخلتكم من باب الكرم والجود، ومنحتكم بفضلي غاية الشهود، لعلكم تتقون الإنكار والجحود، وتعرفونني في كل شاهد ومشهود.
فقد جعلت أرض نفوسكم مهادا لعلوم الشريعة، وسماء قلوبكم سقفا لأسرار الحقيقة، وأنزلت من سماء الملكوت ماء غيبيا تحيا به أرض النفوس، وتهتز بواردات حضرة القدوس، فتخرج من ثمرات العلوم اللدنية، والأسرار الربانية والأحوال المرضية، ما تتقوت به عائلة المستمعين، وتنتعش به أسرار السائرين، فلا تشهدوا معي غيري، ولا تميلوا لغير إحساني وبري، فقد علمتم أني منفرد بالوجود، ومختص بالكرم والجود، فكيف يرجى غيري وأنا ما قطعت الإحسان ؟ ! وكيف يلتفت إلى ما سواي وأنا بذلت عادة الامتنان ؟ ! مني كان الإيجاد وعلي دوام الإمداد، فثقوا بي كفيلا، واتخذوني وكيلا، أعطكم عطاء جزيلا، وأمنحكم فخرا جليلا.

ولما أمر عباده بعبادته وتوحيده، أمرهم بتصديق كلامه والإيمان برسوله، فقال :
﴿ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ * ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ * ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
فإن قلت : الريب في القرآن قد وقع من الكفار قطعاً، فكيف عبّر بإِنْ الدالة على الشك والتردد ؟
قلت :﴿ إن ﴾ جازمة للفظ الشرط أو محله، موضوعة للشك في الشرط. و " إذا " لا تجزم في اللفظ، وتدل على الجزم في المعنى، وفي ذلك يقول القائل :
أنا إنْ شَككتُ وجدْتُموني جَازِماً وإذا جَزمتُ فإنني لَمْ أجزمِ
فإن قلت : الريب في القرآن قد وقع من الكفار قطعاً، فكيف عبّر بإنْ الدالة على الشك والتردد ؟ قلت : لما كان ريبهم واقعاً في غير محله - إذ لو تأملوا أدنى تأمل لزال ريبهم لوضوح الأمر وسطوع البرهان - كان ريبهم كأنه مشكوك فيه ومتردد في وقوعه، و( الشهداء ) جمع شهيد بمعنى الحاضر، أو القائم بالشهادة، أو الناصر، أُطْلِقَ على الأصنام ؛ لأنهم يزعمون أنها تشهد لهم، ومعنى ( دون ) : أدنى مكان من الشيء، ثم استعير للرُّتَب فقيل : زيد دون عمرو ؛ أي : في الشرف، ثم اتسع فيه فاستعير لكل تجاوزِ حدّ إلى حد، وتخطّي أمرٍ إلى آخر.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وَإِن كُنتُمْ ﴾ يا معشر الكفار ﴿ فِي ﴾ شك ﴿ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى ﴾ محمد ﴿ عَبْدِنَا ﴾ ورسولنا المختار لِسِرّ وحينا، ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن ﴾ جنسه في البلاغة والفصاحة، مشتملة على علوم وأسرار ومغيبات كما اشتمل عليه كتابي، ﴿ وَادْعُوا ﴾ من استطعتم ممن تنتصرون به على ذلك الإتيان، مِن آلهتكم التي تزعمون أنها تشهد لكم يوم القيامة، أو من حضركم من البلغاء والفصحاء ممن تنتصرون به ﴿ مِن دُونِ اللَّهِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في أنها تنفعكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإن كنتم يا معشر العوام في شك مما خصصنا به ولينا من الأنوار، وما أنزلنا على قلبه من المعارف والأسرار، وما ظهر عليه من البهجة والأنوار، وما اهتدى على يديه من الصالحين والأبرار، فأتوا أنتم بشيء من ذلك، وانتصروا بما قدرتم من دون الله إن كنتم صادقين في المعارضة، قال القشيري : وكما أن كيد الكافرين يَضْمَحِلُّ في مقابلة معجزات الرسول، فكذلك دعاوى المُلْبِسين تتلاشى عند ظهور أنوار الصديقين. هـ.
فإن لم تفعلوا ما ذكرنا من المعارضة، ولن تقدروا على ذلك أبداً، فأَذْعنوا، واخْضعوا، واتقوا نار القطيعة والحظوظ، والطمع والهلع، التي مادتها النفوس والفلوس ؛ إذ بهما هلك مَن هلك وفاز مَن فاز ؛ أُعدت تلك النار للمنكرين الخصوصية، الجاحدين لوجود التربية النبوية.
وبَشِّر الصديقين بوجود الخصوصية، المنقادين لأهلها، أن لهم جنات المعارف في الدنيا، وجنات الزخارف في الآخرة، تجري من تحت قلوب أهلها أنوار العلوم والمعارف، فإذا كشف لهم يوم القيامة عن أسرار ذاته، قالوا : هذا الذي عرفناه من قبل في دار الدنيا، إذ الوجود واحد والمعرفة متفاوتة، وأتُوا بأرزاق المعارف متشابهة ؛ لأن مَنْ عَرَفه في الدنيا عرفه في الآخرة، ومَن أنكره هنا أنكره يوم القيامة، إلا في وقت مخصوص على وجه مخصوص، ولهم في جنات المعارف عرائس المعارف والكشوفات، مطهرات من أدناس الحس وعبث الهوى والشهوات، وهم بعد تمكنهم من شهود الذات، خالدون في عُشّ الحضرة، فيها يسكنون وإليها يأوون.
وقال القشيري : كما أن أهل الجنة يجدد لهم النعيم في وقت، فالثاني عندهم على ما يظنون كالأول، فإذا ذاقوه وجدوه غير ما تقدم، كذلك أهل الحقائق : أحوالهم في الزيادة أبداً، فإذا رقي أحدهم عن محله، توهم أن الذي سيلقاه في هذا النَّفس مثل ما تقدم، فإذا ذاقه وجده فوق ذلك بأضعاف، كما قال قائلهم٢ :
ما زِلتُ أنزلُ مِنْ وِدادِكَ مَنْزِلاً تَتحَيرُ الألبابُ عِندَ نُزُولهِ

﴿ فَإن لَّمْ ﴾ تقدروا أن ﴿ تَفْعَلُوا ﴾ ذلك ﴿ ولَن ﴾ تقدروا أبداً فأسلموا وأقرُّوا بالحق، و﴿ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ أي : حجارة الكبريت، فَهُمَا حطبُها ووقودها ﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإن كنتم يا معشر العوام في شك مما خصصنا به ولينا من الأنوار، وما أنزلنا على قلبه من المعارف والأسرار، وما ظهر عليه من البهجة والأنوار، وما اهتدى على يديه من الصالحين والأبرار، فأتوا أنتم بشيء من ذلك، وانتصروا بما قدرتم من دون الله إن كنتم صادقين في المعارضة، قال القشيري : وكما أن كيد الكافرين يَضْمَحِلُّ في مقابلة معجزات الرسول، فكذلك دعاوى المُلْبِسين تتلاشى عند ظهور أنوار الصديقين. هـ.
فإن لم تفعلوا ما ذكرنا من المعارضة، ولن تقدروا على ذلك أبداً، فأَذْعنوا، واخْضعوا، واتقوا نار القطيعة والحظوظ، والطمع والهلع، التي مادتها النفوس والفلوس ؛ إذ بهما هلك مَن هلك وفاز مَن فاز ؛ أُعدت تلك النار للمنكرين الخصوصية، الجاحدين لوجود التربية النبوية.
وبَشِّر الصديقين بوجود الخصوصية، المنقادين لأهلها، أن لهم جنات المعارف في الدنيا، وجنات الزخارف في الآخرة، تجري من تحت قلوب أهلها أنوار العلوم والمعارف، فإذا كشف لهم يوم القيامة عن أسرار ذاته، قالوا : هذا الذي عرفناه من قبل في دار الدنيا، إذ الوجود واحد والمعرفة متفاوتة، وأتُوا بأرزاق المعارف متشابهة ؛ لأن مَنْ عَرَفه في الدنيا عرفه في الآخرة، ومَن أنكره هنا أنكره يوم القيامة، إلا في وقت مخصوص على وجه مخصوص، ولهم في جنات المعارف عرائس المعارف والكشوفات، مطهرات من أدناس الحس وعبث الهوى والشهوات، وهم بعد تمكنهم من شهود الذات، خالدون في عُشّ الحضرة، فيها يسكنون وإليها يأوون.
وقال القشيري : كما أن أهل الجنة يجدد لهم النعيم في وقت، فالثاني عندهم على ما يظنون كالأول، فإذا ذاقوه وجدوه غير ما تقدم، كذلك أهل الحقائق : أحوالهم في الزيادة أبداً، فإذا رقي أحدهم عن محله، توهم أن الذي سيلقاه في هذا النَّفس مثل ما تقدم، فإذا ذاقه وجده فوق ذلك بأضعاف، كما قال قائلهم٢ :
ما زِلتُ أنزلُ مِنْ وِدادِكَ مَنْزِلاً تَتحَيرُ الألبابُ عِندَ نُزُولهِ

﴿ وَبَشِّرِ ﴾ يا محمد ويا مَن يصلح منه التبشير ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ بالله ورسوله، ﴿ وَعَمِلُوا ﴾ ما كلفوا به من الأعمال ﴿ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارِ ﴾ أي : من تحت قصورها، وهي أنهار من ماء، وأنهار من عسل، وأنهار من لبن، وأنهار من خمر لذة للشاربين. ﴿ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً ﴾ أي : صنفاً، ﴿ قَالُوا هَذَا الَّذِين رُزقْنَا مِن قَبْلُ ﴾ في دار الدنيا، فإن الطباع تميل إلى المألوف، فالصفة متفقة والطعم مختلف. أو في الجنة، قيل : هذا لما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" والذي نفسُ محمدٍ بيدِه إنَّ الرجلَ مِنْ أهلِ الجنةِ لَيتَناولُ الثمرة لِيأكلهَا فما هي واصِلةٌ إلى جَوفِه حتى يبدل الله تعالى مكانها مِثلَها "، فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك، لفرط استغرابهم، وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة، ﴿ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ ﴾ أي : حور ﴿ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ من الحيض، وسائر الأدناس، ومن الأخلاق المذمومة، والشيم الذميمة، ﴿ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ ؛ فإن النعيم إذا كان يعقُبه الفناء تنغّص على صاحبه، كما قال الشاعر١ :
لا خيرَ في العيشِ ما دَامتْ مُنغَّصَةً لَذاتُه بادِّكارِ الموتِ والهَرَمِ
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإن كنتم يا معشر العوام في شك مما خصصنا به ولينا من الأنوار، وما أنزلنا على قلبه من المعارف والأسرار، وما ظهر عليه من البهجة والأنوار، وما اهتدى على يديه من الصالحين والأبرار، فأتوا أنتم بشيء من ذلك، وانتصروا بما قدرتم من دون الله إن كنتم صادقين في المعارضة، قال القشيري : وكما أن كيد الكافرين يَضْمَحِلُّ في مقابلة معجزات الرسول، فكذلك دعاوى المُلْبِسين تتلاشى عند ظهور أنوار الصديقين. هـ.
فإن لم تفعلوا ما ذكرنا من المعارضة، ولن تقدروا على ذلك أبداً، فأَذْعنوا، واخْضعوا، واتقوا نار القطيعة والحظوظ، والطمع والهلع، التي مادتها النفوس والفلوس ؛ إذ بهما هلك مَن هلك وفاز مَن فاز ؛ أُعدت تلك النار للمنكرين الخصوصية، الجاحدين لوجود التربية النبوية.
وبَشِّر الصديقين بوجود الخصوصية، المنقادين لأهلها، أن لهم جنات المعارف في الدنيا، وجنات الزخارف في الآخرة، تجري من تحت قلوب أهلها أنوار العلوم والمعارف، فإذا كشف لهم يوم القيامة عن أسرار ذاته، قالوا : هذا الذي عرفناه من قبل في دار الدنيا، إذ الوجود واحد والمعرفة متفاوتة، وأتُوا بأرزاق المعارف متشابهة ؛ لأن مَنْ عَرَفه في الدنيا عرفه في الآخرة، ومَن أنكره هنا أنكره يوم القيامة، إلا في وقت مخصوص على وجه مخصوص، ولهم في جنات المعارف عرائس المعارف والكشوفات، مطهرات من أدناس الحس وعبث الهوى والشهوات، وهم بعد تمكنهم من شهود الذات، خالدون في عُشّ الحضرة، فيها يسكنون وإليها يأوون.
وقال القشيري : كما أن أهل الجنة يجدد لهم النعيم في وقت، فالثاني عندهم على ما يظنون كالأول، فإذا ذاقوه وجدوه غير ما تقدم، كذلك أهل الحقائق : أحوالهم في الزيادة أبداً، فإذا رقي أحدهم عن محله، توهم أن الذي سيلقاه في هذا النَّفس مثل ما تقدم، فإذا ذاقه وجده فوق ذلك بأضعاف، كما قال قائلهم٢ :
ما زِلتُ أنزلُ مِنْ وِدادِكَ مَنْزِلاً تَتحَيرُ الألبابُ عِندَ نُزُولهِ


١ البيت بلا نسبة في أوضح المسالك ١/٢٤٢، وتلخيص الشواهد ص ٢٤١، والدرر ٢/٦٩، وشرح ابن عقيل ص ١٤٠، ويروى: "لا طيب للعيش"، "لا خير في العيش"..
ولما ضرب الله الأمثال في القرآن للمنافقين وغيرهم تكلم في ذلك بعض الكفار والملحدين، بين الحق تعالى وجه ذلك فقال :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
قلت : الحياء : خُلُق كريم يمنع صاحبه من ارتكاب ما يعاب به، وفي الحديث :" إنَّ الله حَيِيٌ كَريم "، و﴿ مثلاً ﴾ مفعول، و﴿ ما ﴾ نكرة، صفته، و﴿ بعوضة ﴾ بدل، والبعوضة : الذباب. وفي الحديث :" لوْ كَانَتِ الدُّنيَا تُسَاوِي عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ مَا سَقَى الكافرَ منها جَرْعَة ماءٍ "، وقيل : صِغَار البَقِّ، أي : إن الله لا يترك أن يضرب مثلاً - أيّ مثل كان - بعوضة فما فوقها. أو ﴿ بعوضة ﴾ مفعول أول، و﴿ مثلاً ﴾ مفعول ثانٍ، من باب جعل، و﴿ ماذا ﴾ إما مبتدأ وخبرِ، على أن ﴿ ذا ﴾ موصولة، أو مفعولة بأراد على أنها مركبة، و﴿ مثلاً ﴾ حال أو تمييز. والفسق : الخروج، يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها.
يقوله الحقّ جلّ جلاله :﴿ إنَّ اللَّهَ ﴾ لا يترك ترك المستحيي ﴿ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً ﴾ بالخسيس والكبير كالذباب والعنكبوت وغير ذلك. فأما المؤمنون فيتيقَّنُون ﴿ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ﴾، وحكمته : إبراز المعاني اللطيفة في قوالب المحسوسات ليسهل الفهم، وأما الكفار فيعترضون ويقولون :﴿ مَاذَا أَرَادَ الله ﴾ بهذه الأمثال ؟ فإن الله منزه عن ضرب الأمثال بهذه الأشياء الخسيسة، قال الله تعالى في الرد عليهم : أراد بهذا إضلال قوم بسبب إنكارها، وهداية آخرين بسبب الإيمان بها، ﴿ وَمَا يُضِلُّ ﴾ بذلك المثل إلا الخارجين عن طاعته.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إن الله لا يترك أن يظهر مثلاً من أنوار قدسه بارزاً بقدرته، مرتدياً برداء حكمته، ملتبساً بأسرار ذاته، مَكسُوّاً بأنوار صفاته من الذرة إلى ما لا نهاية له، فالمتجلِّي في النملة هو المتجلي في الفيلة، فأما الذين صَدَّقُوا بتجلي الذات في أنوار الصفات، فيقولون : إنه الحق فائضٌ من نور الربوبية، محتجباً برداء الكبرياء وسبحات الألوهية. وأما الجاحدون لظهور نور ذات الربوبية فينكرونه في حال ظهوره، ويقولون : ماذا أراد الله بهذه العوالم الظاهرة ؟ فيقول الحق تعالى : أردت ظهور قدرتي وعجائب حكمتي، ليظهر سر ربوبيتي في مظاهر عبوديتي.
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :" العبودية جوهرة أظهر بها الربوبية " وقيل لأبي الحسن النُّورِي : ما هذه الأماكن والمخلوقات الظاهرة ؟ فقال : عز ظاهر وملك قاهر، ومخلوقات ظاهرة به، وصادرة عنه، لا هي متصلة به ولا منفصلة عنه، فرغ من الأشياء ولم تفرغ منه، لأنها تحتاج إليه وهو لا يحتاج إليها. هـ.
فأراد الله بظهور هذا الكون أن يضل به قوماً فيقفون مع ظاهر غرَّتِه، ويهدي به قوماً فينفذون إلى باطن عبرته. وما يضل به إلا الفاسقين الخارجين عن دائرة الشهود، المنكرين لتجليات الملك المعبود، الذين ينقضون عهد الله، وهو معرفة الروح التي حصلت لها وهي في عالم الذر، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الشيوخ العارفين، الذين أَهَّلَهُمَ الله للتربية والترقية، وهم لا ينقطعون ما دامت المِلَّةُ المحمدية، ويفسدون في الأرض بالإنكار والتعويق عن طريق الخصوص، بتضييعهم الأصولَ، وهي صحبة العارفين، والتأدب لهم، والتعظيم لحرمتهم. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

﴿ الذين ﴾ نقضوا العهد الذي أُخذ عليهم في عالم الذَّرِّ، أو مطلق العهد، ﴿ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ من الأنبياء والرسل والأرحام وغيرها، ﴿ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ﴾ بالمعاصي والتعويق عن الإيمان، ﴿ أَوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ الكاملون في الخسران، نعوذ بالله من الخذلان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إن الله لا يترك أن يظهر مثلاً من أنوار قدسه بارزاً بقدرته، مرتدياً برداء حكمته، ملتبساً بأسرار ذاته، مَكسُوّاً بأنوار صفاته من الذرة إلى ما لا نهاية له، فالمتجلِّي في النملة هو المتجلي في الفيلة، فأما الذين صَدَّقُوا بتجلي الذات في أنوار الصفات، فيقولون : إنه الحق فائضٌ من نور الربوبية، محتجباً برداء الكبرياء وسبحات الألوهية. وأما الجاحدون لظهور نور ذات الربوبية فينكرونه في حال ظهوره، ويقولون : ماذا أراد الله بهذه العوالم الظاهرة ؟ فيقول الحق تعالى : أردت ظهور قدرتي وعجائب حكمتي، ليظهر سر ربوبيتي في مظاهر عبوديتي.
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :" العبودية جوهرة أظهر بها الربوبية " وقيل لأبي الحسن النُّورِي : ما هذه الأماكن والمخلوقات الظاهرة ؟ فقال : عز ظاهر وملك قاهر، ومخلوقات ظاهرة به، وصادرة عنه، لا هي متصلة به ولا منفصلة عنه، فرغ من الأشياء ولم تفرغ منه، لأنها تحتاج إليه وهو لا يحتاج إليها. هـ.
فأراد الله بظهور هذا الكون أن يضل به قوماً فيقفون مع ظاهر غرَّتِه، ويهدي به قوماً فينفذون إلى باطن عبرته. وما يضل به إلا الفاسقين الخارجين عن دائرة الشهود، المنكرين لتجليات الملك المعبود، الذين ينقضون عهد الله، وهو معرفة الروح التي حصلت لها وهي في عالم الذر، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الشيوخ العارفين، الذين أَهَّلَهُمَ الله للتربية والترقية، وهم لا ينقطعون ما دامت المِلَّةُ المحمدية، ويفسدون في الأرض بالإنكار والتعويق عن طريق الخصوص، بتضييعهم الأصولَ، وهي صحبة العارفين، والتأدب لهم، والتعظيم لحرمتهم. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

ثم عجب الحق تعالى خلقه من خفائه بعد شدة ظهوره، فقال :
﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
قلت :﴿ كيف ﴾ حال ؛ لأنها وقعت قبل كلام تام.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِالله ﴾ وتجحدون نعمه المتوالية، ﴿ و ﴾ الحالة أنكم ﴿ كُنتُمْ أَمْوَاتاً ﴾ نطفاً في الأرحام ﴿ فَأَحْيَاكُمْ ﴾ بنفخ الروح في أجسادكم، ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ عند انقضاء آجالكم، ﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ عند البعث لحسابكم، ثم يسكنكم دار القرار، إما إلى الجنة وإما إلى النار. فهذه الآثار دالّة على باهر قدرته وتمام حكمته، فقد وضح الحق وظهر، ﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [ الكهف : ٢٩ ].
الإشارة : كيف تنكرون ظهور نور الحق في الأكوان، وتبعدون عن حضرة الشهود والعيان، وقد كنتم أمواتاً بالغفلة وغم الحجاب، فأحياكم باليقظة والإياب، ثم يميتكم بالفناء عن شهود ما سواه، ثم يحييكم بالرجوع إلى شهود أثره بالله، ثم إليه ترجعون في كل شيء لشهود نوره في كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وعند كل شيء " كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان ".
ولما ذكر نعمة الإيجاد أتبعها بنعمة الإمداد، فقال :
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
قلت :﴿ جميعاً ﴾ حال مؤكدة من ﴿ ما ﴾، و﴿ ثم ﴾ للترتيب الذكري لا الخارجي١ ؛ لأن دحو الأرض مؤخر عن خلق السماء، إلا أن يكون العطف على معنى الجملة، والتقدير : هو الذي خلق لكم الأرض مشتملة على جميع منافعكم، ثم استوى إلى السماء فخلقهن سبعاً، ثم دحا الأرض وبسطها.
والتسوية : خلق الأشياء سالمة من العوج والخلل، و﴿ سبع ﴾ : بدل من الضمير، أو بيان له، وجملة ﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾ تعليل لما قبله. أي : ولكونه عالماً بكنه الأشياء كلها خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ لأجلكم ﴿ ما ﴾ استقر ﴿ فِي الأرْضِ جَمِيعاً ﴾ تنتفعون به في الظاهر قوتاً لأشباحكم، ودواء لأبدانكم، ومتعة لنفوسكم، وتنتفعون به في الباطن بالتفكر والاعتبار، وزيادة في إيمانكم وقوة لإيقانكم، ثم قصد ﴿ إلَى السَّمَاءِ ﴾ قصد إرادة، فخلقهن ﴿ سَبْعَ سَمَاوَاتِ ﴾ مستوية تامة، ليس فيها تفاوت ولا خلل، تظلكم بِجِرْمِها، وتضيء عليكم بشمسها وقمرها وكواكبها، وقد أحاط علمه بالأشياء كلها، فلذلك خلقها على هذا النمط الغريب والإتقان العجيب.
الإشارة : يا عبادي خلقتُ الأشياء كُلَّها من أجلكم، الأرض تُقلكم، والسماء تُظلكم، والجهات تَكْتَنِفُكُمْ والحيوانات تخدُمكم، والنباتات تنفعكم، وخلقتكم من أجلي، فكيف تميلون إلى غيري، وتنسَوْن إحساني وبرِّي ؟ ! ! ! الأشياء كلها عبيدكم وأنتم عبيد الحضرة، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المُكَوِّنَ، فإذا شهدتَ المكوِّنَ كانت الأكوانُ معك ".
وفي بعض الكتب المنزلة يقول الله تعالى :" يا عبدي ؛ إنما منحتك صفاتي لتعرفني بها، فإن ادعيتها لنفسك سلبتُك الولاية، ولم أسلبك صفاتي، يا عبدي : أنت صفتي وأنا صفتك، فارجع إليَّ أرجع إليك، يا عبدي : فيك للعلوم باب مفاتحه أنا، وفيك للجهل باب مفاتحه أنت، فاقصد أيّ البابين شئت، يا عبدي : قربي منك بقدر بعدك عن نفسك ؛ وبعدي عنك بقدر قربك من نفسك، فقد عرفتك الطريق، فاترك نفسك تصل إليَّ في خطرة واحدة، يا عبدي : كل ما جمعك علي فهو مني، وكل ما فرقك عني فهو منك، فجاهد نفسك تصل إليّ، وإني لغني عن العالمين، يا عبدي : إن منحتني نفسك رددتها إليك راضية مرضية، وإن تركتها عندك فهي أعظم بلية، فهي أعدى الأعادي إليك فجاهدها تَعُدْ بالفوائد إليك ".
وفي بعض الآثار المروية عن الله تعالى :" يا عبدي : أنا بُدُّك اللازم فالزم بُدَّك٢ ".
ويمكن أن يشار بالأرض إلى أرض العبودية، وبالسماء إلى سماء الحقيقة، وبالسبع سماوات إلى سبع مقامات ؛ وهي الصبر والشكر والتوكل والرضى والتسليم والمحبة والمعرفة. والله تعالى أعلم.
١ الترتيب الذكري لا الخارجي: أي ترتيب الإخبار، لا ترتيب الأمر في نفسه..
٢ أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٢/٢٧٤..
ولما ذكر الخلق العالم العلوي والسفلي، ذكر كيفية ابتداء من عمَّر العالم السفليَّ من جنس الآدمي، فقال :
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَؤُلاءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ * ﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ * ﴿ قَالَ يَآ ءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾
لمّا أراد الله تعالى عمارة الأرض، بعد أن عمَّر السماوات بالملائكة، أخبر الملائكة بما هو صانع من ذلك ؛ تنويهاً بآدم وتشريفاً لذريته، وتعليماً لعباده أمر المشاورة، فقال لهم :﴿ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ يخلفني في أرضي وتنفيذ أحكامي، ﴿ قَالُوا ﴾ على وجه الاستفهام، أو من الإدلال، إن كان من المقربين، بعد أن رأوا الجن قد أفسدوا وسفكوا الدماء :﴿ أَتَجْعَلُ مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾، وشأن الخليفة الإصلاح، ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ﴾، أي : نسبح ملتبسين بحمدك، ﴿ ونُقَدِّسُ لَكَ ﴾، أي : نطهر أنفسنا لأجلك، أو ننزهك عما لا يليق بجلال قدسك، فنحن أحق بالخلافة منهم.
قال الحقّ جلّ وعلا :﴿ إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ فإني أعلم أنه يكون منهم رسل وأنبياء وأولياء، ومن يكون مثلكم أو أعظم منكم، ولما ألقى الخليل في النار ضجت الملائكة وقال :" يا رب هذا خليلك يحرق بالنار ". فقال لهم :" إن استغاث بكم فأغيثوه ". فلما رفع همَّتَه عنهم قال الحقّ تعالى :﴿ ألم أقل لكم إني أعلم ما لا تعلمون ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن الروح القائمة بهذا الآدمي هي قطعة من الروح الأعظم التي هي المعاني القائمة بالأواني، وهي آدم الأكبر والأب الأم، وفي ذلك يقول ابن الفارض :
وإنِّي وإنْ كنتُ ابن آدمَ صُورةً فلِي فِيه مَعْنىً شاهدٌ بأُبوَّتِي
فلمّا أراد الحق تعالى أن يستخلف هذا الروح في هذه البشرية لتدبرها وتصرفها فيما أريد منها، قالت الملائكة بلسان حالها : كيف تجعل فيها من يفسد فيها بالميل إلى الحظوظ والشهوات، ويسفك الدماء بالغضب والحميات، ونحن نسبحك وننزهك عما لا يليق بك ؟ رأت الملائكة ما يصدر من بعض الأرواح من الميل إلى الحضيض الأسفل، ولم تر ما يصدر في بعضها من التصفية والترقية، فقال لهم الحق تعالى :﴿ إني أعلم ما لا تعلمون ﴾ ؛ فإن منها من تعرج إلى عرش الحضرة، وتعبدني بالفكرة والنظرة، وتستولي على الوجود بأسره، وتنكشف لها عند ذلك أسرار الذات وأنوار الصفات وأسماء المسميات.
فيقول الحق تعالى للملائكة : هل فيكم من كشف له عن هذا السر المكنون، والاسم المصون، فقالوا :﴿ سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ﴾ من علم الصفات دون أسرار الذات ﴿ إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ يقول الحق تعالى لروح العارف التي نفذت إلى بحر وحدة الذات وتيار الصفات : أنبئهم بما غاب عنهم من أسرار الجبروت، وأسماء الملكوت، فلما أعلمهم بما كوشف له من الأسرار، وانفق له من الأنوار، أقروا بشرف الآدمي، وسجدوا لطلعة آدم عليه السلام فقال الحق لهم :﴿ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؟ أي : ما غاب في سماء الأرواح من الأسرار وفي أرض النفوس من الأنوار، وأعلم ما تظهرونه من الانقياد، وما تكتمونه من الاعتقاد، والله تعالى أعلم.

ثم وَجَّهَ الحق تعالى استحقاقه للخلافة ؛ وهو تشريفه بالعلم، فقال :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾، أي مسميات الأسماء ؛ بأن ألقى في رُوعه ما تحتاج إليه ذريته من اللغات والحروف، وخواص الأشياء ومنافعها، ثم عرض تلك المسميات على الملائكة، إظهاراً لعجزهم، وتشريفاً لآدم بالعلم. ﴿ فقال ﴾ : أخبروني ﴿ بأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ ﴾ المسميات ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في ادعائكم استحقاق الخلافة، فلما عجزوا عن معرفة تلك الأسماء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن الروح القائمة بهذا الآدمي هي قطعة من الروح الأعظم التي هي المعاني القائمة بالأواني، وهي آدم الأكبر والأب الأم، وفي ذلك يقول ابن الفارض :
وإنِّي وإنْ كنتُ ابن آدمَ صُورةً فلِي فِيه مَعْنىً شاهدٌ بأُبوَّتِي
فلمّا أراد الحق تعالى أن يستخلف هذا الروح في هذه البشرية لتدبرها وتصرفها فيما أريد منها، قالت الملائكة بلسان حالها : كيف تجعل فيها من يفسد فيها بالميل إلى الحظوظ والشهوات، ويسفك الدماء بالغضب والحميات، ونحن نسبحك وننزهك عما لا يليق بك ؟ رأت الملائكة ما يصدر من بعض الأرواح من الميل إلى الحضيض الأسفل، ولم تر ما يصدر في بعضها من التصفية والترقية، فقال لهم الحق تعالى :﴿ إني أعلم ما لا تعلمون ﴾ ؛ فإن منها من تعرج إلى عرش الحضرة، وتعبدني بالفكرة والنظرة، وتستولي على الوجود بأسره، وتنكشف لها عند ذلك أسرار الذات وأنوار الصفات وأسماء المسميات.
فيقول الحق تعالى للملائكة : هل فيكم من كشف له عن هذا السر المكنون، والاسم المصون، فقالوا :﴿ سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ﴾ من علم الصفات دون أسرار الذات ﴿ إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ يقول الحق تعالى لروح العارف التي نفذت إلى بحر وحدة الذات وتيار الصفات : أنبئهم بما غاب عنهم من أسرار الجبروت، وأسماء الملكوت، فلما أعلمهم بما كوشف له من الأسرار، وانفق له من الأنوار، أقروا بشرف الآدمي، وسجدوا لطلعة آدم عليه السلام فقال الحق لهم :﴿ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؟ أي : ما غاب في سماء الأرواح من الأسرار وفي أرض النفوس من الأنوار، وأعلم ما تظهرونه من الانقياد، وما تكتمونه من الاعتقاد، والله تعالى أعلم.

﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ ﴾ أي : تنزيهاً لك عن العبث، ﴿ لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ ﴾ بكل شيء، ﴿ الْحَكيمُ ﴾ لإتقانك كل شيء، وهذا اعتراف منهم بالقصور والعجز، وإشعار بأن سؤالهم كان استفهاماً وطلباً لتفسير ما أشكر عليهم، ولم يكن اعتراضاً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن الروح القائمة بهذا الآدمي هي قطعة من الروح الأعظم التي هي المعاني القائمة بالأواني، وهي آدم الأكبر والأب الأم، وفي ذلك يقول ابن الفارض :
وإنِّي وإنْ كنتُ ابن آدمَ صُورةً فلِي فِيه مَعْنىً شاهدٌ بأُبوَّتِي
فلمّا أراد الحق تعالى أن يستخلف هذا الروح في هذه البشرية لتدبرها وتصرفها فيما أريد منها، قالت الملائكة بلسان حالها : كيف تجعل فيها من يفسد فيها بالميل إلى الحظوظ والشهوات، ويسفك الدماء بالغضب والحميات، ونحن نسبحك وننزهك عما لا يليق بك ؟ رأت الملائكة ما يصدر من بعض الأرواح من الميل إلى الحضيض الأسفل، ولم تر ما يصدر في بعضها من التصفية والترقية، فقال لهم الحق تعالى :﴿ إني أعلم ما لا تعلمون ﴾ ؛ فإن منها من تعرج إلى عرش الحضرة، وتعبدني بالفكرة والنظرة، وتستولي على الوجود بأسره، وتنكشف لها عند ذلك أسرار الذات وأنوار الصفات وأسماء المسميات.
فيقول الحق تعالى للملائكة : هل فيكم من كشف له عن هذا السر المكنون، والاسم المصون، فقالوا :﴿ سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ﴾ من علم الصفات دون أسرار الذات ﴿ إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ يقول الحق تعالى لروح العارف التي نفذت إلى بحر وحدة الذات وتيار الصفات : أنبئهم بما غاب عنهم من أسرار الجبروت، وأسماء الملكوت، فلما أعلمهم بما كوشف له من الأسرار، وانفق له من الأنوار، أقروا بشرف الآدمي، وسجدوا لطلعة آدم عليه السلام فقال الحق لهم :﴿ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؟ أي : ما غاب في سماء الأرواح من الأسرار وفي أرض النفوس من الأنوار، وأعلم ما تظهرونه من الانقياد، وما تكتمونه من الاعتقاد، والله تعالى أعلم.

يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِم ﴾، وعيِّن لهم اسم كل مسمى، فلما أخبرهم بذلك بحيث قال مثلاً : هذا فرس وهذا جمل، وعين ذلك لهم، وظهرت ميزته عليهم بالعلم حتى استحق الخلافة، قال الحقّ تعالى :﴿ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ أي : ما غاب، وأعلم ما تظهرونه من قولكم :﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا. . . ﴾ الخ، وما تكتمونه من استحقاقكم الخلافة، وقولكم : لن يخلق الله تعالى أحداً أعلم منا لتقدمنا، والفضل لمن صدق لا لمن سبق.
قال البيضاوي : اعلم أن هذه الآيات تدل على شرف الإنسان، ومزية العلم وفضله على العبادة، وأنه شرط في الخلافة، بل العمدة فيها، وأن التعليم يصح إطلاقه عليه تعالى، وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه ؛ لاختصاصه بمن يحترف به، وأن اللغات توقيفية - عملها الله بالوحي -، وأن آدم عليه السلام أفضل من هؤلاء الملائكة ؛ لأنه أعلم منهم، والأعلم أفضل لقوله تعالى :﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الزُّمَر : ٩ ]، وأن الله يعلم الأشياء قبل حدوثها. ه. باختصار.
وقال في تفسير الملائكة : إنهم أجسام لطيفة قادرة على التشكل، وهي منقسمة على قسمين : قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره، - وهم العليِّون، والملائكة المقربون - وقسم يدبرون الأمر من السماء إلى الأرض على ما ثبت به القضاء وجرى به القلم الإلهي، وهم المدبرات أمراً، فمنهم سماوية، ومنه أرضية. ه. مختصراً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن الروح القائمة بهذا الآدمي هي قطعة من الروح الأعظم التي هي المعاني القائمة بالأواني، وهي آدم الأكبر والأب الأم، وفي ذلك يقول ابن الفارض :
وإنِّي وإنْ كنتُ ابن آدمَ صُورةً فلِي فِيه مَعْنىً شاهدٌ بأُبوَّتِي
فلمّا أراد الحق تعالى أن يستخلف هذا الروح في هذه البشرية لتدبرها وتصرفها فيما أريد منها، قالت الملائكة بلسان حالها : كيف تجعل فيها من يفسد فيها بالميل إلى الحظوظ والشهوات، ويسفك الدماء بالغضب والحميات، ونحن نسبحك وننزهك عما لا يليق بك ؟ رأت الملائكة ما يصدر من بعض الأرواح من الميل إلى الحضيض الأسفل، ولم تر ما يصدر في بعضها من التصفية والترقية، فقال لهم الحق تعالى :﴿ إني أعلم ما لا تعلمون ﴾ ؛ فإن منها من تعرج إلى عرش الحضرة، وتعبدني بالفكرة والنظرة، وتستولي على الوجود بأسره، وتنكشف لها عند ذلك أسرار الذات وأنوار الصفات وأسماء المسميات.
فيقول الحق تعالى للملائكة : هل فيكم من كشف له عن هذا السر المكنون، والاسم المصون، فقالوا :﴿ سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ﴾ من علم الصفات دون أسرار الذات ﴿ إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ يقول الحق تعالى لروح العارف التي نفذت إلى بحر وحدة الذات وتيار الصفات : أنبئهم بما غاب عنهم من أسرار الجبروت، وأسماء الملكوت، فلما أعلمهم بما كوشف له من الأسرار، وانفق له من الأنوار، أقروا بشرف الآدمي، وسجدوا لطلعة آدم عليه السلام فقال الحق لهم :﴿ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؟ أي : ما غاب في سماء الأرواح من الأسرار وفي أرض النفوس من الأنوار، وأعلم ما تظهرونه من الانقياد، وما تكتمونه من الاعتقاد، والله تعالى أعلم.

ولما تبينّ شرف آدم عليه السلام وبان فضله أمرهم بالسجود له، فقال :
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾
قلت :﴿ إذ ﴾ ظرف للماضي، ضد إذا، وهي معمولة لفعل مقدر، يفسره قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ ﴾ [ الأعرَاف : ٨٦ ]، فحيثما وردت في القرآن فيقدر له " اذكر "، والاستثناء متصل ؛ إذا قلنا إبليس من الملائكة، ومنقطع ؛ إذا قلنا من الجن. والله تعالى أعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر ﴿ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ﴾، لما تبينت فضيلة، آدم أمرهم بالسجود، فقال لهم :﴿ اسْجُدُوا لآدَمَ ﴾ سجود انحناء، ﴿ فَسَجَدُوا ﴾ كلهم، لأنهم شهدوا الجمع ولم يشهدوا الفرق، فرأوا آدم قِبْلَةً، أو نوراً من أنوار عظمته، ﴿ إلاَّ إِبْليسَ ﴾ أي : امتنع ؛ حيث نظر الفرق بحكمة الواحد القهار، فاستكبر ﴿ وكان ﴾ من جملة ﴿ الْكَافِرِينَ ﴾. وكفره باعتراضه على الله وتسفيه حكمه، لا بامتناعه ؛ إذ مجرد المعصية لا تكفر. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا كمل تصفية الروح، وظهر شرفها، خضع لها كل شيء، وتواضع لها كل شيء، وانقاد لأمرها من سبقت له العناية، وهبت عليه ريح الهداية، لأنها صارت آدم الأكبر، إلا من إبلسته المشيئة، وطردته القدرة، فاستكبر عن تحكيم جنسه على نفسه، وكان من الكافرين لوجود الخصوصية، جزاؤه حرمان شهود طلعة الربوبية، وهبوطه إلى حضيض العمومية.
ثم ذكر الحق تعالى دخول آدم الجنة، ونزوله إلى الخلافة التي أخبر الحق تعالى بها قبل، فقال :
﴿ وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ﴾ * ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ * ﴿ فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾
قلت :﴿ رغداً ﴾ : صفة لمصدر محذوف، أي : أكلا رغداً واسعاً، و﴿ تكونا ﴾ : منصوب، جواب الأمر، أو معطوف على ﴿ تقرباً ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وَقُلْنَا يَا آدَم ﴾ حين سجدت له الملائكة ودخل الجنة :﴿ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ﴾ حواء ﴿ الجنة ﴾، وكانت خلقت من ضلعه الأيسر، ﴿ وَكُلا ﴾ من ثمار الجنة ﴿ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجِرَةَ ﴾ : العنب أو التين أو الحنظة ؛ ﴿ فَتَكُونَا ﴾ إن أكلتما منها ﴿ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ لنفسيكما.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول الحقّ جلّ جلاله للروح، إذا كمل تهذيبها، وتمت تريبتُها : اسكن أنت وبشريتك التي تزوجتها - قال تعالى :﴿ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴾ [ التّكوير : ٧ ] - جنة المعارف، وَكُلا من ثمار أذواقها وأنهار علومها، وتبوَّءًا من قصور ترقياتها، أكلاً واسعاً ما دمتما متحليين بالأدب، ولا تقربا شجرة المعصية وسوء الأدب ﴿ فتكونا من الظالمين ﴾، فلما سكنت جنة الخلود، وشَرهَتْ إلى الخلود، أهبطها الله إلى أرض العبودية، وردها إلى البقاء ؛ لتستحق الخلافة، وتقوم بحقوق الربوبية، بسبب ما ارتكبه من المعصية، وهي الشَّرهُ إلى دوام الحرية، " أكْرِمْ بها معصيةً أورثت الخلافة ! "، فكل ما ينزل بالروح إلى قهرية العبودية، فهو سبب إلى الترقي لشهود نور الربوبية، وربما قضي عليك بالذنب فكان سبب الوصول، فلما أراد الحق تعالى أن ينزلها إلى أرض العبودية بالسلوك بعد الجذب، قال لها ولمن يحاربها من الشيطان والهوى والدنيا وسائر الحظوظ : اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم - أيها العارفون بعد جهاد أعدائكم - في أرض العبودية، استقرار وتمتعٌ بتجليات أنوار الربوبية، إلى حين الملاقاة الحقيقية. فتلقت الروح من ربها كلمات الإنابة، وهبَّ عليها، نسيم الهداية، بما سبق لها من عين العناية، فتاب عليها، وقرَّبها إلى حضرة الشهود، ومعاينة طلعة الملك الودود، إنه تواب رحيم جواد كريم.
و﴿ أزلهما ﴾ : أوقعهما في الزلل بسبب الأكل، أو أذهبهما عن الجنة، ويدل عليه قراءة حمزة :" فأزالهما " وجملة ﴿ بعضكم لبعض عدو ﴾ : حالية، أي : متعادين.
فدخل إبليس خفية أو في فم الحية، فتكلم مع آدم عليه السلام فقال له آدمُ عليه السلام : ما أحسن هذه الحالة لو كان الخلود. فحفظها إبليس، ووجد فيها مدخلاً من جهة الطمع، فقال له :﴿ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةٍ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى ﴾ [ طه : ١٢٠ ] فدلّه على أكل الشجرة، وقال :﴿ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا ﴾ [ الأعرَاف : ٢٠ ] عنها ﴿ إِلاَّ ﴾ [ الأعراف : ٢٠ ] كراهية ﴿ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( ٢٠ ) وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ( ٢١ ) ﴾ [ الأعراف : ٢٠، ٢١ ]. وأكلت حواء أولاً، ثم قالت له : قد أكلتُ ولم يضرني، ثم أكل آدم عليه السلام من جنس الشجرة، لا من عينها، متأولاً، فطار التاج واللباس، وأخرجهما ﴿ مما كانا فيه ﴾ من رغد العيش والعناء، وأهبطهما إلى الأرض، للتعب والعناء، ليكون خليفة على ما سبق به القضاء.
فقال لهم الحقّ تعالى :﴿ اهْبطُوا ﴾ آدم وحواء وإبليس والحية، ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ ﴾ استقرار وتمتع ﴿ إلَى حِينٍ ﴾ وفاتكم، فتقدمون علي فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول الحقّ جلّ جلاله للروح، إذا كمل تهذيبها، وتمت تريبتُها : اسكن أنت وبشريتك التي تزوجتها - قال تعالى :﴿ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴾ [ التّكوير : ٧ ] - جنة المعارف، وَكُلا من ثمار أذواقها وأنهار علومها، وتبوَّءًا من قصور ترقياتها، أكلاً واسعاً ما دمتما متحليين بالأدب، ولا تقربا شجرة المعصية وسوء الأدب ﴿ فتكونا من الظالمين ﴾، فلما سكنت جنة الخلود، وشَرهَتْ إلى الخلود، أهبطها الله إلى أرض العبودية، وردها إلى البقاء ؛ لتستحق الخلافة، وتقوم بحقوق الربوبية، بسبب ما ارتكبه من المعصية، وهي الشَّرهُ إلى دوام الحرية، " أكْرِمْ بها معصيةً أورثت الخلافة ! "، فكل ما ينزل بالروح إلى قهرية العبودية، فهو سبب إلى الترقي لشهود نور الربوبية، وربما قضي عليك بالذنب فكان سبب الوصول، فلما أراد الحق تعالى أن ينزلها إلى أرض العبودية بالسلوك بعد الجذب، قال لها ولمن يحاربها من الشيطان والهوى والدنيا وسائر الحظوظ : اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم - أيها العارفون بعد جهاد أعدائكم - في أرض العبودية، استقرار وتمتعٌ بتجليات أنوار الربوبية، إلى حين الملاقاة الحقيقية. فتلقت الروح من ربها كلمات الإنابة، وهبَّ عليها، نسيم الهداية، بما سبق لها من عين العناية، فتاب عليها، وقرَّبها إلى حضرة الشهود، ومعاينة طلعة الملك الودود، إنه تواب رحيم جواد كريم.
﴿ فَتَلَقَّى ﴾ أي أخذ ﴿ آدم من ربه كلمات ﴾ وهي :﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مَنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [ الأعرَاف : ٢٣ }، ﴿ فتاب ﴾ الحق تعالى عليه واجتباه لحضرته، فإنه توّاب كثير التوبة على عباده، رحيم بهم، أرحم من أبيهم وأمهم، اللهم ارحمنا رحمة تعصمنا بها عن رؤية السّوي، إنك على كل شيء قدير.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول الحقّ جلّ جلاله للروح، إذا كمل تهذيبها، وتمت تريبتُها : اسكن أنت وبشريتك التي تزوجتها - قال تعالى :﴿ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴾ [ التّكوير : ٧ ] - جنة المعارف، وَكُلا من ثمار أذواقها وأنهار علومها، وتبوَّءًا من قصور ترقياتها، أكلاً واسعاً ما دمتما متحليين بالأدب، ولا تقربا شجرة المعصية وسوء الأدب ﴿ فتكونا من الظالمين ﴾، فلما سكنت جنة الخلود، وشَرهَتْ إلى الخلود، أهبطها الله إلى أرض العبودية، وردها إلى البقاء ؛ لتستحق الخلافة، وتقوم بحقوق الربوبية، بسبب ما ارتكبه من المعصية، وهي الشَّرهُ إلى دوام الحرية، " أكْرِمْ بها معصيةً أورثت الخلافة ! "، فكل ما ينزل بالروح إلى قهرية العبودية، فهو سبب إلى الترقي لشهود نور الربوبية، وربما قضي عليك بالذنب فكان سبب الوصول، فلما أراد الحق تعالى أن ينزلها إلى أرض العبودية بالسلوك بعد الجذب، قال لها ولمن يحاربها من الشيطان والهوى والدنيا وسائر الحظوظ : اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم - أيها العارفون بعد جهاد أعدائكم - في أرض العبودية، استقرار وتمتعٌ بتجليات أنوار الربوبية، إلى حين الملاقاة الحقيقية. فتلقت الروح من ربها كلمات الإنابة، وهبَّ عليها، نسيم الهداية، بما سبق لها من عين العناية، فتاب عليها، وقرَّبها إلى حضرة الشهود، ومعاينة طلعة الملك الودود، إنه تواب رحيم جواد كريم.
ثم كرر الحق تعالى أمرهم بالهبوط، فقال :
﴿ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
قلت :﴿ إن ﴾ : شرط، و﴿ ما ﴾ زيدت لتقوية الشرط، ولذلك دخلت نون التوكيد، وعبر بإن دون ﴿ إذا ﴾، مع تحقق مجيء الهدى ؛ لأنه غير واجب عقلاً، وجملة الشرط الثاني وجوابه، الشرط الأول، و﴿ جميعاً ﴾ حال مؤكدة ؛ أي : اهبطوا أنتم أجمعون، ولذلك لا يقتضي اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد.
ولما أمر الحقّ جلا جلاله آدم أولاً بالهبوط من الجنة، جعل يبكي ويتضرّع ويقول : ألم تخلقني بيدك ؟ ألم تسجد لي ملائكتك ؟ ألم تدخلني جنتك ؟ ثم ألهم الكلمات التي تلقاها من ربه، فتاب عليه ورحمه، فطمع آدم حين سمع من ربه قبول توبته في البقاء في الجنة، فقال له الحقّ جلّ جلاله : يا آدم لا يجاورني من عصاني، وقد سبقت كلمتي بهبوطك إلى الأرض لتكون خليفتي بذريتك، فكرّر عليه الأمر بالهبوط ثانياً. فقال :﴿ اهبطوا منها جميعا ﴾ أنتما بما اشتملتما عليه من ذريتكما. فمهما ﴿ يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدىً ﴾ أي : بيان وإرشاد إلى توحيدي ومعرفتي، على يد رسول أو نائب عنه، ﴿ فَمَن تَبعَ ﴾ ذلك الإرشاد، واهتدى إلى معرفتي وتوحيدي، وعمل بطاعتي وتكاليفي، ﴿ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ من لحُوق مكروه ﴿ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ من فوات محبوب، لأني أَصرف عنهم جميع المكاره، وأجلب لهم المنافع.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا سكنت الأرواح في عُشِّ الحضرة، وتمكنت من الشهود والنظرة، أمرها الحق تعالى بالنزول إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ، فتنزل بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، لا لطلب جزاء أو لقضاء شهوة، بل تنزل بالله ومن الله وإلى الله، فمن نزل منها على هذا الهدى الحسن ﴿ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾،
ومن ركب بحر التوحيد مع غير رئيس عارف، ولم يأوِ إلى سفينة الشريعة، واستكبر عن الخضوع إلى تكاليفها لعبت به الأمواج، فكان من المغرقين. ﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ ؛ لأن من تحقق ولم يتشرع فقد تزندق، ومن تشرع ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق، جعلنا الله ممن تحقق بهما. وسلك على منهاجهما إلى الممات، آمين.

﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا ﴾ الدالّة على قدرتنا المنزلة على رسلنا، ﴿ وَاسْتَكْبَرُواْ ﴾ [ النِّساء : ١٧٣ ] عن النظر فيها، أو عن الخضوع لمن جاء بها، ﴿ أُوْلَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا سكنت الأرواح في عُشِّ الحضرة، وتمكنت من الشهود والنظرة، أمرها الحق تعالى بالنزول إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ، فتنزل بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، لا لطلب جزاء أو لقضاء شهوة، بل تنزل بالله ومن الله وإلى الله، فمن نزل منها على هذا الهدى الحسن ﴿ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾،
ومن ركب بحر التوحيد مع غير رئيس عارف، ولم يأوِ إلى سفينة الشريعة، واستكبر عن الخضوع إلى تكاليفها لعبت به الأمواج، فكان من المغرقين. ﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ ؛ لأن من تحقق ولم يتشرع فقد تزندق، ومن تشرع ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق، جعلنا الله ممن تحقق بهما. وسلك على منهاجهما إلى الممات، آمين.

ولما ذكر الحق تعالى شرف كتابه، ونفى وجود الريب عن ساحته، ثم دعا إلى توحيده، وبرهن على وجوده، بابتداء خلق العالم من عرشه إلى فرشه، وذكر كيفية ابتداء عمارته، خاطب بني إسرائيل ؛ لأنهم أهل العلم بالأخبار المتقدمة، وقد سمعوا هذه الأخبار نَبِي أُمِّي لم يُعْهَدْ بقراءةٍ ولا تعلم، فقامت الحجة عليهم، وتحققوا أنه من عند الله. وما منعهم من الإسلام إلا الحسد وحب الرئاسة، فلذلك أطال الحق الكلام معهم، تارةً يُقرِّعَهم على عدم الإيمان وما فعلوا مع أنبيائهم، وتارة يذكرهم النعم التي أنهم الله على أسلافهم، فقال تعالى :
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ * ﴿ وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ * ﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾
قلت :﴿ إسرائيل ﴾ : هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل - عليهم الصلاة السلام - وهو اسم عجمي، وبنو تميم تقول :" إسرائين " بالنون، ( وإسرا ) بالعبرانية : عبد، و( إيل ) : اسم الله تعالى، فمعناه : عبد الله، وبنو إسرائيل : هم أولاد يعقوب عليه السلام، و﴿ بعهدي ﴾ من إضافة المصدر إلى فاعله، و﴿ بعهدكم ﴾ إلى مفعوله، و﴿ إياي ﴾ منصوب بفعل مضمر، يُقدر مؤخراً. أي : إياي ارهبوا فارهبون. وحذف مفعول ﴿ ارهبون ﴾ لرؤوس الآي.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ﴾ التي خصصتُكم بها، بأن فضلتكم على أهل زمانكم، وجعلت فيكم أنبياء ورسلاً، كلما انقرض نبيّ بعثت نبيّاً آخر، وجعلتكم ملوكاً وحكاماً على الناس، قبل أن تفسدوا في الأرض بقتل الأنبياء، فتكفروا بهذه النعم، فإن الإنسان حسود غيور بالطبع، فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الحسد والغيرة على السخط والكفران، وإذا نظر إلى ما أنعم الله به عليه حمله حب النعمة على الرضا والشكر، فاذكروا ما أنعمت به عليكم، وقيدوه بالشكر، ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي ﴾ الذي عهدت إليكم، وهو أنكم إن أدركتم محمداً صلى الله عليه وسلم لتؤمنن به ولتنصرنه، ولتبينن صفته التي في كتابكم، ولا تكتمونها، ﴿ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ بأن أدخلكم جنتي، وأبيح لكم النظر إلى وجهي، وأحل عليكم رضواني في جملة عبادي، ولا ترهبوا أحداً غيري، فإنه لا فاعل غيري.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا توجَّه الخطاب إلى طائفة مخصوصة، حمله أهل الفهم عن الله على عمومه لكل سامع، فإن الملك إذا عاتب قوماً بمحضر آخرين، كان المراد بذلك تحذير كل مَن يسمع، فكأن الحق جلّ جلاله يقول : يا بني آدم اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وتفكروا في أصولها وفروعها، واشكروني عليها بنسبتها إليَّ وحدي، فإنه لا منعم غيري، فمن شكرني شكرته، ومن فيض إحساني وبري مددته، ومن كفر نعمتي سلبته، وعن بابي طردته، وأوفوا بعهدي بالقيام بوظائف العبودية، أوف بعهدكم بأن أطلعكم على أسرار الربوبية.
أو :﴿ أوفوا بعهدي ﴾ بالقيام برسوم الشريعة، ﴿ أوفِ بعهدكم ﴾ بالهداية إلى منار الطريقة، أو :﴿ أوفوا بعهدي ﴾ بسلوك منهاج الطريقة، ﴿ أوفِ بعهدكم ﴾ بالإيصال إلى عين الحقيقة، أو :﴿ أوفوا بعهدي ﴾ بالاستغراق في بحر الشهود، ﴿ أوفِ بعهدكم ﴾ بالترقي أبداً غلى الملك الودود، وخصّوني بالرهب والرغب، وتوجهوا إليّ في كل سؤال وطلب، أعطف عليكم بعنايتي وودي، وأمنحكم من عظيم إحساني ورفدي، ﴿ وآمنوا بما أنزلت ﴾ على قلوب أوليائي، ومن مواهب أسراري وآلائي، تصديقاً لما أتحفت به رسلي وأنبيائي، فكل ما ظهر على الأولياء فهو معجزة للأنبياء وتصديق لهم، ولا تبادروا بالإنكار على أوليائي، فتكونوا سبباً في طرد عبادي عن بابي، ولا يمنعكم حب الرئاسة والجاه عن الخضوع إلى أوليائي، ولا ترقبوا أحداً غيري، فإني أمنعكم من شهود سري.
﴿ ولا تلبسوا الحق بالباطل ﴾، فتظهروا شعار الصالحين وتبطنوا أخلاق الفاسقين، تتزيوا بزي الأولياء، وتفعلوا فعل الأغوياء، وإذا تحققتم بخصوصية أحد من عبادي، فلا تكتموها عن أهل محبتي وودادي، وأقيموا صلاة القلوب بالخضوع تحت مجاري الأقدار، وأدّوا زكاة النفوس بالذل والانكسار، وكونوا مع الخاشعين، ﴿ واركعوا مع الراكعين ﴾، أمنحكم معونتي ونصري، وأفيض عليكم من بحر إحساني وبري، أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي.

وكذا قوله :﴿ وإياي فاتقون ﴾، والرهبة : خوف مع تحرُّز.
وبادروا إلى الإيمان ﴿ بِمَا أَنْزَلْتُ ﴾ على محمد رسولي، من كتابي، الذي هو مصدق ﴿ لِّمَا مَعَكُمْ ﴾ من التوراة، ومهيمن عليه، ﴿ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ ﴾ فريق ﴿ كَافِرِ بِهِ ﴾، فتبوؤوا بإثمكم وإثم من تبعكم، ولا تستبدلوا الإيمان الذي هو سبب الفوز في الدارين، بالعرضِ الفاني الذي تأخذونه من سفلتكم، فإنه ثمن قليل يعقبه عذاب جليل وخزي كبير. ولا تخشوا أحداً سواي ؛ فإن النفع والضرر بيدي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا توجَّه الخطاب إلى طائفة مخصوصة، حمله أهل الفهم عن الله على عمومه لكل سامع، فإن الملك إذا عاتب قوماً بمحضر آخرين، كان المراد بذلك تحذير كل مَن يسمع، فكأن الحق جلّ جلاله يقول : يا بني آدم اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وتفكروا في أصولها وفروعها، واشكروني عليها بنسبتها إليَّ وحدي، فإنه لا منعم غيري، فمن شكرني شكرته، ومن فيض إحساني وبري مددته، ومن كفر نعمتي سلبته، وعن بابي طردته، وأوفوا بعهدي بالقيام بوظائف العبودية، أوف بعهدكم بأن أطلعكم على أسرار الربوبية.
أو :﴿ أوفوا بعهدي ﴾ بالقيام برسوم الشريعة، ﴿ أوفِ بعهدكم ﴾ بالهداية إلى منار الطريقة، أو :﴿ أوفوا بعهدي ﴾ بسلوك منهاج الطريقة، ﴿ أوفِ بعهدكم ﴾ بالإيصال إلى عين الحقيقة، أو :﴿ أوفوا بعهدي ﴾ بالاستغراق في بحر الشهود، ﴿ أوفِ بعهدكم ﴾ بالترقي أبداً غلى الملك الودود، وخصّوني بالرهب والرغب، وتوجهوا إليّ في كل سؤال وطلب، أعطف عليكم بعنايتي وودي، وأمنحكم من عظيم إحساني ورفدي، ﴿ وآمنوا بما أنزلت ﴾ على قلوب أوليائي، ومن مواهب أسراري وآلائي، تصديقاً لما أتحفت به رسلي وأنبيائي، فكل ما ظهر على الأولياء فهو معجزة للأنبياء وتصديق لهم، ولا تبادروا بالإنكار على أوليائي، فتكونوا سبباً في طرد عبادي عن بابي، ولا يمنعكم حب الرئاسة والجاه عن الخضوع إلى أوليائي، ولا ترقبوا أحداً غيري، فإني أمنعكم من شهود سري.
﴿ ولا تلبسوا الحق بالباطل ﴾، فتظهروا شعار الصالحين وتبطنوا أخلاق الفاسقين، تتزيوا بزي الأولياء، وتفعلوا فعل الأغوياء، وإذا تحققتم بخصوصية أحد من عبادي، فلا تكتموها عن أهل محبتي وودادي، وأقيموا صلاة القلوب بالخضوع تحت مجاري الأقدار، وأدّوا زكاة النفوس بالذل والانكسار، وكونوا مع الخاشعين، ﴿ واركعوا مع الراكعين ﴾، أمنحكم معونتي ونصري، وأفيض عليكم من بحر إحساني وبري، أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي.

و﴿ تكتموا ﴾ : معطوف على ﴿ تلبسوا ﴾، أو منصوب بأن مضمرة بعد النهي، و﴿ أنتم تعلمون ﴾ : جملة حالية.
ولا تخلطوا ﴿ الْحَقَّ ﴾ الذي هو ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته التي في كتابكم، ﴿ بِالْبَاطِلِ ﴾ الذي تريدونه تحريفاً وتأويلاً، ﴿ و ﴾ لا ﴿ تكتموا الحّقَّ ﴾ الذي عندكم، من ذكر محمد وصحة رسالته، ﴿ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أنكم محرفون، ولابسون عناداً وحسداً، فيحل عليكم غضبي وعقابي، ﴿ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى ﴾ [ طه : ٨١ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا توجَّه الخطاب إلى طائفة مخصوصة، حمله أهل الفهم عن الله على عمومه لكل سامع، فإن الملك إذا عاتب قوماً بمحضر آخرين، كان المراد بذلك تحذير كل مَن يسمع، فكأن الحق جلّ جلاله يقول : يا بني آدم اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وتفكروا في أصولها وفروعها، واشكروني عليها بنسبتها إليَّ وحدي، فإنه لا منعم غيري، فمن شكرني شكرته، ومن فيض إحساني وبري مددته، ومن كفر نعمتي سلبته، وعن بابي طردته، وأوفوا بعهدي بالقيام بوظائف العبودية، أوف بعهدكم بأن أطلعكم على أسرار الربوبية.
أو :﴿ أوفوا بعهدي ﴾ بالقيام برسوم الشريعة، ﴿ أوفِ بعهدكم ﴾ بالهداية إلى منار الطريقة، أو :﴿ أوفوا بعهدي ﴾ بسلوك منهاج الطريقة، ﴿ أوفِ بعهدكم ﴾ بالإيصال إلى عين الحقيقة، أو :﴿ أوفوا بعهدي ﴾ بالاستغراق في بحر الشهود، ﴿ أوفِ بعهدكم ﴾ بالترقي أبداً غلى الملك الودود، وخصّوني بالرهب والرغب، وتوجهوا إليّ في كل سؤال وطلب، أعطف عليكم بعنايتي وودي، وأمنحكم من عظيم إحساني ورفدي، ﴿ وآمنوا بما أنزلت ﴾ على قلوب أوليائي، ومن مواهب أسراري وآلائي، تصديقاً لما أتحفت به رسلي وأنبيائي، فكل ما ظهر على الأولياء فهو معجزة للأنبياء وتصديق لهم، ولا تبادروا بالإنكار على أوليائي، فتكونوا سبباً في طرد عبادي عن بابي، ولا يمنعكم حب الرئاسة والجاه عن الخضوع إلى أوليائي، ولا ترقبوا أحداً غيري، فإني أمنعكم من شهود سري.
﴿ ولا تلبسوا الحق بالباطل ﴾، فتظهروا شعار الصالحين وتبطنوا أخلاق الفاسقين، تتزيوا بزي الأولياء، وتفعلوا فعل الأغوياء، وإذا تحققتم بخصوصية أحد من عبادي، فلا تكتموها عن أهل محبتي وودادي، وأقيموا صلاة القلوب بالخضوع تحت مجاري الأقدار، وأدّوا زكاة النفوس بالذل والانكسار، وكونوا مع الخاشعين، ﴿ واركعوا مع الراكعين ﴾، أمنحكم معونتي ونصري، وأفيض عليكم من بحر إحساني وبري، أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي.

فإذا حصلتم أصول الدين، وهو الإيمان، فاشتغلوا بفروعه، وهي الصلاة والزكاة وغيرهما، فأدوهما على منهاج المسلمين. واجعلوا صلاتكم في جماعة المؤمنين ؛ فإنَّ صلاة الجماعة تُفضلُ غيرها بسبعٍ وعشرين درجة، مع سريان واقتباس الأنوار من الصالحين والأبرار، وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا توجَّه الخطاب إلى طائفة مخصوصة، حمله أهل الفهم عن الله على عمومه لكل سامع، فإن الملك إذا عاتب قوماً بمحضر آخرين، كان المراد بذلك تحذير كل مَن يسمع، فكأن الحق جلّ جلاله يقول : يا بني آدم اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وتفكروا في أصولها وفروعها، واشكروني عليها بنسبتها إليَّ وحدي، فإنه لا منعم غيري، فمن شكرني شكرته، ومن فيض إحساني وبري مددته، ومن كفر نعمتي سلبته، وعن بابي طردته، وأوفوا بعهدي بالقيام بوظائف العبودية، أوف بعهدكم بأن أطلعكم على أسرار الربوبية.
أو :﴿ أوفوا بعهدي ﴾ بالقيام برسوم الشريعة، ﴿ أوفِ بعهدكم ﴾ بالهداية إلى منار الطريقة، أو :﴿ أوفوا بعهدي ﴾ بسلوك منهاج الطريقة، ﴿ أوفِ بعهدكم ﴾ بالإيصال إلى عين الحقيقة، أو :﴿ أوفوا بعهدي ﴾ بالاستغراق في بحر الشهود، ﴿ أوفِ بعهدكم ﴾ بالترقي أبداً غلى الملك الودود، وخصّوني بالرهب والرغب، وتوجهوا إليّ في كل سؤال وطلب، أعطف عليكم بعنايتي وودي، وأمنحكم من عظيم إحساني ورفدي، ﴿ وآمنوا بما أنزلت ﴾ على قلوب أوليائي، ومن مواهب أسراري وآلائي، تصديقاً لما أتحفت به رسلي وأنبيائي، فكل ما ظهر على الأولياء فهو معجزة للأنبياء وتصديق لهم، ولا تبادروا بالإنكار على أوليائي، فتكونوا سبباً في طرد عبادي عن بابي، ولا يمنعكم حب الرئاسة والجاه عن الخضوع إلى أوليائي، ولا ترقبوا أحداً غيري، فإني أمنعكم من شهود سري.
﴿ ولا تلبسوا الحق بالباطل ﴾، فتظهروا شعار الصالحين وتبطنوا أخلاق الفاسقين، تتزيوا بزي الأولياء، وتفعلوا فعل الأغوياء، وإذا تحققتم بخصوصية أحد من عبادي، فلا تكتموها عن أهل محبتي وودادي، وأقيموا صلاة القلوب بالخضوع تحت مجاري الأقدار، وأدّوا زكاة النفوس بالذل والانكسار، وكونوا مع الخاشعين، ﴿ واركعوا مع الراكعين ﴾، أمنحكم معونتي ونصري، وأفيض عليكم من بحر إحساني وبري، أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي.

ثم وبخ الحق تعالى من عرف الحق وحرم نفسه منه من أهل الكتاب وغيرهم، فقال :
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾
قلت : البر، بالكسر : يجمع وجوه الخير وأنواع الطاعات، والنسيانُ : الترك.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في توبيخ أحبار اليهود : كانوا إذا استرشدهم أحد من العرب دلّوه على الإسلام، وقالوا له : دين محمد حق، وهم يمتنعون منه، وقيل : كانوا يأمرون الناس بالصدقة وهم يبخلون، فقال لهم : كيف ﴿ تأمرون الناس بالبر ﴾ والإحسان، وتتركون ﴿ أَنفُسَكُمْ ﴾ في الكفر والعصيان، وأنتم تدرسون التوراة الصحيح، وتعلمون أن ذلك من أقبح القبيح ؟، أفلا عقل لكم يزجركم عن هذه الخصلة الذميمة ؟ ؛ فإن من شأن العقل التمييز بين القبيح والحسن والنافع والضار، فكل من تقدم لما فيه ضرره فلا عقل له.
الإشارة : كل مَن أشار إلى مقام لم يبلغْ قدمه إليه، فهذا التوبيخ متوجِّهُ إليه، وكل مَن ذكر غيره بعيب لم يتخلص منه، قيل له : أتأمر الناس بالبر وتنسى نفسك خالية منه، فلا يسلم من توبيخ هذه الآية من أهل التذكير إلا الفرد النادر من أهل الصفاء والوفاء.
وقال البيضاوي :( المراد بها حثّ الواعظ على تزكية النفس، والإقبال عليها بالتكميل لتُقَوم فيُقَيِّم، لا منع الفاسق عن الوعظ، فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر ). فانظره. وتأمل قول القائل :
يا أيهَا الرجلُ المعلِّمُ غيرَه هلاَّ لنفسِك كانَ ذا التعليمُ
تَصِف الدواءَ لِذي السقامِ وذي الضنَا ومِن الضَّنَا وجَواهُ أنتَ سقيمُ
وأراكَ تلقحُ بالرشادِ عقُولَنا نُصْحاً، وأنت مِن الرشادِ عديمُ
ابدأ بنفسِك فانْهَهَا عَن غَيَّها فإذا انتهتْ عنه فأنتَ حكيمُ
فَهُناك يُقْبَلُ إن وعظتَ، ويُقتدَى بالقول منكَ، وينفعُ التعليمُ
لا تَنْهَ عن خُلقٍ وتأتيَ مثلَه عارٌ علَيكَ إذا فعلتَ عظيمُ
لكن مَنْ حصل له بعض الصفاء ذكر غيره ونفسه معهم، وكان بعض أشياخنا يقول حين يذكر الفقراء : نحن إنما ننبح على نفوسنا.
ثم أشار الحق تعالى إلى الدواء، فقال :
﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾
قلت : الصبر : هو حبس القلب على حكم الرب، فيحتمل أن يراد به ظاهره، أو يراد به هنا الصوم، لأن فيه الصبر عن الشهوات. والخشوع في الجوارع : سكونها وذُلها، والخضوع في القلب : انقياده لحكم الرب.
يقول الحقّ جلّ جلاله : يا مَن ابتلي بالرئاسة والجاه، استكبر عن الانقياد لأحكام الله ؛ التي جاءت بها الرسل من عند الله، استعن على نفسك ﴿ بالصبر ﴾ على قطع المألوفات، وترك الحظوظ والشهوات، وأصل فروعها حب الرئاسة والجاه، فمن صبر على تركهما فاز برضوان الله. وفي الحديث :" وفي الصبر على ما تكرَهُ خيرٌ كثير ".
قال الشاعر :
والصَّبْرُ كالصْبرِ مُرٌ في مذَاقَتِه لَكِنْ عَواقِبُه أحلَى مِن العسلِ
أو :﴿ وَاسْتَعِينُوا ﴾ بالصوم ﴿ وَالصَّلاةِ ﴾، فإن في الصوم كَسْرَ الشَّهْوَةِ وتصفية النفس، فإذا صفت النفس من الرذائل تحلت بأنواع الفضائل، كالتواضع والإنصاف، والخشوع وسائر سني الأوصاف، وفي الصلاة أنواع من العبادات النفسية والبدنية، كالطهارة، وستر العورة، وصرف المال فيهما، والتوجه إلى الكعبة، والعكوف للعبادة، وإظهار الخشوع بالجوارح، وإخلاص النيّة بالقلب، ومجاهدة الشيطان، ومناجاة الرحمان وقراءة القرآن، وكف النفس عن الأطْيَبَيْنِ١، وفي الصلاة قضاء المآرب وجبر المصائب، ولذلك كان - عليه الصلاة والسلام - إذا حزّ به أمر فزع إلى الصلاة، ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ﴾ أي : شاقة على النفس ؛ لتكريرها في كل يوم، ومجيئها وقت حلاوة النوم، ﴿ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ الذين سكنت حلاوتها في قلوبهم، وتناجوا فيها مع ربهم، حتى صارت فيها قُرَّة عينهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا من رام الدخول إلى حضرة الله، تذلل وتواضع لأولياء الله، وتجرّع الصبر في ذلك كي يدخلوك حضرة الله، كما قال القائل :
تَذللْ لِمنْ تهْوى ؛ فَلَيْسَ الهوَى سَهْلُ إذا رَضِي المَحْبُوبُ صَحَّ لكَ الوَصْلُ
فإن منعك من ذلك حب الرئاسة والجاه، فاستعن على ذلك بالصبر والصلاة، فإن الصبر عنوان الظفر، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. فأدمن قرع الباب حتى تدخل مع الأحباب، فالإدمان على عبادة الصلاة أمره كبير، إلا مَن خلص إلى مناجاة العلي الكبير، وتحقق بملاقاة الشهود والعيان، ورجع إلى مولاه في كل أوان، فإن الصلاة حينئذٍ تكون له من قرّة العين. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.


١ الأطيبان: هما الأكل والجماع..
الذين يتيقنون ﴿ إَنَّهُمْ مُّلاقُوا رَبِّهِمْ ﴾ فيتنعمون بالنظر إلى وجه الكريم، ويتيقنون أيضاً أنهم راجعون إلى ربهم بالبعث والحشر للثواب والعقاب، وإنما عبَّر الحق تعالى هنا بالظن في موضع اليقين إبقاء على المذنبين، وتوفراً على العاصين، الذين ليس لهم صفاء اليقين ؛ إذ لو ذكر اليقين صرفاً لخرجوا من الجملة، فسبحانه من رب حليم، وجواد كريم. اللهم امنن علينا بصفاء المعرفة واليقين، حتى لا يختلج قلوبنا وَهْمٌ ولا ريب، يا رب العالمين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا من رام الدخول إلى حضرة الله، تذلل وتواضع لأولياء الله، وتجرّع الصبر في ذلك كي يدخلوك حضرة الله، كما قال القائل :
تَذللْ لِمنْ تهْوى ؛ فَلَيْسَ الهوَى سَهْلُ إذا رَضِي المَحْبُوبُ صَحَّ لكَ الوَصْلُ
فإن منعك من ذلك حب الرئاسة والجاه، فاستعن على ذلك بالصبر والصلاة، فإن الصبر عنوان الظفر، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. فأدمن قرع الباب حتى تدخل مع الأحباب، فالإدمان على عبادة الصلاة أمره كبير، إلا مَن خلص إلى مناجاة العلي الكبير، وتحقق بملاقاة الشهود والعيان، ورجع إلى مولاه في كل أوان، فإن الصلاة حينئذٍ تكون له من قرّة العين. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

ولما أمرهم بالأصول والفروع، ذكَّرهم بالنعم، وخوفهم بالوعيد على عدم شكرها، فقال :
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ * ﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ ﴾ على آبائكم بالهداية وبعث الرسل، ﴿ وَأنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ : أهل زمانكم، فاذكروا هذه النعم واشكروني عليها ؛ بأن تتبعوا هذا النبيّ الجليل، الذي تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد يتوجَّهُ العتاب إلى أهل الرئاسة والجاه، من العلماء والصالحين، وكل من خُصَّ بشرف أو خصوصية، فيقول لهم الحق تعالى :﴿ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ بالعلم أو السيادة أو الصلاح، وبأن فضلتكم على أهل زمانكم، وخصصتكم من أبناء جنسكم ؛ فقد رُوِيَ :" أنَّ العبد يُحاسب على جاهه كما يُحاسب على ماله ". فمن صرفه في طاعة الله، وتواضع لعباد الله، وسعى في حوائجهم، وأبلغ الجهد في قضاء مآربهم، كان ذلك شكراً لنعمة الجاه ؛ فقد رُوِيَ في الحديث :" مَنْ سَعَى في حَاجَةِ أخيهِ المسْلِم، قُضِيتْ أو لَم تُقْضَ، غُفِر لَه ما تقدَم مِنْ ذنبه، وكُتب له براءتان : براءة من النار وبراءة من النفاق ".
ولا يأخذ على ذلك أجراً ولا جُعلاً ؛ فإنَّ ذلك سحت وربا، ومن تكبّر به وطغى، أو أخذ على ذلك أجراً، قيل له يوم القيامة : قد استوفيت أجرك فلا حظ لك عندنا، فلا تنفعه شفاعة، ولا يقبل منه فداء، ولا يقدر أن ينتصر من موارد الهوان والردى، ففي بعض الأخبار : يقول الله تعالى للفقراء الذين يعظمون في الدنيا لأجل فقرهم : ألم أرخص لكم الأسعار ؟ ألم أوسع لكم المجالس ؟ ألم أُعطِّف عليكم عبادي ؟ فقد أخذتم أجركم في الدنيا. أو كما قال : والله تعالى أعلم.

قلت :﴿ العدل ﴾ بالفتح : الفداء، وبالكسر : الحمل، وجملة ﴿ لا تجزي ﴾ : صفة ليوم، والعائد محذوف، أي : لا تجزي فيه.
وخافوا ﴿ يَوْماً ﴾ لا تَقْضي فيه ﴿ نَفْسٌ عَن نَّفْسِ شَيْئًا ﴾ بحيث لا تجلِب لها نفعاً، ولا تدفع عنها ضرراً، ولا تقبل ﴿ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ إن وقعت الشفاعة فيها، ولا يؤخذ منها فداء، إن أرادت الفداء عنها، ولا تنتصر في دفع العذاب، إن أرادت الانتصار بعشيرتها. فانتفى عنها وجوه الامتناع من العذاب بأي وجه أمكن ؛ فإن الإنسان إذا أُخذ للنكال احتال على نفسه إما بالشفاعة، أو بالفداء إن لم تقبل الشفاعة فيه، أو بالانتصار بأقاربه، والآيةُ في الكفار، فلا حجةَ لمن ينفِي الشفاعة في عُصَاة المؤمنين، والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد يتوجَّهُ العتاب إلى أهل الرئاسة والجاه، من العلماء والصالحين، وكل من خُصَّ بشرف أو خصوصية، فيقول لهم الحق تعالى :﴿ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ بالعلم أو السيادة أو الصلاح، وبأن فضلتكم على أهل زمانكم، وخصصتكم من أبناء جنسكم ؛ فقد رُوِيَ :" أنَّ العبد يُحاسب على جاهه كما يُحاسب على ماله ". فمن صرفه في طاعة الله، وتواضع لعباد الله، وسعى في حوائجهم، وأبلغ الجهد في قضاء مآربهم، كان ذلك شكراً لنعمة الجاه ؛ فقد رُوِيَ في الحديث :" مَنْ سَعَى في حَاجَةِ أخيهِ المسْلِم، قُضِيتْ أو لَم تُقْضَ، غُفِر لَه ما تقدَم مِنْ ذنبه، وكُتب له براءتان : براءة من النار وبراءة من النفاق ".
ولا يأخذ على ذلك أجراً ولا جُعلاً ؛ فإنَّ ذلك سحت وربا، ومن تكبّر به وطغى، أو أخذ على ذلك أجراً، قيل له يوم القيامة : قد استوفيت أجرك فلا حظ لك عندنا، فلا تنفعه شفاعة، ولا يقبل منه فداء، ولا يقدر أن ينتصر من موارد الهوان والردى، ففي بعض الأخبار : يقول الله تعالى للفقراء الذين يعظمون في الدنيا لأجل فقرهم : ألم أرخص لكم الأسعار ؟ ألم أوسع لكم المجالس ؟ ألم أُعطِّف عليكم عبادي ؟ فقد أخذتم أجركم في الدنيا. أو كما قال : والله تعالى أعلم.

ثم ذكر الحق تعالى بني إسرائيل بنعمة أخرى، فقال :
﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُواءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾
قلت :﴿ إذ ﴾ : معمول لاذكروا، و﴿ فرعون ﴾ : اسم لكل من ملك القبط، كما أن قيصر اسم لمن ملك الروم، وكسرى اسم لمن ملك الفرس، واسم ﴿ فرعون ﴾ الذي كان في زمن موسى عليه السلام :" مصعب بن ريان "، وقيل : ابنه الوليد. وسَام يسُوم : طلب وبغى، يقال : سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً، وجملة ﴿ يسومونكم ﴾ : حال من ﴿ آل فرعون ﴾، وجملة ﴿ يذبحون ﴾ : بيان لها. وسوء العذاب : أفظعه وأقبحه.
يقول الحقّ جلّ جلاله : يا بني إسرائيل اذكروا نعمة أخرى أنعمت بها على أسلافكم، وأنتم عالمون بها، وذلك حين أنجيناكم من عذاب فرعون ورهطه، يولونكم أقبحَ العذاب وأشنعَه، كانوا يستعبدون رجالكم ونساءكم في مشاق الخدمة والمهنة، ولمّا أخبره الكهان أنه سيخرج منكم ولد يُخَرِّب ملكه، جعل يذبح ذكوركم ويترك نساءكم، وفي ذلكم محنة ﴿ مِن رَّبِّكُمْ ﴾ وابتلاء ﴿ عَظِيمٌ ﴾، أو في ذلك الإنجاء اختبار من ربكم عظيم، فاذكروا هذه النعمة، وتحصنوا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من محنة أخرى، ولا ينفع حذرٌ من قدر، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرَاً مَّقْدُوراً ﴾ [ الأحزَاب : ٣٨ ]. وبالله التوفيق.
الإشارة : لكل زمان فراعين وجبابرة يقطعون الناس عن الانقطاع إلى الله والدخول إلى حضرة الله، ﴿ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾ [ الكهف : ١٠٤ ]، يقول الحقّ جلّ جلاله للذين تخلصوا منهم : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم بها ؛ حيث أنجيتكم من فراعين زمنكم، ﴿ يسومونكم سوء العذاب ﴾ ؛ وهو البقاء في غم الحجاب، والانقطاع عن الأحباب، يقتلون ما ربيتم من اليقين في قلوبكم والمعرفة في أسراركم، ويستحيون شهواتكم وحظوظكم، ﴿ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾. قال تعالى :﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ. . . ﴾ [ الأنعَام : ١١٦ ]. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم ذكَّرهم الحق تعالى نعمة أخرى ؛ وهي فلق البحر وإغراق العدو، فقال :
﴿ وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون( ٥٠ ) ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا أيضاً حين ﴿ فرقنا ﴾ بسببكم ﴿ البحر ﴾، حين فررتم من عدوكم، فسلكتم فيه اثنيْ عشر مسلكاً يابساً، حتى خلصتم إلى الشام، فلما أدرككم عدوُّكم، واسْتَتَمَّ دخولهُ فيه، أطبقنا عليهم البحر ﴿ فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون ﴾ وأنتم تعاينون غرقهم وهلاكهم، فاشكروا هذه النعم التي أنعمت بها على أسلافكم، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم على نبي أُمي، لم يكن له علم بهذا، حتى علمه بالوحي من ربكم.
الإشارة : قال بعض الحكماء :( الهوى بحر لا ساحل له إلا الموت ) : فلا يقطع بحر الحظوظ والعوائد، إلا الخواص، الذين منَّ الله عليهم بسلوك الطريقة، والغرق في بحر الحقيقة، على يد رجال جمعوا بين الشريعة والحقيقة، فيقول الحق - جلّ جلاله - لمن تخلَّص من بحر هواه، وأفضى إلى مشاهدة مولاه : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ؛ حيث خلصتكم من بحر الشهوات والعوائد، وأطلعتكم على أسرار العلوم وذخائر الفوائد، وأغرقنا فيه من تكبّر وطغى، وأنتم تنظرون ما فيه الناس من غم الحجاب وسوء الحساب، في بحر لجى يغشاه موج الذنوب، من فوقه موج الحظوظ، من فوقه سحاب الأثر، إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً لما له من نور. وبالله التوفيق.
ثم ذكرهم نعمة التوراة التي أنزلها على موسى، وفي ضمنه التوبيخ على عبادة العجل، فقال جل جلاله :
﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ * ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ * ﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾
قلت :﴿ أربعين ﴾ : مفعول لواعدنا، لا ظرف، و﴿ العجل ﴾ : مفعول أول، والثاني محذوف، أي : اتخذتموه إلاها.
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا أيضاً حين ﴿ وَاعَدْنَا مُوسَى ﴾ أن يصوم ﴿ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ بأيامها متواصلة، وذلك حين طلبتم منه أن ينزل عليه الكتاب فيه بيان الأحكام، ثم لما صامها، وهي : ذو القعدة وعشر ذي الحجة، وأتى إلى المناجاة، كفرتم، و﴿ اتَّخَذْتُمُ الْعَجْلَ ﴾ الذي صاغه السامِريُّ من الحُليّ، الذي أخذته نساء بني إسرائيل من القبط عارية، ففرّوا به ظنّاً منهم أنه حلال، فقال لهم هارون عليه السلام : لا يحل لكم، فطرحوه في حفرة، فصاغ منه السامري صورة العجل، وألقى في جوفه قبضة أخذها من تحت حافر فرس جبريل عليه السلام حين عبر معهم البحر، فجعل يخور، فقال السامري :﴿ هَذَآ إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ﴾ [ طه : ٨٨ ]، ﴿ وأنتم ظالمون ﴾ في عبادته.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما زالت الأشياخ والأولياء الأقدمون ينتحلون طريق سيدنا موسى عليه السلام في استعمال هذه الأربعين، ينفردون فيها إلى مولاهم، مؤانسة ومناجاة، وفي ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه :
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني مذ صارَ بَعْضِيَ كُلِّي

وقال :
صارتْ جِبالِيَ دكّاً مِنْ هَيْبَةِ المُتَجَلِّي
فيفارقون عشائرهم وأصحابهم في مناجاة الحبيب، والمؤانسة بالقريب، فمن أصحابهم مَن يبقى على عهده في حال غيبة شيخه، من المجاهدة والمشاهدة، ومنهم مَن تسرقه العاجلة فيرجع إلى عبادة عجل حظه وهواه ؛ فيظلم نفسه بمتابعة دنياه، فإن بادر بالتوبة والإقلاع، ورجع إلى حضرة شيخه بالاستماع والاتباع، وقع عنه العفو والغفران ورجا ما كان يؤمله من المشاهدة والعيان، وإلا باء بالعقوبة والخسران، وكل مَن اعتزل عن الأحباب والعشائر والأصحاب، طالباً جمع قلبه، ورضى ربه، فلا بد أن ترد عليه أسرار ربانية ومواهب لدنية، من لدن حكيم عليم، يظهر بها الحق، ويدفع بها الباطل، فيفرق بين الحق والباطل. والله تعالى أعلم.

﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم ﴾ بالتوبة وقتل النفس على ما يأتي، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾، فلا تعصون نعمة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما زالت الأشياخ والأولياء الأقدمون ينتحلون طريق سيدنا موسى عليه السلام في استعمال هذه الأربعين، ينفردون فيها إلى مولاهم، مؤانسة ومناجاة، وفي ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه :
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني مذ صارَ بَعْضِيَ كُلِّي

وقال :
صارتْ جِبالِيَ دكّاً مِنْ هَيْبَةِ المُتَجَلِّي
فيفارقون عشائرهم وأصحابهم في مناجاة الحبيب، والمؤانسة بالقريب، فمن أصحابهم مَن يبقى على عهده في حال غيبة شيخه، من المجاهدة والمشاهدة، ومنهم مَن تسرقه العاجلة فيرجع إلى عبادة عجل حظه وهواه ؛ فيظلم نفسه بمتابعة دنياه، فإن بادر بالتوبة والإقلاع، ورجع إلى حضرة شيخه بالاستماع والاتباع، وقع عنه العفو والغفران ورجا ما كان يؤمله من المشاهدة والعيان، وإلا باء بالعقوبة والخسران، وكل مَن اعتزل عن الأحباب والعشائر والأصحاب، طالباً جمع قلبه، ورضى ربه، فلا بد أن ترد عليه أسرار ربانية ومواهب لدنية، من لدن حكيم عليم، يظهر بها الحق، ويدفع بها الباطل، فيفرق بين الحق والباطل. والله تعالى أعلم.

و﴿ الفرقان ﴾ : معطوف على ﴿ الكتاب ﴾.
﴿ و ﴾ اذكروا أيضاً ﴿ إذْ آتينا موسَى الكِتَابَ ﴾ الذي طلبتم، وهو التوراة، وهو ﴿ الفرقان ﴾ الذي فرقنا فيه بين الحق والباطل، كي تهتدوا إلى الصواب فتنجوا من العذاب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما زالت الأشياخ والأولياء الأقدمون ينتحلون طريق سيدنا موسى عليه السلام في استعمال هذه الأربعين، ينفردون فيها إلى مولاهم، مؤانسة ومناجاة، وفي ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه :
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني مذ صارَ بَعْضِيَ كُلِّي

وقال :
صارتْ جِبالِيَ دكّاً مِنْ هَيْبَةِ المُتَجَلِّي
فيفارقون عشائرهم وأصحابهم في مناجاة الحبيب، والمؤانسة بالقريب، فمن أصحابهم مَن يبقى على عهده في حال غيبة شيخه، من المجاهدة والمشاهدة، ومنهم مَن تسرقه العاجلة فيرجع إلى عبادة عجل حظه وهواه ؛ فيظلم نفسه بمتابعة دنياه، فإن بادر بالتوبة والإقلاع، ورجع إلى حضرة شيخه بالاستماع والاتباع، وقع عنه العفو والغفران ورجا ما كان يؤمله من المشاهدة والعيان، وإلا باء بالعقوبة والخسران، وكل مَن اعتزل عن الأحباب والعشائر والأصحاب، طالباً جمع قلبه، ورضى ربه، فلا بد أن ترد عليه أسرار ربانية ومواهب لدنية، من لدن حكيم عليم، يظهر بها الحق، ويدفع بها الباطل، فيفرق بين الحق والباطل. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر الحق تعالى كيفية توبة من عبد العجل منهم، فقال :
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾
قلت : البارئ هو : المقدر للأشياء والمظهر لها.
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا يا بني إسرائيل حين ﴿ قال ﴾ موسى ﴿ لقومه ﴾ لما رجع من الطور، ووجدهم قد عبدوا العجل :﴿ يَا قَوْم إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أنفُسَكُم ﴾ وبخستموها ﴿ باتخاذكم العجل ﴾ إلاهكم، ﴿ فَتُوبُوا إلَى ﴾ خالقكم الذي صوركم في أحسن تقويم، ﴿ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ بهدم هذه البنية التي ركبتها في أحسن صورة، فبخستموها، ولم تعرفوا قدرها، فعبدتم أبلد الحيوان، الذي هو البقرة. من لم يعرف حق النعمة فحقيق أن تُسترد منه.
فذلكم القتل والمبادرة إلى التوبة ﴿ خير لكم ﴾ عِندَ خالقكم، لأنه يفضي إلى الحياة الدائمة والبهجة السرمدية، فلما صعب عليكم القتل ؛ للشفقة على الأخ أو القريب، ألقينا عليكم ضبابة حتى أظلم المكان، فاقتتلتم من الغداة إلى العشي، فدعا موسى وهارون - عليهما السلام - بالكشف عنهم، فرفعت السحابة، وقد قُتل سبعون ألفاً، ففعلتم ذلك القتل، فتاب الحق تعالى عليكم، فقبل توبة مَن بقي منكم، وعفا عمن مات ؛ ﴿ إنه هو التواب الرحيم ﴾ أي : كثير التوفيق للتوبة، أو كثير قبولها، الرحيم بعباده المؤمنين.
الإشارة : ما قاله سيدنا موسى عليه السلام لقومه، يقال مثله لمن عبد هواه، وعكف على متابعة دنياه : يا من بخس نفسه بإرخاء العنان في متابعة هواها، حتى حرمها من مشاهدة جمال مولاها، تُب إلى ربك، وانتبه من غفلتك، واقتل نفسك بمخالفة هواها، فلعلها تحيا بمشاهدة مولاها، فما دامت النفس موجودة، وحظوظها لديها مشهودة، وآمالها ممدودة، كيف تطمع أن تدخل حضرة الله، وتتمتع بشهود جماله وسناه ؟ !
إن تُرِدْ وصْلَنا فَمَوتُكَ شَرْطٌ *** لا يَنالُ الوِصَالَ مَنْ فيهِ فَضْلَهْ
وقال الحلاجُ في هذا المعنى :
لَمْ أُسْلِم النفسَ للأسقامِ تُتْلِفُها *** إلاَّ لِعِلْمِي بأَنَّ الوصْلَ يُحْيِيهَا
وقال أيضاً :
أُقتُلوني يا ثقاتي *** إِنَّ في قَتْلِي حَياتِي
وحَيَاتي في مَماتِي *** وممَاتي في حَياتي
أنا عندي : مَحْوُ ذَاتي *** من أجَلِّ المكْرُمَاتِ
وبَقَائِي في صِفاتي *** مِنْ قبيحِ السيِّئَاتِ
وقال أيضاً :
إنْ كان سَفْكُ دَمي أقْصَى مُرادِكُمُ *** فَمَا غَلَتْ نظرةٌ مِنكُم بِسَفْك دَمِي
وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه :( لا يدخل على الله إلا من بابين، أحدهما : الموت الحسي، وهو الموت الطبيعي، والآخر : الموت الذي تعنيه هذه الطائفة ). ه. وهو موت النفوس، فمن لم تمت نفسه لم تَحْيَى روحه.
وقال بعض العارفين :( لا يحصل الدخول على الله حتى يموت أربع موتات : موت أحمر، وموت أسود، وموت أبيض، وموت أخضر. أما الموت الأحمر فهو مخالفة الهوى، وأما الموت الأسود فهو تحمل الأذى، وأما الموت الأبيض فهو الجوع - أي : المتوسط - وأما الموت الأخضر فهو لبس المرقعات، وطرح الرقاع بعضها على بعض ).
قلت : ورأس الهوى وعنصره هو حب الجاه وطلب الرئاسة. فمن نزل إلى أرض الخمول، وخرق عوائد نفسه فيه، انخرقت له الحجب، ولاحت له الأنوار، وأشرقت عليه الأسرار في مدة قريبة، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم وبخهم الحق تعالى على طلب الرؤية قبل إبانها، وقبل تحصيل شروطها، فقال :
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ * ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾
قلت :﴿ جهرة ﴾ مصدر نرى ؛ لأنه نوع منه، أي : نرى الله رؤية عيان، أو حال من الفاعل، أي : نراه معاينين له، أو من المفعول ؛ أي : نراه معاينة.
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا أيضاً، يا بني إسرائيل، حين قلتم لموسى عليه السلام لما رجع من الطور، ووجدكم قد عبدتم العجل، فأخذ منكم سبعين رجلاً ممن لم يعبد العجل، وذهب يعتذر، فلما سمعتم كلامي أنكرتموه وحرفتموه، وقلتم :﴿ لَن نُؤْمِنَ لَكَ ﴾ أن هذا كلام الله ﴿ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةِ ﴾ بسبب طلبكم ما لا طاقة لكم به، فغبتم عن إحساسكم، وذهبت أرواحكم، ﴿ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ ما فعل بكم، فاستشفع فيكم موسى عليه السلام وقال : يا ﴿ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّا ﴾ [ الأعرَاف : ١٥٥ ] كيف أرجع إلى قومي بغير هؤلاء ؟ ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْد مَوْتِكُمْ ﴾.
سورة البقرة
قال سيدنا علي – كرم الله وجهه- :( أول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة )١. وفيها ستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة، ومائتان وست وثمانون آية، وقيل : سبع وثمانون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة. من قرأها في بيته نهارا لم يدخله شيطان ثلاثة أيام، ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال، وفيها سيدة أي القرآن، وهي آية الكرسي " ٢. وإنما كانت سنام القرآن، أي ذروته ؛ لأنها اشتملت على جملة ما فيه من أحوال الإيمان وفروع الإسلام.
وقال صلى الله عليه وسلم :" أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب، وخواتيم البقرة من تحت العرش " ٣.
١ أخرجه السيوطي في الدر المنثور (١/٤٦)..
٢ أخرجه الترمذي في ثواب القرآن باب ٢، والدارمي في فضائل القرآن باب ١٣..
٣ أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، ١٠/٩، والحاكم في المستدرك ١/٥٦١، والبغوي في شرح السنة ٤/٢٦٢..
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْد مَوْتِكُمْ ﴾ وعشتم زماناً بعد ذلك ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ هذه النعمة، وتقومون بحسن الخدمة، فتقروا بربوبيتي، وتصدقوا برسلي، فلم تفعلوا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من شأن الأرواح الطيبة التشوق إلى الحضرة، والتشوف إلى العيان والنظرة، فلا يحصل لها كمال التصديق والإيقان إلا بعد الشهود والعيان، فلما علم الحق سبحانه من بعض الأرواح صدق الطلب، رفع عنها الحجاب، وفتح لها الباب، فأخذتها صاعقة الدهشة والحيرة، ولم تطق صدمة المشاهدة والنظرة، فغابت عن الأشكال والرسوم في مشاهدة أنوار الحي القيوم، ثم مَنَّ عليها بالبعث من موت الفناء إلى حياة البقاء، فأمنت من الشقاء، فحصلت لها الحياة الدائمة والسعادة السرمدية. فالصاعقة عند أهل الفن هي عبارة عن الغيبة عن النفس، وفناء دائرة الحس، وهي شهود عدمك لوجود الحق، والبعث منها هو مقام البقاء، وهو شهود الأثر بالله. وهو مقام حق اليقين. وحاصله : شهود وجود الحق وحده، لا عدمك ولا وجودك، " كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان ". وبالله التوفيق.
ثم ذكرهم الحق لطفه بهم في حال التيه، فقال :
﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
قلت :﴿ الغّمّامّ ﴾ : السحاب الرقيق، و﴿ المَنِّ ﴾ هنا : العسل، و﴿ السَّلْوى ﴾ قيل : اللحم، والأصح : أنه اسم طائر كالسماني.
يقول الحقَ جلّ جلاله : في تذكير بني إسرائيل ما أنعم به عليهم في حال التيه :﴿ و ﴾ قد ﴿ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ ﴾ يقيكم من الحر في أيام التيه، ﴿ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ ﴾ وهو عسل كان ينزل على الشجر من الفجر إلى الطلوع، فيغرفون منه ما شاءوا، ﴿ و ﴾ أنزلنا عليكم ﴿ السلوى ﴾، وهو طير كانت تحشره الجنوب، فينزل عليهم، فيأخذون منه ما شاءوا، ولا يمتنع منهم، فيذبحون ويأكلون لحماً طريّاً، فقلنا لهم :﴿ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا ﴾ بمخالفتهم أمْرَ نبيهم وسوء أدبهم معه، حيث قالوا :﴿ فَاذْهَبْ أَنَتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [ المَائدة : ٢٤ ]، فعاقبهم بالتيه أربعين سنة، يتيهون في مقدار خمسة فراسخ أو ستة. ﴿ وَلَكِن ﴾ ظلموا أنفسهم ؛ حيث أوقعوها في البلاء والمحنة.
رُوِيَ أنهم لما أُمروا بجهاد الجبارين، جبنوا وقالوا تلك المقالة، فدعا عليهم سيدنا موسى عليه السلم فوقعوا في التيه بين مصر والشام، فكانوا يمشون النهار فيبيتون حيث أصبحوا، ويمشون الليل فيصبحون حيث أمسوا، فقالوا لموسى عليه السلام : من لنا بالطعام ؟ فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى، قالوا : كيف بحر الشمس ؟ فظلل عليهم الغمام، قالوا : بم نستصبح بالليل ؟ فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم، قالوا : من لنا بالماء ؟ فأمر موسى عليه السلام بضرب الحجر، فقالوا : من لنا باللباس ؟ فأعطوا ألا يَبْلى لهم ثوب، ولا يَخْلَق، ولا يَدْرن، وأن ينمو بنمو صاحبه، وقيل : كساهم مثل الظفر، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ البَقَرَة : ٢٨٤ ].
الإشارة : لما انفصلت الأرواح من عالم الجبروت، كانت على الطهارة الأصلية، والنزاهة الأزلية، عالمة بأسرار الربوبية وعظمة الألوهية، لكن لم يكن لها إلا جنة الحرية، دون جنة العبودية، فلما أراد الحق تعالى أن يمتعها بجنتين عن يمين وشمال، أمرها بالنزول إلى أرض العبودية، في ظلل من غمام البشرية، فمنَّ عليها بحلاوة المشاهدات وسلوان المناجات، وقال لها :﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ من طرائف العلوم، وفواكه الفهوم، هذا لمن اعتنى بروحه فاستكمل فضيلتها، وخالف هواها، فنفذت من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، فلم تنحجب بسحب الآثار إلى نفوذ شهود الأنوار، بل غابت عن شهود الآثار بشهود الأنوار. أما من حجبت عن شهود الأنوار بالوقوف مع الآثار، ووقعت في شبكة الحظوظ والشهوات، وربطت بعقال الأسباب والعادات، فقد ظلمت نفسها، وبخست حقها من مشاهدة مولاها، حتى اتسعت عليها دائرة الحس، ولم تنفذ إلى المشاهدة والأنس. وأنشدوا :
كَمِّلْ حقيقتك التي لم تكمُلِ والجسمَ ضَعْهُ في الحضِيض الأسفلِ
أَتُكَمِّلُ الفَانِي وَتَتْرُك باقياً هَمَلاً، وأَنت بأمرِه لم تحفلِ ؟
فالجسمُ للنفس النفيسةِ آلةٌ ما لَمْ تُحَصِّلْه بها لم يحْصُلِ
يَفْنَى، وتَبقى دائماً في غِبْطةٍ أو شِقْوةٍ وندامة لا تنْجَلِي
أُعْطِيتَ جِسْمَكَ خادماً فخدمْتَه أَتُمَلِّكُ المفضولَ رِقَّ الأفضلِ ؟
شَرَكٌ كثيفٌ أنتَ في أحْبَالِهِ مَا دام يُمكنك الخَلاصَ فَعَجِّلِ
مَنْ يستطيعُ بلوغَ أَعْلَى مَنزلٍ ما بالَهُ يرضَى بأدنَى مَنْزِل !
ثم وبخهم على ما وقع منهم من المخالفة، فقال :
﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ * ﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾
قلت :﴿ حِطة ﴾ : خبر مبتدأ مضمر، أي : أمرنا حطة، أي : تواضع وانحطاط، وقال هنا :( فكلوا )، وفي الأعراف بالواو ؛ لأن الأكل مرتب على الدخول، بخلاف السكنى، فإنها تفارق الأكل، فكأنه مأمور به.
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا يا بني إسرائيل حين قلنا لأسلافكم بعد أن خرجوا من التيه :﴿ ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ ﴾ أعني بيت المقدس، أو أريحاء، بعد أن تُجاهدوا أهلها، ﴿ فَكُلُوا ﴾ من نعم ما فيها أكلاً واسعاً ؛ لأنها مخصبة، ﴿ وَادْخُلُوا ﴾ باب القرية راكعين، تواضعاً وشكراً، ﴿ وَقُولُوا ﴾ في دخولكم : شأننا ﴿ حِطَّةٌ ﴾، أي : شأننا الانحطاط والتواضع لله، فإن فعلتم ذلك ﴿ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيد ﴾ من امتثل أمرنا، وأحسن الأدب معنا، خيراً كثيراً، في الدنيا والآخرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول الحق سبحانه للأرواح، لما كمل تطهيرها من البقايا، وتكاملت فيها المزايا : ادخلوا هذه الحضرة المقدسة، وتنعموا فيها حيث شئتم بالمشاهدة، والمكالمة، والمواجهة، والمساورة، والمفاتحة، والمناجاة، وادخلوا بابها أذلاء صاغرين، فلا دخول للحضرة المقدسة إلا من باب الذل والافتقار، وأنشدوا :
ومَا رُمتُ الدخولَ عليهِ حتَّى حَلَلْتُ مَحَلَّةَ العبدِ الذليلِ
وأَغمضْتُ الجفُونَ على قَذَاها وصُنْت النَّفْسَ عن قالٍ وقيلِ
وقيل لأبي يزيد : يا أبا يزيد، خزائننا معمورة بالخدمة، ائتني من كوّة الذل والافتقار. وفي رواية قيل له : يا أبا يزيد : تقرب إلينا بما ليس عندنا، فقال : يا رب ؛ وما الذي ليس عندك ؟ فقال : الذل والافتقار. هـ. وقال شيخ المشايخ القطب الجيلاني رضي الله عنه :( أتيت الأبواب كلها، فوجدت عليها الزحام، فأتيت من باب الذل والافتقار، فوجدته خالياً، فدخلت منه، وقلت : هلموا ). أو كما قال. وقال الشاعر١ :
تَذَللْ لِمنْ تَهْوى فَلَيْسَ الهَوى سَهْلُ إذا رَضِيَ المحْبُوبُ صَحَّ لكَ الوصْلُ
وقولوا عند دخولكم الحضرة : شأننا حطة ؛ أي : شأننا السفليات دون العلويات، فالسلوك من باب السفليات واجب، وإلا فلا وصول، فكل مَن سلك من باب السفليات طهر من البقايا، وتكاملت فيه المزايا، فيصلح لدخول الحضرة، وينخرط في سلك أهل الشهود والنظرة، فيكون من المحسنين المقربين، فلا جرم أن الله يزيده ترقياً في العلوم والأسرار، في هذه الدار، وفي تلك الدار، بخلاف مَن خالف ما أمر به من سلوك طريق السفليات، وتعاطي الأمور العلويات، قبل كمال التربية ؛ فإنه يرجع إلى غم الحجاب، وسوء الحساب ؛ بسبب خروجه عن طريق الأحباب، وسلوكه طريق أهل الغفلة والارتياب، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ منهم قَوْلاً غيْر الَّذِي أمروا به، وقالوا مكان حطة : حنطة، حبة في شعرة، ﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً ﴾ عذاباً ﴿ مِّنَ السَّمَاءِ ﴾ قيل : هو الطاعون، فمات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد، بسبب فسقهم وتعديهم الحدود.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول الحق سبحانه للأرواح، لما كمل تطهيرها من البقايا، وتكاملت فيها المزايا : ادخلوا هذه الحضرة المقدسة، وتنعموا فيها حيث شئتم بالمشاهدة، والمكالمة، والمواجهة، والمساورة، والمفاتحة، والمناجاة، وادخلوا بابها أذلاء صاغرين، فلا دخول للحضرة المقدسة إلا من باب الذل والافتقار، وأنشدوا :
ومَا رُمتُ الدخولَ عليهِ حتَّى حَلَلْتُ مَحَلَّةَ العبدِ الذليلِ
وأَغمضْتُ الجفُونَ على قَذَاها وصُنْت النَّفْسَ عن قالٍ وقيلِ
وقيل لأبي يزيد : يا أبا يزيد، خزائننا معمورة بالخدمة، ائتني من كوّة الذل والافتقار. وفي رواية قيل له : يا أبا يزيد : تقرب إلينا بما ليس عندنا، فقال : يا رب ؛ وما الذي ليس عندك ؟ فقال : الذل والافتقار. هـ. وقال شيخ المشايخ القطب الجيلاني رضي الله عنه :( أتيت الأبواب كلها، فوجدت عليها الزحام، فأتيت من باب الذل والافتقار، فوجدته خالياً، فدخلت منه، وقلت : هلموا ). أو كما قال. وقال الشاعر١ :
تَذَللْ لِمنْ تَهْوى فَلَيْسَ الهَوى سَهْلُ إذا رَضِيَ المحْبُوبُ صَحَّ لكَ الوصْلُ
وقولوا عند دخولكم الحضرة : شأننا حطة ؛ أي : شأننا السفليات دون العلويات، فالسلوك من باب السفليات واجب، وإلا فلا وصول، فكل مَن سلك من باب السفليات طهر من البقايا، وتكاملت فيه المزايا، فيصلح لدخول الحضرة، وينخرط في سلك أهل الشهود والنظرة، فيكون من المحسنين المقربين، فلا جرم أن الله يزيده ترقياً في العلوم والأسرار، في هذه الدار، وفي تلك الدار، بخلاف مَن خالف ما أمر به من سلوك طريق السفليات، وتعاطي الأمور العلويات، قبل كمال التربية ؛ فإنه يرجع إلى غم الحجاب، وسوء الحساب ؛ بسبب خروجه عن طريق الأحباب، وسلوكه طريق أهل الغفلة والارتياب، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

ثم ذكرهم بنعمة الماء الذي سقاهم في التيه، فقال :
﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾
قلت :﴿ استسقى ﴾ : طلب السقي، و " ال " في ﴿ الحجر ﴾ للعهد، وهو الحجر الذي فرَّ بثوبه، أو حجر خفيف مربع مثل رأس الرجل، أُمر أن يحمله معه، فكان يضعه في مخلاته، فإذا احتاج الماء ضربه، قيل : كان من رخام، وقيل : كان كذَّان١، كان فيه اثنتا عشرة حفرة، تنبع من كل حفرة عين ماء عذب، على عدد الأسباط، فإذا أراد حمله ضربه فجفّ الماء منه، وقيل : للجنس، فكان يضرب أيَّ حجر وجد، فتنفجر منه عيوناً، ثم تسير كل عين في جدول إلى سبط، فقالوا : إن أفضينا إلى أرض لا حجارة فيها عطشنا، فأوحى إليه : أن كلِّمْهُ يَطِعْك لعلهم يعتبرون.
و﴿ فَانْفَجَرَتْ ﴾ معطوف على محذوف ؛ أي : فضرب فانفجرت، والعُثو : أشد الفساد، عَثَا يعثَوا عثواً، وعثى يعثِي عثِياً، وعاث يعيث عيثاً، و﴿ مفسدين ﴾ : حال مؤكدة لعاملها، أو مقيدة، إن قلنا : إن العثو أعم من الفساد، لصدقه على القصاص، فإنه عثو غير فساد. انظر البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا يا بني إسرائيل حين عطشتم في التيه، فطلبتم من موسى السقي، فاستسقى لكم، ﴿ فقلنا ﴾ له :﴿ اضرب بعصاك ﴾ التي أخذتها من شعيب عليه السلام، وكانت من آس الجنة، وورثت عن آدم عليه السلام، فيها عشرة أذرع، فضرب ﴿ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ﴾ على عدد أسباطكم، فكل عين تجري إلى سبط ﴿ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسِ مَّشْرَبَهُمْ ﴾ مُعَيناً، لا يعدو أحد على أحد، فقلنا لهم :﴿ كُلُوا ﴾ من المن والسلوى، ﴿ واشربوا ﴾ من الماء الذي رزقناكم، ولا تطغوا بالنعم فتفسدوا في الأرض بالمعاصي والذنوب، فيكون ذلك كفراً مستوجباً للسلب بعد العطاء، رُوِيَ أنهم كانوا ستمائة ألف، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الأرواح إذا تطهرت من الأكدار، وتحررت من الأغيار، وأشرقت عليها الأنوار والأسرار، وكمل تطهيرها، وتمت تصفيتها، كان صاحبها آية من آيات الله، وحجة من حجج الله، إذا ضرب بعصا همته القلوب القاسية أو الأنفس الأبية، لانت وانفجرت بالعلوم القدسية، كل واحد بما يليق به، فمنها من تنبع بالعلوم الوهبية، ومنها من تنبع بالعلوم الرسمية، ومنها من تنبع بالكرامات وخوارق العادات، ومنها من تنبع منها المكاشفات والاطلاعات، قد علم كل أناس مشربهم، على حسب ما سبق لهم، فيقول الحق تعالى لهم : كلوا من ثمرات ما اجتنيتم من العلوم والمعارف التي أوليناكم، واشربوا من مناهل المنازل التي فيها أقمناكم، أو كلوا من ثمرات المعرفة ما تتقوى به معانيكم، واشربوا من خمر الحبيب ما تغيبوا به عن وجودكم، ولا تتعدوا أطواركم من القيام بوظائف العبودية، ومعرفة عظمة الربوبية، فتكونوا لسلب ما أولاكم متعرضين، ولعقوبته مستحقين، عائذاً بالله من السلب بعد العطاء. آمين.
١ الكذان: جمع كذانة، وهي حجارة فيها رخاوة، وربما كانت نخرة..
ولما سئموا من المن والسلوى، استبدلوا غيرهما، كما أشار إلى ذلك الحق تعالى، فقال :
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذالِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾
قلت : المراد بالطعام الواحد : هو المنّ والسلوى. ووحَّده لأنه لا يختلف ولا يتبدل، كقولهم : طعام مائدة الأمير واحد، والبقل : جميع الخضر، كالنجم والكرنب والكراث وغير ذلك. والقثاء : جمع قثاءة، وهي الخيار والفقوس والبطيخ وغير ذلك من الفواكه التي تستنبت، والفوم قيل : الحنطة، والأصح أنه الثوم. قال الشاعر :
أنتُم أُناسٌ لِئامُ الأُصولِ طعامُكُم الفومُ والحَوقَلُ
أراد : الثوم والبصل. والعرب تعاقب بين الفاء والثاء فتقول : معافير ومعاثير، وتقول للقبر : جدث وجدف.
والعدس : معلوم، روى عليّ - كرّم الله وجهه - عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :" عليكم بالعدس، فإنه مبارك مقدس، وإنه يرقق القلب، ويكثر الدمعة، وإنه بارك فيه سبعون نبيّاً، آخرهم عيسى ابن مريم١ ".
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا أيضاً حين ﴿ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامِ وَاحِدٍ ﴾ حين مللتم من العسل واللحم، وملتم إلى عَكَرِكُمْ السوء، أي : مألوفكم وشهواتكم السيئة، لأنهم كانوا فلاحين، فقلتم :﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ ﴾، أي : من جنس ما ينبت الله فيها من البقل والقثاء والعدس والفوم والبصل، قال موسى عليه السلام :﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى ﴾ وأخس من الثوم والبصل وغيرهما، ﴿ بالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ من اللحم والعسل، ﴿ اهْبِطُوا ﴾ إلى مصر من الأمصار، تجدوا ما تشتهون، إذ لا يوجد ذلك إلا في القرى والأمصار، أو ﴿ اهْبِطُوا مِصْراً ﴾ التي كنتم فيها أذلاء مستبعدين، تجدوا حظوظكم وشهواتكم ؛ لأن الحظوظ والشهوات منوطة بالذل والهوان، ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾، أي : ألزموها لزوم الدرهم المضروب لضربه ونقشه، فالذلة : ضرب الجزية، والمسكنة : فقر النفس وإن كان موسراً.
وإنما ضُربت عليهم الذلة والمسكنة لأنهم لم يرضوا بتدبير الحق، ولم يقنعوا برزقه، فكل مَن لم يقنع بقسمته وسئم من اتحاد رزقه، خيف عليه من ضرب الذل والمسكنة، وانقلبوا أيضاً ﴿ بِغَضَبٍ منَ اللَّهِ ﴾ حيث نقضوا العهود، وتعدوا الحدود، فكفروا وطغوا وقتلوا الأنبياء بغير حق، وسبب ذلك : تمردهم في العصيان، فإن المعاصي تجر بعضها إلى البعض حتى تنتهي إلى الكفر، والعياذ بالله من سخطه وغضبه.
الإشارة : كل مَن لم يقنع بالقسمة الأزلية، ولم يقم حيث أقامته القدرة الإلهية، بل جنح إلى حظوظه وهواه، وحرص على تحصيل أغراضه ومناه، قيل له : أتستبدل تدبيرك - الذي هو أدنى - بتدبير الحق - الذي هو خير - ؟ أتترك تدبير الحكيم العليم، الرؤوف الرحيم، إلى تدبير عقلك الضعيف الجاهل الخسيس اللئيم ؟ ! فعسى أن تدبر شيئاً يكون لك فإذا هو عليك. وعسى أن تأتيك المسار من حيث تعتقد المضار، وتأتيك المضار من حيث ترتجي المسار. ولله درّ القائل :
وكَم رُمْتُ أَمْراً خِرْتَ لي في انْصِرَافِهِ، فَلاَ زلْتَ لي مِني أبَرَّ وأَرْحَمَا
عَزَمْتُ عَلَى ألاّ أُحِسَّ بِخَاطِرٍ عَلى القلْبِ إلاَّ كُنْتَ أَنْتَ المُقَدَّمَا
وألا تَرَانِي عِنْدَ مَا قَدْ نَهيْتَني ؛ لِكَونَك في قَلْبِي كَبيراً مُعَظَّمَا
يا مَن لم يقنع بتدبير مولاه، ومال إلى نيل حظه وهواه، اهبط إلى أرض الحظوظ والشهوات تجد فيها ما ألفته نفسك من عوائدك السيئات. يا مَن أخلدت نفسه إلى الهوى ومتابعة الشيطان، كيف تستبدل العز الدائم بالذل والهوان ؟ ! وأنشدوا :
لاَ تَتْبعِ النفسَ في هَواهَا إنَّ اتِّباعَ الهَوَا هَوَانُ
قال في التنوير : فائدة : اعلم أن بني إسرائيل لما دخلوا التيه، ورُزقوا المنّ والسلوى، واختار الله لهم ذلك رزقاً، رزقهم إياه، يبرز من عين المنّة، من غير تعب منهم ولا نصب، فرجعت نفوسهم الكثيفة لوجود، العادة، والغيبة عن شهود تدبير الله، إلى طلب ما كانوا يعتادونه، فقالوا :﴿ ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض ﴾ الآية.
﴿ قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلّة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ﴾، وذلك لأنهم تركوا ما اختار الله لهم، مائلين لما اختاروا لأنفسهم، فقيل لهم عن طريق التوبيخ :﴿ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ﴾ ؟ فظاهر التفسير : أتستبدلون الفوم والعدس والبصل بالمنّ والسلوى ؟ وليس النوعان سواء في اللذة ولا في سقط المشقة وسر الاعتبار، أتستبدلون مرادكم لأنفسكم بمراد الله تعالى لكم ؟ ﴿ أتستبدلون الذي هو أدنى ﴾ وهو ما أردتموه، ﴿ بالذي خير ﴾، وهو ما أراده الله لكم ؟ ﴿ اهبطوا مصراً ﴾ فإن ما اشتهيتموه لا يليق إلا أن يكون في الأمصار، وفي سر الخطاب : اهبطوا عن سماء التفويض وحسن التدبير منا لكم، إلى أرض التدبير والاختيار منكم لأنفسكم، موصوفين بالذل والمسكنة ؛ لاختياركم مع اختيار الله، وتدبيركم لأنفسكم مع تدبير الله. ه المراد منه.
١ أخرجه القرطبي في تفسيره ١/٤٢٧، والفتني في تذكرة الموضوعات ص ١٤٧، وابن الجوزي في الموضوعات ٢/٢٩٤..
ولما ذَكَّرَهُمْ الحق تعالى بالنعمة، ووبَّخَهم على ارتكاب الآثام، رغَّبهم في الإسلام، فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
قلت :﴿ إن ﴾ : ناصبة مؤكدة، وخبرها : جملة ﴿ مَن آمن ﴾ أو ﴿ فلهم أجرهم ﴾. و﴿ مَن آمن ﴾ : بدل من اسمها، أو محذوف، والموصول : مبتدأ ؛ أي : إن الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين هادوا كذلك. و﴿ هادوا ﴾ : تهودوا، أي : دخلوا في اليهودية. وسمّوا يهوداً ؛ إما نسبة لأبيهم الأكبر ( يهوذا بن يعقوب )، أو مِنْ هَادَ، إذَا تَابَ ؛ لأنهم تابوا من عبادة العجل.
والنصارى : جمع نصران، وسُموا بذلك إما لنصرهم المسيح عليه السلام، أو لسكناهم معه في قرية يقال لها :( نصران )، والصابئون : طائفة من أهل الكتاب، خرجوا عن دين اليهودية وعبدوا الكواكب، يقال : صبا يصبو، إذا مال وخرج من دين إلى دين.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا بموسى، والذين آمنوا بعيسى - عليهما السلام -، والذين خرجوا عن دينهم وصبوا، ﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ ﴾ وتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وعمل بشريعته، ﴿ فلهم أجرهم عند ربهم ﴾ إذا قدموا عليه بالنعيم المقيم، والنظر إلى وجهه الكريم، ﴿ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِم ﴾ حين يخاف الكفار، ﴿ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ حين يحزن المفرطون والأشرار ؛ إذ لا يلحقهم وبال ولا يفوتهم نوال. وبالله التوفيق.
الإشارة : إن الذين آمنوا إيماناً لا يختلجه وهم، ولا يطرق ساحته شك ولا ريب، إما عن برهان قاطع، أو عن شهود ساطع، والذين تابوا عن هواجس الخواطر وغفلات الضمائر، والذين نصروا الدين، وشيّدوا منار شريعة المسلمين، والذين صبوا إلى الحبيب، ومالوا عن كل بعيد وقريب، فهؤلاء الذين سبقت لهم من الله العناية، وهبت عليهم ريح الهداية، جمعوا بين تزيين البواطن بأنوار الإيقان، وتزيين الظواهر بأنواع الطاعة والإذعان، فلا جرم أنهم، إذا قدموا على ربهم، أجلَّ منصبهم، وأجزل ثوابهم، وأعلى مقامهم، فأولئك أولياء الله الذين ﴿ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾.
فالمخصوصون بالعناية أربعة : قوم أقامهم الحق تعالى لتنمية الإيمان وتربية الإيقان، إما عن دليل وبرهان - وهم أهل النظر والاعتبار، - وإما عن شهود وعيان - وهم أهل الشهود والاستبصار -، وقوم أقامهم الحق تعالى لتصفية نفوسهم وتزكية أحوالهم بالتوبة، والإقلاع عن كل وصف مذموم، وهم السائرون والطالبون، وقوم أقامهم لنصر الدين وإظهار شريعة المسلمين، إما بتقرير قواعده أو جهاد معانده، وهم العلماء والمجاهدون، وقوم أقامهم لخدمته، وملأ قلوبهم بهيبته، وهم العُباد والزهاد، مالوا عن الشهوات وتأنسوا به في الخلوات، هجروا الأوطان وفارقوا الأحباب والإخوان، صبوا إلى محبة الحبيب وتلذذوا بمناجاة القريب، فهؤلاء المخصوصون بعين العناية، المحفوظون بغاية الرعاية، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. حققنا الله بمقام الجميع بمنّه وكرمه. آمين.
ثم وبخهم على نقض العهود، وعدم الوقوف مع الحدود، فقال :
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ * ﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ * ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ * ﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا يا بني إسرائيل حين ﴿ أَخَّدْنَا مِيثَاقَكُمْ ﴾ أن تقبلوا تكاليف التوراة، وكانت شاقة عليهم، فلما أبيتم قبولها، قلعنا الطور، ورفعناه فوقكم على مقدار عسكركم، كالظلة، وقلنا لكم :﴿ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم ﴾ من التوراة بجد واجتهاد، ﴿ واذكروا ما فيه ﴾ من الوعظ والتذكير ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ الله، فتفوزون بالخير الكثير، فقبلتم ذلك كرهاً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن المريدين إذا دخلوا في يد شيخ، وأخذوا عنه العهد، حملهم من أعباء التكليف وخرق العوائد ما تموت به نفوسهم، وتحيا به قلوبهم، كذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس، فإذا هموا بالتقصير، ظلل عليهم جبل همته، وأدار عليهم يد حفظه ورعايته، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن :( والله لا يكون الشيخ شيخاً حتى تكون يده مع الفقير أينما ذهب ). والمراد باليد : الهمة والحفظ، ولا يزال الشيخ يراسلهم بهذه التكاليف، ويحضّهم على الأخذ بها، والاجتهاد في العمل بها، حتى تموت نفوسهم وتحيا قلوبهم، وترسخ معرفتهم، وتكمل تربيتهم، فحينئذٍ ينتقلون إلى روح وريحان في جنات الشهود والعيان.
قلت : وقد كان شيخنا يرسل لنا البطاقات في حال البدايات، فما كنت أفتحها حتى ترتعد نفسي مما فيها، لأنها تعلم أنه ما يُرسل لها إلا ما فيه موتها، فلولا فضل الله علينا ورحمته - حتى قوانا على العمل بما فيها - لكنا من الخاسرين، ولقد أخطأت العناية قوماً، فتعدوا حدود الشيوخ، أو خرجوا عن دائرتهم قبل كمال تربيتهم، فمسخت قلوبهم، وانمحت في ديوان الولاية رسومهم، جعل الله ذلك عبرة لغيرهم، وزاجراً لمن حذا حذوهم، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، وكفران النعم وحرمان الرضى، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.

قلت :﴿ لولا ﴾ حرف امتناع لوجود١، تلزم الدخول على المبتدأ، وخبرها واجب الحذف عند سيبويه، أي : لولا فضل الله عليكم ورحمته موجودان، وقال الكوفيون : فاعل بمحذوف : أي : لولا أن ثبت فضل الله عليكم ورحمته، و( لكنتم ) : جوابها.
﴿ ثُمَّ تَوّلَّيْتُم ﴾ وأعرضتم بعد ذلك، فسفكتم الدماء، وقتلتم الأنبياء، ﴿ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ بتوفيقكم للتوبة، ﴿ وَرَحْمَتُهُ ﴾ بقبولها منكم، فخسرتم الدنيا والآخرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن المريدين إذا دخلوا في يد شيخ، وأخذوا عنه العهد، حملهم من أعباء التكليف وخرق العوائد ما تموت به نفوسهم، وتحيا به قلوبهم، كذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس، فإذا هموا بالتقصير، ظلل عليهم جبل همته، وأدار عليهم يد حفظه ورعايته، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن :( والله لا يكون الشيخ شيخاً حتى تكون يده مع الفقير أينما ذهب ). والمراد باليد : الهمة والحفظ، ولا يزال الشيخ يراسلهم بهذه التكاليف، ويحضّهم على الأخذ بها، والاجتهاد في العمل بها، حتى تموت نفوسهم وتحيا قلوبهم، وترسخ معرفتهم، وتكمل تربيتهم، فحينئذٍ ينتقلون إلى روح وريحان في جنات الشهود والعيان.
قلت : وقد كان شيخنا يرسل لنا البطاقات في حال البدايات، فما كنت أفتحها حتى ترتعد نفسي مما فيها، لأنها تعلم أنه ما يُرسل لها إلا ما فيه موتها، فلولا فضل الله علينا ورحمته - حتى قوانا على العمل بما فيها - لكنا من الخاسرين، ولقد أخطأت العناية قوماً، فتعدوا حدود الشيوخ، أو خرجوا عن دائرتهم قبل كمال تربيتهم، فمسخت قلوبهم، وانمحت في ديوان الولاية رسومهم، جعل الله ذلك عبرة لغيرهم، وزاجراً لمن حذا حذوهم، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، وكفران النعم وحرمان الرضى، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.


١ حرف امتناع لوجود: أي امتناع شيء لوجود غيره..
﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ﴾ ما جرى للذين ﴿ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ ﴾ في زمن داود عليه السلام، وذلك في قرية يقال لها :" أيْلة "، كانت على شاطئ البحر، وقد نُهوا عن الاصطياد يوم السبت، فكانت الحيتان تخرج يوم السبت شُرَّعاً، فتُخْرِج خراطيمها للبر، فإذا كان يوم الأحد دخلت في البحر، فحفروا حياضاً، وشرعوا إليها جداول، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد، فلمَّا لمْ يُعاقبوا على ذلك أحلُّوا يوم السبت، فانقسمت القرية على ثلاث فرق : قوم نهوا، وقوم سكتوا، وقوم اصطادوا، فمُسِخ من اصطاد قردة وخنازير ؛ الشُّبان قردة، والشيوخ خنازير، فبقوا ثلاثة أيام وماتوا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن المريدين إذا دخلوا في يد شيخ، وأخذوا عنه العهد، حملهم من أعباء التكليف وخرق العوائد ما تموت به نفوسهم، وتحيا به قلوبهم، كذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس، فإذا هموا بالتقصير، ظلل عليهم جبل همته، وأدار عليهم يد حفظه ورعايته، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن :( والله لا يكون الشيخ شيخاً حتى تكون يده مع الفقير أينما ذهب ). والمراد باليد : الهمة والحفظ، ولا يزال الشيخ يراسلهم بهذه التكاليف، ويحضّهم على الأخذ بها، والاجتهاد في العمل بها، حتى تموت نفوسهم وتحيا قلوبهم، وترسخ معرفتهم، وتكمل تربيتهم، فحينئذٍ ينتقلون إلى روح وريحان في جنات الشهود والعيان.
قلت : وقد كان شيخنا يرسل لنا البطاقات في حال البدايات، فما كنت أفتحها حتى ترتعد نفسي مما فيها، لأنها تعلم أنه ما يُرسل لها إلا ما فيه موتها، فلولا فضل الله علينا ورحمته - حتى قوانا على العمل بما فيها - لكنا من الخاسرين، ولقد أخطأت العناية قوماً، فتعدوا حدود الشيوخ، أو خرجوا عن دائرتهم قبل كمال تربيتهم، فمسخت قلوبهم، وانمحت في ديوان الولاية رسومهم، جعل الله ذلك عبرة لغيرهم، وزاجراً لمن حذا حذوهم، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، وكفران النعم وحرمان الرضى، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.

فجعلنا تلك الفعلة التي فعلنا بهم - ﴿ نَكَالاً ﴾ وزجراً ﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ﴾ في زمانها، وما خلفها ؛ من يأتي بعدها، ﴿ وموعظة ﴾ : وتذكيراً ﴿ للمتقين ﴾ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن المريدين إذا دخلوا في يد شيخ، وأخذوا عنه العهد، حملهم من أعباء التكليف وخرق العوائد ما تموت به نفوسهم، وتحيا به قلوبهم، كذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس، فإذا هموا بالتقصير، ظلل عليهم جبل همته، وأدار عليهم يد حفظه ورعايته، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن :( والله لا يكون الشيخ شيخاً حتى تكون يده مع الفقير أينما ذهب ). والمراد باليد : الهمة والحفظ، ولا يزال الشيخ يراسلهم بهذه التكاليف، ويحضّهم على الأخذ بها، والاجتهاد في العمل بها، حتى تموت نفوسهم وتحيا قلوبهم، وترسخ معرفتهم، وتكمل تربيتهم، فحينئذٍ ينتقلون إلى روح وريحان في جنات الشهود والعيان.
قلت : وقد كان شيخنا يرسل لنا البطاقات في حال البدايات، فما كنت أفتحها حتى ترتعد نفسي مما فيها، لأنها تعلم أنه ما يُرسل لها إلا ما فيه موتها، فلولا فضل الله علينا ورحمته - حتى قوانا على العمل بما فيها - لكنا من الخاسرين، ولقد أخطأت العناية قوماً، فتعدوا حدود الشيوخ، أو خرجوا عن دائرتهم قبل كمال تربيتهم، فمسخت قلوبهم، وانمحت في ديوان الولاية رسومهم، جعل الله ذلك عبرة لغيرهم، وزاجراً لمن حذا حذوهم، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، وكفران النعم وحرمان الرضى، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.

ثم وبخهم بما فعل أسلافهم من قتل النفس والتشغيب على نبيهم، فقال :
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ * ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ ﴾ * ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ * ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ * ﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا يا بني إسرائيل حين ﴿ قال موسى لقومه ﴾ لما تخاصموا إليه في قتيل وجد في قرية ولم يدر قاتله، وذلك أن رجلاً فقيراً من بني إسرائيل قتل قريباً له كان موسراً ليرثه، ثم رماه في قرية أخرى، ثم ذهب يطلب دمه، فترافعوا إلى موسى عليه السلام فقال لهم بوحي :﴿ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴾، وأبهم الأمر عليهم، ﴿ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾ أي : مهزوءاً بنا، حيث نسألك عن بيان القائل وأنت تأمرنا أن نذبح بقرة، وهذا من تعنتهم وسوء أدبهم. ﴿ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ ؛ إذ لا يستهزئ بأمر الدين إلا الجاهل.
قلت : الفارض : المسنة التي لا تلد، يقال : فرضت البقرة، تفرض فروضاً، إذا أسنت. والبكر : الصغيرة التي لم تلد، العوان : المتوسطة بين المسنة والصغيرة.
فلما رأوا جدَّه ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لنَا مَا هِيَ ﴾، هل هي كبيرة أو صغيرة أو متوسطة ؟ ﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ ﴾ أي : كبيرة، ﴿ ولا بكر ﴾ أي : ولا صغير ﴿ عَوَانٌ ﴾ متوسطة بين ما ذكر من الصغر والكبر، ﴿ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴾.
والفاقع : الناصع الصفرة، يقال : أصفر فاقع، وأسود حالك، أي : شديد السواد.
فإن الله يُبين لكم القاتل، ﴿ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ﴾، أهي حمراء أو سوداء أو صفراء ؟ ﴿ قال إنه ﴾ تعالى ﴿ يَقِولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءٌ فَاقِعٌ لوْنُهَا ﴾ ناصع صفرتها ﴿ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ لسمنها وبهجة لونها.
﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ﴾، فإن البقر الصفر كثير، وقد تشابه علينا أمرها ؟ ﴿ قال إنه يقول إنها بقرة. . . ﴾.
وأصل شية : وِشْيَة، كعدة، حذفت فاؤها وعوض عنها التاء، والوشي : الرقم.
﴿ قَالَ إِنَّهُ ﴾ تعالى يقول : إنها مسلمة من العمل ليست ذلولاً، أي : مذللة بالعمل لا ﴿ تُثِيرُ ﴾ أي : تقلب ﴿ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ ﴾ بالسانية١. ﴿ مُسَلَّمَةٌ ﴾ من العيوب كلها، ﴿ لاَّ شِيَةَ فيهَا ﴾ أي : لا رقم فيها يخالف الصفرة.
فلما تبين لهم الأمر ﴿ قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾ الواضح، فوجدوها عند شاب كان بيد أمه، قد استودعها له أبوه في غيضة٢، فاشتروها منه بملء جلدها ذهباً، أو بوزنها، ﴿ فذبحوها ﴾، وضربوا القتيل بجزء منها، فجلس وعروقه تسيل دماً، وقال : قتلني ابن عم لي، ثم رجع، ﴿ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ لكثرة ترددهم، أو لفحش غلوها. قال عليه الصلاة والسلام :" لو ذبحوا أدنى بقرة لكفتهم لكن شددوا فشدد الله عليهم ".
١ السانية: الساقية..
٢ الغيضة: المكان الكثير الشجر..
ثم ذكر أول القصة، فقال :
﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ * ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾
قلت : حق هذه الآية أن تتقدم قبل قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ. . . ﴾ [ البَقَرَة : ٦٧ ] وإنما أخَّرها الحق تعالى ليتوجه العتاب إليهم مرتين ؛ على ترك المسارعة لامتثال أمر نبيهم، وعلى قتل النفس، ولو قدمها لكانت قصة واحدة بتوبيخ واحد.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكروا ﴿ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ﴾ حرصاً على الدنيا ﴿ فَادَّارَأْتُمْ ﴾ أي : تدافعتم في شأنها، كل قرية تدفع عنها، ﴿ والله ﴾ تعالى ﴿ مُخْرِجٌ ﴾ ومبين ﴿ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ من القتل، ومن قتله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا أمر الشيخ المريدين بذبح نفوسهم بخرق عوائدها، فمن تردد منهم في فعل ما تموت به نفسه، كان ذلك دليلاً على قلة صدقه وضعف نهايته، ومن بادر منها إلى قتلها دلّ ذلك على صدقه وفلاحه ونجح نهايته، فإذا ماتت النفس بالكلية حييت روحه بالمعرفة والمشاهدة الدائمة، فلا موت بعدها أبداً، قال تعالى :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى ﴾ [ الدّخَان : ٥٦ ]، وأما الموت الطبيعي فإنما هو انتقال من مقام إلى مقام، ومن وطن ضيق إلى وطن واسع، وأنشدوا :
لا تظُنُّوا الموتَ موتاً إنهُ لَحَيَاةٌ، وَهْو غايةُ المنَى
لا تَرُعْكُم هَجْمَةُ الموتِ فَما هُو إلا انْتِقَالٌ مِنْ هنَا
فاخْلَعُوا الأجْسَادَ منْ أنفُسِكُم تُبْصِرُوا الحقَّ عيَاناً بَيِّنَا
قلت : والسيف الذي يُجْهز على النفس ويسرع قتلها هو الذل والفقر، فمن ذلّ نفسه بين أبناء جنسه، وخرق عوائد نفسه، وزهد في الدنيا، ماتت نفسه في طرفة عين، وحيِيَتْ روحه، وظفر بِقُرَّةِ العين، وهي معرفة مولاه، والغيبة عما سواه.
وكمال الوقت في ذبح النفس أن تكون متوسطة بين الصغر والكبر، فإن الصغيرة جدّاً لا يؤمن عليها الرجوع، والكبيرة جدّاً قد يصعب عليها النزوع، كاملة الأوصاف بحسن الزهد والعفاف، تسر الناظرين لبهجة منظرها وحسن طلعتها، وكذلك من كان من أهل الشهود والنظرة، تَسْحَرُ مشاهدة القلوب، ويسوقها بسرعة إلى حضرة علام الغيوب، لما أقيم به من مشاهدته الملكوت، حتى إن من لاحظه تناسى أحوال البشرية، واستولت عليه أنوار الروحانية، وغابت في ذكر الحبيب عن البعيد والقريب، كما في الحديث :" أولياُ اللَّهِ مَنْ إذا رُؤوا ذُكر الله٢ "، وتكون أيضاً هذه النفس غير مذللة بطلب الدنيا والحرص عليها، مسلمة لا عيب فيها، ولا رِقَّ لشيء من الأثر عليها، فحينئذٍ تصلح للحضرة، وتتمتع بنعيم الشهود والنظرة، لم يبق لخصم الفَرْقِ معها تدارؤٌ ولا نزاع، بل أقر الخصم وارتفع النزاع.

﴿ فَقُلْنَا ﴾ : اضربوا القتيل أو قبره ﴿ بِبَعْضِهَا ﴾ قيل : اللسان، وقيل القلب، وقيل : الفخد أو الذنب، فضربوه فحيى، وأخبر بقاتله كما تقدم، ﴿ كَذَلِكَ ﴾ أي : كما أحيا هذا القتيل، ﴿ يُحْيِي الله الموتى ﴾ من قبورها ﴿ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾ الدالّة على قدرته، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ فتعلمون أن من قدر على إحياء نفس واحد يقدر على إحياء الأنفس كلها.
واستدلت المالكية بالقصة على التدمية الحمراء١، وهي قبول قول القتيل قبل موته بأن فلاناً قتله، وفيه نظر ؛ لأن هذا حيى بعد موته فلا يتطرقه الكذب، واستدلت أيضاً على حرمان القتل من الإرث، وفيه نظر ؛ لأن هذه شريعة من قبلنا يتطرقها النسخ، لكن ثبت في الحديث أنه لا يرث. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا أمر الشيخ المريدين بذبح نفوسهم بخرق عوائدها، فمن تردد منهم في فعل ما تموت به نفسه، كان ذلك دليلاً على قلة صدقه وضعف نهايته، ومن بادر منها إلى قتلها دلّ ذلك على صدقه وفلاحه ونجح نهايته، فإذا ماتت النفس بالكلية حييت روحه بالمعرفة والمشاهدة الدائمة، فلا موت بعدها أبداً، قال تعالى :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى ﴾ [ الدّخَان : ٥٦ ]، وأما الموت الطبيعي فإنما هو انتقال من مقام إلى مقام، ومن وطن ضيق إلى وطن واسع، وأنشدوا :
لا تظُنُّوا الموتَ موتاً إنهُ لَحَيَاةٌ، وَهْو غايةُ المنَى
لا تَرُعْكُم هَجْمَةُ الموتِ فَما هُو إلا انْتِقَالٌ مِنْ هنَا
فاخْلَعُوا الأجْسَادَ منْ أنفُسِكُم تُبْصِرُوا الحقَّ عيَاناً بَيِّنَا
قلت : والسيف الذي يُجْهز على النفس ويسرع قتلها هو الذل والفقر، فمن ذلّ نفسه بين أبناء جنسه، وخرق عوائد نفسه، وزهد في الدنيا، ماتت نفسه في طرفة عين، وحيِيَتْ روحه، وظفر بِقُرَّةِ العين، وهي معرفة مولاه، والغيبة عما سواه.
وكمال الوقت في ذبح النفس أن تكون متوسطة بين الصغر والكبر، فإن الصغيرة جدّاً لا يؤمن عليها الرجوع، والكبيرة جدّاً قد يصعب عليها النزوع، كاملة الأوصاف بحسن الزهد والعفاف، تسر الناظرين لبهجة منظرها وحسن طلعتها، وكذلك من كان من أهل الشهود والنظرة، تَسْحَرُ مشاهدة القلوب، ويسوقها بسرعة إلى حضرة علام الغيوب، لما أقيم به من مشاهدته الملكوت، حتى إن من لاحظه تناسى أحوال البشرية، واستولت عليه أنوار الروحانية، وغابت في ذكر الحبيب عن البعيد والقريب، كما في الحديث :" أولياُ اللَّهِ مَنْ إذا رُؤوا ذُكر الله٢ "، وتكون أيضاً هذه النفس غير مذللة بطلب الدنيا والحرص عليها، مسلمة لا عيب فيها، ولا رِقَّ لشيء من الأثر عليها، فحينئذٍ تصلح للحضرة، وتتمتع بنعيم الشهود والنظرة، لم يبق لخصم الفَرْقِ معها تدارؤٌ ولا نزاع، بل أقر الخصم وارتفع النزاع.


١ التدمية الحمراء: في القتيل الذي به جرح أو أثر ضرب أو سم، فإن لم يكن به فهي التدمية البيضاء..
ثم وبخهم على عدم تأثير هذه المعجزة في قلوبهم، فقال :
﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
قلت : القسوة والقساوة : هي الصلابة واليبوسة، كالشقوة والشقاوة، يقال حجر قاس، أي : يابس. قال الشاعر :
وَلاَ أرَى أثراً لِلذِّكرِ في جَسدِي والحَبلُ في الجَبَل القاسِي لهُ أثرُ
و﴿ أو ﴾ للإضراب، أو بمعنى الواو، أو للتنويع، فبعضها كالحجارة وبعضها أشد.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم ﴾ يا معشر اليهود، ويبست فلم تلن ولم تخضع، مع ما رأت من الآيات كانفجار الحجر بالماء في التيه، وإنزال المنّ والسلوى، وتظليل الغمام، وإحياء الميت وغير ذلك.
قال الكلبي :( أنكروا بعد ما رأوا ذلك، وقالوا : ما قتلنا، فما كانوا قد أعمى قلباً، ولا أشد تكذيباً منهم لنبيهم عند ذلك ) فقلوبهم كالحجارة، بل أشد، أو إن شَبَّهْتم قلوبهم بالحجارة أصبتم، وبما هو أشد أصبتم، بل في الحجارة فضل عليها في اللين، فإن منها ما تتفجر ﴿ مِنْهُ الأنْهَارُ ﴾ الكبار، ومنها ما تشقق ﴿ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ﴾ العيون الجارية، ومنها ما تهبط من رأس الجبل ﴿ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾. وفي بعض الأخبار :" كل حجر تَرَدَّى من رَأسِ جبلٍ فهو من خشية الله "، وقلوبكم يا معشر اليهود لا تلين ولا تخشع ولا تأتي بخير، نسأل الله السلامة بمنَّه وكرمه.
الإشارة : كل مَن أساء الأدب مع أستاذه، أو خرج عن دائرته إلى غيره، قسا قلبه، وذهب حاله ولُبه، فإن رجع قريباً واستدرك ما فات، لان قلبه ونهض حاله، وإلا وقع في مهاوي القطيعة، ولم يأت منه شيء، وللقلب القاسي علامات : منها جمود العين، وطول الأمل، وعدم الحزن على ما فاته من الطاعات وما صدر منه من السيئات، وعدم الفرح بما يصدر منه من الطاعات، فإن المؤمن تسره حسناته وتسيئه سيئاته، ودواؤه : صحبة الفقراء الذاكرين الخاشعين، والجلوس بين يدي العارفين الكاملين، وتعاهد الصيام، والصلاة بالليل والناس نيام، والتضرّع إلى الحيّ القيوم الذي لا ينام، وللشافعي رضي الله عنه :
ولَمَا قَسَا قَلْبِي وضَاقَتْ مَذَاهِبي جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لعَفْوِك سُلَّمَا
تَعَاظَمني ذَنْبي فَلمَّا قَرَنْتُه بعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَ يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ ﴾ [ البَقَرَة : ٧٤ ] كذلك القلوب القاسية إذا لانت بالإنابة إلى ربها، والرجوع عن مألوفاتها، تتفجر منها أنهار العلوم، وتشقق منها أسرار الحِكَم، ومنها من تذوب من هيبة المتجلي لها، فتندك جبالها، وتزلزل أرض نفوسها، كما قال القائل :
لَو عَايَنتْ عَينَاكَ يومَ تزلزلتْ أَرض النفُوس ودُكَّتِ الأجْبَالُ
لَرأَيتَ شَمسَ الحقِّ يسطعُ نورُها حِينَ التزَلْزلِ، والرجَالُ رجالُ
والله تعالى أعلم.
ثم آيس المؤمنين من الطمع في إيمان من كان هذا وصفه فقال :﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ * ﴿ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾
قلت : ضمن الإيمان معنى الإذعان والإقرار ؛ ولذلك عداه باللام، وجملة ﴿ قد كان ﴾ حال من فاعل الإيمان.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ أَفَتَطْمَعُونَ ﴾ يا معشر المسلمين أن يذعن لكم أهل الكتاب ويصدقوكم ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ﴾، وهم السبعون الذين ذهبوا مع موسى للاعتذار، ﴿ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ﴾ حين كلّمهم وكلّفهم بمشاق التوراة، فحرفوا وقالوا : قال : افعلوا ما استطعتم، فإذا لم يحصل لهم الإيمان مع سماع الكلام بلا واسطة، فكيف يؤمن لكم هؤلاء، وهم إنما يسمعونه بواسطة الرسالة ؟ أو ﴿ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ﴾ في التوراة ثم يحرفونه، محواً أو تأويلاً، كصفة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك، ﴿ مِنْ بعْدِ ﴾ ما فهموه ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ أنه كلام الله، أو ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ أنهم محرفون ومغيرون لكلام الله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مَن سبقت له المشيئة بالخذلان، وحكم عليه القدر والقضاء بالحرمان، يرجع إلى الدليل والبرهان، بعد الاستشراف على الشهود والعيان، فيرجع إلى مشاهدة الآثار والرسوم، وينسى ما كان يعهده من دقائق العلوم، سبب ذلك كلَّه : الإخلال بالأدب مع المشايخ والأصحاب، أو مفارقة الإخوان، وعدم مواصلة أهل العرفان، وضم إلى ذلك الإنكار على أولياء الله، وتحريف ما سمعه منهم من مواهب الله، فلا مطمع في رجوعه وإيابه، وقد بَعُد من الفتح وأسبابه، لاسيما إذا اتصف بالنفاق، إذا لقي أهل النسبة أظهر الوفاق، وإذا خلا إلى العامة أظهر الشقاق، فمِثلُ هذا لا يرجى له فلاح، ولا يَسعد بصلاح ونجاح. نعوذ بالله من ذلك.
و﴿ إذا لقوا ﴾ عطف على ﴿ كان ﴾، والتقدير : أفتطمعون في إيمانهم والحالة أن مَن سلف منهم كانوا يُحرفون كلام الله، ومن حضر منهم الآن ينافقونكم في دين الله، فلا مطمع في إيمان مَنْ هذا وصفه.
وكيف تطمعون أيضاً في إيمانهم وهم منافقون ؟ ﴿ إذَا لَقُوا ﴾ المؤمنين ﴿ قَالُوا آمنَّا ﴾، وصفة نبيكم مذكورة في كتابنا، ﴿ وَإذَا خَلا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ ﴾ لامهم مَن لم ينافق، و﴿ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ من علم التوراة فتطلعونهم عليه ﴿ ليُحَاجُّوكُم بِهِ ﴾ أي : يغلبوكم بالحجة ﴿ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾ في الدنيا والآخرة، فيقولون : كنتم عالمين بنبوة نبينا فجحدتم وعاندتم، ﴿ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ حتى تطلعوهم على ما فتح الله به عليكم. أو يقول الحق تعالى :﴿ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ يا معشر المسلمين فتطمعون في إيمانهم بعد هذه الخصال التي فيهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مَن سبقت له المشيئة بالخذلان، وحكم عليه القدر والقضاء بالحرمان، يرجع إلى الدليل والبرهان، بعد الاستشراف على الشهود والعيان، فيرجع إلى مشاهدة الآثار والرسوم، وينسى ما كان يعهده من دقائق العلوم، سبب ذلك كلَّه : الإخلال بالأدب مع المشايخ والأصحاب، أو مفارقة الإخوان، وعدم مواصلة أهل العرفان، وضم إلى ذلك الإنكار على أولياء الله، وتحريف ما سمعه منهم من مواهب الله، فلا مطمع في رجوعه وإيابه، وقد بَعُد من الفتح وأسبابه، لاسيما إذا اتصف بالنفاق، إذا لقي أهل النسبة أظهر الوفاق، وإذا خلا إلى العامة أظهر الشقاق، فمِثلُ هذا لا يرجى له فلاح، ولا يَسعد بصلاح ونجاح. نعوذ بالله من ذلك.
قال الحقّ جلّ جلاله :﴿ أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ ﴾ لا يخفى عليه شيء، بل ﴿ يَعْلَمُ ﴾ ما يسرونه وما يعلنونه، فيجازيهم على ما أخفوا وما أعلنوا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مَن سبقت له المشيئة بالخذلان، وحكم عليه القدر والقضاء بالحرمان، يرجع إلى الدليل والبرهان، بعد الاستشراف على الشهود والعيان، فيرجع إلى مشاهدة الآثار والرسوم، وينسى ما كان يعهده من دقائق العلوم، سبب ذلك كلَّه : الإخلال بالأدب مع المشايخ والأصحاب، أو مفارقة الإخوان، وعدم مواصلة أهل العرفان، وضم إلى ذلك الإنكار على أولياء الله، وتحريف ما سمعه منهم من مواهب الله، فلا مطمع في رجوعه وإيابه، وقد بَعُد من الفتح وأسبابه، لاسيما إذا اتصف بالنفاق، إذا لقي أهل النسبة أظهر الوفاق، وإذا خلا إلى العامة أظهر الشقاق، فمِثلُ هذا لا يرجى له فلاح، ولا يَسعد بصلاح ونجاح. نعوذ بالله من ذلك.
ولما ذكر الحق تعالى رؤساء اليهود أتبعهم بذكر أتباعهم، فقال :﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾
قلت : أماني : جمع أمنية، وهي في الأصل : ما يُقَدِّرُهُ الإنسان في نفسه من مُنى إذا قدَّر، ولذلك تطلق على الكذب، وعلى ما يتمنى وما يقرأ، قاله البيضاوي. والاستثناء منقطع، أي : لكن أكاذيب، ويقال : تمنى الرجل، إذا كذب واختلق الحديث، ومنه قول عثمان رضي الله عنه :( والله ما تَمنَّيْتُ ولا تَغَنَّيْتُ منذُ أَسْلَمْتُ ).
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وَمِنْهُمْ ﴾ أي : من اليهود عوام ﴿ أُمِّيُّونَ ﴾ لا يقرؤون الكتاب ولا يفهمونه، لكن يسمعون من أحبارهم ﴿ أَمَانِيَّ ﴾ كاذبة، وأشياء يظنونها من الكتاب، ولا علم لهم بصحتها، كتغيير صفته صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، أو مواعيد فارغة، ومطامع خاوية، سمعوها منهم، من أن الجنة لا يدخلها إلا هم، وأن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة، وغير ذلك من أمنيتهم الفارغة وأمانيهم الباطلة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن المنكرين على أهل الخصوصية ثلاث فرق : أهل الرئاسة المتكبرون، والفقهاء، المتجمدون، والعوام المقلدون، يصدق عليهم قوله تعالى :﴿ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ﴾ ؛ إذ لا علم عندهم يُميزون به المحق من المبطل، وإنما هم مقلدون، فوزرهم على مَن حرمهم بركة الاعتقاد، وأدخلهم في شؤم الانتقاد، ولقد أحسن " ابن البنا " حيث قال في شأن أهل الإنكار.
واعلمْ رعاكَ اللّهُ مِنْ صَديقِ أنَّ الورَى حَادُوا عن التحقيق
إذْ جَهِلُوا النفوسَ والقلوبَ وطلبُوا مَا لم يكُنْ مَطلُوبَا
واشْتَغَلُوا بعَالَمْ الأبدانِ فالكلُّ نساءٍ منْهمُ ودَانِ
وأنكَرُوا مَا جَهِلوا وزَعموا أنْ لَيسَ بعدَ الجسمِ شَيْءٌ يُعلمُ
وكفَّرُوا وزندقُوا وبدَّعُوا إذَا دَعَاهُم اللَّبِيبُ الأوْرَعُ
كلٍّ يرى أنْ لَيسَ فوقَ فَهْمِهِ فَهْمٌ ولاَ عِلْمٌ وراءَ عِلْمِهِ
مُحْتَجِباً عَنْ رؤيةِ المَراتبْ عَلّ يُسْمَى عَالماً وَطالبِ
هَيْهَاتَ هذا كُلَّه تقْصِيرُ يأنَفُهُ الحَاذقُ والنَّحْرِيرُ
ثم توعد أهل التحريف من الأحبار، فقال :﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾
قلت :﴿ ويل ﴾ : كلمة يستعملها كل واقع في هلكة، وأصلها العذاب والهلكة، وهو في الأصل مصدر لا فعل له، وسوغ الابتداء به الدعاء، وقال أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :" الويلُ وادٍ في جَهنَّم١ " [ لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت ] ٢.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ﴾ تحريفاً لكتاب الله، ﴿ وَيقُولُونَ هَذَا مِنْ عند الله ﴾ خوفاً من أن تزول رئاستهم، وينقطع عنهم ما كانوا يأخذونه من سفلتهم، نزلت في أحبار اليهود لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، خافوا أن تزول رئاستهم، فاحتالوا في تعويق اليهود عن الإسلام، وكانت صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة :" حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العينين، ربعة "، فغيروها، وكتبوا : طوالاً، أزرق، سبط الشعر، ﴿ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾، ويأخذون من سفلتهم، فهو وإن كان كثيراً في الحسن فهو، بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب الأليم، قليل.
الإشارة : ينزجر بهذه الآية صنفان : أحدهما : علماء الأحكام، إذا أفتوا بغير المشهور، رغبة فيما يقبضون على الفتوى من الحطام الفاني، وكذلك القضاة إذا حكموا بالهوى، رغبة فيما يقبضون من الرشا، أو يحصلونه من الجاه، ﴿ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ الثاني : أهل الرئاسة والجاه من أولاد الصالحين وغيرهم، فإنهم إذا رأوا أحداً قام بولاية أو نسبة خافوا على زوال رئاستهم، فيحتالون على الناس بالتعويق عن الدخول في طريقته، فيكتبون في ذلك سفسطات وترهات، يُنفِّرون الناس عن اتباع الحق، ﴿ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [ التّوبَة : ٣٢ ].
١ أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح حديث ٣١٦٤، والحاكم في المستدرك ٢/٥٠٧، ٥٣٤..
٢ انماعت: ذابت. وما بين معكوفين ليس من متن الحديث..
ثم ذكر الحق تعالى بعض أمانيهم الفارغة، فقال :﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيائَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وَقَالُوا ﴾ أي : بنو إسرائيل في أمانيهم الباطلة :﴿ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ أربعين يوماً مقدار عبادة العجل، ثم يخلفنا فيها المسلمون.
قال الحقّ جلّ جلاله :﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد :﴿ أَتَّخَذْتُمْ ﴾ بذلك عهداً عند الله ﴿ فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن كثيراً من الناس يعتمدون على صحبة الأولياء، ويُطلقون عنان أنفسهم في المعاصي والشهوات، ويقولون : سمعنا من سيدي فلان يقول : مَن رآنا لا تمسه النار. وهذا غلط وغرور، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - لابنته :" يا فاطمةَ بنتَ مُحمَّد، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شيئاً، اشترِيِ نفسك من الله ". وقال للذي قال : ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة فقال له :" أعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بكَثْرةِ السُّجُود ". نعم، هذه المقالة : إن صدرت من ولي متمكن مع الله فهي حق، لكن بشرط العمل ممن رآه بالمأمورات وترك المحرمات، فإن المأمول من فضل الله، ببركة أوليائه، أن يتقبل الله منه أحسن ما عمل، ويتجاوز عن سيئاته، فإن الأولياء المتمكنين اتخذوا عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده ؛ وهو أن من تعلق بهم وتمسك بالشريعة شفعوا فيه.
والغالب على مَن صَحِبَ أولياء الله المتمكنين - الحفظ وعدم الإصرار، فمن كان كذلك لا تمسه النار، وفي الحديث :" إذَا أحَبَّ اللّهُ عَبْداً لَمْ يضرُّه ذَنْب "، يعني : يُلهم التوبة سريعاً، كما قيل لأهل بدر :" افْعلُوا مَا شِئْتُم فَقَدْ غَفَرتْ لَكُم ". ولا يتخذ عند الله العهد إلا أهل الفناء والبقاء، لأنهم بالله فيما يقولون، فليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار، وأما من لم يبلغ هذا المقام فلا عهد له ؛ لأنه بنفسه، فمن تعلّق بمثل هذا فهو على خطر، وبالله التوفيق.
قوله تعالى :﴿ بلى من كسب سيئة ﴾، من اقتنى حب الدنيا أحاطت به أشغالها وعلائقها، فهو في نار القطعية مقيم، أحاط به سرادق الهموم والأكدار، تلدغه عقارب الشكوك والأغيار، بخلاف من أشرفت عليه أنوار الإيمان، وصحب أهل الشهود والعيان، فإنه في روح وريحان وجنة ورضوان، متعنا الله بذلك في الدارين. آمين.

قلت :﴿ بلى ﴾ : حرف جواب كنعم، والفرق بينهما أن ﴿ بلى ﴾ لا يقع إلا في جواب النفي ويصير إثباتاً، تقول : ألم يأت زيد ؟ فتقول : بلى. أي : أتى، ومثله :﴿ قالوا لن تمسنا النار ﴾ فقال تعالى :﴿ بلى ﴾ أي تمسكم، بخلاف نعم ؛ فإنها لتقرير ما قبلها نفياً أو إثباتاً، فإذا قيل : ألم يأت زيد ؟ فقلت : نعم، أي لم يأت، وإذا قيل : هل أتى زيد فقلت : نعم، أي أتى. وقد نظم ذلك بعضهم فقال :
" نعَمْ " لتقرير الذي قبلها إثباتاً أو نفياً، كذا قرَّرُوا
" بلى " جواب النفي لكنه يصير إثباتاً، كذا حرَّرُوا
﴿ بَلَى ﴾ تمسكم النار وتخلدون فيها ؛ لأن ﴿ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾ أي : كفراً ومات عليه، ﴿ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ﴾ أي : أحدقت به، واستولت عليه، ﴿ فأوْلَئِكَ أَصْحَابَ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن كثيراً من الناس يعتمدون على صحبة الأولياء، ويُطلقون عنان أنفسهم في المعاصي والشهوات، ويقولون : سمعنا من سيدي فلان يقول : مَن رآنا لا تمسه النار. وهذا غلط وغرور، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - لابنته :" يا فاطمةَ بنتَ مُحمَّد، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شيئاً، اشترِيِ نفسك من الله ". وقال للذي قال : ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة فقال له :" أعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بكَثْرةِ السُّجُود ". نعم، هذه المقالة : إن صدرت من ولي متمكن مع الله فهي حق، لكن بشرط العمل ممن رآه بالمأمورات وترك المحرمات، فإن المأمول من فضل الله، ببركة أوليائه، أن يتقبل الله منه أحسن ما عمل، ويتجاوز عن سيئاته، فإن الأولياء المتمكنين اتخذوا عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده ؛ وهو أن من تعلق بهم وتمسك بالشريعة شفعوا فيه.
والغالب على مَن صَحِبَ أولياء الله المتمكنين - الحفظ وعدم الإصرار، فمن كان كذلك لا تمسه النار، وفي الحديث :" إذَا أحَبَّ اللّهُ عَبْداً لَمْ يضرُّه ذَنْب "، يعني : يُلهم التوبة سريعاً، كما قيل لأهل بدر :" افْعلُوا مَا شِئْتُم فَقَدْ غَفَرتْ لَكُم ". ولا يتخذ عند الله العهد إلا أهل الفناء والبقاء، لأنهم بالله فيما يقولون، فليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار، وأما من لم يبلغ هذا المقام فلا عهد له ؛ لأنه بنفسه، فمن تعلّق بمثل هذا فهو على خطر، وبالله التوفيق.
قوله تعالى :﴿ بلى من كسب سيئة ﴾، من اقتنى حب الدنيا أحاطت به أشغالها وعلائقها، فهو في نار القطعية مقيم، أحاط به سرادق الهموم والأكدار، تلدغه عقارب الشكوك والأغيار، بخلاف من أشرفت عليه أنوار الإيمان، وصحب أهل الشهود والعيان، فإنه في روح وريحان وجنة ورضوان، متعنا الله بذلك في الدارين. آمين.

﴿ والذين آمنوا ﴾ بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وعلموا ﴾ بشريعته المطهرة الأعمال ﴿ الصالحات ﴾ ﴿ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالدُونَ ﴾ هذه عادته تعالى ؛ إذا ذكر فريقاً شفع بضده ترغيباً وترهيباً وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن كثيراً من الناس يعتمدون على صحبة الأولياء، ويُطلقون عنان أنفسهم في المعاصي والشهوات، ويقولون : سمعنا من سيدي فلان يقول : مَن رآنا لا تمسه النار. وهذا غلط وغرور، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - لابنته :" يا فاطمةَ بنتَ مُحمَّد، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شيئاً، اشترِيِ نفسك من الله ". وقال للذي قال : ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة فقال له :" أعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بكَثْرةِ السُّجُود ". نعم، هذه المقالة : إن صدرت من ولي متمكن مع الله فهي حق، لكن بشرط العمل ممن رآه بالمأمورات وترك المحرمات، فإن المأمول من فضل الله، ببركة أوليائه، أن يتقبل الله منه أحسن ما عمل، ويتجاوز عن سيئاته، فإن الأولياء المتمكنين اتخذوا عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده ؛ وهو أن من تعلق بهم وتمسك بالشريعة شفعوا فيه.
والغالب على مَن صَحِبَ أولياء الله المتمكنين - الحفظ وعدم الإصرار، فمن كان كذلك لا تمسه النار، وفي الحديث :" إذَا أحَبَّ اللّهُ عَبْداً لَمْ يضرُّه ذَنْب "، يعني : يُلهم التوبة سريعاً، كما قيل لأهل بدر :" افْعلُوا مَا شِئْتُم فَقَدْ غَفَرتْ لَكُم ". ولا يتخذ عند الله العهد إلا أهل الفناء والبقاء، لأنهم بالله فيما يقولون، فليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار، وأما من لم يبلغ هذا المقام فلا عهد له ؛ لأنه بنفسه، فمن تعلّق بمثل هذا فهو على خطر، وبالله التوفيق.
قوله تعالى :﴿ بلى من كسب سيئة ﴾، من اقتنى حب الدنيا أحاطت به أشغالها وعلائقها، فهو في نار القطعية مقيم، أحاط به سرادق الهموم والأكدار، تلدغه عقارب الشكوك والأغيار، بخلاف من أشرفت عليه أنوار الإيمان، وصحب أهل الشهود والعيان، فإنه في روح وريحان وجنة ورضوان، متعنا الله بذلك في الدارين. آمين.

ثم قرعهم على نقض العهد الذي أخذ عليهم، فقال :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيا إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾
قلت :﴿ لا تعبدون ﴾ : خبر في معنى النهي، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ﴾
[ البَقَرَة : ٢٨٢ ]، وهو أبلغ من صريح النهي، لما فيه من إيهام أو المنهي سارع إلى الانتهاء، وقيل : حُذفت " أن "، وارتفع المضارع، وهو على حذف القول، أي : وقلنا لهم : لا تعبدون، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالغيب.
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكروا إذ أخذنا الميثاق على بني إسرائيل وقلنا لهم : لا يتصوّر منكم شرك معي ولا ميل إلى غيري، فلا تعبدوا إلا إياي، وأحسنوا ﴿ بالوالدين ﴾ إحساناً كاملاً، وأحسنوا ﴿ وذي الْقُرْبَى ﴾ نسباً وديناً، وأحسنوا باليتامى ﴿ وَالْمَسَاكِينِ ﴾، بالمواساة والملاطفة، ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ ﴾ قولاً ﴿ حُسْناً ﴾ أو ذا حسن، وهو ما لا لغو فيه، ولا تأثيم بل ما فيه نصح وإرشاد، ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ﴾ بإتقان شروطها وكمال آدابها، وأدوا ﴿ الزَّكَاةَ ﴾ لمستحقها، ﴿ ثُمَّ ﴾ بعد ذلك ﴿ تَوَلَّيْتُمْ ﴾، وأعرضتم ﴿ إلاَّ قَلِيلاً ﴾ ممن أسلم ﴿ مِّنكُمْ وَأَنتُم مُعْرِضُونَ ﴾ عن الحقّ ظهوره.
ذكر الحق تعالى في هذا العهد أربعة أعمال : عمل خاص بالقلب، وهو التوحيد، وعمل خاص بالبدن، وهو الصلاة، وعمل خاص بالمال، وهو الزكاة، وعمل عام وهو الإحسان، ورتَّبها باعتبار الأهم فالأهم، فقدّم الوالدين لتأكيد حقهما الأعظم، ثم القرابة لأن فيهم أجر الإحسان وصلة الرحم، ثم اليتامى لقلّة حيلتهم، ثم المساكين لضعفهم، والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل عهد أخذ على بني إسرائيل يؤخذ مثله على الأمة المحمدية، وهذا حكمة ذكر قصصهم لنا، وسرد مساوئهم علينا ؛ لنتحرز من الوقوع فيما وقعوا فيه، فنهلك كما هلكوا، وكل عهد أخذ على العموم باعتبار الظاهر يؤخذ مثله على الخصوص باعتبار الباطن، فقد أخذ الحق سبحانه العهد على المتوجهين إليه ألا تتوجه همتهم إلا إليه، ولا يعتمدون بقلوبهم إلا عليه، وأن يتخلقوا بالإحسان، مع الأقارب والأجانب وكافة الإخوان، وخصوصاً الوالدين من قِبل البشرية أو الروحانية، وهم أهل التربية النبوية، فحقوق أب الروحانية تُقدم على أب البشرية، لأن أب البشرية كان سبباً في خروجه إلى دار الفناء والهوان، وأب الروحانية كان سبباً في دخوله إلى رَوْحٍ وريحان.
وأخذ العهد على المتوجهين أن يكلموا الناس بالملاطفة والإحسان، ويرشدوهم إلى الكريم المنان، ويقيموا الصلاة بالجوارح والقلوب، ويؤدوا زكاة نفوسهم بتطهيرها من العيوب، فمن تولّى بعد ذلك فأولئك الفاسقون، وعن دائرة الولاية خارجون.
ثم وبخهم على نقض عهد آخر، فقال :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ * ﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذالِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكروا أيضاً ﴿ إِذْ أَخْذْنَا ميثَاقَكُمْ ﴾ وقلنا لكم :﴿ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ﴾ أي : لا يسفك بعضكم دم بعض، ﴿ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ﴾ أي : لا يخرج أحدكم أخاه من داره ويجليه عنها، وجعلهم الحق نفساً واحدة، وذلك هو في الحقيقة، وفي ذلك يقول الشاعر :
عُنْصُرُ الأنفاسِ مِنَّا واحِدٌ وكّذا الأجْسَامُ جِسْمٌ عَمَّنَا
﴿ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ ﴾ بهذا العهد والتزمتموه لأنفسكم ﴿ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ على أنفسكم بذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الناس على قسمين : قوم ضعفاء تمسكوا بظاهر الشريعة ولم ينفذوا إلى باطنها، ولم يقدروا على قتل نفوسهم، ولا على الخروج من وطن عوائدهم، فيقول لهم الحق جلّ جلاله : لا تسفكوا دماءكم في محبتي ؛ لأنكم لا تقدرون على ذلك، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم في سياحة قلوبكم، فقد أقررتم بعجزكم وضعفكم، ويقول للأقوياء : ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون أنفسكم في طلب معرفتي، وتخرجون فريقاً منكم من ديار عوائدهم في طلب مرضاتي، تتعاونوا على نفوسكم بالقهر والغلبة، وكذلك ورد في بعض الأخبار :( أول ما يقول الله للعبد : اطلب العافية والجنة والأعمال وغير ذلك، فإن قال : لا، ما أريد إلا أنت، قال له : من دخل في هذا معي فإنما يدخل بإسقاط الحظوظ، ورفع الحدث، وإثبات القدم، وذلك يوجب العدم ) وأنشدوا :
منْ لَم يَكُن فَانِياً عَنْ حَظِّهِ وَعِنِ الفَنَا والأُنسِ بالأحْبَابِ
فلأَنَّهُ بَيْنَ المنَازِل واقفٌ لِمنَالِ حَظّ أَوْ لُحُسْنِ مَآبِ
ويقول أيضاً للأقوياء الذين قتلوا أنفسهم وخرجوا عن عوائدهم : وإن يأتوكم أسارى في أيدي نفوسهم وعوائدهم، أو في طلب الدنيا وشهواتها، تفدوهم من أسرهم، وتفكوهم من قيودهم، وتدخلوهم في حضرة مولاهم، وفي بعض الآثار :( طالب الدنيا أسير، وطالب الآخرة أجير، وطالب الحق أمير ) هـ. والأمير هو الذي يفك الأسارى من أيدي العدو، لأجل ما ملكه الله من القوة والاستعداد، فإذا انفك العبد من هواه، دخل في حضرة مولاه، فمن رام إخراجه منها بعد دخوله يقال له : وهو محرم عليكم إخراجهم، فكيف تؤمنون بظاهر الشريعة وتنكرون علم الطريقة، وأنوار الحقيقة ؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا وهو الحرص والطمع، والخوف والجزع وطول الأمل، وعدم النهوض إلى العمل، ﴿ ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ﴾، وهو غم الحجاب وسوء الحساب، ﴿ وما الله بغافل عما يعملون ﴾.

قلت :﴿ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء ﴾ ﴿ أَنتُمْ ﴾ : مبتدأ، و﴿ هَؤُلاء ﴾ : خبر، و﴿ تَقْتُلُون ﴾ : حال، كقولك : أنت ذلك الرجل الذي فعلت كذا وكذا، أو ﴿ هَؤُلاءِ ﴾ : بدل، و﴿ تَقْتُلُونَ ﴾ : خبر أو منادي، أي : يا هؤلاء، أو منصوب على الاختصاص، والْعُدْوَانِ : الإفراط في الظلم، و﴿ أُسَارَى ﴾ حالٌ، جمع أسير، ويجمع على أًسرى، وقرئ به ؛ أي : مأسورين : و﴿ هُوَ ﴾ ضمير الشأن، و﴿ مُحَرَّمٌ ﴾ خبر، و﴿ إِخْرَاجُهُمْ ﴾ مبتدأ مؤخر، أو ضمير الإخراج فيكون مبتدأ، و﴿ مُحَرَّمٌ ﴾ خبره، و﴿ إِخْرَاجُهُمْ ﴾ بدل من الضمير، وهذه الجملة متصلة بقوله :﴿ وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ﴾، وما قبلها اعتراض.
﴿ ثُمَّ أَنتُمْ ﴾ يا ﴿ هَؤُلاءِ ﴾ اليهود ﴿ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ ﴾ أي : يقتل بعضكم بعضاً، ﴿ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ ﴾ إجلاءً عنها، تتغالبون
﴿ عَلَيْهِم ﴾ بالظلم والطغيان، ﴿ وَإِن يَأتُوكُمْ ﴾ مأسورين تفدوهم بمالكم، وذلك الإخراج محرم عليكم.
وحاصل الآية : أن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل العهد في التوراة ألا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأيّما عبدٍ أو أمَةٍ وجدتموه من بني إسرائيل أسيراً فاشتروه بما كان من ثمنه واعتقوه، فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، وكانوا يقتتلون في الحرب فيُعين بنو قريظة حلفاءهم الأوس، فيقاتلون بني النضير في قتالهم مع الخزرج، فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه، فعيرتهم العرب، فقالوا : تقاتلونهم وتفدونهم ؟ ! فيقولون : قد أمرنا أن نفديهم وحُرم علينا قتالهم، قالوا : فلم تقاتلونهم ؟ فقالوا : إنا نسْتحي أن يُذَل حلفاؤنا، فوبخهم الله على ذلك، فقال :
﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَاب ﴾ وهو الفداء ﴿ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ وهو القتل والإخراج ؟ ﴿ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ ﴾ أي : ذل وهوان ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾، وهو السبي والقتل لبني قريظة، والجلاء والإخراج من الوطن لبني النضير، أو الذل والجزية للفريقين إلى يوم القيامة، ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ﴾. وليس ما أصابهم تكفيراً لذنوبهم، بل نقمة وغضباً عليهم، ﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الناس على قسمين : قوم ضعفاء تمسكوا بظاهر الشريعة ولم ينفذوا إلى باطنها، ولم يقدروا على قتل نفوسهم، ولا على الخروج من وطن عوائدهم، فيقول لهم الحق جلّ جلاله : لا تسفكوا دماءكم في محبتي ؛ لأنكم لا تقدرون على ذلك، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم في سياحة قلوبكم، فقد أقررتم بعجزكم وضعفكم، ويقول للأقوياء : ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون أنفسكم في طلب معرفتي، وتخرجون فريقاً منكم من ديار عوائدهم في طلب مرضاتي، تتعاونوا على نفوسكم بالقهر والغلبة، وكذلك ورد في بعض الأخبار :( أول ما يقول الله للعبد : اطلب العافية والجنة والأعمال وغير ذلك، فإن قال : لا، ما أريد إلا أنت، قال له : من دخل في هذا معي فإنما يدخل بإسقاط الحظوظ، ورفع الحدث، وإثبات القدم، وذلك يوجب العدم ) وأنشدوا :
منْ لَم يَكُن فَانِياً عَنْ حَظِّهِ وَعِنِ الفَنَا والأُنسِ بالأحْبَابِ
فلأَنَّهُ بَيْنَ المنَازِل واقفٌ لِمنَالِ حَظّ أَوْ لُحُسْنِ مَآبِ
ويقول أيضاً للأقوياء الذين قتلوا أنفسهم وخرجوا عن عوائدهم : وإن يأتوكم أسارى في أيدي نفوسهم وعوائدهم، أو في طلب الدنيا وشهواتها، تفدوهم من أسرهم، وتفكوهم من قيودهم، وتدخلوهم في حضرة مولاهم، وفي بعض الآثار :( طالب الدنيا أسير، وطالب الآخرة أجير، وطالب الحق أمير ) هـ. والأمير هو الذي يفك الأسارى من أيدي العدو، لأجل ما ملكه الله من القوة والاستعداد، فإذا انفك العبد من هواه، دخل في حضرة مولاه، فمن رام إخراجه منها بعد دخوله يقال له : وهو محرم عليكم إخراجهم، فكيف تؤمنون بظاهر الشريعة وتنكرون علم الطريقة، وأنوار الحقيقة ؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا وهو الحرص والطمع، والخوف والجزع وطول الأمل، وعدم النهوض إلى العمل، ﴿ ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ﴾، وهو غم الحجاب وسوء الحساب، ﴿ وما الله بغافل عما يعملون ﴾.

ثم بين الحق تعالى وصفهم وذكر ما أعد لهم، فقال :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ أُوْلَئِكَ ﴾ الناقصون للعهود المتعدون الحدود ﴿ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ وزخارفها الغرارة ﴿ بالآخِرَةِ ﴾ الباقية الدائمة، ﴿ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ﴾ ساعة الدنيا بالذل والهوان، وفي الآخرة بدخول النيران، ﴿ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ بالامتناع منه في كل أوان.
الإشارة : أولئك الذين نظروا إلى غرة ظاهرة الأكوان، ولم ينفذوا إلى عبرة باطنها، فلا ينقطع عنهم عذاب الوهم والحجاب، ولا هم ينصرون من أليم العذاب.
ثم وبخهم الحق تعالى على تكذيب الرسل وقتلهم إياهم، فقال :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴾
قلت :﴿ قفينا ﴾ : أتبعنا، و﴿ عيسى ﴾ عجمي معدول عن أيشوع في لغة السريانية، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة، و﴿ مريم ﴾ : بمعنى الخادم، ووزنه : مَفْعَل لا فعيل، و﴿ أيدناه ﴾ أي : قويناه ونصرناه، و﴿ روح القدس ﴾ هنا جبريل عليه السلام أي : الروح المقدسة - من إضافة الموصوف إلى الصفة، سمي به لطهارته من كدر الحس.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ﴾ التوراة، فما قمتم بحقها ولا عملتم بما فيها، واتبعنا بعده الرسل كلما مات رسول بعثنا بعده آخر اعتناء بكم، ﴿ وَآتَيْنَا عيِسَى ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ المعجزات الواضحات كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار بالمغيبات، والإنجيل، ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ ﴾ بجبريل عليه السلام كان يسير معه حيث سار، ورفعه إلى السماء حين أردتم يا معشر اليهود قتله، ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أنفُسُكُمُ ﴾ من مشاق الطاعات وترك الحظوظ والشهوات، ﴿ اسْتَكْبَرْتُمْ ﴾ وامتنعتم من الإيمان به ﴿ فَفَرِيقاً ﴾ منهم كذبتموه كعيسى وسليمان ومحمد - عليهم السلام -، ﴿ وَفَرِيقاً ﴾ تقتلونه كزكريا ويحيى - عليهما السلام - ؟ قال القشيري : أصْغَوْا إلى الداعين بسمع الهوى، فصار معبودهم صفاتهم وهواهم. ه.
الإشارة : كل ما قاله الحق جلّ جلاله لبني إسرائيل في فحوى الخطاب يقوله لهذه الأمة في سرّ الخطاب، فلقد آتانا الكتاب، وبيَّن فيه الرشد والصواب، وقفَّى بعد إنزاله بعلماء أتقياء، وأولياء أصفياء، يحكمون بحكمه، ويهدون بهديه، فإذا أمروا بالزهد في الدنيا وترك الحظوظ والهوى رفضوهم وكذبوهم، وربما كفَّروهم وقتلوهم، واستكبروا عن الأذعان لهم والانقياد لقولهم، ففريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون.
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم :" لَتَتَّبِعُنّ سُنَنَ مَنح قَبلكمُ شِبراً بشِبرٍ وذَراعاً بذراعٍ، حتى لَو دَخلُوا جُحْرَ لدَخَلْتُموه "، فقالوا : مَن يا رسول الله اليهودُ والنصارى ؟ قالَ :" نعم. . . ومَنْ إذن١ ؟ " أي : ومَن تتبعون إلا هم. فالدعاة إلى الله لا ينقطعون ما دام الدين قائماً، فقوم يدعون إلى أحكام الله، وقوم يدعون إلى معرفة الله، فالأول : العلماء، والثاني : الأولياء، فإذا أمروا بالخروج عن العوائد والشهوات، رموهم بسهام العتاب والمخالفات، إذ لم يأت أحد بمثل ما جاءوا به إلا عودي، إلا من خصته سابق العناية، وهبت عليه ريح الهداية، فيتبع آثارهم، وقليلٌ ما هم.
١ أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب ٥٠، ومسلم في العلم حديث ٦..
ثم ذكر الحق تعالى مقالتهم الشنيعة، فقال :﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴾
قلت :﴿ غُلف ﴾ : جمع أغلف، كأحمر وحُمْر، وأصفر وصُفْر، وهو الذي عليه غشاوة، أي : هي في غلاف ؛ فلا تفقه ما تقول، بمنزلة الأغلف، وهو غير المختون، وقيل : أصله ﴿ غُلُف ﴾ بضم اللام، وبه قرأ ابن محيصن. فيكون جمع غلاف، كحجاب وحجب، وكتاب وكتب، ومعناه، قلوبنا أوعية لكل علم فلا نحتاج إلى علمك وكتابك. و﴿ قليلاً ﴾ صفة لمحذوف ؛ أي : فإيماناً قليلاً، أو عدداً قليلاً يؤمنون، أو ظرف ؛ لأنه من صفة الأحيان، والعامل فيه ما يليه، و﴿ ما ﴾ لتأكيد القلة، أي : في قليل من الأحيان يؤمنون، أو حال من الواو في ﴿ يؤمنون ﴾ أي : فيؤمنون في حال قلتهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : قالت اليهود استهزاء بما تدعوهم إليه :﴿ قُلُوبُنَا ﴾ مغلفة ومغشاة فلا نفقه ما تقول، أو أوعية للعلوم فلا تحتاج إلى علمك، قال الله تعالى :﴿ بل ﴾ لا غطاء على قلوبهم حساً، بل هي على الفطرة لكن ﴿ لعنهم الله ﴾ وطردهم وخذلهم بسبب ﴿ كُفْرِهِمْ ﴾ فأبطل استعدادها للعلم، ﴿ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴾ أي : فإيماناً قليلاً يؤمنون كإيمانهم ببعض الكتاب، أو فلا يؤمن إلا قليل منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا أمر الدعاة إلى الله أهل الدنيا بذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس، ليتأهلوا به لدخول حضرة القدوس، أو أمروهم بخرق العوائد، لتخرق لهم العوائد١، أنفوا وعنفوا وقالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، فيقال لهم : بل سبق لكم من الله البعد والحرمان، فأنكرتم أسباب الشهود والعيان، لكن مَن سبقت له من الله العناية، وهبَّ عليه نسيم الهداية، فلا تضره الجناية، فقد يلتحق بالخصوص، وإن كان من أعظم اللصوص، وهو قليل بالنسبة إلى من جاهد نفسه في طلب السبيل، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً ﴾ [ الكهف : ٤٥ ].
١ خرق العوائد الأولى هي خرق الحجب، من غفلة وظلمة قلب، وغير ذلك، وقد يعني بها الكرامات، وخرق العوائد الثانية هي خرق ما تعودته النفس وألفته حتى صعب خروجها عنه، ككثرة الأكل والشرب، وحب الجاه والرئاسة والمدح..
ثم وبخهم ولعنهم على عدم الإيمان بالقرآن مع إقرارهم به قبل الإتيان، فقال :﴿ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾
قلت :﴿ لمَّا ﴾ حرف وجود لوجود إذا وليها الماضي، ولها شرط وجواب، وهو هنا محذوف دلّ عليه جواب ﴿ لما ﴾ الثانية، أي : ولما جاءهم كتاب من عند الله كفروا به، أو ﴿ لما ﴾ الثانية تأكيد للأولى. والجواب :﴿ كفروا به ﴾، أو فلما وجوابها جواب الأولى، كقوله :﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ. . . ﴾ [ طه : ١٢٣ ] الآية، و﴿ يستفتحون ﴾ ينتصرون، وفي الحديث :" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَستَفْتِحُ بِصعَالِيكِ المُهَاجِرينَ "، الذين لا مال لهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ ﴾ أي : اليهود، القرآن مصدقاً ﴿ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ من التوراة، أي : موافقاً له وشاهداً له بالصحة، وقد كانوا قبل ظهوره يستنصرون على أعدائهم بالنبيّ الذي جاء به، فيقولون : اللهم انصرنا عليهم بالنبيّ المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد نعته في التوراة، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين :( قد أظلَّ زمانُ نبيّ يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قتل عاد وإرَم )، فلما ظهر وعرفوه كفروا به ﴿ فَلَعْنَةُ الله ﴾ عليهم، فوضع الظاهر موضع المضمر ؛ للدلالة على أنهم لُعنوا لكفرهم، فاللام في ﴿ الْكَافِرِينَ ﴾ للعهد، وهم كفار اليهود، أو للجنس، فتكون اللعنة عامة لكل كافر، ويدخلون فيها دخولاً أوليّاً، والله تعالى أعلم.
الإشارة : ترى كثيراً من الناس إذا ذكر لهم الأولياء المتقدمون أقروهم وصدقوهم، وإذا ذكر لهم أولياء أهل زمانهم أنكروهم وجحدوهم، مع كونهم يستنصرون بأهل زمانهم في الجملة. فهذه نزعة يهودية، آمنوا ببعض وكفروا ببعض.
والناس في إثبات الخصوصية ونفيها على ثلاثة أقسام : قسم أثبتوها للمتقدمين، ونفوها عن المتأخرين، وهم أقبح العوام، وقسم أقروها قديماً وحديثاً، وقالوا : إنهم أخفياء في زمانهم، فحرمهم الله بركتهم، وقوم أقروا الخصوصية في أهل زمانهم، وعرفوهم وظفروا بهم وعظموهم، وهم السعداء الذين أراد الله أن يوصلهم إليه ويقربهم إلى حضرته. وفي الحكم :" سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه ". وبالله التوفيق.
ثم أشار الحق تعالى إلى تسفيه رأي اليهود حيث استبدلوا الإيمان بالكفر، والربح بالخسران، فقال :﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ * ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾
قلت : بئس ونعم : فعلان جامدان مختصان بالدخول على ما يدل على العموم، إما نكرة، فتنصب على التمييز المفسر للضمير الفاعل، أو معروف بأل الجنسية، فيرتفع على الفاعلية، تقول : بئس رجلاً زيدٌ، وبئس الرجل زيد، ويذكر بعد ذلك المخصوص : إما خبر عن مبتدأ مضمر، أو مبتدأ والخبر مقدم. وإنما اخْتُصَّتَا بالدخول على ما يدل على العموم ؛ لأن ﴿ نعم ﴾ مستوفية لجميع المدح، و﴿ بئس ﴾ مستوفية لجميع الذم. فإذا قلت : نعم الرجل زيد، فكأنك قلت : استحق زيدٌ المدحَ الذي يكون في سائر جنسه، وكذلك تقول في بئس.
و﴿ ما ﴾ المتصلة ببئس ونعم : نكرة منصوبة على التمييز، أي : بئس شيئاً اشتروا به أنفسهم، وهو كفرهم، أو معرفة تامة مرفوعة على الفاعل، أي : بئس الشيء شيء اشتروا به أنفسهم. و﴿ اشتروا ﴾ هنا بمعنى باعوا، كشَروا على خلاف الأصل، وقد يمكن أن يبقى على أصله، على ما يأتي في بيان المعنى.
و﴿ بغيا ﴾ مفعول من أجله ليكفروا.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في شأن اليهود : بئس شيئاً باعوا به حظ أنفسهم، وهو كفرهم بما أنزل الله، أو ﴿ بئسما اشتروا به أنفسهم ﴾ بحسب ظنهم، فإنهم ظنوا أنهم خلّصوا أنفسهم من العذاب بما فعلوا، وهو كفرهم بما أنزل الله على محمد نبيه صلى الله عليه وسلم بغياً وحسداً أن يكون النبيّ من غيرهم، فانقلبوا ﴿ بِغَضَبِ عَلَى غَضَبٍ ﴾ للكفر والحسد لمن هو أفضل الخلق، أو لكفرهم بمحمد - عليه الصلاة والسلام - بعد عيسى عليه السلام، أو لتضييعهم التوراة، وكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ أي : يذلهم ويخزيهم في الدنيا والآخرة، بخلاف عذاب العاصي فإنه كفارة لذنوبه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن قاعدة تفسير أهل الإشارة هي أن كل عتاب توجه لمن ترك طريق الإيمان، وأنكر على أهله يتوجه مثله لمن ترك طريق مقام الإحسان، وأنكر على أهله. وكل وعيد توعد به أهل الكفران يتوعد به مَن ترك السلوك لمقام الإحسان، غير أن عذاب أهل الكفر حسي بدني، وعذاب أهل الحجاب معنوي قلبي.
فنقول فيمن رضي بعيبه وأقام على مرض قلبه وأنكر الأطباء ووجود أهل التربية : بئسما اشتروا به أنفسهم، وهو كفرهم بما أنزل الله من الخصوصية على قلوب أوليائه بغياً وحسداً، أو جهلاً وسوء ظن، أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، فباؤوا بغضب الحجاب على غضب البعد والارتياب، أو بغضب سقم القلوب على غضب الإصرار على المساوئ والعيوب. ( من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر ) كما قال الشاذلي رضي الله عنه، ولا يصح التغلغل فيه إلا بصحبة أهله. وللكافرين بالخصوصية عذاب الطمع وسجن الأكوان، وهما شجرة الذل والهوان.
وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله من أسرار الحقيقة وأنوار الطريقة، قالوا : نؤمن بما أنزل علينا من ظواهر الشريعة، ويكفرون بما وراءه من أسرار الحقيقة، ككشف أسرار الذات وأنوار الصفات، وهو - أي : علم الحقيقة - الحق ؛ لأنه خالص لب الشريعة، ولله در صاحب المباحث الأصلية حيث قال :
هل ظاهِرُ الشرع وعلمُ الباطِنْ إلا كجِسمٍ فيه رُوحٌ سَاكِنْ ؟

وقال أيضاً :
ما مَثلُ المعقولِ والمنقولِ إلا كَدُرِّ زاخرٍ مَجْهُولِ
حتى إذا أخْرَجَهُ الغِوَّاصُ لم يكُ لِلدُرِّ إذن خَلاصُ
وإنما خَلاصُهُ في الكَشْفِ عن الغِطَاءِ حيثُ لا يسْتَخْفِي
فَالصّدَفُ الظاهرُ ثم الدرُّ مَعْقولُه والجهلُ ذاك البحْرُ
وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول :( هل ثَمَّ شيءٌ غيرُ ما فهمناه من الكتاب والسنة ؟ )، كان يقول ذلك إذا قيل له : إن الشيخ الشاذلي فاض اليوم بعلوم وأسرار، فلما التقى بالشيخ وأخذ بيده، قال :( أي والله... ما قعد على قواعد الشريعة التي لا تنهدم إلا الصوفية ). ويقال لمن ادعى التمسك بالشريعة وأنكر ما وراءها : فلم تشتغل بجمع الدنيا واحتكارها وتخاف من الفقر، وتهتم بأمر الرزق وتجزع من المصائب، والشريعة تنادي عليك بذم ذلك كله إن كنت مؤمناً ؟ ! ! وبالله التوفيق.

و﴿ يكفرون ﴾ حال من الفاعل في ﴿ قالوا ﴾، و﴿ وراء ﴾ في الأصل : مصدر جُعل ظرفاً، ويضاف إلى الفاعل ويراد به ما يتوارى به وهو خلفه، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو قدامه، ولذلك عد من الأضداد، قاله البيضاوي.
﴿ وَإِذَا قِيلَ ﴾ لهؤلاء اليهود :﴿ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ﴾ على محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا ﴾ من التوراة، وهم ﴿ يَكْفُرُونَ بِمَا ورَاءَهُ ﴾ أي : بما سواه، وهو القرآن، حال كونه ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ من التوراة ومهيمناً عليه. ﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد :﴿ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْل ﴾ هذا الزمان، وهو محرم عليكم في التوراة، ﴿ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ﴾ به ؟ فهذا يبطل دعواكم الإيمان بالتوراة ؛ إذ الإيمان بالكتاب يقتضي العمل به، وإلاَّ كان دعوى، وإن فعله أسلافكم فأنتم راضون به وعازمون عليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن قاعدة تفسير أهل الإشارة هي أن كل عتاب توجه لمن ترك طريق الإيمان، وأنكر على أهله يتوجه مثله لمن ترك طريق مقام الإحسان، وأنكر على أهله. وكل وعيد توعد به أهل الكفران يتوعد به مَن ترك السلوك لمقام الإحسان، غير أن عذاب أهل الكفر حسي بدني، وعذاب أهل الحجاب معنوي قلبي.
فنقول فيمن رضي بعيبه وأقام على مرض قلبه وأنكر الأطباء ووجود أهل التربية : بئسما اشتروا به أنفسهم، وهو كفرهم بما أنزل الله من الخصوصية على قلوب أوليائه بغياً وحسداً، أو جهلاً وسوء ظن، أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، فباؤوا بغضب الحجاب على غضب البعد والارتياب، أو بغضب سقم القلوب على غضب الإصرار على المساوئ والعيوب. ( من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر ) كما قال الشاذلي رضي الله عنه، ولا يصح التغلغل فيه إلا بصحبة أهله. وللكافرين بالخصوصية عذاب الطمع وسجن الأكوان، وهما شجرة الذل والهوان.
وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله من أسرار الحقيقة وأنوار الطريقة، قالوا : نؤمن بما أنزل علينا من ظواهر الشريعة، ويكفرون بما وراءه من أسرار الحقيقة، ككشف أسرار الذات وأنوار الصفات، وهو - أي : علم الحقيقة - الحق ؛ لأنه خالص لب الشريعة، ولله در صاحب المباحث الأصلية حيث قال :
هل ظاهِرُ الشرع وعلمُ الباطِنْ إلا كجِسمٍ فيه رُوحٌ سَاكِنْ ؟

وقال أيضاً :
ما مَثلُ المعقولِ والمنقولِ إلا كَدُرِّ زاخرٍ مَجْهُولِ
حتى إذا أخْرَجَهُ الغِوَّاصُ لم يكُ لِلدُرِّ إذن خَلاصُ
وإنما خَلاصُهُ في الكَشْفِ عن الغِطَاءِ حيثُ لا يسْتَخْفِي
فَالصّدَفُ الظاهرُ ثم الدرُّ مَعْقولُه والجهلُ ذاك البحْرُ
وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول :( هل ثَمَّ شيءٌ غيرُ ما فهمناه من الكتاب والسنة ؟ )، كان يقول ذلك إذا قيل له : إن الشيخ الشاذلي فاض اليوم بعلوم وأسرار، فلما التقى بالشيخ وأخذ بيده، قال :( أي والله... ما قعد على قواعد الشريعة التي لا تنهدم إلا الصوفية ). ويقال لمن ادعى التمسك بالشريعة وأنكر ما وراءها : فلم تشتغل بجمع الدنيا واحتكارها وتخاف من الفقر، وتهتم بأمر الرزق وتجزع من المصائب، والشريعة تنادي عليك بذم ذلك كله إن كنت مؤمناً ؟ ! ! وبالله التوفيق.

ثم نعى عليهم عبادة العجل بعد ما رأوا من الآيات البينات، إبطالا لدعواهم الإيمان بالتوراة، فقال :﴿ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾
قلت : جملة :﴿ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ حال من ﴿ اتخذتم ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى ﴾ بالمعجزات الواضحات : كالعصا واليد وفلق البحر، ثم لم ينجح ذلك فيكم، فاتخذتم العجل إلهاً تعبدونه من بعد ذهابه إلى الطور ﴿ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ في ذلك، فأين دعواكم الإيمان بالتوراة ؟
الإشارة : ويقال لمن أقام على عيبه، ورضي بمرض قلبه، حتى لقي الله بقلب سقيم : لقد جاءتكم أوليائي بالآيات الواضحات، ولو لم يكن إلا شفاء المرضى على أيديهم - أعني مرضى القلوب - لكان كافياً، ثم اتخذتم الهوى إلهكم، وعبدتم العاجلة بقلوبكم، وعزَّتْ عليكم نفوسكم وفلوسكم، وأنتم ظالمون في الإقامة على مساوئكم وعيوبكم، مع وجود الطبيب لمن طلب الشفاء، وحسّن الظن وشهد الصفاء. ( كن طالباً تجد مرشداً ) وبالله التوفيق.
ثم عدد الحق تعالى عليهم مساوئ تقدمت لأسلافهم تبطل دعوى إيمانهم، فقال :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾
قلت :﴿ إن كنتم ﴾ : شرط حذف جوابه، أي : إن كنتم مؤمنين فبئس ما يأمركم به إيمانكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكروا أيضاً ﴿ إذ أخذنا ميثاقكم ﴾ أن تعملوا بالتوراة فأبيتم ﴿ ورفعنا فوقكم ﴾ جبل ﴿ الطور ﴾ وقلنا :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾ واجتهاد ﴿ واسمعوا ﴾ ما أقول لكم فيه ﴿ قالوا ﴾ بلسان حالهم :﴿ سمعنا ﴾ قولك ﴿ وعصينا ﴾ أمرك، حيث لم يمتثلوا، أو بلسان المقال لسوء أدبهم، ﴿ وأُشربوا في قلوبهم ﴾ حب ﴿ العجل ﴾ حتى صبغ فيها ورسخ رسوخ الصبغ في الثوب، لأنهم كانوا مُجَسِّمَةً، ولم يروا منظراً أعجب من العجل الذي صنعه السامري، ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد :﴿ بئسما يأمركما به إيمانكم ﴾ بالتوراة الذي ادعيتموه، ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾، لكن الإيمان لا يأمر بهذا فلستم مؤمنين.
الإشارة : يقول الحقّ جلّ جلاله لمن ادعى كمال الإيمان، وهو منكر على أهل الإحسان، مع إقامته على عوائد نفسه، وكونه محجوباً بشهود حسه : وإذا أخذنا ميثاقكم، بأن تجاهدوا نفوسكم، وتخرقوا عوائدكم لتدخلوا حضرة ربكم، ورفعنا فوق رؤوسكم سيوف التخويف، أو جبال التشويق، وأوضحنا لكم سواء الطريق، وقلنا لكم : خذوا ما آتيناكم من خرق العوائد، واكتساب الفوائد، بجد واجتهاد، فأبيتم وعزَّت عليكم نُفوسكم، وقلتم بلسان حالكم : سمعنا وعصينا، وأشربت قلوبكم حب العاجلة، وآثرتم الدنيا على الآخرة، بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين.
ومن جملة ما ادعاه اليهود اختصاصهم بالجنة، فرد الله عليهم بقوله :﴿ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ * ﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ﴾
قلت :﴿ خالصة ﴾ خبر كان، و﴿ عند ﴾ متعلق بكان على الأصح.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ يا محمد لبني إسرائيل الذين ادعوا أن الجنة خاصة بهم :﴿ إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله ﴾ أي : في غيبه،
﴿ خالصة ﴾ لكم ﴿ من دون ﴾ سائر ﴿ الناس ﴾، أو من دون المسلمين، ﴿ فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ﴾ في اختصاصكم بهم، فإن العبد إذا تحقق أنه صائر إليها اشتاق إلى الموت الذي يوصل إليها، كما قال عمار رضي الله عنه عند موته :
الآنَ ألاقِي الأحِبَّهْ مُحَمَّداً وحِزْبَه
وقال حذيفة رضي الله عنه حين احتضر :( جَاءَ حَبِيبٌ عَلَى فَاقَة، لاَ أَفْلَحَ مَنْ نَدِم ).
أي : على التمني، أو على الدنيا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في هذه الآية ميزان صحيح توزن به الأعمال والأحوال ويتميز به المدعون من الأبطال، فكل عمل يهدمه الموت فهو مدخول، وكل حال يهزمه الموت فهو معلول، وكل من فرّ من الموت، فهو في دعواه المحبة كذاب، فمن ادعى الخصوصية على الناس يختبر بهذه الآية.
والناس في حب البقاء في الدنيا على أربعة أقسام :
رجل أحب البقاء في الدنيا لاغتنام لَذَّاته ونيل شهواته، قد طرح أخراه، وأكبَّ على دنياه، واتخذ إلهه هواه، فأصمه ذلك وأعماه، إن ذُكر له الموت فرّ عنه وشرد، وإن وعِظَ أنِف وعَنَدَ، عمره ينقص، وحرصه يزيد، وجسمه يبلى، وأمله جديد، وحتفه قريب، ومطلبه بعيد، فهذا إن لم تكن له عناية أزلية، وسابقة أولية فيمسك عليه الإيمان، ويختم له بالإسلام، وإلا فقد هلك.
ورجل قد أزيل عن عينه قذاها، وأبصر نفسه وهواها، وزجرها ونهاها، قد شمر ليتلافى ما فات، ونظر فيما هو آت، وتأهب لحلول الممات، والانتقال إلى محلة الأموات، ومع هذا فإنه يكره الموت أن يشاهد وقائعه، أو يرى طلائعه، وليس يكره الموت لذاته، ولا لأنه هَادِمْ لَذَّاتِهِ، لكنه يخاف أن يقطعه عن الاستعداد ليوم المعاد، ويكره أن تطوى صحيفةِ عَمَلِهِ قبل بلوغ أمله، وأن يبادر بأجله قبل صلاح خلله، فهو يريد البقاء في هذه الدار لقضاء هذه الأوطار، فهذا ما أفضل حياته : وأطيب مماته ! لا يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللّهِ كره اللّهُ لِقَاءَه " ١.
ورجل آخر قد عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وشهد ما شهد من كمال الربوبية، وجمال حضرة الألوهية، فملأت عينه وقلبه، وأطاشت عقله ولبّه، فهو يحن إلى ذلك المشهد، ويستعجل إنجاز ذلك الموعد، قد علم أن الحياة الدنيوية حجابٌ بينه وبين محبوبة، وسترٌ مُسدل بينه وبين مطلوبه، فهذا من المحبين العشاق، قد حنّ إلى الوصال والتلاق، أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، فما أحسن حياته ولقاءه !
ورجل آخر قد شهد ما شاهد ذلك، وربما زاد على ما هنالك، لكنه فوّض الأمر إلى خالقه، وسلّم الأمر لبارئه، فلم يرض إلا ما رضي له، ولم يرد إلا ما أريد به، وما اختار إلا ما حكم به فيه، إن أبقاه في هذه الدار أبقاه، وإن أخذه فهو بغيته ومناه، فهذا من العارفين المقربين. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. آمين.

قال تعالى :﴿ ولن يتمنوه أبداً ﴾ بسبب ﴿ ما قدمت أيديهم ﴾ من الكفر والعصيان، فما تمناه أحد منهم قط، قال ابن عباس :( لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم في النار ). وقال في الأحياء :( دعا - عليه الصلاة والسلام - اليهود إلى تمني الموت، وأخبرهم بأنهم لا يتمنونه، فحيل بينهم وبين النطق بذلك ). وذكر غيره : أن بعضهم تمناه، فما جاءت العشاء حتى أخذته الذّبحة في حلقه فمات. ﴿ والله عليم بالظالمين ﴾، فيه تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم، ونفيه عمن هو لهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في هذه الآية ميزان صحيح توزن به الأعمال والأحوال ويتميز به المدعون من الأبطال، فكل عمل يهدمه الموت فهو مدخول، وكل حال يهزمه الموت فهو معلول، وكل من فرّ من الموت، فهو في دعواه المحبة كذاب، فمن ادعى الخصوصية على الناس يختبر بهذه الآية.
والناس في حب البقاء في الدنيا على أربعة أقسام :
رجل أحب البقاء في الدنيا لاغتنام لَذَّاته ونيل شهواته، قد طرح أخراه، وأكبَّ على دنياه، واتخذ إلهه هواه، فأصمه ذلك وأعماه، إن ذُكر له الموت فرّ عنه وشرد، وإن وعِظَ أنِف وعَنَدَ، عمره ينقص، وحرصه يزيد، وجسمه يبلى، وأمله جديد، وحتفه قريب، ومطلبه بعيد، فهذا إن لم تكن له عناية أزلية، وسابقة أولية فيمسك عليه الإيمان، ويختم له بالإسلام، وإلا فقد هلك.
ورجل قد أزيل عن عينه قذاها، وأبصر نفسه وهواها، وزجرها ونهاها، قد شمر ليتلافى ما فات، ونظر فيما هو آت، وتأهب لحلول الممات، والانتقال إلى محلة الأموات، ومع هذا فإنه يكره الموت أن يشاهد وقائعه، أو يرى طلائعه، وليس يكره الموت لذاته، ولا لأنه هَادِمْ لَذَّاتِهِ، لكنه يخاف أن يقطعه عن الاستعداد ليوم المعاد، ويكره أن تطوى صحيفةِ عَمَلِهِ قبل بلوغ أمله، وأن يبادر بأجله قبل صلاح خلله، فهو يريد البقاء في هذه الدار لقضاء هذه الأوطار، فهذا ما أفضل حياته : وأطيب مماته ! لا يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللّهِ كره اللّهُ لِقَاءَه " ١.
ورجل آخر قد عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وشهد ما شهد من كمال الربوبية، وجمال حضرة الألوهية، فملأت عينه وقلبه، وأطاشت عقله ولبّه، فهو يحن إلى ذلك المشهد، ويستعجل إنجاز ذلك الموعد، قد علم أن الحياة الدنيوية حجابٌ بينه وبين محبوبة، وسترٌ مُسدل بينه وبين مطلوبه، فهذا من المحبين العشاق، قد حنّ إلى الوصال والتلاق، أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، فما أحسن حياته ولقاءه !
ورجل آخر قد شهد ما شاهد ذلك، وربما زاد على ما هنالك، لكنه فوّض الأمر إلى خالقه، وسلّم الأمر لبارئه، فلم يرض إلا ما رضي له، ولم يرد إلا ما أريد به، وما اختار إلا ما حكم به فيه، إن أبقاه في هذه الدار أبقاه، وإن أخذه فهو بغيته ومناه، فهذا من العارفين المقربين. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. آمين.

ثم ذكر الحق تعالى ما يبطل دعواهم، أن الجنة خالصة لهم ؛ وهو حرصهم على البقاء في هذه الدار، فقال :﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾
قلت :﴿ ومن الذين أشركوا ﴾ : على حذف مضاف، أي : وأحرص من الذين أشركوا، فيوقف عليه، و﴿ لو يعمر ﴾ مصدرية، أي : يود أحدهم تعمير ألف سنة. و﴿ أن يعمر ﴾ فاعل لمزحزحه، أي : وما هو بمزحزحه من العذاب تعميره.
يقول الحقّ جلَ جلاله : ولتجدن يا محمد اليهود ﴿ أحرص الناس ﴾ على البقاء في هذه الدار الدنية، فكيف يزعمون أنهم أولى الناس بالجنة، ولتجدنهم أيضاً أحرص من المشركين على البقاء، مع كونهم لا يقرون بالجزاء، فدلَّ ذلك على أنهم صائرون إلى النار، فلذلك كرهوا اللقاء وحرصوا على البقاء، يتمنى أحدهم لو يعيش ﴿ ألف سنة ﴾ وليس ذلك ﴿ بمزحزحه ﴾ أي : مبعده من العذاب، بل زيادة له في العقاب ﴿ والله بصير بما يعملون ﴾ : تهديد وتخويف.
الإشارة : يفهم من سر الخطاب أن كل من قصر أمله، وحسن عمله، وطيب نفسه للقاء الحبيب، واشتغل في هذه اللحظة القصيرة بما يقربه من القريب، كان قربه من الله بقدر محبته للقائه، وكل من طوّل أمله، وحرص على البقاء في هذه الدار الفانية، كان بُعده من الله بقدر محبته للبقاء، إلا من أحب البقاء لزيادة الأعمال، أو الترقي في المقامات والأحوال، فلا بأس به، ويفهم منه أيضاً أن مَن اشتد حرصه على الحياة الفانية كانت فيه نزعة يهودية.
واعلم أن الناس، في طول الأمل وقصره، على قسمين : منهم من طوّل في أمله فازداد في كسله، ودخله الوهن في عمله، وآخر قد قصر أملُه وجعل التقوى بضاعته، والعبادة صناعته، ولم يتجاوز بأمله ساعته، ومثل هذا قد رفع التوفيق عليه لواءه، وألبسه رداءه، وأعطاه جماله وبهاءه، فانظر رحمك الله أيّ الرجلين تريد أن تكون، وأي العملين تريد أن تعمل، وبأي الرداءين أن تشتمل ؟ فلست تلبس هناك إلا ما تلبس هنا. وبالله التوفيق.
ومن أشنع كفر بني إسرائيل وأقبح مساوئهم، بغضهم لجبريل عليه السلام وإلى ذلك أشار الحق تعالى بقوله :﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴾
قلت :﴿ من ﴾ شرطية وجوابها محذوف، أي : فليمت غيظاً، أو ﴿ فإنه نزله ﴾ على معنى : مَن عادى منهم جبريل فقد خلع ريقة الإنصاف، أو كفر بما معه من الكتاب ؛ لأنه نزل بكتاب مصدقاً لما قبله من الكتب، وجبريل فيه ثماني لغات، أربع قرئ بهن. وهي : جَبْرَئِيل كسلسبيل. وجَبْرَئِل كجحْمرش، وجَبْريل - بفتح الجيم - بلا همز، وجِبْرِيل بكسرها، وأربع شواذ : جِبْرَالُ، وجَبْرَائِيل، وجَبْرِائل، وجَبْرين بالنون، ومعناه : عبد الله. وفي ميكائيل أربع لغات : ميكائيل ممدود، وميكائل مقصور، وميكئل مهموز مقصور، وميكال على وزن ميعاد.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في الرد على اليهود، كابن صُوريا وغيره، حيث قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : من الذي يأتيك بالوحي ؟ فقال : جبريل، فقالوا : ذلك عدونا من الملائكة ؛ لأنه ينزل بالشدة والعذاب، ولو كان ميكائيل لاتبعناك ؛ لأنه ينزل بالخصب والسلم، فقال تعالى :﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْريلَ ﴾ فليمت غيظاً، فإنه هو الذي نزَّل القرآن ﴿ عَلَى قَلْبِكَ بإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ من الكتب، وهداية ﴿ وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾، فإن كان ينزل بالشدة والعذاب على الكافرين، فإنه ينزل بالهداية والبشارة على المؤمنين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا كانت معاداة الملائكة والرسل هي معاداة الله، فكذلك معاداةُ أوليائه هي معاداة الله أيضاً، ولذلك قال تعالى :" مَنْ عَادَى لِي وَليّاً فقد آذنني بالحَرْب ". فالبعض هو الكل، ويؤخذ بالمفهوم أن محبة الملائكة والرسل هي محبة الله. وكذلك محبة أولياء الله هي محبة الله، وكذلك أيضاً محبة عباد الله هي محبة الله، ومعاداتهم معاداة الله. " الخَلقُ عِيَالُ الله، وأحبُّ الخَلقِ إلى اللّهِ أنفعهُمْ لِعيَاله ". وكل مَن ادعى أنه يحب الله وفي قلبه عداوة لمسلم فهو كاذب، وكل مَن ادعى أنه يعرف الله وفي قلبه إنكار على مخلوق فهو في دعواه أيضاً كاذب، فالواجب على العبد أن يُحب جميع العباد، من كان طائعاً فظاهر. ومَن كان عاصياً أحب له التوبة والإنابة، ومَن كان كافراً أحب له الإسلام والهداية، ولا يكره من العبد إلا فعله، ولله دَر القائل :
ارْحَمْ بُنَيَّ جَميعَ الخلقِ كُلِّهمُ وانْظُرْ إليْهمْ بعين الحِلمِ والشّفَقَهْ
وَقَّرْ كَبيرَهُم وارْحَمْ صغِيرَهُمْ وَراع في كُلّ خَلْقٍ مَنْ خَلَقَهْ
وبالله التوفيق.

ومن كان عدواً لجبريل فإنه عدو لله، إذ هو رسوله للأنبياء، وصفيه من الملائكة، وعدو أيضاً لميكائيل فإنه وزيره، وللرسل أيضاً فإنه سفيرهم، و﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً للّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ فإن الله عدو له. وعطف جبريل وميكائيل من عطف الخاص على العام لزيادة شرفهما، ووضع الظاهر موضع الضمير في قوله :﴿ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرينَ ﴾ ولم يقل : لهم، تسجيلاً عليهم بالكفر، وبيان أن الله إنما عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة والرسل كفر، عصمنا الله من موارد الردى، آمين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا كانت معاداة الملائكة والرسل هي معاداة الله، فكذلك معاداةُ أوليائه هي معاداة الله أيضاً، ولذلك قال تعالى :" مَنْ عَادَى لِي وَليّاً فقد آذنني بالحَرْب ". فالبعض هو الكل، ويؤخذ بالمفهوم أن محبة الملائكة والرسل هي محبة الله. وكذلك محبة أولياء الله هي محبة الله، وكذلك أيضاً محبة عباد الله هي محبة الله، ومعاداتهم معاداة الله. " الخَلقُ عِيَالُ الله، وأحبُّ الخَلقِ إلى اللّهِ أنفعهُمْ لِعيَاله ". وكل مَن ادعى أنه يحب الله وفي قلبه عداوة لمسلم فهو كاذب، وكل مَن ادعى أنه يعرف الله وفي قلبه إنكار على مخلوق فهو في دعواه أيضاً كاذب، فالواجب على العبد أن يُحب جميع العباد، من كان طائعاً فظاهر. ومَن كان عاصياً أحب له التوبة والإنابة، ومَن كان كافراً أحب له الإسلام والهداية، ولا يكره من العبد إلا فعله، ولله دَر القائل :
ارْحَمْ بُنَيَّ جَميعَ الخلقِ كُلِّهمُ وانْظُرْ إليْهمْ بعين الحِلمِ والشّفَقَهْ
وَقَّرْ كَبيرَهُم وارْحَمْ صغِيرَهُمْ وَراع في كُلّ خَلْقٍ مَنْ خَلَقَهْ
وبالله التوفيق.

ولما قال ابن صوريا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد ما جئت بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينه فنتبعك لها ؛ فنزل قوله تعالى :
﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَاسِقُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ﴾ يا محمد ﴿ آيَاتٍ ﴾ واضحات، مشتملة على علوم غيبية، وأخبار نبوية، وشرائع محكمة، وأنوار قدسية، وأسرار جبروتية، وما يجحدها ويكفر بها إلا المتمرد في الكفر والطغيان، الخارج عن الطاعة والإيمان، فالفسق، إذا استعمل في نوع من المعاصي، دلّ على أعظمه وأقبحه، وهو هنا الكفر، والعياذ بالله.
الإشارة : اعلم أن العبد إذا سبقت لهم من الله العناية، ألقى الله في قلبه التصديق والهداية، من غير أن يحتاج إلى علامة ولا آية، بل يكشف له الحق تعالى عن سر الخصوصية وأنوارها، فيشهد سره لصاحبها بالتقويم، وتخضع له روحه بالتعظيم، فتبدوا له أنوار الإيمان وتشرق عليه شموس العرفان، من غير توقف على دليل ولا برهان، بخلاف من سبق له الحرمان، فلا ينجح فيه دليل ولا برهان، والعياذ بالله من الخذلان.
ولما ذَكّر النبيّ صلى الله عليه وسلم اليهود في شأن العهد الذي أخذه الله عليهم فيه، قال مالك بن الصيف : والله ما عهد إلينا في محمد عهدٌ ولا ميثاق، نزل :﴿ أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾
قلت : الهمزة للإنكار، والواو للعطف على محذوف تقديره : أَكفروا بالآيات وكلما عاهدوا عهداً، و﴿ كُلَّمَا ﴾ منصوب على الظرفية، وهي متضمنة معنى الشرط فتفتقر للجواب، وهو العامل فيها. والنبذ : الطرح، لكنه يغلب فيما ينسى، قاله البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في شأن اليهود والإنكار عليهم :﴿ أَوَ كُلَّمَا ﴾ أعطوا عهداً وعقدوه على أنفسهم طرحه ﴿ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ ﴾ ؟ فقد أعطوا العهد أنهم إن أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ولينصرنه، فلما أدركوه نبذوا ذلك العهد ونسوه. وكذلك أعطوا العهد للنبيَ صلى الله عليه وسلم ألا يعاونوا المشركين عليه، فنبذه بنو قريظة والنضير، ولم ينقضه جميعهم بل فريق منهم، وهم الأكثر، ولذلك قال :﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ﴾، فالأكثر هم الناقضون للعهود، المجاوزون للحدود. والله تعالى أعلم.
الإشارة : نقض العهد مع الله أو مع عباده من علامة النفاق، ومن شيم أهل البعاد والشقاق، والوفاء بالعهد من علامة الإيمان، ومن شيم أهل المحبة والعرفان. قال تعالى في صفة المفلحين :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٨ ]، ولاسيما عهود الشيوخ ؛ أهل التمكين والرسوخ، فمن أخذ عقد الصحبة مع الشيخ الذي هو أهل للتربية ؛ فيحذر مِنْ حَلّ العقدة بينه وبينه، فإنَّ ذلك يقطع الإمداد، ويوجب الطرد والبعاد، والالتفات إلى غيره تسويس لبذرة الإرادة، وموجب لقطع الزيادة والإفادة، ثم إن الانجماع على الشيخ، وقطع النظر والالتفات إلى غيره هو سبب للكون - كذلك - مع الله، فبقدر الانقطاع إلى الشيخ يحصل الانقطاع إلى الله، وبقدر ترك الاختيار وسلب الإرادة مع الشيخ يحصل كذلك مع الله، وبقدر الوفاء بعهود شيوخ التربية يحصل الوفاء بعهود حقوق الربوبية. فمن كانت غيبته في الشيخ أقوى، وانحياشه إليه أكثر، وجمعه عليه أدوم، كان كذلك مع ربه، وكذلك التعظيم والأدب، والله يعامل العبد على حسب ذلك.
قال الشيخ زَرُّوق رضي الله عنه :( ولا تنتقلْ عنه، ولو رأيت من هو أعلى منه، فتحرمَ بركة الأول والثاني )، ولذلك كان المشايخ يمنعون أصحابهم من صحبة غيرهم، بل من زيارتهم، وأنشدوا :
خُذْ مَا تَراهُ ودَعْ شَيْئاً سَمِعتَ بِهِ في طلْعَةِ البدرِ ما يُغنيكَ عن زُحَلِ
وحاصل أمر الزيارة لغير شيخه أن فيه تفصيلاً : فمن كَمُل صدقه، وتوفر عقله، بحيث إذا زار لا يستنقص شيخه، ولا الذي زاره، جاز له أن يزور من شاء، ومن لم يكمل صِدقُهُ وعقله، بحيث إذا زار : إما يستنقص شيخه، أو الشيخ الذي زاره، فليكف عن زيارة غير شيخه. وقال محيي الدين بن العربي : ويجب على المريد أن يعتقد في شيخه أنه عالم بالله، ناصح لخلق الله، ولا ينبغي له أن يعتقد في شيخه العصمة. وقد قيل للجنيد : أيزني العارف ؟ فقال :﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً ﴾ [ الأحزَاب : ٣٨ ]. وصحب تلميذ شيخاً، فرآه يوماً قد زنا بامرأة، فلم يتغير من خدمته، ولا أخلّ في شيء من مرسومات شيخه، ولا ظهر منه نقص في احترامه. وقد عرف الشيخ أنه رآه، فقال له يوماً : يا بني قد عَرَفْتُ أنك رأيتني حين فسقتُ بتلك المرأة، وكنت أنتظر فراقك عني من أجل ذلك : فقال له التلميذ : يا سيدي الإنسان معرض لمجاري أقدار الله عليه، وإني من الوقت الذي دخلت فيه إلى خدمتك ما خدمتك على أنك معصوم، وإنما خدمتك على أنك عارف بطريق الله تعالى، عارف بكيفية السلوك عليه الذي هو طلبي، وكونك تعصي أو لا تعصي شيء بينك وبين الله عزّ وجلّ، لا يرجع من ذلك شيء عَلَيَّ، فما وقع منك يا سيدي شيء لا يوجب نفاري وزوالي عنك، وهذا هو عَقْدي، فقال له الشيخ : وفقت وسعدت هكذا وإلا فلا. . . فربح ذلك التلميذ، وجاء منه ما تَقَرُّ بِهِ العين من حسن الحال وعُلوِّ المقام. ه.
ولما وسمهم الحق تعالى بنقض العهود، ذكر جزئية من ذلك، فقال :﴿ وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ ﴾ يعني اليهود ﴿ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللّهِ ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ من التوراة بموافقته له في بعض الأخبار ﴿ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتابَ ﴾، وهم من كفر من أحبار يهود، ﴿ كِتَابَ اللّهِ ﴾ : التوراة، ﴿ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ﴾، حيث لم يعملوا بما فيه من الأمر بالإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيروا صفته التي فيه، وكتموها، فكأنهم طرحوه وراء ظهورهم، وكأنهم لا علم لهم بشيء من ذلك.
قال البيضاوي : اعلم أن الحق تعالى دل على أن حال اليهود أربع فرق : فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب، وهم الأقلون المدلول عليهم بقوله :﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ البَقَرة : ١٠٠ ]، وفرقة جاهروا بنبذ عهودها، وتخطي حدودها، تمرداً وفسوقاً، وهم المعنيون بقوله تعالى :﴿ نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ﴾ [ البَقَرَة : ١٠٠ ]، وفرقة لم يجاهروا بنبذها، ولكن نبذوا لجهلهم بها، وهم الأكثرون، وفرقة تمسكوا بها ظاهراً، ونبذوها خفية، عالمين بالحال بَغْياً وعناداً، وهم المتجاهلون. ه. قلت : ولعلهم المنافقون منهم.
ولما نبذوا كتاب الله اشتغلوا بكتب السحر مكانه، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله :﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾
قلت :﴿ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ على حذف مضاف، أي : على عهد ملك سليمان، أو ﴿ عَلَى ﴾ بمعنى ﴿ في ﴾، وقوله :﴿ وَمَا أُنزِل ﴾ عطفٌ على السحر، عَطْفَ تفسير، والفتنة في الأصل : الاختبار، تقول : فتنت الذهب والفضة إذا أدخلتهما النار لتعلم جودتهما من رداءتهما.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في شأن اليهود : ولما جاءهم كتاب من عند الله نبذوه ﴿ وَاتَّبَعُوا ﴾ ما تقرأ ﴿ الشَّيَاطِينُ ﴾ على الناس من السحر ﴿ عَلَى ﴾ عهد ﴿ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب، ويلقونها إلى الكهنة، وهم يدونونها ويعلمونها الناس، وفَشَا ذلك في عهد سليمان حتى قيل : إن الجن يعلم الغيب، وإن ملك سليمان إنما قام بهذا، وأنه به سخر الجن والإنس والريح، فجمع سليمان ما دُوِّن منه ودفنه، فاستخرجته الشياطين بعد موته، فردَّ الله تعالى قولهم بقوله :﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ﴾ باستعمال السحر ؛ لأنه تعظيم غير الله بالتقرب للشيطان، والنبيّ معصوم ﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ ﴾ هم الذين ﴿ كَفَرُوا ﴾ باستعماله ﴿ يُعلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ إغواء وإضلالاً، ويعلمون ﴿ مَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَينِ ﴾ في بلد بابل من سواد الكوفة، وهما ﴿ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾.
كانا ملكين من أعبد الملائكة، ولما رأت الملائكة ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام عيروهم بذلك، وقالوا : يا ربنا هؤلاء الذين جعلتهم خليفة في الأرض يعصونك ؟ فقال الله تعالى : لو أنزلتكم إلى الأرض، وركَّبْتُ فيكم ما ركبت ُ فيهم لارتكبتم ما ارتكبوا، قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك. فقال الله تعالى : فاختاروا ملكين من خِياركم أُهبطهما إلى الأرض. فاختاروا هاروت وماروت، وكانا من أعبد الملائكة، فركّب الله تعالى فيهما الشهوة، وأمرهما أن يحكما في الأرض بين الناس بالحق، ونهاهما في الشرك والقتل بغير الحق، والزنا وشرب الخمر، فكانا يقضيان بين الناس يومهما، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء، فاختصمت إليهما ذات يوم امرأة يقال لها الزهرة : وكانت من أجمل النساء من أهل فارس، فأخذت بقلبيهما، فراوداها عن نفسها، فأبت ثم عاودت في اليوم الثاني، ففعلا مثل ذلك فأبت، وقالت : إلا أن تعبدا ما أعبد، وتصليا لهذا الصنم، وتقتلا النفس وتشربا الخمر، فأبيا هذه الأشياء، وقالا : إن الله نهانا عنها، فانصرفت، ثم عادت في اليوم الثالث، فراوداها، فعرضت عليهما ما قالت بالأمس، فقالا : الصلاة لغير الله ذنب عظيم، وأهونُ الثلاث شرب الخمر، فشربا، وانتشيا، ووقعا بالمرأة، فلما فرغا رآهما إنسان فخاف أن يظهر عليهما فقتلاه.
وفي رواية عن سيّدنا عليّ - كرّم الله وجهه - أنه قال :( قالت لهما : لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء، فقالا : باسم الله الأعظم، فعلماها ذلك، فتكلمت به، وصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكباً ). ولذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا رأى سهيلا قال :" لعن الله سهيلا ؛ كان عشارا باليمن، ولعن الله الزهرة، وقال : إنها فتنت ملكين ".
قلت : قصة هاروت وماروت ذكرها المنذري في شرب الخمر، وقال في حديثها : رواه أحمد وابن حبان في صحيحه من طريق زهير بن محمد، وقد قيل : إن الصحيح وقفه على كعب. ه. وقال ابن حجر : قصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن، خلافا لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه.
وتمام قصتهما : أنهما لما قارفا الذنب وجاء المساء هما بالصعود، فلم تطاوعهما أجنحتهما، فعلما ما حل بهما، فقصدوا إدريس عليه السلام، فأخبراه، وسألاه الشفاعة إلى الله تعالى فشفع فيهما، فخيرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختار عذاب الدنيا لانقطاعه، فهما يعذبان في بئر ببابل، منكسان معلقان بالسلاسل من أرجلهما، مزرقة أعينهما، ليس بينهما وبين الماء إلا قدر أربعة أصابع، وهما يعذبان بالعطش. ه.
فإن قلت : الملائكة معصومون فكيف يصح هذا من هاروت وماروت ؟ قلنا : لما ركب الله فيهما الشهوة انسلخا من حكم الملكية إلى حكم البشرية ابتلاء من الله تعالى لهما، فلم يبق لهما حكم الملائكة من العصمة.
﴿ وما يعلمان من أحد ﴾ السحر حتى ينصحاه ويقولا :﴿ إنما نحن فتنة ﴾ لكم، واختبار من الله تعالى لعباده، ليظهر من يصبر عنه ومن لا يصبر، وكان تعلمه في ذلك الوقت كفرا. فيقولان له :﴿ فلا تكفر ﴾ بتعلمه، فكانوا يتعلمون ﴿ منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ﴾ وبقدرته، فلا تأثير لشيء إلا بإذن الله، ويتعلمون منهما ﴿ ما يضرهم ﴾ يوم القيامة ﴿ ولا ينفعهم ﴾، ولقد علم بنو إسرائيل أن من اشتراه واستبدله بكتاب الله والعلم بما فيه﴿ ما له في الآخرة من ﴾ نصيب، ﴿ ولبئس ﴾ ما باعوا به حظ أنفسهم من النعيم ﴿ لو كانوا يعلمون ﴾، ولكن لما لم يعملوا بعلمهم كانوا كمن لا علم عنده.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من أكب على دنياه وتتبع حظوظه وهواه، وترك العمل بما جاء من عند الله، يصدق على أنه نبذ كتاب الله، واشتغل بما سواه من حب الدنيا والرئاسة والجاه، فالدنيا سحارة غرارة، تسحر القلوب وتغيبها عن حضرة علام الغيوب وفي الحديث :" اتقوا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت "، ولا شك أنها تفرق بين الأحباب وبين العشائر والأصحاب، ولقد علم من أخذ الدنيا ونعيمها، وأكب عليها ما له في الآخرة من نصيب، فبقدر ما يأخذ من نعيم الدنيا وشهواتها ينقص له من نعيم الآخرة.
ولبئس ما شروا به أنفسهم - حيث آثروا الحياة الدنيا على الآخرة - لو كانوا يعلمون. ولو أنهم آمنوا بالله، واتقوا كل ما يشغل عن الله لكانوا من أولياء الله، وتلك المثوبة - التي صاروا إليها - خير لو كان يعلمون.
قال عبد الواحد بن زيد : سمعت أن جارية مجنونة في خراب الأُبُلَّةِ تنطق بالحِكَم، فطلبتها حتى وجدتها، وهي محلوقة الرأس، وعليها جبة صوف، فلما رأتني قالت : مَرحباً بك يا عبد الواحد، ثم قالت : يا عبد الواحد ما جاء بك ؟ فقلت : تعظينني، فقالت : واعجباً لواعظ، يوعظ، يا عبد الواحد... اعلم أن العبد إذا كان في كفاية، ومال إلى شيء من الدنيا، سلبه الله حلاوة الزهد، وظل حيراناً وَلِهاً، فإن كان له عند الله نصيب عاتبه وَحْياً في سره، فيقول له : عبدي أردت رفع قدرك عند ملائكتي، وأجعلك دليلاً لأوليائي، ومرشداً لأهل طاعتي، فملت إلى عرض الدنيا وتركتني، فأورثك ذلك الوحشة بعد الأنس، والذل بعد العز، والفقر بعد الغنى، ارْجَعْ إلى ما كنت عليه أُرجع إليك ما كنت تعرفه من نفسك. ثم انصرفت عني وتركتني وبقيت حسرتها في قلبي. هـ.

وقوله :﴿ لَمَثُوبَةٌ ﴾ جواب ﴿ لَّوْ ﴾، والأصل : لأثِيبوا، ثم عَدَلَ إلى الجملة الاسمية لتدل على الثبوت.
﴿ ولو أنهم آمنوا ﴾ بالله ورسوله ﴿ واتقوا ﴾ الكفر والسحر، لأثيبوا ثوابا كبيرا، وكان ذلك خيرا لهم مما استوجبوه من العقاب ﴿ لو كانوا يعلمون ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من أكب على دنياه وتتبع حظوظه وهواه، وترك العمل بما جاء من عند الله، يصدق على أنه نبذ كتاب الله، واشتغل بما سواه من حب الدنيا والرئاسة والجاه، فالدنيا سحارة غرارة، تسحر القلوب وتغيبها عن حضرة علام الغيوب وفي الحديث :" اتقوا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت "، ولا شك أنها تفرق بين الأحباب وبين العشائر والأصحاب، ولقد علم من أخذ الدنيا ونعيمها، وأكب عليها ما له في الآخرة من نصيب، فبقدر ما يأخذ من نعيم الدنيا وشهواتها ينقص له من نعيم الآخرة.
ولبئس ما شروا به أنفسهم - حيث آثروا الحياة الدنيا على الآخرة - لو كانوا يعلمون. ولو أنهم آمنوا بالله، واتقوا كل ما يشغل عن الله لكانوا من أولياء الله، وتلك المثوبة - التي صاروا إليها - خير لو كان يعلمون.
قال عبد الواحد بن زيد : سمعت أن جارية مجنونة في خراب الأُبُلَّةِ تنطق بالحِكَم، فطلبتها حتى وجدتها، وهي محلوقة الرأس، وعليها جبة صوف، فلما رأتني قالت : مَرحباً بك يا عبد الواحد، ثم قالت : يا عبد الواحد ما جاء بك ؟ فقلت : تعظينني، فقالت : واعجباً لواعظ، يوعظ، يا عبد الواحد... اعلم أن العبد إذا كان في كفاية، ومال إلى شيء من الدنيا، سلبه الله حلاوة الزهد، وظل حيراناً وَلِهاً، فإن كان له عند الله نصيب عاتبه وَحْياً في سره، فيقول له : عبدي أردت رفع قدرك عند ملائكتي، وأجعلك دليلاً لأوليائي، ومرشداً لأهل طاعتي، فملت إلى عرض الدنيا وتركتني، فأورثك ذلك الوحشة بعد الأنس، والذل بعد العز، والفقر بعد الغنى، ارْجَعْ إلى ما كنت عليه أُرجع إليك ما كنت تعرفه من نفسك. ثم انصرفت عني وتركتني وبقيت حسرتها في قلبي. هـ.

ولما كان المسلمون يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم : راعنا يا رسول الله وأرْعِنا سَمْعَكَ، يَعْنُون من المراعاة والانتظار، وهي عند اليهود سب من الرعونة، ففرحت اليهود، وقالوا : كنا نسب محمداً سرّاً، فأعلنوا له بالشتم، فكانوا يقولون : يا محمد راعنا ويضحكون، نهى الله تعالى المسلمين عن هذه اللفظة، فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ﴾
قلت : يقال راعى الشيء يراعيه مراعاة : انتظره أو التفت إليه. ويقال : رعى إلى الشيء، وراعاه وأرعاه : إذا أصغى إليه واستمعه.
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ﴾ للرسول صلى الله عليه وسلم :﴿ راعنا ﴾ أي : انتظرنا أو أمهل علينا لأن في ذلك ذريعة لسب اليهود، أو قلة أدب، وقولوا :﴿ انظرنا ﴾ أي : انتظرنا ﴿ وللكافرين ﴾ المؤذين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ عذاب أليم ﴾ أي : موجع.
الإشارة : حسن الخطاب من تمام الآداب، وتمام الآداب هو السبب الموصل إلى عين الصواب، فمن لا أدب له لا تربية له، ومن لا تربية له لا سير له، ومن لا سير له لا وصول له، فمن لا يتربى على أيدي الرجال لا يربى الرجال، وقد قالوا : من أساء الأدب مع الأحباب طرد إلى الباب، ومن أساء الأدب في الباب طرد إلى سياسة الدواب. وقالوا أيضا : اجعل عملك ملحا، وأدبك دقيقا. وقال آخر : إن الإنسان ليبلغ بالخلق وحسن الأدب إلى عظيم الدرجات وهو قليل العمل، ومن حرم الأدب حرم الخير كله، ومن أعطي الأدب فقد مكن من مفاتيح القلوب.
قال أبو عثمان رضي الله عنه : الأدب عند الأكابر وفي مجالس السادات من الأولياء يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا والخير في الدنيا والعقبى. وقال أبو حفص الحداد رضي الله عنه : التصوف كله آداب، لكل وقت أدب، ولكل حال أدب، ولكل مقام أدب، فمن لازم الأدب بلغ مبلغ الرجال، ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب، مردود من حيث يرجو الوصول. وقال ذو النون المصري رضي الله عنه :( إذا خرج المريد عن استعمال الأدب فإنه يرجع من حيث جاء ). وقيل : من لم يتأدب لوقت فوقته مقت. وقيل : من حبسه النسب أطلقه الأدب، ومن قل أدبه كثر شغبه. وقيل : الأدب سند الفقراء، وزينة الأغنياء. ه. وبالله التوفيق.
ومن مساوئ اليهود أيضا الحسد والغل، وإليه أشاء الحق تعالى بقوله :﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾
قلت : الود : محبة الشيء مع تمنيه و﴿ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ بيانية كقوله :﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾، و﴿ أَن يُنَزَّلَ ﴾ معمول يود، و﴿ مِّنْ خَيْرٍ ﴾ صلة، و﴿ مِّن رَّبكُمْ ﴾ ابتدائية.
يقول الحق جلّ جلاله : ما يتمنى ﴿ الذين كفروا من أهل الكتاب ﴾ إنزال خير عليكم ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ ولا المشركون حسداً منهم، بل يتمنون أن تبقوا على ضلالتكم وذُلِّكُمْ، ﴿ والله يختص برحمته ﴾ كالنوبة والولاية ﴿ من يشاء ﴾ من عباده. فلا يجب عليه شيء ولا يمتنع عليه ممكن، ﴿ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾، فَيَمُنُّ بالنبوة أو الولاية على مَن يشاء فضلاً وإحساناً.
الإشارة : في الآية تنبيهان : أحدهما : أن من كان يحسد أهل الخصوصية وينكر عليهم، فيه نزعة يهودية، وخصلة من خصال المشركين، والثاني : أن حسد أهل الخصوصية والإنكار عليهم أمر شائع وسنة ماضية، فليوطن المريد نفسه على ذلك : وليعلم أنه ما يقال له إلا ما قيل لمن قبله، ﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾ [ الأحزَاب : ٦٢ ]، وما من نعمة إلا وعليها حسود.
وقال حاتم الطائي١ :
ومِنْ حَسَدٍ يَجُورُ عَلَيَّ قَومي وأيُّ الدهر ذُو لَمْ يَحْسُدُوني
وبالله التوفيق.
١ البيت في ديوان حاتم الطائي ص ٢٧٦، وتخليص الشواهد ص ١٦٤، والمقاصد النحوية ١/٤٥١، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١/١٧٥، وشرح الأشموني ١/٨١..
ومن مساوئهم أيضا إنكار النسخ للأحكام، فرد الله عليهم بقوله :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ * ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾
قلت : النسخ في اللغة يطلق على معنيين ؛ أحدهما : التغيير والتحويل، يقال : مسخه الله قرداً ونسخه. قال الفراء : ومنه نسخ الكتاب، والثاني : بمعنى رفع الشيء وإبطاله. يقال : نَسَخَتِ الشمسُ الظلَّ، أي : ذهبت به وأبطلته، وهو المراد هنا.
والإنساء هو الترك والإذهاب، والنساء هو التأخر. و﴿ مَا ﴾ شريكة منصوبة بشرطها مفعولاً به. و﴿ نَأْتِ ﴾ جوابها.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في الرد على اليهود حيث قالوا : انظروا إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه، فأجاب الله عنهم بقوله :﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ﴾ أي : نزيل لفظها أو حكمها أو هما معاً، ﴿ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ﴾ في الخفة أو في الثواب، ﴿ أَوْ نُنسِهَا ﴾ من قلب النبيّ - عليه الصلاة والسلام - بإذن الله، أو نتركها غير منسوخة، أو نؤخر إنزالها أو نسخها. باعتبار القراءات، ﴿ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلَهَا أَلَمْ تَعْلَمْ ﴾ يا محمد ﴿ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قديرٌ ﴾ لا يعجزه نسخ ولا غيره.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه في تفسيرها : ما نذهب من بدل إلا ونأت بخير منه أو مثله. هـ. ومعناه : ما نذهب بولي إلا ونأت بخير منه أو مثله إلى يوم القيامة، وبهذا يُرَدّ على مَن زعم أن شيخ التربية انقطع ؛ فإن قدرة الله عامة، وملك الله قائم، والأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة حتى يأتي أمر الله.
قال في لطائف المنن : وقد سئل بعض العارفين عن أولياء المدد : أينقُضون في زمن ؟ فقال : لو نقص منهم واحد ما أرسلت السماء قطرها، ولا أبرزت الأرض نباتها، وفساد الوقت لا يكون بذهاب أعدادهم، ولا بنقص إمدادهم، ولكن إذا فسد الوقت كان مراد الله وقوع اختفائهم مع وجود بقائهم، ثم قال : وقد قال عليّ - كرّم الله وجهه - في مخاطبته لكميل : اللهم لا تخلو الأرض من قائم لك بحجتك، أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، قلوبهم معلقة بالمحل الأعلى. أولئك خلفاء الله في بلاده وعباده، واشوقاه إلى رؤيتهم.
وروى الترمذي الحكيم عن ابن عمر رضي الله عنه يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أمتي كالمَطَرِ لا يُدْرَى أَولهُ خيرٌ أم آخِرُه١ " وبالله التوفيق.

﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ ﴾ يتصرف فيهما كيف يشاء، لا راد لما قضى ولا مُعقِّب لما حكم به وأمضى، ينسخ من شرائع أحكامه ما يشاء، يثبت فيها ما شاء، بحسب مصالح العباد، وما تقضيه الرأفة والوداد.
وهو جائز عقلاً وشرعاً، فكما نسخت شريعتهم ما قبلها نسخها ما بعدها، فمن تحكم على الله، أو رد على أصفياء الله ممن اصطفاهم لرسالته، فليس له ﴿ مِّن دُونِ اللّه مِن وَلِيٍّ ﴾ يمنع من عذاب الله، ﴿ وَلا نَصِيرٍ ﴾ ينصره من غضب الله.
والنسخ إنما يكون في الأوامر والنواهي دون الأخبار، لأنه يكون كذباً، ومعنى النسخ : انتهاء العمل بذلك الحكم، ونقل العباد من حكم إلى حكم لمصلحة، فلا يلزم عليه البَدَاءُ كما قالت اليهود، والنسخ عندنا على ثلاثة أقسام : نسخ اللفظ والمعنى : كما كان يُقْرَأُ :" لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر "، ثم نُسخ، ونسخ اللفظ دون المعنى :" كالشيخ والشيخة إذا زنيا فرجموهما البتة " ثم نسخ لفظه، وبقي حكمه وهو الرجم، ونسخ المعنى دون اللفظ : كآية السيف بعد الأمر بالمهادنة مع الكفار. الله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه في تفسيرها : ما نذهب من بدل إلا ونأت بخير منه أو مثله. هـ. ومعناه : ما نذهب بولي إلا ونأت بخير منه أو مثله إلى يوم القيامة، وبهذا يُرَدّ على مَن زعم أن شيخ التربية انقطع ؛ فإن قدرة الله عامة، وملك الله قائم، والأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة حتى يأتي أمر الله.
قال في لطائف المنن : وقد سئل بعض العارفين عن أولياء المدد : أينقُضون في زمن ؟ فقال : لو نقص منهم واحد ما أرسلت السماء قطرها، ولا أبرزت الأرض نباتها، وفساد الوقت لا يكون بذهاب أعدادهم، ولا بنقص إمدادهم، ولكن إذا فسد الوقت كان مراد الله وقوع اختفائهم مع وجود بقائهم، ثم قال : وقد قال عليّ - كرّم الله وجهه - في مخاطبته لكميل : اللهم لا تخلو الأرض من قائم لك بحجتك، أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، قلوبهم معلقة بالمحل الأعلى. أولئك خلفاء الله في بلاده وعباده، واشوقاه إلى رؤيتهم.
وروى الترمذي الحكيم عن ابن عمر رضي الله عنه يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أمتي كالمَطَرِ لا يُدْرَى أَولهُ خيرٌ أم آخِرُه١ " وبالله التوفيق.

ولما سأل رافع بن حريملة اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه آية، كتفجير ماء أو غيره، قوله تعالى :﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ ﴾
قلت :﴿ أم ﴾ للإضراب بمعنى بل ؛ وهو على قسمين : إما إضراب عن المعنى السابق، أو لفظه فقط كما هنا، انظر تفسير ابن عطية، وإضافة الرسول إليهم باعتبار ما في نفس الأمر. وهو نص في إرساله إليهم كما أرسل إلى غيرهم. والضلال : التلف. و﴿ سواء السبيل ﴾ : وسط الطريق.
يقول الحقّ جلّ جلاله : أتريدون يا معشر اليهود أن تقترحوا على نبيكم الذي أرسلت إليكم، وإلى كافة الخلق من غيركم الآيات، وتسألوه أن يريكم المعجزات، كما سألتم موسى من قبل فقلتم :﴿ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [ النِّساء : ١٥٣ ] تشغيباً وتعنتاً، وأبيتم عن الإيمان، واستبدلتموه بالكفر والعصيان، ﴿ ومن يتبدل الكفر بالإيمان ﴾ فقد تلف عن طريق الحق والسداد، ومأواه جهنم وبئس المهاد.
الإشارة : لا يُشترط في الولي ظهور الكرامة، وإنما يشترط فيه كمال الاستقامة، ولا يشترط فيه أيضًا هداية الخلق على يديه ؛ إذ لم يكن ذلك للنبيّ فكيف يكون للولي ؟ قال تعالى :﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ يُونس : ٩٩ ] وقد سَرَى في طبع العوام ما سَرَى في طبع الكفار، قالوا :﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُر لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً ﴾ [ الإسرَاء : ٩٠ ] الآية. فكثير من العوام لا يقرون الولي حتى يروا له آية أو كرامة، مع أن الولي كلما رسخت قدمه في المعرفة قلَّ ظهور الكرامة على يديه ؛ لأن الكرامة إنما هي معونة وتأييد وزيادة إيقان. والجبل الراسي لا يحتاج إلى عماد.
والحق هو ما قاله الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه :( وإنهما كرامتان جامعتان محيطتان : كرامة الإيمان بمزيد الإيقان على نعت الشهود والعيان، وكرامة العمل على السنة والمتابعة، ومجانبة الدعاوى والمخادعة، فمن أُعْطِيَهُمَا ثم اشتاق إلى غيرهما فهو مفتر كذاب، أو ذو خطأ في العلم والفهم، كمن أكرم بشهود الملك على نعت الرضى والكرامة، ثم جعل يشتاق إلى سياسة الدوام وخِلَعِ الرضا ) أو كما قال رضي الله عنه.
وقال شيخنا رضي الله عنه :( الكرامة الحقيقية هي الأخلاق النبوية والعلوم اللدنية ). فمن أنكر أولياء أهل زمانه وطلب منهم الدليل غير ما تقدم فقد ضلّ سواء السبيل، وبقي مربوطاً في سجن البرهان والدليل. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما ظهر حسد اليهود واجتهادهم في الرد على الإسلام، أمر الحق تعالى المسلمين بالعفو والصفح حتى يأذن في قتالهم، فقال :﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ * ﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
قلت :﴿ لو ﴾ مصدريةٌ مفعول ﴿ وَدَّ ﴾، و﴿ كفاراً ﴾ : مفعول ثان، و﴿ حسداً ﴾ : مفعول له، علة لود، أو حال من الواو، و﴿ من عند ﴾ متعلق بود، أي : يتمنوا ذلك من عند أنفسهم وتَشهِّيهم، أو بقوله :﴿ حسداً ﴾، فالوقف على قوله :﴿ كفاراً ﴾، أي : حسداً حاصلاً من تلقاء أنفسهم، لم يستندوا فيه إلى شبهة ولا دليل، والعفو : ترك العقوبة بالذنب. والصفح : الإعراض عن المذنب، كأنه يولي عنه صفحة عنقه، فهو أبلغ من العفو.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في التحذير من اليهود وغيرهم من الكفار : تمنّى الذين كفروا من أهل الكتاب وغيرهم لو يصرفونكم عن دينكم
و﴿ يردونكم من بعد إيمانكم ﴾ بنبيكم ﴿ كفاراً ﴾ ضالين، كما كنتم قبل الدخول فيه، وذلك ﴿ حسداً من ﴾ تلقاء ﴿ أنفسهم ﴾ غيرة أن تكون النبوة في غيرهم، وذلك ﴿ من بعد ما بين لهم الحق ﴾ وعرفوه كما يعرفون أبناءهم، ﴿ فاعفوا ﴾ عن عتابهم، وأعرضوا عن تشغيبهم ﴿ حتى يأتي الله بأمره ﴾ فيهم بالقتل والجلاء. ﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من جملة مَا دَبَّ إلى بعض الطوائف المتجمدين على تقليد أشياخهم : التعصب والحمية على طريق أشياخهم، ولو ظهر الحق عند غيرهم، وخصوصاً أولاد الصالحين منهم، فإذا رأوا أحداً ظهرت عليه أنوار الولاية، وأسرار الخصوصية، تمنَّوْا أن يردوهم عن طريق الحق، ويصرفوهم إلى مخالطة الخلق، حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، فيقال لمن توجه إلى الحق : فاعفوا واصفحوا حتى يظهر الحق، ولا تلتفتوا إلى تشغيبهم، ولا تشتغلوا قط بعيبهم فتكونوا أقبح منهم.
قال بعض العارفين :( لا تشتغل قط بمن يؤذيك واشتغل بالله يرده عنك، وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير، اشتغلوا بمن يؤذيهم فطال الأذى مع الإثم. ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم ). بل ينبغي لمن يُحْسَدُ أو يُؤْذَى أن يغيب عن الحاسد وكيده، ويشتغل بما هو مكلف به من حقوق العبودية وشهود عظمة الربوبية، فإن الله لا يضيع من التجأ إليه، ولا يخيب مقصود من اعتمد عليه. وبالله التوفيق.

واشتغلوا بما كلفكم به من أداء حقوق العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، كإتقان الصلاة وأداة الزكاة، واعلموا أن الله لا يضيع من أعمالكم شيئاً، فما تقدموا لأنفسكم ليوم فقركم تجدوه عند الله وأعظم أجراً، إن الله لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأحوالكم.
نزلت الآية في عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، أتيا بيت المِدْرَاس١، فألانوا لهم الكلام، فطمعوا في صرفهما عن دينهما، ففضحهم الله ورد كيدهم في نحرهم، والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من جملة مَا دَبَّ إلى بعض الطوائف المتجمدين على تقليد أشياخهم : التعصب والحمية على طريق أشياخهم، ولو ظهر الحق عند غيرهم، وخصوصاً أولاد الصالحين منهم، فإذا رأوا أحداً ظهرت عليه أنوار الولاية، وأسرار الخصوصية، تمنَّوْا أن يردوهم عن طريق الحق، ويصرفوهم إلى مخالطة الخلق، حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، فيقال لمن توجه إلى الحق : فاعفوا واصفحوا حتى يظهر الحق، ولا تلتفتوا إلى تشغيبهم، ولا تشتغلوا قط بعيبهم فتكونوا أقبح منهم.
قال بعض العارفين :( لا تشتغل قط بمن يؤذيك واشتغل بالله يرده عنك، وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير، اشتغلوا بمن يؤذيهم فطال الأذى مع الإثم. ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم ). بل ينبغي لمن يُحْسَدُ أو يُؤْذَى أن يغيب عن الحاسد وكيده، ويشتغل بما هو مكلف به من حقوق العبودية وشهود عظمة الربوبية، فإن الله لا يضيع من التجأ إليه، ولا يخيب مقصود من اعتمد عليه. وبالله التوفيق.


١ بيت المدارس: بتقديم الراء على الألف: البيت الذي يدرسون فيه..
ومن جملة أماني اليهود الفارغة : ادعاء اختصاصهم بالجنة، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ * ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
قلت :﴿ وقالوا ﴾ عطف على ﴿ ود الذين كفروا ﴾، والضمير يعود على أهل الكتاب واليهود والنصارى، أي : وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا مَن كان نصارى، و﴿ هود ﴾ : جمع هائد، كبازل وبُزْل وحائل وحُول، و﴿ الأماني ﴾ : جمع أمينة، وهي ما يتمنى المرء ويشتهيه، وأصله أمْنُوية كأضْحُوكَة وأعجوبة، فقلبت الواو ياء وأدغمت، و﴿ هاتوا ﴾ : اسم فعل بمعنى الأمر، ومعناه آتٍ، وأهمل ماضيه ومضارعه.
يقول الحقّ جلّ جلاله : وقالت اليهود :﴿ لن يدخل الجنة ﴾ إلا مَن كان يهوديّاً، أي : على دينهم، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا مَن كان نصرانيّاً، وهذه دعاوى باطلة، وأماني فارغة ليس عليها بينة، بل مجرد أمانيهم الكاذبة، ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد :﴿ هاتوا برهانكم ﴾ أنكم مختصون بالجنة ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في هذه الأمنية بل يدخلها غيركم من أهل الإسلام والإحسان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من جملة ما دخل على بعض الفقراء أنهم يَخُصون الخصوصية بهم وبمن تبع شيخهم، وينفونها عن غيرهم، وهذه نزعة يهودية، وتحكم على القدرة الإلهية فيقال لهم : تلك أمانيكم الفارعة، بل ينالها غيركم، فمن قصد الله صادقاً وجده، وأنجز بالوفاء موعده، فمن خضع لله وانقاد لأولياء الله، فله أجره عند ربه، وهو المعرفة به، ولا خوف عليه من القطيعة، ولا يحزن على فوات نصيبه من المعرفة. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
و﴿ أسلم ﴾ معناه : استسلم وخضع، والخوف مما يتوقع، والحزن على ما وَقع.
فإن ﴿ من أسلم وجهه لله ﴾ أي : انقاد بكليته إليه ﴿ وهو محسن ﴾ في أفعاله واعتقاده، ﴿ فله أجره عند ربه ﴾ وهو دخول النعيم والنظر إلى وجهه الكريم، ﴿ ولا خوف عليهم ﴾ من مكروه يُتوقع ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ على فوات شيء يحتاجون إليه ؛ لأنهم في ضيافة الكريم تُساق إليهم المسار وتدفع عنه المضار، وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من جملة ما دخل على بعض الفقراء أنهم يَخُصون الخصوصية بهم وبمن تبع شيخهم، وينفونها عن غيرهم، وهذه نزعة يهودية، وتحكم على القدرة الإلهية فيقال لهم : تلك أمانيكم الفارعة، بل ينالها غيركم، فمن قصد الله صادقاً وجده، وأنجز بالوفاء موعده، فمن خضع لله وانقاد لأولياء الله، فله أجره عند ربه، وهو المعرفة به، ولا خوف عليه من القطيعة، ولا يحزن على فوات نصيبه من المعرفة. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما قدم نصارى نجران على النبي صلى الله عليه وسلم سمعت بهم اليهود، فجاءوا إليهم، وتناظروا حتى تسابوا، وكفر اليهود بعيسى وبملته والإنجيل، وكفر النصارى بموسى وبالتوراة، فأنزل الله في شأنهم :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : إخباراً عن مقالات اليهود والنصارى وتقبيحاً لصنيعهم :﴿ وقالت اليهود ﴾ في الرد على النصارى :﴿ ليست النصارى على شيء ﴾ يعتد به، ﴿ وقالت النصارى ﴾ في سَبِّ اليهود، ﴿ ليست اليهود على شيء ﴾ يعتمد عليه، والحالة أنهم ﴿ يتلون الكتاب ﴾، فاليهود يتلون التوراة وفيها البشارة بعيسى عليه السلام، والنصارى يتلون الإنجيل، وفيه تقرير شريعة التوراة وصحة نبوة موسى عليه السلام، فقد كفرت كلُّ فرقة بكتابها غضباً وتعصباً، ومثل مقالتهم هذه ﴿ قال الذين لا يعلمون ﴾ وهم المشركون، فقالوا : ليس المسلمون على شيء، ﴿ فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ فيُدْخل أهلَ الحِقّ الجنةَ وأهلَ الباطل النار، وبالله التوفيق.
الإشارة : كل ما قصه الحق تعالى علينا من مساوئ غيرنا فالمقصود به التنفير والتحذير من مثل ما ارتكبوه، والتخلق بضد ما فعلوه، فكل من تراه ينقص الناس ويصغرُهم فهو أصغرهم، وكل من تراه يقول : أصحاب سيدي فلان ليسوا على شيء، وأصحاب سيدي فلان ليس عندهم شيء، فليس هو على شيء، وقد ابتلي بعض المتصوفة بهذا الوصف الذميم، ينصب الميزان على الناس، فيسقط ثوماً ويرفع آخرين، وهو يتلو كتاب الله، ويسمع قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً. . . ﴾ [ الحُجرَات : ١٢ ] الآية.
وأكثر ما تجد هذا الوصف في بعض الفقهاء المتجمدين على ظاهر الشريعة، يعتقد ألا علم فوق علمه، ولا فهم فوق فهمه، كيف ؟ والله تعالى يقول :﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإسرَاء : ٨٥ ]، ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يُوسُفِ : ٧٦ ]، وقد قال إمام الحرمين :( لأنْ أُدْخلَ ألْفَ كَافرٍ في الإسْلامِ بِشُبْهَةٍ خَيْرٌ مِنْ إِخراجِ واحدٍ منْه بشُبْهة ).
فالواجب على مَن أراد السلامة أن يُحسن الظن بجميع المسلمين، ويعتقد فيهم أنهم كلهم صالحون، ففي الحديث :" خَصْلَتَان لَيْسَ فوقَهُما شَيءٌ منَ الخير : حُسْنُ الظن بالله، وحُسْنُ الظن بِعباد الله، وخَصْلَتَان لَيْسَ فوقَهما شيءٌ مِن الشرِّ : سُوءُ الظنّ بِالله، وسُوءُ الظنِّ بِعِبادِ اللّه١ ". وبالله التوفيق.
١ أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦/٢٩٣..
ثم وبّخ الحق - تعالى - النصارى على منع الناس من بيت المقدس وإيذاء مَن يصلي فيه، وطرح الأقذاء فيه، مع زعمهم أنهم على الحق دون غيرهم، قاله ابن عباس، أو كفار قريش حيث منعوا المسلمين من الصلاة فيه، وصدوا رسول الله عن الوصول إليه، قاله ابن زيد، والتحقيق : أن الحق تعالى وبخ الجميع، فقال :
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾
قلت :﴿ مَن ﴾ مبتدأ، و﴿ أظلم ﴾ خبر، و﴿ أن يذكر ﴾ إما منصوب على إسقاط الخافض وتسلط الفعل عليه، أي : من أن يذكر، أو بدل اشتمال من ﴿ مساجد ﴾، أو مجرور بالحروف المحذوف، قاله سيبويه. و﴿ خائفين ﴾ حال من الواو.
يقول الحقّ جلّ جلاله : لا أحَد أكثرُ جُرْماً ولا أعظم ظلماً ﴿ ممن ﴾ يمنع ﴿ مساجد الله ﴾ من ﴿ أن يذكر ﴾ اسم الله فيها، جماعة أو فرادى، في صلاة أو غيرها، ﴿ وسعى في خرابها ﴾ حيث عطل عمارتها، ﴿ أولئك ما كان ﴾ ينبغي ﴿ لهم أن يدخلوها ﴾ إلا بخشية وخشوع، فكيف يجترئون على تخريبها ؟ أو ما كان الواجب أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً عن أن يمنعوهم منها، أو ﴿ ما كان لهم ﴾ في علم الله وقضائه ﴿ أن يدخلوها إلا خائفين ﴾، فيكون وعداً أنجزه الله لهم، وقد فتح الله لهم مكة والشام، فكان لا يدخل بيت الله الحرام كافر إلا خفية، خائفاً من القتل، ولا يدخل نصراني بيت المقدس إلا خائفاً من المسلمين، فنالهم ﴿ في الدنيا خزي ﴾ وهو قتل الحربي، وضرب الجزية على الذمي، وخزي المشركين قتلهم يوم الفتح، وإذلالهم بدخولها عليهم عنوة، ولمن مات على الكفر ﴿ في الآخرة عذاب عظيم ﴾.
وهذه الآية - وإن نزلت في الكفار - فهي عامة لكل من يمنع الناس من الذكر في المساجد، كيفما كان قياماً أو قعوداً، جماعة أو فرادى، والله تعالى أعلم.
الإشارة : مساجدُ الله هي حضرة القلوب وحضر الأرواح وحضرة الأسرار، فحضرة القلوب لأهل المراقبة من أهل الإيمان، وحضرة الأرواح والأسرار لأهل المشاهدة والمكالمة من أهل الإحسان، فمن منع نفسه من الدخول في هذه الحضرات الثلاث، وسعى في خراب باطنه باتباع الحظوظ والشهوات، ومال إلى الدنيا وزخارفها الغرارات، فلا أحد أظلم منه نفساً، ولا أبخس منه صفقةً. فلا ينجعُ في هؤلاء إلا خوف مزعج أو شوق مقلق. فإن لم يكن أحد من هذين بقي على غيّه حتى مخايل الموت. فيحن إلى الدخول فيها خائفاً، ولا ينفع حينئذٍ الندم، وقد زلت به القدم، له في الدنيا ذلك الفقر والجزع، وله في الآخرة غم الحجاب وسوء الحساب وحسرة العتاب، نسأل الله العافية في الدارين. آمين. بمنه وكرمه.
وقال القشيري : نفْسُ العابدِ وَطَنُ العبادة، وقلب العارف وطن المعرفة، وروح الواجد وطن المحبة، وسر الموحِّد وطن المشاهدة، ولا أظلم ممن سعى في خراب وطن العابد بالشهوات، وفي وطن المعرفة بالمُنى والعلاقات، وفي وطن المحبة بالحطوط والمساكنات، وفي وطن الموحد بالالتفات إلى القربات. ه. وبالله التوفيق.
ولما ذكر الحق تعالى تعطيل بعض المساجد والمنع من الصلاة فيها، وسع على عباده في الصلاة حيث شاءوا، فقال :﴿ وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾.
قلت :﴿ أينما ﴾ شرطية، و﴿ تولوا ﴾ شَرْطُها، وجملة ﴿ فثم ﴾ جوابها، و( وَلْي ) يستعمل بمعنى أدبر وبمعنى أقبل، تقول : وليت عن كذا أو كذا، والوجه هنا بمعنى الجهة، تقول : سافرت في وجه كذا، أي في جهة كذا. قاله ابن عطية.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولله المشرق والمغرب ﴾، والجهات كلها له، لا يختص ملكه بمكان دون آخر، فإذا مُنعتم من الصلاة في المساجد ففي أي مكان كنتم ووليتم وجهكم إلى القبلة التي أمرتم بالتوجه إليها فثم جهته التي أمر بها، أو فثم ذاته المقدسة، أي : عالم مطلع على ما يفعل فيه، ﴿ إن الله واسع ﴾ بإحاطته بالأشياء، أو برحمته يريد التوسعة على عباده ﴿ عليم ﴾ بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلها.
وعن ابن عمر : أنها نزلت في صلاة المسار على الراحلة حيثما توجهت به، وقيل : في قوم عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم، وعلى هذا : لو أخطأ المجتهد ثم تبين له الخطأ، لم يلزمه التدارك. قاله البيضاوي.
الإشارة : اعلم أن الأماكن والجهات، وكل ما ظهر من الكائنات، قائمة بأنوار الصفات، ممحوة بأحدية الذات، " كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان " ؛ إذ لا وجود لشيء مع الله، ﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾، محق الآثار بأفلاك الأنوار، وانمحت الأنوار بأحدية الأسرار، وانفرد بالوجود الواحد القهار، ولله درّ القائل :
مُذْ عرَفتُ الإلهَ لم أرَ غيراً وكذا الغيرُ عِنْدنَا مَمْنُوعُ
مُذْ تجمعتُ ما خَشِيتُ افتِرقاً فأنا اليومَ واصلٌ مجمُوعُ
وقال آخر :
فالكلُّ دونَ إنْ حَققتَهُ عَدم على التفصيلِ والإجمالِ
مَن لاَ وجُودَ لذاتهِ مِنْ ذاتِهِ فوجُودُهُ لولاهُ عينُ مُحَالِ
وقال صاحب العينية :
تَجلَّى حبيبي في مَرَائي جَمَالِهِ ففي كلِّ مرئي للحبيبِ طلائعُ
فلما تَبدَّى حُسْنه مُتَنوعاً تَسمَّى بأسْماءٍ فهُنَّ مَطالِعُ
وقال الششتري :
مَحْبوبي قدْ عَمَّ الوجودْ وقدْ ظهرَ في بيضٍ وسُودْ
قال بعض السلف :( دخلت ديراً جاء وقت الصلاة، فقلت لبعض النصارى : دُلني على بقعة طاهرة أصلي فيها، فقال لي : طهر قلبك عما سواه، وقف حيث شئت، قال : فخَجِلت منه ). ويحكى عن أبي يزيد رضي الله عنه أنه كان يصلي إلى جهة شاء، ويتلو هذه الآية، فالوجه عند أهل التحقيق هو عين الذات، يعني أسرار الذات وأنوار الصفات. قال تعالى :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾ أي : كل شيء فانٍ ومستهلك في الحال والاستقبال إلا ذاته المقدسة، وأنشدوا :
فالعارِفُون فَنَوْا بأَن لَمْ يَشْهَدُوا شيئاً سِوَى المتكبر المتَعالِي
ورَأوْا سواهُ على الحقيقةِ هالكاً في الحالِ والماضِي والاستقْبالِ
وقلت في تائيتي الخمرية في وصف الخمرة الأزلية :
تَنَزَّهْت عن حُكْم الحُلُولِ في وَصْفِهِا فلَيسَ لهَا في سوى شَكْلهِ حَلَّتِ
تَجلَّتْ عَرُوساً في مَرَائِي جَمَالِها وأرْخَتْ سُتُورَ الكبرياءِ بِعزَّةِ
فمَا ظَهَر في الكونٍ غَيْرُ بهائها وما احتجبت إلا لحجب سريرة
ولما قالت اليهود : عُزَير ابن الله، وقالت النصارى : المسيح ابن الله، وقال المشركون : الملائكة بنات الله، ردَّ الله تعالى عليهم بقوله :
﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ * ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾
قلت : هذه الجملة معطوفة على قوله :﴿ وقالت اليهود. . . ﴾ الخ، ومن قرأ بغير واو جعلَها مستأنفة.
يقول الحقّ جلّ جلاله : وقالت اليهود والنصارى والمشركون :﴿ اتخذ الله ولدا ﴾ تعالى الله عن قولهم، وتنزه عن ذلك ؛ لأنه يقتضي الجنسية والمشابهة والاحتياج، والحق منزَّهٌ عن ذلك. بل كل ما استقر في السماوات السبع والأرَضين السبع ملكه وعبيده، فكيف يكون العبد ولداً لمالكه ؟. وأيضاً كل ما ظهر في الوجود كله قانت، أي : خاضع ومطيع لله، وعابد له، ومقهور تحت حكمه ومشيئته، وذلك مُنافٍ لحال البُنوة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أنك إذا نظرت بعين البصيرة، أو بحق البصيرة، إلى الوجود بأسره، وجدته ذاتاً واحدة، ونسبته من الحق نسبة واحدة، أنوار ظاهرة، وأسرار باطنة، حكمته ظاهرة، وقدرته باطنة حسن ظاهر، ومعنى باطن، عبودية ظاهرية، وأسرار معاني الربوبية باطنة ؛ إذا لا قيام للعبودية إلا بأسرار معاني الربوبية، قال تعالى :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ ﴾ [ فَاطِر : ٤١ ]، وقال تعالى :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ [ النُّور : ٣٥ ]، وقال في الحكم :" الأكوان ظاهرها غرة وباطنها عبرة، فالنفس تنظر إلى ظاهر بهجتها، والقلب ينظر إلى باطن عبرتها ". فأهل الفَرْقِ يثبتون الأشياء مستقلة مع الله، وربما تغالى بعضهم فأشركها معه في الألوهية، فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قال محيي الدين الحاتمي : من رأى الخلق لا فعلَ لهم فقد فاز، ومن رآهم لا حياة لهم فقد جاز، ومن رآهم بعين العدم فقد وصل. هـ. قلت : ومن أثبتهم بالله فقد تمكن وصاله، وأنشدوا :
مَن أبصرَ الخلقَ كالسرابِ فقَد تَرقَّى عن الحجابِ
إلى وُجودٍ تراهُ رتقا بِلاَ ابتعادٍ ولا اقْتِرابِ
ولم تُشَاهِدْ به سواهُ هناك تهدي إلى الصوابِ
فَلا خِطابَ بِه إليهِ وَلا مُشِيرَ إلى الخطابِ
هـ.

و﴿ بديع ﴾ : بمعنى مُبدِع، والإبداع : اختراع الشيء من غير تقدم شيء. وقوله :﴿ كن فيكون ﴾ قَدَّره سيبويه : فهو يكون، وقرأ ابن عامر بنصب المضارع، ولَحَّنه بعضُهم ؛ لأن المنصوبَ في جواب الأمر لا بد أن يصلح جواباً لشرطه، تقول : اضرب زيداً فيستقيم، أي : إن تضربه يستقيم. ولا يصلح أن تقول هنا : إن يكن يكن، وقد يجاب بحمله على المعنى، والتقدير : إن قلت كن يكن.
وأيضاً : كل ما دخل عالم التكوين فهو مُبْدَع ومَخترَع لله، ومصنوع من مصنوعات الله، فلا يصح أن يكون ولداً، وأيضاً : الولد يحتاج إلى صاحبة ومعالجة ومهلة، والحق تعالى أمره بين الكاف والنون، بل أسرع من لحظ العيون، فإذا ﴿ قضى أمراً ﴾ أي : أراده، ﴿ فإنما يقول له كن فيكون ﴾، لا يتوقف على لفظة ﴿ كن ﴾، وإنما هو كناية عن سرعة الاقتدار.
قال البيضاوي : واعلم أن السبب في هذه الضلالة أن أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون الأب على الله تعالى، باعتبار أنه السبب الأول، حتى قالوا : إن الأب هو الرب الأصغر، والله تعالى هو الرب الأكبر، ثم ظنّ الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة، فاعتقدوا ذلك تقليداً، ولذلك كفر قائله ومنع منه مطلقاً حسماً لمادة الفساد. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أنك إذا نظرت بعين البصيرة، أو بحق البصيرة، إلى الوجود بأسره، وجدته ذاتاً واحدة، ونسبته من الحق نسبة واحدة، أنوار ظاهرة، وأسرار باطنة، حكمته ظاهرة، وقدرته باطنة حسن ظاهر، ومعنى باطن، عبودية ظاهرية، وأسرار معاني الربوبية باطنة ؛ إذا لا قيام للعبودية إلا بأسرار معاني الربوبية، قال تعالى :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ ﴾ [ فَاطِر : ٤١ ]، وقال تعالى :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ [ النُّور : ٣٥ ]، وقال في الحكم :" الأكوان ظاهرها غرة وباطنها عبرة، فالنفس تنظر إلى ظاهر بهجتها، والقلب ينظر إلى باطن عبرتها ". فأهل الفَرْقِ يثبتون الأشياء مستقلة مع الله، وربما تغالى بعضهم فأشركها معه في الألوهية، فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قال محيي الدين الحاتمي : من رأى الخلق لا فعلَ لهم فقد فاز، ومن رآهم لا حياة لهم فقد جاز، ومن رآهم بعين العدم فقد وصل. هـ. قلت : ومن أثبتهم بالله فقد تمكن وصاله، وأنشدوا :
مَن أبصرَ الخلقَ كالسرابِ فقَد تَرقَّى عن الحجابِ
إلى وُجودٍ تراهُ رتقا بِلاَ ابتعادٍ ولا اقْتِرابِ
ولم تُشَاهِدْ به سواهُ هناك تهدي إلى الصوابِ
فَلا خِطابَ بِه إليهِ وَلا مُشِيرَ إلى الخطابِ
هـ.

ولما قال رافع بن حريملة - من أحبار يهود - للرسول صلى الله عليه وسلم : أسمعنا كلام الله إن كنت رسوله، أو أرنا آية تصدقك، رد الله تعالى عليه، فقال :
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ *
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾
قلت : هذه المقالة صدرت من بعض اليهود والمشركين، قالوا ذلك تعنتاً وعناداً، لا طلباً لليقين، فلذلك نفى الله عنهم العلم رأساً، والمقصود في هذه الآيات كلها توبيخ اليهود.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقال الذين ﴾ لا علم عندهم : هلا ﴿ يكلمنا الله ﴾ حتى نسمع منه أنك رسوله، ﴿ أو تأتينا آية ﴾ ظاهرة، نراها جهرة تدل على رسالتك، كما كانت لموسى - عليه السلام -.
وهذه المقالة التي صدرت من اليهود، تَعنتاً وعناداً، قد صدرت ممن قبلهم من أسلافهم، فقالوا :﴿ أرنا الله جهرة ﴾، ومن النصارى فقالوا :﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ [ المَائدة : ١١٢ ]، ومن المشركين فقالوا :﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً ( ٩٠ ) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً( ٩١ ) ﴾ [ الإسراء : ٩٠، ٩١ ] الآية. فقد تماثلت قلوبهم في الكفر والعناد، وتشابهت في العتو والفساد، قد أوضحنا لك الآيات البينات، تحقق رسالتك وتقرر اصطفائيتك، لمن طلب مزيد الإيقان، وكشف البيان على نعت العيان، فأعظمُها القرآن، ثم ما أوضحته من شرائع الأحكام، وما بينته من الحلال والحرام، ثم ما أخبرت به من الغيوب، وما كشفته عن القلوب من الكروب، ثم نطق الجمادات والأحجار، كحنين الجذع وانقياد كشفته عن القلوب من الكروب، ثم نطق الجمادات والأحجار، كحنين الجذع وانقياد الأشجار، وتسبيح الحصى، وتسليم الحجر، وقد نبع الماء من بين أصابعه وانهمر، إلى ما لا يعد ولا يحصى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : طلب الكرامات وظهور الآيات من طبع أهل الجهل والعناد، وليس هو من شيم أهل الهداية والاسترشاد. فالطريق واضح لمن طلب السبيل، والحق لائح لمن أبصر الدليل، فمن كحل عين بصرته بإثمد التوحيد الخاص، لم يقع بصره إلا على إلا على الحق، ولا يعرف إلا إياه، ورأى الأشياء كلها قائمة بالله، بل لا وجود لها مع الله، ومن فتح الله سمع قلبه لم يسمع إلا من الحق، ولا يسمع إلا به، كما قال القائل : أنا بالله أنطق ومن الله أسمع.
وقال الجنيد رضي الله عنه :( لي أربعون سنة أُناجي الحق، والناس يَروْن أني أناجي الخلق ). فالخالق محذوفون عند أهل العلم بالتحقيق، مُثْبَتُونَ عند أهل الجهل والتفريق. يقولون : لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية، مع أنه يكلمهم في كل وقت وساعة، كذلك قال مَن شاركهم في الجهل بالله، مع وضوح الآيات لمن عرف الله. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

قلت : هذه المقالة صدرت من بعض اليهود والمشركين، قالوا ذلك تعنتاً وعناداً، لا طلباً لليقين، فلذلك نفى الله عنهم العلم رأساً، والمقصود في هذه الآيات كلها توبيخ اليهود.
فقد ﴿ أرسلناك بالحق ﴾، أي : متلبساً بالحق ومبيناً له، ﴿ بشيرا ﴾ لمن صدقتك واتبعك بالنعيم المقيم، و﴿ نذيرا ﴾ لمن خالفك بعذاب الجحيم. فلا تسأل عن حالهم إذا أفضوا إليه، فإنه أعظم من أن يذكر، وأفظع من أن يسمع، إذ لا يمكن تفسير حالهم، ولا يستطيع أحد سماع أهوالهم، فالله يعصمنا من موارد الردى، ويوفقنا لاتباع الحق والهدى، أو لا يسألك ربك عنهم فهو أعلم بحالهم، وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : طلب الكرامات وظهور الآيات من طبع أهل الجهل والعناد، وليس هو من شيم أهل الهداية والاسترشاد. فالطريق واضح لمن طلب السبيل، والحق لائح لمن أبصر الدليل، فمن كحل عين بصرته بإثمد التوحيد الخاص، لم يقع بصره إلا على إلا على الحق، ولا يعرف إلا إياه، ورأى الأشياء كلها قائمة بالله، بل لا وجود لها مع الله، ومن فتح الله سمع قلبه لم يسمع إلا من الحق، ولا يسمع إلا به، كما قال القائل : أنا بالله أنطق ومن الله أسمع.
وقال الجنيد رضي الله عنه :( لي أربعون سنة أُناجي الحق، والناس يَروْن أني أناجي الخلق ). فالخالق محذوفون عند أهل العلم بالتحقيق، مُثْبَتُونَ عند أهل الجهل والتفريق. يقولون : لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية، مع أنه يكلمهم في كل وقت وساعة، كذلك قال مَن شاركهم في الجهل بالله، مع وضوح الآيات لمن عرف الله. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

ولمَّا قالت اليهود والنصارى لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعل بيننا وبينك هُدْنة نتبعك بعدها، وأضمَرُوا في نفوسهم أنهم لا يتبعونه حتى يتبع ملتهم، فضحهم الله تعالى، فقال :﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾
قلت : الملّة هي الشريعة، وهي ما شرع الله على لسان أنبيائه ورسله، من أملت الكتاب وأمليته، إذا قرأته. والهوى : رأى يتبع الشهوة.
يقول الحقّ جلّ جلاله : لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ ولن ترضى عنك اليهود ﴾ وتتبع دينك أبداً، ﴿ ولا النصارى ﴾ كذلك ﴿ حتى تتبع ملتهم ﴾ على فرض المحال، والمقصود قطعُ رجائه من إسلامهم باختيارهم ؛ لأن اتباعه ملتهم محال، وكذلك إسلامهم. ولعله في قوم مخصوصين. ثم زاد في التنفير من اتباعهم فقال :﴿ ولئن اتبعت أهواءهم ﴾ الباطلة فرضاً وتقديراً ﴿ بعد الذي جاءك من العلم ﴾ بالله وبأحكامه على المنهاج القويم، ﴿ ما لك من الله من ولي ﴾ يمنعك منا، ﴿ ولا نصير ﴾ ينصرك من غيرنا، أي : لا ولي ولا نصير لك إلا نحن ؛ حيث واليتنا، وأحببتنا، وأظهرت ملتنا، فنحن لك على ما تحب وترضى.
الإشارة : التماس رضى الناس من علامة الإفلاس، ولن يرضى عنك الناس حتى تتبع أهواءهم، ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما تحققت ما هم فيه، إنك إذاً لمن الظالمين، فمن التمس رضى الناس وقع في سخط الله، ومن التمس رضى الله قطع يأسه من الناس، ولذلك قال بعضهم : كل ما سقط من عين الخلق عظم في عين الحق، وكل ما عظم في عين الخلق سقط من عين الحق، وقال آخر : إن الذي تكرهون مني هو الذي يشتهيه قلبي. ه.
وقال بعض الصالحين :( لقيتُ بعض الأبدال، فقلت له : دُلَّني على الطريق ؟ فقال : لا تخالط الناس ؟ فإن مخالطتهم ظلمة، فقلت : لا بد من مخالطتهم وأنا بين أظهرهم ؟ فقال : لا تعاملهم، فإن معاملتهم خسران. قلت : لا بد من معاملتهم ؟ فقال : لا تركن إليهم، فإن في الركون إليهم هلكة، فقالت : هذا لعله يكون ؟ فقال : يا هذا، أتخالط البطالين، وتعامل الجاهلين، وتركن إلى الهلكى، وتحب أن يكون قلبك مع الله ؟ هيهات. . . هذا لا يكون أبداً، ثم غاب عني ولم أره ).
ولما عاتب الله بني إسرائيل ووبخهم استثنى من آمن منهم، فقال :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
قلت : جملة ﴿ يتلونه ﴾ حال، و﴿ أولئك ﴾ خبر الموصول.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ الذين آتيناهم الكتاب ﴾، كعبد الله بن سلام وأصحابه، حالتهم ﴿ يتلونه حق تلاوته ﴾ غير محرّفين له، ولا كاتمين ما فيه، ﴿ أولئك ﴾ هم الذين ﴿ يؤمنون به ﴾ حقيقة، وأما غيرهم ممن حرف وكتم صفة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كفر به، ﴿ ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ﴾ أي : الكاملون في الخسران، حيث بخسوا أنفسهم من عَزِّ الدارين.
الإشارة : ما قيل في التوراة وأصحابه يقال مثله في القرآن وأهله ؛ فمن آتاه الله القرآن، وتلاه حق تلاوته، بحيث جَوَّدَ حروفه وتَدبَّر معانيه، وعمل بما فيه، فأولئك هم المؤمنون به حقّاً، والفائزون بثمار معانيه حلاوة وذوقاً، ومن ترك التدبر في معانيه فقد حرم نفسه ثمار حلاوته، وذلك عين الخسران عند أهل الإيقان. وبالله التوفيق.
ثم رجع الحق تعالى إلى تذكيرهم بالنعم، فقال :﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ * ﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾
قلت : جملة ﴿ لا تجزي ﴾ : نعت ليوم، وحذف العائد، أي : لا تجزي فيه نفس، قال المرادي :( إذا نعت بالجملة اسم زمان جاز حذف عائده ) ثم استدل بالآية. وهل حذف برمته أو بالتدريج ؟ قولان.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ﴾ بأن جعلت الأنبياء تسوسكم، والملوك منكم يدبرون أموركم،
و﴿ فضلتكم ﴾ على عالم زمانكم.
قلت : جملة ﴿ لا تجزي ﴾ : نعت ليوم، وحذف العائد، أي : لا تجزي فيه نفس، قال المرادي :( إذا نعت بالجملة اسم زمان جاز حذف عائده ) ثم استدل بالآية. وهل حذف برمته أو بالتدريج ؟ قولان.
فاشكروا هذه النعم بالإيمان بالرسول الذي أرسلته إليكم، وخافوا أهوال يوم القيامة، الذي لا تغنى فيه ﴿ نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها ﴾ فداء إن أرادت الفداء، ﴿ ولا تنفعها شفاعة ﴾ شافع، ولا يدفع عنها أهوال ذلك اليوم ولي ولا ناصر، إلا من اتخذ يداً عند الملك القادر، وبالله التوفيق. وتقدمت إشارة هذه الآية في الآية الأولى.
ولما أراد الحق تعالى أن ينسخ القبلة ويردها إلى بيت الله الحرام بعد أن كانت إلى بيت المقدس، ذكر خصوصيةَ مَنْ بناه، وكيفية بنائه، وفي ضمن ذلك ذكر شرفه ليكون ذلك داعياً إلى الامتثال، فقال :﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾
قلت :﴿ ابتلى ﴾ اختبر، و﴿ إبراهيم ﴾ مفعول، وفيه أربع لغات، إبراهام وإبراهوم وإبراهيم وبالقصر، و﴿ ربه ﴾ فاعل، وقدم المفعول للاهتمام، وقدم المفعول للاهتمام، ولئلا يعود الضمير على بعده لفظاً ورتبة، و﴿ عهدي ﴾ فاعل، و﴿ الظالمين ﴾ مفعول.
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر يا محمد، أو اذكروا يا بني إسرائيل، حين اختبر ﴿ إبراهيمَ رَبُّه بكلمات ﴾ أن يعمل بها، وهي : تسليم بدنه للنيران، وولده للقربان، وطعامه للضَّيفان، أو عشر خصال : خمس في الرأس : المضمضة، والاستنشاق، وقصّ الشارب، والسواك، وفرق الرأس : وقيل : وإعفاء اللحية، وخمس في الجسد : تقليم الظفر، وحلق العانة، ونتف الإبط، والاستنجاء بالماء، والاختتان، أو مناسك الحج أو الخصال التي امتحن بها وهي : الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والذبح، والأحسن أنها ثلاث : الهجرة من وطنه، ورمي ولده بمكة، وذبح الآخرة حين بلغ أن يسعى معه ﴿ فأتمهن ﴾ أي : وَفَّى بهن، فلما وَفَّى بهن ﴿ قال ﴾ الله تعالى له :﴿ إني جاعلك للناس إماماً ﴾، أي : قدوة بك في بك في التوحيد، أو في الأصول والفروع، إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته، ومأمور باتباعه.
ولمّا جعله الله إماماً طلب ذلك لأولاده فقال :﴿ ومن ذريتي ﴾ فاجعل أئمة، ﴿ قال ﴾ الحق تعالى :﴿ لا ينال عهدي ﴾ أي : لا يلحق عهدي بالإمامة ﴿ الظالمين ﴾ منهم، إذ لا يصلح للإمامة إلا البررة الأتقياء، لأنها أمانة من الله وعهد، والظالم لا يصلح لها، وفيه تنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة لا يستحقون الإمامة، وفيه دليل على عصمة الأنبياء قبل البعثة، وأن الفاسق لا يصلح للإمامة. قاله البيضاوي.
الإشارة : إذا أراد الله تعالى أن يجعل وليّاً من أوليائه إماماً يُقتدى به، وداعياً يدعو إليه، ابتلاه، فإن صبر ورضي اصطفاه، ولحضرته اجتباه، فيكون إماماً يُقتدى به، وداعياً يُهتدى به، وهذه سنة الله تعالى في أصفيائه يبتليهم الله تعالى بتسليط الخلق عليهم وأنواع من البلايا، فإذا نقوا من البقايا، وتكلمت فيهم المزايا، أظهرهم للخلق داعين إلى الله ومرشدين إلى طريق الله، وقد تبقى الإمامة ذريتهم إن ساروا على هديهم، ومَن لم يسلك به هذا المسلك فلا يصلح للإمامة، وإن توجه إليها كان ناقصّا في الدعوة، ولذلك قال بعضهم :( من ادّعى شهود الجمال قبل تأدبه بالجلال، فارفضه فإنه دجال ). ه. وكل من اتصف بشيء من ظلم العباد لا ينال عهد الإمامة في طريق الإرشاد، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم ذكر شرف البيت الذي هو المقصود، فقال :﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾
قلت :﴿ المثابة ﴾ : المرجع الذي يثُوب الناس إليه كل سنة، و﴿ اتخذوا ﴾ : على قراءة الأمر، محكي بقول محذوف، أي : وقلنا اتخذوا، وعلى قراءة الماضي : معطوف على ﴿ جعلنا ﴾، أي : جعلناه مثابة، واتخذه الناس مُصلَّى.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكر يا محمد ﴿ إذ جعلنا البيت ﴾ الحرام : أي : الكعبة، مرجعاً للناس يرجعون لزيارته والطواف به كل سنة، وجعلناه محل أمن، كل من دخله كان آمناً من عقوبة الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنَّ الناس يُتَخطفون من حوله، وأهلُه آمنون، وأما في الآخرة فلأن الحج يَجُبُّ ما قبله، وهذا يدل على شرف البيت وحرمته.
وقلنا لهم :﴿ اتخذوا من مقام إبراهيم ﴾، وهو الحجر الذي فيه أثر قدميه، ﴿ مصلى ﴾ تصلون إليه، وهو الذي يصلون خلفه ركعتي الطواف،
﴿ وعهدنا ﴾ أي : أوحينا ﴿ إلى إبراهيم وإسماعيل ﴾ ولده، بأن قلنا لهما :﴿ طهرا بيتي ﴾ من الأدناس والأرجاس والأصنام والأوثان، ﴿ للطائفين ﴾ به ﴿ والعاكفين ﴾ أي : المقيمين فيه، والمصلين فيه الراكعين الساجدين. فكان البيت مطهراً في زمانهما وبعدهما زماناً، ثم أدخلت فيه الأصنام فطهّره نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتبقى طهارته حتى يأتي أمر الله. والله تعالى أعلم.
الإشارة : القلب هو بيت الرب، يقول الله تبارك وتعالى لبعض أنبيائه :
" طهر لي بيتاً أسكنه، فقال : يا رب أي بيت يسعك ؟ فقال له : لن تسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن ". فإذا تطهر القلب من الأغيار وملئ بالأنوار، وتمكنت فيه المعارف والأسرار، كان مرجعاً وملجأ للعباد، كل مَن وصل إليه، وطاف به، كان آمنناً من الزيغ والعناد، ومن خواطر السوء سوء الاعتقاد، ومن دخله والوداد، أَمِن من الطرْد والبعاد، وكان عند الله من أفضل العباد. ومقام إبراهيم - عليه السلام - هو الاستغراق في عين بحر الشهود، ورفع الهمة عن ما سوى الملك المعبود.
وهذا المقام هو الذي اتخذه العارفون كعبة لصلاة قلوبهم، وغاية لمنتهى قصودهم.
عِبارَاتُهُم شَتَّى، وحُسْنُكَ واحِدٌ، وكُلٍّ إلى ذلك الجَمالِ يُشِيرُ
وقد عهد الله تعالى إلى أنبيائه وأصفيائه أن يطهروا قلوبهم من الأغيار، ويرفضوا كل ما سواه من الأكدار، لتتهيأ بذلك لطواف الواردات والأنوار، ولعكوف المعارف والأسرار، وتخضع لهيبتها ظواهرُ الأشباح، وتنقاد لجمال بهجتها القلوبُ والأرواح، وما ذلك على الله بعزيز.
ثم ذكر الحق تعالى دعاء إبراهيم الخليل لمكان البيت، زيادة في تشريفه، فقال :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾
قلت : الإشارة تعود إلى المكان، أو البلد، أي : اجعل هذا المكان بلداً ذا أمن، قال بعضهم : نكَّرَ البلد هنا، وعرَّفه في سورة إبراهيم، لان هذا الدعاء وقع قبل أن يكون بلداً، وفي سورة إبراهيم وقع بعد أن كان بلداً فلذلك عرَّفه، وفيه نظر من جهة التاريخ، وسيأتي تمامه هناك إن شاء الله.
وقوله :﴿ مَن آمَن ﴾ : بدل من ﴿ أهله ﴾، بدل البعض للتخصيص، و﴿ مَن كفر ﴾ : معطوف على ﴿ مَن آمَن ﴾، على حذف المضارع، أي : وارزق من كفر.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ قال إبراهيم ﴾ في دعائه لمكة لما أنزَل ابنَه بها بواد غير ذي زرع، وتركه في يد الله تعالى :﴿ رب اجعل هذا ﴾ المكان ﴿ بلداً آمناً ﴾ يأمن فيه كل من يأوي إليه، ﴿ وارزق أهله من ﴾ أنواع ﴿ الثمرات ﴾، كالحبوب وسائر الفواكه، ﴿ من آمن منهم بالله واليوم الآخر ﴾ ﴿ قال ﴾ الحقّ جلّ جلاله : بل وأرزق أيضاً ﴿ من كفر ﴾ في الدنيا ﴿ فأمتعه ﴾ زمناً ﴿ قليلاً ﴾، أو تمتيعاً قليلاً، ﴿ ثم ﴾ ألجئه ﴿ إلى عذاب النار ﴾ وبئس المرجع مصيره.
قاس إبراهيم الخليل الرزق على الإمامة، فنبَّه سبحانه وتعالى أن الرزق رحمة دنيوية، تعم المؤمن والكافر، بخلاف الإمامة، والتقدم في الدين، فإنها سبب النعيم الأخروي، ولا ينالها إلا أهلُ الإيمان والصلاح.
الإشارة : دعاء الأنبياء عليهم السلام، كما يصدقُ بالحس يصدق بالمعنى، فيشمل دعاءُ الخيل القلوبَ التي هي بلد الإيمان، والأرواح التي هي معدن الأسرار والإحسان، فتكون آمنة من طوارق الشيطان، ومحفوظة من الوقوف مع رؤية الأكوان، آمنة من الأكدار، محفوظة من رؤية الأغيار، فيرزقها الله من ثمرة العلوم، ويفتح لها من مخازن الفهوم، من آمن منهم بالشريعة الظاهرة، وجاهد نفسه في عمل الطريقة الباطنة، حتى أشرقت عليه أنوار الحقيقة العيانية، وأما من كفر بطريقة الخصوص، ووقف مع ظواهر النصوص، فإنما يُمَتَّع بعلم الرسوم الذي حدُّ حلاوته اللسان، ثم يلجأ إلى عذاب الحجاب، وسوء الحساب، ولم يُفْضِ إلى حلاوة الشهود والعيان، التي يمتع بها الجَنَانُ حتى يُفْضي إلى نعيم الجنَان، فيتم النعيم بالنظر إلى وجهه الكريم، منحنا الله من ذلك حظاً وافراً بمنِّه وكرمه.
ثم ذكر الحق تعالى كيفية بناء البيت، وما كان شعارهما في حالة بنائه، فقال :﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
قلت :﴿ القواعد ﴾ جمع قاعدة، وهي الأساس، وكأنه مأخوذ من العقود بمعنى الثبات، وأما القواعد من النساء، فجمع قاعد، بلا تاء، لأنه وصف خاص بالنساء، فلا يحتاج إلى تمييز التاء، و﴿ ربنا ﴾ منصوب على النداء محكي بحال محذوفة، أي : حال كونهم قائلين ربنا. . . الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر وقت رفع ﴿ إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ﴾، وبنائهما له، بعد أن درس بالطوفان، وكان بناء آدم عليه السلام لما أُهبط إلى الأرض بإعلام الملائكة. كان إبراهيم عليه السلام يبني، وإسماعيلُ يُناوله الحجارة، فنسب البناء لهما لتعاونهما، وقيل : كانا يبنيان كُلٍّ في ناحية، حال كونهما قَائِلَيْنِ :﴿ ربنا تقبل منا ﴾ عملنا هذا، ﴿ إنك أنت السميع ﴾ لدعائنا، ﴿ العليم ﴾ بنياتنا وسرائرنا.
الإشارة : ينبغي للعبد أن يرفع قواعد إسلامه، ويشيد دعائمه بتحقيق أركانه، كإتقان الشهادتين بتحقيق معانيها، وإتقان الصلاة بإتقان أركانها الظاهرة والباطنة، وإتقان الزكاة بإخلاص أدائها، وإتقان الصيام بتحصيل آدابه، وإتقان الحج بتحصيل مناسكه بعد وجوبه، ويرفع أيضاً قواعد إيمانه بتحقيق أركانه، وهي : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، حُلْوِه ومُره، اعتقاداً وذوقاً، ويرفع أيضاً قواعد إحسانه، بتحصيل مراتبه، كتحقيق المشاهدة، وهو أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يستطع فليعبده كأن الله يراه، وإن شئت قلت : رفعُ قواعد الإسلام يكون بتحقيق التوبة والتقوى والاستقامة، ورفع قواعد الإيمان يكون بتحقيق الإخلاص والصدق والطمأنينة، ورفع قواعد الإحسان يكون بالمراقبة والمشاهدة والمعرفة، كما قال الساحلي - رحمه الله -.
ثم ذكر الحق تعالى دعائهم بعد البناء، فقال :﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ * ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾
قلت : قال ابن عباس رضي الله عنه : لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بناء البيت، دَعَوَا بهذا الدعاء، فقال :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ﴾ أي : منقادين لأوامرك الظاهرة ولأحكامك القهرية.
واجعل ﴿ من ذريتنا أمة ﴾ أي : جماعة ﴿ مسلمة لك ﴾ ؟ عَلِمَا - بوحي أو إلهام - أنه يكون من ذريتهما من يكفر بالله، ﴿ وأرنا ﴾ أي : عرفنا وعلمنا ﴿ مناسكنا ﴾ في الحج. والنُّسُك في الأصل : غاية العبادة، وشاع في الحج لما فيه من المشاق والكلفة، والبعد عن العادة. ﴿ وتب علينا ﴾ مما لا يليق بحالنا، فسحناتُ الأبرار سيئات المقربين، فلكل مقام ما ينقصه وإن كان كاملاً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : تضمن دعاؤهما عليهما السلام ثلاثة أمور يُطلب التماسها والتحقق بها من كل أحد ؛ أولها : الانقياد لله في الظاهر والباطن، بامتثال أمره والاستسلام لقهره، حتى يسري ذلك في الأصل إلى فرعه، وهي غاية المنّة، قال في الحكم :" متى جعلك في الظاهر ممتثلاً لأمره، وفي الباطن مستسلماً لقهره، فقد أعظم منته عليك ". الثاني : معرفته الطريق، والسلوك على جادتها، كارتكاب مشاق الطاعات، ومعانقة مخالفة الهوى والشهوات، ورؤية التقصير في ذلك، وطلب التوبة مما هنالك، وهذه هي مناسك حج القلوب، والطريق الموصل إلى عَرَفَةِ حَضْرَةِ الغيوب، والثالث : الظفر بالداعي إلى الله والدال عليه، وهو المعلم الأكبر، صحبته تطهر من العيوب، ورؤيته تغني القلوب، وتدخلها إلى حضرة الغيوب، ظاهره قائم بوظائف الحكمة، وباطنه مشاهد لتصاريف القدرة، وهذا هو القائم بالتربية النبوية. وبالله التوفيق.
ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يستغفر في المجلس سبعين مرة. إذ ما من مقام إلا وقبله ما فيه نقص، فإذا ترقى عنه استغفر منه ﴿ إنك أنت التواب الرحيم ﴾ أي : كثير القبول والإقبال على التائبين.
﴿ ربنا وابعث فيهم ﴾ أي : في الذرية ﴿ رسولاً منهم ﴾ وهو مولانا محمد صلى الله عليه وسلم قال - عليه الصلاة والسلام - :" أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى "، حال كونه ﴿ يتلو عليهم ﴾ أي : يبلغهم ﴿ آياتك ﴾ الدالة على توحيدك وصدق رسالتك، ﴿ ويعلمهم الكتاب ﴾ أي : القرآن ﴿ والحكمة ﴾ أي : الشريعة أو السنة. وقال مالك : هي الفقه في الدين والفهم فيه، أو نور يضعه في قلب من شاء من عباده، ﴿ ويزكيهم ﴾ أي : يطهرهم من لوث المعاصي وكدر الحس، ﴿ إنك أنت العزيز ﴾ الغالب في حكمه وسلطانه، ﴿ الحكيم ﴾ في صنعه وإتقانه، والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : تضمن دعاؤهما عليهما السلام ثلاثة أمور يُطلب التماسها والتحقق بها من كل أحد ؛ أولها : الانقياد لله في الظاهر والباطن، بامتثال أمره والاستسلام لقهره، حتى يسري ذلك في الأصل إلى فرعه، وهي غاية المنّة، قال في الحكم :" متى جعلك في الظاهر ممتثلاً لأمره، وفي الباطن مستسلماً لقهره، فقد أعظم منته عليك ". الثاني : معرفته الطريق، والسلوك على جادتها، كارتكاب مشاق الطاعات، ومعانقة مخالفة الهوى والشهوات، ورؤية التقصير في ذلك، وطلب التوبة مما هنالك، وهذه هي مناسك حج القلوب، والطريق الموصل إلى عَرَفَةِ حَضْرَةِ الغيوب، والثالث : الظفر بالداعي إلى الله والدال عليه، وهو المعلم الأكبر، صحبته تطهر من العيوب، ورؤيته تغني القلوب، وتدخلها إلى حضرة الغيوب، ظاهره قائم بوظائف الحكمة، وباطنه مشاهد لتصاريف القدرة، وهذا هو القائم بالتربية النبوية. وبالله التوفيق.
ولما قرر شرف إبراهيم عليه السلام وجعله إماما يقتدى به، حذر من ترك دينه والرغبة عن ملته، فقال :﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ * ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ * ﴿ وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ﴾
قلت :﴿ من ﴾ : استفهامية إنكارية، فيها معنى النفي، مبتدأ، و﴿ يرغب ﴾ وما بعده خبر، و﴿ إلا ﴾ إبطال لنفيها الذي تضمنته، و﴿ مَن سَفِه ﴾ بدل من ضمير ﴿ يرغب ﴾ على المختار، و﴿ نفسه ﴾ مفعول ﴿ سَفِه ﴾ ؛ لتضمنه معنى جهل أو أهلك، قاله الزجاج، أو على التمييز ؛ قاله الفراء ؛ لأن الضمير فيه معنى الشيوع الذي في ﴿ مَن ﴾ فلم يكسب التعريف، أو على إسقاط الجارّ وإيصال الفعل إليه، كقولهم : ضرب فلان الظهر والبطن.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومَن ﴾ هذا الذي ﴿ يرغب عن ملة إبراهيم ﴾ الواضحة ﴿ إلا ﴾ من جهل قدر ﴿ نفسه ﴾ وبخسها حقها ؟ أو إلا من خف رأيه وسفهت نفسه ؟ وكيف يرغب عاقل عنها وقد اخترناه أماماً ﴿ في الدنيا ﴾ يقتدي به أهل الظاهر والباطن ؟ ﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ لحضرتنا، والساكنين في جوارنا.
الإشارة : ملة أبينا إبراهيم عليه السلام هي رفع الهمة عن الخلق، وإفراد الوجهة للملك الحق، ورفض الوسائط والأسباب، والتعلق بربّ الأرباب، وفي ذلك يقول الشاعر، وهو الششتري :
فَرَفْضُ السّويَ فَرْضٌ علينا لأنَّنا بملةِ محْوِ الشّركِ والشَّكِّ قدْ دِنَّا
ومِنْ ملته أيضاً : تركُ التدبير والاختيار، والاستسلام لأحكام الواحد القهار، فمن تمسك بهذه الخصال على التمام. ووصى بها من لقيه من الأنام، جعله الله في الدنيا إماماً يقتدي بأقواله ويهتدى بأنواره، وإنه في الآخرة لمن الصالحين المقربين مع النبيين والمرسلين، وأما من رَغِبَ عن هذه الملة الحنيفة فقد خسر الدنيا والآخرة. نسأل الله الحفظ بمنّه وكرمه.
وإنما اخترناه لذلك لأنه حين ﴿ قال له ربه ﴾ : استسلم لحكمنا، وانقاد لأمرنا، قال سريعاً :﴿ أسلمت ﴾ وجهي ﴿ لرب العالمين ﴾، وانقدْتُ بكُلّيتي إليه.
الإشارة : ملة أبينا إبراهيم عليه السلام هي رفع الهمة عن الخلق، وإفراد الوجهة للملك الحق، ورفض الوسائط والأسباب، والتعلق بربّ الأرباب، وفي ذلك يقول الشاعر، وهو الششتري :
فَرَفْضُ السّويَ فَرْضٌ علينا لأنَّنا بملةِ محْوِ الشّركِ والشَّكِّ قدْ دِنَّا
ومِنْ ملته أيضاً : تركُ التدبير والاختيار، والاستسلام لأحكام الواحد القهار، فمن تمسك بهذه الخصال على التمام. ووصى بها من لقيه من الأنام، جعله الله في الدنيا إماماً يقتدي بأقواله ويهتدى بأنواره، وإنه في الآخرة لمن الصالحين المقربين مع النبيين والمرسلين، وأما من رَغِبَ عن هذه الملة الحنيفة فقد خسر الدنيا والآخرة. نسأل الله الحفظ بمنّه وكرمه.
﴿ ووصى ﴾ بهذه الكلمة أو الملة ﴿ إبراهيم ﴾، عند موته، ﴿ بنيه ﴾، وكانوا أربعة : إسماعيل وإسحاق ومدين ومدان. وكذلك حفيده ﴿ يعقوب ﴾ أوصى بهذه الكلمة بنيه. وكانوا اثني عشر، على ما يأتي في الأسباط، قائلين في تلك الوصية :﴿ يا بني إن الله ﴾ اختار لكم ﴿ الدين ﴾ الحنيف الواضح المنيف، فتمسكوا به ما عِشْتُّم ولا تموتُن ﴿ إلا وأنتم مسلمون ﴾ متمسكون به.
الإشارة : ملة أبينا إبراهيم عليه السلام هي رفع الهمة عن الخلق، وإفراد الوجهة للملك الحق، ورفض الوسائط والأسباب، والتعلق بربّ الأرباب، وفي ذلك يقول الشاعر، وهو الششتري :
فَرَفْضُ السّويَ فَرْضٌ علينا لأنَّنا بملةِ محْوِ الشّركِ والشَّكِّ قدْ دِنَّا
ومِنْ ملته أيضاً : تركُ التدبير والاختيار، والاستسلام لأحكام الواحد القهار، فمن تمسك بهذه الخصال على التمام. ووصى بها من لقيه من الأنام، جعله الله في الدنيا إماماً يقتدي بأقواله ويهتدى بأنواره، وإنه في الآخرة لمن الصالحين المقربين مع النبيين والمرسلين، وأما من رَغِبَ عن هذه الملة الحنيفة فقد خسر الدنيا والآخرة. نسأل الله الحفظ بمنّه وكرمه.
و﴿ إذ ﴾ معمول لاصطفيناه، وأوصى ووصى : لغتان، إلا أن وصى فيه معنى التكثير.
وضمير ﴿ بها ﴾ يعود على كلمة ﴿ أسلمت ﴾، أو الملة، و﴿ يعقوب ﴾ معطوف على ﴿ إبراهيم ﴾، و﴿ بني ﴾ محكي بحال محذوفة، أي : قائلين يا بني، أو مبتدأ، والخبر محذوف، أي : قال يا بني. . . الخ، فيوقف على ﴿ بينه ﴾.
ولما ادعت اليهود أن اليهودية هي ملة إبراهيم عليه السلام كذبهم الله تعالى، فقال :﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ * ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
قلت :﴿ أم ﴾ : منقطعة، والاستفهام فيها للإنكار، أي : ما كنتم حاضرين حين حضر يعقوب الموت، وقال لبنيه ما قال، فكيف تدعون اليهودية عليه، و﴿ إلهاً واحداً ﴾ بدل من ﴿ إله آبائك ﴾، وفائدته التصريح بالتوحيد، ونفي التوهم الناشئ عن تكرير المضاف، لتعذر العطف على المجرور، والتأكيد، أو نصب على الاختصاص أو الحال، وعد إسماعيل من الآباء تغليباً، أو لأنه كالأب ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام- :" عَمُّ الرُجلِ صِنْوُ أبيه " وقال في العباس :" هذا بقية آبائي " قاله البيضاوي.
يقوله الحق جلّ جلاله : في توبيخ اليهود على زعمهم أن اليهودية كانت ملة إبراهيم، وأن يعقوب عليه السلام أوصى بها عند موته، فقال : هل كنتم حاضرين عند يعقوب حين حضرته الوفاة حتى أوصى بما زعمتم ؟ وإنما كانت وصيته أن قال لبنيه :﴿ ما تعبدون من بعدي ﴾ أيْ : أيّ شيء تعبدونه ؟ أراد به تقريرهم على التوحيد وأخذ ميثاقهم على الثبات عليه، ﴿ قالوا ﴾ في جوابه :﴿ نعبد إلاهك ﴾ المتفق على وجوب وجوده وثبوت ألوهيته الذي هو ﴿ إلهك وإله آبائك ﴾ قبلك ﴿ إبراهيم ﴾ وولده ﴿ إسماعيل وإسحاق ﴾ الذي هو إلهٌ واحدٌ. ونحون منقادون لأحكامه، مستسلمون لأمره إلى مماتنا، فلم يوص يعقوب إلا بما سمعتم، فانتسابكم يا معشر اليهود إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقال لمن حصرَ الخصوصية في أسلافه، ونفاها عن غيرهم : هل حضرتم معهم حين أوصوا بذلك ؟ بل ما كانوا يوصون إلا بإخلاص العبودية، وتوحيد الألوهية، ومشاهدة عظمة الربوبية، فمن حصّل هذه الخصال كانت الخصوصية معه أينما كان، ومَن حاد عنها ومال إلى متابعة الهوى انتقلت إلى غيره، ويقال له : إن أسلافه قد جَدُّوا ووجَدُوا، وأنت لا تنتفع بأعمالهم في طريق الخصوصية، ﴿ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم... ﴾ الآية. وبالله التوفيق.
فتلك ﴿ أمة ﴾ أي : جماعة ﴿ قد خلت لها ما كسبت ﴾ من الخير، ﴿ ولكم ما كسبتم ﴾ أنتم، ﴿ ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾ فلا تؤاخذون بسيئاتهم، كما لا تثابون بحسناتهم. وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم لقريش :" لا يأتيني الناسُ بأعمَالهِم وتَأتُوني بأنْسَابِكُم ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقال لمن حصرَ الخصوصية في أسلافه، ونفاها عن غيرهم : هل حضرتم معهم حين أوصوا بذلك ؟ بل ما كانوا يوصون إلا بإخلاص العبودية، وتوحيد الألوهية، ومشاهدة عظمة الربوبية، فمن حصّل هذه الخصال كانت الخصوصية معه أينما كان، ومَن حاد عنها ومال إلى متابعة الهوى انتقلت إلى غيره، ويقال له : إن أسلافه قد جَدُّوا ووجَدُوا، وأنت لا تنتفع بأعمالهم في طريق الخصوصية، ﴿ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم... ﴾ الآية. وبالله التوفيق.
ولما أمر اليهود والنصارى المسلمين باتباع دينهم، لأنهم أقدم، رد الله عليهم، فقال :﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.
قلت : الضمير في ﴿ قالوا ﴾ لأهل الكتاب، و﴿ أو ﴾ للتفصيل، أي : قالت اليهود : كونوا هوداً، وقالت النصارى : كونوا نصارى. و﴿ تهتدوا ﴾ جواب الأمر، و﴿ ملة ﴾ منصوب بفعل محذوف، على حذف مضاف، أي : بل نكون أهل ملة إبراهيم، أو نتبع أو نلزم ملة إبراهيم، و﴿ حنيفاً ﴾ حال من المضاف إليه، لأنه كجزئه، أي : مائلاً عن الباطل، إلى الحق.
يقول الحقّ جلّ جلاله : وقالت اليهود للمسلمين :﴿ كونوا ﴾ معنا هوداً ﴿ تهتدوا ﴾ ؛ فإن ديننا أقدم، وقالت النصارى لهم أيضاً، كونوا ﴿ نصارى ﴾ معنا ﴿ تهتدوا ﴾ فإن ديننا أصوب، ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد :﴿ بل ﴾ نلزم ﴿ ملة إبراهيم ﴾ الذي كان مائلاً عن الباطل متبعاً للحق، ومشاهداً له وحده. ولم يكن من المشركين كما أشركتم بعُزير وعيسى وغيرهما، تعالى الله عن قولكم علواً كبيراً.
الإشارة : قد سرى هذا الطبع في بعض المنتسبين، يُرَغِّبُون الناس في طريقهم، ويحرصون على اتباعهم والدخول معهم، وينقصون طريق غيرهم، وهو وصف مذموم، بل الواجب أن ينظر الإنسان بعين البصيرة، فمن وجده يدل على الله ويغيب عما سواه، ينهض حاله ويدل على الله مقاله، اتبعه وحطَّ رأسه له، ولزم ملته وطريقه أينما كان، وكيفما كان. ومن وجده على غير هذا الوصف، أعرض عنه، والتمس غيره، وليس من شأن الدعاة إلى الله الحرص على الناس، أو الترغيب في اتباعهم، بل هم أزهد الناس في شأن الدعاة إلى الله الحرص على الناس، أو الترغيب في اتباعهم، بل هم أزهد الناس في الناس، من أتاهم دلّوه على الله، ومن لقيهم نصحوه في الله، هم على قدَم الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قال له الحقّ تعالى :﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ يُونس : ٩٩ ]. ﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ﴾ [ الغاشية : ٢٢ ]، ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ الشُّعَرَاء : ٣ ] فكان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يدل على الله وينظر ما يفعل الله. وبالله التوفيق.
ثم بين الحق تعالى كيفية الإيمان الذي يجب اتباعه، وأبطل ما سواه، فقال :﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ * ﴿ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ * ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ﴾
قلت : الأسباط : الأحفاد، والسِّبطُ في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ قولوا ﴾ يا معشر المسلمين في تحقيق إيمانكم :﴿ آمنا بالله ﴾ أي : صدقنا بوجوده متصفاً بصفة الكمال، منزّهاً عن النقائص، ﴿ و ﴾ بما ﴿ أُنزل إلينا ﴾ وهو القرآن، ﴿ و ﴾ بما ﴿ أُنزل ﴾ من الصحف ﴿ إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ﴾ ولد إسحاق،
﴿ والأسباط ﴾ أولاد يعقوب عليه السلام وهم : روبيل وشمعون ولاوى ويهوذا وربالون ويشحُرْ، ودنية بنته، وأمهم لَيَا، ثم خلف على أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، وَوُلد له من سرِّيَّتينِ : دان ونفتالى وجاد وآشر.
قال ابن حجر : اختلف في نبوتهم، فقيل : كانوا أنبياء، وقيل : لم يكن فيهم نبيّ، وإنما المراد بالأسباط قبائل من بني إسرائيل، فقد كان فيهم من الأنبياء عدد كثير. ه. وممن صرّح بنفي نبوتهم عياض وجمهور المفسرين. انظر : المحشي الفاسي.
وقولوا : آمنا بما أنزل إلى ﴿ موسى ﴾ وهو التوراة، ﴿ وعيسى ﴾ وهو الإنجيل، وبما ﴿ أوتي النبيون ﴾ كلهم ﴿ من ربهم ﴾ من عرفنا منهم ومن لم نعرف، ﴿ لا نفرق بين أحد ﴾ واحد ﴿ منهم ﴾ كما فرقت اليهود والنصارى، فقد آمنا بالله وبجميع أنبيائه ﴿ ونحن له مسلمون ﴾ أي : منقادون لأحكامه الظاهرة والباطنة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما أوجب الله تعالى الإيمان بجميع الرسل في طريق العموم، كذلك أوجب الله التصديق بكل من ثبتت ولايته في طريق الخصوص، فمن فرق بينهم فقد كفر بطريقهم، ومن كفر بطريقهم طُرد عن بابهم، ومن طرد عن بابهم طرد عن باب الله، لأن إسقاطه من الولاية إيذاء له، ومن آذى ولياً فقد آذن الله بالحرب، فالواجب، على مَن أراد أن يرد مناهلهم، أن يصدق بجميعهم، ويعظم من انتسب إليهم، حتى تتصبغ في قلبه حلاوة الإيمان، وتشرق عليه شموس العرفان، فمن فعل هذا فقد اهتدى إلى الحق والصواب، واستحق الدخول مع الأحباب، ومن أعرض عن هذا فإنما هو في شقاق، وربما يخاف عليه من شؤم الكفر والنفاق، فسيكفي الله أولياءه سوءَ شره، والله غالب على أمره.
قال القشيري : فللقلوب صبغة، وللأرواح صبغة، وللسرائر صبغة، وللظواهر صبغة، فصبغة الأشباح والظواهر بآثار التوفيق، وصبغة الأرواح والسرائر بأنوار التحقيق. هـ. وقال الورتجبي : صبغة الله : صفته الخاصة التي خلق آدم عليها، وأورثت ذلك في أرواح ذريته من الأنبياء والأولياء. ثم قال : وسقاها من شراب الزلفة، وألهمها خصائص علوم الربوبية، فاستنارت بنور المعرفة، وخاضت في بحر الربوبية، وخرجت منها تجليات أسرار الوحدانية، وتكوّنت بصبغ الصفات. هـ. وبالله التوفيق.

والباء في ﴿ بمثل ﴾ : يحتمل أن تكون زائدة كقوله تعالى :﴿ جَزَآءُ سَيِّئَةِ بِمِثْلِهَا ﴾ [ يونس : ٢٧ ]، أو ﴿ مثل ﴾ مُقْحَم، أي : فإن آمنوا بما آمنتم به، كقوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَائيلَ عَلَى مِثْلِهِ ﴾ [ الأحقاف : ١٠ ]. والشقاق : المخالفة، كأن كل واحد من المتخالفين في شق غير شق الآخر.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فإن آمنوا ﴾ أي : أهل الكتاب إيماناً مثل إيمانكم، ﴿ فقد اهتدوا ﴾ إلى الحق والصواب، وإن أعرضوا عن ذلك فاتركهم حتى نأمرك فيهم، ﴿ فإنما هم في شقاق ﴾ وخلاف لك، فلا تهتم بشأنهم، ﴿ فسيكفيكهم الله ﴾ أي سيكفيك شرهم وينصرك عليهم، ﴿ وهو السميع ﴾ لدعائكم، ﴿ العليم ﴾ بإخلاصكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما أوجب الله تعالى الإيمان بجميع الرسل في طريق العموم، كذلك أوجب الله التصديق بكل من ثبتت ولايته في طريق الخصوص، فمن فرق بينهم فقد كفر بطريقهم، ومن كفر بطريقهم طُرد عن بابهم، ومن طرد عن بابهم طرد عن باب الله، لأن إسقاطه من الولاية إيذاء له، ومن آذى ولياً فقد آذن الله بالحرب، فالواجب، على مَن أراد أن يرد مناهلهم، أن يصدق بجميعهم، ويعظم من انتسب إليهم، حتى تتصبغ في قلبه حلاوة الإيمان، وتشرق عليه شموس العرفان، فمن فعل هذا فقد اهتدى إلى الحق والصواب، واستحق الدخول مع الأحباب، ومن أعرض عن هذا فإنما هو في شقاق، وربما يخاف عليه من شؤم الكفر والنفاق، فسيكفي الله أولياءه سوءَ شره، والله غالب على أمره.
قال القشيري : فللقلوب صبغة، وللأرواح صبغة، وللسرائر صبغة، وللظواهر صبغة، فصبغة الأشباح والظواهر بآثار التوفيق، وصبغة الأرواح والسرائر بأنوار التحقيق. هـ. وقال الورتجبي : صبغة الله : صفته الخاصة التي خلق آدم عليها، وأورثت ذلك في أرواح ذريته من الأنبياء والأولياء. ثم قال : وسقاها من شراب الزلفة، وألهمها خصائص علوم الربوبية، فاستنارت بنور المعرفة، وخاضت في بحر الربوبية، وخرجت منها تجليات أسرار الوحدانية، وتكوّنت بصبغ الصفات. هـ. وبالله التوفيق.

و﴿ صبغة الله ﴾ : مصدر مؤكد لآمنا ؛ لأن الإيمان ينصبغ في القلوب، ويظهر أثره على الجوارح ظهور الصبغ على المصبوغ، ويتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ للثوب. أي : آمنا وصبغنا الله به صبغة.
وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، وعبَّر عنها بالصبغ للمشاكلة ؛ فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون : هو تطهير لهم، وبه تحق نصرانيتهم، فردَّ الله تعالى عليهم بأن صبغة، الله أحسن من صبغتهم وقيل : نصب على البدل من ﴿ ملة إبراهيم ﴾، أو على الإغراء، أي : الزموا صبغة الله.
﴿ صبغة الله ﴾ التي صُبغتم بها، هي الإيمان بما ذكرت لكم ؛ فإنه لا أحسن صبغة من صبغة الله، ﴿ و ﴾ قولوا :﴿ نحن له عابدون ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما أوجب الله تعالى الإيمان بجميع الرسل في طريق العموم، كذلك أوجب الله التصديق بكل من ثبتت ولايته في طريق الخصوص، فمن فرق بينهم فقد كفر بطريقهم، ومن كفر بطريقهم طُرد عن بابهم، ومن طرد عن بابهم طرد عن باب الله، لأن إسقاطه من الولاية إيذاء له، ومن آذى ولياً فقد آذن الله بالحرب، فالواجب، على مَن أراد أن يرد مناهلهم، أن يصدق بجميعهم، ويعظم من انتسب إليهم، حتى تتصبغ في قلبه حلاوة الإيمان، وتشرق عليه شموس العرفان، فمن فعل هذا فقد اهتدى إلى الحق والصواب، واستحق الدخول مع الأحباب، ومن أعرض عن هذا فإنما هو في شقاق، وربما يخاف عليه من شؤم الكفر والنفاق، فسيكفي الله أولياءه سوءَ شره، والله غالب على أمره.
قال القشيري : فللقلوب صبغة، وللأرواح صبغة، وللسرائر صبغة، وللظواهر صبغة، فصبغة الأشباح والظواهر بآثار التوفيق، وصبغة الأرواح والسرائر بأنوار التحقيق. هـ. وقال الورتجبي : صبغة الله : صفته الخاصة التي خلق آدم عليها، وأورثت ذلك في أرواح ذريته من الأنبياء والأولياء. ثم قال : وسقاها من شراب الزلفة، وألهمها خصائص علوم الربوبية، فاستنارت بنور المعرفة، وخاضت في بحر الربوبية، وخرجت منها تجليات أسرار الوحدانية، وتكوّنت بصبغ الصفات. هـ. وبالله التوفيق.

ولما ادعت اليهود والنصارى أنهم أولى الناس بالله من غيرهم لتقدم دينهم، رد الله عليهم ووبخهم فقال :﴿ قل أتحاجوننا. . . . ﴾ الآية. وقيل إن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : الأنبياء كلهم منا، فلو كنت نبيا لكنت منا، فرد الله عليهم بقوله :﴿ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾ * ﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ * ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ يا محمد لأهل الكتاب : أتخاصموننا ﴿ في الله ﴾ وتقولون : أنتم أولى به منا ﴿ وهو ربنا وربكم ﴾، لا يختص به واحد دون آخر، ﴿ ولنا أعمالنا ﴾ نتقرب بها إليه، ﴿ ولكم أعمالكم ﴾ تتقربون بها أيضاً، فكيف تختصون به دوننا ﴿ ونحن له مخلصون ﴾ في أعمالنا وقلوبنا دونكم فإنكم ؛ أشركتم به غيره.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من أقامه الحقّ في وجهه، ووجهه إليها، فهو عامل لله فيها، قائم بمراد الله منها، وما اختلفت الأعمال إلى من جهة المقاصد، وما تفاوت الناس إلى من جهة الإخلاص. فالخلق كلهم عبيد للملك المجيد، وما وقع الاختصاص إلا من جهة الإخلاص. فمن كان أكثر إخلاصاً لله كان أولى من غيره بالله، وبقدر ما يقع للعبد من الصفاء يكون له من الاصطفاء، فالصوفية والعلماء والعباد والزهاد وأهل الأسباب على اختلاف أنواعهم كلهم عاملون لله، ليس أحد منهم بأولى من غيره بالله إلا من جهة الإخلاص وإفراد القلب لله، فمن ادعى الاختصاص بالله من غير هذه الوجهة فهو كاذب، ومن اعتمد على عمل غيره فهو مغرور، يقال له :﴿ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾.
قلت : الذي يظهر أن ﴿ أم ﴾ منقطعة، بمعنى بل، على قراءة الخطاب والغيبة ؛ لأن المقصود إنكار وقوع الأمرين معاً، لا أحدهما.
فإن قلتم : إن الأنبياء كلهم منكم وعلى ملتكم فقد كذبتم، أتقولون ﴿ إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ﴾ وأولاده ﴿ الأسباط كانوا هوداً ﴾ على دينكم يا معشر اليهود، ﴿ أو نصارى ﴾ على ملتكم يا معشر النصارى.
﴿ قل ﴾ لهم يا محمد :﴿ أأنتم أعلم أم الله ﴾ وقد نفى الأمرين معاً عن إبراهيم فقال :﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِمَاً ﴾ [ آل عِمران : ٦٧ ]، وقال :﴿ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ ﴾ [ آل عِمرَان : ٦٥ ]، وهؤلاء المعطوفون عليه : أتباعه في الدين، فليسوا يهوداً ولا نصارى، فكيف تدعون أنهم كلهم منكم، وعلى دينكم، وأنتم تشهدون أنهم لم يكونوا على دينكم ؟ ﴿ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ﴾، وهي شهادة الحق لإبراهيم بالحنيفية، والبراءة من اليهودية والنصرانية، أي : لا أحد أظلم منه، وليس الله تعالى ﴿ بغافل عما تعملون ﴾، بل يجازيكم على النقير والقطمير، فإن اعتمدتم على نسبكم إليهم فقد اغتررتم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من أقامه الحقّ في وجهه، ووجهه إليها، فهو عامل لله فيها، قائم بمراد الله منها، وما اختلفت الأعمال إلى من جهة المقاصد، وما تفاوت الناس إلى من جهة الإخلاص. فالخلق كلهم عبيد للملك المجيد، وما وقع الاختصاص إلا من جهة الإخلاص. فمن كان أكثر إخلاصاً لله كان أولى من غيره بالله، وبقدر ما يقع للعبد من الصفاء يكون له من الاصطفاء، فالصوفية والعلماء والعباد والزهاد وأهل الأسباب على اختلاف أنواعهم كلهم عاملون لله، ليس أحد منهم بأولى من غيره بالله إلا من جهة الإخلاص وإفراد القلب لله، فمن ادعى الاختصاص بالله من غير هذه الوجهة فهو كاذب، ومن اعتمد على عمل غيره فهو مغرور، يقال له :﴿ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾.
﴿ تلك أمة ﴾ قد مضت، ﴿ لها ما كسبت ﴾ لا ينتفع به غيرها، ﴿ ولكم ما كسبتم ﴾ لا ينفعكم غيره، ولا تسألون عن عملهم كما لا يسألون عن أعمالكم، قال البيضاوي : كرره للمبالغة في التحذير، والزجر عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء، والاتكال عليهم، وقيل : الخطاب فيما سبق لهم، وفي هذه الآية لنا، تحذيراً عن الاقتداء بهم، وقيل : المراد بالأمة في الأولى الأنبياء، وفي الثانية أسلاف اليهود والنصارى. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من أقامه الحقّ في وجهه، ووجهه إليها، فهو عامل لله فيها، قائم بمراد الله منها، وما اختلفت الأعمال إلى من جهة المقاصد، وما تفاوت الناس إلى من جهة الإخلاص. فالخلق كلهم عبيد للملك المجيد، وما وقع الاختصاص إلا من جهة الإخلاص. فمن كان أكثر إخلاصاً لله كان أولى من غيره بالله، وبقدر ما يقع للعبد من الصفاء يكون له من الاصطفاء، فالصوفية والعلماء والعباد والزهاد وأهل الأسباب على اختلاف أنواعهم كلهم عاملون لله، ليس أحد منهم بأولى من غيره بالله إلا من جهة الإخلاص وإفراد القلب لله، فمن ادعى الاختصاص بالله من غير هذه الوجهة فهو كاذب، ومن اعتمد على عمل غيره فهو مغرور، يقال له :﴿ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾.
ولمّا أراد الله تعالى أن ينسخ القبلة من جهة الشام ويردها إلى الكعبة، أخبر أنه سينكرها قومٌ خَفَّتْ أحلامُهم، وفسدت بالتقليد الردي عقولُهم، وهم أحبار اليهود والمنافقون والمشركون، فقال :
﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ سيقول السفهاء من الناس ﴾ الذين لا عقل لهم ولا دين، حين تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة : ما صرفهم ﴿ عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾، فلو دام عليها لاتبعناه. ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد :﴿ لله المشرق والمغرب ﴾ لا يختص ملكه بمكان دون مكان بخاصية ذاتيه تمنع من إقامة غيره مقامه، بل الأماكن عند الله سواء : والخلق في حقه سواء، ﴿ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾، ويضل مَن يشاء عن المنهاج القويم ﴿ لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ﴾ [ الأنبيَاء : ٢٣ ]، والصراط المستقيم : ما ترتضيه الحكمة وتقتضيه المصلحة من التوجه إلى بيت المقدس تارة، والكعبة أخرى، وفائدة تقديم الإخبار به : توطين النفس وإعداد الجواب. قاله البيضاوي.
قال بعض العارفين :( لي أربعون سنة ما أقامني الحق في شيء فكرهته، ولا نقلني إلى غيره فسخطته ). بخلاف السفهاء من الجهال، فشأنهم الإنكار عند اختلاف الأحوال، فمن رأوه تجرد عن الأسباب وانقطع إلى الكريم الوهاب، قالوا : ما ولاَّه عن حاله الذي كان عليه ؟ وأكثروا من الاعتراض والانتقاد عليه، وكذلك من رأوه رجع إلى الأسباب بعد الكمال، قالوا : قد انحط عن مراتب الرجال. وهو إنما زاد في مراتب الكمال. فالملك كله لله، يهدي مَن يشاء إلى الصراط مستقيم، ويضلّ مَن يشاء بعدله الحكيم.
ثم شهد الحق تعالى لهذه الأمة بالعدالة والفضل، فقال :
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. . . ﴾
قلت :﴿ الوسط ﴾ هو العدل الخيّر الفاضل، وهو في الأصل اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب، ثم استعير للخصال المحمودة ؛ لوقعوها بين طرفي إفراط وتفريط، كالجود بين الإسراف والبخل، والشجاعة بين التهور والجبن، ثم أطلق على المتصف بها مستوياً فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث. قاله البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله : وكما جعلناكم مهتدين إلى الصراط المستقيم، وجعلنا قبلتكم أفضل الجهات، جعلناكم أمة أفضل الأمم، خياراً عدولاً مزكَّين بالعلم والعمل، لتصلحوا للشهادة على غيركم، فتكونوا يوم القيامة ﴿ شهداء على الناس ﴾، ويزكيكم نبيكم فيشهد بعدالتكم.
قال البيضاوي : رُوِيَ ( أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيُطالبُهم الله ببينة التبليغ وهو أعلم بهم، إقامة للحجة على المنكرين، فيُؤتَى بأُمة مُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم فيشهدُون، فتقُول الأمم : مِنْ أَيْنَ عرفتُمْ ؟ فيقولُون : عَلِمْنَا ذلك بإخْبَار الله في كِتَابِهِ النَّاطِقِ عَلَى لسانِ نبيه الصَّادِقِ. فيُؤتى بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيُسألُ عن حَالِ أُمته فَيشْهَدُ بعَدَالتِهمْ ).
وهذه الشهادة، وإن كانت لهم، لكن لمّا كان الرسول كالرقيب المهيمن على أمته عُدّيِ بِعَلَى، وقُدِّمت الصلة للدلالة على اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم. ه.
الإشارة : التفاضل بين الرجال إنما يكون بالعلم والحال، فمن قَويَ علْمُه بالله كان أعظم قدراً عند الله، والعلم الذي به الشرف عند الله هو العلم بذات الله وبصفاته وأسمائه، وكذا العلم بأحكام الله إذا حصل معه العلم بالله، فكلما انكشف الحجاب عن القلب كان أقرب إلى الرب، وانكشاف الحجاب يكون على قدر التخلية والتحلية، فبقدر ما يتخلّى القلب عن الرذائل، ويبعد عن القواطع والشواغل، ويتحلّى بأنواع الفضائل، ينكشف عنه الحجاب ويدخل مع الأحباب، وبقدر ما يتراكم على القلب من الخواطر والشواغل، ويدخل عليه من المساوئ والرذائل، يقع البعد عن الله، ويطرد العبد عن باب الله، فلا يدل على كمال العبد كثرة الأعمال، وإنما يدل على كماله علو الهمة والحال، وعلو الهمة على قدر اليقين، وقدر اليقين على قدر المعرفة، والمعرفة على قدر التوجه والتصفية، والتوجه تابع للقسمة الأزلية. وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء.
ثم إن العلماء بأحكام الله إذا لم يحصل لهم الكشف عن ذات الله يكونون حجة على عباد الله. والعلماء بالله الذين حصل لهم الكشف عن ذات الله حتى حصل لهم الشهود والعيان يكونون حجة على العلماء بأحكام الله. فكما أن الأمة المحمدية تشهد على الناس، والرسول يشهد عليهم ويزكيهم، فكذلك العلماء يشهدون على الناس، والأولياء يشهدون على العلماء، فيزكون من يستحق التزكية، ويردون مَن لا يستحقها ؛ لأن العارفين بالله عالمون بمقامات العلماء أهل الظاهر، لا يخفى عليهم شيء من أحوالهم ومقاماتهم، بخلاف العلماء، لا يعرفون مقامات الأولياء، ولا يشمون لها رائحة، كما قال القائل :
تركنا البُحُورَ الزاخِراتِ ورَاءنَا فَمِنْ أينَ يَدْرِي الناسُ أينَ توجَّهْنَا
قال القشيري :( جعل هذه الأمة خيار الأمم، وجعل هذه الطائفة خيار هذه الأمة فهم خيار الخيار. وكما أن هذه الأمة شهداء على الأمم في القيامة ؛ فهذه الطائفة هم المدار وهم القطب وبهم يحفظ الله جميع الأمة. وكل مَن قبلته قلوبهم فهو المقبول، ومن ردَّته قلوبهم فهو المردود. فالحكم الصادق لفراستهم، والصحيح حكمهم، والصائب نظرهم، عصم جميع الأمة من الاجتماع على الخطأ، وعصم هذه الطائفة من الخطأ في النظر والحكم والقبول والرد، ثم إن بناء أمرهم مستند إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل مَن لا يكون له اقتداء بالرسول فهو عندهم مردود، وصاحبه كلا شيء ). وبالله التوفيق.
ثم ذكر الحق تعالى حكمة نسخ القبلة، فقال :
﴿. . . وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١٤٣ ) ﴾
قلت :﴿ جعل ﴾ تصييرية، و﴿ القبلة ﴾ مفعول أول، و﴿ التي ﴾ صفة للمفعول الثاني المحذوف، أي : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها وهي بيت المقدس، ثم وجهناك إلى الكعبة إلا لنعلم الثابت على الإيمان من غيره، أو : وما صيّرنا القبلة الجهة التي كنت عليها بمكة وهي الكعبة، فإنه كان - عليه الصلاة والسلام - يصلي إليها بمكة.
وقيل : كان يستقبل بيت المقدس ويجعل الكعبة بينه وبينها، كما قال ابن عباس، و﴿ إن ﴾ مخففة، واللام فارقة. أي : وإنه، أي : الأمر والشأن : كانت التحويلة لشاقة على الناس، والرأفة : شدة العطف، فهي أبلغ من الرحمة. والله تعالى أعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : وما نسخنا حكم القبلة وجعلناها الجهة التي كنت عليها بمكة دون التي كانت بالمدينة، وهي بيت المقدس، ﴿ إلا لنعلم ﴾ علم ظهور وشهادة ﴿ من يتبع الرسول ﴾ في التحويل إليها ﴿ ممن ينقلب على عقبيه ﴾ لضعف إيمانه وقلة إيقانه، فإن التحويلة عن القبلة الأولى والرجوع عنها إلى الثانية شاق على النفوس، إلا من سبقت له الهداية وحفت به الرعاية، فإنه يدور مع مراد الله أينما دار، ويتبع رسوله أينما سار. ومن مات قبل التحويل إلى الكعبة فإن الله لا يضيع أجر عمله ﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم ﴾ أي : صلاتكم إلى بيت المقدس ؛ ﴿ إن الله بالناس لروؤف رحيم ﴾.
الإشارة : الخروج عن العادات وترك الأمور المألوفات كلاهما شاق على النفوس، إلا على الذين هدى الله، ولذلك كان خرق الوائد هو الفصل بين الخصوص والعموم، ومفتاح لمخازن العلوم والفهوم. فمن لم يخرق عوائد نفسه فلا يطمع أن يدخل حضرة قدسه. " كيف يخرق لك العوائد وأنت لم تخرق من نفسك العوائد ". وهو الميدان الذي تحقق به سير السائرين. " لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين ". وهو عند شيوخ التربية ميزان يتميز به من يتبع الرسول ويلزم طريقه إلى الوصول، ممن ينقلب على عقبيه، فمن رأوه خرق عوائد نفسه، زهد في ملبسه وجنسه، تحققوا بدخوله حضرة قدسه، إلا مَن سبق له الحرمان والعياذ بالله من الخذلان، ومن رأوه وقف مع العادات، وركن إلى المألوفات، ومال إلى الرُّخَص والتأويلات، علموا أن مقامه مقام أهل الحجاب، يأخذ أجره من وراء الباب، ولا نصيب له في الدخول مع الأحباب.
وأيضاً عند تخالف الآثار وتنقلات الأطوار، يظهر الإقرار من الإنكار. أهلُ الإقرار عارفون في كل حال، يدورون مع رياح الأقدار حيث سارت، ويسيرون معها حيث سارت، وأهل الإنكار جاهلون بالله في كل حال، معترضون عليه عند اختلاف الأحوال، نعوذ بالله من الضلال.
ثم ذكر الحق تعالى كيفية ابتداء نسخ القبلة، فقال :
﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾
قلت : التقلب : التردد، وولَّيْت كذا : جعلته والياً له، والشَّطْر هنا : الجهة.
يقول الحقّ جلّ جلاله لنبيه - عليه الصلاة والسلام - حين تمنى أن يُحَول إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم وأدْعى إلى إسلام العرب، وهي أقدم القبلتين، فكان ينظر إلى السماء، ويقلب وجهه فيها انتظاراً لنزول الوحْي، وهذا من كمال أدبه - عليه الصلاة والسلام - حيث انتظر ولم يطلب، فقال له الحق تعالى :﴿ قد نرى ﴾ أي : ربما نرى تردد ﴿ وجهك في السماء ﴾ انتظاراً للوحي، فلنعطينك ما تمنيت، ونوجهك إلى قبلة ﴿ ترضاها ﴾ وتحبها لمقاصد دينية وافقت المشيئة، واقتضتها الحكمة، ﴿ فولِّ وجهك ﴾ أي : اجعله موالياً ﴿ شطر ﴾ أي : جهة ﴿ المسجد الحرام وحيثما كنتم ﴾ أيها المؤمنون أي في أي مكان كنتم ﴿ فولوا وجوهكم شطره ﴾ جهته.
وإنما ذكر الحق تعالى شطر المسجد، أي : جهته، دون عين الكعبة، لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان في المدينة، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإن استقبال عينها حَرجٌ عليه، بخلاف القريب، فإنه يسهل عليه مسامته العين١، وقيل : إن جبريل - عليه السلام - عيّنها له بالوحي فسميت قبلة وحْي.
رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم وُجِّه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين، وقد صلّى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر، فتحوّل في الصلاة، واستقبل الميزاب، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم، فسُمي مسجد القبلتين. قاله البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإن الذين أوتوا الكتاب ﴾ من أحبار اليهود ﴿ ليعلمون ﴾ أن التحول إلى الكعبة حق ﴿ من ربهم ﴾ لِمَا يجدون في كتابهم أنه يصلي إلى القبلتين، وأن عادته تعالى تخصيص كل أمة بشريعة، ﴿ وما الله بغافل عما يعملون ﴾ من التعنت والعناد، وإنما يمهلهم ليوم المعاد.
الإشارة : في الآية إشارة إلى أن ترك التصريح من كمال الأدب، وفي الحكم :" ربما دلّهم الأدب على ترك الطلب، كيف يكون دعاؤك اللاحق سبباً في قضائه السابق ؟ ! جلّ حكم الأزل أن يضاف إلى العلل ". فإذا تمنيت شيئاً وتوقفت على أمر فاصبر وتأدب واقتد بنبيك - عليه الصلاة والسلام - حتى يعطيك ما ترضى، أو يعوضك منها مقام الرضا. وفي المسألة كلام، والتحقيق أن ينظر إلى ما ينشرح به صدره في الوقت، فإن انشرح للدعاء دعا، وإن انقبض عن الدعاء سكت. والله يرزق من يشاء بغير حساب ولا علّة ولا أسباب.
وإن شئت قلت : قد نرى فكرتك أيها العارف في سماء المعاني، غائباً في شهود الأواني، فلنولينك قبلة ترضاها، وتتلذذ بشهود جمالها وسناها، وهي الحضرة المطهرة التي هي صلاة القلوب، فولّ وجهك ووجهتك إلى تلك الحضرة، وحيثما كنت فولّ وجهك شطره، ودم على صلاة الفكرة والنظرة، فهي صلاة العارفين، ومنتهى أمل القاصدين، وبالله التوفيق.
١ مسامتة العين: أي مقابلة العين، وسامته قابله ووازاه وواجهه..
ولمّا تحوّلت القبلة إلى الكعبة غضبت اليهود، حيث ترك قبلتهم، مكابرة وعناداً، وقالوا : لو بقي على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبيّ المبعوث في آخر الزمان فنتبعه، فردَّ الله عليهم وكذبهم فقال :
﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾
قلت :﴿ ولئن ﴾ اللام موطِّئة للقسم، و﴿ إن ﴾ شريطة، و﴿ أتيت ﴾ فعل اشرط، و﴿ ما تبعوا ﴾ جواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط. قال في الألفية :
واحذِف لَدَى اجتماع شرطٍ وقسمْ جوابَ ما أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ
والله لئن أتيتهم بكل حجة وبرهان على صحة التوجه إلى الكعبة ﴿ ما تبعوا قبلتك ﴾ ؛ لأنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تُزيلُها الحجة، وإنما خالفوك مكابرة وعناداً. وقد طمعوا أن ترجع إلى قبلتهم، ولست ﴿ بتابع قبلتهم ﴾ أبداً، بل لهم قبلتهم ؛ صخرة بيت المقدس، وللنصارى قبلتهم ؛ مطلع الشمس، وليس بعضهم ﴿ بتابع قبلة بعض ﴾ ؛ لتصلب كل حزب بما هو فيه، وإن كان على خطأ وفساد ؛ لأن مفارقة العوائد هنا صعب على النفوس إلا من سبقت له العناية.
﴿ ولئن اتبعت أهواءهم ﴾ الباطلة وإراءهم الزائفة فَرْضاً وتقديراً ﴿ من بعد ما جاءك من العلم ﴾ الواضح والوحي الصحيح ﴿ إنك إذاً لمن الظالمين ﴾، لكنك معصوم، فلا يتصور اتباعك لهم أبداً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مما جرت به سُنة الله تعالى في خلقه أن أهل الحقيقة منكورون عند أهل الشريعة، أو تقول : علماء الباطن منكورون عند علماء الظاهر، يقابلونهم بالإذاية والإنكار، مع أنه يعلمون أن الحقيقة حق من ربهم، وأن علم الباطن حق لقوله - عليه الصلاة والسلام - :" إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا سمعه أهل الغرة بالله أنكروه عليهم١ ". أو كما قال - عليه الصلاة والسلام-، وقال صلى الله عليه وسلم :" لِكلِّ آيةٍ ظَاهرٌ وبَاطِنٌ وحَدٍّ ومَطْلَع ".
﴿ وما الله بغافل عما يعلمون ﴾ فجزاؤهم الحرمان عن لذة الشهود والعيان، فيقال لأهل الباطل : ولئن أتيتهم بكل آية وبرهان ما تبعوا وجهتك التي توجهت إليها ؛ لأنها مَنُوطة بموت النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس، وخرق العوائد لاكتساب الفوائد، ومفارقة الأوطان والغيبة عن الأهل والولدان، وما أنت أيها المريد بتابع وجهتهم التي توجهوا إليها، ولئن اتبعت أهواءهم من بعدما ظهر لك من علم التحقيق : إنك إذاً لمن الظالمين لنفوسهم.
الذين آتيناهم الكتاب من علماء الشريعة يعرفون علم الحقيقة، كما يعرفون أبناءهم، أي : يقرون به في الجملة وينكرون وجود أهله مخصوصين، وقد يتحققون به ويكتمون الحق حسداً، وهم يعلمون وجود خصوصيته، فيقال للعارف : هذا الذي أنت عليه من سلوك جادة الطريقة، وعلم التحقيق، هو الحق من ربك فلا تكونن من الممترين أنك على الحق المبين.

﴿ الذين آتيناهم الكتاب ﴾ أي : اليهود ﴿ يعرفونه ﴾ أي : الرسول - عليه الصلاة والسلام - وإن لم يتقدم ذكره لدلالة الكلام عليه أو القرآن أو التحويل، ﴿ كما يعرفون أبناءهم ﴾ لا يشكُّون في صحة رسالته كما لا يشكون في معرفة أبنائهم. وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( أنا أعلَمُ بِه مِنِّي بِابني، قال له : ولِمَ ؟ قال : لأنِّي لستُ أشُكُّ في محمدٍ أنه نبيُّ الله. وأمَا ولَدِي فلعلَّ والدتَهُ قدْ خَانَتْ ).
وبعد حصول هذه المعرفة لهم جحدوه وكتموا صفته، إلا من عصمة الله بالإيمان كعبد الله بن سلام وأصحابه - فقد كتم فريق منهم الحق وهم أحبارهم، وهم يعلمون أنه حق حسداً وعناداً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مما جرت به سُنة الله تعالى في خلقه أن أهل الحقيقة منكورون عند أهل الشريعة، أو تقول : علماء الباطن منكورون عند علماء الظاهر، يقابلونهم بالإذاية والإنكار، مع أنه يعلمون أن الحقيقة حق من ربهم، وأن علم الباطن حق لقوله - عليه الصلاة والسلام - :" إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا سمعه أهل الغرة بالله أنكروه عليهم١ ". أو كما قال - عليه الصلاة والسلام-، وقال صلى الله عليه وسلم :" لِكلِّ آيةٍ ظَاهرٌ وبَاطِنٌ وحَدٍّ ومَطْلَع ".
﴿ وما الله بغافل عما يعلمون ﴾ فجزاؤهم الحرمان عن لذة الشهود والعيان، فيقال لأهل الباطل : ولئن أتيتهم بكل آية وبرهان ما تبعوا وجهتك التي توجهت إليها ؛ لأنها مَنُوطة بموت النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس، وخرق العوائد لاكتساب الفوائد، ومفارقة الأوطان والغيبة عن الأهل والولدان، وما أنت أيها المريد بتابع وجهتهم التي توجهوا إليها، ولئن اتبعت أهواءهم من بعدما ظهر لك من علم التحقيق : إنك إذاً لمن الظالمين لنفوسهم.
الذين آتيناهم الكتاب من علماء الشريعة يعرفون علم الحقيقة، كما يعرفون أبناءهم، أي : يقرون به في الجملة وينكرون وجود أهله مخصوصين، وقد يتحققون به ويكتمون الحق حسداً، وهم يعلمون وجود خصوصيته، فيقال للعارف : هذا الذي أنت عليه من سلوك جادة الطريقة، وعلم التحقيق، هو الحق من ربك فلا تكونن من الممترين أنك على الحق المبين.

هذا الذي أنت عليه يا محمد هو ﴿ الحق من رَبِّك فلا تكونن من الممترين ﴾ أي : من الشاكين في أنه الحق، أو في كتمانهم الحق عالمين به. والخطاب مصروف للسامعين لا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه غير متوقع منه، وإنما المراد تحقيق الأمر، وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر، أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ قاله البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مما جرت به سُنة الله تعالى في خلقه أن أهل الحقيقة منكورون عند أهل الشريعة، أو تقول : علماء الباطن منكورون عند علماء الظاهر، يقابلونهم بالإذاية والإنكار، مع أنه يعلمون أن الحقيقة حق من ربهم، وأن علم الباطن حق لقوله - عليه الصلاة والسلام - :" إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا سمعه أهل الغرة بالله أنكروه عليهم١ ". أو كما قال - عليه الصلاة والسلام-، وقال صلى الله عليه وسلم :" لِكلِّ آيةٍ ظَاهرٌ وبَاطِنٌ وحَدٍّ ومَطْلَع ".
﴿ وما الله بغافل عما يعلمون ﴾ فجزاؤهم الحرمان عن لذة الشهود والعيان، فيقال لأهل الباطل : ولئن أتيتهم بكل آية وبرهان ما تبعوا وجهتك التي توجهت إليها ؛ لأنها مَنُوطة بموت النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس، وخرق العوائد لاكتساب الفوائد، ومفارقة الأوطان والغيبة عن الأهل والولدان، وما أنت أيها المريد بتابع وجهتهم التي توجهوا إليها، ولئن اتبعت أهواءهم من بعدما ظهر لك من علم التحقيق : إنك إذاً لمن الظالمين لنفوسهم.
الذين آتيناهم الكتاب من علماء الشريعة يعرفون علم الحقيقة، كما يعرفون أبناءهم، أي : يقرون به في الجملة وينكرون وجود أهله مخصوصين، وقد يتحققون به ويكتمون الحق حسداً، وهم يعلمون وجود خصوصيته، فيقال للعارف : هذا الذي أنت عليه من سلوك جادة الطريقة، وعلم التحقيق، هو الحق من ربك فلا تكونن من الممترين أنك على الحق المبين.

ثم بين الحق تعالى قبلة من بعد عن مكة، فقال :
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ * ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ * ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. . . ﴾
قلت : التنوين ﴿ لكل ﴾ تنوين العوض، أي ولكل أمة قبلة، أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة، و﴿ وجهة ﴾ مبتدأ، والخبر : المجرور قبله. و﴿ هو ﴾ مبتدأ، و﴿ موليها ﴾ خبر مقصور، و( ولّى ) يتعدى إلى مفعولين، وهو هنا محذوف، أي : موليها وجهه إن كان الضمير يعود على المضاف المحذوف، ويحتمل أن يعود على الله تعالى، أي : الله تعالى موليها إياه، أي : يجعلها موالية له إن استقبل جهتها.
وقرأ ابن عامر :﴿ هو مُوَلاَّها ﴾ بالبناء للمفعول، فالنائب ضمير يعود على ﴿ هو ﴾، وهو المفعول الأول، والثاني : المضاف إليه تخفيفاً، وأصله : مُلي إياها، أي مصروفاً إليها.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولكل فريق من المسلمين جهة من الكعبة يستقبلها ويوليها وجهه، أينما كان وحيثما حل، فأكثروا من الصلوات، واستقبلوا الخيرات قبل هجوم هادم اللذات، ﴿ أينما تكونوا ﴾ في مشارق الأرض ومغاربها، يأتكم الممات، ويأت بكم إلى المحشر حُفاة عراة، ولا ينفعكم حينئذٍ إلا صالح عمل قدمتوه، أو فعل خير أسلفتموه، ﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾، فلا يعجزه بعث العباد، ولا جمعهم من أعماق الأرض وأقطار البلاد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من حكمة المدبر الحكيم أن دبر ملكه العظيم، ووجه كل فرقة بوجهة من مصالح عباده، أفناه فيها وولاه إياها. فقوم اختصهم لمحبته واصطفاهم لحضرته ؛ وهم العارفون، وقوم أقامهم لخدمته وأفناهم في عبادته ؛ وهم العباد والزهاد، وقوم أقامهم لحمل شريعته وتمهيد دينه ؛ وهم العلماء العاملون، وقم أقامهم لحفظ كتابه رسماً وتلاوة وتفهماً ؛ وهم القرّاء والمفسرون، قال تعالى :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ الحِجر : ٩ ]، وقوم أقامهم لتسكين الفتن ودفع المظالم والمحن ؛ وهم الحكام ومَن يستعان بهم في تلك الوجهة، وقوم أقامهم لحفظ نظام الحكمة ؛ وهم القائمون بالأسباب الشرعية على اختلاف أنواعها وتعدد فروعها، وقوم أعدهم لظهور حلمه وعفوه فيهم ؛ وهم أهل المعاصي والذنوب، وقوم أعدهم للانتقام وظهور اسمه القهار ؛ وهم أنواع الكفار.
فكل وجهة من هؤلاء توجهت لحق شرعي أقامتها القدرة فيه، وحَكم بها القضاء والقدر، إلا أن القسمين الأخيرين لا تقررهما الشريعة. فلو حسنت المقاصد لكان الكل عُمالاً لله، فيقال لهم :﴿ استبقوا الخيرات ﴾ بتحسين المقاصد والنيات، وبادروا إلى الطاعات قبل هجوم هادم اللذات، أينما تكونوا يجمعكم للحساب، وتُعاينوا جزاء ما أسلفتم من عذاب أو ثواب، ومن حيث خرجت أيها العارف فولِّ جهتك وكليتك لمسجد الحضرة باستعمال الفكرة والنظرة، فإنها حق وما سواها باطل، كما قال الشاعر١ :
ألا كُلُّ شيء مَا خَلاَ اللّهَ باطلُ وكُلُّ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زائلُ
وحيثما كنتم أيها العارفون فولّوا وجوهكم إلى قبلة تلك الحضرة، واعبدوا ربكم بعبادة الفكرة، فإنها صلاة القلوب، ومفتاح ميادين الغيوب، وفي ذلك يقول القائل :
يَا قِبْلَتِي في صَلاَتِي إذَا وقَفْتُ أصَلِّي
جَمَالُكم نُصْبَ عَيْنِي إليهِ وَجَّهْتُ كُلِّي
فإذا تحققتم بهذه الحضرة، وتحصنتم بحصن الشهود والنظرة، انقطع عنكم حجج خصيم النفس والجنس، وتنزهتم في رياض القرب والأنس، إلا الخواطر التي تحوم على القلوب، فلا تقدح في مشاهدة الغيوب، فلا تخافوا غيري، ولا تتوجه همتكم إلا لإحساني وبرَّي ؛ فإني أتم عليكم نعمتي، وأرشدكم إلى كمال معرفتي، وأتحفكم بنصري ومعونتي.

وإذا علمت أن لكل قوم جهة يستقبلونها، فمن ﴿ حيث خرجت ﴾ وفي أي مكان حللت ﴿ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام ﴾، والله ﴿ إنه للحق من ربك ﴾ فبادر إلى امتثاله، ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ من خير أو شر، فيجازي كل واحد على ما أسلف.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من حكمة المدبر الحكيم أن دبر ملكه العظيم، ووجه كل فرقة بوجهة من مصالح عباده، أفناه فيها وولاه إياها. فقوم اختصهم لمحبته واصطفاهم لحضرته ؛ وهم العارفون، وقوم أقامهم لخدمته وأفناهم في عبادته ؛ وهم العباد والزهاد، وقوم أقامهم لحمل شريعته وتمهيد دينه ؛ وهم العلماء العاملون، وقم أقامهم لحفظ كتابه رسماً وتلاوة وتفهماً ؛ وهم القرّاء والمفسرون، قال تعالى :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ الحِجر : ٩ ]، وقوم أقامهم لتسكين الفتن ودفع المظالم والمحن ؛ وهم الحكام ومَن يستعان بهم في تلك الوجهة، وقوم أقامهم لحفظ نظام الحكمة ؛ وهم القائمون بالأسباب الشرعية على اختلاف أنواعها وتعدد فروعها، وقوم أعدهم لظهور حلمه وعفوه فيهم ؛ وهم أهل المعاصي والذنوب، وقوم أعدهم للانتقام وظهور اسمه القهار ؛ وهم أنواع الكفار.
فكل وجهة من هؤلاء توجهت لحق شرعي أقامتها القدرة فيه، وحَكم بها القضاء والقدر، إلا أن القسمين الأخيرين لا تقررهما الشريعة. فلو حسنت المقاصد لكان الكل عُمالاً لله، فيقال لهم :﴿ استبقوا الخيرات ﴾ بتحسين المقاصد والنيات، وبادروا إلى الطاعات قبل هجوم هادم اللذات، أينما تكونوا يجمعكم للحساب، وتُعاينوا جزاء ما أسلفتم من عذاب أو ثواب، ومن حيث خرجت أيها العارف فولِّ جهتك وكليتك لمسجد الحضرة باستعمال الفكرة والنظرة، فإنها حق وما سواها باطل، كما قال الشاعر١ :
ألا كُلُّ شيء مَا خَلاَ اللّهَ باطلُ وكُلُّ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زائلُ
وحيثما كنتم أيها العارفون فولّوا وجوهكم إلى قبلة تلك الحضرة، واعبدوا ربكم بعبادة الفكرة، فإنها صلاة القلوب، ومفتاح ميادين الغيوب، وفي ذلك يقول القائل :
يَا قِبْلَتِي في صَلاَتِي إذَا وقَفْتُ أصَلِّي
جَمَالُكم نُصْبَ عَيْنِي إليهِ وَجَّهْتُ كُلِّي
فإذا تحققتم بهذه الحضرة، وتحصنتم بحصن الشهود والنظرة، انقطع عنكم حجج خصيم النفس والجنس، وتنزهتم في رياض القرب والأنس، إلا الخواطر التي تحوم على القلوب، فلا تقدح في مشاهدة الغيوب، فلا تخافوا غيري، ولا تتوجه همتكم إلا لإحساني وبرَّي ؛ فإني أتم عليكم نعمتي، وأرشدكم إلى كمال معرفتي، وأتحفكم بنصري ومعونتي.

ثم كرّر الحق تعالى الأمر بالتوجه إلى الكعبة لعلة أخرى سيذكرها، فقال :﴿ ومن حيث خرجت فوّل وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ وحيثما حللتم ﴿ فولّوا وجوهكم شطره ﴾. قال البيضاوي : كرر هذا الحكم لتعدد علله، فإنه تعالى ذكر للتحول ثلاث علل : تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بابتغاء مرضاته، وَجَرت العادة الإلهية على أن يُولِّي أهل كل ملة وصاحب دعوة وجهة يستقبلها ويتميز بها، ودفع حجج المخالفين على ما بينه، وقرن كل علة بمعلولها، مع أن القبلة لها شأن، والنسخ من مظان الفتنة والشبهة، فبالحَرِيِّ أن يُؤكد أمرها ويعاد ذكرها مرة بعد أخرى. ه.
ثم ذكر العلّة الثالثة وهي دفع الحجج المخالفين، فقال :
﴿. . . لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾
قلت : الاستثناء من ﴿ الناس ﴾ أي : لئلا يكون لأحد من الناس حجة عليكم إلا المعاندين منهم، و﴿ لأتم ﴾ متعلق بمحذوف، أي : ولإتمام نعمتي عليكم وإرادة اهتدائكم أمرتكم بالتحول، أو معطوف على محذوف ؛ أي : واخشوني لأحفظكم ولأتم نعمتي عليكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : وإنما أمرتكم بالتوجه إلى الكعبة دون الخصرة لتدفع حجج الناس، فإن اليهود ربما قالوا : المنعوت في التوراة قبلته الكعبة، وهذا يستقبل الصخرة، أو إن محمداً يخالف ديننا ويستقبل قبلتنا. والمشركون ربما قالوا : يدعي ملّة إبراهيم ويخالف قبلته، فأمرتكم باستقبال القبلة دفعاً لحجج الناس، إلا المعاندين منهم فلا ينقطع شغبهم، فإنهم يقولون : ما تحول إلى الكعبة إلا مَيلاً إلى دين قومه، وحبّاً لبلده، أو بَدَا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم.
فلا تخافوهم ولا تلتفتوا إلى مَطاعنهم، فإنها لا تضركم، ﴿ واخشوني ﴾ أكْفكم شرهم، فإن مَن خافني خاف منه كل شيء، ومَن لم يخشني خاف من كل شيء، وأمرتكم أيضاً بالتوجه إلى قبلة جدكم ﴿ لأتم نعمتي عليكم ﴾ بإقرار عين نبيكم، وإرادة اهتدائكم، فاشروا ما أوليتكم، واذكروا ما به أنعمت عليكم أزدكم من فضلي وإحساني، وأسبغ عليكم إنعامي وامتناني.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من حكمة المدبر الحكيم أن دبر ملكه العظيم، ووجه كل فرقة بوجهة من مصالح عباده، أفناه فيها وولاه إياها. فقوم اختصهم لمحبته واصطفاهم لحضرته ؛ وهم العارفون، وقوم أقامهم لخدمته وأفناهم في عبادته ؛ وهم العباد والزهاد، وقوم أقامهم لحمل شريعته وتمهيد دينه ؛ وهم العلماء العاملون، وقم أقامهم لحفظ كتابه رسماً وتلاوة وتفهماً ؛ وهم القرّاء والمفسرون، قال تعالى :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ الحِجر : ٩ ]، وقوم أقامهم لتسكين الفتن ودفع المظالم والمحن ؛ وهم الحكام ومَن يستعان بهم في تلك الوجهة، وقوم أقامهم لحفظ نظام الحكمة ؛ وهم القائمون بالأسباب الشرعية على اختلاف أنواعها وتعدد فروعها، وقوم أعدهم لظهور حلمه وعفوه فيهم ؛ وهم أهل المعاصي والذنوب، وقوم أعدهم للانتقام وظهور اسمه القهار ؛ وهم أنواع الكفار.
فكل وجهة من هؤلاء توجهت لحق شرعي أقامتها القدرة فيه، وحَكم بها القضاء والقدر، إلا أن القسمين الأخيرين لا تقررهما الشريعة. فلو حسنت المقاصد لكان الكل عُمالاً لله، فيقال لهم :﴿ استبقوا الخيرات ﴾ بتحسين المقاصد والنيات، وبادروا إلى الطاعات قبل هجوم هادم اللذات، أينما تكونوا يجمعكم للحساب، وتُعاينوا جزاء ما أسلفتم من عذاب أو ثواب، ومن حيث خرجت أيها العارف فولِّ جهتك وكليتك لمسجد الحضرة باستعمال الفكرة والنظرة، فإنها حق وما سواها باطل، كما قال الشاعر١ :
ألا كُلُّ شيء مَا خَلاَ اللّهَ باطلُ وكُلُّ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زائلُ
وحيثما كنتم أيها العارفون فولّوا وجوهكم إلى قبلة تلك الحضرة، واعبدوا ربكم بعبادة الفكرة، فإنها صلاة القلوب، ومفتاح ميادين الغيوب، وفي ذلك يقول القائل :
يَا قِبْلَتِي في صَلاَتِي إذَا وقَفْتُ أصَلِّي
جَمَالُكم نُصْبَ عَيْنِي إليهِ وَجَّهْتُ كُلِّي
فإذا تحققتم بهذه الحضرة، وتحصنتم بحصن الشهود والنظرة، انقطع عنكم حجج خصيم النفس والجنس، وتنزهتم في رياض القرب والأنس، إلا الخواطر التي تحوم على القلوب، فلا تقدح في مشاهدة الغيوب، فلا تخافوا غيري، ولا تتوجه همتكم إلا لإحساني وبرَّي ؛ فإني أتم عليكم نعمتي، وأرشدكم إلى كمال معرفتي، وأتحفكم بنصري ومعونتي.

ثم ذكر الحق تعالى نعمة الواسطة، فقال :
﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾
قلت :﴿ كما ﴾ متعلق بأتم، أي : ولأتم نعمتي عليكم في شأن القبلة كما أتممتها عليكم بإرسال الرسول. أو باذكروني، أي : كما ذكرناكم بالإرسال، فاذكروني بالمقال والحال. وقدم هنا التزكية على التعليم، باعتبار القصد ؛ لأن القصد من الإرسال والتعليم هو التطهير، وأخره في دعوة إبراهيم باعتبار الفعل، لأن الإرسال والتعليم مقدم على التطهير، وأعاد العامل في قوله :﴿ ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ﴾ إيذاناً بأنه جنس آخر شرفاً له.
يقول الحقّ جلّ جلاله : يا عبادي اذكروا برّي وإحساني، فقد أتممت عليكم نعمتي وآلائي بإسعافكم في تحويل القبلة، كما أتممتها عليكم بأعظم النعم وأجلها، وهو إرسال من يعلمكم ﴿ رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ﴾ الموصلة إلى حضرتنا، ويطهركم من المساوئ والعيوب، ﴿ ويعلمكم الكتاب ﴾ المشتمل على علم الغيوب ودواء القلوب، ويعلمكم ﴿ الحكمة ﴾ وهي الشريعة المطهرة والسنّة النبوية، ﴿ ويعلمكم ﴾ علوماً غيبية لم يكن لكم بها علم ولا معرفة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما أنعم الله على الأمة المحمدية بأن بعث فيهم رسولاً منهم يعلمهم الشريعة النبوية، ويطهرهم من شهود الغيرية، ويعلمهم العلوم اللدنية، كذلك منَّ الله تعالى على عباده من هذه الأمة في كل زمان، ببعث شيوخ التربية يطهرون الناس من العيوب، ويدخلونهم حضرة الغيوب، ويطلعونهم على شهود القدرة الأزلية والحكمة الإلهية، ويعلمهم من غرائب العلوم، ويفتح لهم مخازن الفهوم، فَيَطَّلعون على السر المصون، ويعلمون ما لم يكونوا يعلمون، فيقول لهم الحقّ جلّ جلاله : اذكروني بأرواحكم وأسراركم، أذكركم بالغيبة عن رؤية أشباحكم، اذكروني بالفكرة والنظرة أمتعكم بدوام شهود الحضرة، واشكروا لي آلائي وبرّي، ولا تكفروا بالركون إلى غيري فإني أسلبكم من مزيد معونتي ونصري.
﴿ فاذكروني ﴾ بالطاعة والإحسان ﴿ أذكركم ﴾ بالثواب ونعيم الجنان. قال صلى الله عليه وسلم :" مَن أطَاعَ الله فقدْ ذكَرَ الله، وإنْ قَلَّتْ صَلاتُه وصيَامُهُ وتِلاوتُه القرآن. ومَنْ عَصيَ اللّهَ فَقَدْ نَسِيَ الله، وإنْ كَثُرتْ صَلاتُهُ وصَيَامُهُ وتِلاوَتُه١ ".
أو فاذكروني بالجَنَانِ أذكركم بنعمة الشهود والعيان، أو فاذكروني بالقلوب أذكركم بكشف الحجب، أو فاذكروني بالتوحيد والإيمان أذكركم بالدرجات في الجنان. قال الصِّديق رضي الله عنه :( كفَى بالتوحيدِ عبَادةً، وكَفَى بالجنةِ ثَواباً ). أو فاذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة، أو فاذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها : قال الأصمعي :( رأيت أعرابيّاً واقفاً يوم عرفة بعرفات، وهو يقول : إلهي عَجَّتْ لكَ الأصْواتُ بضُروب اللغات يسألونك الحَاجَات، وحاجَتي إليكَ أنْ تَذْكُرني عندَ البلاَءِ إذا نَسِيَني أهلُ الدنيا ).
أو : فاذكروني في الدنيا أذكركم في العقبى، أو : فاذكروني بالطاعات أذكركم بالمعافاة، يعني يحييه حياة طيبة. أو : فاذكروني في الخلاء والملأ أذكركم في أفضل الملأ، دليله الحديث :" أنا عِندَ ظنَّ بي فليُظنَّ بي مَا شاء، وأنا معه إذا ذكَرني، فمن ذَكَرَنيِ في نَفْسِه ذَكَرْتُه في نَفْسِي. ومن ذَكَرَنِي في مَلأ ذَكرْتُه في مَلأ خير من مَلَئِهِ. . . " الحديث.
أو : فاذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء، أو : فاذكروني بالتسليم والرضا أذكركم بحسن التدبير ولطف القضاء، ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾
[ الطّلاَق : ٣ ] أو : فاذكروني بالشوق والمحبة أذكركم بالوصال والقربة. أو : فاذكروني بالتوبة أذكركم بغفران الحوبة، أو : فاذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء، أو : فاذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال، إلى غير ذلك مما لا ينحصر.
واعلم أن الذكر ثلاثة أنواع : ذكر اللسان فقط وهو ذكر الغافلين، وذكر اللسان والقلب وهو ذكر السائرين، وذكر القلب فقط، وهو ذكر الواصلين، والذكر هو أفضل الأعمال كما تقتضيه الأحاديث النبوية والآيات القرآنية، وهو أقرب الطرق الموصلة إلى الله تعالى، إذا كان بشيخ كامل، واعلم أن الذكر على أنواع كثيرة من تهليل وتكبير وتسبيح وحَمْدَلَةٍ وحَسْبَلَةٍ وحوقلة وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكلِّ خاصيةٌ وثمرة، وتجتمع في ذكر المفرد، وهو : الله، الله. فإن ثمرته الفناء في الذات، وهي الغاية والمنتهى. انظر ابن جزي.
قال الحقّ تعالى : واشكروا لي ما أوليتكم من إحساني وبرّي بأن تنسبوها لي لا لغيري، ولا تجحدوا إحساني فأسلبكم ما خولتكم من إنعامي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما أنعم الله على الأمة المحمدية بأن بعث فيهم رسولاً منهم يعلمهم الشريعة النبوية، ويطهرهم من شهود الغيرية، ويعلمهم العلوم اللدنية، كذلك منَّ الله تعالى على عباده من هذه الأمة في كل زمان، ببعث شيوخ التربية يطهرون الناس من العيوب، ويدخلونهم حضرة الغيوب، ويطلعونهم على شهود القدرة الأزلية والحكمة الإلهية، ويعلمهم من غرائب العلوم، ويفتح لهم مخازن الفهوم، فَيَطَّلعون على السر المصون، ويعلمون ما لم يكونوا يعلمون، فيقول لهم الحقّ جلّ جلاله : اذكروني بأرواحكم وأسراركم، أذكركم بالغيبة عن رؤية أشباحكم، اذكروني بالفكرة والنظرة أمتعكم بدوام شهود الحضرة، واشكروا لي آلائي وبرّي، ولا تكفروا بالركون إلى غيري فإني أسلبكم من مزيد معونتي ونصري.

١ أخرجه الدارمي في سننه ٢/١٧، والسيوطي في الدر المنثور ١/١٤٩، والقرطبي في تفسيره ٢/١٧١..
ولمّا أمر عباده بالشكر أمرهم بمقام الصبر لأنه أخوه في ضده ؛ إذ الشكر في النعمة والصبر في البلية، فقال :
﴿ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ * ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ﴾ * ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾ * ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا استعينوا ﴾ على نيل رضواني وبرِّي وإحساني ﴿ بالصبر ﴾ على مشاق الطاعات وترك المعاصي والهفوات، وبالصلاة التي هي أم العبادات، ومحل المناجاة ومعدن المصافاة، فيها تشرق شوارق الأنوار، وتتسع ميادين الأسرار، وهي معراج أرواح المؤمنين ومناجاة رب العالمين، فإن تجرعتم مرارة الصبر فإن ﴿ الله مع الصابرين ﴾، وأعظم مواطن الصبر عند مفارقة الأحباب، وذهاب العشائر والأصحاب، فإن كان موتهم في الجهاد فلا ينبغي لأجلهم أسف ولا نكاد ؛ لأنهم ﴿ أحياء عند ربهم يرزقون ﴾، وكذلك من ألحق بهم من ذي هَدْم وغَرَق وحرق ونفاسٍ وطاعون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها الذين آمنوا بطريق الخصوص استعينوا على سلوك طريق حضرتنا ومشاهدة أنوار قدسنا بالصبر على ما تكره النفوس ؛ من ترك الحظوظ والشهوات، والميل إلى العادات والمألوفات، وبالصلاة الدائمة، وهي صلاة القلوب بالعكوف في حضرة الغيوب. ﴿ إن الله مع الصابرين ﴾ بالمعونة والتأييد، وإشراق أنوار التوحيد، ولا تقولوا لمن ترونه قتل نفسه بالذل والافتقار، وخرق العوائد وخلع العذار : إنه قد مات، بل هو حي لا يموت، قال الله تعالى :﴿ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ﴾ فإذا ماتت نفس المريد. واستوى عنده الذل والعز والمدح والذم، والغنى والفقر، والموت والحياة، فقد حييت روحه واتسع عليها فضاء الشهود، وتمتعت بالنظرة إلى الملك المعبود، فلا يزيدها الموت الحسيّ إلا اتصالاً وتمتعاً وشهوداً، فهي في الترقي أبداً سرمداً، ولكن لا تشعرون بما هم فيه في هذه الدار وفي تلك الدار.
ويقال لهم عند إرادة سلوكهم الطريق إلى عين التحقيق : والله لنبلونكم يا معشر المريدين بشيء من إذاية الخلق وتضييق الرزق، وذهاب الأموال، وضعف الأبدان بالمجاهدة، وتأخير الفتح بظهور ثمرة المشاهدة ؛ ليظهر الصادق في الطلب الثبوت في أحكام العبودية، حتى تشرق عليها أنوار الربوبية، ومن الكاذب بالرجوع إلى العوائد والشهوات، والركون إلى الرخص والتأويلات، ﴿ وبشر الصابرين ﴾ الثابتين في الطلب، بالظفر بكل ما أمَّلُوا، وبالوصول إلى ما إليه رحلوا، الذين إذا أصابتهم نكبة أو وقفة تحققوا بضعف العبودية، وتعلقوا بقوة الربوبية، فرجعوا إلى الله في كل شيء، فآواهم إليه من كل شيء، أولئك عليهم تَحنُّنٌ من ربهم وتقريب، وهم المهتدون إلى جوار الحبيب.
قال ابن جزي : فائدة : وَرَدَ ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعاً ؛ وذلك لعظم موقعه في الدين، قال بعض العلماء : كل الحسنات لها أجر معلوم إلا الصبر، فإنه لا يحصر أجره ؛ لقوله تعالى :﴿ إِنَمَّا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ الزمر : ١٠ ]. وذكر الله للصابرين ثمانياً من الكرامات.
أولها : المحبة، قال :﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [ آل عِمرَان : ١٤٦ ]، والثاني : النصر، قال :﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [ البَقَرَة : ١٥٣ ]، والثالث : غرفات الجنة، قال :﴿ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ [ الفرقان : ٧٥ ]، والرابع : الأجر الجزيل، قال :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية، فمنها البشارة قال :﴿ وبشر الصابرين ﴾، والصلاة والرحمة والهداية قال :﴿ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾.
والصبر على أربعة أوجه : صبر على البلاء، وهو منع النفس عن التسخط والهلع والجزع، وصبر على النعم، وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبّر بها، وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام عليها، وصبر على المعاصي بكف النفس عنها. وفوق الصبر التسليم، وهو ترك الاعتراض والتسخط ظاهراً، وترك الكراهية باطناً، وفوق التسليم الرضا بالقضاء، وهو سرور النفس بفعل الله، وهو صادر عن المحبة، وكل ما يفعل المحبوب. هـ.

قلت :﴿ أحياء ﴾ و﴿ أموات ﴾ خبران عن مبتدأ مضمر، والابتلاء هو الاختبار، حيثما ورد في القرآن، ومعناه في حقه تعالى : أنه يظهر في الوجود ما في علمه لتقوم الحجة على العبد، وليس كاختبار الناس بعضهم بعضاً ؛ لأن الله علم ما كان وما يكون، والصلاة هنا المغفرة والتطهير، والرحمة : اللطف والإحسان.
فلا تقولوا لمن يقتل ﴿ في سبيل الله ﴾ من هؤلاء : هم ﴿ أموات ﴾، ﴿ بل ﴾ هم ﴿ أحياء ﴾ حياة روحانية لا بشرية، ﴿ ولكن لا تشعرون ﴾ بحياتهم لأنهم مجرد أرواح، وأنتم قد لبستم طلسم الأشباح، فاختفى عنكم مقام الأرواح، وكذلك أرواح المؤمنين كلهم أحياء.
وإنما خصّ الشهداء لمزيد بهجة وكرامة. وإجراء رزقهم عليهم دون غيرهم، ففي الحديث :" أرْواحُ الشُّهَداءِ في حَواصِل طَيرٍ خضرٍ تَعَلقُ مِنْ وَرَقِ الجَنة ". أي : تأكل، وفي حديث آخر :" يَخْلُقُ اللهُ الشهداءَ جُسوماً على صُورةٍ طيرٍ خُضرٍ، فتكونُ في حَواصِلهَا، فَتسْرحُ بِها في الجَنة، وتأكلُ مِنْ ثمارِها، وتنالُ مِنْ خَيراتِها ونَعِيمها، حتى تُحشرَ مِنها يومَ القِيامَةِ ".
ولا يدخل الجنة أحد غيرهم إلى ميقاتها إلا الصدِّيقون، وهم العارفون، فهم أعظم من الجميع ؛ لمزيد تصرف وإدراك وسعة روح وريحان، وتحقق شهود وعيان، فهم في نعيم الجنان كالشهداء، لكن الصديقين غير محصورين في حواصل الطيور، بل لهم هياكل وصور سرحوا بها حيث شاءوا. وكذلك من فوقهم من الأنبياء والرسل، والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها الذين آمنوا بطريق الخصوص استعينوا على سلوك طريق حضرتنا ومشاهدة أنوار قدسنا بالصبر على ما تكره النفوس ؛ من ترك الحظوظ والشهوات، والميل إلى العادات والمألوفات، وبالصلاة الدائمة، وهي صلاة القلوب بالعكوف في حضرة الغيوب. ﴿ إن الله مع الصابرين ﴾ بالمعونة والتأييد، وإشراق أنوار التوحيد، ولا تقولوا لمن ترونه قتل نفسه بالذل والافتقار، وخرق العوائد وخلع العذار : إنه قد مات، بل هو حي لا يموت، قال الله تعالى :﴿ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ﴾ فإذا ماتت نفس المريد. واستوى عنده الذل والعز والمدح والذم، والغنى والفقر، والموت والحياة، فقد حييت روحه واتسع عليها فضاء الشهود، وتمتعت بالنظرة إلى الملك المعبود، فلا يزيدها الموت الحسيّ إلا اتصالاً وتمتعاً وشهوداً، فهي في الترقي أبداً سرمداً، ولكن لا تشعرون بما هم فيه في هذه الدار وفي تلك الدار.
ويقال لهم عند إرادة سلوكهم الطريق إلى عين التحقيق : والله لنبلونكم يا معشر المريدين بشيء من إذاية الخلق وتضييق الرزق، وذهاب الأموال، وضعف الأبدان بالمجاهدة، وتأخير الفتح بظهور ثمرة المشاهدة ؛ ليظهر الصادق في الطلب الثبوت في أحكام العبودية، حتى تشرق عليها أنوار الربوبية، ومن الكاذب بالرجوع إلى العوائد والشهوات، والركون إلى الرخص والتأويلات، ﴿ وبشر الصابرين ﴾ الثابتين في الطلب، بالظفر بكل ما أمَّلُوا، وبالوصول إلى ما إليه رحلوا، الذين إذا أصابتهم نكبة أو وقفة تحققوا بضعف العبودية، وتعلقوا بقوة الربوبية، فرجعوا إلى الله في كل شيء، فآواهم إليه من كل شيء، أولئك عليهم تَحنُّنٌ من ربهم وتقريب، وهم المهتدون إلى جوار الحبيب.
قال ابن جزي : فائدة : وَرَدَ ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعاً ؛ وذلك لعظم موقعه في الدين، قال بعض العلماء : كل الحسنات لها أجر معلوم إلا الصبر، فإنه لا يحصر أجره ؛ لقوله تعالى :﴿ إِنَمَّا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ الزمر : ١٠ ]. وذكر الله للصابرين ثمانياً من الكرامات.
أولها : المحبة، قال :﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [ آل عِمرَان : ١٤٦ ]، والثاني : النصر، قال :﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [ البَقَرَة : ١٥٣ ]، والثالث : غرفات الجنة، قال :﴿ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ [ الفرقان : ٧٥ ]، والرابع : الأجر الجزيل، قال :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية، فمنها البشارة قال :﴿ وبشر الصابرين ﴾، والصلاة والرحمة والهداية قال :﴿ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾.
والصبر على أربعة أوجه : صبر على البلاء، وهو منع النفس عن التسخط والهلع والجزع، وصبر على النعم، وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبّر بها، وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام عليها، وصبر على المعاصي بكف النفس عنها. وفوق الصبر التسليم، وهو ترك الاعتراض والتسخط ظاهراً، وترك الكراهية باطناً، وفوق التسليم الرضا بالقضاء، وهو سرور النفس بفعل الله، وهو صادر عن المحبة، وكل ما يفعل المحبوب. هـ.

ثم قال الحق جلّ جلاله : ولنختبركم يا معشر المسلمين ﴿ بشيء ﴾ قليل ﴿ من الخوف ﴾ لهيجان العدو وصولة الكفار، ﴿ والجوع ﴾ لغلاء الأسعار وقلة الثمار، ﴿ ونقص من الأموال ﴾ بموت الحيوان وتعذر التجارة أو الخسران، ﴿ والأنفس ﴾ بالموت في الجهاد، ﴿ والثمرات ﴾ بذهابها بالجوائح.
وعن الشافعي رضي الله عنه :( الخوفُ خوفُ الله، والجوعُ صومُ رمضان، والنقصُ من الأموال بالزكوات والصدقات، ومن الأنفسُ بالأمراض، ومن الثمرات مَوتُ الأولاد ).
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :" إذا ماتَ ولَدُ العبد قال اللّهَ للملائكةِ : أقَبَضْتُمْ ولَدَ عَبدي ؟ فيقولون : نَعَم. فيقولُ اللّهُ تعالى : أقبضتم ثمرة قلبه ؟ فيقولون : نعم. فيقول اللّهُ تعالى : ماذا قال ؟ فيقولون : حَمِدَك واستَرْجَع، فيقول الله تعالى : ابْنُوا لعَبْدِي بَيْتاً في الجَنَّةِ وسَمُّوه بَيْتَ الحمدِ ".
﴿ وبشر الصابرين ﴾ يا من تتأتَّى منه البشارة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها الذين آمنوا بطريق الخصوص استعينوا على سلوك طريق حضرتنا ومشاهدة أنوار قدسنا بالصبر على ما تكره النفوس ؛ من ترك الحظوظ والشهوات، والميل إلى العادات والمألوفات، وبالصلاة الدائمة، وهي صلاة القلوب بالعكوف في حضرة الغيوب. ﴿ إن الله مع الصابرين ﴾ بالمعونة والتأييد، وإشراق أنوار التوحيد، ولا تقولوا لمن ترونه قتل نفسه بالذل والافتقار، وخرق العوائد وخلع العذار : إنه قد مات، بل هو حي لا يموت، قال الله تعالى :﴿ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ﴾ فإذا ماتت نفس المريد. واستوى عنده الذل والعز والمدح والذم، والغنى والفقر، والموت والحياة، فقد حييت روحه واتسع عليها فضاء الشهود، وتمتعت بالنظرة إلى الملك المعبود، فلا يزيدها الموت الحسيّ إلا اتصالاً وتمتعاً وشهوداً، فهي في الترقي أبداً سرمداً، ولكن لا تشعرون بما هم فيه في هذه الدار وفي تلك الدار.
ويقال لهم عند إرادة سلوكهم الطريق إلى عين التحقيق : والله لنبلونكم يا معشر المريدين بشيء من إذاية الخلق وتضييق الرزق، وذهاب الأموال، وضعف الأبدان بالمجاهدة، وتأخير الفتح بظهور ثمرة المشاهدة ؛ ليظهر الصادق في الطلب الثبوت في أحكام العبودية، حتى تشرق عليها أنوار الربوبية، ومن الكاذب بالرجوع إلى العوائد والشهوات، والركون إلى الرخص والتأويلات، ﴿ وبشر الصابرين ﴾ الثابتين في الطلب، بالظفر بكل ما أمَّلُوا، وبالوصول إلى ما إليه رحلوا، الذين إذا أصابتهم نكبة أو وقفة تحققوا بضعف العبودية، وتعلقوا بقوة الربوبية، فرجعوا إلى الله في كل شيء، فآواهم إليه من كل شيء، أولئك عليهم تَحنُّنٌ من ربهم وتقريب، وهم المهتدون إلى جوار الحبيب.
قال ابن جزي : فائدة : وَرَدَ ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعاً ؛ وذلك لعظم موقعه في الدين، قال بعض العلماء : كل الحسنات لها أجر معلوم إلا الصبر، فإنه لا يحصر أجره ؛ لقوله تعالى :﴿ إِنَمَّا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ الزمر : ١٠ ]. وذكر الله للصابرين ثمانياً من الكرامات.
أولها : المحبة، قال :﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [ آل عِمرَان : ١٤٦ ]، والثاني : النصر، قال :﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [ البَقَرَة : ١٥٣ ]، والثالث : غرفات الجنة، قال :﴿ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ [ الفرقان : ٧٥ ]، والرابع : الأجر الجزيل، قال :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية، فمنها البشارة قال :﴿ وبشر الصابرين ﴾، والصلاة والرحمة والهداية قال :﴿ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾.
والصبر على أربعة أوجه : صبر على البلاء، وهو منع النفس عن التسخط والهلع والجزع، وصبر على النعم، وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبّر بها، وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام عليها، وصبر على المعاصي بكف النفس عنها. وفوق الصبر التسليم، وهو ترك الاعتراض والتسخط ظاهراً، وترك الكراهية باطناً، وفوق التسليم الرضا بالقضاء، وهو سرور النفس بفعل الله، وهو صادر عن المحبة، وكل ما يفعل المحبوب. هـ.

﴿ الذين إذا أصابتهم مصيبة ﴾ في بدن أو أهل أو مال أو صاحب ﴿ قالوا إنا لله ﴾ ملكاً وعبيداً يحكم فينا بما يريد ﴿ وإنا إليه راجعون ﴾ فيجازينا بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فتغيب مصائب الدنيا في جانبه.
وفي الحديث :" من أصابته مُصيبةٌ فقال : إنَّا لله وإنا إليه راجعُون. اللهم أجُرْنِي في مُصيبَتِي واخْلُفْ لي خَيْراً منها، إلا أَخْلَفَ الله له خيراً مما أصابه ". قالت أم سَلَمَة : فلما ماتَ زوجي أبو سَلَمَة قلتَ ذلك، فأبدلني الله برسوله صلى الله عليه وسلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها الذين آمنوا بطريق الخصوص استعينوا على سلوك طريق حضرتنا ومشاهدة أنوار قدسنا بالصبر على ما تكره النفوس ؛ من ترك الحظوظ والشهوات، والميل إلى العادات والمألوفات، وبالصلاة الدائمة، وهي صلاة القلوب بالعكوف في حضرة الغيوب. ﴿ إن الله مع الصابرين ﴾ بالمعونة والتأييد، وإشراق أنوار التوحيد، ولا تقولوا لمن ترونه قتل نفسه بالذل والافتقار، وخرق العوائد وخلع العذار : إنه قد مات، بل هو حي لا يموت، قال الله تعالى :﴿ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ﴾ فإذا ماتت نفس المريد. واستوى عنده الذل والعز والمدح والذم، والغنى والفقر، والموت والحياة، فقد حييت روحه واتسع عليها فضاء الشهود، وتمتعت بالنظرة إلى الملك المعبود، فلا يزيدها الموت الحسيّ إلا اتصالاً وتمتعاً وشهوداً، فهي في الترقي أبداً سرمداً، ولكن لا تشعرون بما هم فيه في هذه الدار وفي تلك الدار.
ويقال لهم عند إرادة سلوكهم الطريق إلى عين التحقيق : والله لنبلونكم يا معشر المريدين بشيء من إذاية الخلق وتضييق الرزق، وذهاب الأموال، وضعف الأبدان بالمجاهدة، وتأخير الفتح بظهور ثمرة المشاهدة ؛ ليظهر الصادق في الطلب الثبوت في أحكام العبودية، حتى تشرق عليها أنوار الربوبية، ومن الكاذب بالرجوع إلى العوائد والشهوات، والركون إلى الرخص والتأويلات، ﴿ وبشر الصابرين ﴾ الثابتين في الطلب، بالظفر بكل ما أمَّلُوا، وبالوصول إلى ما إليه رحلوا، الذين إذا أصابتهم نكبة أو وقفة تحققوا بضعف العبودية، وتعلقوا بقوة الربوبية، فرجعوا إلى الله في كل شيء، فآواهم إليه من كل شيء، أولئك عليهم تَحنُّنٌ من ربهم وتقريب، وهم المهتدون إلى جوار الحبيب.
قال ابن جزي : فائدة : وَرَدَ ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعاً ؛ وذلك لعظم موقعه في الدين، قال بعض العلماء : كل الحسنات لها أجر معلوم إلا الصبر، فإنه لا يحصر أجره ؛ لقوله تعالى :﴿ إِنَمَّا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ الزمر : ١٠ ]. وذكر الله للصابرين ثمانياً من الكرامات.
أولها : المحبة، قال :﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [ آل عِمرَان : ١٤٦ ]، والثاني : النصر، قال :﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [ البَقَرَة : ١٥٣ ]، والثالث : غرفات الجنة، قال :﴿ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ [ الفرقان : ٧٥ ]، والرابع : الأجر الجزيل، قال :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية، فمنها البشارة قال :﴿ وبشر الصابرين ﴾، والصلاة والرحمة والهداية قال :﴿ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾.
والصبر على أربعة أوجه : صبر على البلاء، وهو منع النفس عن التسخط والهلع والجزع، وصبر على النعم، وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبّر بها، وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام عليها، وصبر على المعاصي بكف النفس عنها. وفوق الصبر التسليم، وهو ترك الاعتراض والتسخط ظاهراً، وترك الكراهية باطناً، وفوق التسليم الرضا بالقضاء، وهو سرور النفس بفعل الله، وهو صادر عن المحبة، وكل ما يفعل المحبوب. هـ.

﴿ أولئك ﴾ الصابرون الراجعون إلى الله ﴿ عليهم صلوات ﴾ أي : مغفرة وتطهير ﴿ من ربهم ورحمة ﴾ أي : عطف ولطف ﴿ وأولئك هم المهتدون ﴾ لكل خير في الدنيا والآخرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها الذين آمنوا بطريق الخصوص استعينوا على سلوك طريق حضرتنا ومشاهدة أنوار قدسنا بالصبر على ما تكره النفوس ؛ من ترك الحظوظ والشهوات، والميل إلى العادات والمألوفات، وبالصلاة الدائمة، وهي صلاة القلوب بالعكوف في حضرة الغيوب. ﴿ إن الله مع الصابرين ﴾ بالمعونة والتأييد، وإشراق أنوار التوحيد، ولا تقولوا لمن ترونه قتل نفسه بالذل والافتقار، وخرق العوائد وخلع العذار : إنه قد مات، بل هو حي لا يموت، قال الله تعالى :﴿ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ﴾ فإذا ماتت نفس المريد. واستوى عنده الذل والعز والمدح والذم، والغنى والفقر، والموت والحياة، فقد حييت روحه واتسع عليها فضاء الشهود، وتمتعت بالنظرة إلى الملك المعبود، فلا يزيدها الموت الحسيّ إلا اتصالاً وتمتعاً وشهوداً، فهي في الترقي أبداً سرمداً، ولكن لا تشعرون بما هم فيه في هذه الدار وفي تلك الدار.
ويقال لهم عند إرادة سلوكهم الطريق إلى عين التحقيق : والله لنبلونكم يا معشر المريدين بشيء من إذاية الخلق وتضييق الرزق، وذهاب الأموال، وضعف الأبدان بالمجاهدة، وتأخير الفتح بظهور ثمرة المشاهدة ؛ ليظهر الصادق في الطلب الثبوت في أحكام العبودية، حتى تشرق عليها أنوار الربوبية، ومن الكاذب بالرجوع إلى العوائد والشهوات، والركون إلى الرخص والتأويلات، ﴿ وبشر الصابرين ﴾ الثابتين في الطلب، بالظفر بكل ما أمَّلُوا، وبالوصول إلى ما إليه رحلوا، الذين إذا أصابتهم نكبة أو وقفة تحققوا بضعف العبودية، وتعلقوا بقوة الربوبية، فرجعوا إلى الله في كل شيء، فآواهم إليه من كل شيء، أولئك عليهم تَحنُّنٌ من ربهم وتقريب، وهم المهتدون إلى جوار الحبيب.
قال ابن جزي : فائدة : وَرَدَ ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعاً ؛ وذلك لعظم موقعه في الدين، قال بعض العلماء : كل الحسنات لها أجر معلوم إلا الصبر، فإنه لا يحصر أجره ؛ لقوله تعالى :﴿ إِنَمَّا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ الزمر : ١٠ ]. وذكر الله للصابرين ثمانياً من الكرامات.
أولها : المحبة، قال :﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [ آل عِمرَان : ١٤٦ ]، والثاني : النصر، قال :﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [ البَقَرَة : ١٥٣ ]، والثالث : غرفات الجنة، قال :﴿ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ [ الفرقان : ٧٥ ]، والرابع : الأجر الجزيل، قال :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية، فمنها البشارة قال :﴿ وبشر الصابرين ﴾، والصلاة والرحمة والهداية قال :﴿ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾.
والصبر على أربعة أوجه : صبر على البلاء، وهو منع النفس عن التسخط والهلع والجزع، وصبر على النعم، وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبّر بها، وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام عليها، وصبر على المعاصي بكف النفس عنها. وفوق الصبر التسليم، وهو ترك الاعتراض والتسخط ظاهراً، وترك الكراهية باطناً، وفوق التسليم الرضا بالقضاء، وهو سرور النفس بفعل الله، وهو صادر عن المحبة، وكل ما يفعل المحبوب. هـ.

ولمّا ذكر الحقّ تعالى الكعبة، وأمر بالتوجه إليها، ناسب أن يذكر الصفا والمروة ؛ لقربهما منها ومشاركتهما لها في أمر الدين. وذلك أن الصحابة تحرجوا أن يطوفوا بهما ؛ لأن الصفا كان عليه صنم يقال له إِسَاف، وعلى المروة صنم يقال له نائلة، فخافوا أن يكون الطواف بينهما تعظيماً لهما، فرفع الله ذلك فقال :
﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾
قلت :﴿ الصفا ﴾ في أصل الوضع : جمع صفاة، وهي الصخرة الصلبة الملساء، يقال : صفاة وصفا، كحصاة وحصى، وقطاع وقطا، ونواة ونوى. وقيل : مفرد، وتثنيته : صفوان، وجمعه : أصفاء، و﴿ المروة ﴾ مَا لاَنَ من الحجارة وجمعه مرو ومروات، كتمرة وتمر وتمرات. والمراد هنا جَبَلانِ بمكة، و﴿ شعائر الله ﴾ : أعلام دينه، جمع شعيرة أو شعارة، والشعيرة : كل ما كان معلماً لقربان يتقرب به إلى الله تعالى، من دعاء أو صلاة أو أداء فرض أو ذبيحة.
والحج في اللغة : القصد، والعمرة : الزيارة، ثم غلباً شرعاً في العبادتين والمخصوصتين.
وقرأ الأخَوَان وخلف :﴿ يَطّوعْ ﴾ بلفظ المضارع، مجزوم اللفظ، وهو مناسب لقوله ﴿ أن يطوف ﴾، أصله : يتطوع، أُدغمت التاء في الطاء لقرب المخرج، والباقون بلفظ الماضي، مجزوم المحل، وهو مناسب لقوله :﴿ فمن حج البيت ﴾. و﴿ الجُناح ﴾ : الإثم، من جَنَحَ إذا مال، كأن صاحب الإثم مال عن الحق إلى الباطل، و﴿ خيراً ﴾ : صفة لمصدر محذوف، أو على إسقاط الخافض.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن ﴾ الطواف بين ﴿ الصفا والمروة ﴾ من معالم دينه ومناسك حجه، ﴿ فمن ﴾ قصد ﴿ البيت ﴾ للحج أو العمرة ﴿ فلا جناح عليه أن يطوف ﴾ بينهما، ولا يضره الصنمان اللذان كانا عليهما في الجاهلية ؛ فإن الله محا ذلك بالإسلام، ﴿ ومن تطوع ﴾ لله بخير من حج أو عمرة أو صلاة أو غير ذلك، ﴿ فإن الله ﴾ يشكر فعله ويجزل ثوابه. واختلف في حكمه، فقال مالك والشافعي : ركن لا يجبر بالدم، وقال أبو حنيفة : فرض يجبر بالدم، وقال أحمد : سنة، والله تعالى أعلم.
الإشارة : الصفا والمروة إشارة إلى الروح الصافية والنفس اللينة الطيبة، فالاعتناء بتطهيرهما وتصفيتهما من معالم الطريق، وبهما يسلك إلى عين التحقيق، فمن قصد بيت الحضرة لحج الروح بالفناء في الذات، أو عمرة النفس بالفناء في الصفات، فلا جناح عليه أن يطوف بهما ؛ ويشرب من كأسهما، حتى يغيب عن حسّهما، ومن تطوّع خيراً ببذل روحه لله، والغيبة عنها في شهود مولاه، فإن الله يشكر فعله، وينشر فضله ويظهر خيره، ويتولى أمره، والله ذو الفضل العظيم.
ولما ذكر الحق تعالى نسخ القبلة ردا على اليهود، والمنكرين للنسخ، رجع إلى معاتبتهم على كتمان الحق، فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ﴾ * ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ * ﴿ إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ * ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : في شأن أحبار اليهود حيث كتموا صفة الرسول صلى الله عليه وسلم :﴿ إن الذين يكتمون ﴾ ما أنزلناه عليهم في كتابهم من صفة محمد - عليه الصلاة والسلام - من الآيات الواضحات في شأنه، وبيان صفته وبلده وشريعته، وما يهدي إلى وجوب اتباعه، والإيمان به، ﴿ من بعد ما بيناه للناس ﴾ في التوراة، ﴿ أولئك ﴾ الكاتمون ﴿ يلعنهم الله ﴾ ويطردهم عن ساحة رحمته، ﴿ ويلعنهم ﴾ الجن والإنس، وكل ما يتأتى منه اللعن كالملائكة وغيرهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما قيل في أحبار اليهود يقال مثله في علماء السوء من هذه الأمة، الذين ملكتهم جيفة الدنيا، وأسرهم الهوى، الذين يقبضون الرّشَا على الأحكام، فيكتمون المشهور الواضح، ويحكمون بشهوة أنفسهم، فأولئك يلعنهم اللاعنون، وفي ذلك يقول ابن المبارك - رحمه الله - :
وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملوكُ وأحْبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا
وباعُوا النفوسَ ولم يَرْبَحُوا ولم تغْلُ في البَيْع أثْمَانُهَا
لقدْ رتعَ القومُ في جِيفَةٍ يَبِينُ لذِي العَقْلِ إنْتَانُهَا
وكان يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه يقول لعلماء وقته :( يا معْشرَ العلماء، ديارُكم هَامَانيَّة، وملابِسُكُم قَارُونية، ومَرَاكِبُكُم فرعونية وولائمُكُمْ جالوتية، فأين السنّةُ المحمدية ؟ ). إلا مَن تاب وأصلح ما أفسد، وبيَّن ما كتم، فأولئك يتوب الله عليهم.
تنبيه : العلم باعتبار وجوب إظهاره وكتمه على ثلاثة أقسام :
قسم يجب إظهاره، ومَنْ كَتَمَه دخل في وعيد الآية، وهو علم الشريعة الظاهرة، إذا تعيَّن على المسؤول بحيث لم يُوجَد من يُفتِي في تلك النازلة.
وقسم يجب كتمه، وهو علم سرّ الربوبية، أعني التوحيدَ الخاص، فهذا لا يجوز إفشاؤه إلا لأهله، وهو من بذل نَفْسَه وفَلْسَهُ وخَرقَ عوائد نفسه، فهذا لا يحل كتمه عنه إذا طلبه.
وقسم يُستحب كتمه، وهو أسرار القدَر المُغَيَّبَات، فهذا من باب الكرامات يستحب كتمها ولا يجب، والله تعالى أعلم.
هنا انتهى العتاب لبني إسرائيل والكلام معهم، وابتداؤه من قوله تعالى :﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم... ﴾، وإنما تخلَّل الكلامَ ذكرُ إبراهيم وبنيه توطئةً لنسخ القبلة الذي أنكروه، فذكر بناء الكعبة وبيان شرفها، وانجرَّ الكلام إلى ذكر الصفا والمروة لقرب المناسبة والجوار.

﴿ إلا الذين تابوا ﴾ من الكتمان، وكل ما يجب أن يتاب منه، ﴿ وأصلحوا ﴾ ما أفسدوا من الدين بالتدارك، ﴿ وبينوا ﴾ ما كتموا ﴿ فأولئك أتوب عليهم ﴾ وأرحمهم ﴿ وأنا التّواب الرحيم ﴾ أي : المبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما قيل في أحبار اليهود يقال مثله في علماء السوء من هذه الأمة، الذين ملكتهم جيفة الدنيا، وأسرهم الهوى، الذين يقبضون الرّشَا على الأحكام، فيكتمون المشهور الواضح، ويحكمون بشهوة أنفسهم، فأولئك يلعنهم اللاعنون، وفي ذلك يقول ابن المبارك - رحمه الله - :
وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملوكُ وأحْبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا
وباعُوا النفوسَ ولم يَرْبَحُوا ولم تغْلُ في البَيْع أثْمَانُهَا
لقدْ رتعَ القومُ في جِيفَةٍ يَبِينُ لذِي العَقْلِ إنْتَانُهَا
وكان يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه يقول لعلماء وقته :( يا معْشرَ العلماء، ديارُكم هَامَانيَّة، وملابِسُكُم قَارُونية، ومَرَاكِبُكُم فرعونية وولائمُكُمْ جالوتية، فأين السنّةُ المحمدية ؟ ). إلا مَن تاب وأصلح ما أفسد، وبيَّن ما كتم، فأولئك يتوب الله عليهم.
تنبيه : العلم باعتبار وجوب إظهاره وكتمه على ثلاثة أقسام :
قسم يجب إظهاره، ومَنْ كَتَمَه دخل في وعيد الآية، وهو علم الشريعة الظاهرة، إذا تعيَّن على المسؤول بحيث لم يُوجَد من يُفتِي في تلك النازلة.
وقسم يجب كتمه، وهو علم سرّ الربوبية، أعني التوحيدَ الخاص، فهذا لا يجوز إفشاؤه إلا لأهله، وهو من بذل نَفْسَه وفَلْسَهُ وخَرقَ عوائد نفسه، فهذا لا يحل كتمه عنه إذا طلبه.
وقسم يُستحب كتمه، وهو أسرار القدَر المُغَيَّبَات، فهذا من باب الكرامات يستحب كتمها ولا يجب، والله تعالى أعلم.
هنا انتهى العتاب لبني إسرائيل والكلام معهم، وابتداؤه من قوله تعالى :﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم... ﴾، وإنما تخلَّل الكلامَ ذكرُ إبراهيم وبنيه توطئةً لنسخ القبلة الذي أنكروه، فذكر بناء الكعبة وبيان شرفها، وانجرَّ الكلام إلى ذكر الصفا والمروة لقرب المناسبة والجوار.

وأما من مات على الكفر ولم يتب فأولئك ﴿ عليهم لعنة الله ﴾، ومن يُعْتَدّ بلعنته من ﴿ الملائكة والناس أجمعين ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما قيل في أحبار اليهود يقال مثله في علماء السوء من هذه الأمة، الذين ملكتهم جيفة الدنيا، وأسرهم الهوى، الذين يقبضون الرّشَا على الأحكام، فيكتمون المشهور الواضح، ويحكمون بشهوة أنفسهم، فأولئك يلعنهم اللاعنون، وفي ذلك يقول ابن المبارك - رحمه الله - :
وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملوكُ وأحْبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا
وباعُوا النفوسَ ولم يَرْبَحُوا ولم تغْلُ في البَيْع أثْمَانُهَا
لقدْ رتعَ القومُ في جِيفَةٍ يَبِينُ لذِي العَقْلِ إنْتَانُهَا
وكان يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه يقول لعلماء وقته :( يا معْشرَ العلماء، ديارُكم هَامَانيَّة، وملابِسُكُم قَارُونية، ومَرَاكِبُكُم فرعونية وولائمُكُمْ جالوتية، فأين السنّةُ المحمدية ؟ ). إلا مَن تاب وأصلح ما أفسد، وبيَّن ما كتم، فأولئك يتوب الله عليهم.
تنبيه : العلم باعتبار وجوب إظهاره وكتمه على ثلاثة أقسام :
قسم يجب إظهاره، ومَنْ كَتَمَه دخل في وعيد الآية، وهو علم الشريعة الظاهرة، إذا تعيَّن على المسؤول بحيث لم يُوجَد من يُفتِي في تلك النازلة.
وقسم يجب كتمه، وهو علم سرّ الربوبية، أعني التوحيدَ الخاص، فهذا لا يجوز إفشاؤه إلا لأهله، وهو من بذل نَفْسَه وفَلْسَهُ وخَرقَ عوائد نفسه، فهذا لا يحل كتمه عنه إذا طلبه.
وقسم يُستحب كتمه، وهو أسرار القدَر المُغَيَّبَات، فهذا من باب الكرامات يستحب كتمها ولا يجب، والله تعالى أعلم.
هنا انتهى العتاب لبني إسرائيل والكلام معهم، وابتداؤه من قوله تعالى :﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم... ﴾، وإنما تخلَّل الكلامَ ذكرُ إبراهيم وبنيه توطئةً لنسخ القبلة الذي أنكروه، فذكر بناء الكعبة وبيان شرفها، وانجرَّ الكلام إلى ذكر الصفا والمروة لقرب المناسبة والجوار.

قلت : الضمير في ﴿ فيها ﴾ : يعود على اللعنة أو النار، وإضمارها قبل الذكر تفخيماً لشأنها، وتهويلاً لأمرها.
خالدين في اللعنة أو في النار ﴿ لا يخفف عنهم العذاب ﴾ ساعة، ولا هم يمهلون عنه، أو لا ينتظرون للاعتذار أو الفداء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما قيل في أحبار اليهود يقال مثله في علماء السوء من هذه الأمة، الذين ملكتهم جيفة الدنيا، وأسرهم الهوى، الذين يقبضون الرّشَا على الأحكام، فيكتمون المشهور الواضح، ويحكمون بشهوة أنفسهم، فأولئك يلعنهم اللاعنون، وفي ذلك يقول ابن المبارك - رحمه الله - :
وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملوكُ وأحْبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا
وباعُوا النفوسَ ولم يَرْبَحُوا ولم تغْلُ في البَيْع أثْمَانُهَا
لقدْ رتعَ القومُ في جِيفَةٍ يَبِينُ لذِي العَقْلِ إنْتَانُهَا
وكان يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه يقول لعلماء وقته :( يا معْشرَ العلماء، ديارُكم هَامَانيَّة، وملابِسُكُم قَارُونية، ومَرَاكِبُكُم فرعونية وولائمُكُمْ جالوتية، فأين السنّةُ المحمدية ؟ ). إلا مَن تاب وأصلح ما أفسد، وبيَّن ما كتم، فأولئك يتوب الله عليهم.
تنبيه : العلم باعتبار وجوب إظهاره وكتمه على ثلاثة أقسام :
قسم يجب إظهاره، ومَنْ كَتَمَه دخل في وعيد الآية، وهو علم الشريعة الظاهرة، إذا تعيَّن على المسؤول بحيث لم يُوجَد من يُفتِي في تلك النازلة.
وقسم يجب كتمه، وهو علم سرّ الربوبية، أعني التوحيدَ الخاص، فهذا لا يجوز إفشاؤه إلا لأهله، وهو من بذل نَفْسَه وفَلْسَهُ وخَرقَ عوائد نفسه، فهذا لا يحل كتمه عنه إذا طلبه.
وقسم يُستحب كتمه، وهو أسرار القدَر المُغَيَّبَات، فهذا من باب الكرامات يستحب كتمها ولا يجب، والله تعالى أعلم.
هنا انتهى العتاب لبني إسرائيل والكلام معهم، وابتداؤه من قوله تعالى :﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم... ﴾، وإنما تخلَّل الكلامَ ذكرُ إبراهيم وبنيه توطئةً لنسخ القبلة الذي أنكروه، فذكر بناء الكعبة وبيان شرفها، وانجرَّ الكلام إلى ذكر الصفا والمروة لقرب المناسبة والجوار.

فلما فرغ من عتابهم دلَّهم على التوحيد، وشاركهم في ذلك غيرهم، فقال :
﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ ﴾ * ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾
قلت :﴿ إلهكم إله واحد ﴾ مبتدأ وخبر، وجملة ﴿ لا إله إلا هو ﴾ : تقرير لها وتأكيد، و ﴿ الرحمان الرحيم ﴾ : خبران آخران، أو عن مبتدأ مضمر.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإلهكم ﴾ يا معشر العباد الذي يستحق أن يعبد ﴿ إله واحد ﴾ لا شريك له، ولا نظير، ولا ضد له ولا ند، ﴿ لا إله إلا هو ﴾، إذ لا يستحق العبادة غيره، إذ هو ﴿ الرحمان ﴾ بنعمة الإيجاد ﴿ الرحيم ﴾ بنعمة الإمداد، فكل ما سواه مُكونٌ مخلوق، إما مُنْعَم عليه أو نعمة، فلم يستحق العبادة غيره.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الجنيد :( التوحيد معنى تضْمَحِل فيه الرسوم وتندرج فيه العلوم، ويكونُ الله كما لم يزل ). قلت : وهذا هو التوحيد الخاص، أعني توحيد أهل الشهود والعيان : ثم قال :( وأصولُه خمسة أشياء : رفعُ الحدَث، وإثبات القدم، وهُجْران الإخُوان، ومفارقةُ الأوطان، ونسيان ما عَلِم وجَهِل ). هـ. قلت : قوله :( وهجران الإخوان )، يعني : غيرَ مَنْ يستعين بهم على السير، وأما من يستعين بهم فلا يستغني عنهم.
واعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على ثلاث درجات :
الأولى : توحيد العامة : وهو الذي يعصِمُ النفس والمال، وينجو به من الخلود في النار، وهو نَفْيُ الشركاء والأنداد، والصاحبةِ والأولاد، والأشباه والأضداد.
الثانية : توحيد الخاصة، وهو أنْ يَرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده، ويشاهد ذلك بطريق الكشف لا بطريق الاستدلال، فإنَّ ذلك حاصل لكل مؤمن، وإنما مَقامُ الخاصة يقينٌ في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل، وثمرة هذا العلم الانقطاعُ إلى الله، والتوكل عليه وحده، فلا يرجو إلا الله، ولا يخاف أحداً سواه، إذ ليس يَرى فاعلاً إلا الله، فيَطْرَحُ الأسباب، وينبذ الأرباب.
الدرجة الثالثة : ألا يرى في الوجود إلا الله، ولا يشهد معه سواه، فيغيبَ عن النظر إلى الأكوان في شهود المُكَوَّن، وهذا مقام الفناء، فإن رُدّ إلى شهود الأثر بالله سُمي مقام البقاء. هـ. قال بعضَه ابنُ جُزَيّ باختصار.
قلت : وفي التحقيق أنهما مقامان ؛ مقام أهل الدليل والبرهان، وهو المذكور في الآية، لأنه هو الذي يطيقه جميع العباد، ومقام أهل الشهود والعيان، وهو خاص بالأفراد الذين بذلوا مهجهم في طلب الله، باعوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، فعوّضهم الله في الدنيا جنة المعارف، وزادهم في الآخرة جنة الزخارف.
( أهل الدليل والبرهان عمومٌ عند أهل الشهود والعيان ) ؛ لأن أهل الشهود والعيان قدسوا الحقّ تعالى عن أن يحتاج إلى دليل، فكيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف ؟ كيف يستدل عليه بما هو في وجوده مفتقر إليه ؟ أيكون لغيره من الظهور ما ليس له ؟ - متى غاب حتى يحتاج إلى دليل عليه ؟ ومتى بَعُد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه ؟ - ولله در القائل :
لقد ظهرتَ فما تَخْفَى على أحدٍ إلا على أَكْمَهِ لا يُبْصِرُ القمرَا
لَكِنْ بَطَنْتَ بما أَظْهَرْتَ مُحْتَجِبا وكيفَ يُبْصَرُ مَن بالعزةِ استترَا ؟

وقال آخر :
ما لِلحِجَابِ مَكَانٌ في وجُودِكُمُ إِلا بِسِرِّ حُروفِ ( انظُرْ إلى الجَبَلَ )
أنتُم دلَلْتُمُ عليكُم مِنكُمُ ولكُمْ دَيمُومَةٌ عبَّرتْ عَنْ غاَمِضِ الأزلِ
عَرَّفْتُم بكُم هذا الخبيرَ بِكُم أنتُمْ هُمُ يا حياةَ القلْبِ يا أمَلِي

وأنث ﴿ الفلك ﴾ لأنه بمعنى السفينة، و﴿ من السماء ﴾ ابتدائية، و﴿ من ماء ﴾ بيانية، و﴿ بث ﴾ : عطف على ﴿ أنزل ﴾ أو ﴿ أحيا ﴾ لأن الحيوانات تنمو بنزول المطر والخصب، والبث : النشر والتفريق و﴿ تصريف الريح ﴾ : هبوبها من الجهات المختلفة.
ثم برهن على وجوده، وثبوت وحدانيته بثمانية أمور، فقال :﴿ إن في خلق السماوات ﴾ طباقاً متفاصلة مرفوعة بغير عمد، وما اشتملت عليه من الكواكب والبروج والمنازل، وفي ﴿ الأرض ﴾ وما اشتملت عليه من الجبال والبحار والأنهار والأشجار وأنواع الثمار، وفي ﴿ اختلاف الليل والنهار ﴾ بالطول والقصَر، أو تعاقبهما بالذهاب والمجيء، ﴿ و ﴾ في ﴿ الفلك التي تجري في البحر ﴾ بقدرته مع إمكان رسوبها إلى الأسفل، متلبسة ﴿ بما ينفع الناس ﴾ من التجارة وغيرها. وقال البيضاوي : القصد الاستدلال بالبحر وأحواله، وتخصيص الفلك بالذكر لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه ؛ ولذلك قَدَّمه على ذكر المطر والسحاب، لأن منشأهما منه في الغالب. ه.
﴿ و ﴾ في ﴿ ما أنزل الله من السماء من ماء ﴾ من غير ظهور مادة سابقة، بل تُبرزه القدرة من عالم الغيب قريب عهد بالله، ولذلك ( كان عليه الصلاة والسلام يَتَمَطَّر ) أي : يَنْصُبُ وجهه للمطر إذا نزل تبركاً به، ﴿ فأحيا ﴾ الحقّ تعالى بذلك المطر ﴿ الأرض بعد موتها ﴾ ويُبْسِها، بالنبات والأزهار وأصناف النّوار والثمار، وفيما نشر ﴿ فيها من كل دابة ﴾ من النملة إلى الفيلة، ﴿ و ﴾ في ﴿ تصريف الرياح ﴾ وهبوبها من جهات مختلفة، وهي الجهات الأربع وما بينها بصفات مختلفة، مُلَقِّحَةٍ للشجر وعقيم وصرِ١، وللنصر والهلاك ﴿ و ﴾ في ﴿ السحاب المسخر ﴾ أي : المذلَّل ﴿ بين السماء والأرض ﴾ لا يسقط ولا يرتفع، مع أن الطبع يقتضي أحدهما، أو مسخر للرياح تُقَلِّبه في جو السماء بمشيئة الله ﴿ لآيات لقوم يعقلون ﴾. أي : تلك المخلوقات آيات دالّة على وحدانيته تعالى وباهرٍ قدرته، و﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ].
وفي الآية حَضٍّ على التفكر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :" ويلٌ لِمَنْ قَرأَ هَذهِ الآيةِ فَمَجَّ بِها٢ "، أي : لم يتفكر فيها دلالة على شرف علم التوحيد العام والخاص. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الجنيد :( التوحيد معنى تضْمَحِل فيه الرسوم وتندرج فيه العلوم، ويكونُ الله كما لم يزل ). قلت : وهذا هو التوحيد الخاص، أعني توحيد أهل الشهود والعيان : ثم قال :( وأصولُه خمسة أشياء : رفعُ الحدَث، وإثبات القدم، وهُجْران الإخُوان، ومفارقةُ الأوطان، ونسيان ما عَلِم وجَهِل ). هـ. قلت : قوله :( وهجران الإخوان )، يعني : غيرَ مَنْ يستعين بهم على السير، وأما من يستعين بهم فلا يستغني عنهم.
واعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على ثلاث درجات :
الأولى : توحيد العامة : وهو الذي يعصِمُ النفس والمال، وينجو به من الخلود في النار، وهو نَفْيُ الشركاء والأنداد، والصاحبةِ والأولاد، والأشباه والأضداد.
الثانية : توحيد الخاصة، وهو أنْ يَرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده، ويشاهد ذلك بطريق الكشف لا بطريق الاستدلال، فإنَّ ذلك حاصل لكل مؤمن، وإنما مَقامُ الخاصة يقينٌ في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل، وثمرة هذا العلم الانقطاعُ إلى الله، والتوكل عليه وحده، فلا يرجو إلا الله، ولا يخاف أحداً سواه، إذ ليس يَرى فاعلاً إلا الله، فيَطْرَحُ الأسباب، وينبذ الأرباب.
الدرجة الثالثة : ألا يرى في الوجود إلا الله، ولا يشهد معه سواه، فيغيبَ عن النظر إلى الأكوان في شهود المُكَوَّن، وهذا مقام الفناء، فإن رُدّ إلى شهود الأثر بالله سُمي مقام البقاء. هـ. قال بعضَه ابنُ جُزَيّ باختصار.
قلت : وفي التحقيق أنهما مقامان ؛ مقام أهل الدليل والبرهان، وهو المذكور في الآية، لأنه هو الذي يطيقه جميع العباد، ومقام أهل الشهود والعيان، وهو خاص بالأفراد الذين بذلوا مهجهم في طلب الله، باعوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، فعوّضهم الله في الدنيا جنة المعارف، وزادهم في الآخرة جنة الزخارف.
( أهل الدليل والبرهان عمومٌ عند أهل الشهود والعيان ) ؛ لأن أهل الشهود والعيان قدسوا الحقّ تعالى عن أن يحتاج إلى دليل، فكيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف ؟ كيف يستدل عليه بما هو في وجوده مفتقر إليه ؟ أيكون لغيره من الظهور ما ليس له ؟ - متى غاب حتى يحتاج إلى دليل عليه ؟ ومتى بَعُد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه ؟ - ولله در القائل :
لقد ظهرتَ فما تَخْفَى على أحدٍ إلا على أَكْمَهِ لا يُبْصِرُ القمرَا
لَكِنْ بَطَنْتَ بما أَظْهَرْتَ مُحْتَجِبا وكيفَ يُبْصَرُ مَن بالعزةِ استترَا ؟

وقال آخر :
ما لِلحِجَابِ مَكَانٌ في وجُودِكُمُ إِلا بِسِرِّ حُروفِ ( انظُرْ إلى الجَبَلَ )
أنتُم دلَلْتُمُ عليكُم مِنكُمُ ولكُمْ دَيمُومَةٌ عبَّرتْ عَنْ غاَمِضِ الأزلِ
عَرَّفْتُم بكُم هذا الخبيرَ بِكُم أنتُمْ هُمُ يا حياةَ القلْبِ يا أمَلِي


١ صر: يقال: ريح صر وصرصر: شديدة البرد..
٢ لم يرد هذا الحديث في شأن هذه الآية، وإنما ورد في شأن قوله تعالى: ﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ١٩٠﴾ [الآية: ١٩٠ من سورة آل عمران]. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان: كتاب الرقاق: باب التوبة ٢/١٠) مطولا عن السيدة عائشة رضي الله عنها..
ولما كانت المحبة تزيد وتنقص باعتبار شهود الوحدانية، فكلما قَويَ التوحيدُ في القلب قويت المحبة ؛ لانحصارها في واحد، ذكرها بأثر التوحيد، فقال :
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ * ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ﴾ * ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾
قلت : ويُحتمل في وجه المناسبة، أن يكون الحق تعالى لمّا ذكر دلائل التوحيد ذكّر من أعرض بعد وضوحها فأشرك معه، ليرتب بعد ذلك ما أعدَّ له من العذاب، والأنداد : جمع نِدْ وهو المِثْل، والمراد هنا الأصنام أو الرؤساء، والإضافة في ﴿ كحُب الله ﴾ من إضافة المصدر إلى مفعوله، والحُب : ميل القلب إلى المحبوب، وسيأتي في الإشارة إن شاء الله.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومن الناس من يتخذ من دون الله ﴾ أشباهاً وأمثالاً من الأصنام والرؤساء ﴿ يحبونهم ﴾، وينقادون إليهم، كما يحبون الله تعالى، فيُسَوَّون في المحبة بين الله تعالى العلي الكبير، وبين المصنوع الذليل الحقير، ﴿ والذين آمنوا ﴾ بالله ووحَّدُوه ﴿ أشد حبّاً لله ﴾ ؛ لأن المؤمنين لا يلتفتون عن حبوبهم في الشدة ولا في الرخاء، بخلاف الكفار فإنهم يعبدونهم في وقت الرخاء، فإذا نزل البلاء التجؤوا إلى الله. قال تعالى :﴿ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ﴾ [ النّحل : ٥٣ ] الآية، وأيضاً : المؤمنون يعبدون الله بلا واسطة، والكفار يعبدونه بواسطة أصنامهم ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [ الزمر : ٣ ] وأيضاً المؤمنون يعبدون ربّاً واحداً فاتحدت محبتهم.
قال سعيد بن جبير :( إن الله تعالى يأمر يوم القيامة مَنْ عبد الأصنام أن يدخلوا النار مع أصنامهم، فيمتنعون لعلمهم بالخلود فيها، ثم يقول للمؤمنين بين يدي الكفار : إن كنتم أحبائي فادخلوا، فيقتحم المؤمنون النار، وينادي مُنَادٍ مِنْ تحت العرش :﴿ والذين آمنوا أشد حبّاً لله ﴾. وفي ذلك يقول ابن الفارض :
أحِبايَ أنتُم، أحْسَنَ الدهرُ أَمَ أسَا *** فكونوا كَمَا شِئْتُم، أَنا ذلك الخِلُّ
وقال أيضاً :
لَو قالَ تِيهاً : قِف عَلَى جَمْرِ الغَضَا١ *** لوقفتُ مُمْتثلاً، ولَمْ أَتَوقَّفِ
وقال آخر :
ولَو عَذَّبْتَني في النارِ حتْماً *** دخلتُ مُطاوعاً وسْطَ الجَحِيمِ
إذا كَانَ الجَحِيمُ رِضَاك عَنِّي *** فَمَا ذاكَ الجَحِيمُ سِوَى نَعِيمِ
قلت :﴿ لو ﴾ شرطية، و﴿ ترى ﴾ شرطها، قرأ نافع وابن عامر ويعقوب بالخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لكل سامع، والباقون بالغيب وإسناده إلى الظالم، لأنه المقصود بالوعيد والتهديد، و﴿ إذ ﴾ ظرف للرؤية، وموضع ﴿ يرون ﴾ خفض بالإضافة، قرأ ابن عامر بضم الياء، على البناء للمفعول، والفاعلُ الحقيقي هو الله تعالى، بدليل ﴿ يريهم الله ﴾، والباقون بالفتح على البناء للفاعل، على حد : وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ } [ النّحل : ٨٥ ]. و﴿ أن القوة ﴾ معمول للجواب المحذوف، تعظيماً لشأنه، والتقدير : لو ترى يا محمد، أو يا مَنْ يسمَع، الذين ظلموا حين يرون العذاب، أو يريهم الله العذاب، لرأيت أمراً فظيعاً وخَطْباً جسيماً، ولعلمت أن القوة لله جميعاً.
و﴿ جميعاً ﴾ حال، أي : أن القوة ثابتة في حال اجتماعها.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولو ترى ﴾ يا محمد، أو كل من يتأتى منه الرؤية، حالَ ﴿ الذين ظلموا ﴾ باتخاذهم الأنداد والأوثان، بعد وضوح الأدلة وسُطوع البرهان، حيث ﴿ يرون العذاب ﴾ محيطاً بهم، والزبانيةُ تَغْلِبُهم، والنار تلتقطهم، لرأيت أمراً فظيعاً، وخطباً جسيماً، ولعلمت ﴿ أن القوة لله جميعاً ﴾، أو لو يرى الذين ظلموا العذاب الذي أُعِد لهم سبب شركهم، لرأوا أمراً عظيماً، وليتقنوا ﴿ أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب ﴾.
الإشارة : المحبةُ : مَيلٌ دائم بقلب هائم، أو مراقبة الحبيب في المشهد والمغيب، أو مواطأةُ القلب لمراد الرب، أو خوف ترك الخدْمة مع إقامة الحُرْمة، أو اسْتِقْلالُ الكثير من نفسك واستكثارُ القليل مِنْ حبيبك، أو معانقة الطاعة ومباينة المخالفة، وقال الشِّبْلِي :( أن تَغَار على المحبوب أن يحبه مثلك ) والمحب على الحقيقة من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه، ولا مشيئة له غير مشيئته، وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :( المحبة أخْذَةٌ من الله لقلب عبده المؤمن عن كل شيء سواه، فترى النفس مائلة لطاعته، والعقل متحصّناً بمعروفه، والروح مأخوذة في حضرته، والسر مغموراً في مشاهدته، والعبد يستزيد من محبته فيزداد، ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيكسي حلل التقريب على بساط القربة، ويَمَسُّ أبكارَ الحقائق وثيبات العلوم، فمن أجل ذلك قالوا : أولياء الله عرائس، ولا يَرَى العرائسَ المجرمون. . . ) الخ كلامه.
واعلم أن محبة العبد لمولاه سببُها شيئان :
أحدهُما : نظر العبد لإحسان الله إليه وضروب امتنانه عليه، وجُبِلَت القلوبُ على حب من أحسن إليها، وهذا هو المسمى بحب الهوى، وهو مكتسب، لأن الإنسان مغمور بإحسانات الله إليه، ومتمكن من النظر فيها، فكلما طالَع منةً مِنْ مِنَن الله التي لا تقبل الحصر ولا العدَّ، كان ذلك كحَبة زُرعت في أرض قلبه الطيب الزكي، فلا يزال يطالع مِنّةً بعد منّة، وكلُّ منّة أعظم من التي قبلها، لأنه كلما طالع المنن تنوّر قلبه وازداد إيماناً، وكشف من دقائق المنن ما لم يكن يُكشف له قبلُ، وظهر له خفايا المنن، وعظمت محبته.
الثاني : كشْف الحجب، وإزالة الموانع عن ناظر القلب، حتى يرى جمال الحقّ وكماله، والجمال محبوب بالطبع، وهذان هما اللذان قصدت رابعة العدوية - رضي الله عنها - :
أُحِبُّكَ حُبَّين : حُبَّ الهَوَى *** وحُبّاً لأنك أهلٌ لِذَاكَ
فأمَّا الذي هو حُبُّ الهَوى *** فَشُغْلي بِذِكْرِك عمَّن سِوَاكَ
وأمَّا الذي أنتَ أهلٌ لهُ *** فكَشْفُكِ لِلْحُجْبِ حتى أراكَ
فَلا الحمدُ في ذَا ولا ذَاك لي *** ولَكِنْ لكَ الحَمْدُ في ذَا وذاكَ
وإنما خَصَّصَتْ الحُبَّ الناشئ عن شهود الجمال بالأهلية دون الأول، وإن كان أهلاً للجميع ؛ لأن هذا منه إليه، لا كسب للعبد فيه، والآخر فيه كسب، وعمل العبد معلول، وقولها :( فشغلي بذكرك عمن سواك ) من باب التعبير بالمسبب عن السبب، والأصل : فثمرته شغلي بذكرك عمن سواك، فهو مسبب عن المحبة لأنفسنا، وقولها أيضاً ( كشفك للحجب حتى أراك )، من باب التعبير بالسبب عن المسبب، والأصل، فبسببه كشفك للحجب حتى رأيتك بعينَيْ قلبي. وقولها :( فلا الحمد. . . ) الخ، إخبار منها بأن الحُبَّيْن معاً منه وإليه وبه في الحقيقة، لا كسب لها في واحد منهما باعتبار الحقيقة، بل هو الحامد والمحمود، وإدراك التفاوت بين المقامين، - أعْني بين المحبة الناشئة عن شهود الإحسان، والناشئة عن شهود الجمال - ضروري عند كل ذائق، وأن الثانية أقوى. قاله في شرح الشريشية٢.
قال ابن جُزَيّ : اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين ؛ أحدهما : المحبة العامة، التي لا يخلو منها كل مؤمن، وهي واجبة، والأخرى : المحبة الخاصة التي ينفرد فيها العلماء الربَّانيون، والأولياء والأصفياء، وهي أعلى المقامات، وغاية المطلوبات، فإنَّ سائر مقامات الصالحين : كالخوف والرجاء والتوكل، وغير ذلك، مَبْنِيَةٌ على حظوظ النفس، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه، والراجي إنما يرجوا منفعة نفسه، بخلاف المحبة، فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة.
واعلم أن سببَ محبةِ الله : معرفتُه، فتقوى المحبة على قدر المعرفة، وتضعف على قدر ضعف المعرفة، فإن الموجب للمحبة أحد أمرين أو كلاهما إذا اجتمعا، ولا شك أنهما اجتمعا في حق الله تعالى على غاية الكمال ؛ فالموجب الأول : الحسن والجمال، والآخر الإحسان والإجمال، فأما الجمال فهو محبوب بالطبع، فإن الإنسان بالضرورة يجب كل ما يُستحسن، ولا جمالَ مثلُ جمال الله تعالى، في حكمته البالغة وصنائعه البديعة، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار، التي تَرُوق العقول وتبهج القلوب، وإنما يُدْرَك جمالُه تعالى بالبصائر لا بالأبصار.
وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وإحسان الله إلى عباده متواتر، وإنعامُه عليهم باطن وظاهر، ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ]، ويكفيك أنه يُحسن إلى المطيع والعاصي، وإلى المؤمن والكافر، وكل إحسان ينسب إلى غيره فهو في الحقيقة منه وحدَه، فهو المستحق للمحبة وحده.
واعلم أن محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح، من الجد في طاعته، والنَّشَطِ لخدمته، والحرص على مرضاته والتلذذ بمناجاته، والرضا بقضائه، والشوق إلى لقائه، والأُنْس بذكره، والاسْتِيحَاش مِنْ غيره، والفرار من الناس، والانفراد في الخلوات، وخروج الدنيا من القلب، ومحبة كل ما يحب الله، وكل من يحب الله، وإيثار الله على كل ما سواه.
قال الحارث المحاسبي :( المحبة ميلك إلى المحبوب بِكُلِّيتِكَ، ثم إيثارك له على نفسك ورُوحك، ثم موافقته سرّاً وجهراً، ثم علمك بتقصيرك في حبه ).
قلت : ظاهره أن المحبة أعلى من المعرفة، والتحقيق أن المعرفة أعلى من جميع المقامات ؛ لأنها لا تبقى معها بقية من الحجاب أصلاً، بخلاف المحبة، فإنها تكون بقية الحجاب، ألا ترى أن المحب يستوحش من الخلق، والعارف لا يستوحش من شيء لمعرفته في كل شيء.
قال في الحِكَم :" إنما استوحشَ العُبَّاد والزهاد من كل شيء لغيبتهم عن الله في كل شيء، ولو عرفوا الله في كل شيء ما استوحشوا من شيء ". وأيضاً. العارف أكمل أدباً من المحب ؛ لأن المعرفة إنما تحصُل بعد كمال التهذيب والتدريب، وقد تحصل المحبة قبل كمال التهذيب، مع أن المعرفة هي غاية المحبة ونهايتها، والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا من أقبل على مولاه، وجعل محبة سيده بُغْيته ومُناه، فلم يُشرك في محبة حبيبه سواه، لو رأيت من ظلم نفسه باتباع هواه، وأشرك مع الله في محبته سواه، باتباع حظوظ دنياه، وذلك حين يرون ما هم فيه من الانحطاط والبعاد، وما أعد الله لأهل المحبة والوداد من الفوز بالقرب من الحبيب، ومشاهدة جمال القريب، لرأيت أمراً عظيماً وخطباً جسيماً، ولعلمت أن القوة كلها لله، قَرّبَ مَنْ شاء بفضله ورحمته، وأبعد من شاء بعدله وحكمته، وذلك حين يتبرأ الأكابر في الجرم من الأصاغر، ويقع التفريق بين الأصحاب والعشائر، إلا من اجتمعوا على محبة الحبيب، وتعاونوا على طاعة القريب المجيب، ﴿ الأَخِلآَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [ الزّخرُف : ٦٧ ]. لا تصحب من لا يُنْهِضُك حالهُ، ولا يدلك على الله مقاله - فكل من صحب أهل الغفلة أو رَكَنَ إلى أهل الدنيا فلا بد أن يرى ذلك حسرات يوم القيامة، يوم لا ينفع الندم وقد زلّ القدم. ولله دَرُّ صاحب العَيْنية رضي الله عنه حيث يقول :
وَقَاطِعْ مِمنْ واصَلْتَ أيامَ غَفْلةٍ فَمَا واصل العُذَّال إلا من مُقَاطعُ
وجَانِبْ جنابَ الأجنبي لَوَ أنَّهُ لقُربِ انتسابٍ في المَنَامُ مُضَاجعُ
فَلِلنْفًس مِنْ جُلاَّسهَا كُلُ نسبةٍ ومِنْ خُلَّةٍ للقلبِ تِلكَ الطَّبَائعُ


١ الغضا: من الأشجار الصلبة الخشب..
٢ الشريشية: هي قصيدة "أنوار السرائر وسرائر الأنوار" قصيدة رائية من ١٤٠ بيتا، لتاج الدين الشريشي أبي العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن خلف القرشي البكري الصديقي، المعروف بالشريشي، ولد سنة ٥٨٠ هـ، وتوفي سنة ٦٤١ هـ. وشارع الشريشية هو أحمد بن يوسف الفاسي (انظر كسف الظنون ٥/٩٤)..
ثم ذكر الحقّ وعيدَ مَنْ أشرك مع الله في عبادته أو محبته، بعد وضوح برهان وحدانيته، فقال :
﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾.
وقرأ أبو جعفر ويعقوب ﴿ إنَّ ﴾ بالكسر في الموضعين على الاستئناف، و﴿ إذ تبرأ ﴾ بدل من ﴿ إذ يرون ﴾، والأسباب : العهود والوُصَل التي كانت بينهم في الدنيا يتوادُّون عليها، وأصل السبب : كل شيء يتوصل به إلى شيء، ومنه قيل للحبل الذي يُصعد به : سبب، وللطريق : سبب، قال الشاعر١ :
ومَنْ هَابَ أَسْبابَ المَنِيِّةِ يلْقَها ولَوْ رَامَ أسْبَابَ السماء بسُلَّم
وذلك حين يتبرأ المتبعون - وهم الرؤساء -، من الأتباع - وهم القلّة الضعفاء - والحالة أنهم ﴿ رأوا العذاب ﴾ الفظيع، ﴿ وتقطعت بهم الأسباب ﴾ أي : أسباب المودة والوُصْلات التي كانت بينهم في الدنيا، وصارت مودتهم عداوة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا من أقبل على مولاه، وجعل محبة سيده بُغْيته ومُناه، فلم يُشرك في محبة حبيبه سواه، لو رأيت من ظلم نفسه باتباع هواه، وأشرك مع الله في محبته سواه، باتباع حظوظ دنياه، وذلك حين يرون ما هم فيه من الانحطاط والبعاد، وما أعد الله لأهل المحبة والوداد من الفوز بالقرب من الحبيب، ومشاهدة جمال القريب، لرأيت أمراً عظيماً وخطباً جسيماً، ولعلمت أن القوة كلها لله، قَرّبَ مَنْ شاء بفضله ورحمته، وأبعد من شاء بعدله وحكمته، وذلك حين يتبرأ الأكابر في الجرم من الأصاغر، ويقع التفريق بين الأصحاب والعشائر، إلا من اجتمعوا على محبة الحبيب، وتعاونوا على طاعة القريب المجيب، ﴿ الأَخِلآَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [ الزّخرُف : ٦٧ ]. لا تصحب من لا يُنْهِضُك حالهُ، ولا يدلك على الله مقاله - فكل من صحب أهل الغفلة أو رَكَنَ إلى أهل الدنيا فلا بد أن يرى ذلك حسرات يوم القيامة، يوم لا ينفع الندم وقد زلّ القدم. ولله دَرُّ صاحب العَيْنية رضي الله عنه حيث يقول :
وَقَاطِعْ مِمنْ واصَلْتَ أيامَ غَفْلةٍ فَمَا واصل العُذَّال إلا من مُقَاطعُ
وجَانِبْ جنابَ الأجنبي لَوَ أنَّهُ لقُربِ انتسابٍ في المَنَامُ مُضَاجعُ
فَلِلنْفًس مِنْ جُلاَّسهَا كُلُ نسبةٍ ومِنْ خُلَّةٍ للقلبِ تِلكَ الطَّبَائعُ


١ يروى البيت بلفظ:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه وإن رام أسباب السماء بسلم
والبيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٣٠، والخصائص ٣/٣٢٤، ٣٢٥، ولسان العرب (سبب)..

و﴿ حسَرات ﴾ : حال، إن كانت بصرية، على مذهب أهل السنّة، أو مفعول ثالث إن كانت عِلمية على مذهب المعتزلة القائلين بعدم تشخص الأعمال.
﴿ وقال ﴾ حينئذٍ الضعفاء ﴿ الذين اتبعوا ﴾ شياطينهم في الكفر والضلال :﴿ لو أن لنا كَرَّة ﴾ أي : رجعة للدنيا ﴿ فنتبرأ منهم ﴾ أي : من كبرائهم ﴿ كما تبرءوا منا ﴾ اليوم. ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ذلك الإبراء الفظيع ﴿ يريهم الله أعمالهم حسرات ﴾ ونَدَامات ﴿ عليهم ﴾ فيدخلون النار على سبيل الخلود، ﴿ وما هم بخارجين من النار ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا من أقبل على مولاه، وجعل محبة سيده بُغْيته ومُناه، فلم يُشرك في محبة حبيبه سواه، لو رأيت من ظلم نفسه باتباع هواه، وأشرك مع الله في محبته سواه، باتباع حظوظ دنياه، وذلك حين يرون ما هم فيه من الانحطاط والبعاد، وما أعد الله لأهل المحبة والوداد من الفوز بالقرب من الحبيب، ومشاهدة جمال القريب، لرأيت أمراً عظيماً وخطباً جسيماً، ولعلمت أن القوة كلها لله، قَرّبَ مَنْ شاء بفضله ورحمته، وأبعد من شاء بعدله وحكمته، وذلك حين يتبرأ الأكابر في الجرم من الأصاغر، ويقع التفريق بين الأصحاب والعشائر، إلا من اجتمعوا على محبة الحبيب، وتعاونوا على طاعة القريب المجيب، ﴿ الأَخِلآَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [ الزّخرُف : ٦٧ ]. لا تصحب من لا يُنْهِضُك حالهُ، ولا يدلك على الله مقاله - فكل من صحب أهل الغفلة أو رَكَنَ إلى أهل الدنيا فلا بد أن يرى ذلك حسرات يوم القيامة، يوم لا ينفع الندم وقد زلّ القدم. ولله دَرُّ صاحب العَيْنية رضي الله عنه حيث يقول :
وَقَاطِعْ مِمنْ واصَلْتَ أيامَ غَفْلةٍ فَمَا واصل العُذَّال إلا من مُقَاطعُ
وجَانِبْ جنابَ الأجنبي لَوَ أنَّهُ لقُربِ انتسابٍ في المَنَامُ مُضَاجعُ
فَلِلنْفًس مِنْ جُلاَّسهَا كُلُ نسبةٍ ومِنْ خُلَّةٍ للقلبِ تِلكَ الطَّبَائعُ

ولما حذَّر الحقّ تعالى من الشرك الجلي والخفي، حذَّر من متابعة المشركين في التحريم والتحليل بلا حكم شرعي فقال :
﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ * ﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّواءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾
قلت :﴿ حلالاًّ ﴾ حال، أو مفعول به، و﴿ طيباً ﴾ نعت له، و﴿ الخُطُوات ﴾ جمع خطوة، وهي بالفتح - مصدر خطَا يَخْطُوا، وبالضم - اسم لمسافة ما بين القدمين، ويُكَسَّر على خطاً، ويُصَحَّح على خطوات، مثلث الطاء، أعني : الضم على الإتباع، كغرفات وقربات، قال ابن مالك :
والسَّالمَ العَيْنِ الثُّلاثي اسْما أَنِلْ *** إتْبَاعَ عَيْنٍ فَاءَهُ بما شُكِلُ
والسكون على الأصل في المفرد، والفتح تخفيفاً، قال في الألفية :
وسكَّنِ التالِيَ غيرَ الفتحِ أوْ *** خفِّفْهُ بالفَتْحِ فكُلاَّ قدْ رَوَوُا
وقرئ في المتواتر بالضم والإسكان، وفي الشاذِّ بالفتح.
قال الخليل :( خطوات الشيطان، آثاره وطرقه، يقول : لا تقتدوا به ). ه. وأصل السوء : كل ما يَسُوء صاحبه ويُحزنه. والفحشاء : ما قبحُ من القول والفعل، مصدر فحش كالبأساء والضراء واللأوَاء.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الناس كلوا ﴾ من جميع ما خلقنا لكم في الأرض من نباتها مما يُستطاب أكله، وحيواناتها إلا ما حرمناه عليكم، حالة كون ذلك ﴿ حلالاً ﴾ قد انحلَّت عنه التبِعَات، وزالت عنه الشبهات، ﴿ طيباً ﴾ مُستلَذاً يستلِذُّه الطبع، ويستحسنه الشرع، ﴿ ولا تتبعوا ﴾ طرق ﴿ الشيطان ﴾ فتُحَرِّموا برأيكم ما أحلَّ الله لكم، كالبَحِيرة والسائبة والوَصِيلة والحام، وبعض الحرث الذي جعلتموه للأصنام، فإن ذلك من تزيين الشيطان، وهو ﴿ لكم عدو مبين ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن الحق تعالى جعل للبشرية قُوتاً ونعيماً تتنعم به، وجعل للروح قوتاً ونعيماً تتلذذ به، فقُوت البشرية الطعام والشراب، ونعيمُها : الملابس والمَناكح والمَراكب. وقوت الروح : اليقين والعلوم والأنوار، ونعيمها : الشهود والاستبصار والترقي في المعارف والأسرار، فكما أن النفس تأكُل مما في الأرض حلالاً طيباً، كذلك الروح تأكل مما في الأرض حلالاً طيباً، إلا أن أكل النفس حِسّي، وأكل الروح معنوي، وهو التفكر والاعتبار، أو الشهود والاستبصار، وفي ذلك يقول المجذوب رضي الله عنه :
الخَلْقُ نَوَّارٌ *** وأنا رَعَيْتُ فيهمُ
هُمُ الحجابُ الأكبَرُ *** والمَدخَلُ فِيهم

وقال الششتري رضي الله عنه :

عَينُ الزِّحامِ هُوَ *** المَسِيرُ لِحَيّنَا
وكان شيخُ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه يقول :( مَن أراد أن يذوق فليذهب إلى السوق ). وذلك لأنه مظنة الزحام، وفيه عند الأقوياء الربح التام، فيقال لهم : يا أيها الناس الكاملون في الإنسانية ؛ كلوا مما في الأرض بأرواحكم وأسراركم، شهوداً واعتباراً، حلالاً طيّباً، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، فتقفوا مع ظواهر الأكوان، فتُحجبوا عن الشهود والعيان، فإنه لكم في صورة العدو المبين، لكنه في الحقيقة يحشوكم إلى الرسوخ والتمكين، لأنه كلما حرككم بنزغه فزعتم إلى ربكم في دفعه، حتى يمكنكم من حضرته، فإنما يأمركم بما يسوء وجوهكم ويغُم قلوبكم، من مفارقة شهود الأحباب، والوقوف مِنْ وراء الباب، وأن تقولوا على الله ما ليس بحق ولا صواب، كثبوت السَّوي، أو الالتفات إلى الهوى. والله تعالى أعلم.

قال ابن عباس :( الفحشاءُ : ما فيه حد، والسوء : ما لا حَدَّ فيه )، وقال مقاتل :( كل ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنه الزنا، إلا قوله :﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ ﴾ فإنه البخل ) [ البَقَرَة : ٢٦٨ ]. قال البيضاوي : السوء والفحشاء : ما أنكره العقل واستقبحه الشرع، والعطف لاختلاف الوصفين، فإنه سوءٌ لاغتمام العاقل، به، وفحشاء باستقباحه إياه، وقيل : السوء يعمُ القبائح، والفحشاء ما تجاوَز الحدَّ في القبح. ه.
ومن شأن العدو الخِدَاع والغرور، فإنما يأمركم بما يَسُوء وجوهَكم من الذنوب، وما يُرديكم من قبائح المعاصي والعيوب، ﴿ وأن تقولوا على الله ﴾ ما لا علم لكم به من تحلِيل الحرام، أو تحريم الحلال، أو ادعاء الولد أو الصاحبة في جانب الكبير المتعال.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن الحق تعالى جعل للبشرية قُوتاً ونعيماً تتنعم به، وجعل للروح قوتاً ونعيماً تتلذذ به، فقُوت البشرية الطعام والشراب، ونعيمُها : الملابس والمَناكح والمَراكب. وقوت الروح : اليقين والعلوم والأنوار، ونعيمها : الشهود والاستبصار والترقي في المعارف والأسرار، فكما أن النفس تأكُل مما في الأرض حلالاً طيباً، كذلك الروح تأكل مما في الأرض حلالاً طيباً، إلا أن أكل النفس حِسّي، وأكل الروح معنوي، وهو التفكر والاعتبار، أو الشهود والاستبصار، وفي ذلك يقول المجذوب رضي الله عنه :
الخَلْقُ نَوَّارٌ *** وأنا رَعَيْتُ فيهمُ
هُمُ الحجابُ الأكبَرُ *** والمَدخَلُ فِيهم

وقال الششتري رضي الله عنه :

عَينُ الزِّحامِ هُوَ *** المَسِيرُ لِحَيّنَا
وكان شيخُ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه يقول :( مَن أراد أن يذوق فليذهب إلى السوق ). وذلك لأنه مظنة الزحام، وفيه عند الأقوياء الربح التام، فيقال لهم : يا أيها الناس الكاملون في الإنسانية ؛ كلوا مما في الأرض بأرواحكم وأسراركم، شهوداً واعتباراً، حلالاً طيّباً، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، فتقفوا مع ظواهر الأكوان، فتُحجبوا عن الشهود والعيان، فإنه لكم في صورة العدو المبين، لكنه في الحقيقة يحشوكم إلى الرسوخ والتمكين، لأنه كلما حرككم بنزغه فزعتم إلى ربكم في دفعه، حتى يمكنكم من حضرته، فإنما يأمركم بما يسوء وجوهكم ويغُم قلوبكم، من مفارقة شهود الأحباب، والوقوف مِنْ وراء الباب، وأن تقولوا على الله ما ليس بحق ولا صواب، كثبوت السَّوي، أو الالتفات إلى الهوى. والله تعالى أعلم.

ثم أعلمنا الحق تعالى أن بعض من سبق عليه الشقاء لا يخرج عن هواه، ولا يجيب من دعاه، فقال :
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾
قلت : الضمير في ﴿ لهم ﴾ يعود على ﴿ من يتخذ من دونه الله أنداداً ﴾، أو على ﴿ الناس ﴾، من قوله :﴿ يا أيها الناس ﴾، أو على ﴿ اليهود ﴾ المتقدمين قبلُ، وألفى : بمعنى وجد، يتعدّى إلى مفعولين، وهما هنا :﴿ آباءنا ﴾ والجار والمجرور، أي : نتبع في الدين ما وجدنا آباءنا كائنين عليه.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإذا قيل ﴾ لهؤلاء المشركين من كفار العرب :﴿ اتبعوا ما أنزل الله ﴾ على رسوله من التوحيد، وترك الأنداد له والأمثال، وتحريم الحرام وتحليل الحلال، ﴿ قالوا بل نتبع ﴾ ما وجدنا ﴿ عليه آباءنا ﴾ من عبادة الأصنام، وارتكاب المعاصي والآثام، قال الحق جلّ جلاله : أيتبعونهم تقليداً وعَمى، ولو كان آباؤهم جهلة ﴿ لا يعقلون شيئاً ﴾ من الدين، ولا يتفكرون في سبيل المهتدين ؟ ! وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم اليهودَ إلى الإسلام، ورغبهم فيه، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا خيراً وأعلم منا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ه.
الإشارة : وإذا قيل لمن أكَبَّ على دنياه، واتخذ إلهه هواه، فأشرك في محبة الله سواه : أقلعْ عن حظوظك وهواك، وأفرد الوجهة إلى مولاك، واتبع ما أنزل الله من وجوب مخالفة الهوى ومحبة المولى، قال : بل أتبع ما وجدتُ عليه الآباء والأجداد، وأكبَّ عليه جلُّ العباد، فيقال له : أتتبعهم في متابعة الهوى، ولو كانوا لا يعقلون شياً من طرق الهدى ؟ وقد قال - عليه الصلاة والسلام - :" لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتى يَكُونَ هَواهُ تَبعاً لِمَا جِئتُ به١ ". ه.
١ أخرجه البغوي في شرح السنة ١/٢١٣، وابن حجر في فتح الباري ١٣/٢٨٩..
ثم ضرب الحق مثلا لمن تبع هواه، فأصمه وأعماه، فقال :
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾
قلت :﴿ ومثل ﴾ الخ، يحتمل أن يكون على حذف مضاف، أي : مثَلُ واعظِ الذين كفروا، أو لا يحتاج إلى تقدير. وسيأتي بيانه، ونَعَقَ، كضرب، ينعق نعقاً ونعيقاً، إذا صاح وزجر.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومثل ﴾ واعظ ﴿ الذين كفروا ﴾ وداعيهم إلى الله ﴿ كمثل ﴾ الراعي الذي يرعَى البهائم، وينعق عليها ؛ ليزجرها، أو يدعوها فإذا سمعَت النداء رفعَتْ رؤوسها ولم تعقِلْه، ثم عادت إلى مراعيها، فلا تسمع من الراعي يزجرها ﴿ إلاَّ دعاء ونداء ﴾، ولا تفقه ما يقول لها، كذلك الكفار المنهمكون في الكفر، إذا دعاهم أحد إلى التوحيد لا يلتفتون إليه، ولا يفقهون ما يقول لهم، كالبهائم أو أضل.
أو ﴿ مثل الذين كفروا ﴾ في انهماكهم في التقليد والجهل، مع مَنْ يدعوهم إلى الله ﴿ كمثل ﴾ بهائم الذي ينعق ويصيح عليها صاحبها فلا تسمع ﴿ إلاَّ دعاء ونداء ﴾ ولا تفقه ما يقول لها، أو ﴿ مثل الذين كفروا ﴾ في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تعقل، كمثل الناعق بغنمه، فلا ينتفع من نعيقه بشيء، غير أنه في عناء وتعب من دعائه وندائه، ثم وصفهم بالصمم والبكم والعمى مجازاً، أي : هم ﴿ صُم ﴾ عن سماع الحق فلا يعقلونه، ﴿ بُكْم ﴾ عن النطق به، ﴿ عُمْي ﴾ عن النظر إلى أسبابه، أو عن الهدي فلا يبصرونه، ﴿ فهم لا يعقلون ﴾ شيئاً ولا يتدبرون.
الإشارة : إذا تمكن الهوى من القلوب عَزَّ دواؤه وشقّ علاجه، وعظم على الأطباء عناؤه، فالمنهمكون في الغفلة لا ينفَع فيهم التذكير، ولا ينجح فيهم التخويف والتحذير، فالواعظ لهم كالناعق بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء ونداء، قد أعماهم الهوى، وأصمهم عن سماع أسباب الهدي١ :
إنَّ الهَوَى مَا تَولَّى يُصْمِ أو يَصِمِ ***. . .
فلا يُقلع الهوى من قلوبهم إلا بسابق العناية، أو هبوب ريح الهداية، فتثير في قلوبهم خوفاً مُزْعِجاً، أو شوقاً مُقْلِقًا، أو نُوراً خارقاً ﴿ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [ إبراهيم : ٢٠ ].
١ قوله: (يصم)، أي: يقتل، من أصميت الصيد، إذا رميته فقتلته وأنت تراه، وقوله: (أو يصم) أي: يعيب، من الوصم، وهو العيب، يقال: ما في فلان وصمة، أي: عيب: قلت: وهذا شطر بيت، أوله:
فاصرف هواها وحاذر أن توليه ***...
والبيت من القصيدة المعروفة بالبردة للبوصيري..

ولما فرغ من تذكير الكفار وتخويفهم ذكر المؤمنين، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ * ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا ﴾ من لذيذ ﴿ طيبات ما رزقناكم ﴾ وَقِفُوا عند ما حلَّ لكم ولا تحرموا برأيكم ما أحللنا لكم، كما فعل مَنْ سَلَفَ قبلكم، ﴿ واشكروا ﴾ نعمة الله عليكم الظاهرة والباطنة ﴿ إن كنتم ﴾ تخصُّونه بعبادتكم، فقد أحلّلْنا لكم جميع ما خلقنا لكم على وجه الأرض التي تُقِلكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمانَ أهل العِرْفان، كلوا من طيبات ما رزقناكم من حلاوة الشهود والعيان، واشكروا الله الكريم المنَّان، إن كنتم تخصونه بالعبادة والإحسان أو : يا أيها الذين آمنوا إيمانَ أهل الصفاء، ووقفوا مع الحدود ووقوف أهل الوفاء، كلوا من طيبات ما رزقناكم من ثمرات بساتين العلوم، واشكروا لله يزدكم من المواهب والفهوم، إن كنتم تعبدون الحيّ القيوم، إنما حرم عليكم ما يعوقكم عن هذه المواهب، أو ينزلكم عن منابر تلك المراتب، كالميل إلى جيفة الدنيا، أو الركون إلى متابعة الهوى، أو تأخذون منها ما قُصد به غيرُ الله، أو تقبضونها من يد غير الله، فمن اضطر إلى أخذ شيء من نجاستها، فأخَذَ القدر الذي احتاج إليه منها، دون التشوُّف إلى ما زاد عليه، غير قاصد بذلك شهوة ولا متعة، ثم إثم عليه، إن الله غفور رحيم.
قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجَمَل رضي الله عنه لما تكلم على الغَنِيَّ بالله، قال :( علامته هو الذي ترك الدنيا للخلق، حتى لا يكون له فيها حق معهم، إلا ما فَضَل عنهم من بعد اضطراره واحتياجه، ويترك الآخرة لمولاه، حتى لا يكون له فيها حق إلا النظر في وجه الله، ويترك أيضاً نفسه لله حتى لا يكون فيها حق إلا حق مولاه، ولا إرادة له إلا ما أراد مولاه، ويكون كالغصن الرطب أينما مالت به الريح يلين ويميل معها، ولا ينكر على الخلق حالاً من أحوالهم ). هـ.

قلت : أصل اضْطُرَّ : اضتُرِرَ، على ومن افتعل، من الضرر، أُبدلت التاء طاءً لقرب مخرج التاء من الطاء، قال في الألفية :
طا تا افْتِعَالٍ رُدَّ إثْرَ مُطْبقِ ***. . .
ثم أدغمت الراء في الراء بعد ذهاب حركتها، وقرأ أبو جعفر : بكسر الطاء حيث وقع : ووجهُه : نقل حركة الراء إلى الطاء، وأصل البغي : قصد الفساد، يقال : بغي الجرح بغياً، إذا ترامى إلى الفساد، ومنه قيل للزنا : بِغاء، وللزانية : بَغِيّ، وأصل العدوان : الظلم ومجاوزة الحد، يقال : عَدَا يعدُوا عُدواناً وعَدْواً.
﴿ إنما ﴾ حرمنا ﴿ عليكم ﴾ ما فيه ضررُكم كالميتة لخُبْثها، ﴿ والدم ﴾ لأنه يقسي قلوبكم، ﴿ ولحم الخنزير ﴾ لأنه يُورث عدم الغيرة، وما ذكر عليه غير اسم الله، وهو الذي ﴿ أُهِلَّ به لغير الله ﴾ أي : رُفع الصوت عند ذبحه لغير الله، وهو الصنم ﴿ فمن اضطر ﴾ وألجئ إلى شيء من هذه المحرمات، ﴿ غير باغ ﴾ أي : ظالم بأكلها اختياراً، ﴿ ولا عاد ﴾ متعدّ بتعدى الحلالَ إلى الحرام، فيأكلها وهو غني عنها ﴿ فلا إثم عليه ﴾، ﴿ أو غير باغ ﴾ غير قاطع للطريق، ﴿ ولا عاد ﴾ : مفارقة للأمة خارج عن الجماعة، فمن خرج يقطع الرحم، أو يُخيف ابنَ السبيل، أو يُفسد في الأرض، أو أَبَق من سيده، أو فرَّ من غريمه أو عاصياً بسفره، واضطر إلى شيء من هذه، فلا تحلُّ له حتى يتوب ويأكل، ﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾. وقال سهل بن عبد الله :﴿ غير باغ ﴾ : غير مفارق للجماعة ﴿ ولا عاد ﴾ : مبتدع مخالف للسنّة، فلم يرخص للمبتدع تناول المحرمات عند الضرورات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمانَ أهل العِرْفان، كلوا من طيبات ما رزقناكم من حلاوة الشهود والعيان، واشكروا الله الكريم المنَّان، إن كنتم تخصونه بالعبادة والإحسان أو : يا أيها الذين آمنوا إيمانَ أهل الصفاء، ووقفوا مع الحدود ووقوف أهل الوفاء، كلوا من طيبات ما رزقناكم من ثمرات بساتين العلوم، واشكروا لله يزدكم من المواهب والفهوم، إن كنتم تعبدون الحيّ القيوم، إنما حرم عليكم ما يعوقكم عن هذه المواهب، أو ينزلكم عن منابر تلك المراتب، كالميل إلى جيفة الدنيا، أو الركون إلى متابعة الهوى، أو تأخذون منها ما قُصد به غيرُ الله، أو تقبضونها من يد غير الله، فمن اضطر إلى أخذ شيء من نجاستها، فأخَذَ القدر الذي احتاج إليه منها، دون التشوُّف إلى ما زاد عليه، غير قاصد بذلك شهوة ولا متعة، ثم إثم عليه، إن الله غفور رحيم.
قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجَمَل رضي الله عنه لما تكلم على الغَنِيَّ بالله، قال :( علامته هو الذي ترك الدنيا للخلق، حتى لا يكون له فيها حق معهم، إلا ما فَضَل عنهم من بعد اضطراره واحتياجه، ويترك الآخرة لمولاه، حتى لا يكون له فيها حق إلا النظر في وجه الله، ويترك أيضاً نفسه لله حتى لا يكون فيها حق إلا حق مولاه، ولا إرادة له إلا ما أراد مولاه، ويكون كالغصن الرطب أينما مالت به الريح يلين ويميل معها، ولا ينكر على الخلق حالاً من أحوالهم ). هـ.

ومن جملة ما ألحق بهذه المحرمات الرشا وأكل أموال الناس بالباطل، ولذلك ذكره الله تعالى بإثر ما أحله للمؤمنين، فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ * ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ * ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾
قلت :﴿ ما ﴾ تعجبية، مبتدأ، وهي نكرة، وسوَّغَ الابتداء َ معنى التعجب، وجملة ﴿ أصبرهم ﴾ خبر، أي : أيُّ شيء عظيم صيَّرهم صابرين، أو استفهامية، أي : أيُّ شيء حملهم على الصبر على النار ؟.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في رؤساء اليهود وعلمائهم، كانوا يُصيبون من سفلتهم الهدايا والخَرَاج، ويدَّعون أن النبيّ المبعوث منهم، فلما بُعِثَ نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم خافوا ذهاب مأكلتهم ورئاستهم، فأنزل الله :﴿ إن الذين يكتمون ما أنزل الله ﴾ في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحرفونها في المعنى ويَنْزِعُونها ﴿ من الكتاب ﴾ أي : التوراة، ﴿ ويشترون ﴾ بذلك التحريف ﴿ ثمناً قليلاً ﴾ أي : عِوَضاً حقيراً يذهب ويفنَى في زمان قليل ﴿ أولئك ﴾ الذين يكتمون ويأكلون ذلك العوض الحقير - ﴿ ما يأكلون في بطونهم ﴾ إلا نار جهنم ؛ لأنهم مآلهم وعقوبة أكلهم، ﴿ ولا يكلمهم الله ﴾ إهانة وغضباً عليهم حين يُكلم أولياءه ويُسلم عليهم، ﴿ ولا يزكيهم ﴾ أي : لا يطهرهم من دنَس ذنوبهم حتى يتأهلوا للحضرة، ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ مُوجع.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من كتم علمه، ولم ينشرْه إلا في مقابلة حظ دنيوي، صَدَق عليه قولُه تعالى :﴿ ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ﴾. رُوِيَ أن بعض الصحابة كان يُقرئ أهل الصُّفّة، فأَهْدَى له أحدُهم قوساً، فأتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله : كنت أُعلِّمُ أهلَ الصفة فأهدى لي فلان قوساً، وقال : هو لله، فقال له - عليه الصلاة والسلام - :" لقدْ تقلدتَ قَوسْاً مِنْ نَارِ جَهنم ". أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وأمره بردِّه. ولعل هذا من باب الورع، فأراد عليه السلام أن يرفع همة ذلك الصحابي، وإلا فقد ورد في الحديث :" أَحَقُّ ما أَخَذْتُمْ علَيْهِ الأجرَ كتَابُ اللّهِ ".
فمن ملَكَتْه نفسه، وأسره الهوى، فقد اشترى الضلالة بالهدى، اشترى الضلالة عن طريق أولياء الله، بالهدى الذي كان له ملَكَ نفسه وهواه، وعذابَ القطيعة والحجاب، بالمغفرة والدخول مع الأحباب، فما أصبرهم على غم الحجاب وسوء الحساب، سبب ذلك اختلاف قلبه، وتفريق همه ولُبَّه، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - :
" اقْرَءوا القُرْآنَ ما ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُبُكمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا ". أو كما قال : وسبب تفرق القلب وعدم حضوره، حبُّ الدنيا فقد قال عليه الصلاة والسلام :" مَنْ كَانَت الدُّنيا هَمَّهُ فَرَّقَ اللّهُ عَلَيْه أمْرَه، وَجَعَلَ فَقْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا من قُسِمَ لَهُ، ومن كَانَتِ الآخرةُ نيته، جَمَعَ اللّهُ عليه أمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبه، وأتتْهُ الدُنيَا وَهِيَ رَاِغِمةً ".
والقلب الذي اختلَف في فهم الكتاب وتشتَّت عنه في شقاق بعيد عن الحضرة ؛ لأن عُنْوان صحة القلب : جمعُه على كلام الله وتدبر خطابه والتلذذ بسماعه، وقد تقدم في أول السورة درجات القراءة : فانظره إن شئت. وبالله التوفيق.

﴿ أولئك الذين ﴾ استبدلوا ﴿ الضلالة بالهدى ﴾ أي : باعوا الهدى واشتروا به الضلالة، واستبدلوا ﴿ العذاب بالمغفرة ﴾ التي كانت لهم لو آمنوا وبيّنوا، فما أجرأهم على اقتحام النار باقتحام أسبابها، أو فما أبقاهم في النار، أو ما الذي أصبرهم على النار حتى تركوا الحق ومالوا إلى الباطل ؟ ! استفهام توبيخي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من كتم علمه، ولم ينشرْه إلا في مقابلة حظ دنيوي، صَدَق عليه قولُه تعالى :﴿ ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ﴾. رُوِيَ أن بعض الصحابة كان يُقرئ أهل الصُّفّة، فأَهْدَى له أحدُهم قوساً، فأتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله : كنت أُعلِّمُ أهلَ الصفة فأهدى لي فلان قوساً، وقال : هو لله، فقال له - عليه الصلاة والسلام - :" لقدْ تقلدتَ قَوسْاً مِنْ نَارِ جَهنم ". أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وأمره بردِّه. ولعل هذا من باب الورع، فأراد عليه السلام أن يرفع همة ذلك الصحابي، وإلا فقد ورد في الحديث :" أَحَقُّ ما أَخَذْتُمْ علَيْهِ الأجرَ كتَابُ اللّهِ ".
فمن ملَكَتْه نفسه، وأسره الهوى، فقد اشترى الضلالة بالهدى، اشترى الضلالة عن طريق أولياء الله، بالهدى الذي كان له ملَكَ نفسه وهواه، وعذابَ القطيعة والحجاب، بالمغفرة والدخول مع الأحباب، فما أصبرهم على غم الحجاب وسوء الحساب، سبب ذلك اختلاف قلبه، وتفريق همه ولُبَّه، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - :
" اقْرَءوا القُرْآنَ ما ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُبُكمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا ". أو كما قال : وسبب تفرق القلب وعدم حضوره، حبُّ الدنيا فقد قال عليه الصلاة والسلام :" مَنْ كَانَت الدُّنيا هَمَّهُ فَرَّقَ اللّهُ عَلَيْه أمْرَه، وَجَعَلَ فَقْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا من قُسِمَ لَهُ، ومن كَانَتِ الآخرةُ نيته، جَمَعَ اللّهُ عليه أمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبه، وأتتْهُ الدُنيَا وَهِيَ رَاِغِمةً ".
والقلب الذي اختلَف في فهم الكتاب وتشتَّت عنه في شقاق بعيد عن الحضرة ؛ لأن عُنْوان صحة القلب : جمعُه على كلام الله وتدبر خطابه والتلذذ بسماعه، وقد تقدم في أول السورة درجات القراءة : فانظره إن شئت. وبالله التوفيق.

﴿ ذلك ﴾ العذاب الذي استحقوه وتجرءوا عليه بسبب أن ﴿ الله ﴾ تعالى ﴿ نزل الكتاب ﴾ القرآن ملتبساً ﴿ بالحق ﴾، فاختلفوا فيه ؛ فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، ﴿ وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ﴾ أي : لفي خلاف وضلال بعيد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من كتم علمه، ولم ينشرْه إلا في مقابلة حظ دنيوي، صَدَق عليه قولُه تعالى :﴿ ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ﴾. رُوِيَ أن بعض الصحابة كان يُقرئ أهل الصُّفّة، فأَهْدَى له أحدُهم قوساً، فأتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله : كنت أُعلِّمُ أهلَ الصفة فأهدى لي فلان قوساً، وقال : هو لله، فقال له - عليه الصلاة والسلام - :" لقدْ تقلدتَ قَوسْاً مِنْ نَارِ جَهنم ". أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وأمره بردِّه. ولعل هذا من باب الورع، فأراد عليه السلام أن يرفع همة ذلك الصحابي، وإلا فقد ورد في الحديث :" أَحَقُّ ما أَخَذْتُمْ علَيْهِ الأجرَ كتَابُ اللّهِ ".
فمن ملَكَتْه نفسه، وأسره الهوى، فقد اشترى الضلالة بالهدى، اشترى الضلالة عن طريق أولياء الله، بالهدى الذي كان له ملَكَ نفسه وهواه، وعذابَ القطيعة والحجاب، بالمغفرة والدخول مع الأحباب، فما أصبرهم على غم الحجاب وسوء الحساب، سبب ذلك اختلاف قلبه، وتفريق همه ولُبَّه، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - :
" اقْرَءوا القُرْآنَ ما ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُبُكمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا ". أو كما قال : وسبب تفرق القلب وعدم حضوره، حبُّ الدنيا فقد قال عليه الصلاة والسلام :" مَنْ كَانَت الدُّنيا هَمَّهُ فَرَّقَ اللّهُ عَلَيْه أمْرَه، وَجَعَلَ فَقْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا من قُسِمَ لَهُ، ومن كَانَتِ الآخرةُ نيته، جَمَعَ اللّهُ عليه أمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبه، وأتتْهُ الدُنيَا وَهِيَ رَاِغِمةً ".
والقلب الذي اختلَف في فهم الكتاب وتشتَّت عنه في شقاق بعيد عن الحضرة ؛ لأن عُنْوان صحة القلب : جمعُه على كلام الله وتدبر خطابه والتلذذ بسماعه، وقد تقدم في أول السورة درجات القراءة : فانظره إن شئت. وبالله التوفيق.

ولما دعت اليهود والنصارى أن البر خاص بقبلتهم، لأنها قبلة الأنبياء، رد الله تعالى عليهم، فقال :
﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾
قلت : لمّا ذكر الحقّ تعالى التوحيد وبراهينه الذي هو رأس الدين، وحذَّرَ من الشرك وفروعه، ذكر هنا بقية أركان الدين، وهي الإيمان والإسلام، ذكر في هذه الآية قواعد الإيمان وبعض قواعدِ الإسلام ؛ وهي الصلاة والزكاة، ثم ذكر بعد ذلك الصيام وأحكامه، ثم ذكر الحج وأركانه، ثم ذكر الجهاد والنكاح والطلاق والعِدَّة، ثم ذكر البيوع، وما يتعلق بها من الربا، ثم الشهادات والرهَان، وبها ختم السورة.
لكن الحديث ذو شُجون، والكلام يَجُرُّ بعضُه بعضاً، فقوله :﴿ ليس البر أن تولوا ﴾ : اسم ليس وخبرها، وكلاهما مُعَرَّفَتان، الأول بأل والثاني بالإضافة، إذ التقدير : توليةُ وجوهكم، فمن رجَّح تعريف الألف واللام، جعل ﴿ البر ﴾ اسمها، و﴿ أن تولوا ﴾ خبرها، وبه قرأ الأكثر، ومن رجح الإضافة جعل ﴿ البر ﴾ خبرها مقدماً، والمصدر اسمها مؤخراً، وبه قرأ حمزة وحفص.
وقوله :﴿ ولكن البر ﴾ مَنْ خَفَّفَ جعلها عاطفة الجملة، و﴿ البر ﴾ مبتدأ، و﴿ من آمن ﴾ خبر على حذف مضاف، أَيْ : بِرُّ من آمن ؛ إذ لا يُخْبَرُ بالذات عن المعنى، أو قصد المبالغة، ومن شدَّد نصب بها، لوقوعها بين جملتين، وهي استدراكية، و﴿ على حبه ﴾ حال من المال، و﴿ الصابرين ﴾ نصب على المدح، ولم يعطفه بالرفع لفضل الصبر وشرفه.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في الرد على أهل الكتاب :﴿ ليس البر ﴾ محصوراً في شأن القبلة، ﴿ ولكن البر ﴾ الذي ينبغي أن يُعتنى بشأنه هو الإيمان بالله، وما يجب له من الكمالات، وباليوم الآخرة وما بعده، وبالملائكة وما يجب أن يعتقد في شأنهم، والكتاب المنزل من السماء كالقرآن وغيره، ﴿ والنبيين ﴾ وما يجب لهم وما يستحيل في حقهم.
فالبر هو بر من اعتقد في قلبه هذه الأشياء، وأظهر على جوارحه ما يصدق صحة اعتقادها، وذلك كالاتصاف بالسخاء والكرم، فأعطى المال على محبته له، أي : مع حبه، فقد سئل - عليه الصلاة والسلام - :" أي الصدقة أفضل ؟ " فقال :" أن تَتَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تأمُلُ الْغِنَى وتَخشَى الفَقْر ". و﴿ آتى المال ﴾ على حب الله، لا جزاء ولا شكوراً، فأعطى ذلك المال ذوي قرابته المحَاويج، وقدَّمهم لقوله - عليه الصلاة والسلام - :" صَدَقَتُك على المَساكينِ صَدَقَةٌ، وعَلَى ذَوِي القُربى اثنتان ؛ صَدَقَةٌ وصِلَةٌ ". وأعطى ﴿ اليتامى ﴾ لإهمالهم، وأعطى ﴿ المساكين ﴾ الذين أسكنهم الفقر في بيوتهم، ﴿ وابن السبيل ﴾ وهو المسافر الغريب، كأن الطريق وَلَدْته، أو الضيف ﴿ والسائلين ﴾ ألجأتهم الحاجة إلى السؤال. وفي الحديث :" أَعْطِ السائِلَ ولو على فَرَسِه ". وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم :" هَدِيَّةُ اللّهِ إلى المؤمن السائلُ على بَابِه ". وأعطى في فَكّ ﴿ الرقاب ﴾ من الرق أو الأسر.
﴿ وأقام الصلاة ﴾ المفروضة، ﴿ وآتى الزكاة ﴾ المعلومة. ومن أهل البر أيضاً :﴿ المُوفُون بعهدهم ﴾ فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم وبين الناس ﴿ إذا عاهدوا ﴾ الله أو عباده، فإذا وعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا ائتمنوا أدَّوْا، وأخُصُّ من أهل البر ﴿ الصابرينَ في البأساء ﴾ كالفقر والذل وإذاية الخلق، و﴿ الضراء ﴾ كالمرض والزَّمَانة١، أو ﴿ البأساء ﴾ : الأهوال، و﴿ الضراء ﴾ في الأنفس، والصابرين ﴿ حين البأس ﴾ أي : الحرب والجهاد، ﴿ أولئك الذين صدقوا ﴾ في طلب الحق، ﴿ وأولئك هم المتقون ﴾ لكل ما يقطع عن الحق، أو يشغل عنه.
فقد اشتملت هذه الآية على كمالات الإنسان بأسرها ؛ لاشتمالها على ما يَزِين البواطنَ من الاعتقادات وما يزين الظواهر من المعاملات، وما يُزَكِّي النفوس من الرذائل ويُحَلِّيها بالمحاسن والكمالات. ولذلك وُصف المتصف بها بالصدق والتقى، اللذين هما أساسُ الطريقة ومبنَى أسرار التحقيق، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
الإشارة : ليس المطلوب من العبد أن يَتَوجَّه إلى الحق بجِهَةٍ مخصوصة، كما إذا توجه إليه بالظاهر وأهملَ الباطن، أو توجه بالباطن وأهمل الظاهر، ولكن المطلوب منه أن يُزين باطنه بأنوار الإيمان واليقين، ويزين ظاهره بسائر وظائف الدين، ويزكي نفسه من الرذائل ؛ كالشح والبخل والغش والخيانة والكذب والخَوْف والجزَع، ويحليها بأنواع الفضائل ؛ كالسخاء والكرم والوفاء بالعهد والأمانة، والصبر والشجاعة، والعفة والقناعة، وسائر أنواع الفضائل، فإذا تخلّى عن الرذائل وتحلّى بأضدادها من الفضائل استحق الدخول مع الأبرار، وكان من العارفين الكبار، أولئك الذين ظفروا بصدق الطلب فنالوا الغاية من كل مطلب، وأولئك هم المتقون حق التقاة، فنالُوه أعلى الدرجات، منحنا الله من ذلك الحظ الوافر بمنِّه وكرمه.
١ الزمانة؛ مرض يدوم..
ولما مدح الله تعالى الصبر والجرأة في الحرب، أمر بالقصاص ؛ لئلا يتسع الناس في إطلاق الجرأة، حتى يتجرءوا على قتل المسلم، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذالِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ * ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
قلت :﴿ عفا ﴾ لازمٌ يتعدى بالحرف : بعَنْ إلى الجناية، وباللام إلى الجاني، فيقال : عفوت لفلان عن جنايته و﴿ اتباعٌ ﴾ خبر عن مضمَر، أي : فالأمر اتباع.
يقول الحقّ جلّ جلاله : يا أيها المؤمنون ﴿ كتب عليكم القصاص في ﴾ شأن ﴿ القتلى ﴾ في العَمْد، فاستسلِموا للقصاص، فالحُر يُقتل ﴿ بالحر ﴾، ولا يقتل بالعبد. بل يغرم قيمته لسيده، ودليله قوله - عليه الصلاة والسلام- :" لا يُقتل مسلمٌ بكافرٍ ولا حرٌ بعبدٍ "، والعبد يقتل بالعبد، إن أراد سيد المقتول قتله، فإن استحياه خُيِّر سيدُه بين إسلامه وفدائه بقيمة العبد. وكذلك إن قُتل الحر خُيّر أولياؤُه بين قتله أو استرقاقه، فإن استحيَوْه خُيِّر سيدُه بين إسلامه وفدائه بِدِيَةِ الحر العَمْد، والأنثى تُقتل بالأنثى والذكر، والذكر يقتل بالأنثى.
وتخصيصُ الآية بالمُساوي، قال مالك :( أحسنُ ما سمعتُ في هذه الآية : أنه يُراد بها الجنسُ - أي : جنس الحر - والذكر والأنثى فيه سواء. وأعيدَ ذِكْرُ الأنثى تأكيداً وتهمُّمَا بإذهاب أمر الجاهلية ). ه. يعني أن ( أل ) في الحر : للجنس، تشمل الذكر والأنثى. وأعاد ذكر الأنثى اهتماماً بردِّ ما كان يفعله الجاهلية من عدم القَودَ فيها.
ثم قال الحقّ جلّ جلاله :﴿ فمن عُفي له من ﴾ دم أخيه ﴿ شيء ﴾ ولو قَلَّ، فقد سقط القتل، فالواجب اتباعٌ للقاتل بالدية ﴿ بالمعروف ﴾ من غير تعنيف ولا تعنيت، و﴿ أداء ﴾ من القاتل ﴿ بإحسان ﴾ من غير مطل ولا بَخس.
﴿ ذلك ﴾ - الذي شرعْتُ لكم من أمر العفو والديّة - ﴿ تخفيف من ربكم ورحمة ﴾ بكم، وقد كُتب على اليهود القصاص وحده، وعلى النصارى مطلقاً. وخيَّركم أيها الأمة المحمدية بين أخذ الديّة والقصاص. ﴿ فمن اعتدى ﴾ بعد أخذ الديّة وقَتَل ﴿ فله عذاب أليم ﴾ في الدنيا والآخرة، في الدنيا : بأن يُقتل لا محالة ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - :" لا أُعَافِي أحَداً قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَة ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما جعل الله القصاص في الجناية الحسيّة، جعل القصاصَ في الجناية المعنوية، وهي الجنايةُ على النفس بسوء الأدب مع الله، فكل من صدر منه هفوةٌ أو زَلَّة، اقْتصَ الحقّ تعالى منه في دار الدنيا، إن كانت له من الله عناية، الكبيرة بالكبيرة والصغيرة بالصغيرة : وتأمَّلْ قضية الرجل الذي كان يطوف بالكعبة، فنظر إلى امرأة، فلطَمْته كَف من الهوى، وذهبت عينه، فقال : آه، فقيل له : لطمة بنظرة، وإن زدت زدنا. هـ. وقضية أبي تراب النخشبي : قال رضي الله عنه : ما تمنت نفسي شهوةً من الشهوات إلا مرة واحدة، تمنيت خبزاً وبيضاً وأنا في سفر، فعدلت إلى قرية، فقام واحد، وتعلّق بي، وقال : هذا رأيته مع اللصوص، فضربوني سبعين درة، ثم عرفني رجلٌ منهم، وحملني إلى منزله، وقدَّم لي خبزاً وبيضاً، فقلت في نفسي : كُلْ بعد سبعين درة.
وقضية أبي الخير العسقلاني : اشتهى السمك فلما مد يده ليأكل أخذت شوكة من عظامها أصبعه، فذهبت في ذلك يده. وقضية إبراهيم بن شيبان : قال :( اشتهيت شبعة من الخبز والعدس، فاتفق ذلك، فأكلت حتى شبعت، ثم رأيت منكرا، فغيرته، فأخذوني وضربوني مائة خشبة، وطرحوني في السجن أربعة أشهر، حتى شفع في شيخي، فخرجت، وقال : أخذتها مجانا )، أي : حيث عوقبت في ظاهرك دون باطنك.
قضية خير النساج : قال :( عاهدت الله وعقدت ألا آكل الرطب فغلبتني نفسي، فأخذت نصف رطل، فلما أكلت واحدة إذا برجل نظر إلي وقال : يا خير، أين هربت مني ؟ وكان له عبد اسمه خير، فوقع علي شبهه – قال : فبقيت معه عدة أشهر أنسج له الكرباس – وهو القطن الأبيض -، ثم تبت فزال عني الشبه ).
فمن عفي له عن شيء من هذه الجناية، بعد الأدب أو قبله، فليشكر الله، ويتبع ما أمره به، ويؤدي ما فرضه عليه بالمعروف، من غير إسراف، ولا تقصير، ذلك تخفيف من الله عنه، ورحمة به، فمن اعتدى بعد ذلك، ورجع إلى ما تاب عنه فله عذاب أليم، وهو الطرد عن حضرة الأحباب، إلى الوقوف بالباب أو سياسة الدواب، إلا من تاب وعمل صالحا فإن الله يتوب على من تاب. ولكم في القصاص في دار الدنيا – حياة عظيمة لأرواحكم وأسراركم ؛ لأن ذلك اعتناء بكم يا أولي الألباب، لعلكم تتقون كل ما يشغلكم عن مولاكم.

و﴿ حياة ﴾ مبتدأ و﴿ في القصاص ﴾ خبره، و﴿ لكم ﴾ خبر ثان، أو صلة له، أو حال من الضمير المستكِنْ فيه. وفيه من البلاغة والفصاحة ما لا يخفى، جعل الشيء مجيء ضده، وعرّف القصاص ونكْر الحياة ليدل على التعظيم والتعميم، أي : ولكم نوع من الحياة عظيم، وذلك لأن العلم به يَرْدَع القاتل عن القتل، فيكون سببَ حياةِ نَفْسَيْن، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل، والجماعة بالواحد، فتثور الفتنة بينهم، فإذا اقتُصّ من القاتل سَلِم الباقون، ويصيرُ ذلك سبباً لحياتهم. قاله البيضاوي.
﴿ ولكم ﴾ يا معشر المسلمين ﴿ في ﴾ تشريع ﴿ القصاص حياة ﴾ عظيمة في الدنيا، لانزجار القاتل إذا علَم أنه يُقتص منه، وقد كانوا يَقتُلون الجماعةَ في الواحد، فسلِموا من القتل بشروع القصاص، أو في الآخرة، فإن القاتل إذا اقتُصَّ منه في الدنيا لم يؤخذْ به في الآخرة، فاعتُبِروا ﴿ يا أولي الألباب ﴾ أي : العقول الكاملة، ما في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس، ﴿ لعلكم تتقون ﴾ الله في المحافظة على القصاص، والحكم به والإذعان له، أو تَكُفُّون عن القتل خوفاً من الله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما جعل الله القصاص في الجناية الحسيّة، جعل القصاصَ في الجناية المعنوية، وهي الجنايةُ على النفس بسوء الأدب مع الله، فكل من صدر منه هفوةٌ أو زَلَّة، اقْتصَ الحقّ تعالى منه في دار الدنيا، إن كانت له من الله عناية، الكبيرة بالكبيرة والصغيرة بالصغيرة : وتأمَّلْ قضية الرجل الذي كان يطوف بالكعبة، فنظر إلى امرأة، فلطَمْته كَف من الهوى، وذهبت عينه، فقال : آه، فقيل له : لطمة بنظرة، وإن زدت زدنا. هـ. وقضية أبي تراب النخشبي : قال رضي الله عنه : ما تمنت نفسي شهوةً من الشهوات إلا مرة واحدة، تمنيت خبزاً وبيضاً وأنا في سفر، فعدلت إلى قرية، فقام واحد، وتعلّق بي، وقال : هذا رأيته مع اللصوص، فضربوني سبعين درة، ثم عرفني رجلٌ منهم، وحملني إلى منزله، وقدَّم لي خبزاً وبيضاً، فقلت في نفسي : كُلْ بعد سبعين درة.
وقضية أبي الخير العسقلاني : اشتهى السمك فلما مد يده ليأكل أخذت شوكة من عظامها أصبعه، فذهبت في ذلك يده. وقضية إبراهيم بن شيبان : قال :( اشتهيت شبعة من الخبز والعدس، فاتفق ذلك، فأكلت حتى شبعت، ثم رأيت منكرا، فغيرته، فأخذوني وضربوني مائة خشبة، وطرحوني في السجن أربعة أشهر، حتى شفع في شيخي، فخرجت، وقال : أخذتها مجانا )، أي : حيث عوقبت في ظاهرك دون باطنك.
قضية خير النساج : قال :( عاهدت الله وعقدت ألا آكل الرطب فغلبتني نفسي، فأخذت نصف رطل، فلما أكلت واحدة إذا برجل نظر إلي وقال : يا خير، أين هربت مني ؟ وكان له عبد اسمه خير، فوقع علي شبهه – قال : فبقيت معه عدة أشهر أنسج له الكرباس – وهو القطن الأبيض -، ثم تبت فزال عني الشبه ).
فمن عفي له عن شيء من هذه الجناية، بعد الأدب أو قبله، فليشكر الله، ويتبع ما أمره به، ويؤدي ما فرضه عليه بالمعروف، من غير إسراف، ولا تقصير، ذلك تخفيف من الله عنه، ورحمة به، فمن اعتدى بعد ذلك، ورجع إلى ما تاب عنه فله عذاب أليم، وهو الطرد عن حضرة الأحباب، إلى الوقوف بالباب أو سياسة الدواب، إلا من تاب وعمل صالحا فإن الله يتوب على من تاب. ولكم في القصاص في دار الدنيا – حياة عظيمة لأرواحكم وأسراركم ؛ لأن ذلك اعتناء بكم يا أولي الألباب، لعلكم تتقون كل ما يشغلكم عن مولاكم.

ولما ذكر القصاص وهو مظنة الموت، والموت من أسباب الوصية ذكرها بإثره، فقال :
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ * ﴿ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ * ﴿ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
قلت :﴿ إذا حضر ﴾ ظرف، العامل فيه :﴿ كتب ﴾، أي : توجَّهَ إيجابُ الوصية عليكم إذا حضر الموت. أو مصدر محذوف يفهم من الوصية، أي : كتب عليكم الإيصاء إذا حضر الموت، و﴿ الوصية ﴾ نائب فاعل ﴿ كتب ﴾، ولا يصح أن تعمل في ﴿ إذا ﴾ ؛ لتقدمه عليها ؛ لأن المصدر لا يعمل في ما قبله، إلا على مذهب الأخفش. اللهم إلا أن يُتوسع في الظروف، وجواب الشرطين محذوف، أي : إذا حضر الموت، إن ترك خيراً، فقد كُتبت عليه الوصية. والجنَف : الميل عن الصواب، فإن كان خطأ فهو جَنَفٌ بلا إثم، وإن كان عمداً فهو جنَف إثم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : كتب الله ﴿ عليكم ﴾ أن تُوصوا للوالدين والأقربين ﴿ إذا حضر أحَدكم الموتُ إن ترك ﴾ المستحضر ﴿ خيراً ﴾ أي : مالاً : قال سيّدنا عليّ - كرّم الله وجهه - :( ألف درهم فصاعداً، فلا وصية في أقل ). وقال النخعي :( خمسمائة درهم لا أقل ). وقال الزُّهْرِي :( تجب فيما قلّ أوكَثُر )، وعن عائشة - رضي الله عنها - :( أن رجلاً أراد أن يوصي، فسألته : كم مالُك ؟ فقال : ثلاثة آلاف. فقالت : كم عِيالك ؟ فقال : أربعة، فقالت : لا، إنما قال الله تعالى ﴿ إن ترك خيراً ﴾ وإن هذا لَشيء يسير، فاتركْه لعيالك ).
وتكون تلك الوصية ﴿ بالمعروف ﴾، أي : بالعدل، فلا يُفضل الذكور، ولا يتجاوز الثلث. فقد حَقَّ الله ذلك ﴿ حقّاً ﴾ واجباً ﴿ على المتقين ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن المريد إذا منع نفسه من الشهوات، وحفظ قلبه من الخطَرَات، وصان سرّه من الغَفَلات - وأعظمُ الشهوات حبُّ الرئاسة والجاه، فإذا قتل نفسه ونزل بها إلى السُّفْليات حتى حَضرها الموت، وانقطع عنها الخواطر والخيالات - فإنها تفيض بالعلوم والواردات، فالواجب من طريق الجزم أن يُفيد تلك العلوم، أو يوصي مَنْ يقيدها لينتفع بها الوالدان وهما الأشياخ، والأقربون وهم الإخوان.
فإن الحكمة تَرِدُ في حال التجلّي كالجبَل، فإن لم يقيدها وأهملها، رجعت كالجمل، فإن أهملها رجعت كالكبش، فإن أهملها رجعت كالطير، ثم ترجع كالبَيْضة ثم تذهب. هكذا كان يقول شيخ شيوخنا سيدي على الجمل رضي الله عنه، وكان شيخه سيدي العربي بن عبد الله يقول له :( إنْ وَرَدَ عليكم واردٌ فقَيِّدْه وأعطني منه نسخة ). وهكذا كان أشياخنا يأمروننا بتقييد الواردات، فَمنْ قَيَّدَ وارداً أو سمعه من غيره، فلا يُغيرْه بمجرد رأيه وهواه. فإن تحقق منه نقصاً أو ميلاً عن منهاج الطريقة والحقيقة، فأصلحه، فلا إثم عليه، ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾.

فمَن غيَّره من الأوصياء أو الشهود ﴿ بعدما سمعه ﴾ وعلمه، ﴿ فإنما إثمه على الذين يبدلونه ﴾ من الأوصياء أو الشهود، لأنه هو الذي خالف الشرع وغيَّر دون الميت، ﴿ إن الله سميع عليم ﴾ فلا يخفى عليه مَنْ بدَّل أو غيَّر، فهو حسيبُه ومُعاقبه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن المريد إذا منع نفسه من الشهوات، وحفظ قلبه من الخطَرَات، وصان سرّه من الغَفَلات - وأعظمُ الشهوات حبُّ الرئاسة والجاه، فإذا قتل نفسه ونزل بها إلى السُّفْليات حتى حَضرها الموت، وانقطع عنها الخواطر والخيالات - فإنها تفيض بالعلوم والواردات، فالواجب من طريق الجزم أن يُفيد تلك العلوم، أو يوصي مَنْ يقيدها لينتفع بها الوالدان وهما الأشياخ، والأقربون وهم الإخوان.
فإن الحكمة تَرِدُ في حال التجلّي كالجبَل، فإن لم يقيدها وأهملها، رجعت كالجمل، فإن أهملها رجعت كالكبش، فإن أهملها رجعت كالطير، ثم ترجع كالبَيْضة ثم تذهب. هكذا كان يقول شيخ شيوخنا سيدي على الجمل رضي الله عنه، وكان شيخه سيدي العربي بن عبد الله يقول له :( إنْ وَرَدَ عليكم واردٌ فقَيِّدْه وأعطني منه نسخة ). وهكذا كان أشياخنا يأمروننا بتقييد الواردات، فَمنْ قَيَّدَ وارداً أو سمعه من غيره، فلا يُغيرْه بمجرد رأيه وهواه. فإن تحقق منه نقصاً أو ميلاً عن منهاج الطريقة والحقيقة، فأصلحه، فلا إثم عليه، ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾.

﴿ فمن خاف ﴾ أي : علِم ﴿ من مُوص جنفّا ﴾ أي : ميلاً بالخطأ في الوصية، ﴿ أو إثماً ﴾ تعمداً للجنف، ﴿ فأصلح ﴾ بين المُوصَى لهم وبين الورثة، بأن أجراهم على منهاج الشرع، أو نقص للموصَى لهم، أو زاد لمصلحة رآها ﴿ فلا إثم عليه ﴾ ؛ لأنه تبديل لمصلحة. والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى، ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ فيغفر للمبدِّل لمصلحةٍ ويرحمه.
وهذه الآية منسوخة في وصية الوالدين : مُحْكَمة في الأقربين غير الوارثين، بقوله - عليه الصلاة والسلام - في الحديث المشهور :" إنَّ اللّهَ أعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فلا وَصِيَّةَ لِوَارثٍ "، فإذا كان الوالدان غيرَ وارثيْن كالكافرَيْن أو العبدَيْن فهي مُحْكَمة، والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن المريد إذا منع نفسه من الشهوات، وحفظ قلبه من الخطَرَات، وصان سرّه من الغَفَلات - وأعظمُ الشهوات حبُّ الرئاسة والجاه، فإذا قتل نفسه ونزل بها إلى السُّفْليات حتى حَضرها الموت، وانقطع عنها الخواطر والخيالات - فإنها تفيض بالعلوم والواردات، فالواجب من طريق الجزم أن يُفيد تلك العلوم، أو يوصي مَنْ يقيدها لينتفع بها الوالدان وهما الأشياخ، والأقربون وهم الإخوان.
فإن الحكمة تَرِدُ في حال التجلّي كالجبَل، فإن لم يقيدها وأهملها، رجعت كالجمل، فإن أهملها رجعت كالكبش، فإن أهملها رجعت كالطير، ثم ترجع كالبَيْضة ثم تذهب. هكذا كان يقول شيخ شيوخنا سيدي على الجمل رضي الله عنه، وكان شيخه سيدي العربي بن عبد الله يقول له :( إنْ وَرَدَ عليكم واردٌ فقَيِّدْه وأعطني منه نسخة ). وهكذا كان أشياخنا يأمروننا بتقييد الواردات، فَمنْ قَيَّدَ وارداً أو سمعه من غيره، فلا يُغيرْه بمجرد رأيه وهواه. فإن تحقق منه نقصاً أو ميلاً عن منهاج الطريقة والحقيقة، فأصلحه، فلا إثم عليه، ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾.

ولما ذكر في الآية المتقدمة قاعدتين من قواعد الإسلام في قوله :﴿ وأقام الصلاة وآتى الزكاة ﴾، بعد أن ذكر قواعد الإيمان، ذكر القاعدة الثالثة، وهي الصيام، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ * ﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ فُرض عليكم ﴿ الصيام ﴾ كما فرض ﴿ على الذين من قبلكم ﴾ من الأنبياء وأَمَمِهم من لدن آدم، فلكم فيهم أسوة، فلا يشق عليكم ﴿ لعلكم تتقون ﴾ المعاصي، فإن الصوم يكسر الشهوة. ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام- :" مَنْ اسْتَطَاعَ منْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَليْه بالصَّوْمِ، فَإِنَّه لَهُ وِجَاء ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كُتب عليكم الصيام عن الحظوظ والشهوات، كما كتب على مَن سلك الطريق قبلكم من العارفين الثقات، في أيام المجاهدة والرياضات، حتى تنزلوا بساحة حضرة المشاهدات، لعلكم تتقون شهود الكائنات، ويكشف لكم عن أسرار الذات، فمن كان فيما سلف من أيام عمره مريضاً بحب الهوى، أو على سفر في طلب الدنيا، فليبادِرْ إلى تلافِي ما ضاع في أيام أُخر، وعلى الأقوياء الذين يُطيقون هذا الصيام، إطعام الضعفاء من قُوت اليقين ومعرفة رب العالمين. فمَنْ تطوع خيراً بإرشاد العباد إلى ما يُقوِّي يقينهم، ويرفع هممهم فهو خير له. وأَنْ تَدُوموا أيها الأقوياء على صومكم عن شهود السَّوَى، وعن مخالطة الحس بعد التمكين، فهو خير لكم وأسلم، إن كنتم تعلمون ما في مخالطة الحس من تفريق القلب وتوهين الهمم، إذ في وقت هذا الصيام يتحقق وحي الفهم والإلهام، وتترادف الأنوار وسواطعُ العرفان. فمن شهد هذا فَلْيَدُمْ على صيامه، ومن لم يَقْدِر عليه فَلْيَبْكِ على نفسه في تضييع أيامه.
واعلم أن الصيام على ثلاث درجات : صوم العوام، وصوم الخواص، وصوم خواص الخواص.
أما صوم العوام : فهو الإمساك عن شهوتَي البطن والفَرْج، وما يقوم مقامَهما من الفجر إلى الغروب، مع إرسال الجوارح في الزلاَّت، وإهمال القلب في الغفلات. وصاحبُ هذا الصوم ليس له من صومه إلا الجوع، لقوله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزُور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أنْ يدع طعامَه وشرابَه ". وأما صوم الخواص : فهو إمساك الجوارح كلَّها عن الفَضول، وهو كل ما يشغل العبد عن الوصول، وحاصلُه : حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة عن الاشتغال بما لا يَعْنِي. وأما صوم خواص الخواص : فهو حفظ القلب عن الالتفات لغير الرب، وحفظ السر عن الوقوف مع الغير، وحاصله : الإمساك عن شهود السَّوى، وعكوفُ القلب في حضرة المولَى. وصاحب هذا صائم أبداً سرمداً. فأهل الحضرة على الدوام صائمون، وفي صلاتهم دائمون، نفعنا الله بهم وحشرنا معهم. آمين.

قلت :﴿ أياماً ﴾ منصوب على الظرفية، واختُلِف في العامل فيه، والأحسنُ أنه الصيام، ولا يضره الفصل ؛ لأن الظرف يُتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، و﴿ معدودات ﴾ نعت له، و﴿ عدة ﴾ مبتدأ ؛ أي : فَعَليْهِ عِدَّةٌ. و﴿ أُخر ﴾ ممنوع من الصرف للعدل عن الألف واللام والوصف.
وذلك الصيام إنما هو في أيام قلائل ﴿ معدودات ﴾ فلا يهولكم أمره، ﴿ فمن كان منكم مريضاً ﴾ يشق عليه الصيام، ﴿ أو على سفر ﴾ فأفطر فعليه صيام عدة ما أفطر ﴿ من أيام أُخر ﴾ بعد تمام الشهر، ﴿ وعلى الذين يطيقونه ﴾ بلا مشقة، إن أرادوا أن يفطروا ﴿ فديةُ ﴾ وهي :﴿ طعام مساكين ﴾ : مُدٍّ لكل يوم. وفي قراءة ﴿ فديةٌ طعامُ مسكين ﴾ أي : وهي طعام مسكين لكل يوم. وقيل : نصف صاع. ﴿ فمن تطوع ﴾ بزيادة المُد، أو أطعم مسكينَينْ عن يوم، ﴿ فهو خير له ﴾ وأعظم أجراً، ﴿ وإن تصوموا ﴾ أيها المطيقون للصيام، ﴿ خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾ ما في الصيام من الأسرار، والخير المدرار، ثم نسخ بقوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كُتب عليكم الصيام عن الحظوظ والشهوات، كما كتب على مَن سلك الطريق قبلكم من العارفين الثقات، في أيام المجاهدة والرياضات، حتى تنزلوا بساحة حضرة المشاهدات، لعلكم تتقون شهود الكائنات، ويكشف لكم عن أسرار الذات، فمن كان فيما سلف من أيام عمره مريضاً بحب الهوى، أو على سفر في طلب الدنيا، فليبادِرْ إلى تلافِي ما ضاع في أيام أُخر، وعلى الأقوياء الذين يُطيقون هذا الصيام، إطعام الضعفاء من قُوت اليقين ومعرفة رب العالمين. فمَنْ تطوع خيراً بإرشاد العباد إلى ما يُقوِّي يقينهم، ويرفع هممهم فهو خير له. وأَنْ تَدُوموا أيها الأقوياء على صومكم عن شهود السَّوَى، وعن مخالطة الحس بعد التمكين، فهو خير لكم وأسلم، إن كنتم تعلمون ما في مخالطة الحس من تفريق القلب وتوهين الهمم، إذ في وقت هذا الصيام يتحقق وحي الفهم والإلهام، وتترادف الأنوار وسواطعُ العرفان. فمن شهد هذا فَلْيَدُمْ على صيامه، ومن لم يَقْدِر عليه فَلْيَبْكِ على نفسه في تضييع أيامه.
واعلم أن الصيام على ثلاث درجات : صوم العوام، وصوم الخواص، وصوم خواص الخواص.
أما صوم العوام : فهو الإمساك عن شهوتَي البطن والفَرْج، وما يقوم مقامَهما من الفجر إلى الغروب، مع إرسال الجوارح في الزلاَّت، وإهمال القلب في الغفلات. وصاحبُ هذا الصوم ليس له من صومه إلا الجوع، لقوله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزُور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أنْ يدع طعامَه وشرابَه ". وأما صوم الخواص : فهو إمساك الجوارح كلَّها عن الفَضول، وهو كل ما يشغل العبد عن الوصول، وحاصلُه : حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة عن الاشتغال بما لا يَعْنِي. وأما صوم خواص الخواص : فهو حفظ القلب عن الالتفات لغير الرب، وحفظ السر عن الوقوف مع الغير، وحاصله : الإمساك عن شهود السَّوى، وعكوفُ القلب في حضرة المولَى. وصاحب هذا صائم أبداً سرمداً. فأهل الحضرة على الدوام صائمون، وفي صلاتهم دائمون، نفعنا الله بهم وحشرنا معهم. آمين.

و﴿ شهر رمضان ﴾ إما خبر عن مضمر، أو مبتدأ، والخبر :﴿ فمن شهد ﴾، أو بدل من ﴿ الصيام ﴾، على حذف مضاف، أي : صيام شهر رمضان.
و﴿ رمضان ﴾ مصدر رمَض إذا احترق، وأضيف إليه الشهر، وجُعل عَلَما، ومُنع من الصرف للعلَمية والألف والنون. وسَمَّوْه بذلك إما لارتماض القلب فيه من حرَّ الجوع والعطش، أو لارتماض الذنوب فيه، أو وافق الحرَّ حين نقلوا الشهور عن اللغة القديمة. و﴿ الشهر ﴾ ظرف، لقوله :﴿ شهد ﴾ أي : حضر، وقوله :﴿ ولتكملوا. . . ﴾ الآية، هذه ثلاثُ عِللَ لثلاثة أحكام على سبيل الفِّ والنَّشْرِ المعكوس، أي : ولتكملوا العدة أمرتُكم بقضاء عدة أيام أخر، ولتكبروا الله عند تمام الشهر أمرتُكم بصيام الشهر كله، ولعلكم تشكرون أردتُ بكم اليسر دون العسر.
وذلك الصيام الذي أُمرتم به هو ﴿ شهر رمضان ﴾ المبارك ﴿ الذي أنزل فيه القرآن ﴾ أي : ابتداء نزوله فيه. أو إلى سماء الدنيا، حالة كونه ﴿ هدى للناس ﴾ أي : هادياً لهم إلى طريق الوصول، وآيات واضحات ﴿ من الهدى والفرقان ﴾ الذي يفرق بين الحق والباطل. وإن شئتَ قلتَ : فيه هدى للناس إلى مقام الإسلام، ﴿ وبينات ﴾، أي : حججاً واضحة تهدي إلى تحقق الإيمان، وإلى تحقق الفرق بين الحق والباطل، وهو ما سوى الله، فيتحقق مقام الإحسان.
﴿ فمن ﴾ حضر منكم في ﴿ الشهر ﴾ ولم يكن مسافراً ﴿ فليصمه ﴾ وجوباً، وكان في أول الإسلام على سبيل التخيير ؛ لأنه شق عليهم حيث لم يألفُوه، فلما ألفوه واستمروا معه، حتّمه عليهم في الحضور والصحة. ﴿ ومَن كان مريضاً ﴾ يشق عليه الصيام، ﴿ أو على ﴾ جَناح ﴿ سفر ﴾ بحيث شرَع فيه قبل الفجر فأفطر فيه، فعليه ﴿ عدة من أيام أُخر ﴾ ﴿ يريد الله بكم اليسر ﴾ والتخفيف، حيث خفّف عنكم، وأباح الفطر في المرض والسفر، ﴿ ولا يريد بكم العسر ﴾ إذ لم يجعل عليكم في الدّين من حرج، وإنما أمركم بالقضاء ﴿ لتكلموا العدّة ﴾ التي أمركم بها، وهي تمام الشهر، ﴿ ولتكبروا الله على ما هداكم ﴾، أمركم بصيامه فتكبروا عند تمامه.
ووقت التكبير عند مالك : من حين يخرج إلى المُصَلَّى، بعد الطلوع، إلى مجيء الإمام إلى الصلاة، ولفظُه المختار :( الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد على ما هدانا، اللهم اجعلنا من الشاكرين ) ؛ لجمعه بين التهليل والتكبير والشكر امتثالاً لقوله :﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ على ما أوليناكم من سابغ الإنعام، وسهَّلنا عليكم في شأن الصيام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كُتب عليكم الصيام عن الحظوظ والشهوات، كما كتب على مَن سلك الطريق قبلكم من العارفين الثقات، في أيام المجاهدة والرياضات، حتى تنزلوا بساحة حضرة المشاهدات، لعلكم تتقون شهود الكائنات، ويكشف لكم عن أسرار الذات، فمن كان فيما سلف من أيام عمره مريضاً بحب الهوى، أو على سفر في طلب الدنيا، فليبادِرْ إلى تلافِي ما ضاع في أيام أُخر، وعلى الأقوياء الذين يُطيقون هذا الصيام، إطعام الضعفاء من قُوت اليقين ومعرفة رب العالمين. فمَنْ تطوع خيراً بإرشاد العباد إلى ما يُقوِّي يقينهم، ويرفع هممهم فهو خير له. وأَنْ تَدُوموا أيها الأقوياء على صومكم عن شهود السَّوَى، وعن مخالطة الحس بعد التمكين، فهو خير لكم وأسلم، إن كنتم تعلمون ما في مخالطة الحس من تفريق القلب وتوهين الهمم، إذ في وقت هذا الصيام يتحقق وحي الفهم والإلهام، وتترادف الأنوار وسواطعُ العرفان. فمن شهد هذا فَلْيَدُمْ على صيامه، ومن لم يَقْدِر عليه فَلْيَبْكِ على نفسه في تضييع أيامه.
واعلم أن الصيام على ثلاث درجات : صوم العوام، وصوم الخواص، وصوم خواص الخواص.
أما صوم العوام : فهو الإمساك عن شهوتَي البطن والفَرْج، وما يقوم مقامَهما من الفجر إلى الغروب، مع إرسال الجوارح في الزلاَّت، وإهمال القلب في الغفلات. وصاحبُ هذا الصوم ليس له من صومه إلا الجوع، لقوله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزُور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أنْ يدع طعامَه وشرابَه ". وأما صوم الخواص : فهو إمساك الجوارح كلَّها عن الفَضول، وهو كل ما يشغل العبد عن الوصول، وحاصلُه : حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة عن الاشتغال بما لا يَعْنِي. وأما صوم خواص الخواص : فهو حفظ القلب عن الالتفات لغير الرب، وحفظ السر عن الوقوف مع الغير، وحاصله : الإمساك عن شهود السَّوى، وعكوفُ القلب في حضرة المولَى. وصاحب هذا صائم أبداً سرمداً. فأهل الحضرة على الدوام صائمون، وفي صلاتهم دائمون، نفعنا الله بهم وحشرنا معهم. آمين.

ولما كان الصيام يرقق القلب فيحصل به القرب من الحق، ذكره بإثر الصيام، فقال :
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : في جواب رجل سأل : هل قريب ربنا فنناجيَه، أو بعيد فنناديه ؟ فنزل :﴿ وإذا سألك عبادي عني ﴾. فقل لهم :﴿ إني قريب ﴾ إليهم من أرواحهم لأشباحهم، ومن وَسْواس قلوبهم لقلوبهم، عِلْماً وقدرة وإحاطة، أجيب دعوة الداعي إذا دَعَانِ، سرّاً أو جهراً، ليلاً أو نهاراً، على ما يليق بحاله في الوقت الذي نريد، لا في الوقت الذي يريد، ﴿ فليستجيبوا لي ﴾ إذا دعوتُهم للإيمان والطاعة، أَسْلُك بهم طريق المعرفة، ﴿ وليؤمنوا بي ﴾ إني قريب منهم فَيَسْتَحْيُوا مني، حياءَ مَنْ يرى أني معه حيث كان، ﴿ لعلهم يرشدون ﴾ إلى سلوك طريقتي ودوام محبتي.
قال البيضاوي : اعلم أنه، تعالى، لما أمرهم بصوم الشهر، ومراعاة العدة على القيام بوظائف التكبير والشكر، عقَّبه بهذه الآية الدالّة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم، مجازيهم على أعمالهم، تأكيداً وحثّاً عليه. ه.
الإشارة : قُرْب الحقّ تعالى من عباده هو قرب المعاني من المحسوسات، أو قرب الصفات من الذات، أو الذات من الصفات، فإذا تحقق المحو والاضمحلال، وزال البَيْن، وثبت الوصال، لم يبقَ قرب ولا بعد ولا بَينٌ ولا انفصال. قال الشيخ القطبُ العارف الكبير سيدي عبد السلام بن مَشِيش رضي الله عنه لأبي الحسن رضي الله عنه : حدِّدْ بصرَ الإيمان تَجد الله في كل شيء وعند كل شيء، ومع كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وقريباً من كل شيء، ومحيطاً بكل شيء، بقرب هو وصَفْهُ، وبحيطةً هي نعتُه، وَعَدّ عن الظرفية والحدود، وعن الأماكن والجهات، وعن الصحبة، والقرب في المسافات، وعن الدَّوْر بالمخلوقات، وامْحَق الكلَّ بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن، " كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه كان ".
وقال بعض العارفين : الحق تعالى منزَّه عن الأيْنِ والجِهة والكَيْف والمادة والصورة. ومع ذلك لا يخلو منه أيْنٌ ولا مكان، ولا كم ولا كيف، ولا جسم، ولا جوهر ولا عرض، لأنه لِلُطْفه سَارٍ في كل شيء، ولنُوريته ظاهر في كل شيء، ولإطلاقه وإحاطته متكيّف بكل كيف، غيرُ متقيِّد بذلك، فمَنْ لم يعرف هذا ولم يُذقْه ولم يشهدْه فهو أعمى البصيرة، محرومٌ من مشاهدة الحق تعالى. ه.
وهذه الإشارات لا يفهمها إلا أهل الذَّوْق من أهل المعاني، فاصحب الرجال أهلَ المعاني تِذُقْ أسرارهم، وتفهم إشاراتهم. وإلا فحسبُك أن تعتقد كمال التنزيه، وبطلان التشبيه، وتَمَسَّكْ بقوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [ الشّورى : ١١ ]، وسلَّمْ للرجال في كل حال.
إِنْ لم تَر الهلاَلَ فسلِّمْ لأُناسٍ رأوْه بالأبْصَار
وإذا تحققت أن الحقّ قريب منك كفاك لسانُ الحال عن طلب المقال، وبالله التوفيق.
ثم تمم الحق تعالى بقية أحكام الصوم، فقال :
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾.
قلت : الرفَث : مُحَرِّك الجِماع، والفُحْش كالرفوث وكلام النساء في الجماع. قاله في القاموس، وقال الأزهري اللغوي : الرفَث : كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وضمَّنه هنا الإفضاء، فعدَّاه بإلى.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في نسخ ما كان في أول الإسلام من تحريم الجِماع في رمضان بعد العشاء أو النوم، ثم إن عمر رضي الله عنه باشر امرأته بعد العشاء، فندم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذر إليه، فقام رجال فاعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزل قوله :﴿ أحل لكم ليلةَ الصيام ﴾ قبل الفجر، الإفضاءُ ﴿ إلى نسائكم ﴾ بالجماع. وعبَّر بالرفث تقبيحاً لما ارتكبوه.
ثم علَّل التحليل بقوله :﴿ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾، أي : وإنما أبحتُ لكم الجماع لقلّة صبركم عليهن، حتى تعانقوهن ويعانقنكم، فيشتمل بعضُكم على بعض، كاشتمال اللباس على صاحبه، كما قال الشاعر١ :
إذَا مَا الضَّجِيعَ ثَنَى عِطْفَهَا تَثَنَّتْ فكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا
وهذه الحالة يقلُّ فيها الصبرُ عن الوقَاع، ﴿ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ﴾ أي تَخُونُونها فَتُعرِّضُونها للعقاب، وتَحْرمُونها من الثواب، ﴿ فتاب عليكم ﴾ لَمّا تُبْتُم واعترفتم بما اقْتَرَفْتُم، وعفا عنكم فمحا ذنوبكم، ﴿ فالآن باشروهن ﴾. والمباشرة : إلصاق البَشْرة بالبشرة، كنايةً عن الجماع، ﴿ وابتغوا ما كتب الله لكم ﴾ من النسل، فلا تباشروهن لمجرد قضاء الشهوة، بل اطلبوا ما قدَّر الله لكم، وأثْبتَه في اللوح المحفوظ من الولد، لأنه هو المقصود من تشريع النكاح، وخلق الشهوة، لا مجرد قضاء الوطر. وفي الحديث :" إذَا مَاتَ البعدُ انْقَطَع عَمَلُه إلا مِنْ ثلاثٍ : صَدَقَةٍ جَاريَةٍ، وعِلْمٍ بثَّه في صُدور الرجال، وولدٍ صالحٍ يَدْعُوا لَهُ ".
وفي حديث طويل عن عائشة - رضي الله عنهما - في قصة الحَوْلاء - امرأة من الأنصار -، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من امرأة حمَلَت من زوجها حين تَحْمِل، إلا لها من الأجْر مثل القائم ليلَة الصائم نهارَه، والغازي في سبيل الله، وما من امرأة يأتيها الطَلْقُ، إلا كان لها بكل طَلْقةٍ عِتْق نسمةٍ، وبكل رَضْعة عتق رقبة، فإذا فَطَمت ولَدها ناداها مُنادِ من السماء : قد كُفيتِ العملَ فيما مضى، فاستأنفي العمل فيما بقي. قالت عائشة - رضي الله عنها - : قد أُعْطِي النساءُ خيراً كثيراً، فما لكم يا معشر الرجال ؟ فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قال : ما من رجل مؤمن أخذ بيد امرأتِه يُرَاوِدُها، إلا كتب الله له حسنة، وإنْ عانقها فعشْر حسنات، وإن ضاجعها فعشرون حسنةٌ، وإن أتاها كان خيراً من الدنيا وما فيها، فإذا قام ليغتسل لم يمر الماء على شعره من جسده إلا مُحِيَ عنه سيئة، ويُعطى له درجة، وما يعطى بغُسْله خيراٌ من الدنيا وما فيها، وإن الله تعالى يباهي الملائكة فيقول : انظروا إلى عبدي ؛ قام في ليلة قَرَّة يغتسل من الجنابة، يتيقن بأني ربه، اشهدوا أني غفرت له ". ه. من الثعلبي.
ثم أباح الحق تعالى الأكلَ والشرب، ليلة الصيام إلى الفجر، فقال :﴿ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ﴾ شبَّه أول ما يبدو من الفجر المعترِض في الأفق، بالخيط الأبيض، وما يمتد معه من غَبَشِ الليل، بالخيط الأسود.
ولم ينزل قوله تعالى :﴿ من الفجر ﴾ إلا بعد مدة، فحمله بعض الصحابة على ظاهره، فعمد إلى خيطٍ أبيض وخيط أسود فجعلهما تحت وِسادته، فجعل يأكل وينظر إليهما، فلم يتبيَّنا، ومنهم عَديُّ بنُ حاتم، قال : فغدوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحِك، وقال :" إِنك لَعَرِيضُ القَفا، إِنَّمَا ذلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وسَوَادُ اللَّيْلِ "، والحديث ثابت في البخاري وغيرِه. واعترضه الزمخشري بأن فيه تأخيرَ البيان عن وقت الحاجة، وذلك لا يجوز، لما فيه من التكليف بما لا يطاق.
وأُجيب بأنه ليس فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإنما فيه تأخير البيان لوقت الحاجة، وهو جائز. وبيان ذلك أنه لمّا نزل قوله تعالى :﴿ حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ﴾ فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون مُرادَ الله منهما، واستمر عملهم على ذلك، فكانت الآية مُبينة في حقهم لا مُجْمَلة. وأما عَدِيّ بن حاتم فكان بَدَوِيّاً مُشتغلاً بالصيد، ولم يكن فيه حُنْكَة أهل الحاضرة، فحمل الآية على ظاهرها ؛ ولذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنك لَعِرَيضُ القَفا ". فنزلت الآية تُبين لعدي مُرادَ الله عند الحاجة إلى البيان. مع أن السيوطي ذكر في التوشيح خلاف هذا ؛ ونصه :
قال بعضهم : كأنَّ عديّاً لم يسمع هذه اللفظة من الآية ؛ لأنها نزلت قبل إسلامه بمدة، وذلك أن إسلامه كان في السنة التاسعة أو العاشرة، بعد نزول الآية بمدة، قال : علَّمنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصلاة والصيام، فقال :" صلّ كذا، وصم كذا، فإن غابت الشمس فَكُلْ حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فأخذ الخيطين. . . ". الحديث. قال له - عليه الصلاة والسلام :" ألم أقل لك من الفجر ؟ " فتبين أن قوله في الحديث :" فأنزل الله مِنْ الفجر " من تصرُّف الرواة. ه. مختصراً، فهذا صريح في أن الآية نزلت بتمامها مبينة فلم يكن فيها تأخير، والله تعالى أعلم.
ثم بيَّن الحق تعالى غاية الصوم، فقال :﴿ ثم أتموا الصيام إلى الليل ﴾ فمن أفطر مع الشك في الغروب، فعليه الكفارة، بخلاف الشك في الفجر للاستصحاب. ولما كان الاعتكاف من لوازم الصوم ذكر بعض أحكامه بإثره فقال :﴿ ولا تباشروهن ﴾ أي : النساء ﴿ وأنتم عاكفون في المساجد ﴾، فالمباشرة للمعتكف حرام، وتُفسد الاعتكاف.
كانت المباشرة في المسجد أو خارجَه، وكان الرجل يكون معتكفاً فيخرج فيصيب زوجَه ثم يرجع، فنزلت الآية - ﴿ تلك حدود الله ﴾ قد حدها لكم، ﴿ فلا تقربوها ﴾ فضلاً عن أن تعتدوها، ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا البيان التام، ﴿ يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ﴾ محارمه.
الإشارة : قد تقدم أن صوم الخواص، وخواص الخواص، هو الإمساك عن الفُضول، وعن كل ما يقطع عن الوصول. أو الإمساك عن شهود الأغيار، وعن كل ما يوجب الأكدار. فإن عزَمَت النفس على هذا الصوم وعقَدَت النيّة عليه، حلَّ لها أن تُباشر أَبْكارَ العلوم اللدنية الوهبية، والحقائق العرفانية، وتفضي إلى ثَيبات العلوم الرَّسْمية الكسبية. العلومُ اللدنية والوهبية شِعارُها٢، والعلومُ الرسمية دِثارها٣. العلوم اللدنية لباس باطنها، والعلوم الرسمية لباس ظاهرها.
قال أبو سليمان الداراني : إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام جالت في الملكوت، ثم عادت إلى صاحبها بطرائف العلوم، من غير أن يُؤدّي إليها عالمٌ عِلْماً. ه.
قال الحقّ تعالى :﴿ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ﴾ بدنس الهفوات، فمنعكم من مباشرة تلك العلوم الوهبيات، فلما عقدْتُم التوبة، وعزمتم على تركها، تاب عليكم وعفا عنكم، فالآن باشروها، وابتغوا ما كتب الله لكم، من الوصول إلى معرفته، والعكوف في حضرة قُدسه، وكلوا من ثمرات تلك العلوم، واشربوا من خمرة الحيّ القيّوم، حتى يَطْلُعَ عليكم فجرُ الكشف والبيان، وتُشرق على قلوبكم شمسُ نهار العرفان، فحينئذٍ تَضْمَحِلُّ تلك العلوم، وتمحي تلك المعالم والرسوم. ولم يبقَ إلا الاستغراق في مشاهدة الحيّ القيّوم، فلا تباشروها وأنتم عاكفون في تلك المساجد. فمشاهدةُ وجهِ الحبيب تُغنْي عن مطالعة المعالم والمشاهد. تلك حدود الله فلا تقربوها، أي : لا تقفوا مع تلك العلوم وحلاوة تلك الرسوم ؛ فإنها تمنعكم من مشاهدة الحيّ القيّوم : كذلك يبين الله آياته الموضَّحة لطريق وصوله للناس، لعلهم يتقون مشاهدة ما سواه. والله تعالى أعلم.
١ يروى البيت بلفظ:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباسا
والبيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص ٨١، ومقاييس اللغة ٥/ ٢٣٠، ولسان العرب، (لبس)، والشعر والشعراء ص ٣٠٢..

٢ الشعار: ما ولي جسد الإنسان دون سواه من الثياب..
٣ الدثار: الثوب الذي يكون فوق الشعار..
ولما أراد الحقّ أن يتكلم على الحج قدَّم الكلام على الأموال ؛ لأنها سببٌ في وجوبه، والوصول إليه في الغالب، فقال :
﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
قلت : أصل الإدلاء : إرسالُ الدَّلْو في الماء ليتوصل به إلى أخذ الماء من البئر، ثم أُطلق في كل ما يتوسل به إلى شيء، يقال : أدلَى بمالِه إلى الحكام، أي : دفعه رِشْوة، ليتوصل بذلك إلى أخذ أكثر منه، وهو المراد هنا، وفي القاموس : أدلى برَحمِه : توسَّل، وبحُجَّتِه : أحضرَها، وإليه بمالهِ : دفَعه. ومنه :﴿ وتُدْلوا بها إلى الحكام ﴾. ه. و﴿ تدلوا ﴾ معطوف على ﴿ تأكلوا ﴾، مَنْهِي عنهما معاً.
يقوله الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولا تأكلوا ﴾ يا معشر المسلمين ﴿ أموالكم ﴾ أي : أموال بعضكم بعضاً، ﴿ بالباطل ﴾ أي : بغير حقّ شرعي ؛ إما بغير حق أصلاً كالغضْب والسرقة والخيانة والخَدْع والتطفيف والغش وغير ذلك. أو بحق باطل كما يؤخذ في السحر والكهانة والفأل والقِمار والجاه، وهَدِية المِدْيان١، وهدية القرض، والضمان، والرشوة، والربا، وغير ذلك مما نهى الشارعُ عنه. ولا يدخل في ذلك التمائم والعزائم إذا كان بالقرآن أو السنّة وغلَب الشفاء، وكذلك لا يدخل أيضاً الغَبْن، إذا كان البائعُ عالماً بالمَبِيع.
أو ﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ بأن تُنفقوها في المَلاهي والزنا والشرب واللواط، وغير ذلك من المحرمات، ولا ﴿ تدلوا ﴾ أي : تتوسلوا بها، أي : بدفعها ﴿ إلى الحكام ﴾ رشوة ﴿ لتأكلوا فريقاً من أموال الناس ﴾ بأن يحكم لكم بها القاضي، تأخذونها متلبسين ﴿ بالإثم ﴾ أي : بالمعصية ﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أنها لغيركم ؛ فإنَّ حُكْمَ الحاكِم لا يُحِلُّ حراماً.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال :" إنَّما أنا بَشرٌ مثلُكُم، ولعلَّ بعضَكُمْ أن يكون الْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعضٍ فأقضي لهُ، فمن قَضَيتُ له بشيء من مال أخِيهِ فإنَّما لهُ قِطعةٌ من النارِ ".
الإشارة : الباطلُ كلُّ ما سوى الحقّ، فكل من كان يأخذ من يد الخلق ولا يشاهد فيهم الحقّ فإنما يأخذ أموال الناس بالباطل. قال في الحِكَم :" لا تَمُدَّن يديك إلى الأخذ من الخلائق إلا أن تَرى أن المعطيَ فيهم مولاك، فإذا كنت كذلك فخُذْ ما وافقك العلم ". ويحتاج العامل بهذا إلى عَسةٍ٢ كبيرةٍ، وشُهودٍ قَوِي، حتى يَفْنَى عَنْ نظرهِ مشاهدةُ الخلق في شهود الملك الحق. وكان بعضهم يطلب مَنْ هذا وصْفُه فيعطي للفقير العطاء، ويقول : خذ، لا لك، فلا يسمع من أحد شيئاً، حتى أعطَى لبعض الفقراء، وقال : خذ، لا لك، فقال : أقبضُ لا منك. ه. قلت : الوصول إلى الحكام على شأن الدنيا أو للانتصار للنفس حرام في طريق الخصوص، بل يصبر حتى يحكم الله بينه وبين خصمه، وهو خير الحاكمين، فإن اضطُرَّ إلى شيء ولم يجد بُدّاً منه فليُوكِّلْ، وبالله التوفيق.
١ رجل مديان: إذا كانت عادته أن يأخذ الدين..
٢ عس فلان عسا: طاف بالليل يكشف عن أهل الريبة، فهو عاس، جمع عسس وعساس..
ولما أراد الحق تعالى أن يتكلم على أحكام الحج، قدم الكلام على الهلال ؛ لأنه معتبر في الحج، أداء وقضاء، فقال :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
﴿ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ. . . ﴾
قلت : الذي سأله معاذُ بن جبل وثعلبةُ بن غنمة، فقالا : يا رسول الله : ما بال الهلال يبدو رقيقاً كالخيط، ثم لا يزال يزيد حتى يستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يرجع كالخيط ؟ فقال الحقّ جلّ جلاله :﴿ يسألونك عن الأهلة ﴾ أي : عن حكمة اختلاف الأهلة بالزيادة والنقص ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد :﴿ هي مواقيت للناس ﴾ يُوقِّتُون بها دُيونهم، ويعرفون بها أوقات زَرْعهم، وعِدَدَ نسائهم وصيامهم. وهي أيضاً مواقيتُ للحج، يعرفون بذلك وقت دخوله وخروجه، فيعرفون الأداء من القضاء، فلو كانت على حالة واحدة لم يعرفوا ذلك. أجابهم الحق تعالى بغير ما ينتظرون ؛ أشارة إلى أن السؤال عن سر الاختلاف، ليس فيه منفعة شرعية، وإنما ينبغي الاهتمام بما فيه منفعة دينية.
قال أهل الهيئة : إن نوره من نُور الشمس، وجِرْمه أَطْلَس، فكلما بعد من مُسَامتة الشمس قابَله نورُها، فإذا قرب منها لم يقابله من نورها إلا بعض جِرمه، فإذا دخل تحتها في الفلك كان ظَهره كله إليها، فلم يقابله شيء من نورها، فإذا خرج مِنح تحتِها قابله بقدر ذلك، والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا ظهر هلال السعادة في أفق الإرادة، وهبَّت ريح الهداية من ناحية سابق العناية، دخل وقت حج القلوب إلى حضرة علام الغيوب، فهلال الهداية للسائرين، وهم أرباب الأحوال أهل التلوين، يزداد نوره بزيادة اليقين، وينقص بنقصانه، على حسب ضعف حاله وقته، حتى يتحقق الوصال، ويُرزق صف الكمال. وأنشدوا١ :
كُلَّ يومٍ تَتَلَوَّنْ غيرُ هذا بِكَ أَجْمَلْ
فصاحب التلوين بين الزيادة والنقصان، إلى أن تطلع عليه شمس العرفان، فإذا طلعت شمس العرفان فليس بعدها زيادة ولا نقصان، وأنشدوا :
طَلَعَتْ شمسُ من أُحِبُّ بلَيْلٍ واستضاءتْ فما تَلاها غُروبُ
إنَّ شَمْسَ النَّهارِ تَغْربُ باللي ل وشَمْسَ القُلوب لَيْسَتْ تَغيبُ
بخلاف صاحب التمكين ؛ فإنه أبدا في ضياء معرفته، متكنٌ في بُرج سعادته، لا يلحق شمسَه كسوف ولا حجابٌ، ولا يستر نورَها ظلمةٌ ولا سحاب، فلو طلب الحجاب لم يُجَبْ. قال بعض العارفين :( لو كُلفتُ أنْ أَرى غيره لم أستطع، فإنه لا غير معه حتى أشهده ).
ثم حذَّر الحق تعالى مما ابتدعه المشركون في الحج، فقال :
﴿. . . وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٨٩ ) ﴾
قلت : كانت الأنصار إذا حَجُّوا أو اعتمروا، يقولون : لا يَحُول بيننا وبين السماء سَقْفٌ، حتى يدخلوا بيوتهم، فإذا رجعوا تسوَّرُوا الجُدْران، أو نَقَبُوا في ظهور بيوتهم، فجاء رجالٌ منهم فدخل من الباب، فَعُيِّر بذلك، فأنزل الحقّ جلّ جلاله :﴿ وليس البر ﴾ أي : الطاعة، ﴿ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ﴾ فتتسوروها، أو تنقُبوا من أعلاها، ﴿ ولكن البر من اتقى ﴾ المحارم وخالف الشهوات.
أو : ليس البر بأن تعكسوا مسائلكم بأن تسألوا عما لا نفع لكم فيه، وتتركوا مسائل العلم التي تنفعكم في العاجل والآجل. ﴿ ولكن البر من اتقى ﴾ ذلك، ﴿ وأتوا ﴾ بيوت العلم من أبوابها، فتُحسنون السؤال وتتأدبون في المقال، وتقدمون الأهم فالأهم، والأنفع فالأنفع. ﴿ واتقوا الله ﴾ فلا تُغيروا أحكامه، ولا تعترضوا على أفعاله ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ بتوفيقه وهدايته.
الإشارة : اعلم أن البيوت التي يدخلها المريد ثلاثة : بيت الشريعة وبيت الطريقة وبيت الحقيقة، ولكل واحد أبواب فمن أتى البيت من بابه دخل. ومن أتاه من غيره طُرد.
فبيت الشريعة له ثلاثة أبواب : الباب الأول : التوبة، فإذا دخل هذا الباب، وحقَّق التوبة بأركانها وشروطها، استقبله باب الاستقامة، وهي : متابعة الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله، فإذا دخله، وحقق الاستقامة، استقبله باب التقوى بأقسامها. فإذا حقق التقوى ظاهراً وباطناً، دخل بيت الشريعة المطهرة، وتنزه في محاسنه ومعانيه، ثم يروم دخول بيت الطريقة، وله ثلاثة أبواب :
الباب الأول : الإخلاص وهو : إفراد العمل لله من غير حرف ولا حظ، فإذا حقق الإخلاص استقبله باب التخلية وهي التظهير من العيوب الباطنة، وهي لا تنحصر، لكن من ظفر بالشيخ أطلعه عليها، وعلَّمه أوديتها، فإذا حقق التخلية استقبله باب التحلية، وهي : الاتصاف بأنواع الفضائل كالصبر والحلم والصدق والطمأنينة والسخاء والإيثار، وغير ذلك من أنواع الكمالات. فإذا حقق الإخلاص والتخلية والتحلية فقد حقق بيت الطريقة، ثم يستقبله بيت الحقيقة.
فأول ما يقرع باب المراقبة، وهي : حفظ القلب والسر من الخواطر الردية، فإذا تطهر القلب من الخواطر الساكنة، استشرف على باب المشاهدة، وهي : محو الرسوم في مشاهدة أنوار الحيّ القيّوم، أو تلطيف الأواني عند ظهور المعاني، فإذا دخل باب المشاهدة، وسكن فيها، استقبله باب المعرفة، وهي محلّ الرسوخ والتمكين، وهي الغاية والمنتهى، فبيت الحقيقة هو مسجد الحضرة الربانية. وما بقي بعدها إلا الترقي في المقامات، وزيادة المعارف والكشوفات أبداً سرمداً، منحنا الله من ذلك حظّاً وافراً بمنّه وكرمه.
١ البيت للبيد في ديوانه ص ١٩٢..
ولما كان البيت الحرام عند فرض الحج معمورا بالكفار، أمرهم بجهادهم ليتمكن المسلمون من الحج، فقال :
﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ * ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ ﴾ * ﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ * ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ * ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ * ﴿ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقاتلوا في سبيل الله ﴾ وإعلاء كلمته ﴿ الذين يقاتلونكم ﴾ أي : يبدءونكم بالقتال، ﴿ ولا تعتدوا ﴾ فتقاتلوهم قبل أن يبدءوكم، ﴿ إن الله لا يحب المعتدين ﴾ لا ينصرهم ولا يؤيدهم. ثم نسخ هذا بقوله :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً. . . ﴾ [ التوبة : ٣٦ ] الآية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أعلم أن أعداء الإنسان التي تقطعه عن حضرة ربه أربعة : النفس والشيطان والدنيا والناس. فمجاهدة النفس : بمخالفة هواها، وتحميلها ما يَثقُل عليها حتى ترتاض، ومجاهدة الشيطان : بعصيانه، والاشتغال بالله عنه، فإنه يذوب بذكر الله، ومجاهدة الدنيا : بالزهد فيها، والقناعة بما تيسر منها، ومجاهدة الناس : بالغيبة عنهم والإعراض عنهم في الإقبال والإدبار. فيقول الحقّ جلّ جلاله للمتوجهين إليه :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ ويصدونكم عن حضرته، ولا تعتدوا فتشتغلوا بهم عن ذكري، والإقبال عليّ، ﴿ إن الله لا يحب المعتدين ﴾. بل اقتلوهم حيث تعرضوا لكم فقط، فإذا ظهرت صورة النفس أدبها، ثم غاب في الله عنها، وكذلك بقية القواطع.
وكان شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه يقول :( عداوة العدو حقّاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب حقّاً، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو فاتتك محبة الحبيب، ونال العدو مراده منك ). هـ. وأخرجوهم من قلوبكم من حيث أخرجوكم من حضرة ربكم، يعني : كما أخرجوكم من الحضرة في أيام الغفلة، أخرجوهم من قلوبكم في أيام اليقظة. والفتنة بالاشتغال بهم أشد من القتل لهم، ولا تقاتلوهم عند مسجد الحضرة وحال الغيبة في الله، فإن ذلك التفات إلى غير الله، كمن كان مقبلاً عليه حبيبه فجعل يلتفت إلى مَن يكلمه ويشغله عنه. وذلك في غاية الجفاء، حتى يقاتلوكم فيه، ويريدون أن يخرجوكم منه بوسوستهم، فإن قاتلوكم، وخطر على بالكم شيء من وسوستهم، فاقتلوهم بذكر الله، والتعوّذ منهم، فإن الله يكفيكم أمرهم، وينهزمون عنكم، كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا عنكم، وانقطع عنكم خواطرهم، فغيبوا عنهم فإن الله يستركم عنهم، وقاتلوهم على الدوام حتى لا تكون في قلوبكم فتنة منهم، ويكون التوجه كله لله، لا ينازعه شيء مما سواه، فإن انتهوا عنكم فلا تتعرضوا لهم ؛ فإن ذلك عدوان وظلم، ﴿ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ].
فإن جَنَحَتْ نفسُك إلى حرمة الطاعة الظاهرة ؛ كتدريس علم أو جهاد أو غيرها، وأرادت أن تخرجك من حرمة الحضرة القدسية ؛ وهي الفكرة والشهود والمعاينة، فقاتلها وأخرجها من حرمة تلك الطاعة، فالحرمات قصاص. فكما أخرجتك من حضرة ربك القدسية أخرِجْها من حضرة الطاعة الحسية إلى الطاعة القلبية. فإن الذَّرَّةَ من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
فمَن اعتدى عليكم، في زمن البطالة، فاعتدوا عليه في زمن اليقظة بمثل ما اعتدى عليكم. وكان شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول : جوروا على نفوسكم بقدر ما جارت عليكم هـ. أي : اقتلوها بقدر ما قتلتكم بالبعد عن ربكم. وكان أيضاً يقول :( جوروا على الوهم قل أن يجور عليكم ). هـ. واتقوا الله فإن الله يعينكم عليها، ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾. وأنفقوا أنفسكم ومهجكم في سبيل الله، بأن تطرحوها في يد الله يفعل بها ما يشاء. ﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ فتدبروا لها، وتختاروا لها، وتعتنوا بشؤونها، فإن ذلك غفلة عن ربكم. ﴿ وأحسنوا ﴾ أي : ادخلوا في مقام الإحسان ؛ بأن تعبدوا لله كأنكم ترونه ﴿ إن الله يحب المحسنين ﴾ أي : يقربهم إلى حضرته، ويصطفيهم إلى محبته ومعرفته، خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه.

﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾ أي : وجدتموهم، ولا تتحرجوا من قتالهم في الحرم، فإنهم هم الذين صدوكم وبدأوكم بالإذاية، ﴿ وأخرجوهم ﴾ من مكة ﴿ حيث أخرجوكم ﴾ منها، ﴿ والفتنة ﴾ أي : الكفر الذي هم فيه، ﴿ أشد من القتل ﴾ لهم في الحرم، ﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ﴾ ابتداءً ﴿ حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم ﴾ فيه ﴿ فاقتلوهم ﴾ فيه، وفي غيره، ﴿ كذلك جزاء الكافرين ﴾ يفعل بهم ما فعلوا بغيرهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أعلم أن أعداء الإنسان التي تقطعه عن حضرة ربه أربعة : النفس والشيطان والدنيا والناس. فمجاهدة النفس : بمخالفة هواها، وتحميلها ما يَثقُل عليها حتى ترتاض، ومجاهدة الشيطان : بعصيانه، والاشتغال بالله عنه، فإنه يذوب بذكر الله، ومجاهدة الدنيا : بالزهد فيها، والقناعة بما تيسر منها، ومجاهدة الناس : بالغيبة عنهم والإعراض عنهم في الإقبال والإدبار. فيقول الحقّ جلّ جلاله للمتوجهين إليه :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ ويصدونكم عن حضرته، ولا تعتدوا فتشتغلوا بهم عن ذكري، والإقبال عليّ، ﴿ إن الله لا يحب المعتدين ﴾. بل اقتلوهم حيث تعرضوا لكم فقط، فإذا ظهرت صورة النفس أدبها، ثم غاب في الله عنها، وكذلك بقية القواطع.
وكان شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه يقول :( عداوة العدو حقّاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب حقّاً، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو فاتتك محبة الحبيب، ونال العدو مراده منك ). هـ. وأخرجوهم من قلوبكم من حيث أخرجوكم من حضرة ربكم، يعني : كما أخرجوكم من الحضرة في أيام الغفلة، أخرجوهم من قلوبكم في أيام اليقظة. والفتنة بالاشتغال بهم أشد من القتل لهم، ولا تقاتلوهم عند مسجد الحضرة وحال الغيبة في الله، فإن ذلك التفات إلى غير الله، كمن كان مقبلاً عليه حبيبه فجعل يلتفت إلى مَن يكلمه ويشغله عنه. وذلك في غاية الجفاء، حتى يقاتلوكم فيه، ويريدون أن يخرجوكم منه بوسوستهم، فإن قاتلوكم، وخطر على بالكم شيء من وسوستهم، فاقتلوهم بذكر الله، والتعوّذ منهم، فإن الله يكفيكم أمرهم، وينهزمون عنكم، كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا عنكم، وانقطع عنكم خواطرهم، فغيبوا عنهم فإن الله يستركم عنهم، وقاتلوهم على الدوام حتى لا تكون في قلوبكم فتنة منهم، ويكون التوجه كله لله، لا ينازعه شيء مما سواه، فإن انتهوا عنكم فلا تتعرضوا لهم ؛ فإن ذلك عدوان وظلم، ﴿ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ].
فإن جَنَحَتْ نفسُك إلى حرمة الطاعة الظاهرة ؛ كتدريس علم أو جهاد أو غيرها، وأرادت أن تخرجك من حرمة الحضرة القدسية ؛ وهي الفكرة والشهود والمعاينة، فقاتلها وأخرجها من حرمة تلك الطاعة، فالحرمات قصاص. فكما أخرجتك من حضرة ربك القدسية أخرِجْها من حضرة الطاعة الحسية إلى الطاعة القلبية. فإن الذَّرَّةَ من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
فمَن اعتدى عليكم، في زمن البطالة، فاعتدوا عليه في زمن اليقظة بمثل ما اعتدى عليكم. وكان شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول : جوروا على نفوسكم بقدر ما جارت عليكم هـ. أي : اقتلوها بقدر ما قتلتكم بالبعد عن ربكم. وكان أيضاً يقول :( جوروا على الوهم قل أن يجور عليكم ). هـ. واتقوا الله فإن الله يعينكم عليها، ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾. وأنفقوا أنفسكم ومهجكم في سبيل الله، بأن تطرحوها في يد الله يفعل بها ما يشاء. ﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ فتدبروا لها، وتختاروا لها، وتعتنوا بشؤونها، فإن ذلك غفلة عن ربكم. ﴿ وأحسنوا ﴾ أي : ادخلوا في مقام الإحسان ؛ بأن تعبدوا لله كأنكم ترونه ﴿ إن الله يحب المحسنين ﴾ أي : يقربهم إلى حضرته، ويصطفيهم إلى محبته ومعرفته، خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه.

﴿ فإن انتهوا ﴾ عن الشرك وأسلموا ﴿ فإن الله غفور ﴾ لهم ﴿ رحيم ﴾ بهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أعلم أن أعداء الإنسان التي تقطعه عن حضرة ربه أربعة : النفس والشيطان والدنيا والناس. فمجاهدة النفس : بمخالفة هواها، وتحميلها ما يَثقُل عليها حتى ترتاض، ومجاهدة الشيطان : بعصيانه، والاشتغال بالله عنه، فإنه يذوب بذكر الله، ومجاهدة الدنيا : بالزهد فيها، والقناعة بما تيسر منها، ومجاهدة الناس : بالغيبة عنهم والإعراض عنهم في الإقبال والإدبار. فيقول الحقّ جلّ جلاله للمتوجهين إليه :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ ويصدونكم عن حضرته، ولا تعتدوا فتشتغلوا بهم عن ذكري، والإقبال عليّ، ﴿ إن الله لا يحب المعتدين ﴾. بل اقتلوهم حيث تعرضوا لكم فقط، فإذا ظهرت صورة النفس أدبها، ثم غاب في الله عنها، وكذلك بقية القواطع.
وكان شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه يقول :( عداوة العدو حقّاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب حقّاً، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو فاتتك محبة الحبيب، ونال العدو مراده منك ). هـ. وأخرجوهم من قلوبكم من حيث أخرجوكم من حضرة ربكم، يعني : كما أخرجوكم من الحضرة في أيام الغفلة، أخرجوهم من قلوبكم في أيام اليقظة. والفتنة بالاشتغال بهم أشد من القتل لهم، ولا تقاتلوهم عند مسجد الحضرة وحال الغيبة في الله، فإن ذلك التفات إلى غير الله، كمن كان مقبلاً عليه حبيبه فجعل يلتفت إلى مَن يكلمه ويشغله عنه. وذلك في غاية الجفاء، حتى يقاتلوكم فيه، ويريدون أن يخرجوكم منه بوسوستهم، فإن قاتلوكم، وخطر على بالكم شيء من وسوستهم، فاقتلوهم بذكر الله، والتعوّذ منهم، فإن الله يكفيكم أمرهم، وينهزمون عنكم، كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا عنكم، وانقطع عنكم خواطرهم، فغيبوا عنهم فإن الله يستركم عنهم، وقاتلوهم على الدوام حتى لا تكون في قلوبكم فتنة منهم، ويكون التوجه كله لله، لا ينازعه شيء مما سواه، فإن انتهوا عنكم فلا تتعرضوا لهم ؛ فإن ذلك عدوان وظلم، ﴿ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ].
فإن جَنَحَتْ نفسُك إلى حرمة الطاعة الظاهرة ؛ كتدريس علم أو جهاد أو غيرها، وأرادت أن تخرجك من حرمة الحضرة القدسية ؛ وهي الفكرة والشهود والمعاينة، فقاتلها وأخرجها من حرمة تلك الطاعة، فالحرمات قصاص. فكما أخرجتك من حضرة ربك القدسية أخرِجْها من حضرة الطاعة الحسية إلى الطاعة القلبية. فإن الذَّرَّةَ من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
فمَن اعتدى عليكم، في زمن البطالة، فاعتدوا عليه في زمن اليقظة بمثل ما اعتدى عليكم. وكان شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول : جوروا على نفوسكم بقدر ما جارت عليكم هـ. أي : اقتلوها بقدر ما قتلتكم بالبعد عن ربكم. وكان أيضاً يقول :( جوروا على الوهم قل أن يجور عليكم ). هـ. واتقوا الله فإن الله يعينكم عليها، ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾. وأنفقوا أنفسكم ومهجكم في سبيل الله، بأن تطرحوها في يد الله يفعل بها ما يشاء. ﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ فتدبروا لها، وتختاروا لها، وتعتنوا بشؤونها، فإن ذلك غفلة عن ربكم. ﴿ وأحسنوا ﴾ أي : ادخلوا في مقام الإحسان ؛ بأن تعبدوا لله كأنكم ترونه ﴿ إن الله يحب المحسنين ﴾ أي : يقربهم إلى حضرته، ويصطفيهم إلى محبته ومعرفته، خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه.

﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ أي : شرك ﴿ ويكون الدين ﴾ خالصاً ﴿ لله ﴾ بحيث لا يبقى في جزيرة العرب إلا دين واحد، ﴿ فإن انتهوا ﴾ عن قتالكم، فلا تعتدوا ؛ فإن ﴿ لا عدوان إلا على الظالمين ﴾ إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أعلم أن أعداء الإنسان التي تقطعه عن حضرة ربه أربعة : النفس والشيطان والدنيا والناس. فمجاهدة النفس : بمخالفة هواها، وتحميلها ما يَثقُل عليها حتى ترتاض، ومجاهدة الشيطان : بعصيانه، والاشتغال بالله عنه، فإنه يذوب بذكر الله، ومجاهدة الدنيا : بالزهد فيها، والقناعة بما تيسر منها، ومجاهدة الناس : بالغيبة عنهم والإعراض عنهم في الإقبال والإدبار. فيقول الحقّ جلّ جلاله للمتوجهين إليه :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ ويصدونكم عن حضرته، ولا تعتدوا فتشتغلوا بهم عن ذكري، والإقبال عليّ، ﴿ إن الله لا يحب المعتدين ﴾. بل اقتلوهم حيث تعرضوا لكم فقط، فإذا ظهرت صورة النفس أدبها، ثم غاب في الله عنها، وكذلك بقية القواطع.
وكان شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه يقول :( عداوة العدو حقّاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب حقّاً، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو فاتتك محبة الحبيب، ونال العدو مراده منك ). هـ. وأخرجوهم من قلوبكم من حيث أخرجوكم من حضرة ربكم، يعني : كما أخرجوكم من الحضرة في أيام الغفلة، أخرجوهم من قلوبكم في أيام اليقظة. والفتنة بالاشتغال بهم أشد من القتل لهم، ولا تقاتلوهم عند مسجد الحضرة وحال الغيبة في الله، فإن ذلك التفات إلى غير الله، كمن كان مقبلاً عليه حبيبه فجعل يلتفت إلى مَن يكلمه ويشغله عنه. وذلك في غاية الجفاء، حتى يقاتلوكم فيه، ويريدون أن يخرجوكم منه بوسوستهم، فإن قاتلوكم، وخطر على بالكم شيء من وسوستهم، فاقتلوهم بذكر الله، والتعوّذ منهم، فإن الله يكفيكم أمرهم، وينهزمون عنكم، كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا عنكم، وانقطع عنكم خواطرهم، فغيبوا عنهم فإن الله يستركم عنهم، وقاتلوهم على الدوام حتى لا تكون في قلوبكم فتنة منهم، ويكون التوجه كله لله، لا ينازعه شيء مما سواه، فإن انتهوا عنكم فلا تتعرضوا لهم ؛ فإن ذلك عدوان وظلم، ﴿ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ].
فإن جَنَحَتْ نفسُك إلى حرمة الطاعة الظاهرة ؛ كتدريس علم أو جهاد أو غيرها، وأرادت أن تخرجك من حرمة الحضرة القدسية ؛ وهي الفكرة والشهود والمعاينة، فقاتلها وأخرجها من حرمة تلك الطاعة، فالحرمات قصاص. فكما أخرجتك من حضرة ربك القدسية أخرِجْها من حضرة الطاعة الحسية إلى الطاعة القلبية. فإن الذَّرَّةَ من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
فمَن اعتدى عليكم، في زمن البطالة، فاعتدوا عليه في زمن اليقظة بمثل ما اعتدى عليكم. وكان شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول : جوروا على نفوسكم بقدر ما جارت عليكم هـ. أي : اقتلوها بقدر ما قتلتكم بالبعد عن ربكم. وكان أيضاً يقول :( جوروا على الوهم قل أن يجور عليكم ). هـ. واتقوا الله فإن الله يعينكم عليها، ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾. وأنفقوا أنفسكم ومهجكم في سبيل الله، بأن تطرحوها في يد الله يفعل بها ما يشاء. ﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ فتدبروا لها، وتختاروا لها، وتعتنوا بشؤونها، فإن ذلك غفلة عن ربكم. ﴿ وأحسنوا ﴾ أي : ادخلوا في مقام الإحسان ؛ بأن تعبدوا لله كأنكم ترونه ﴿ إن الله يحب المحسنين ﴾ أي : يقربهم إلى حضرته، ويصطفيهم إلى محبته ومعرفته، خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه.

القتال : الصد منكم لهم في ﴿ الشهر الحرام ﴾ في مقابلة الصد الذي صدر منهم لكم في الشهر الحرام، ﴿ والحرمات قصاص ﴾ يقتص بعضها من بعض، فكما انتهكوا حرمة الشهر الحرام، بمنعكم من اليبت، فانتهكوا حرمتهم بالقتل فيه. ﴿ فمن اعتدى عليكم ﴾ بالقتال في الأشهر الحُرُم، أو في الحرَم ﴿ فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله ﴾ فلا تنتصروا لنفوسكم، ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ بالحفظ والتأييد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أعلم أن أعداء الإنسان التي تقطعه عن حضرة ربه أربعة : النفس والشيطان والدنيا والناس. فمجاهدة النفس : بمخالفة هواها، وتحميلها ما يَثقُل عليها حتى ترتاض، ومجاهدة الشيطان : بعصيانه، والاشتغال بالله عنه، فإنه يذوب بذكر الله، ومجاهدة الدنيا : بالزهد فيها، والقناعة بما تيسر منها، ومجاهدة الناس : بالغيبة عنهم والإعراض عنهم في الإقبال والإدبار. فيقول الحقّ جلّ جلاله للمتوجهين إليه :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ ويصدونكم عن حضرته، ولا تعتدوا فتشتغلوا بهم عن ذكري، والإقبال عليّ، ﴿ إن الله لا يحب المعتدين ﴾. بل اقتلوهم حيث تعرضوا لكم فقط، فإذا ظهرت صورة النفس أدبها، ثم غاب في الله عنها، وكذلك بقية القواطع.
وكان شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه يقول :( عداوة العدو حقّاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب حقّاً، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو فاتتك محبة الحبيب، ونال العدو مراده منك ). هـ. وأخرجوهم من قلوبكم من حيث أخرجوكم من حضرة ربكم، يعني : كما أخرجوكم من الحضرة في أيام الغفلة، أخرجوهم من قلوبكم في أيام اليقظة. والفتنة بالاشتغال بهم أشد من القتل لهم، ولا تقاتلوهم عند مسجد الحضرة وحال الغيبة في الله، فإن ذلك التفات إلى غير الله، كمن كان مقبلاً عليه حبيبه فجعل يلتفت إلى مَن يكلمه ويشغله عنه. وذلك في غاية الجفاء، حتى يقاتلوكم فيه، ويريدون أن يخرجوكم منه بوسوستهم، فإن قاتلوكم، وخطر على بالكم شيء من وسوستهم، فاقتلوهم بذكر الله، والتعوّذ منهم، فإن الله يكفيكم أمرهم، وينهزمون عنكم، كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا عنكم، وانقطع عنكم خواطرهم، فغيبوا عنهم فإن الله يستركم عنهم، وقاتلوهم على الدوام حتى لا تكون في قلوبكم فتنة منهم، ويكون التوجه كله لله، لا ينازعه شيء مما سواه، فإن انتهوا عنكم فلا تتعرضوا لهم ؛ فإن ذلك عدوان وظلم، ﴿ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ].
فإن جَنَحَتْ نفسُك إلى حرمة الطاعة الظاهرة ؛ كتدريس علم أو جهاد أو غيرها، وأرادت أن تخرجك من حرمة الحضرة القدسية ؛ وهي الفكرة والشهود والمعاينة، فقاتلها وأخرجها من حرمة تلك الطاعة، فالحرمات قصاص. فكما أخرجتك من حضرة ربك القدسية أخرِجْها من حضرة الطاعة الحسية إلى الطاعة القلبية. فإن الذَّرَّةَ من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
فمَن اعتدى عليكم، في زمن البطالة، فاعتدوا عليه في زمن اليقظة بمثل ما اعتدى عليكم. وكان شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول : جوروا على نفوسكم بقدر ما جارت عليكم هـ. أي : اقتلوها بقدر ما قتلتكم بالبعد عن ربكم. وكان أيضاً يقول :( جوروا على الوهم قل أن يجور عليكم ). هـ. واتقوا الله فإن الله يعينكم عليها، ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾. وأنفقوا أنفسكم ومهجكم في سبيل الله، بأن تطرحوها في يد الله يفعل بها ما يشاء. ﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ فتدبروا لها، وتختاروا لها، وتعتنوا بشؤونها، فإن ذلك غفلة عن ربكم. ﴿ وأحسنوا ﴾ أي : ادخلوا في مقام الإحسان ؛ بأن تعبدوا لله كأنكم ترونه ﴿ إن الله يحب المحسنين ﴾ أي : يقربهم إلى حضرته، ويصطفيهم إلى محبته ومعرفته، خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه.

قلت :﴿ التهلكة ﴾ : مصدر هلك - بتشديد اللام - قاله ابن عطية. وضمن ﴿ تُلْقُوا ﴾ معنى تفضوا، أو تنتهوا، فعدَّاه بإلى، أي : ولا تفضوا بأنفسكم إلى التهلكة. ولا يحتاج إلى زيادة الباء.
وسبب نزول الآية : أن المشركين صَدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وصالحوه على أن يرجع في قابل، فيخلوا له البيت ثلاثة أيام، فرجع لعمرة القضاء، وخاف المسلمون ألا يفوا لهم، فيقاتِلُوا في الحرم والشهر الحرام، وكرهوا ذلك، فنزلت الآية.
﴿ وأنفقوا في سبيل الله ﴾ في جهاد عدوكم، ولا تمسكوا عن الإنفاق فيه فتلقوا ﴿ بأيديكم ﴾ أي : بأنفسكم ﴿ إلى التهلكة ﴾ أي : الهلكة فيستولي عليكم عدوكم.
رُوِيَ عن أبي أيوب الأنصاري ( أنه كان على القسطنطينية، فحمل رجل على عسكر العدو، فقال قوم : ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب : لا، إن هذه الآية نزلت في الأنصار، قالوا - لما أعز الله الإسلام وكثر أهله - : لو رجعنا إلى أهلينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها، فأنزل الله فينا ﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾، وأما هذا فهو الذي قال فيه الله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٢٠٧ ] )
أو : ولا تنفقوا كل أموالكم فتتعرضوا للهلكة، أو الطمع في الخلق، ولكن القصد، وهو الوسط. ﴿ وأحسنوا ﴾ بالتفضل على المحاويج والمجاهدين :﴿ إن الله يحب المحسنين ﴾ فيحفظهم، ويحفظ عقبهم إلى يوم القيامة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أعلم أن أعداء الإنسان التي تقطعه عن حضرة ربه أربعة : النفس والشيطان والدنيا والناس. فمجاهدة النفس : بمخالفة هواها، وتحميلها ما يَثقُل عليها حتى ترتاض، ومجاهدة الشيطان : بعصيانه، والاشتغال بالله عنه، فإنه يذوب بذكر الله، ومجاهدة الدنيا : بالزهد فيها، والقناعة بما تيسر منها، ومجاهدة الناس : بالغيبة عنهم والإعراض عنهم في الإقبال والإدبار. فيقول الحقّ جلّ جلاله للمتوجهين إليه :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ ويصدونكم عن حضرته، ولا تعتدوا فتشتغلوا بهم عن ذكري، والإقبال عليّ، ﴿ إن الله لا يحب المعتدين ﴾. بل اقتلوهم حيث تعرضوا لكم فقط، فإذا ظهرت صورة النفس أدبها، ثم غاب في الله عنها، وكذلك بقية القواطع.
وكان شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه يقول :( عداوة العدو حقّاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب حقّاً، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو فاتتك محبة الحبيب، ونال العدو مراده منك ). هـ. وأخرجوهم من قلوبكم من حيث أخرجوكم من حضرة ربكم، يعني : كما أخرجوكم من الحضرة في أيام الغفلة، أخرجوهم من قلوبكم في أيام اليقظة. والفتنة بالاشتغال بهم أشد من القتل لهم، ولا تقاتلوهم عند مسجد الحضرة وحال الغيبة في الله، فإن ذلك التفات إلى غير الله، كمن كان مقبلاً عليه حبيبه فجعل يلتفت إلى مَن يكلمه ويشغله عنه. وذلك في غاية الجفاء، حتى يقاتلوكم فيه، ويريدون أن يخرجوكم منه بوسوستهم، فإن قاتلوكم، وخطر على بالكم شيء من وسوستهم، فاقتلوهم بذكر الله، والتعوّذ منهم، فإن الله يكفيكم أمرهم، وينهزمون عنكم، كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا عنكم، وانقطع عنكم خواطرهم، فغيبوا عنهم فإن الله يستركم عنهم، وقاتلوهم على الدوام حتى لا تكون في قلوبكم فتنة منهم، ويكون التوجه كله لله، لا ينازعه شيء مما سواه، فإن انتهوا عنكم فلا تتعرضوا لهم ؛ فإن ذلك عدوان وظلم، ﴿ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ].
فإن جَنَحَتْ نفسُك إلى حرمة الطاعة الظاهرة ؛ كتدريس علم أو جهاد أو غيرها، وأرادت أن تخرجك من حرمة الحضرة القدسية ؛ وهي الفكرة والشهود والمعاينة، فقاتلها وأخرجها من حرمة تلك الطاعة، فالحرمات قصاص. فكما أخرجتك من حضرة ربك القدسية أخرِجْها من حضرة الطاعة الحسية إلى الطاعة القلبية. فإن الذَّرَّةَ من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
فمَن اعتدى عليكم، في زمن البطالة، فاعتدوا عليه في زمن اليقظة بمثل ما اعتدى عليكم. وكان شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول : جوروا على نفوسكم بقدر ما جارت عليكم هـ. أي : اقتلوها بقدر ما قتلتكم بالبعد عن ربكم. وكان أيضاً يقول :( جوروا على الوهم قل أن يجور عليكم ). هـ. واتقوا الله فإن الله يعينكم عليها، ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾. وأنفقوا أنفسكم ومهجكم في سبيل الله، بأن تطرحوها في يد الله يفعل بها ما يشاء. ﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ فتدبروا لها، وتختاروا لها، وتعتنوا بشؤونها، فإن ذلك غفلة عن ربكم. ﴿ وأحسنوا ﴾ أي : ادخلوا في مقام الإحسان ؛ بأن تعبدوا لله كأنكم ترونه ﴿ إن الله يحب المحسنين ﴾ أي : يقربهم إلى حضرته، ويصطفيهم إلى محبته ومعرفته، خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه.

ثم أمر الحق تعالى بإتمام النسك الذي دخل فيه، وحض على الإخلاص فيه، فقال :
﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ. . . ﴾
قلت : المشهور في اللغة أن أحصر الرباعي : بالمرض، وحصر الثلاثي : بالعدو، وقيل : بالعكس، وقيل : هما سواء. و﴿ ما استيسر ﴾ : خبر أو مبتدأ، أي : فالواجب ما استيسر، أو : فعليه ما استيسر.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وأتموا الحج ﴾ الذي دخلتم فيه، ﴿ والعمرة ﴾ وجوباً كالصلاة والصوم، ويكون ذلك ﴿ لله ﴾ لا رياء ولا سمعة، وإنما خصّ الحج والعمرة بالحض على الإخلاص، لما يسرع إليهما من الخلل أكثر من غيرهما، فمن أفسدهما وجب عليه قضاؤهما، ﴿ فإن أحصرتم ﴾ ومنعتم من إتمامهما فتحللوا منهما، وعليكم ﴿ ما استيسر من الهدي ﴾، وذلك شاة ﴿ ولا تحلقوا رؤوسكم ﴾ أي : لا تتحللوا ﴿ حتى يبلغ الهدي محله ﴾، أي : حيث يحل ذبحه، وهو محل الإحصار عند الشافعي، فيذبح فيه بنية التحلل ويُفرق، ومِنَى أو مكة عند مالك، فيُرسله فإذا تحقق أنه وصل وذُبح حل وحلق.
ويحرم على المُحْرِم إزالة الشعث، ولبس المخيط بالعضو، فمن كان ﴿ مريضاً أو به أذى ﴾ صُداع أو نحوه، فحلق رأسه، أو لبس ثيابه، فعليه فديه ﴿ من صيام ﴾ ثلاثة أيام، ﴿ أو صدقة ﴾ على ستة مساكين، مُدَّان لكل مسكين، ﴿ أو نسك ﴾ بشاة فأعلى، فهو مخير بين الثلاثة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا عقد المريد مع ربه عُقْدةً، فالواجب عليه إتمامها حتى يَجْني ثمرتَها، فإذا عقد عقدة المجاهدة فليجاهد نفسه حتى يجني ثمرتها، وهي المشاهدة، وإذا عقد مع الشيخ عقدة الصحبة، فليلزم خدمته حتى يدخله إلى بيت الحضرة، ويشهد له بالترشيد. وهكذا كل من عقد مع الله عقدة يجب عليه إتمامها، فإن أُحصر ومُنع من إتمامها فليفعل. ما استيسر من ذبح نفسه وحط رأسه، و﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ ءَاتَاهَا ﴾ [ الطّلاَق : ٧ ]، ولا ينبغي أن يستعجل الفتح قبل إِبَّانِه، فلعلَّه يُعاقَب بحرمانه، فكم من مريد طلب شيخه أَنْ يُطلعه على سر الربوبية قبل بلوغ محله، فكان ذلك سبب عطبه، فيقال له : ولا تحلق رأسك من شهود السوى حتى يبلغ هَديُ نفسك محلة فيذبح، فإذا ذُبِحت النفس وأُجهِز عليها حلق رأسه حينئذٍ من شهود السِّوى، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه.
إنْ تُرِدْ وَصْلَنَا فَمَوْتُكَ شَرْطٌ لا يَنَالُ الْوِصَال مَنْ فِيهِ فَضْلَهْ
فمن كان مريضاً بضعف عزمه، أو به أذى بعدم نهوض حاله، بحيث لم تُسعفْه المقادير في مجاهدة نفسه، فليشتغل بالنسك الظاهر من صيام أو صدقة أو قراءة أو غير ذلك، حتى يَمنَّ عليه العليمُ الحكيمُ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولمّا ذكر الحقّ تعالى هدى الإحصار وفديَة الأذى، ذكر هدى التمتع، فقال :
﴿. . . فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : فإذا حصل لكم الأمن من المرض أو العدو، أوردتم الحج ﴿ فمن تمتع ﴾ منكم ﴿ بالعمرة إلى الحج ﴾ بأن قدَّم العمرة في أشهر الحج، ثم حجّ من عامه، فالواجب عليه ﴿ ما استيسر من الهدي ﴾ ؛ شاة فأعلى ؛ لكونه تمتَّعَ بإسقاط أحد السَّفَرَيْن ولم يُفرِد لكل عبادة سفراً مخصوصاً. ﴿ فمن لم يجد ﴾ الهدي، ولم يقدِر على شرائه، فعليه ﴿ صيام ثلاثة أيام ﴾ في زمن ﴿ الحج ﴾، وهو زمنُ إحرامه إلى وقوفه بعرفة، فإن لم يصم في ذلك الزمان صام أيام التشريق. ثم يصوم سبعة أيام إذا رجَع إلى مكة أو إلى بلده. فتلك ﴿ عشرة ﴾ أيام ﴿ كاملة ﴾، ولا تتوهموا أن السبعة بدل من الثلاثة، فلذلك صرّح الحقّ تعالى بفَذْلَكة الحساب١.
وهذا الهَدْي أو الصيام إنما يجب على المتمتع ؛ إذا لم يكن ساكناً بأهله في مكة أو ذي طَوى، وأما مَن كان ﴿ أهلُه حاضري المسجد الحرام ﴾ فلا هَدى عليه ؛ لأنه يُحرم بالحج من مكة فلم يسقط أحد السفرين، ﴿ واتقوا الله ﴾ في امتثال أوامره، وخصوصاً مناسك الحج ؛ لكثرتها وتشعب فروعها، ولذلك أُفردت بالتأليف، ﴿ واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾ لمن ترك أوامرَه وارتكب نواهيه، وبالله التوفيق.
الإشارة : يقول الحقّ جلّ جلاله على طريق الإشارة للمتوجهين إليه : فإذا أمنتُمْ من أعدائكم الذين يقطعونكم عن الوصول إلى حضرتنا، أو أمِنْتُم من الرجوع بعد الوصال، أو من السلب بعد العطاء، وذلك بعد التمكين من شهود أسرار الذات، وأنوار الصفات، إذ الكريم إذا أعطى لا يرجع، فإذا حصل لكم الأَمْن، فمن تمتع بأنوار الشريعة إلى أسرار الحقيقة فعليه ما استطاع من الهدي والسمت الحسَن والخلُق الحَسن ؛ لأنه إذ ذاك قد اتصف بصفة الكمال وتصدَّر لتربية الرجال، فمن لم يجد ذلك فلرجع إلى ما تيسر من المجاهدة حتى يتمكن من ذلك الهَدْي الحسن والخلق الحسن، هذا لمن لم يتمكن في الحضرة الأزلية، وأما مَن كان مقيماً بها، عاكفاً في شهود أنوارها، فلا كلام عليه، لأنه قد تولاّه مولاه، وغيَّبَه عن شهود نفسه وهواه، فَأمْرُه كله بالله وإلى الله. جعلنا الله فيهم بمنِّه وكرمه، لكن لا يغفُل عن التقوى ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام :" أنا أعرفُكُم بالله، وأنا أتقاكم له ". وقالوا :" من علامة النهايات الرجوعُ إلى البدايات ". والله تعالى أعلم.
١ الفذلكة: مجمل ما فصل وخلاصته..
ثم ذكر الحق تعالى ميقات الحج الزماني، فقال :
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾
قلت :﴿ الحج ﴾ : مبتدأ، على حذف مضاف، أي : إحرامُ الحج أو فعلُ الحج، و﴿ أشهر ﴾ : خبر، وإذا وقع الزمان خبراً عن اسم معنى ؛ فإن كان ذلك المعنى واقعاً في كل ذلك الزمان أو جُلِّه ؛ تعيَّن رفعُه عند الكوفيين، وترجح عند البصريين إذا كان الزمان نكرة، نحو : السفر يوم. إن كان السفر واقعاً في جميع ذلك اليوم أو في جُلِّه ؛ لأنه باستغراقه إياه صار كأنه هو، ويصح : السفر يوماً، أو في يوم. وإن كان ذلك المعنى واقعاً في بعض ذلك الزمان تعيَّن نصبُه أو جرَّه ف ( في )، نحو : السفر يوم الجمعة، أو في يوم الجمعة وقد يرفع نادراً.
قال في التسهيل : ويُغني - أيْ : ظرف الزمان - عن خبر اسم معنى مطلقاً، فإن وقع في جميعه، أو في أكثره، وكان نكرة، رُفع غالباً، ولا يمتنع نصبه ولا جره بفي خلافاً للكوفيين. وربما رُفع خبرُ الزمان المُوقَع في بعضه. ه. ومن ذلك :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ فإن جُلّها تصلح للإحرام.
يقول الحقّ جلّ جلاله : وقتُ إحرام الحج ﴿ أشهر معلومات ﴾ : شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن أحرم قبلها كره عند مالك، وبطل عند الشافعي، ﴿ فمن فرض ﴾ على نفسه ﴿ فيهن الحج ﴾ فيلزم الأدب والوقار، ويجانبْ شهوة النساء، ﴿ فلا ﴾ يقع منه ﴿ رفث ﴾ أي : جماع أو كلام فُحْش، ﴿ ولا فسوق ﴾ أي : ذنوب، ﴿ ولا جدال في ﴾ زمان ﴿ الحج ﴾ ولو مع المكاري١ أو الخُدّام، ولا غيره من أنواع الخصام ؛ فإنه في حضرة الملك العلام. ﴿ وما تفعلوا من خير ﴾ كحِلْم وصبر وحُسن خلق ﴿ يعلمه الله ﴾ فاستبقوا الخيرات، وتزودوا قبل هجوم الممات، واتقوا الله حق تقاته ﴿ فإن خير الزاد التقوى ﴾. أو تزودوا لسفر الحج، ولا تسافروا كَلاً على الناس ؛ ﴿ فإن خير الزاد التقوى ﴾ عن الطمع في الخلق، ﴿ واتقون يا أولي الألباب ﴾، وأفرِدُوني في سركم حتى أفتح لكم الباب، وأدخلَكم مع الأحباب.
الإشارة : معاملة الأبدان مؤقتة بالأماكن والأزمان، ومعاملة القلوب أو الأرواح غير مؤقتة بزمان مخصوص، ولا مكان مخصوص، فحجَ القلوب، الأزمنةُ كلها له ميقات، والأماكن كلها عرفات، حج القلوب هو العكوف في حضرة علام الغيوب، وهي مُسَرْمَدَةٌ على الدوام على مَرِّ الليالي والأيام، فكل وقت عندهم ليلة القدر، وكل مكان عندهم عرفةُ المشرَّفةُ القدر، وأنشدوا :
لولا شهودُ جمالكم في ذاتي ما كنتُ أَرْضَى ساعةً بِحَياتي
ما ليلةُ القدرُ الْمُعَظَّمُ شأنُها إلا إذا عَمَرَتْ بكُم أوقَاتِي
إن المحبَّ إذا تمكَّنَ في الهَوَى والحبّ لم يَحْتَجْ إلى ميقاتِ
وقال آخر :
كُلُّ وقتٍ مِنْ حَبيبِي قدْرُهُ كأَلْفِ حَجَّة
فازَ مَنْ خلَّى الشَّوَاغِلْ وَلِموْلاَه تَوَجَّهْ
فمَنْ فَرض على قلبه حجَّ الحضرة فليلتزم الأدب والنظرة، والسكوتَ والفكرة، قال تعالى :﴿ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ﴾ [ طه : ١٠٨ ] فلا رفث ولا فسوقَ ولا جدال ولا مراء، إذ مبنى طريقهم على التسليم والرضى، وما تفعلوا من خير فليس على الله بخفي. وتزودوا بتقوى شهود السَّوَى، ﴿ فإن خير الزاد التقوى ﴾، وجِمَاعُ التقوى هي مخالفة الهَوى، ومحبة المولَى، فهذه تقوى أولي الألباب ؛ الذين صفَتْ مِرآة قلوبهم، فأبصروا الرشد والصواب، وبالله التوفيق.
١ المكاري: الذي يؤجر الدابة، من أكرى الدار أو الدابة: آجرها، وكاراه مكاراة وكراء: آجره، فهو مكار. واكترى الدار أو الدابة: استأجرها..
ثم أباح الحق تعالى التجارة في مواسم الحج، فقال :
﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن ربكم ﴾
قلت :﴿ أن تبتغوا ﴾ : على إسقاط حرف الجر، أيْ : في أن تبتغوا، وسبب نزول الآية : أن عُكاظاً ومَجَنّة وذا المجاز - أسماء مواضع - كانت أسواقاً في الجاهلية يعمرونها في مواسم الحج، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام تأثَّمُوا وتحرجوا أن يتجروا فيها، فقال لهم الحقّ جلّ جلاله :﴿ ليس عليكم جناح ﴾ أي : إثم أو ميل عن الصواب، في ﴿ أن تبتغوا فضلاً من ربكم ﴾ أي : عطاء ورزقاً تستفيدونه من التجارة في مواسم حجكم، إذا خلَصَتْ نيتكم، وغلب قصدُ الحج على التجارة.
وها هنا قاعدةٌ ذكرها الغزالي في الإحياء وحاصلها : أن العمل إذا تمحَّض لغير الله فهو سبب المقت والعقاب، وإذا تمحض الله خالصاً فهو سبب القرب والثواب، وإذا امتزج بشوْب من الرياء أو حظوظ النفس فينظر إلى الغالب وقوة الباعث ؛ فإن كان باعث الحظ أغلب، سقط، وكان إلى العقوبة أقرب، لكن عقوبته أخف ممن تجرد لغير الله، وإن كان باعث التقرب أغلب، حُط منه بقدر ما فيه من باعث الحظ، وإن تساويا تقاوماً وتساقطاً وصار العمل لا له ولا عليه.
ثم قال : ويشهد لهذا إجماعُ الأمة على أن مَنْ خرج حاجّاً ومعه تجارة صحَّ حجه وأُثيب عليه. ثم قال : والصواب أنْ يقال : مهما كان الحج هو المحرّك الأصلي، وكان غرضُ التجارة كالتابع، فلا ينفك نفس السفر عن ثواب، ثم طُرِّد هذا الاعتبار في الجهاد باعتبار الغنيمة، يعني : يُنْظر لغالب الباعث وخُلوص القصد، وكذلك الصوم للحِمْية والثواب، ينظر لغالب الباعث.
قلت : وتطَّرد هذه القاعدة في المعاملات كلها، وجميع الحركات والسكنات والحِرَف وسائر الأسباب، فالخالص من الحظوظ مقبول، والمتمحض للحظوظ مردود، والمَشُوب يُنظر للغالب كما تقدم.
وقد ذكر شيه المشايخ سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه قاعدة أخرى أدقّ من هذه فقال : إذا أكرم الله عبداً في حركاته وسكناته، نصَب له العبودية لله وستر عنه حظوظ نفسه، وجعله يتقلّب في عبوديته، والحظوظ عنه مستورة، مع جَرْي ما قُدِّر له، ولا يلتفت إليها ؛ لأنها في معزل عنه، وإذا أهان الله عبداً في حركاته وسكناته، نصب له حظوظ نفسه، وستر عنه عبوديته، فهو يتقلّب في شهواته، وعبودية الله عنه بمعزلِ، وإن كان يجري عليه شيء منها في الظاهر، قال : وهذا باب من الولاية والإهانة. وأما الصِّدِّيقية العظمى، والولاية الكبرى، فالحظوظ والحقوق كلها سواء عند ذوي البصيرة ؛ لأنه بالله فيما يأخذ ويترك. ه.
الإشارة : العبد لا يستغني عن طلب الزيادة، ولو بلغ من الكمال غاية النهاية، فالقناعة من الله حرمان، واعتقاد بلوغ النهاية نقصان، فليس عليكم جناح أيها العارفون أن تبتغوا فضلاً من ربكم زيادة في إيقانكم، وترَقِّياً في معانيكم، إذ كمالات الحق لا نهاية لها، وأسرار الذات لا إحاطة بها، قال تعالى :﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ﴾ [ طه : ١١٠ ]. والله وليّ التوفيق.
ثم ذكر الحقّ تعالى الوقوف بعرفة، والرجوع إلى المزدلفة والمشعر الحرام، فقال :
﴿. . . فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ. . . ﴾
قلت :﴿ أفضتُم ﴾ : دفعتم، وأصل الإفاضة : الدفع بقوة، من فاض الماء إذا نبَع بقوة، ثم استُعمل في مطلق الاندفاع على سبيل المبالغة. و﴿ عرفات ﴾ فيها الصرف وعدمه، كأذرعات. وسمى عرفات لقول إبراهيم الخليل عليه السلام لجبريل حين علَّمه المناسك : قد عرفتُ : أو لمعرفة آدم حواءَ فيها. والكاف في ﴿ كما هداكم ﴾ تعليلية، و﴿ ما ﴾ مصدرية، أي : واذكروه لأجل هدايته لكم. و﴿ إن كنتم ﴾ مخففة، واللام فارقة.
يقول الحقّ جلّ جلاله : فإذا وقفتم بعرفة، وأفضتم منها، فانزلوا المزدلفة وبيِتُوا بها، فإذا صليتم الصبح بغلس فقفوا عند ﴿ المشعر الحرام ﴾، وهو جبل في آخر المزدلفة، واذكروا الله عنده بالتهليل والتكبير والتلبية إلى الإسفار، هكذا فعل الرسول - عليه الصلاة والسلام -، ﴿ واذكروه ﴾ لأجل ما هداكم إليه من معالم دينه ومناسك حجه، وغير ذلك من شعائر الدين، أو فاذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة، وقد كنتم من قبل هذه الهداية ﴿ لمن الضالين ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا وقَفَت القلوبُ على جَبل عرفة المعارف، وتمكنت من شهود جمال معاني تلك الزخارف، حتى صارت تلك المعاني هي روحَها وسرَّها، وإليها مآلها ومسيرُها، أُمرتْ بالنزول إلى رض العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، شكراً لما هداها إليه من معالم التحقيق، وما أبان لها من منار الطريق، وإن كانت من قبله لمن الضالين عن الوصول إلى رب العالمين. ثم يؤمرون بمخالطة الناس بأشباحهم، وانفرادهم عنهم بأرواحهم، أشباحُهم مع الخلق تسعى، وأرواحهم في الملكوت ترعى، فإذا وقع منهم ميل أو سكون إلى حِسّ ؛ فليستغفروا الله ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾. ثم يقال لهم : فإذا قضيتم مناسككم، بأن جمعتم بين مشاهدة الربوبية في باطنكم، والقيام بوظائف العبودية في ظاهركم، فاذكروا الله على كل شيء، وعند كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، حتى لا يبقى من الأثر شيء، كما كنتم تذكرون آباءكم وأبناءكم، في حال غفلتكم، بل أشد ذكراً وأعظم وأتم، والله ذو الفضل العظيم.
وكانت قريش لا تقف مع الناس ترفعاً عليهم، بل تقف بالمزدلفة، فأمرهم الحق جلّ جلاله بالوقوف مع الناس، فقال لهم :﴿ ثم أفيضوا ﴾ يا معشر قريش ﴿ من حيث أفاض الناس ﴾ بأن تَقْضُوا معهم، وتفيضوا من حيث أفاضوا، ﴿ واستغفروا الله ﴾ في تغييركم مناسك إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلامَ - ﴿ إن الله غفور ﴾ لكم، ﴿ رحيم ﴾ بكم إن تبتم ورجعتم واتبعتم رسولكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا وقَفَت القلوبُ على جَبل عرفة المعارف، وتمكنت من شهود جمال معاني تلك الزخارف، حتى صارت تلك المعاني هي روحَها وسرَّها، وإليها مآلها ومسيرُها، أُمرتْ بالنزول إلى رض العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، شكراً لما هداها إليه من معالم التحقيق، وما أبان لها من منار الطريق، وإن كانت من قبله لمن الضالين عن الوصول إلى رب العالمين. ثم يؤمرون بمخالطة الناس بأشباحهم، وانفرادهم عنهم بأرواحهم، أشباحُهم مع الخلق تسعى، وأرواحهم في الملكوت ترعى، فإذا وقع منهم ميل أو سكون إلى حِسّ ؛ فليستغفروا الله ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾. ثم يقال لهم : فإذا قضيتم مناسككم، بأن جمعتم بين مشاهدة الربوبية في باطنكم، والقيام بوظائف العبودية في ظاهركم، فاذكروا الله على كل شيء، وعند كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، حتى لا يبقى من الأثر شيء، كما كنتم تذكرون آباءكم وأبناءكم، في حال غفلتكم، بل أشد ذكراً وأعظم وأتم، والله ذو الفضل العظيم.
وقوله :﴿ أو أشد ﴾ نعت لمصدر محذوف، أي : أو ذكراً أشد. . . الخ.
﴿ فإذا قضيتم مناسككم ﴾ وفرغتم من حجتكم ﴿ فاذكروا الله ﴾ ذكراً كثيراً ﴿ كذكركم آباءكم ﴾ أو ذكراً ﴿ أشد ذكراً ﴾ منهم، حيث كنتم تَذْكُرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخَرة، وكانوا إذا فرغوا من حجهم وقَفُوا بِمنى، بين المسجد والجبل، فيذكرون مفاخر آبائهم، ومحاسن أيامهم، فأُمِرُوا أن يُبدلوا ذلك بذكر الله، وذكر إحسانه إليهم، وشكر ما أسداه إليهم من مفاخر الدنيا والآخرة، إن آمنوا واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا وقَفَت القلوبُ على جَبل عرفة المعارف، وتمكنت من شهود جمال معاني تلك الزخارف، حتى صارت تلك المعاني هي روحَها وسرَّها، وإليها مآلها ومسيرُها، أُمرتْ بالنزول إلى رض العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، شكراً لما هداها إليه من معالم التحقيق، وما أبان لها من منار الطريق، وإن كانت من قبله لمن الضالين عن الوصول إلى رب العالمين. ثم يؤمرون بمخالطة الناس بأشباحهم، وانفرادهم عنهم بأرواحهم، أشباحُهم مع الخلق تسعى، وأرواحهم في الملكوت ترعى، فإذا وقع منهم ميل أو سكون إلى حِسّ ؛ فليستغفروا الله ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾. ثم يقال لهم : فإذا قضيتم مناسككم، بأن جمعتم بين مشاهدة الربوبية في باطنكم، والقيام بوظائف العبودية في ظاهركم، فاذكروا الله على كل شيء، وعند كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، حتى لا يبقى من الأثر شيء، كما كنتم تذكرون آباءكم وأبناءكم، في حال غفلتكم، بل أشد ذكراً وأعظم وأتم، والله ذو الفضل العظيم.

ثم بيَّن الحقّ تعالى مقاصد الناس، وهممهم في طلبهم وسعيهم، فقال :
﴿. . . فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : في بيان مقاصد الناس وهممهم في طلبهم في الحج وغيره :﴿ فمن الناس ﴾ من قصرت نيته وانحطت همته، ﴿ يقول ربنا آتنا في الدنيا ﴾ ما تشتهيه نفوسنا من حظوظها وشهواتها، وليس له ﴿ في الآخرة من خلاق ﴾ أي : نصيب، لأنه عجَّل نصيبه في الدنيا. " إن الله يرزق العبد على قدر نيته ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الناس ثلاثة : صاحب همة دَنِيَّة، وذو همة متوسطة، وصاحب همة عالية، أما صاحب الهمة الدنية فهو الذي أنزل همته على الدنيا الدنية، وأكبَّ على جمع حطامها الفانية، فقلبُ هذا خالٍ من حب الحبيب، فما له في الآخرة من نصيب. وأما صاحب الهمة المتوسطة فهو الذي طلب سلامة الدارين، وصلاح الحالين، قد اشتغل في هذه الدار بما ينفعه في دار القرار، ولم ينسَ نصيبه من الدنيا لِيقْضِي ما له فيها من الأوطار، فهذا له في الدنيا حسنة، وهي الكفاية والغنى، وفي الآخرة حسنة، وهي النعمة والسرور والهنا.
وأما صاحب الهمة العالية فهو الذي رفع همته عن الكونَيْن، وأغمض طَرْفَه عن الالتفات إلى الدارين، بل علَّق همته بمولاه، ولم يقنع بشيء سواه، قد ولّى عن هذه الدار مُغضياً، وأعرض عنها مُولياً، ولم يشغله عن الله شيء، يقول بلسان المقال إظهاراً لعبوديته للكبير المتعال :﴿ ربنا آتنا في الدنيا حسنة ﴾ وهي النظرة والشهود، ورضا الملك الودود، ﴿ وفي الآخرة حسنة ﴾ وهي اللحوق بأهل الرفيق الأعلى، من المقربين والأنبياء، في حضرة الشهود المؤبد ﴿ في مقعد صدق عند مليك مقتدر ﴾. أتحفَنَا الله من ذلك بحظٍّ وافر، بمنِّه وكرمه، نحن وأحباءَنا أجمعين، آمين.

﴿ ومنهم ﴾ من أراد كرامة الدنيا وشرف الآخرة ﴿ يقول ربنا آتنا في الدنيا ﴾ حالة ﴿ حسنة ﴾ ؛ كالمعرفة، والعافية، والمال الحلال، والزوجة الحسنة، وجميع أنواع الجمال، ﴿ وفي الآخرة حسنة ﴾ ؛ كالنظرة، والحُور العين، والقصور، جميع أنواع النعيم، ﴿ وقنا عذاب النار ﴾ بالعفو والمغفرة، وقال سيّدنا عليٍّ - كرَّم الله وجهه - :( الحسنة في الدنيا : المرأة الصالحة، وفي الآخرة : الحَوْرَاء. وعذاب النار في الدنيا : المرأة السوء ) وقال الحسن :( الحسنة في الدنيا : العلم والعبادة، وفي الآخرة : الجنة ). ﴿ وقنا عذاب النار ﴾ : احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى النار، وهذه كلها أمثلة للحالة الحسنة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الناس ثلاثة : صاحب همة دَنِيَّة، وذو همة متوسطة، وصاحب همة عالية، أما صاحب الهمة الدنية فهو الذي أنزل همته على الدنيا الدنية، وأكبَّ على جمع حطامها الفانية، فقلبُ هذا خالٍ من حب الحبيب، فما له في الآخرة من نصيب. وأما صاحب الهمة المتوسطة فهو الذي طلب سلامة الدارين، وصلاح الحالين، قد اشتغل في هذه الدار بما ينفعه في دار القرار، ولم ينسَ نصيبه من الدنيا لِيقْضِي ما له فيها من الأوطار، فهذا له في الدنيا حسنة، وهي الكفاية والغنى، وفي الآخرة حسنة، وهي النعمة والسرور والهنا.
وأما صاحب الهمة العالية فهو الذي رفع همته عن الكونَيْن، وأغمض طَرْفَه عن الالتفات إلى الدارين، بل علَّق همته بمولاه، ولم يقنع بشيء سواه، قد ولّى عن هذه الدار مُغضياً، وأعرض عنها مُولياً، ولم يشغله عن الله شيء، يقول بلسان المقال إظهاراً لعبوديته للكبير المتعال :﴿ ربنا آتنا في الدنيا حسنة ﴾ وهي النظرة والشهود، ورضا الملك الودود، ﴿ وفي الآخرة حسنة ﴾ وهي اللحوق بأهل الرفيق الأعلى، من المقربين والأنبياء، في حضرة الشهود المؤبد ﴿ في مقعد صدق عند مليك مقتدر ﴾. أتحفَنَا الله من ذلك بحظٍّ وافر، بمنِّه وكرمه، نحن وأحباءَنا أجمعين، آمين.

﴿ أولئك ﴾ الذين طلبوا خيرَ الدارَيْن ﴿ لهم نصيب ﴾ وحظٍّ من الجزاء الوافر من أجلْ ما كسبوا من الأعمال الصالحات، ﴿ والله سريع الحساب ﴾ يحاسب عباده على كثرتهم، وكثرة أعمالهم، في مقدار لَمْحة. قيل لعليّ رضي الله عنه : كيف يُحاسب اللّهُ عباده في ساعة واحدة ؟ فقال : كما يرزقهم في ساعة واحدة. ه. أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب عباده، فبادِرُوا إلى اغتنام الطاعات، واكتساب الحسنات، قبل هجوم الممات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الناس ثلاثة : صاحب همة دَنِيَّة، وذو همة متوسطة، وصاحب همة عالية، أما صاحب الهمة الدنية فهو الذي أنزل همته على الدنيا الدنية، وأكبَّ على جمع حطامها الفانية، فقلبُ هذا خالٍ من حب الحبيب، فما له في الآخرة من نصيب. وأما صاحب الهمة المتوسطة فهو الذي طلب سلامة الدارين، وصلاح الحالين، قد اشتغل في هذه الدار بما ينفعه في دار القرار، ولم ينسَ نصيبه من الدنيا لِيقْضِي ما له فيها من الأوطار، فهذا له في الدنيا حسنة، وهي الكفاية والغنى، وفي الآخرة حسنة، وهي النعمة والسرور والهنا.
وأما صاحب الهمة العالية فهو الذي رفع همته عن الكونَيْن، وأغمض طَرْفَه عن الالتفات إلى الدارين، بل علَّق همته بمولاه، ولم يقنع بشيء سواه، قد ولّى عن هذه الدار مُغضياً، وأعرض عنها مُولياً، ولم يشغله عن الله شيء، يقول بلسان المقال إظهاراً لعبوديته للكبير المتعال :﴿ ربنا آتنا في الدنيا حسنة ﴾ وهي النظرة والشهود، ورضا الملك الودود، ﴿ وفي الآخرة حسنة ﴾ وهي اللحوق بأهل الرفيق الأعلى، من المقربين والأنبياء، في حضرة الشهود المؤبد ﴿ في مقعد صدق عند مليك مقتدر ﴾. أتحفَنَا الله من ذلك بحظٍّ وافر، بمنِّه وكرمه، نحن وأحباءَنا أجمعين، آمين.

ثم تمم الحق تعالى ما بقي من مناسك الحج ؛ وهي رمي الجمار أيام منى، فقال :
﴿ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِيا أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ واذكروا الله في أيام معدودات ﴾ وهي ثاني أيام النَّحْر وثالثُه ورابعُه، وهي أيام التشريق وأيام منى، وأما الأيام المعلومات فهي يوم النحر وثانِيه وثالثُه. والمراد بالذِكْر : التكبيرُ عند الرمي، وذبحِ القَرَابين، وخَلْفَ الصلواتِ الخمس، وغير ذلك، ﴿ فمن تعجل في يومين ﴾ بحيث رمَى ثانيَ النحر وثالثه، ورجَع، ﴿ فلا إثم عليه ومن تأخر ﴾ لرمى رابع النحر، وهو ثالث أيام منى، ﴿ فلا إثم عليه ﴾، والقصد بنفي الإثم : التخيير والرد على الجاهلية، فإنَّ منهم مَن أَثم المتعجل، ومنهم من أثم المتأخر. هذا كله ﴿ لمن اتقى ﴾ الله في حجه، لم يرفُث، ولم يفسُق، فإنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، كما قال الصادق المصدوق، ﴿ واتقوا الله ﴾ في جميع أموركم، فإنه ذكرٌ وشرفٌ لكم، ﴿ واعلموا أنكم إليه تحشرون ﴾ فتجازَوْن على ما أسلفتم من خير أو شر.
الإشارة : الأيام المعدودات هي أيام الدنيا ؛ فإنها قلائل معدودة، وهي كلها كيوم واحد، وأيام البرزخ يومٌ ثانٍ، وأيام البعث وما بعده يوم ثالث، فمن تعجل في يومين، بحيث طوى في نظره أيام الدنيا وأيام البرزخ، وسكن بقلبه في يوم القيامة فلا إثم عليه، وهذا هو صاحب الهمة المتوسطة، ومن تأخر حتى زَهد في الأيام الثالثة، وعلق همته بمولاه، ولم يلتفت إلى ما سواه، فلا إثم عليه في ذلك التأخر، وإن اتقى شهود السوى، وعلق همته بمحبة المولى، ثم حضّ سبحانه على هذه التقوى فقال :﴿ واتقوا الله ﴾ فلا تشهدوا معه سواه، ﴿ واعلموا أنكم إليه تحشرون ﴾ فترَوْا ما فاز به المتقون.
ولما أمر الحق سبحانه عباده بالتقوى ذكر من لم يرفع بذلك رأسا واتبع هواه، ومن امتثل أمره وباع نفسه لله فقال :
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ * ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾ * ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ * ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾
قلت : نزلت الآية في الأخنَسْ بن شريق الثقفي وصُهيب بن سنان الرومي، أما الأخنس فكان رجلاً حسن المنظر، حُلُو المنطق، كان يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدَّعي الإسلام، ثم ارتد، ومرَّ على زرع وحُمر للمسلمين فقتلها وأفسد الزرع، قال ابن عطية : ولم يثبت أنه أسلم. قلت : بل ذكره في القاموس من الصحابة، فانظره، ولعله تاب بعد نزول الآية. وأما صهيب الرومي فأخذه المشركون وعذبوه ليرتد، فقال لهم : إني شيخ كبير ؛ لا أنفعكم إن كنت معكم، ولا أضركم إن كنت عليكم، فخلّوني وما أنا عليه، وخذوا مالي، فقبلوه منه، وأتى المدينة فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال له :" رَبِحْتَ يا أَبَا يَحْيى ".
وقيل : نزلت في المنافقين ومَنْ نحَا نحوهم، وفيمن باع نفسه لله في الجهاد وتغيير المنكر من المسلمين. و﴿ في الحياة الدنيا ﴾ يتعلق بالقول، و﴿ ألد الخصام ﴾ شديده، وفي الحديث :" أبْغَضُ الرِّجالِ إلى اللّهِ الألدُّ الخَصِم ". والخِصام : مصدر، أو جمع خصيم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومن الناس ﴾ قوم حُلْو اللسان خرَاب الجَنَان، إذا تكلم في شأن الدنيا ﴿ يعجبك قوله ﴾ فيها لرونقه وفصاحته، ﴿ ويُشهد الله ﴾ أي : يحلف على أنه موافق لقلبه، وأن ظاهره موافق لباطنه، وهو شديد الخصومة والعداوة للمسلمين، أو أشد الخصوم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الناس على قسمين : قسم زَيّنُوا ظواهرهم وخرَّبوا بواطنهم، وظاهرهم جميل وباطنُهم قبيح، إذا تكلموا في الدنيا أو في الحس، أعجبَك قولهم، وراقك منظرُهم، وإذا تكلموا في الآخرة، أو في المعنى، أخذتهم الحبْسةُ والدهشة. وفي بعض الكتب المنزلة :" إنَّ مِنْ عِبَاد الله قوماً ألْسنَتُهُم أحْلَى منَ العَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أمرّ مِنْ الصَّبْرِ، يَلْبَسُونَ للنَّاس جُلُودَ الضَّأنِ مِن اللِّينِ، يَجْتَرُّون الدُّنْيَا بالدين، يَقُولُ الله تعالى : أبِي يَغْتَرُّونَ، وعليَّ يَجْترِئُون ؟ حَلَفتْ لأُسلطنَّ عليهمْ فتْنةٌ تَدَعُ الْحَليم مِنْهُمْ حَيْرَانَ ".
وقوله :﴿ يلبسون... ﴾ الخ. كناية عن إظهار اللين والسهول ليخدع ويغر الناس ليتوصل إلى حظ نفسه من الدنيا، ومع ذلك يدعي موافقة ظاهره لباطنه، وهو شديد الخصومة لأهل الله، وإذا تولى عنك اشتغل بالمعاصي والذنوب، ليُفسد في الأرض، ويهلك الحرث والنسل بشؤم معاصيه، وإذا ذُكِّر : أنِفَ واستكبر، وأخذته حمية الجاهلية، فحسبُه البُعد في نار القطيعة.
والقسم الثاني : قوم زَيَّنوا بواطنهم وخربوا ظواهرهم، عمّروا قلوبهم بمحبة الله، وبذلوا أنفسهم في مرضات الله، قلوبهم في أعلى عليين، وأشباحهم في أسفل سافلين، فأولئك المقربون مع النبيين والمرسلين. قال بعض العارفين : كلما وضعت نفسك أرضاً أرضاً، سما قلبك سماء سماء، وكل ما نقص من حسك زاد في معناك. وفي الحديث :" مَن تواضعَ دُون قَدْره رَفَعهُ الله فوقَ قَدْره ". وبالله التوفيق.

﴿ وإذا تولى ﴾ أي : أدبر وانصرف عنك، ﴿ سعى في الأرض ﴾ أي : مشى فيها بنية الإفساد ﴿ ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ﴾ كما فعل الأخنَسْ، أو كما فعله أهل الظلم، فيَحْبِسُ الله القَطْر، فَيَهْلِكَ الحرثُ والنسل بشؤم معاصيهم، ﴿ والله لا يحب الفساد ﴾ أي : لا يرتضيه، فاحذروا غضبه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الناس على قسمين : قسم زَيّنُوا ظواهرهم وخرَّبوا بواطنهم، وظاهرهم جميل وباطنُهم قبيح، إذا تكلموا في الدنيا أو في الحس، أعجبَك قولهم، وراقك منظرُهم، وإذا تكلموا في الآخرة، أو في المعنى، أخذتهم الحبْسةُ والدهشة. وفي بعض الكتب المنزلة :" إنَّ مِنْ عِبَاد الله قوماً ألْسنَتُهُم أحْلَى منَ العَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أمرّ مِنْ الصَّبْرِ، يَلْبَسُونَ للنَّاس جُلُودَ الضَّأنِ مِن اللِّينِ، يَجْتَرُّون الدُّنْيَا بالدين، يَقُولُ الله تعالى : أبِي يَغْتَرُّونَ، وعليَّ يَجْترِئُون ؟ حَلَفتْ لأُسلطنَّ عليهمْ فتْنةٌ تَدَعُ الْحَليم مِنْهُمْ حَيْرَانَ ".
وقوله :﴿ يلبسون... ﴾ الخ. كناية عن إظهار اللين والسهول ليخدع ويغر الناس ليتوصل إلى حظ نفسه من الدنيا، ومع ذلك يدعي موافقة ظاهره لباطنه، وهو شديد الخصومة لأهل الله، وإذا تولى عنك اشتغل بالمعاصي والذنوب، ليُفسد في الأرض، ويهلك الحرث والنسل بشؤم معاصيه، وإذا ذُكِّر : أنِفَ واستكبر، وأخذته حمية الجاهلية، فحسبُه البُعد في نار القطيعة.
والقسم الثاني : قوم زَيَّنوا بواطنهم وخربوا ظواهرهم، عمّروا قلوبهم بمحبة الله، وبذلوا أنفسهم في مرضات الله، قلوبهم في أعلى عليين، وأشباحهم في أسفل سافلين، فأولئك المقربون مع النبيين والمرسلين. قال بعض العارفين : كلما وضعت نفسك أرضاً أرضاً، سما قلبك سماء سماء، وكل ما نقص من حسك زاد في معناك. وفي الحديث :" مَن تواضعَ دُون قَدْره رَفَعهُ الله فوقَ قَدْره ". وبالله التوفيق.

﴿ وإذا قيل له اتق الله ﴾ وارجع عما أنت عليه من الفساد ﴿ أخذته العزة ﴾ أي : حملته الحمية والأنفة بسبب الإثم الذي ارتكبه، فلا ينزجر عن غَيِّه. أو حملَتْه الحمية على الإثم الذي يُؤمَر باتقائه. ﴿ فحسبه جهنم ﴾ أي : كَفَته عذاباً وعقاباً، وهي عَلَمٌ لدار العقاب، كالنار، ﴿ ولبئس المهاد ﴾ هي : أي : بئس الفراش الذي مهَّده لنفسه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الناس على قسمين : قسم زَيّنُوا ظواهرهم وخرَّبوا بواطنهم، وظاهرهم جميل وباطنُهم قبيح، إذا تكلموا في الدنيا أو في الحس، أعجبَك قولهم، وراقك منظرُهم، وإذا تكلموا في الآخرة، أو في المعنى، أخذتهم الحبْسةُ والدهشة. وفي بعض الكتب المنزلة :" إنَّ مِنْ عِبَاد الله قوماً ألْسنَتُهُم أحْلَى منَ العَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أمرّ مِنْ الصَّبْرِ، يَلْبَسُونَ للنَّاس جُلُودَ الضَّأنِ مِن اللِّينِ، يَجْتَرُّون الدُّنْيَا بالدين، يَقُولُ الله تعالى : أبِي يَغْتَرُّونَ، وعليَّ يَجْترِئُون ؟ حَلَفتْ لأُسلطنَّ عليهمْ فتْنةٌ تَدَعُ الْحَليم مِنْهُمْ حَيْرَانَ ".
وقوله :﴿ يلبسون... ﴾ الخ. كناية عن إظهار اللين والسهول ليخدع ويغر الناس ليتوصل إلى حظ نفسه من الدنيا، ومع ذلك يدعي موافقة ظاهره لباطنه، وهو شديد الخصومة لأهل الله، وإذا تولى عنك اشتغل بالمعاصي والذنوب، ليُفسد في الأرض، ويهلك الحرث والنسل بشؤم معاصيه، وإذا ذُكِّر : أنِفَ واستكبر، وأخذته حمية الجاهلية، فحسبُه البُعد في نار القطيعة.
والقسم الثاني : قوم زَيَّنوا بواطنهم وخربوا ظواهرهم، عمّروا قلوبهم بمحبة الله، وبذلوا أنفسهم في مرضات الله، قلوبهم في أعلى عليين، وأشباحهم في أسفل سافلين، فأولئك المقربون مع النبيين والمرسلين. قال بعض العارفين : كلما وضعت نفسك أرضاً أرضاً، سما قلبك سماء سماء، وكل ما نقص من حسك زاد في معناك. وفي الحديث :" مَن تواضعَ دُون قَدْره رَفَعهُ الله فوقَ قَدْره ". وبالله التوفيق.

ونزل في مقابله، وهو صهيب، أو كل من بذل نفسه لله :﴿ ومن الناس من يشري نفسه ﴾ أي : يبيعُها ويبذلها لله في الجهاد وغيره، ﴿ ابتغاء مرضات الله ﴾ والوصول إلى حضرته ﴿ والله رؤوف بالعباد ﴾ الذين يفعلون مثل هذا، فيدرأ عنهم المضَارّ، ويجلبُ لهم المَسَار أينما حَلُّوا من الدارين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الناس على قسمين : قسم زَيّنُوا ظواهرهم وخرَّبوا بواطنهم، وظاهرهم جميل وباطنُهم قبيح، إذا تكلموا في الدنيا أو في الحس، أعجبَك قولهم، وراقك منظرُهم، وإذا تكلموا في الآخرة، أو في المعنى، أخذتهم الحبْسةُ والدهشة. وفي بعض الكتب المنزلة :" إنَّ مِنْ عِبَاد الله قوماً ألْسنَتُهُم أحْلَى منَ العَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أمرّ مِنْ الصَّبْرِ، يَلْبَسُونَ للنَّاس جُلُودَ الضَّأنِ مِن اللِّينِ، يَجْتَرُّون الدُّنْيَا بالدين، يَقُولُ الله تعالى : أبِي يَغْتَرُّونَ، وعليَّ يَجْترِئُون ؟ حَلَفتْ لأُسلطنَّ عليهمْ فتْنةٌ تَدَعُ الْحَليم مِنْهُمْ حَيْرَانَ ".
وقوله :﴿ يلبسون... ﴾ الخ. كناية عن إظهار اللين والسهول ليخدع ويغر الناس ليتوصل إلى حظ نفسه من الدنيا، ومع ذلك يدعي موافقة ظاهره لباطنه، وهو شديد الخصومة لأهل الله، وإذا تولى عنك اشتغل بالمعاصي والذنوب، ليُفسد في الأرض، ويهلك الحرث والنسل بشؤم معاصيه، وإذا ذُكِّر : أنِفَ واستكبر، وأخذته حمية الجاهلية، فحسبُه البُعد في نار القطيعة.
والقسم الثاني : قوم زَيَّنوا بواطنهم وخربوا ظواهرهم، عمّروا قلوبهم بمحبة الله، وبذلوا أنفسهم في مرضات الله، قلوبهم في أعلى عليين، وأشباحهم في أسفل سافلين، فأولئك المقربون مع النبيين والمرسلين. قال بعض العارفين : كلما وضعت نفسك أرضاً أرضاً، سما قلبك سماء سماء، وكل ما نقص من حسك زاد في معناك. وفي الحديث :" مَن تواضعَ دُون قَدْره رَفَعهُ الله فوقَ قَدْره ". وبالله التوفيق.

ثم دعا الحق، تعالى عباده، إلى التوغل في الإسلام، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ * ﴿ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
قلت :﴿ السلم ﴾، بالفتح والكسر : هو الاستسلام والانقياد، ويبعد هنا تفسيره بالصُّلْح، و﴿ كافة ﴾ : حال من الواو والسلم معاً، كقوله تعالى :﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ﴾ [ مريَم : ٢٧ ].
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ﴿ ادخلوا في ﴾ شرائع الإسلام ﴿ كافة ﴾ بحيث لا تهملوا شيئاً منها، ولا تلتفتوا إلى غيرها، نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، حيث دخلوا في اسلام، وأرادوا أن يُعظّموا السبت، وتحرجوا من لحوم الإبل. أو في المنافقين حيث أسلموا في الظاهر، ونافقوا في الباطن، فقال لهم الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ في الظاهر، ادخلوا في الإسلام ﴿ كافة ﴾ ظاهراً وباطناً. أو في المسلمين يأمرهم بالتمسك بشرائع الإٍسلام كلها، والبحث عن أحكامها وأسرارها، ﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾ أي : طُرُقَه الدالة على التفريق والتفرق ؛ ﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾ أي : بيّن العداوة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أمر الحقّ جلّ جلاله جميعَ بالصلح معه والاستسلام لأحكامه، بحيث لا يَصْدُر منهم نِزَاعٌ لأحكامه، ولا اعتراض على أفعاله، بل يَنظرون ما يبرز من عنصر القدرة، فيتلقونه بالرضى والتسليم، أو الصبر والتصبر، سواء ظهرت هذه الأفعال على أيدي الوسائط أو بلا وسائط، إذ لا فاعل سواه، وكلٍّ من عند الله، فإن زللتم واعترضتم، أو سخطتم، من بعد ما جاءتكم الآيات البيّنات الدالة على وحدانية الحق في ذاته وصفاته وأفعاله، فاعلموا أن الله عزيز حكيم، لا يعجزه عقوبتكم وإبعادكم، لكنه من حكمته يُمهل ولا يهمل، والله غالب على أمره، ومن تاب تاب الله عليه.
﴿ فإن زللتم ﴾ عن طريق الجادَّة ؛ ففرقتم بين أجزاء الشريعة، أو التفتُّم إلى غير شريعتكم، ﴿ من بعد ما جاءتكم ﴾ الآيات ﴿ البينات ﴾ الدالّة على صحة الدين ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ فاعلموا أن الله عزيز ﴾ أي : غالب لا يُعجزه عقابكم، ﴿ حكيم ﴾ في إمهاله إلى وقت معلوم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أمر الحقّ جلّ جلاله جميعَ بالصلح معه والاستسلام لأحكامه، بحيث لا يَصْدُر منهم نِزَاعٌ لأحكامه، ولا اعتراض على أفعاله، بل يَنظرون ما يبرز من عنصر القدرة، فيتلقونه بالرضى والتسليم، أو الصبر والتصبر، سواء ظهرت هذه الأفعال على أيدي الوسائط أو بلا وسائط، إذ لا فاعل سواه، وكلٍّ من عند الله، فإن زللتم واعترضتم، أو سخطتم، من بعد ما جاءتكم الآيات البيّنات الدالة على وحدانية الحق في ذاته وصفاته وأفعاله، فاعلموا أن الله عزيز حكيم، لا يعجزه عقوبتكم وإبعادكم، لكنه من حكمته يُمهل ولا يهمل، والله غالب على أمره، ومن تاب تاب الله عليه.
ثم ذكر وعيد من خالف أمره، فقال :
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾
قلت :﴿ الظُّلَل ﴾ : جمع ظُلَّه، وهي ما أظلَّك من فوق، و﴿ الغَمام ﴾ : السحاب الرفيق الأبيض.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ما ينتظر هؤلاء الممتنعون من الدخول في شرائع الإسلام - إلا أن تقوم الساعة، ويأتيهم الله للفصل بين عباده ﴿ في ظلل من الغمام ﴾، بأن يتجلّى لعباده على ما يليق بجلاله ؛ إذ تجليات الحق لا تنحصر. وتأتيهم ﴿ الملائكة ﴾ تحيط بهم ﴿ وقضي الأمر ﴾ بعذابهم، ﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ كلها، فهو المتصرف وحده. وقد ذكر المنذري حديث هذا التجلّي بطوله، وذكر فيه النزول والفصل بين عباده، والمرور على الصراط، والناس في أنار إيمانهم. وذكره الفاسي في الحاشية بتمامه. ومن كحل عين بصيرته بإثمد١ التوحيد الخاص، لم يُسْتَصْعَبْ عليه فَهْمُ هذا الحديث وأمثاله ؛ لسعة دائرة معرفته. والله تعالى أعلم.
الإشارة : في الآية تهديد لأهل الحجاب الذين لم يتحققوا بالصلح مع الله، بل هم يخاصمون الله في مظاهر خلقه، ويعترضون على الله في قضائه وحكمه، فقال لهم الحقّ جلّ جلاله : هل ينتظر هؤلاء المنكرون عليَّ في أفعالي، المعترضون عليَّ في حكمي وإبرامي - إلا أن أتعرف لهم في ظُلل من الغمام، وهو سحب الآثار، فإذا أنكروني أخذتهم الملائكةُ، وقضي الأمر بهلاكهم، وإلى الله تُرجع الأمور كلها، فليلتزم العبد الأدب مع مولاه، وليُسلم الأمور كلها إلى الله، إذ لا موجود سواه، فما برز من العباد : كله من الله، فمن اشتغل بعتابهم فاته الأدب مع الله، إلا ما أمرتْ به الشريعة، فليكن في ذلك كالعبد يُؤدب ابنَ سيده ؛ يده تؤدب وقلبه يعظم، والله تعالى أعلم وأرحم.
١ الإثمد: حجر يتخذ منه الكحل، وقيل: هو الكحل نفسه..
ثم هدد بني إسرائيل على عدم دخولهم في الإسلام، أو على عدم تمسكهم بشرائعه كلها، فقال :
﴿ سَلْ بَنِيا إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
قلت :﴿ كم ﴾ خبرية، أو استفهامية، محلها نصب بفعل محذوف يُقدر مؤخراً للصدرية، أي : كم آياتنا آتيناهم، أو رفع بالابتداء، والعائد محذوف، أي : آتيناهموه.
يقول الحقّ جلّ جلاله لرسوله - عليه الصلاة والسلام - أو لكل سامع :﴿ سل بني إسرائيل ﴾ سؤال تقريع، وقل لهم :﴿ كم أتيناهم من آية بينة ﴾ أي : كثيراً ما آتيناهم من آية واضحة في شأنك، تدل على صدق رسالتك وعلو شأنك وفخامة أمرك، اعتناء بأمرهم، ونعمة على مَنْ أدرك زمانك منهم. ثم إنهم بدلوا نعمة الله كفراً، وجحدوا فكتموا تلك النعمة وكفروها، ﴿ ومن يبدل نعمة الله ﴾ من بعد مجيئها إياه، ﴿ فإن الله شديد العقاب ﴾ لمن كفر نعمه وجحد رسله، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، ومن كفران النعم، وحرمان الرضا.
الإشارة : ما قيل لبني إسرائيل، يقال لمن تحقق بولاية ولي من أولياء الله، ثم جحدها وكتمها، وحرّم نفسه بركة ذلك الولي، فمات على مرضه، فيقال له :﴿ ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب ﴾. وعقوبته : أن يلقى الله بقلب سقيم، فيُبعث مع عوام أهل اليمين، ويُحرم درجة المقربين، التي تلي درجة النبيين والمرسلين. عائذاً بالله من الحرمان، وشُؤمِ عاقبةِ الخذلان.
ثم ذكر الحقّ جلّ جلاله سبب هذا الحرمان، وهو حب الدنيا، فقال :
﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
قلت :﴿ زُين ﴾ مبني للمفعول، والفاعل هو الله، إذ لا فاعل سواه.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ زيّن للذين كفروا ﴾ من أهل الكتاب وغيرهم، ﴿ الحياة الدنيا ﴾ أي : حُسِّنَتْ في أعينهم، وأُشربت محبتها في قلوبهم، حتى تهالكوا عليها، وأعرضوا عن غيرها، فلم تتفرغ قلوبهم للتفكر والاعتبار، ولم تستمع آذانهم للوعظ والتذكار، بل أعمتهم، وأصمّتهم، وقصروا عليها همتهم، حتى جعلوا يسخرون ممن أعرض عنها، كفقراء المسلمين وأهل الصفة، فكانوا يستهزئون بهم، حيث رفضوا الدنيا وأقبلوا على الله، فرفعهم الله في أعلى عليين، وخفض الكفار في أسفل سافلين. فهم يسخرون منهم في دار الدنيا ﴿ والذين اتقَوْا فوقَهم يومَ القيامة ﴾ لأنهم في عليين، والآخرون في أسفل سافلين. أو لأنهم في كرامة، والآخرون في مذلة. أو لأنهم يسخرون منهم يوم القيامة كما سخروا منهم في الدنيا.
وعبَّر بالتقوى لأنها سبب رفعهم واستعلائهم. وأما استهزاؤهم بهم لأجل فقرهم، فإن الفقر شرف للعبد، والبسط في الدنيا على شرفه ؛ فقد يكون استدراجاً، وقد يكون عوناً، فالله ﴿ يرزق مَن يشاء بغير حساب ﴾، أي : بغير تقدير، فيوسع في الدنيا استدراجاً وابتلاء، ويقتر على مَي يشاء اختباراً وتمحيصاً، ﴿ لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُون ﴾ [ الأنبيَاء : ٢٣ ].
الإشارة : اعلم أن عمل أهل الباطن كله باطني قلبي، بين تفكر واعتبار، وشهور واستبصار، أو نقول : بين فكرة ونظرة وعكوف في الحضرة، فلا يظهرون من أعمالهم إلا المهم من الواجبات، ولذلك قال بعضهم : إذا وصل العمل إلى القلوب استراحت الجوارح، ( ومعلوم أن الذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح ) ؛ لأن أعمال القلوب خفية، لا يطلع عليها ملك فيكتبها، ولا شيطان فيفسدها، الإخلاص فيها محقق. وأيضاً :" تفكر ساعة أفضل من عبادة ستين سنة ". وسئل - عليه الصلاة والسلام - :" أيُّ الأَعْمَال أَفْضَلُ ؟ قال : العلْمُ بالله. قيلَ : يا رسُولَ الله سَأَلْنَاكَ عن العَمَل ؟ فقال : العلمُ بالله، ثم قال صلى الله عليه وسلم : إذا حَصَلَ العلمُ بالله كَفَى قلِيلُ العَملِ ". أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فلما خفيت أعمال أهل الباطن سخر منهم أهل الظاهر، واستصغروا شأنهم ؛ حيث لم يروا عليهم من الأعمال ما رأوا على العُبَّاد والزُهاد. والذين اتقوا شهود ما سوى الله، أو كل ما يشغل عن الله، فوقهم يوم القيامة ؛ لأنهم من المقربين وغيرهم من عوام المسلمين، والله يرزق من يشاء في الدارين بغير حساب، أي : بغير تقدير ولا حصر، فيرزق العلوم، ويفتح مخازن الفهوم على مَن توجه إلى مولاه، وفرغ قلبه مما سواه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر الحق تعالى حكمته بعثه الرسل، فقال :
﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
قلت :﴿ فبعث ﴾ معطوف على محذوف، أي : فاختلفوا فبعث، و﴿ بغياً ﴾ : مفعول له، و ﴿ من الحق ﴾ بيان ﴿ لما ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ كان الناس ﴾ في زمن آدم عليه السلام وما قرُب منه ﴿ أمة واحدة ﴾ أي : جماعة واحدة، متفقة على التوحيد، والطاعة، فاختلفوا بعد ذلك في أمر التوحيد، ﴿ فبعث الله النبيين مبشرين ﴾ لأهل التوحيد والطاعة بالنعيم المقيم، ﴿ ومنذرين ﴾ أي : مخوفين لأهل الكفر والعصيان بالعذاب الأليم.
﴿ وأنزل معهم الكتاب ﴾ أي : جنب الكتب، فيشمل الكتب السماوية كلها، متلبساً ذلك الكتاب ﴿ بالحق ﴾، ودالاً عليه ﴿ ليحكم ﴾ الحق تعالى على لسان الرسل ﴿ بين الناس ﴾ في الأمر الذي ﴿ اختلفوا فيه ﴾ من أمر التوحيد وغيره. ثم اختلفوا أيضاً في الكتب المنزلة ؛ فبعضهم آمن، وبعضهم كفر بها أو ببعضها، ﴿ وما اختلف فيه ﴾ أي : في الكتاب المنزل :﴿ إلا الذين أوتوه ﴾ حسداً أو كبراً ؛ فاليهود آمنوا بالتوراة وكفروا بالإنجيل، والنصارى آمنوا بالإنجيل وكفروا بالتوراة، ﴿ من بعد ما جاءتهم ﴾ : الآيات الواضحات في صحة ذلك الكتاب الذي كفروا به، والأمر بالإيمان به.
وإنما وقع ذلك الكفر منهم ﴿ بغياً ﴾ وحسداً ﴿ بينهم ﴾، فأنزل الله العلم ليجمعهم ويؤلف بينهم على طاعته، فأمرهم أن يتألفوا بالعلم، فتحاسدوا، واختلفوا طلباً للرئاسة والجاه، ﴿ فهدى الله الذين آمنوا ﴾ بمحمد - عليه الصلاة والسلام - للأمر الذي اختلف فيه أهل الكتاب، وهو الحق الذي جاءت به الرسل، فآمنوا بالجميع، وتآلفوا على طاعة الله ﴿ بإذنه ﴾ وإرادته، ﴿ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾، ويضل من يشاء عن طريقه القويم، ﴿ لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ﴾ [ الأنبيَاء : ٢٣ ].
الإشارة : الأصل في الأرواح كلها، الاتفاقُ والإقرار، وإنما حصل لها الخلاف والإنكار بعد دخولها في عالم الأشباح، وهبوطها من عالم الأرواح، فبعث الله النبيين يُذكْرون الناس العهدَ القديم، فمن سبقت له السعادة حصل له الإقرار، ومن سبق له الشقاء حصل له الإنكار، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام- :" كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَد على الْفطْرةِ، فأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصّرَانِهِ أوْ يُمَجِّسَانِهِ ". ثم بعث الله الحكماء، وهم العارفون بالله، يعالجون ما حصل للروح من الجهل والإنكار، فمن سبقت له العناية آمن بهم، وصدقهم، واستسلم بكليته إليهم، فحصل له الوصول، وبلغ كل المأمول، ومن سبق له الحرمان لم يحصل له بهم إيمان، وبقي دائماً في قلبه حيران.
وما وقع هذا الإنكار في الغالب إلا من أهل الرئاسة والجاه، أو من كان عبداً لدنياه وهواه بغياً وحسداً منهم، فهدى الله الذين آمنوا - وهم أهل الفطرة والنيّة - لما اختلفوا فيهم من الحق بإذنه، فحصل لهم التصديق، ووصلوا إلى عين التحقيق، ﴿ والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم ﴾ وهو طريق الوصول إلى الحضرة القدسية التي كانت مقرّاً للأرواح الزكية، منها جاءت وإليها عادت. وفي ذلك يقول ابن البنا رضي الله عنه :
وَهَذِهِ الحَقِيقَةُ النَّفْسِيَّةْ مَوْصُولةٌ بالحَضْرَةِ القُدْسِيَّهْ
وَإِنَّمَا يَعوقُهَا المَوْضُوعُ وَمِنْ هُنَا يُبْتَدأُ الطُّلُوعُ
ولمّا كانت المحبة والهداية إلى أسبابها مقرنتين بالبلاء ذكره الحق تعالى بإثر الهداية، فقال :
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾
قلت :﴿ أم ﴾ منقطعة بمعنى بل، وتتضمن استفهاماً إنكاريّاً، و " حسب " تتعدى إلى مفعولين، أي : أظننتم دخول الجنة حاصلاً من غير أن يأتيكم ؟. و﴿ لما ﴾ أصلها ﴿ لم ﴾ زيدت عليها " ما " : وهي تدل على توقع منفيها بخلاف لم. و﴿ حتى يقول ﴾ يصح فيه النصب ﴿ أن ﴾ ؛ لأن الزلزلة متقدمة على قول الرسول، والرفع على حكاية الحال، أي : وزلزلوا حتى حالتهم حينئذٍ أن الرسول ومن معه يقولون كذا وكذا. وفائدة الحكاية : فرض ما كان واقعاً في الزمان الماضي واقعاً في هذا الزمان، تصوّراً لتلك الحال العجيبة، واستحضاراً لصورتها في مشاهدة السامع، وإنما وجب رفعه عند إرادة الحال ؛ لأنه نصبه يؤدي إلى تقدير ﴿ أن ﴾، وهي للاستقبال، والحال يُنافيه، ويصح في موضع " حتى " الداخلة على الحال الفاء السببية.
يقول الحقّ جل جلاله للرسول - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنين، تسلية لهم وتشجيعاً لقلوبهم : أظننتم أن تدخلوا الجنة ولمَّا يُصبكم مثلُ ما أصاب مَنْ قبلَكم من الأنبياء وأممهم، فقد ﴿ مسّتهم البأساء ﴾ في أموالهم بالغصب والنهب والموت ﴿ والضراء ﴾ وفي أبدانهم بالقتل في الحرب والمرض وأنواع البلاء، ﴿ وزلزلوا ﴾ أي : ضُربوا بالمحن والشدائد، وطال عليهم البلاء، وتأخر عنهم النصر، حتى أفضى بهم الحال إلى أن قالوا :﴿ متى ﴾ يأتينا ﴿ نصر الله ﴾ ؟ استبطاء لمجيئه مع شدة البلاء.
قال الحقّ جلّ جلاله بشارةً لهم :﴿ ألا إن نصر الله قريب ﴾ فلا تستعجلوا،
﴿ وَاصْبِرُواْ إِنَ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [ الأنفَال : ٤٦ ]، ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ الأعرَاف : ١٢٨ ].
الإشارة : الجنة حفت بالمكاره، ولا فرق بين جنة الزخارف وجنة المعارف، فمن رام دخول جنة المعارف قبل أن يمسه شيء من المكاره، فقد رام المحال. قال أبو المواهب : من ادعى شهود الجمال، قبل تأدبه بالجلال، فارفضه فإنه دجال. وقال بعض العارفين :[ صيحة العدو سوط الله يزجر به قلوب أوليائه لئلا تسكن إلى غيره ]. وفي الحكم :" إنما أَجْرَى الأذى عليهم كي لا تكونَ ساكناً إليهم، أراد أن يزعجك عن كل شيء حتى لا تكون ساكناً إلى شيء ". وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :" اللهمَّ إنَّ القوم قَد حكَمْتَ عليهم بالذل حتى عزُّوا، وحكمت عليهم بالفقْدِ حتى وَجَدُوا ]. فتسليط الخلق على أولياء الله في بدايتهم سنة ماضية، وحكمة إلهية،
﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾ [ الأحزَاب : ٦٢ ].
حتى إذا تخلصوا من البقايا، وكملت فيهم المزايا، نشر فضيلتهم لعباده، فأقروهم ليُعرفُوهم الطريق إلى الله، ويدلوا العباد على الله، بعد أن كساهم حينئذٍ كُسوة الجمال وكسوة الجلال، فبكسوة الجمال يقع الائتلاف عليهم والعطف لهم، وبكسوة الجلال يقع الامتثال لأمرهم والاستماع لقولهم. والله تعالى أعلم.
ولمّا أمر الحق تعالى بالنفقة في الجهاد وغيره، سألوا ما الذي ينفقون ؟، فبيَّن الله تعالى لهم المنفَق والمحل الذي تُدفع فيه، فقال :
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾
قلت :﴿ ماذا ﴾ إما مفعول ﴿ يُنفقون ﴾، أو مبتدأ وخبر بحذف العائد، أي : ما الذي ينفقونه، والسائل هو عمرو بن الجُموح، كان ذا مال فقال : يا رسول الله، ماذا ننفق من أموالنا، وأين نضعها ؟ فنزلت الآية.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يسألونك ﴾ يا محمد ﴿ ماذا ينفقون ﴾ من أموالهم ؟ ﴿ قل ﴾ لهم :﴿ ما أنفقتم من خير ﴾ أيّ خير كان، ذهباً أو فضة أو طعاماً أو ثياباً أو حيواناً أو غير ذلك، فادفعوه للأهمّ فالأهم ؛ كالوالدين والأقربين ؛ لأن فيهم الصلة والصدقة، ﴿ واليتامى ﴾ الذين مات آباؤهم ؛ لهضم حالهم، ﴿ والمساكين ﴾ ؛ لضعفهم، ﴿ وابن السبيل ﴾ ؛ لغربته واحتياجه إلى ما يُبلِّغه إلى وطنه، ﴿ وما تفعلوا من خير ﴾ يجازيكم به الله، فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم، وهذه النفقة غير الزكاة، فلا نسخ في الآية. الله تعالى أعلم.
الإشارة : الإنفاق على قسمين : حسيّ ومعنوي، والإنفاق الحسيّ هو بذل الأموال والفلوس، والإنفاق المعنوي هو بذل الأرواح والنفوس، فمن بذل أمواله لله عوضه الله جنة الزخارف، ومن بذل نفسه لله عوضه الله جنة المعارف، ومن دخل جنة المعارف لا يشتاق إلى جنة الزخارف، وكما أن لنفقة الأموال محلاً تُصرف فيه، كما ذكره الحقّ تعالى هنا، كذلك لنفقة النفوس محل تصرف فيه ؛ وهو خدمة الشيوخ العارفين بالله، والإخوان الذين يستعين بهم على الوصول إلى الله، وكذلك من احتاج إليه من اليتامى الذين لا شيخ لهم، فيرشدهم وينصحهم، والمساكين الضعفاء الذين لا قدرة لهم على مجاهدة نفوسهم، فيقويهم بحاله أو مقاله، والغريب الذي انفرد عن الإخوان، ولم يجد ما يستعين به على سيره فيرشده إلى الصحبة والاجتماع بأهل المحبة، وإلى هذا المنزع أشار الشيخ أبو مدين رضي الله عنه :
وَبالتغنِّي عَلى الإخوَانِ جُدْ أبَدا حِسّاً ومعنىً، وغُضَّ الطَّرْفَ إنْ عَثَرَا
ولمّا ذكر الحقّ جلّ جلاله قواعد الإسلام، وهي الصلاةُ والزكاة والصوم والحج، بعد أن أشار إلى كلمة التوحيد بقوله :﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [ البَقَرَة : ١٦٣ ]، ذكر الجهاد - الذي هو حفظ نظامه – فقال :
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾
قلت : الكره - بالضم - : اسم لما يَشُقُّ على النفس، وبالفتح المَصْدَر.
يقول الحقّ جلّ جلاله : فُرض عليكم الجهاد، وهو شاق عليكم، تكرهه نفوسكم، وفيه خير كبير لكم، ﴿ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ﴾، ففي الجهاد نصر دينكم، وإعلاء كلمة إسلامكم، والغنيمة والظّفْرُ بعدوكم، والأجر الكبير عند ربكم، من مات كان شهيداً، ومن عاش عاش سعيداً، وكذلك بقية التكاليف، فإن النفس تكره الإقدام عليها، وهي مَنَاط صلاحها، وسبب فلاحها، ﴿ وعسى أن تُحبوا شيئاً وهو شر لكم ﴾ فقد تحبون الراحة وترك الجهاد وفي ذلك ذُلُّكُمْ، وظهورُ العدو عليكم، وفوات الأجر من ربكم، وحرمان درجة الشهادة عند ربكم. وكذلك جميع المنهيات ؛ فإن النفس تحبها بالطبع، وتَشْرَهُ إليها، وهي تُفضي بها إلى ذلها وهوانها، وعبَّر الحقّ سبحانه بعسى ؛ لأن النفس إذا ارتاضت انعكس الأمر عليها، فيخف عليها أمر الطاعة، ويصعب عليها أمر المخالفة، ﴿ والله يعلم ﴾ ما فيه مصلحتكم، ﴿ وأنتم لا تعلمون ﴾ ؛ لجهلكم بعواقب أموركم.
الإشارة : الجهاد على قسمين : جهاد أصغر وهو جهاد السيف، وجهاد أكبر وهو جهاد النفس، فيجاهدها أولاً في القيام بجميع المأمورات، وترك جميع المنهيات، ثم يجاهدها ثانياً في ترك العوائد والشهوات، ومجانبة الرخص والتأويلات، ثم يجاهدها ثالثاً في ترك التدبير والاختيار، والسكون تحت مجاري الأقدار، حتى لا تختار إلا ما اختار الحق تعالى لها، ولا تشتهي إلا ما يقضي الله عليها، فإن النفس جاهلة بالعواقب، فعسى أن تكره شيئاً وهو خير لها، وعسى أن تحب شيئاً وهو شر لها.
فعسى أن تأتيها المسار من حيث تعتقد المضارّ، وعسى أن تأتيها المضار من حيث ترجو المسار، وعسى أن تنفع على أيدي الأعداء، وعسى أن تضر على أيدي الأحباء، وعسى أن تكره الموت وهو خير لها، وعسى أن تحب الحياة وهي شر لها، فالواجب تسليم الأمور إلى خالقها، الذي هو عالم بمصالحها، ﴿ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾، وهذا كله قبل تصفيتها وكمالها، وأما إذا تهذبت وكملت رياضتها، فالواجب اتباع ما يتجلى فيها، إذ لا يتجلى فيها إلا الحق، وهذا هو ثمرة الجهاد الأكبر، وأما الجهاد الأصغر فلا يحصل شيء من هذا، فلذلك كان مفضولاً عند الجهاد الأكبر، وبالله التوفيق.
ولما كان القتال محرماً في الأشهر الحرم في أول الإسلام، ووقع من بعض الصحابة، فندموا وتحرجوا، أزال الله ذلك الحرج عنهم، فقال :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ * ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
قلت :﴿ قتال ﴾ : بدل اشتمال من ﴿ الشهر الحرام ﴾، وقد وقع خبط في عطف ﴿ المسجد الحرام ﴾، والصواب : ما قاله الزمخشري وابن عطية أنه عطف على ﴿ السبيل ﴾ ؛ إذ هو المتبادر من جهة المعنى أي : وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام أكبر جرماً من قتل السَّرِية في الشهر الحرام، والقواعد النحوية إنما هي أغلبية.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يسألونك ﴾ يا محمد ﴿ عن الشهر الحرام ﴾ أي : عن القتال في الأشهر الحرام، ﴿ قل ﴾ لهم : القتالُ في الشعر الحرام أمره ﴿ كبير ﴾، لكن ما وقع من الكفار من صد الناس ﴿ عن سبيل الله ﴾ أي : منعهم من الإسلام والطاعة، وكذلك كفرهم بالله وصدهم المسلمين عن ﴿ المسجد الحرام ﴾ عام الحديبية، وإخراج المسلمين من مكة التي هي بلدهم - ﴿ والفتنة ﴾ التي هم فيها من الكفر، وافتتان الناس عن دينهم - ﴿ أكبر ﴾ جرماً من القتال الذي وقع في الشهر الحرام تأويلاً وظنّاً أنه لم يدخل الشهر الحرام.
وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث سريةً وأمَّر عليها عبد الله بنَ جَحْش في آخر جُمَادى الآخِرَةِ، فَلَقُوا عمرو بن الحضرمي، مع أناس من قريش، بعد غروب الشمس من جمادى الآخرة، فرموا عمراً فقتلوه، وأخذوا الغنيمة، فقال لهم عليه الصلاة والسلام :" لم آمركم أن تقتلوا في الشهر الحرام " فندموا، وبعثت قريش بالعتاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم : كيف تستحل القتال في الشهر الحرام ؟ فنزلت هذه الآية. ثم نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم بقوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ [ التّوبَة : ٣٦ ].
ثم قال الحقّ جلّ جلاله في التحذير من الكفار :﴿ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ﴾، لكن لا يطيقون ذلك، ﴿ ومن يرتدد منكم عن دينه ﴾ ويستمر عليه حتى يموت ﴿ وهو كافر فأولئك حَبِطَتْ أعمالهُم في الدنيا ﴾ فلا حرمة له، ولا نصيب له في الفيء والغنيمة، وفي ﴿ الآخرة ﴾ فلا يرى لها ثواباً، ﴿ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾.
ومفهوم الآية : أنه إن رجع قبل الموت لا يحبَط عملُه، وهو قول الشافعي. وقال مالك : يحبط أجر كل ما عمل، ويعيد الحج، إن تقدم على الردة، ويقبل منه الإسلام إن رجع، فإنْ لم يرجع أمهل ثلاثة أيام، ثم يقتل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : تعظيم الزمان والمكان يكون بقدر ما يقع فيه من طاعة الملك الديان، فالزمان الذي تهب فيه نفحات القبول والإقبال، لا ينبغي أن يقع فيه ملاججة ولا قتال، وهو وقت حضرة الذكر، أو التذكير، أو الجلوس مع العارفين أهل الإكسير، فسوء الأدب فيه أمره كبير، ومنع القاصدين من وصوله جُرمه كبير، وصد القلوب عن نفحات تلك الحضرة أكبر من كل كبير، ولا يزال قُطَّاع هذه الطريق يردون من أراد سلوكها على التحقيق، لكن من سبق له التأييد لا يرده عن الحق جبار ولا عنيد، ومن سبق له الحرمان، وحَكم عليه القضاءُ بالخذلان، رجع ولو بعد العيان، وأنشدوا :
والله ما نَشْكُرْ خَلِيعْ وإنْ ثَمِلْ وإن صَحَا
وإن ثَبَتْ، سَيْرٌ سَرِيعْ وإن شَرِبْ حَتَّى امْتَحا
حَتى يُقَطَّعْ في القَطيعْ ويَدُورْ دَوْرَ الرَحَا
إن الذين آمنوا وصدَّقُوا بطريق الله، وهاجروا أهواءهم في مرضاة الله، وجاهدوا نفوسهم في محبة الله، أولئك يرجون رحمة الله، فلا يُخيبهم الكريم ؛ لأنه غفور رحيم.

ولمّا نزلت الآية في إسقاط الحرج، ظنوا أنه لا أجر لهم في ذلك الجهاد، فأنزل الحقّ جلّ جلاله :﴿ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله ﴾ أي ثوابه، ﴿ والله غفور ﴾ لهم ﴿ رحيم ﴾ بهم، فلا يضيع جهادهم في هذه السرِيَّة، وأعاد الموصول لتعظيم شأن الهجرة والجهاد، وعبَّر بالرجاء إشعاراً بأن العمل غير موجب للثواب، وإنما هو عبودية، والأمر بيد الله ؛ إن شاء أثاب وإن شاء عاقب، ﴿ لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ﴾ [ الأنبيَاء : ٢٣ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : تعظيم الزمان والمكان يكون بقدر ما يقع فيه من طاعة الملك الديان، فالزمان الذي تهب فيه نفحات القبول والإقبال، لا ينبغي أن يقع فيه ملاججة ولا قتال، وهو وقت حضرة الذكر، أو التذكير، أو الجلوس مع العارفين أهل الإكسير، فسوء الأدب فيه أمره كبير، ومنع القاصدين من وصوله جُرمه كبير، وصد القلوب عن نفحات تلك الحضرة أكبر من كل كبير، ولا يزال قُطَّاع هذه الطريق يردون من أراد سلوكها على التحقيق، لكن من سبق له التأييد لا يرده عن الحق جبار ولا عنيد، ومن سبق له الحرمان، وحَكم عليه القضاءُ بالخذلان، رجع ولو بعد العيان، وأنشدوا :
والله ما نَشْكُرْ خَلِيعْ وإنْ ثَمِلْ وإن صَحَا
وإن ثَبَتْ، سَيْرٌ سَرِيعْ وإن شَرِبْ حَتَّى امْتَحا
حَتى يُقَطَّعْ في القَطيعْ ويَدُورْ دَوْرَ الرَحَا
إن الذين آمنوا وصدَّقُوا بطريق الله، وهاجروا أهواءهم في مرضاة الله، وجاهدوا نفوسهم في محبة الله، أولئك يرجون رحمة الله، فلا يُخيبهم الكريم ؛ لأنه غفور رحيم.

ولمّا كان الخمر حلالاً في أول الإسلام، وكانوا يشربونه، ويتِّجُرون فيه، فيتصدقون بثمنه وبثمن القمار، بيَّن الحقّ تعالى ذلك، بعد الأمر بالإنفاق ؛ لئلا يقع التساهل في المعاملة بعلَّة الصدقة، فقال :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذالِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ * ﴿ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
قلت : الخمر في اللغة : ما يستر الشيء ويغطيه، ومنه : خمار المرأة، وسُمِّي الخمر خمراً لستره العقلَ. وفي الاصطلاح : ما غَيّب العقل دون الحواس مع النَّشْوة والطرَب. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كُلُّ مُسْكرٍ خَمْرٍ وكُلُّ خَمْر، حَرَامٌ ".
والميسر : قال ابن عباس والحسن : كل قمار ميسر، من شطرنج ونرْد ونحوه، حتى لَعِب الصبيان بالجَوْز والكِعَاب، إذا كان بالفُلوس، وسمي ميسراً ليُسْر صاحبه بالمال الذي يأخذه، وأما إذا كان بغير عِوض، إنما هو لَعِبٍّ فقط، فلا بأس. قاله ابن عرفة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يسألونك عن ﴾ حكم ﴿ الخمر والميسر قل ﴾ لهم :﴿ فيهما إثم كبير ﴾ أي : عظيم لما في المسير من أكل أموال الناس بالباطل، وما ينشأ عنه من العداوة والشحناء، وما في الخمر من إذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية، والتعدّي الذي يكون من شاربه. وقرأ حمزة والكسائي :﴿ كثير ﴾ بالمثلثة، أي : آثام كثيرة ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام :" لَعَنَ اللّهُ الخَمْرَ، وَبَائِعِهَا، وَمُبْتَاعَهَا، والمُشتَرَاة لَهُ، وعَاصَرَهَا، والمَعْصُورَةَ لَه، وسَاقِيها، وشَاربهَا، وحَامِلهَا، والْمْحمُولة لَهُ، وآكل ثَمِنِها ". فهذه آثام، وفيها ﴿ منافعٍ للناس ﴾ أي : منافع دنيوية ؛ ككسب المال بلا تعب، وإطعام الفقراء من كسبه، كما كانت تصنع العرب في الميسر، وفي الخمر اللذة والنشوة، كما قال حسان رضي الله عنه١ :
ونَشْرَبُها فَتَتْرُكنا مُلوكاً *** وأُسداً لا يُنهْنِهُنا اللقَاءُ٢
﴿ وإثمهما أكثر من نفعهما ﴾ ؛ لأن منفعتهما دنيوية، وعقوبة إثمهما أُخروية، وهذه الآية نزلت قبل التحريم. رُويَ أنه لما نزل بمكة قوله تعالى :﴿ وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقًاً حَسَناً ﴾ [ النّحل : ٦٧ ]، أخذ المسلمون يشربونها، ثم إن عمرَ ومعاذاً في نفر من الصحابة، قالوا : أفْتنا يا رسول الله في الخمر ؛ فإنها مُذهبة للعقل، فنزلت هذه الآية، فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا عبدُ الرحمان بن عوف ناساً إلى داره، فشربوا وسكروا، ثم قام يصلي بهم فقرأ :﴿ قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( ١ )لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ( ٢ ) ﴾ [ الكافِرون : ١، ٢ ] ؛ من غير نفي، فنزلت :﴿. . . لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى. . . ﴾ [ النِّساء : ٤٣ ] فاجتنبُوها في أوقات الصلاة. ثم دعا عتبانُ بنُ مالك سعدَ بن أبي وقاص في جماعة، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا، فأنشد سعدُ شعراً فيه هجاء الأنصار، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجَّه، فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً. فنزلت ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. . . ﴾ إلى قوله :﴿. . . فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴾ [ المَائدة : ٩٠، ٩١ ] فقال عمر : انتهينا يا رب ه.
ولما شربها بعض الناس بعد التحريم، كان - عليه الصلاة والسلام - يضرب فيها بالنعال والجريد، ضرباً غير محدود، وضرب أبو بكر وعمر أربعين، وأول من حد فيها ثمانين سيدنا عثمان، لما تهافت الناس فيها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الحق تعالى جعل للعقل نوراً يُميز بين الحق والباطل، بين الضار والنافع، وبين الصانع والمصنوع، ثم إن هذا النور قد يتغطى بالظلمة الطينية ؛ وهي نشوة الخمر الحسية. وقد يتغطى أيضاً بالأنوار الباهرة من الحضرة الأزلية إذا فاجأته، فيغيب عن الإحساس في مشاهدة الأنوار المعنوية، وهي أسرار الذات الأزلية، فلا يرى إلا أسرار المعاني القديمة، وينكر الحوادث الحسية، فسمي الصوفية هذه الغيبة خمرة ؛ لمشاركتها للخمر في غيبوبة العقل، وتغنوا بها في أشعارهم ومواجيدهم، قال ابن الفارض رضي الله عنه :
شَرِبْنَا على ذِكْر الحبيبِ مُدامَةً *** سَكرنَا بها من قبل أن يُخلَقَ الكَرْمُ
ثم قال :
على نفسه فَليبْكِ مَن ضاع عُمْرُه *** وليسَ لهُ منها نَصِيبٌ ولا سَهْمُ
وقلت في عينيتي :
وَلِي لَوْعَةٌ بالرَّاحِ إِذْ فِيه رَاحِتِي *** وَرَوْحِي ورَيْحَانِي، وخيرٌ واسِعُ
سَكرْنَا فهِمْنَا في بَهاءِ جَمَالِه *** فَغِبْنا عَن الإحساسِ، والنُورُ ساطعُ
والميسر في طريق الإشارة : هو الغني الذي يحصل بهذه الخمرة، وهو الغني بالله عن كل ما سواه ( قل فيهما إثم كبير ) أي : في تعاطيهما حرج كبير، ومنافع للناس بعد تعاطيهما، فيهما إثم كبير عند طالب الأجور، ومنافع للناس لمن طلب الحضور ورفع الستور. وأنشدوا :
لَوْ كَان لي مُسْعدٌ بالراح يُسعِدُني *** لمَا انتظرتُ لشُربِ الراحِ إفطارا
فالراحُ شيءٌ شَريفٌ أنتَ شَاربُه، *** فاشْرَب، ولو حَمَّلَتْكَ الراحُ أوْزارا
يا مَنْ يلومُ على صَهْبَاءَ٣ صافيةٍ *** خُذ الجِنَانَ، ودَعْنِي أَسكنُ النَارا
وقال ابن الفارض :
وقالُوا : شَرِبْتَ الإثَم ! كلاّ، وإنما *** شرِبْتُ التي في ترْكِها عنديَ الإثْمُ
وقال آخر :
طابَ شُرْبُ المُدامِ في الخَلَواتْ *** اسْقِني يا نديمُ بالآنِيَاتْ
خْمْرَةٌ تركُها علينا حرَامٌ، *** ليسَ فيها إثمٌ ولا شُبُهَاتْ
عُتِّقَتْ في الدَّنان مِنْ قَبْلِ آدمْ *** أصلُها طيّبٌ من الطَّيِّبَاتْ
أَفْتِ لي أيُّهَا الفقيهُ وقلْ لي :*** هل يجوزُ شُرْبُها على عَرَفاتْ ؟
فيهما إثم كبير عند أهل الحجاب، ونفع كبير عند ذوي الألباب، يعني : في الخمرة الأزلية والغنى بالله، وقوله تعالى :﴿ وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ : خطاب على قدر ما يفهم الناس، لأن إثمهما ظاهر للعوام، وهو ما يظهر على النشوان من خراب الظاهر، وصدور الأحوال الغريبة، ونفعهما خاص عند خوصا الخواص، لا يفهمه إلا الخواص، بل يجب كتمه عن غير أهله، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم وقع سؤال ثالث عن قدر المنفق، فأشار إليه الحقّ جلّ جلاله بقوله :
﴿. . . وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذالِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. . . ﴾
قلت :﴿ العفو ﴾ : ضد الجهد، وهو السهل، ويقال للأرض السهلة : عفو، والمراد : أن يُنفق ما تيسر بذله، ولا يبلغ به الجَهد، وهو خبر، أو مفعول، أي : هو العفو، أو ينفقون العفو.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ويسألونك ﴾ ما القدر الذي ينفقونه ؟ ﴿ قل ﴾ لهم : هو ﴿ العفو ﴾ أي : السهل الذي لا مشقة في إعطائه، ولا ضرر على المعطي في فقده، رُوِي أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقدر بَيْضة من الذهب، فقال : خُذها عني صَدقَة، فأعرض عنه، حتى كَرَّر مِرَاراً، فقال : هاتها، مُغْضَبَا، فحذفها حذفاً لو أصابه لشجَّه، فقال :" يأتي أحدكم بماله كله يتصدّق به، ويجلس يتكفَّفُ الناس، إنما الصدقةُ عن ظَهْرِ غِنَى ". قاله البيضاوي مختصراً.
قلت : وهذا يختلف باختلاف اليقين ؛ فقد تصدّق الصدِّيقُ رضي الله عنه بماله كله، وعمر رضي الله عنه بنصف ماله، فأقرهما ورَدّ فعلَ غيرهما، فدلَّ ذلك على أن العفو يختلف باختلاف الأشخاص، على حسب اليقين.
﴿ كذلك يبن الله لكم الآيات ﴾ أي : مثل هذا التبيين الذي ذكرنا، ﴿ يُبين ﴾ لكم الآيات، حتى لا يترك إشكالاً ولا وهماً، ﴿ لعلكم تتفكرون ﴾ بعقولكم، وتأخذون بما يعود نفعه عليكم، فتتفكرون ﴿ في الدنيا ﴾ وسرعة ذهابها وتقلبها بأهلها، إذا أقبلت كانت فتنة، وإذا أدبرت كانت حسرة، لا يفي طالبُها بمقصوده منها ولو ملكها بحذافيرها، ضيقة الزمان والمكان، عمارتها إلى الخراب، وشأنها إلى انقلاب، سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، فتزهدون فيها وترفعون همتكم عنها.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" مَالِي وللدنيا، إنما مَثَلي ومثلُ الدنيا كرجلٍ سَافَرَ في يوم صَائِفٍ، فاسْتَظَلَّ تحت شَجَرةٍ، ثم رَاحَ وَتَرَكَها ". وفي صحف إبراهيم عليه السلام :" عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب - أي : يتعب - عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ". وأنشدوا :
ألا إنَّما الدنيا كأحْلاَمِ نَائِم *** وكُلُّ نعيمٍ ليسَ فيها بِدَائِم
تَذَكَّرْ إذا ما نِلْتَ بالأمس لَذَّةً *** فأفْنَيْتَها هل أنتَ إلا كَحَالِمِ
وتتفكرون في ﴿ الآخرة ﴾ ودوام نعيمها، وسعة فضائها، وبهجة منظرها ؛ فترغبون في الوصول إليها، وتتأهبون للقائها، فتؤثرونها على هذه الدار الفانية. قال بعض الحكماء : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من طين يبقى، لكان ينبغي للعاقل أن يختار ما يبقى على ما يفنى، لاسيما والأمر بالعكس، الدنيا من طين يفنى، والآخرة من ذهب يبقى، فلا يختار هذه الدار إلاَّ أحمق خسيس الهمة، وبالله التوفيق.
الإشارة : كما نهى الحقّ جلّ جلاله عن السرف في الأموال، نهى عن السرف في الأحوال، فالسرف، من حيث هو، يؤدي إلى الملل والانقطاع، " أحبُ العملِ إلى اللّهِ ما دَامَ عليه صاحبُه، وإنْ قَلَ " كما في الحديث، والله ما رأينا أحداً أسرف في الأحوال إلا مَلَّ، وضعف حاله، وفي الحديث :" لاَ يكْن أحَدُكُم كالمُنْبَتِّ - أي : المنقطع - لا أرضاً قطع، ولا ظَهْراً أبقى ". وقال في المباحث :
فاحْتلْ على النفس فَرُبَّ حِيله *** أنفعُ في النُّصْرة مِن قَبِيله
فلا يزال يُسايس نفسه شيئاً فشيئاً حتى يملكها، ويظفر بها، فإذا ظفر بها كانت له شبكة يصطاد بها العلوم والمعارف، فتتفكر في الدنيا فتراها فانية فترحل عنها، ثم تتفكر في الآخرة فتراها باقية، فإذا رامت السُّكْنَى فيها رأتْها كَوْناً مخلوقاً فرحلت إلى خالقها، فكشف الحقّ عنها الحجاب، وأدخلها مع الأحباب، فغابت عن الكونين في شهود المكون، فلم يبق لها دنيا ولا آخرة، بل هي الآن في بهجة ونضرة ﴿ إلى ربها ناظرة ﴾، حققنا الله بهذا المقام العلي. آمين.
١ البيت في ديوان حسان بن ثابت ص ٧٥..
٢ لا ينهنهنا اللقاء: النهنهة: الكف والمنع، والمراد: لا تخاف لقاء العدو..
٣ الصهباء: الخمر..
ثم سألوا أيضاً عن مخالطة اليتامى، فأجابهم الحقّ تعالى بقوله :
﴿. . . وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
قلت : العنت : التعب والمشقة، أعنتكم : أتعبكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ويسألونك عن ﴾ مخالطة ﴿ اليتامى ﴾ أي : خَلْط مال اليتامى بمال الوصيّ، أو القائم به، فيأكلون جميعاً، ﴿ قل ﴾ لهم : يفعلون ما هو ﴿ إصلاح ﴾ لليتيم وأحفظ لماله، فإنْ كان خلط مال اليتيم مع مال الوصي أحفظُ لماله، وأوفر، فهو خير، فإنما هم إخوانكم في الدين، وإن كان عزلُ ما لهم عن مالكم، وأكله وحده، أوفر لماله، فاعتزالهم خير، ﴿ والله يعلم ﴾ من قصدُه الإفساد، ممن قصده الإصلاح، فيعامل كل واحد بقصده، ﴿ ولو شاء الله ﴾ لأمركم بعزلهم وحفظ مالهم مطلقاً، فيُحرجكم، ويشق عليكم، ﴿ إن الله عزيز ﴾ غالب، لا يعجزه شيء، ﴿ حكيم ﴾ لا يفعل شيئاً إلا لحكمة ومصلحة.
ولما نزل قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً. . . ﴾ [ النِّساء : ١٠ ] الآية، تحرَّج الصحابة من مخالطة اليتامى، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية.
الإشارة : كل من لا شيخ له في طريق القوم فهو يتيم، لا أبَ له، فإن ادعى شيئاً من الخصوصية سُمي عندهم لقيطاً أو دعياً، أي ؛ منسوباً إلى غير أبيه، وما زالت الأشياخ تُحذِّر من مخالطة العوام، ومن مخالطة المتفقرة الجاهلة، أعني : الذين لا شيخ لهم يصلح للتربية، حتى قالوا : مخالطتهم سُم قاتل. وقال بعضهم : يجتنب المريد مخالطة ثلاثة أصناف من الناس : المتفقرة الجاهلين، والقراء المداهنين، والجبابرة المتكبرين.
قلت : وكذلك الفروعية المتجمدين على ظاهر الشريعة، فصُحبتهم أقبحُ من الجميع، ومن ابتلى بمخالطة العوام فلينصحهم، ويرشدهم إلى مصالح دينهم، إنما هم إخوان في الدين، والله يعلم المفسد من المصلح، فمن خالطهم طمعاً في مالهم أو جاههم، أفسده الله، ومن خالطهم نُصحاً وإرشاداً أصلحه الله، ولو شاء الله لأمر الفقراء باعتزالهم بالكلية، وفي ذلك حرج ومشقة، ومِنْ حكمته تعالى أن جعلهم حجاباً لأهل الحجاب، ومدخلاً لذوي الألباب، حجاباً للضعفاء، ومدخلاً ومشهداً للأقوياء. والله تعالى أعلم.
ولمّا فرغ الحق جلّ جلاله من ذكر بعضَ أمر الجهاد وما يتعلق به، شَرَع يتكلم على النكاح، فقال :
﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
قلت : بدأ الحقّ جلّ جلاله بذكر محل النكاح، وسيأتي في سورة النساء تمامه في قوله :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ. . . ﴾ [ النِّساء : ٢٣ ] الآية.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولا تتزوجوا النساء ﴿ المشركات حتى يؤمن ﴾، ونكاحهن حرام، بخلاف الكتابيات، كما في سورة المائدة. ونكاح أمة سوداء ﴿ مؤمنة خير من ﴾ نكاح ﴿ مشركة ولو أعجبتكم ﴾ حُسناً وحسباً ومالاً، أو : ولا مرأة مؤمنة أمة كانت أو حُرة خَيْرٌ من مشركة ؛ إذ النساء كلهم إماء الله.
رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام - بعث مَرْثَداً الغَنَوي إلى مكة ليُخرج منها نَاساً من المسلمين فأَتتْه امرأة يقال لها : عناق، وكان يهواها في الجاهلية - فقالت : ألا تخلو ؟ فقال : إن الإسلام حال بيننا، فقالت : هل لك أنْ تتَزَوج بي ؟ فقال : نعم، ولكن أستشير رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاره، فنزلت الآية. البيضاوي.
ولا تُزوجوا ﴿ المشركين ﴾ وليَّتَكم، وهو حرام مطلقاً ؛ إذ الرجال قوامون على النساء، ولا تَسلُّطَ للكافر على المسلمة، فلا تُنكحوهم ﴿ حتى يؤمنوا ﴾، ﴿ ولعبد ﴾ أسود مملوك ﴿ مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ﴾ حسباً ومالاً ؛ إذ لا حسب مع الكفر. وإنما حرَّم نكاح أهل الكفر ؛ لأنهم ﴿ يدعون إلى ﴾ الكفر، وهو سبب ﴿ النار ﴾، والصحبة توجب عقد المحبة، والطباع تُسْرق، فلا يَؤمنُ جانب الكفر أن يغلب على الإيمان، ﴿ والله ﴾ تعالى إنما ﴿ يدعو إلى ﴾ سبب ﴿ المغفرة ﴾ والتطهير من لَوث الكفر والمعاصي ﴿ بإذنه ﴾ وقدرته، فلا يأمر إلا بما يقوى عقد الإيمان واليقين، ويُنهض إلى الطاعات، وهو صحبة أهل الإيمان واليقين، ﴿ ويُبين آياته ﴾ الدالّة على جمع عباده إليه ﴿ لعلهم يتذكرون ﴾ فيها، ويتعظون بتذكيرها ووعظها.
الإشارة : لا ينبغي للفقير أن يعقد مع نفسه عقد الصحبة والمودة، أو ينظر إليها بعين الشفقة والرحمة، ما دامت مشركة بشهود السّوى، أو مائلة بطبعها إلى الهوى، ولأن تكون عندك نفس مؤمنة بعلم التوحيد، خير من نفس مشركة برؤية الغير، ولو أعجبتك في الطاعة، وظهور الاستقامة، فقد تُظْهر الطاعة والخدمة، وتُبطن مالها فيها من الحظوظ والمتعة، فليتهمها ما دامت مشركة، فإذا آمنت ووحدت الله تعالى، فلم تر معه سواه، فلا بأس بعقد النكاح معها، فإنها لا تأمره إلا بما يقوي شهودها وتوحيدها. وكذلك لا ينبغي أن يعقد نكاح نفسه، ويدفعها لمن يشهد السّوى، شيخاً أو أخاً، ولو أعجبك طاعته واجتهاده، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه، أولئك أهل النفوس - يدعون إلى نار الشهوات والحظوظ العاجلة أو الآجلة، والله يدعو إلى التطهير من شهود الأغيار، والدخول في حضرة الأسرار، وهذا لا يكون إلا للعارفين الأبرار ؛ الذين تطهروا من الأكدار، وتخلصوا من شهود الأغيار، كذلك يُبين الله آياته للناس - الدالّة على وحدانيته - لعلهم يتعظون فينزجرون عن متابعة الهوى، أو رؤية وجود السوى. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما بيَّن الحقُ تعالى ما يحرم في النكاح أصالَةً، بيَّن ما يحرم فيه عُروضاً، فقال :
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ * ﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
قلت : المحيض : مصدر، كالمقيل والمعيش والمجيء، وهو الحيض.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ويسألونك ﴾ يا محمد ﴿ عن ﴾ قرب النساء بالجماع في زمن ﴿ المحيض قل ﴾ لهم :﴿ هو أذى ﴾، أي : مُضِرٍّ، أو مُنتن مستقذر، لا يَرضى ذو همة أن يقربه، ﴿ فاعتزلوا ﴾ مجامعة ﴿ النساء في ﴾ زمن ﴿ المحيض ولا تقربوهن ﴾ بالجماع في المحل ﴿ حتى يطهرن ﴾ من الدم، بانقطاعه، ويغتسلن بالماء، ﴿ فإذا تطهرن ﴾ بالماء ﴿ فأتوهن من حيث أمركم الله ﴾ وهو الفرج، الذي أمركم باجتنابه في الحيض ؛ إذ هو محل زراعة النطفة. فمن غلبته نفسه حتى وطئ في الحيض، أو النفاس، فليبادر إلى التوبة، ﴿ إن الله يحب التوابين ﴾ كلما أذنبوا تابوا.
ولا تجب كفارة على الواطئ، على المشهور. وقال ابن عباس والأوزاعي :( من وطئ قبل الغسل تصدق بنصف دينار، ومن وطئ في حال سيلان الدم تصدق بدينار ). رواه أبو داود حديثاً. ومن صبر وتنزَّه عن ذلك فإن الله ﴿ يحب المتطهرين ﴾ من الذنوب والعيوب كلها، وإنما أعاد العامل ؛ لأن محبته للمتنزهين أكثر.
قال البيضاوي : رُوِيَ أن أهل الجاهلية كانوا لا يُسَاكنون الحائض ؛ ولا يُؤاكلونها، كفعل اليهود والمجوس، واستمر ذلك إلى أنْ سأل أبو الدحْداح، في نفر من الصحابة، عن ذلك، فنزلت. ولعله سبحانه - إنما ذكر " إنما يسألونك " من غير واو، ثلاثاً، ثم بها ثلاثاً ؛ لأن السؤالات الأُوَل كانت في أوقات متفرقة، والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد ؛ فلذلك ذكرها بحرف الجمع. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا سُئلت - أيها العارف - عن النفس في حال جنابتها بالغفلة، وحال تلبسها بنجاسة حب الدنيا، فقل : هي أذى، أي : قذر ونجس، من قَرُب منها لطَّخته بنجاستها، فلا يحل القرب منه، أو الصحبة معها، حتى تطهر من جنابة الغفلة باليقظة، ومن نجاسة حب الدنيا بالزهد، ورفع الهمة عنها، فإذا تطهرت فاتها، وردها إلى حضرة مولاها، كما أمرك الله، ﴿ إن الله يحب التوابين ﴾، وقد تابت ورجعت إلى مولاها، ﴿ ويحب المتطهرين ﴾، وقد تطهرت من جنابة الغفلة، وتنزهت عن نجاسة الدنيا برفع الهمة، فصارت لك أرضاً لزراعة حقوق العبودية، ومَنْبَتا لبذر شهود عظمة الربوبية، فأتوا حرثكم - أيها العارفون - أنى شئتم، أي : ازرعوا في أرض نفوسكم من أوصاف العبودية ما شئتم، وفي أي وقت شئتم.
فبقدر ما تزرعون من العبودية تحصدون من الحرية. وبقدر ما تزرع فيها من الذل تحصده من العز، وبقدر ما تزرع فيها من الفقر تحصده من الغنى، وبقدر ما تزرع فيها من التواضع تحصده من الشرف والرفعة.
والحاصل : بقدر ما تزرع فيها من السفليات تحصد ضده من العلويات. قال تعالى :
﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ( ٥ ) وَنُمَكِنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ﴾ [ القصص : ٥، ٦ ]. فإذا تركتها هَمَلاً، أنبتت لك الشوك والحنظل. ﴿ وقدموا لأنفسكم ﴾ من أوصاف العبودية ما تجدونه أمامكم من مشاهدة الربوبية، واتقوا الله فلا تشهدوا معه سواه، واعلموا أنكم ملاقوه حين تغيبون عن وجودكم وتفقدونه، وبشر المؤمنين الموقنين بشهود رب العالمين.

ثم بيَّن الحق تعالى كيفية إتيان النساء بعد الطُهر، فقال :﴿ نساؤكم حرث لكم ﴾، أي : مواضع حرثكم، شبه ما يلقى في أرحامهن من النطف، بالبذر، والأرحام أرض لها، ﴿ فأتوا حرثكم ﴾ أي : محل حرثكم، وهو الفرج، ﴿ أنى شئتم ﴾ أي : من أي جهة شئتم.
رُوِيَ أن اليهود كانوا يقولون : مَنْ جامع امرأته مِنْ خَلْفهَا في قُبُلِهَا جَاء الولُد أَحْولَ، فذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقيل : إنَّ قُريشاً كانوا يأتون النساء من قُدَّام، مستلقية، والأنصار كانوا يأتوهن من خلف، باركة، فتزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار، فأراد أن يفعل عادته، فامتنعت، وأرادت عادتها، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية بالتخيير للرجل، مع الإتيان في المحل، وأما الإتيان في الدُّبُر فحرام، ملعونٌ فاعله، وقال في القوت :﴿ فأتوا حرثكم أنى شئتم ﴾ أي : في أي وقت شئتم، ومن أي مكان شئتم، مع اتحاد المحل. ه.
ثم حذَّر الحق تعالى من متابعة شهوة النساء، والغفلة عن الله، فقال :﴿ وقدموا لأنفسكم ﴾ ما تجدون ثوابه مُدخراً عنده، وهو ذكر الله في مظان الغفلة، قيل : التسمية قبل الوطء وقيل : طلب الولد، والتحقيق : أنه الحضور مع الحق عند هيجان الشهوة، قال بعض العارفين : إني لا أغيب عن الله ولو في حالة الجماع. ه.
وهذا شأن أهل الجمع، لا يفترقون عن الحضرة ساعة. وهذه التقوى التي أمر الله بها بقوله :﴿ واتقوا الله ﴾ أي : لا تغيبكم عنه شهوةُ النساء، ﴿ واعلموا أنكم ملاقوه ﴾ فترون وبال الغفلة وجزاء اليقظة، ﴿ وبشر المؤمنين ﴾ بالقرب من رب العالمين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا سُئلت - أيها العارف - عن النفس في حال جنابتها بالغفلة، وحال تلبسها بنجاسة حب الدنيا، فقل : هي أذى، أي : قذر ونجس، من قَرُب منها لطَّخته بنجاستها، فلا يحل القرب منه، أو الصحبة معها، حتى تطهر من جنابة الغفلة باليقظة، ومن نجاسة حب الدنيا بالزهد، ورفع الهمة عنها، فإذا تطهرت فاتها، وردها إلى حضرة مولاها، كما أمرك الله، ﴿ إن الله يحب التوابين ﴾، وقد تابت ورجعت إلى مولاها، ﴿ ويحب المتطهرين ﴾، وقد تطهرت من جنابة الغفلة، وتنزهت عن نجاسة الدنيا برفع الهمة، فصارت لك أرضاً لزراعة حقوق العبودية، ومَنْبَتا لبذر شهود عظمة الربوبية، فأتوا حرثكم - أيها العارفون - أنى شئتم، أي : ازرعوا في أرض نفوسكم من أوصاف العبودية ما شئتم، وفي أي وقت شئتم.
فبقدر ما تزرعون من العبودية تحصدون من الحرية. وبقدر ما تزرع فيها من الذل تحصده من العز، وبقدر ما تزرع فيها من الفقر تحصده من الغنى، وبقدر ما تزرع فيها من التواضع تحصده من الشرف والرفعة.
والحاصل : بقدر ما تزرع فيها من السفليات تحصد ضده من العلويات. قال تعالى :
﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ( ٥ ) وَنُمَكِنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ﴾ [ القصص : ٥، ٦ ]. فإذا تركتها هَمَلاً، أنبتت لك الشوك والحنظل. ﴿ وقدموا لأنفسكم ﴾ من أوصاف العبودية ما تجدونه أمامكم من مشاهدة الربوبية، واتقوا الله فلا تشهدوا معه سواه، واعلموا أنكم ملاقوه حين تغيبون عن وجودكم وتفقدونه، وبشر المؤمنين الموقنين بشهود رب العالمين.

ولما تكلم الحقّ جلّ جلاله على بعض أحكام النكاح، أراد أن يتكلم على الإيلاء، وهو الحلف على عدم مس المرأة وجماعها، وقدّم على ذلك النهي عن كثرة الحلف ؛ لأنه هو السبب في الوقوع في الإيلاء، فقال :
﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ * ﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِيا أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾
قلت : العرضة : فُعلة، بمعنى مفعولة : أي : معرضاً منصوباً، لأيمانكم تحلفون به كثيراً، فيصير اسم الجلالة مبتذلاً بينكم. و﴿ أن تبروا ﴾ : مفعول من أجله.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولا تجعلوا الله ﴾ أي : اسم الجلالة، معرضاً ﴿ لأيمانكم ﴾، فتتبذلونه بكثرة الحلف، فتمتنعون من فعل الخير بسبب الحلف، كراهة ﴿ أن تبروا ﴾ أي : تفعلوا فعل البر، وهو الإحسان، وكراهة أن ﴿ تتقوا ﴾ أن تجعلوا بينكم وبين الله وقاية بفعل المعروف، وذلك أن يحلف الرجل ألا يصل رحمه، أو لا يسلم على فلان، أو لا يضمن أحداً، أو لا يبيع بدين، أو لا يسلف أحداً، أو لا يتصدق، فهذه الأمور كلها بر وتقوى، نهى الله تعالى عن الحلف على عدم فعلها، أو يحلف ألا يصلح بين الناس، فيجب على الحالف على ذلك أن يحنث، ويكفر عن يمينه. ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - :" إنِّي لأَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى خيْراً منْهَا، فأكفر عن يميني، وآتي الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ". وقال لابن سَمُرَة :" إذا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرأيْتَ غَيرهَا خَيْراً مِنْهَا، فاتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفّرْ عَنْ يمِينِك ".
أو يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولا تجعلوا لله ﴾ معرضاً لأيمانكم، تحلفون به كثيراً، نهيتكم عن ذلك، إرَادَةَ أنْ تكونوا أبراراً متقين، مصلحين ﴿ بين الناس ﴾ ؛ فإن الحالف مجترئ على الله، والمجترئ لا يكون برّاً متقياً، ولا موثوقاً به في إصلاح ذات البين، ﴿ والله سميع ﴾ لأيمانكم، ﴿ عليم ﴾ بنياتكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ لا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم ﴾، ولكن اجعلوه عرضة لتعظيم قلوبكم ومشاهدة لأسراركم، فإني ما أظهرت اسمي لتبتذلوه في الأيمان والجدال، وإنما أظهرت اسمي لتتلقَّوْه بالتعظيم والإجلال، فمن عظَّم اسمي فقد عظَّم ذاتي، ومن عظم ذاتي جعلته عظيماً في أرضي وعند أهل سمواتي، وجعلته برّاً تقيّاً، من أهل محبتي وودادي، وداعياً يدعو إلى معرفتي، ويصلح بيني وبين عبادي، فمن حلمي ورأفتي : أني لا أؤاخذ بما يجري على اللسان، وإنما أؤاخذ بما يقصده الجَنَان.
تنبيه : كثرة الحلف مذموم يدل على الخفة والطيش، وعدم الحلف بالكلية تعسف، وخيرُ الأمور أوساطها، كان عليه الصلاة والسلام يحلف في بعض أحيانه، يقول :" لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ "، " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ". والله تعالى أعلم.

ثم رفع الحق تعالى الحرج عن يمين اللغو الذي لا قصد فيه - فقال :﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾، وهو ما يجري على اللسان من غير قصد، كقول الرجل في مجرى كلامه : لا والله وبلى والله، قاله ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهما -، وبه قال الشافعي.
وقال أبو هريرة والحسنُ وابنُ عباس - في أحد قوليه - : هو أن يحلف على ما يعتقد فيظهر خلافه. وبه قال مالك رضي الله عنه، والأول ألْيَق بقوله تعالى :﴿ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ﴾ أي : بما عقدت عليه قلوبكم، ﴿ والله غفور ﴾ ؛ حيث لم يؤاخذكم باللغو، ﴿ حليم ﴾ ؛ حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجدّ، تربصاً للتوبة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ لا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم ﴾، ولكن اجعلوه عرضة لتعظيم قلوبكم ومشاهدة لأسراركم، فإني ما أظهرت اسمي لتبتذلوه في الأيمان والجدال، وإنما أظهرت اسمي لتتلقَّوْه بالتعظيم والإجلال، فمن عظَّم اسمي فقد عظَّم ذاتي، ومن عظم ذاتي جعلته عظيماً في أرضي وعند أهل سمواتي، وجعلته برّاً تقيّاً، من أهل محبتي وودادي، وداعياً يدعو إلى معرفتي، ويصلح بيني وبين عبادي، فمن حلمي ورأفتي : أني لا أؤاخذ بما يجري على اللسان، وإنما أؤاخذ بما يقصده الجَنَان.
تنبيه : كثرة الحلف مذموم يدل على الخفة والطيش، وعدم الحلف بالكلية تعسف، وخيرُ الأمور أوساطها، كان عليه الصلاة والسلام يحلف في بعض أحيانه، يقول :" لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ "، " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ". والله تعالى أعلم.

ثم أشار الحق تعالى إلى حكم الإيلاء، فقال :
﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ * ﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
قلت :﴿ الإيلاء ﴾ : يمين زوج مكلَّف على عدم وطء زوجته، أكثر من أربعة أشهر. وآلى : بمعنى حلف، يتعدى بعلى، ولكن لما ضُمَّن هنا معنى البُعد من المرأة، عُدّي بمن، و﴿ تربص ﴾ : مبتدأ، و﴿ للذين يؤلون ﴾ : خبر.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ للذين ﴾ يبعدون ﴿ من نسائهم ﴾ ويحلفون ألاَّ يجامعوهن أكثر من أربعة أشهر، غضباً وقصداً للإضرار، ﴿ تربص ﴾ أي : تمهل ﴿ أربعة أشهر ﴾، لا يُطالبُ فيهن بفيئة ولا حنث، ﴿ فإن فاءوا ﴾ أي : رجعوا حلفوا عليه، وحنثوا وكفَّروا أيمانهم، ﴿ فإن الله غفور ﴾ لما قصدوا من الإضرار، بالفيئة التي هي كالتوبة، ﴿ رحيم ﴾ بهم ؛ حَيث لم يعاجلهم بالعقوبة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لا ينبغي للعبد أن يصرف عمره كله في معاداة نفسه ومجانبتها، إذ المقصود هو الاشتغال بمحبة الحبيب، لا الاشتغال بعداوة العدو، فلمجاهدة نفسه ومجانبتها حد معلوم ووقت مخصوص، وهو ما دامت جموحة جاهلة بالله. فإن فاءت ورجعت إلى الله، وارتاضت لحضرة الله، وجبت محبتها والاصطلاح معها ؛ لأن النفس بها ربح مَنْ ربح، ومنها خسر من خسر، من عرف قدرها، واحتال عليها حتى ردها إلى ربها - ربح، ومن أهملها وجهل قدرها - خسر، وكان شيخ شيوخنا يقول : جزاها الله عنا خيراً ؛ والله ما ربحنا إلا منها، يعني نفسه. وفي بعض الآثار :( مَنْ عَرَفَ نَفْسَه عَرَفَ ربَه ). وإن عزموا الطلاق، يعني : العباد والزهاد عزموا ألا يرجعوا إلى أنفسهم أبداً، فإن الله سميع عليم بقصدهم هل قصدهم طلب الحظوظ أو محبة الحبيب، وأما العارفون فلا تبقى لهم معادة مع أحد قط، قد اصطلحوا مع الوجود بأسره، فمكنهم الله من التصرف في الوجود بأسره. والله ذو الفضل العظيم.
﴿ وإن عزموا الطلاق ﴾ أي : صمموا عليه، ولم يرجعوا عما حلفوا عليه، ﴿ فإن الله سميع ﴾ لطلاقهم ﴿ عليهم ﴾ بقصدهم ونيتهم. ومذهب مالك والشافعي : أن القاضي يُوقفه : إما أن يرجع بالوطء إن قدر، أو بالوعد إن عَجز، أو يُطلِّق عليه طلقة رجعية، عند مالك. ومذهب أبي حنيفة : أنها تَبِين بمجرد مُضي أربعة أشهر. وأحكام الإيلاء مقررة في كتب الفقه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لا ينبغي للعبد أن يصرف عمره كله في معاداة نفسه ومجانبتها، إذ المقصود هو الاشتغال بمحبة الحبيب، لا الاشتغال بعداوة العدو، فلمجاهدة نفسه ومجانبتها حد معلوم ووقت مخصوص، وهو ما دامت جموحة جاهلة بالله. فإن فاءت ورجعت إلى الله، وارتاضت لحضرة الله، وجبت محبتها والاصطلاح معها ؛ لأن النفس بها ربح مَنْ ربح، ومنها خسر من خسر، من عرف قدرها، واحتال عليها حتى ردها إلى ربها - ربح، ومن أهملها وجهل قدرها - خسر، وكان شيخ شيوخنا يقول : جزاها الله عنا خيراً ؛ والله ما ربحنا إلا منها، يعني نفسه. وفي بعض الآثار :( مَنْ عَرَفَ نَفْسَه عَرَفَ ربَه ). وإن عزموا الطلاق، يعني : العباد والزهاد عزموا ألا يرجعوا إلى أنفسهم أبداً، فإن الله سميع عليم بقصدهم هل قصدهم طلب الحظوظ أو محبة الحبيب، وأما العارفون فلا تبقى لهم معادة مع أحد قط، قد اصطلحوا مع الوجود بأسره، فمكنهم الله من التصرف في الوجود بأسره. والله ذو الفضل العظيم.
ثم ذكر الحق تعالى عدة الطلاق، فقال :
﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
قلت : القُرء هو الطهر الذي يكون بعد الحيض، عند مالك، وجمع القلة : أقراء، والكثرة : قروء، واستعمله هنا باعتبار كثرة المطلقات، و﴿ ثلاثة ﴾ : مفعول مطلق، أو ظرف، و﴿ بعولتهن ﴾ : جمع بعل، والتاء لتأنيث الجماعة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ والمطلقات يتربصن ﴾ أي : يمكثن عن التزوج، ﴿ بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ أي : أطهار، وتَعْتَدُّ بالطهر الذي طلقها فيه، فتحيض، ثم تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فإذا رأت الحيضة الثالثة خرجت من العدة، هذا في غير الحامل، وأما الحامل فعدتها وضع حملها. ﴿ ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ﴾ من الولد ؛ استعجالاً لإتمام العدة، أو من الحيض ؛ استبقاءًا لتمادي العدة، وتُصدق في ذلك كله، فإن كانت ﴿ تؤمن بالله واليوم الآخر ﴾ فلا يحل لها أن تكتم ما استؤمنت عليه، ﴿ وبعولتهن ﴾ أي : أزواجهن :﴿ أحق بردهن في ذلك ﴾ التربص، إن كان الطلاق رجعيّاً، وإلا بانت منه، وينبغي للزوج أن يراجعها في العدة، إن أراد بذلك الإصلاح والمودة، لا الإضرار بها، وإلا حرم عليه ارتجاعها، إذ " لاَ ضَرَرَ ولا ضرار "، كما قال - عليه الصلاة والسلام -.
الإشارة : إذا طُلّقَتْ النَّفْسُ، ووقع البعد منها حتى طهرت ثلاثة : الطهر الأول : من الإصرار على الذنوب والمخالفات، الطهر الثاني : من العيوب والغفلات، الطهر الثالث : من الركون إلى العادات والوقوف مع المحسوسات، دون المعاني وأنوار التجليات - حلَّتْ رجعتُها والاصطلاح معها، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن : من العلوم والمعارف والأنوار، وذلك إذا استشرفَتْ على حضرة الأسرار، فإنها تفيض بالعلوم والحكم، أو ما لا يحصى، فينبغي أن تطلع عليها من يقتدي بشأنها. وبعولتهن أحق بردهن، والصلح معهن، بعد تمام تطهيرهن، إن أرادوا بذلك إصلاحاً، وهو إدخالها في الحضرة، ونعيمها بالشهود والنظرة. وبالله التوفيق.
ثم ذكر الحقّ جلّ جلاله حقوق الزوجية، فقال :
﴿. . . وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : وللنساء حقوق على الرجال، كما أن للرجال حقوقاً على النساء، فحقوق النساء على الرجال : الإنفاق، والكسوة، والإعفاف، وحسن المعاشرة، وكان ابنُ عمر - رضي الله عنهما - يقول : إني لأُحِبُّ أن أتزيَّنَ للمرأة كما تتزين لي، ويقرأ هذه الآية.
وحقوق الرجل على المرأة : إصلاح الطعام والفراش، وطاعة زوجها في كل ما يأمرها به من المباح، وحفظ فرجها، وصيانة ماله الذي ائتمنت عليه - إلى غير ذلك من الحقوق، فللنساء حقوق على الرجال ﴿ مثل الذي عليهن بالمعروف ﴾ من غير ضرر ولا ضرار. ولا تفريط ولا إفراط، ﴿ وللرجال عليهن درجة ﴾ أي : فضيلة ؛ لأن الرجال قوّامون على النساء، ولهم فضل في الميراث، والقسمة، وكثير من الحقوق، فضلهم الله على النساء. ﴿ والله عزيز ﴾ لا يعجزه عقاب من خالف أمره، لكنه يمهل ولا يُهمل، ﴿ حكيم ﴾ لا يفعل إلا لمصلحة ظاهرة أو خفية. والله تعالى أعلم.
الإشارة : للنفس حقوق على صاحبها، كما له حقوق عليها، قال - عليه الصلاة والسلام - :" إنَّ لنفْسك عَلَيْكَ حَقّاً، وَلزَوْجِكَ عَلَيْك حَقّاً، ولِربِكَ عليك حَقّاً، فأَعْطِ كُلّ ذِي حَقِ حَقَّهُ ". فالنفس مغرفة للسر، فإذا تعبت سقط منها السر، كذلك نفس الإنسان، إذا تحامل عليها حتى تعللت، ودخلها الوجع، تعذر عليها كثر من العبادات، لاسيما الفكرة، فلا بد من حفظ البشرية، وإنما ينبغي قتلها بالأمور التي لا تُخِلُّ بصحتها، فعليها طاعتك فيما تأمرها به، كما عليك حفظها مما تتضرر به. وللرجال الأقوياء عليها تسلطٌ وتصرف، فهي مملوكة في أيديهم، وهم غالبون عليها، والله غالب على أمره، وهو العزيز الحكيم.
ثم ذكر الحق تعالى عدد الطلاق، فقال :
﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ * ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾
قلت :﴿ فإمساك بمعروف ﴾ : مبتدأ، والخبر : محذوف، أي : أحسن أو أمثل. أو خبر، أي : فالواجب إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ الطلاق ﴾ الذي تقع الرجعة بعده - إنما هو ﴿ مرتان ﴾، فإن طلق ثالثة فلا رجعة بعدها، فإن طلق واحدة أو اثنتين فهو مُخير، فإما أن يمسكها ويرتجعها بحسن المعاشرة، والقيام بحقوق الزوجية بالمعروف. وإما أن يُسرِّحها حتى تنقضي عدتها ﴿ بإحسان ﴾، من غير إضرار، ولا تطويل عدة. ﴿ ولا يحل لكم ﴾، أيها الأزواج، ﴿ أن تأخذوا مما أتيتموهن ﴾ من الصداق ﴿ شيئاً ﴾ - خُلْعاً - ﴿ إلا أن يخافا إلا يقيما حدود الله ﴾ بأن ظن الزوج أو الزوجة فساد العشرة بينهما، وعدم القيام بحقوق الزوجية، ﴿ فإن خفتم ﴾ أيها الحكام، أو من ينوب عنهم، ﴿ ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ﴾ من العصمة، فيحل للزوج أن يأخذ منها الفداء، ولو بجميع ما تملك، إذا كان الضرر منها أو منهما. فإن انفرد بضررها، حُرِّمَ عليه أخذ الفداء، وطُلِّقَتْ عليه.
﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ﴾ أي : هذه الأحكام التي ذكرنا من عدد الطلاق وأخذ الخُلْع على وجهه - هي حدود الله التي حدها لعباده، فمن تعداها فهو ظالم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا طلَّق المريد الدنيا، ثم رجع إليها، ثم تاب وتوجه إلى الله، ثم رجع إليها، ثم تاب وتوجه مرة ثانية، قُبلت توبته، فإن رجع إليها بعد الطلقة الثانية، فلا يُرجى فلاحه في الغالب ؛ لأنه متلاعب، قال تعالى :﴿ الطلاقُ مَرَّتان ﴾ فإمساكُ لها بمعروف بأن يواسي بها من يحتاج إليها، أو تسريح لها من يده بإحسان من الله إليه، حتى يدخله في مقام الإحسان، فإن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له أبداً حتى يأخذها من يد الله بالله، بعد أن كان بنفسه، فكأنه أخذها بعصمة جديدة، فإن تمكن من الفناء والبقاء، فلا جُناح عليه أن يرجع إليها غنيّاً بالله عنها. والله تعالى أعلم.
﴿ فإن ﴾ طلق الزوجُ مرة ثالثة ﴿ فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ﴾، ويدخل بها، من غير شرط التحليل، ﴿ فإن طلقها ﴾ الثاني، ﴿ فلا جناح عليهما أن يتراجعا ﴾ بنكاح جديد ﴿ إن ظنّاً أن يقيما ﴾ حقوق الزوجية، وحسن العشرة، ﴿ وتلك ﴾ الأحكام المذكورة هي ﴿ حدود الله يبينها ﴾ الحقُ تعالى ﴿ لقوم يعلمون ﴾ أي : يفهمون ويتدبرون الأمور.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا طلَّق المريد الدنيا، ثم رجع إليها، ثم تاب وتوجه إلى الله، ثم رجع إليها، ثم تاب وتوجه مرة ثانية، قُبلت توبته، فإن رجع إليها بعد الطلقة الثانية، فلا يُرجى فلاحه في الغالب ؛ لأنه متلاعب، قال تعالى :﴿ الطلاقُ مَرَّتان ﴾ فإمساكُ لها بمعروف بأن يواسي بها من يحتاج إليها، أو تسريح لها من يده بإحسان من الله إليه، حتى يدخله في مقام الإحسان، فإن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له أبداً حتى يأخذها من يد الله بالله، بعد أن كان بنفسه، فكأنه أخذها بعصمة جديدة، فإن تمكن من الفناء والبقاء، فلا جُناح عليه أن يرجع إليها غنيّاً بالله عنها. والله تعالى أعلم.
ثم نهى الحق تعالى عن إمساك الزوجة، إضرارا، كما كانت تفعل الجاهلية، فقال :
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوااْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
قلت :﴿ ضراراً ﴾ : مفعول له، أو حال، أي : مُضَارِّين.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإذا طلقتم النساء ﴾ فَقَرُبَ بلوغُ أَجَل عِدَّتِهِنَّ ﴿ فأمسكوهن ﴾ بالرجعة متلبسين بالمعروف والإحسان إليها، ﴿ أو سرحوهن ﴾ يتزوجن غيركم ﴿ بمعروف ﴾ لا إضرار فيه، ﴿ ولا تمسكوهن ﴾ بنية طلاقهن ﴿ ضراراً ﴾ أي : لأجل الضرر بتطويل عدتهن ﴿ لتعتدوا ﴾ عليهن ﴿ ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ﴾.
نزلت في رجل قال لامرأته : لا آويك، ولا أدعك تحلِّين لغيري. فقالت : كيف ؟ فقال : أطلقك، فإذا دنا مُضِيُّ عِدَّتِك راجعتك، فَشَكَتْ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية. وكان بعضهم يطلق، ويعتق، ثم يرجع، ويقول : كُنت أهزأ بذلك وألعب، فنزل قوله تعالى :﴿ ولا تتخذوا آيات الله هزواً ﴾ أي : مهزوءاً بها، وفي الحديث :" ثَلاَثٌ هزْلُهُنَّ جدٌ : النّكَاحُ، والطَّلاقُ، والرَّجْعَةُ ". ﴿ واذكروا نعمة الله عليكم ﴾ بالهداية وبعثة الرسول، ﴿ وما أنزل عليكم من الكتاب ﴾ فيه ما تحتاجون إليه ظاهراً وباطناً، ﴿ والحكمة ﴾ أي : السنة المطهرة، ﴿ يعظكم ﴾ بذلك ويزكيكم، ﴿ واتقوا الله ﴾ فيما يأمركم به، وينهاكم عنه، ﴿ واعلموا أن الله بكل شيء عليم ﴾ ؛ ﴿ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ [ الأنعَام : ٣ ].
الإشارة : يقال للمريدين المتجردين إذا طلقتم الدنيا، وآيستم أنفسكم من الرجوع إليها حتى تمكَّن اليقين من القلب بحيث انقطع الاهتمام بالرزق من القلب، وزالت عنه الشكوك والأوهام، فإذا رجعت إليه الدنيا، فإما أن يمسكها بمعروف بأَنْ تكون في يده لا في قلبه، أو يسرحها من يده، بسبب مقام الإحسان الذي عوضه الله عنها، ولا تمسكوا الدنيا، أيها الفقراء، قبل كمال اليقين، فإنها ضرر لكم، فقد أخذت الرجال لاسيما الأطفال. ﴿ ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ﴾ ؛ حيث حرمها الوصول، وتركها في حيرة الأوهام تجول، فاحذروا لذيذ عاجلها، لكريه آجلها، ﴿ ولا تتخذوا آيات الله هزواً ﴾ بالرخص والتأويلات، ﴿ واذكروا نعمة الله عليكم ﴾ بالعداية إلى الطريق، ﴿ وما أنزل عليكم من الكتاب ﴾ : فيه بيان التحقيق ﴿ والحكمة ﴾ التي هي إصابة عين التوفيق، ﴿ واتقوا الله ﴾ فلا تركنوا إلى شيء سواه، فإن مالت قلوبكم إلى شيء من السوى، أو نزعت إلى محبة الهوى فاعلموا ﴿ أن الله بكل شيء عليم ﴾ فيبعدكم بعد الوصول. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم نهى الحق تعالى عن منع النساء من التزوج إضرارا، فقال :
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾
قلت : العَضْل : المنع والتضييق والتعسير، يقال : أعضلت الدجاجةُ، إذا عسر بيضُها.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإذا طلقتم النساء ﴾ فانقضت عدتهن ﴿ فلا ﴾ تمنعوهن، أيها الأولياء، من ﴿ أن ينكحن أزواجهن ﴾ الذي كانوا يملكوهن ثم طلقوا، أو الخُطَّاب الأجانب، ﴿ إذا تراضَوْا بينهم بالمعروف ﴾ أي : بأن كانوا أكفاء لهن، وبذلوا من المهر ما يناسبهن، أو كانت رشيدة. ﴿ ذلك ﴾ الذي ذكرنا لكم - يتعظ به، ويقف معه، من كان ﴿ يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾ ؛ لأنه هو الذي ينجع فيه الوعظ وينتفع بالتذكير، ﴿ ذلكم أزكى لكم ﴾ أي : أرفع لقدركم، إن تمسكتم به، ﴿ وأطهر ﴾ لكم من الذنوب والعيوب، ﴿ والله يعلم ﴾ ما فيه صلاحكم، ﴿ وأنتم لا تعلمون ﴾. نزلت الآية في مَعْقِلَ بنِ يَسَارٍ، زوَّج أُخْتَه ثم طلقها زوجُها، وأمهلها حتى انقضت عِدَّتُهَا، ثم جاء يَخْطُبُهَا، فقال مَعْقِلُ : تَرَكها حتى ملكت نفسها، ثم جاء يخطُبها، والله لا أُزوجها منه أبداً. والمرأة أرادت أن ترجع إليه، فنزلت الآية، فرجع معقل عن قسمه وزَوَّجَها.
وفيه دليل أن المرأة لا تُزَوج نفسها، خلافاً لأبي حنيفة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغي للشيوخ إذا تحققوا من المريدين كمال اليقين، وظهر عليهم أمارات الرشد، ألا يمنعوهم من تعاطي الأسباب، وأخذ ما جاءهم من الدنيا، بلا استشراف ولا طمع، فقد يكون ذلك عوناً لهم على الدين، وعمارة لزاوية الذاكرين، فذلك أزكى لهم وأطهر لقلوبهم، ﴿ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾.
ثم ذكر تعالى حكم الرضاع، فقال :
﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : ويجب على الوالدات أن ﴿ يُرضعن أولادهن حولين كاملين ﴾ إذا كُنَّ في العصمة، ولا شرف لهن ؛ لجرى العُرف بذلك، أو مطلقاتٍ، ولم يقبل الولد غيرهنَّ هذا ﴿ لمن أراد أن يتم الرضاعة ﴾، فإن اتفقا على فطامه قبلهما، جاز، كما يأتي. ويجب ﴿ على المولود له ﴾ وهو الأب، رزق أمهات أولاده، ﴿ وكسوتهن ﴾ ؛ إذ هو الذي يُنسب المولود له، وذلك ﴿ بالمعروف ﴾، لا يُكلف الله نفساً إلا ما في وُسْعها وتُطيقه، فلا ﴿ تضارَّ والدةٌ بولدها ﴾، بحيث ترضعه وهي مريضة، أو انقطع لبنها. بل يجب على الأب أن يستأجر من يرضعه، ولا يضار ﴿ مولود له بولده ﴾، بحيث يكلف من الإنفاق والكسوة فوق جهده. فإن مات الأب وترك مالاً - فعلى ﴿ الوارث ﴾ الكبير ﴿ مثل ذلك ﴾ من الكسوة والإنفاق، يُجريها من مال الأب، ويحسبها من حق الصبي، فإن لم يكن للأب مال - فعلى جماعة المسلمين.
﴿ فإن أراد ﴾ أي : الأب والمرضعة، ﴿ فصالاً ﴾ أي : فطاماً للصبي قبل تمام الحولين، ﴿ عن تراضٍ منهما وتشاور ﴾ بينهما، ﴿ فلا جناح عليهما ﴾، إن لم يخف على الولد ضعف. ﴿ وإن أردتم ﴾، أيها الأزواج، ﴿ أن تسترضعوا أولادكم ﴾ عند غير الأم، برضاها، ﴿ فلا جناح عليكم ﴾ في ذلك ﴿ إذا سلمتم ﴾ أي : أعطيتم للمراضع، ﴿ ما آتيتم ﴾ أي : ما أردتم إيتاءه من الأجرة ﴿ بالمعروف ﴾ من غير مَطْلٍ ولا تقتير. والشرط إنما هو على وجه الكمال والإحسان، ﴿ واتقوا الله ﴾ فيما كُلفتم به من الحقوق، ﴿ واعلموا أن الله ﴾ لا يخفى عليه شيء من أموركم ؛ فإنه ﴿ بما تعملون بصير ﴾.
الإشارة : اعلم أن تربية الولاية في قلب المريد، على نمط تربية الطفل الصغير، تنبت في قلب المريد وقت عقد الصحبة بينهما، ثم لا تزال تنمو، أو الشيخ يرضعه بلبن الإمداد حتى يتم أوان رضاعه، ولذلك قالوا : الثدي الميتة لا ترضع. ه. يشيرون إلى أن الشيخ الميت لا يُربى، فلا يزال الشيخ يُربى الروح، ويمدها حتى تدخل بلد الإحسان، وتشتعل فكرتها. وهذا تمام الحولين في حقها، وهو أوان كمال الحقيقة والشريعة لمن أراد إتمامها، فتأكل الروح حينئذٍ من كل شيء، وتشرب من كل شيء، وتستمد من الأشياء كلها، ثم لا يزال يحاذيها بهمته حتى تَرشُد، فيطلق لها التصرف، فتصلح لتربية غيرها.
وعلى الشيخ رزقُ المريدين من قوت القلوب وكسوتهم، تقيهم من إصابة الذنوب والعيوب، إلا ما سبق به القضاء في علم الغيوب، فليس في طَوْق أحدٍ دفعُه، لا تُكلف نفسٌ إلا وسعها، فإذا مات الشيخ، ووصَّى بمن يرث مقامه، فعلى الوارث مثلُ ذلك، فإن أراد المريد انفصالاً عن الشيخ، وتعمير بلد، أو تذكير عباد الله، عن تراض منهما وتشاور من الشيخ، فلا جناح عليهما، وإن أردتم، أيها الشيوخ، أن تسترضعوا أولادكم بإرسال منْ يُذكِّرُهم، ويمدهم، نائباً عنكم، فلا جناح عليكم إذا سلمتم لهم من الإمداد ما يمدهم به، واتقوا الله في شأن المريدين، في جبر كسرهم، وقبول عذرهم، واعلموا أن الله بما تعملون بصير.
ثم ذكر الحق تعالى عدة الوفاة، فقال :
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيا أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ * ﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيا أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيا أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾
قلت : و﴿ الذين يُتوفون ﴾ : مبتدأ : و﴿ يتربصن ﴾ : خبر، ولا بد من الحذف ليصح الإخبار، إما من الصدر أو من العَجزُ، أي : وأزواج الذين يتوفون، أو الذين يتوفون أزواجهن يتربصن.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ والذين ﴾ يموتون منكم، أيها المؤمنون، ويتركون ﴿ أزواجاً ﴾، فلا يتزوجن حتى ﴿ يتربصن ﴾ أي : يمكثن ﴿ بأنفسهن أربعة أشهر ﴾ وعشرة أيام ؛ لأن الجنين يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكراً، ولأربعة إن كان أنثى في الغالب، وزيد عشرةً، استظهاراً، هذا في غير الحامل، أما الحامل، فعدتها وضع حملها. ﴿ فإذا بلغن أجلهن ﴾ أي : انقضت عدتهن، ﴿ فلا جناح عليكم ﴾ أيها الأولياء ﴿ فيما فعلن في أنفسهن ﴾ من التزين والتعرض للنكاح أو التزوج، ﴿ بالمعروف ﴾، بحيث لا ينكره الشرع من تزين ونكاح، ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ فيجازيكم على ما فعلتم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا ماتت النفس عن الهوى، وتركت حظوظاً وشهوات، فلا ينبغي أن يردها إلى ذلك حتى تتربص مدة، فيظهر عليها آثارُ الزهد ؛ من السكون إلى الله، والتأنس بمشاهدة الله حتى تغيب عما سواه. فإذا بلغت هذا الوصف فلا جناح على المريد أن يسعفها فيما تفعل بالمعروف، من غير سَرَفٍ ولا ميل إلى هوى، لأن فعلها حينئذٍ بالله، ومن الله، وإلى الله، ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ لا يخفى عليه شيء من أمرها، ولا جناح عليكم، أيها المريدون، إن تزكت نفوسكم، وطهرت من الأغيار قلوبكم، فيما عرضتم به من خطبة أبكار الحقائق وثيبات العلوم، أو أكننتم في أنفسكم من المعارف والفهوم، علم الله أنكم ستذكرون ذلك باللسان قبل أن يصل الذوق إلى الجَنَان، فلا تصرحوا بعلوم الحقائق مع كل الخلائق ؛ فإن ذلك من فعل الزنادق، إلا أن تقولوا قولاً معروفاً، إشارة أو تلويحاً، فعلمنا كله إشارة، فإذا صار عبارة خفي.
ولا تطلبوا علم الحقائق قبل بلوغ أجله، وهو موت النفوس، والزهد في الفلوس، وكمال التربية، وتمام التصفية، ﴿ واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم ﴾ من الشره إليها قبل أوانها، ﴿ فاحذروه ﴾ أن يعاقبكم بحرمانها، ﴿ واعلموا أن الله غفور حليم ﴾ لا يعاجلكم بحرمان قصدكم، إن صح مقصدكم، والله تعالى أعلم، وبالله التوفيق.

﴿ ولا جناح عليكم ﴾ أيها الخُطَّاب ﴿ فيما عرَّضتم به ﴾ للمعتدات ﴿ من خطبة النساء ﴾ ؛ كقول الرجل : إني لراغب في صحبتكم، وإني أريد أن أتزوج في هذه الساعة. وإنك لنافقة١، أو لا يصلح لك أن تبقى بلا زوج، ونحو هذا، ﴿ أو أكننتم ﴾ أي : أضمرتم ﴿ في أنفسكم ﴾ في زمن العدة من أمر التزوج دون تصريح، ﴿ علم الله أنكم ﴾ ستذكرون النساء المعتدات، وتتكلمون في نكاحهن، حرصاً وتمنياً، فعرّضُوا بذلك، ﴿ ولكن لا تواعدوهن سرّاً ﴾ أي : في الخلوة، أو لا تواعدوهن نكاحاً أو جماعاً، ﴿ إلا أن تقولوا قولاً معروفاً ﴾ وهو التعريض بالألفاظ المتقدمة.
ولا تقطعوا ﴿ عقدة النكاح ﴾، وتعزموا على فعله ﴿ حتى يبلغ ﴾ كتاب المعتدة ﴿ أجله ﴾، وتنقضي العدة، ﴿ واعملوا أن الله يعلم ما في أنفسكم ﴾ من الرغبة والحرص، ﴿ فاحذروه ﴾ فإنَّ الحرص على الشيء، والرغبة فيه، قبل أوانه، ربما يعاقب صاحبه بحرمانه، وما قُدِّر لكَ لا يكون لغيرك، وما كان لغيرك لا يكون لك، ولو فعلت ما فعلت، ﴿ واعلموا أن الله غفور ﴾ لِمَا استعجلتم ؛ فإن الإنسان خُلق عجولاً، ﴿ حليم ﴾ فلا يعاجلكم ولا يفضح سرائركم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا ماتت النفس عن الهوى، وتركت حظوظاً وشهوات، فلا ينبغي أن يردها إلى ذلك حتى تتربص مدة، فيظهر عليها آثارُ الزهد ؛ من السكون إلى الله، والتأنس بمشاهدة الله حتى تغيب عما سواه. فإذا بلغت هذا الوصف فلا جناح على المريد أن يسعفها فيما تفعل بالمعروف، من غير سَرَفٍ ولا ميل إلى هوى، لأن فعلها حينئذٍ بالله، ومن الله، وإلى الله، ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ لا يخفى عليه شيء من أمرها، ولا جناح عليكم، أيها المريدون، إن تزكت نفوسكم، وطهرت من الأغيار قلوبكم، فيما عرضتم به من خطبة أبكار الحقائق وثيبات العلوم، أو أكننتم في أنفسكم من المعارف والفهوم، علم الله أنكم ستذكرون ذلك باللسان قبل أن يصل الذوق إلى الجَنَان، فلا تصرحوا بعلوم الحقائق مع كل الخلائق ؛ فإن ذلك من فعل الزنادق، إلا أن تقولوا قولاً معروفاً، إشارة أو تلويحاً، فعلمنا كله إشارة، فإذا صار عبارة خفي.
ولا تطلبوا علم الحقائق قبل بلوغ أجله، وهو موت النفوس، والزهد في الفلوس، وكمال التربية، وتمام التصفية، ﴿ واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم ﴾ من الشره إليها قبل أوانها، ﴿ فاحذروه ﴾ أن يعاقبكم بحرمانها، ﴿ واعلموا أن الله غفور حليم ﴾ لا يعاجلكم بحرمان قصدكم، إن صح مقصدكم، والله تعالى أعلم، وبالله التوفيق.


١ نافقة: أي مرغوب فيها..
ثم ذكر الحق جل جلاله حكم الطلاق قبل المسيس، فقال :
﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ * ﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
قلت :﴿ ما ﴾ مصدرية ظرفية، و﴿ أو تفرضوا ﴾ معطوف على ﴿ تمسوهن ﴾ أي : لا تبعة عليكم ولا إثم إن طلقتم النساء قبل البناء، مدة كونكم لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن مهراً، و﴿ حقّاً ﴾ مفعول مطلق.
يقول الحقّ جلّ جلاله : لا حرج عليكم من إثم أو صداق، ﴿ إن طلقتم النساء ﴾ مدة كونكم ﴿ لم تمسوهن ﴾ بالجماع، ﴿ ولم تفرضوا لهن فريضة ﴾ من الصداق، فطلقوهن حينئذٍ، ﴿ ومتعوهن ﴾ أي : اعطوهن ما يتمتعن به ويجبر كسرهن، على قدر حال الزوج ؛ ﴿ على الموسع ﴾ أي : الغنى، ﴿ قدره ﴾ من المتعة كأمة أو كسوة أو مال يليق بحاله، ﴿ وعلى المقتر ﴾ أي : الذي تقتر رزقه، أي ضيق عليه، وهو الفقير، ﴿ قدره ﴾ ما يقدر عليه، فمتعوهن ﴿ متاعا معروفا ﴾ من غير سرف ولا تقتير ﴿ حقّاً على المحسنين ﴾ أي : حقّ ذلك عليهم حقّاً. حمل مالكُ الأمْرَ على الندب، وحمله غيره على الوجوب، وهو الظاهر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من المريدين من تحصل له الغيبة عن نفسه، والجذب عنها، بعد أن يمسها بالمجاهدة والمكابدة، فحينئذٍ يمتعها بالشهود والعيان، وهذه طريق الجادة. ومنهم من تحصيل له الغيبة عن نفسه والجذب عنها قبل أن يمسها، ويجاهدها، وهو نادر بالنسبة إلى الأول، فيقال لهؤلاء الفريق : لا جناح عليكم إن طلقتم أنفسكم، وغبتم عنها، من قبل أن تمسوها، وقبل أن تعرضوا عليها وظائف العبودية. ومتعوهن بالشهود والعيان على قدر وسعكم وقوة شهودكم، على الموسع قدره من لذة الشهود، وعلى المقتر - أي : المضيق عليه في المعرفة - قدره من لذة الشهود، حق ذلك حقّاً على المحسنين الذي حازوا مقام الإحسان، وفازوا بالشهود والعيان.
وإن حصل لكم جذب العناية، وطلقتم أنفسكم قبل أن تمسوها، وقد كنتم وظفتم عليها أوراداً من وظائف العبودية ؛ فنصف ما فرضتم، وهو المهم منها ؛ لأن عبادتها صارت قلبية، فيكفيها من العبادة القالبية المهم، إلا أن تقوى على ذلك مع الشهود. أو يأمرها الذي بيده عقدة نكاحها، وهو الشيخ، فلا يضرها الاشتغال بها حيث كان بإذْن، وأن تعفوا، أيها الشيوخ، عن المريدين في العبادة الحسيّة، وتأمروهم بالعبادة القلبية، أقرب للتقوى الكاملة، وهي تقوى السَّوَى. والله تعالى أعلم.

و﴿ إلا أن يعفون ﴾ مبنى ؛ لاتصاله بنون النسوة، ووزنه : يفعُلن كقوله تعالى :﴿ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَى مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [ يُوسُف : ٣٣ ]، وقوله :﴿ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسآءِ الَّتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً ﴾ [ النُّور : ٦٠ ].
وإن طلقتموهن بعد المسيس فالصداق كامل، ﴿ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن ﴾ صداقاً ﴿ فنصف ما فرضتم ﴾ يجب عليكم، ﴿ إلا أن يعفون ﴾ أي : النساء، عن نصف الصداق، ﴿ أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ﴾، وهو الأب في ابنته البكر ؛ قاله مالك، أو الزوج بأن يدفعه كاملاً، قاله الشافعي، ﴿ وأن تعفوا ﴾ أيها الأولياء عن الزوج، فلا تقبضوا منه شيئاً، ﴿ أقرب للتقوى ﴾ ؛ لأن المرأة لم يذهب لها شيء فسلُعتُها قائمة، ﴿ ولا تنسوا الفضل ﴾ والإحسان ﴿ بينكم ﴾ فتسامحوا يسمح لكم، ﴿ إن الله بما تعملون بصير ﴾ لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فيجازي المحسن بإحسانه، ﴿ والله يحب المحسنين ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من المريدين من تحصل له الغيبة عن نفسه، والجذب عنها، بعد أن يمسها بالمجاهدة والمكابدة، فحينئذٍ يمتعها بالشهود والعيان، وهذه طريق الجادة. ومنهم من تحصيل له الغيبة عن نفسه والجذب عنها قبل أن يمسها، ويجاهدها، وهو نادر بالنسبة إلى الأول، فيقال لهؤلاء الفريق : لا جناح عليكم إن طلقتم أنفسكم، وغبتم عنها، من قبل أن تمسوها، وقبل أن تعرضوا عليها وظائف العبودية. ومتعوهن بالشهود والعيان على قدر وسعكم وقوة شهودكم، على الموسع قدره من لذة الشهود، وعلى المقتر - أي : المضيق عليه في المعرفة - قدره من لذة الشهود، حق ذلك حقّاً على المحسنين الذي حازوا مقام الإحسان، وفازوا بالشهود والعيان.
وإن حصل لكم جذب العناية، وطلقتم أنفسكم قبل أن تمسوها، وقد كنتم وظفتم عليها أوراداً من وظائف العبودية ؛ فنصف ما فرضتم، وهو المهم منها ؛ لأن عبادتها صارت قلبية، فيكفيها من العبادة القالبية المهم، إلا أن تقوى على ذلك مع الشهود. أو يأمرها الذي بيده عقدة نكاحها، وهو الشيخ، فلا يضرها الاشتغال بها حيث كان بإذْن، وأن تعفوا، أيها الشيوخ، عن المريدين في العبادة الحسيّة، وتأمروهم بالعبادة القلبية، أقرب للتقوى الكاملة، وهي تقوى السَّوَى. والله تعالى أعلم.

ولما ذكر الحقّ تعالى شأن النساء، حذر من الاشتغال بهن عن العبادة، فقال :
﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ ﴾ * ﴿ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ حافظوا ﴾ أيضاً على أداء ﴿ الصلوات ﴾ الخمس في أوقاتها ؛ بإتقان شروطها وأركانها وخشوعها وآدابها، ولا تشتغلوا عنها بشهوات النساء وتشغيب أحكامهن، ولا بغير ذلك، وحافظوا أيضاً على ﴿ الصلاة الوسطى ﴾ وهي العصر عند الشافعي، وهو ظاهر الحديث، أو الصبح عند مالك ؛ لفضلها، أو لتوسطها بين صلاتي الليل والنهار. وما من صلاة إلا وقيل فيها الوسطى. وقيل : أخفيت كساعة الجمعة وليلة القدر.
﴿ وقوموا لله ﴾ في الصلاة ﴿ قانتين ﴾ أي : ساكتين، وكان، قبل نزول الآية، الكلام في الصلاة جائزاً، أو قيل : مطيعين : إذ القنوت في القرآن كله بمعنى الطاعة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : حافظوا على الصلوات الحسية قياماً بوظائف العبودية، وعلى الصلاة القلبية قياماً بشهود عظمة الربوبية ؛ وهي الصلاة الوسطى لدوامها في كل ساعة، قيل لبعضهم : هل للقلوب صلاة ؟ قال : نعم، إذا سجد لا يرفع رأسه أبداً. هـ. أي : إذا خضع لهيبة العظمة لم يرفع أبداً، وفي ذلك يقول الشاعر :
فاسجُدْ لهيبةِ الجَلالِ *** عنْد التَّدَانِي
وَلْتَقْرَأ آيةَ الكَمالِ *** سَبْعَ المَثَانِي
وأشار بقوله :" آية الكمال " لقوله تعالى :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ الفَاتِحَة : ٥ ] ليجمع بين الشريعة والحقيقة، فسجود القلب حقيقة، وسجود الجوارح شريعة، وقوموا لله بآداب العبودية قانتين خاشعين، فإن خفتم ألا تصلوا إلى ربكم، قبل انقضاء أجلكم، فسيروا إليه رجالاً أو ركباناً، خفافاً أو ثقالاً، فإذا أمنتم من القطيعة - وذلك بعد التمكين - فاذكروا الله شكراً لأجل ما أطلعكم عليه، وعلَّمكم ما لم تكونوا تعلمون ؛ من عظمة الربوبية، وكمال آداب العبودية.

﴿ فإن خفتم ﴾ من عدو، أو سَبع، أو سَيْل، فصلُّوا قياماً على أرجلكم بالإيماء للسجود، ﴿ أو ركباناً ﴾ على خيولكم بالإيماء للركوع والسجود، ﴿ فإذا أمنتم ﴾ في الصلاة، أو بعدها، فصلوا صلاة أَمْن، و﴿ اذكروا الله ﴾ في الصلاة، وصلوا ﴿ كما علَّمكم ﴾ من الكيفية ﴿ ما لم تكونوا تعلمون ﴾ قبل ذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : حافظوا على الصلوات الحسية قياماً بوظائف العبودية، وعلى الصلاة القلبية قياماً بشهود عظمة الربوبية ؛ وهي الصلاة الوسطى لدوامها في كل ساعة، قيل لبعضهم : هل للقلوب صلاة ؟ قال : نعم، إذا سجد لا يرفع رأسه أبداً. هـ. أي : إذا خضع لهيبة العظمة لم يرفع أبداً، وفي ذلك يقول الشاعر :
فاسجُدْ لهيبةِ الجَلالِ *** عنْد التَّدَانِي
وَلْتَقْرَأ آيةَ الكَمالِ *** سَبْعَ المَثَانِي
وأشار بقوله :" آية الكمال " لقوله تعالى :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ الفَاتِحَة : ٥ ] ليجمع بين الشريعة والحقيقة، فسجود القلب حقيقة، وسجود الجوارح شريعة، وقوموا لله بآداب العبودية قانتين خاشعين، فإن خفتم ألا تصلوا إلى ربكم، قبل انقضاء أجلكم، فسيروا إليه رجالاً أو ركباناً، خفافاً أو ثقالاً، فإذا أمنتم من القطيعة - وذلك بعد التمكين - فاذكروا الله شكراً لأجل ما أطلعكم عليه، وعلَّمكم ما لم تكونوا تعلمون ؛ من عظمة الربوبية، وكمال آداب العبودية.

ثم رجع الحق تعالى إلى الكلام على النساء، فقال :
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيا أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
قلت :﴿ وصية ﴾ : مبتدأ، والخبر محذوف، أي : عليهم وصية، ومَنْ نَصَبَ، فمفعول مطلق، أي : فليوصوا وصية، و﴿ غير ﴾ : حال من الأزواج، أي : حَالَ كَوْنِهِنَّ غَيْرَ مُخْرَجَاتِ.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ والذين يتوفون منكم ﴾ ويتركون ﴿ أزواجاً ﴾ بعدهم، فيجب عليهم أن يوصوا لأزواجهم وصية يتمتعن بها من كسوة ونفقة وسكنى، إلى تمام ﴿ الحول ﴾ ما دام الأزواج لم يخرجن من مسكن الزوج، ﴿ فإن خرجن ﴾ بأنفسهن، فلا نفقة ولا كسوة ولا سكنى عليكم أيها الأولياء، ولا حرج عليكم ﴿ فيما فعلن في أنفسهن ﴾ من التزين والتعرض للنكاح بعد تمام عدتهن، على ما هو معروف في الشرع، والوصية منسوخة بآية الميراث، وتربص الحول بآية ﴿ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَراً ﴾ [ البَقَرَة : ٢٣٤ ] المتقدمة المتأخرة في النزول١، ﴿ والله عزيز حكيم ﴾ ينسخ ما يشاء، ويحكم ما يريد، باعتبار الحكمة والمصلحة.
الإشارة : والذين يُتوفون عن الحظوظ والشهوات، ويتركون علوماً وأسراراً، ينبغي لهم أن يوصوا بحفظها وتدوينها، كان الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه إذا استغرق في الكلام وفاضت عليه المواهب، يقول :( هلاَّ رجلٌ يقيد عنا هذه العلوم ). ه ليقع التمتع بها للسائرين والطالبين، ﴿ غير إخراج ﴾ لغير أهلها، فإن قضى الوقت يخروجها، من غير قصد، فلا حرج، إما لغلبة وجد أو هداية مريد، ﴿ والله عزيز حكيم ﴾، فعزته اقتضت الغيرة على سره : أن يأخذه غير أهله، وحكمته اقتضت ظهوره في وقته لأهله. والله تعالى أعلم.
١ المتقدمة المتأخرة في النزول: أي المتقدمة في التلاوة المتأخرة في النزول..
ثم كرر أمر المتعة تأكيدا، فقال :
﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾
قلت : إنما كرره لأن الأولى في غير المدخول بها، إذا طُلقت قبل الفرض، وهذه في المدخول بها، وعبَّر أولاً بالمحسن : لأن المتعة قبل الدخول لا يعطيها إلا أهل الإحسان ؛ لأن المطلق لم يحصل له تمتع بالزوجة، بخلاف الثاني، فمطلق المدخول بها، التقوى تحمله على الإمتاع.
وقيل : لمّا نزلت الآية الأولى، قال رجل من المسلمين : إنْ أحسنتُ مَتَّعْتُ وإلاَّ تَركتُ، فنزلت الثانية تأكيداً. وقال :﴿ حقّاً على المتقين ﴾ الشرك، أي : على كل مؤمن، وحكمها : الندب، عند مالك، على تفصيل ذكره، في المختصر، فقال عاطفاً على المندوب : والمتعة على قدر حاله، بعد العدة للرجعة، أو ورثتها، ككل مُطَلَّقة في نكاح لازم، لا في فَسْخ ؛ كلعَانٍ وملك أحد الزوجين، إلا من اختلعَتْ، أو فُرض لها وطُلقت قبل البناء، ومختارة لعتقِها أو لِعَيْبه أو مُخَيَّرَة أو مُمَلَّكة.
الإشارة : كل من طلق نفسه وخالف هواها تمتع بحلاوة المعاملة مع ربه، فمن اتصل بشيخ التربية تمتع بحلاوة العبادة القلبية كالشهود والعيان، ومن لم يتصل بالشيخ تمتع بحلاوة العبادة الحسية. فالآية الأولى في المريدين والواصلين، وهذه الآية في العُبَّاد والزهاد، ولذلك عبّر في الأولى بالمحسنين، وفي الثانية بالمتقين، والله تعالى أعلم.
ثم حذر من الفرار من الموت، توطئة للترغيب في الجهاد، فقال :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾
قلت : الاستفهام للتعجب والتشويق، والرؤية قلبية، والواو للحال، و﴿ حَذَرَ ﴾ مفعول من أجله.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ألم تنظر يا محمد، بعين الفكر والاعتبار، ﴿ إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ﴾ عشرة، أو ثلاثون، أو أربعون، أو سبعون، حذراً من ﴿ الموت ﴾ في زمن الطاعون.
وكانوا في قرية يقال لها :( داوردان ) فلما وقع بها الطاعون، خرجت طائفة هاربين، وبقيت أخرى، فهلك أكثر من بقي، وسلم الخارجون، ثم رجعوا، فقال الباقون : لو صنعنا مثلهم لبقينا، لئن أصابنا الطاعون مرة ثانية لخرجنا، فأصابهم من قابل، فهربوا كلهم، ونزلوا وادياً أفيح١، فناداهم ملك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه، أن : موتوا، فماتوا كلهم أجمعون، ومرت عليهم مدة ثمانية أيام أو أكثر حتى انتفخوا، وقيل : صاروا عظاماً، فمرَّ عليهم نبيّ الله ( حزقيل )، فدعا الله تعالى، واستشفع فيهم، فأحياهم الله، وعاشوا دهراً، عليهم سيما الموت ؛ لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن، واستمر في أسباطهم. ه.
قال الأصمعي : لما وقع الطاعون بالبصرة، خرج رجل منها على حمار معه أهله، وله عبد يسوق حماره، فأنشد العبد يقول :
لن يُسبَقَ اللّهُ على حِمار *** ولا على ذي مَشعَةٍ طَيّار
قَدْ يُسبحُ الله أمَامَ السارِي ***. . .
فرجع الرجل بعياله.
والآية تدل على أن الفرار من الطاعون حرام في تلك الشريعة، كما حرم في شرعنا، وروى عبد الرحمان بن عوف أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :" إِذَا سَمِعْتُمْ هذا الوباء بِبلد فَلاَ تَقْدُمُوا عَلَيْهِ، وإذَا وَقَعَ بِبلد وَأَنْتُمْ فيه فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهُ ".
قلت : وقد اختلف الأئمة في حكم الفرار والقدوم : فمنهم من شهر المنع فيهما تمسكاً بظاهر الحديث، ومنهم من شهر الكراهة، والمختار في الفرار : التحريم، وفي القدوم : التفصيل، فمن قوي يقينه، وصفا توحيده، حَلَّ له القدوم، ومن ضعف يقينه، بحيث إذا أصابه شيء نسب التأثير لغير الله حرم عليه القدوم.
وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - قلت : يا رسول الله، ما الطاعون ؟ قال :" غدة كغدة البعير، المقيم فيه كالشهيد، والفارُّ منه كالفار من الزحْف ". قال ابن حجر : كون المقيم فيه له أجر شهيد إنما بشرط أن يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن يسلم إليه أمره ويرضى بقضائه، وأن يبقى في مكانه ولا يخرج منه بقصد الفرار، فإذا اتصف الجالس بهذه القيود حصل له أجر الشهادة، ودخل تحته ثلاث صور، الأولى : من اتصف بذلك فوقع له الطاعون ومات فهو شهيد. والثانية : من وقع به ولم يمت به فهو شهيد وإن مات بعد ذلك. والثالثة : من لم يقع به أصلاً ومات بغيره عاجلاً أو آجلاً فهو شهيد، إذا حصلت فيه القيود الثلاثة، ومن لم يتصف بالقيود الثلاثة فليس بشهيد، ولو مات بالطاعون، والله أعلم. ه.
وأما القدوم من بلد الطاعون إلى البلد السالمة منه فجائز. ولا يُمنع من الدخول، قاله الباجي وابن حجر والحطاب وغيرهم لقوله - عليه الصلاة والسلام - :" لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَة " وأما قوله عليه الصلاة والسلام :" فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ "، وقوله :" لاَ يُرد مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ "، فهو محمول على حسم المادة، وسد الذريعة ؛ لئلا يحدث للمخالط شيء من ذلك، فيظنه بسبب المخالطة، فيثبت العدوى التي نفاها الشارع، هذا المختار في الجمع بين الحديثين. والله تعالى أعلم. وإنما أطلت في المسألة لِمَسْ الحاجة ؛ لأن التأليف وقع في زمن الوباء، حفظنا الله من وبالها.
وقيل : إن الذين خرجوا من ديارهم قوم من بني إسرائيل، أُمروا بالجهاد، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد، فخرجوا من ديارهم فراراً من ذلك، فأماتهم الله ؛ ليعرفهم أنهم لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم ؛ وأمرهم بالجهاد، بقوله :﴿ وقاتلوا في سبيل الله ﴾ الآية. وقوله تعالى :﴿ إن الله لذو فضل على الناس ﴾ ؛ حيث أنزل بهم رحمته، ففروا منها، ولم يعاقبهم، حيث أحياهم بعد موتهم، ﴿ ولكن أكثر الناس لا يشكرون ﴾ إذ لا يفهم النعم في طي النقم إلا القليل، فيشكروا الله في السراء والضراء.
الإشارة : ألم تر أيها السامع إلى الذين خرجوا من ديار عوائدهم وأوطان شهواتهم، وهم جماعة أهل التجريد، القاصدين إلى صفاء التوحيد، والغرق في بحر التفريد، حذراً من موت أرواحهم بالجهل والفَرْقِ، فاصطفاهم الله لحضرته، وجذبهم إلى مشاهدة ذاته، فقال لهم الله : موتوا عن حظوظكم، وغيبوا عن وجودكم، فلما ماتوا عن حظوظهم، وغابوا عن وجودهم، أحياهم الله بالعلم والمعرفة، ﴿ إن الله لذو فضل على الناس ﴾ حيث فتح لهم باب السلوك، وهيأهم لمعرفة ملك الملوك، ﴿ ولكن أكثر الناس لا يشكرون ﴾ حيث تجلّى لهم، وعرَّفهم به، وهم لا يشعرون، إلا من فتح الله بصيرتهم، وقليل ما هم.
١ الوادي الأفيح: الواسع..
ثم حرض الحق تعالى المؤمنين على الجهاد، فقال :
﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقاتلوا ﴾ الكفار ﴿ في سبيل الله ﴾ وإعلاء كلمة الله حتى يكون الدين كله لله، ﴿ واعلموا أن الله سميع ﴾ لأقوالكم ودعائكم ﴿ عليم ﴾ بنياتكم وإخلاصكم ؛ فيجازي المخلصين، ويحرم المخلطين.
الإشارة : وجاهدوا نفوسكم في طريق الوصول إلى الله، وأديموا السير إلى حضرة الله، فحضرة القدوس محرمة على أهل النفوس. قال الششتري :
إِنْ تُردْ وَصْلَنَا فموتُكَ شَرطٌ لاَ ينالُ الوِصَالَ مَنْ فِيه فَضْلَه
ومجاهدة النفس هو تحميلها ما يثقل عليها، وبُعدها مما يخف عليها، حتى لا يثقل عليها شيء، ولا تشره إلى شيء، بل يكون هواها ما يقضيه عليها مولاها. قيل لبعضهم، [ ما تشتهي ؟ قال : ما يقضي الله ]. واعلموا أيها السائرون أن الله سميع لأذكاركم، عليم بإخلاصكم ومقاصدكم.
ولما كان الجهاد يحتاج إلى مؤنة التجهيز، وليس كل الناس يقدر على ذلك، رَغَّبَ الحق تعالى الأقوياء بالإنفاق على الفقراء، فقال :
﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
قلت : القرض هو القطع، أطْلِقَ على السلف ؛ لأن المُقْرِضَ يقطع قطعة من ماله ويدفعها للمستلف، والمراد بها الصدقة ؛ لأن المتصدق يدفع الصدقة فيردها الحق تعالى له بضعف أمثالها ؛ فأشبهت القرض في مطلق الرد.
يقول الحقّ جلّ جلاله : مَنْ هذا الذي يعامل الله تعالى ويقرضه ﴿ قرضاً حسناً ﴾ بأن يتصدق على عباده صدقة حسنة بنية خالصة، فيُكثرها الله تعالى له ﴿ أضعافاً كثيرة ﴾ ؛ بسبعمائة إلى ما لا نهاية له، ولا يحمله خوف الفقر على ترك الصدقة ؛ فإن الله تعالى يقبض الرزق عمن يشاء ولو قل إعطاؤه، ويبسط الرزق على من يشاء ولو كثر إعطاؤه، بل يقبض على من قبض يده شحّاً وبخلاً، ويبسط على من بسط يده عطاءً وبذلاً، يقول :" يا ابن آدم أَنْفِقْ أُنِفقْ عليك "، " أنْفِقْ ولا تَخْش مِنْ ذِي العَرِشَ إِقلالاً ".
ونسبة القرض إليه تعالى ترغيب وتقريب للإفهام، كما قال في الحديث القدسي :" يقول الله تعالى يوم القيامة : يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْني، قَالَ : يَا رَبّ ! كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالِّمِين ؟ قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ. أَمَا إِنَكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتِني. يَا ابْنَ آدَم اسْتَطْعَمتُكَ فَلَمْ تُطْعِمني. قال : يَا رَبّ ! كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : أَمَا أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعمْه ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَه لَوَجَدْتَ ذَلكَ عِنْدِي. يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيتك فَلَمْ تَسْقِيني. قَالَ. يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ قال : اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تسْقِه. أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ لوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي ".
الإشارة : من هذا الذي يقطع قلبه عن حب الدارين، ويرفع همته عن الكونين، فإن الله ﴿ يضاعفه له أضعافاً كثيرة ﴾ بأن يُمَلِّكَهُ الوجودَ بما فيه، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك "، ﴿ والله يقبض ويبسط ﴾ فيقبض الوجود تحت حكمك وهمتك، إن رفعت همتك عنه، ويبسط يدك بالتصرف فيه، إن علقت همتك بخالقه. أو يقبض القلوب بالفقد والوحشة، ويبسطها بالإيناس والبهجة. أو يقبض الأرواح بالوفاة، ويبسطها بالحياة. والقبض والبسط عند أهل التصوف : حالتان تتعاقبان على القلوب تعاقب الليل والنهار، فإذا غلب حال الخوف كان مقبوضاً، وإذا غلب حال الرجاء كان مبسوطاً، وهذا حال السائرين. أما الواصلون فقد اعتدل خوفهم ورجاؤهم، فلا يؤثر فيهم قبض ولا بسط، لأنهم مالكوا الأحوالَ.
قال القشيري : فإذا كاشف العبدَ بنعت جماله بسطَه، وإذا كاشفه بنعت جلاله قَبضه. فالقبض يوجب إيحاشَه، والبسط يُوجب إيناسه، واعلم أنه يَرُدُّ العبد إلى حال بشريته، فيقبضه حتى لا يُطيق ذَرَّة، ويأخذه مَرَّة عن نعوته، فيجد لحمل ما يَرِدُ عليه قدرة وطاقة، قال الشَّبْلِي رضي الله عنه :( من عَرَفَ الله حمَل السماوات والأرض على شعرة من جَفْن عينه، ومن لم يعرف الله - جلّ وعلا - لو تعلق به جَناح بعوضة لضجَّ ).
وقال أهل المعرفة :[ إذا قَبض قَبض حتى لا طاقة، وإذا بسط بسط حتى لا فاقة، والكل منه وإليه ]. ومن عرف أن الله هو القابض الباسط، لم يَعتِب أحداً من الخلق، ولا يسكن إليه في إقبال ولا إدبار، ولم ييأس منه في البلاء، ولا يسكُن إليه في عطاء، فلا يكون له تدبير أبداً. ه.
ولكلٍّ من القبض والبسط آداب، فآداب القبض : السكون تحت مجاري الأقدار، وانتظار الفرج من الكريم الغفار. وآداب البسط : كف اللسان، وقبض العنان، والحياء من الكريم المنان. والبسط مَزَلَّة أقدام الرجال. قال بعضهم :( فُتح عليَّ بابٌ من البسط فزللتُ زَلَّة، فحُجِبْتُ عن مقامي ثلاثين سنة ). ولذلك قيل : قف على البساط وإياك والانبساطَ.
واعلم أن القبض والبسط فوق الخوف والرجاء، وفوق القبض والبسط : الهيبة والأنس فالخوف والرجاء للمؤمنين، والقبض والبسط للسائرين، والهيبة والأنس للعارفين، ثم المحو في وجود العين للمتمكنين، فلا هيبة لهم، ولا أنس، ولا علم، ولا حس.
وأنشدوا :
فلو كُنْتَ مِنْ أَهلِ الوُجودِ حقيقةً لغبْتَ عَن الأكوانِ والعرشِ والكرسي
وكُنْتَ بلا حالٍ مَع اللّهِ واقفاً تُصان عَنْ التّذْكَارِ للجِن والإِنْسِ
ثم ذكر الحق تعالى قصة من أمر بالجهاد فجبن عنه، ترهيبا من التشبه به، فقال :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِيا إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ألم تر ﴾ يا محمد - فتعتبر - ﴿ إلى ﴾ قصة جماعة ﴿ من بني إسرائيل من بعد ﴾ موت ﴿ موسى ﴾ حين طلبوا الجهاد، وقالوا ﴿ لنبيّ لهم ﴾ يقال له : شمويل، وقيل : شمعون ﴿ ابعث لنا ملكاً ﴾ يَسوس أمرنا ونرجع إليه في رأينا ؛ إذ الحرب لا تستقيم بغير إمام ﴿ نقاتل ﴾ معه ﴿ في سبيل الله قال ﴾ لهم ذلك النبيّ :﴿ هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ﴾ أي : هل أنتم قريب من التولي والفرار إن كُتب عليكم القتال ؟ والمعنى : أتوقع جُبْنكم عن القتال إنْ فُرض عليكم. والأصل : عساكم أن تجبنوا إن فرض عليكم، فأدخل ﴿ هل ﴾ على فعل التوقع، مستفهماً عما هو المتوقع عنده، تقريراً وتثبيتاً.
﴿ قالوا ﴾ في جوابه :﴿ وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله ﴾ أيْ : أيُّ مانع يمنعنا من القتال وقد وُجد داعيه ؟ وهو تسلط العدو علينا فأخْرَجَنَا من ديارنا وأسَرَ أبناءَنا، وكان الله تعالى سلط عليهم جالوت ومن معه من العمالقة، كانوا يسكنون ساحل بحر الروم١ بين مصر وفلسطين، وذلك لمَّا عصوا وسفكوا الدماء، فخرَّبَ بيت المقدس، وحرق التوراة، وأخذ التابوت الذي كانوا ينتصرون به، وسبي نساءهم وذراريهم٢. رُوِيَ أنه سبي من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين، فسألوا نبيهم أن يبعث لهم ملكاً يجاهدون معه، ﴿ فلما كُتب عليهم القتال ﴾ ويَسر لهم ملكاً يسوسهم وهو طالوت. جبنُوا وتولوا ﴿ إلا قليلاً منهم ﴾، وهم من عَبَرَ النهر مع طالوت، ﴿ والله عليم بالظالمين ﴾ فيخزيهم ويُفسد رأيهم. . . نعوذ بالله من ذلك.
الإشارة : ترى كثيراً من الناس يتمنون أن لو ظفروا بشيخ التربية، ويقولون : لو وجدناه لجاهدنا أنفسنا أكثر من غيرنا، فلما ظهر، وعُرف بالتربية، تولى ونكص على عقبيه، وتعلل بالإنكار وعدم الأهلية، إلا قليلاً ممن خصه الله بعنايته ﴿ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشآء ﴾ [ البَقَرَة : ١٠٥ ] ﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [ البَقَرَة : ١٠٥ ]. سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه.
١ بحر الروم: هو البحر الأبيض المتوسط..
٢ الذراري: جمع ذرية، وهي النسل والأولاد..
ثم عين لهم الملك الذي طلبوا، فقال :
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقال لهم نبيهم ﴾ شمويل :﴿ إن الله قد بعث لكم ﴾ ملكاً، أي : عيَّنه لكم لتقاتلوا معه، وهو ﴿ طالوت ﴾ وهو عَلَمٌ عِبْراني كدَاوُد، ﴿ قالوا ﴾ تعنتاً وتشغيباً :﴿ أنى يكون له الملك علينا ﴾ أي من أين يستأهل التملك علينا وليس من دار الملك ؟ لأن المملكة كانت في أولاد يهوذا، وطالوت من أولاد بنيامين، والنبوة كانت في أولاد لاوى. وقالوا :﴿ نحن أحق بالملك منه ﴾ وراثة ومُكْنة، لأن دار المملكة فينا. وأيضاً هو فقير ﴿ لم يُؤْتَ سعة من المال ﴾ يتقوى به على حرب عدوه، وكان طالوت فقيراً راعياً أو سَقَّاءً أو دباغاً. ﴿ قال ﴾ لهم نبيهم - عليه السلام- :﴿ إن اصطفاه عليكم ﴾ رغم أنفكم. قال وهب بن منبه : أوحى الله إلى نبيهم : إذا دخل عليك رجل فَنَش١ الدُهنَ الذي في القرن٢ فهو ملكهم، فلما دخل طالوت نَشَّ الدهن.
وقال السدي : أرسل الله إليه عَصا، وقال له : إذا دخل عليك رجل على طول هذه العصا فهو ملكهم، فكان ذلك طالوت فتبيَّن أن الله تعالى اصطفاه للملك، ﴿ وزاده بسطة في العلم ﴾ فكان أعلم بني إسرائيل بالتوراة وقيل : بالحروب وعلم السياسة. وزاده أيضاً بسطة في ﴿ الجسم ﴾، فكان أطولُ بني إسرائيل يبلغ إلى مَنْكبِهِ. وذلك ليكون أعظم خطَراً في القلوب، وأقوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب، ﴿ والله يؤتي ملكه من يشاء ﴾ ؛ لأنه مَلِك الملوك يضع مُلكه حيث شاء، ﴿ والله واسع ﴾ فيوسع على الفقير ويغنيه بلا سبب، ﴿ عليم ﴾ بمن يليق بالملك بسبب وبلا سبب.
١ نش الماء ينش نشا ونشيشا ونشش: إذا صوت عند الغليان..
٢ القرن: هو قرن الثور وغيره: وأراد به هنا: القنينة التي يكون فيها الدهن، وكانوا يتخذونها من قرون البقر وغيرها..
ثم ذكر آية أخرى تدل على ملكه، فقال :
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾
قلت : قال الجوهري : أصل التابوت : تأبُوة، مثل تَرْقُوة وهي فَعْلُوةٌ، فلما سُكِّنتْ الواو، انقلبت هاء التأنيث تاءٌ، فلغة قريش بالتاء، ولغة الأنصار بالهاء.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقال لهم نبيهم ﴾ لَمَّا طلبوا منه الحجة على اصطفاه طالوت للملك :﴿ إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ﴾ وهو صندوق من خشب الشمشار مُمَوَّه بالذهب، طوله ثلاثة أذرع في سعة ذراعين ﴿ فيه سكينة من ربكم ﴾ أي : فيه ما تسكن إليه قلوبكم وتثبت عند الحرب. وكانوا يُقدمونه أمامهم في الحروب فلا يفرون، ويُنصرون على عدوهم، وقيل : كان فيه صور الأنبياء من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : كان فيه طَسْت من ذهب غُسلت به قلوب الأنبياء - عليهم السلام - وهي السكينة - وفيه ﴿ بقية مما ترك آل موسى ﴾ وهي رُضاض الألواح١، وعصا موسى، وثيابه، وعمامة هارون والآل : مقحم فيهما.
﴿ تحمله الملائكة ﴾ قال وهب : لما صار التابوت عند القوم الذين غلبوا بني إسرائيل - فوضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام، فكانت الأصنام تُصبح مُنكسرة، فحملوه إلى قرية قوم، فأصاب أولئك القومَ أوجاعٌ، فقالوا : ما هذا إلا لهذا التابوت، فلنتركه إلى بني إسرائيل، فأخذوا عَجَلَةً فجعلوا التابوت عليها وربطوها ببقرتين، وأرسلوهما نحو بلاد بني إسرائيل، فبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا على بني إسرائيل، وهم في أمر طالوت فأيقنوا بالنصر، وقيل غيرُ ذلك.
وقوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ﴾ يحتمل أن يكون من كلام نبيهم، أو من كلام الحق تعالى لنبينا - عليه الصلاة والسلام -.
الإشارة : من شأن غالب النفوس ألا تقبل الخصوصية عند أحد حتى تظهر علامتُها، ولذلك طالب الكفارُ الرسلَ بالمعجزات، وطالب العوامُ الأولياءَ بالكرامات، ويكفي في الولي استقامة ظاهره، وتحقيق اليقين في باطنه.
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :" إنما هما كرامتان جامعتان محيطتان : كرامة الإيمان بمزيد الإيقان ونعت العيان، وكرامة العمل على السنة والمتابعة، وترك الدعاوى والمخادعة، فَمنْ أُعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما فهو مفترٍ كذاب، أو ذو خطأ في العلم والعمل. . . " الخ كلامه رضي الله عنه.
وقال في العوارف : وقد يكون مَنْ لا يُكَاشَفُ بشيء من معاني القَدَر أفضل ممن يكاشف بها، إذا كاشفه الله تعالى بصرف المعرفة، فالقدرة أثر من القادر، ومن أُهِّل لقرب القادر لا يستغرب ولا يستكثر شيئاً من القدرة، ويرى القدرة تتجلّى من سُحُب أجزاء عالم الحكمة. فالكرامة إنما تظهر للقلوب المضطربة والنفوس والمتزلزلة، وأما من سكن قلبه باليقين واطمأنت نفسه بالعيان لم يحتج إلى دليل برهان ؛ إذ الجبال الراسية لا تحتاج إلى دُعامة، والله تعالى أعلم.
وكل من طالب أهلَ الخصوصية بالكرامة الحسية ففيه نزعة إسرائيلية، حيث قالوا لنبيهم بعد أن عيَّن لهم مَنْ أكرمه الله بخصوصية الملك :﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ لْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾ [ البقرة : ٢٤٧ ]. ورد الحق تعالى عليهم بقوله :﴿ والله يؤتي ملكه من يشاء ﴾. وما أظهر لهم كرامة التابوت إلا بعد امتناعهم من الجهاد المُتَعَيَّنِ عليهم رحمةٌ بهم. والله تعالى أعلم.
١ رضاض الألواح: كسارتها وفتاتها..
ثم كمل قصة خروجهم إلى العدو، فقال :
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾
قلت : قال في القاموس : غَرَفَ الماء يِغْرُفُه : أخذ بيده، كاغْتَرَفه، والغَرْفَةُ للمَرَّة، وبالكسر : هيئة الغرف وبالضم : اسم للمفعول، كالغرافة، لأنك ما لم تغرفه لا تسميه غُرْفَة، ثم قال : والغُرْفَةُ، بالضم : العُلِّيَّة١.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولما اتفقوا على مُلك طالوت تجهز للخروج، وقال : لا يخرج معه إلا الشبابُ النشيط الفارغُ ليس وراءه علْقة٢، فاجتمع ممن اختار ثمانون ألفاً، وقي : ثلاثون، فلما انفصل عن بلده بالجنود وساروا في البيداء - وكان وقت الحرِّ والقيّظ - عطشوا، وسألوا طالوتَ أن يُجري لهم نهراً، فقال لهم بوحْي، أو بإلهام، أو بأمر نبيهم :﴿ إن الله مبتليكم ﴾ أي : مُختبركم ﴿ بنهر ﴾ بسبب اقتراحكم، ﴿ فمن شرب منه ﴾ كَرْعاً بلا واسطة ﴿ فليس مني ﴾ أي : من جيشي، ﴿ ومن لم يطعمه ﴾ أي : يَذْقه، ﴿ فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده ﴾ فإنها تكفيه لنفسه ولفرسه، فالاستثناء من الجملة الأولى.
﴿ فشربوا منه ﴾ أي : كَرعُوا، وسقطوا على وجوههم، ﴿ إلا قليلاً منهم ﴾ ثلاثُمائةٍ وأربعةَ عشر، على عدد أهل بدر، وقيل : ألفاً. رُوِيَ أن من اقتصر على الغَرفة كَفَتْه لشربه ودوابه، ومن لم يقتصر غلب عطشُه، واسودَّتْ شفتُه ولم يقدْر أن يمضيَ. وعن ابن عباس : أن القومَ شربوا على قدر يقينهم : فالكفار شربوا شُربَ الهيم، وشَرِب العاصي دون ذلك، وانصرف من القوم ستةٌ وسبعون ألفاً، وبقي بعضُ المؤمنين لم يشرب شيئاً، وأخذ بعضهم الغَرفة، فأما من شرب فاشتد به العطشُ وسقط، وأما من ترك الماءَ فحسن حالُه، وكان أجلَد ممن أخذ الغرفة. ه.
وحكمة هذا الامتحان : ليتخلص للجهاد المطيعون المخلصون، إذ لا يقع النصر إلاَّ بهم، فلما جاوز النهرَ طالوتُ ومن بقيَ معه ممن لم يشربْ قال بعضهم لبعض :﴿ لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ﴾ ؛ لكثرتهم وقلة عددنا، ﴿ قال الذين يظنون ﴾ أي : يَتَيَقَّنْون ﴿ أنهم ملاقوا الله ﴾ ويتوقعون ثوابَ الشهادة وهم الخُلْصُ من أهل البصيرة : لا تفزعوا من كثرة عددهم ﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ﴾ وإرادته ومعونته، و﴿ كم ﴾ للتكثير، ﴿ والله مع الصابرين ﴾ بالنصر والمعونة.
الإشارة : قال بعض الحكماء : الدنيا كنهر طالوت، لا ينجو منها إلا من لم يشربْ أو اغترف غرفةً بيده، فمن أخذ منها قَدْرَ الضرورةِ كَفَتْه، ونَشَطَ لعبادة مولاه، ومن أخذ فوق الحاجة حُبس في سجنها، وكان أسيراً في يدها.
وقال بعضهم : طالبُ الدنيا كشارب ماءِ البحر، كلما زاد شربه ازداد عطشه. ه. وقال صلى الله عليه وسلم :" من أُشرب قلبه حُبَ الدنيا التاط٣ منها بثلاث : بشغل لا ينفد عناه، وأمل لا يبلغ منتهاه، وحرص لا يدرك مداه " وقال عيسى عليه السلام : الدنيا مزرعة لإبليس، وأهلها حراث له ه. وقال عليّ رضي الله عنه : الدنيا كالحية : لَيِّن مسها، قاتل سمها، فكن أحذر ما تكونُ منها، أَسَرَّ ما تكون بها ؛ فإن من سكن منها إلى إيناس أزاله عنها إيحاش.
وقال عليه الصلاة والسلام :" مِنْ هوان الدنيا على الله أنه لا يُعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها ". وقال سيدنا عليّ - كرّم الله وجهه- : أول الدنيا عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، ومتشابهها عتاب، من استغنى فيها فُتن، ومن افتقر فيها حزن. ه. وقيل : الدنيا تُقبل إقبال الطالب، وتُدبر إدبار الهارب، وتصل وصال الملول، وتُفارق فراق العجول، خيرها يسير، وعمرها قصير، ولذاتها فانية، وتبعاتها باقية.
وقال عيسى عليه السلام : تعملون للدنيا، وأنتم تُرزقون فيها بغير عمل، ولا تعملون للآخرة، وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل. ه. وقيل : أوحى الله إلى الدنيا : مَنْ خدَمني فاخدِميه، ومن خدمك فاستخدِميه.
وكان عمرُ بنُ عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات٤ :
نهارُكَ يا مغرورُ سهوٌ وغفلةٌ وليلُكَ نومٌ، والأسَى لك لازمٌ
تُسَرُّ بما يفْنَى، وتفرحُ بالمُنَى كما سُرَّ باللذَّات في النومِ حالمُ
وشغلُك فيها سوف تكرَه غَبَّه كذلك في الدنيا تَعيِشُ البهائمُ
وقال آخر٥ :
هي الدارُ دَارُ الأذى والقذى ودارُ الفناءِ ودارُ الْغِيَرْ
فلو نِلْتَها بحذافيرها لمِتَّ ولم تَقْضِ منا الوطرْ
أيا مَنْ يؤملُ طولَ الخلودِ وطولُ الخلودِ عليه ضررْ
إذا ما كبِرْتَ وفات الشبَابُ فلا خيرَ في العيش بعد الكِبرْ
١ العلية، بضم العين وكسرها: هي الغرفة في الطبقة الثانية من الدار وما فوقها، وجمعها: علالي..
٢ ليس وراءه علقة: أي ليس وراءه ما يتعلق به، كتجارة وزوجة وأولاد وغير ذلك..
٣ التاط: التصق..
٤ البيتان الأول والثالث لمسعر بن كدام في حلية الأولياء ٧/٢٢٠. وفي الحلية: "والردى لك لازم" بدل: "والأسى لك لازم"، وصدر البيت الثالث في الحلية:
ثم ذكر الحق تعالى قصة جالوت وملك داود عليه السلام، فقال :
﴿ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ * ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ * ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولما برز طالوت بمَن معه ﴿ لجالوتَ ﴾، أي : ظهر في البرَاز، ودنا بعضهم من بعض، تضرعوا إلى الله واستنصروه، وقالوا :﴿ ربنا أفرغ علينا صبراً ﴾ أي : أصْبُبْه علينا صبّاً، ﴿ وثبت أقدامنا ﴾ عند اللقاء لئلا نَفِرّ، ﴿ وانصرنا على القوم الكافرين ﴾. وفي دعائهم ترتيب بليغ ؛ سألوا أولاً إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدمِ في مَدَاحِضِ الحرب المُسببِ عنه، ثم النصرَ على العدو المرتب عليها غالباً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة :" من علامة النُجْحِ في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات "، فإذا برز المريد لجهاد أعدائه من النفس وَالهوى والشيطان وسائر القُطاع، واستنصر بالله وتبرأ من حوله وقوته، كان ذلك علامة على نصره وظفره بنفسه، وكان سبباً في نجح نهايته، فيملكه الله الوجود بأسره، ويفتح عليه من خزائن حكمته. قال أبو سليمان الداراني :( إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت ثم عادت إلى صاحبها بطرائف الحكم من غير أن يُؤدّي عالمٌ علماً ). وفي الخبر :" من عَمِل بما عَلِمَ أورثه الله عِلْمَ ما لم يعلمْ ". وكان حينئذٍ رحمة للعباد، يدفع الله بوجوده العذاب عمن يستحقه من عباده.
وفي الحديث القدسي :" يقول الله عزّ وجلّ : إذا كان الغالبَ على عبدي الاشتغالُ بي جعلتُ همته ولذَّته في ذكري، ورفعت الحجاب فيما بيني وبينه، لا يسهو إذا سها الناس، أولئك كَلاَمُهُم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال حقّاً، أولئك الذين إذا أردتُ بأهلِ الأرض عقوبة أو عذاباً ذكرتهم فصرفته بهم عنهم ". حقَّقنا الله بمحبتهم وجعلنا منهم... آمين.

فهزم الله عدوَّهم وأجاب دعاءهم بإذنه وقدرته، ﴿ وقتل داود جالوت ﴾. وقصة قتله : أن أصحاب طالوت كان فيهم بنو إيش، وهو أبو داود عليه السلام ستة أو سبعة، وكان داود صغيراً يرعى غنماً، فلما حضرت الحرب قال في نسفه : لأذهبن لرؤية هذه الحرب، فمرَّ في طريقه، بحجر فناداه : يا داود خُذْني، فبي تقتل جالوت، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها، وجعلها في مخلاته وسار، فلما حضر البأس خرج جالوت يطلب البراز، وكاع الناس عنه١، أي : تأخروا خوفاً، حتى قال طالوت : من بيرز له ويقتله فأنا أزوجه ابنتي، وأُحَكِّمُهُ في مالي، فجاء داود، فقال له طالوت : اركب فرسي وخذ سلاحي، ففعل، وخرج في أحسن شكله، فلما مشى قليلاً رجع، فقال الناس : جَبُنَ الفتى، فقال داود : إن الله سبحانه لم يقتله ولم يُعنى عليه، لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح، ولكني أُحب أن أقاتله على عادتي. وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع، فنزل، وأخذ مخلاته فتقلدها، وأخذ مقلاعه فخرج إلى جالوت، وهو شاكٍ في السلاح٢، فقال جالوت : أنت يا فتى تخرج إليّ ! قال : نعم، قال : هكذا كما تخرج إلى الكلب ! قال : نعم، وأنت أهون، قال : لأطعمن لحمك اليوم الطير والسباع، ثم تدانيا فأدار داود فأخذ مقلاعه وأدخل يده إلى الحجارة، فروى أنها التأمت، وصارت حجراً واحداً، فأخذه ووضعه في المقلاع، وسَمَّى الله، وأداره، ورماه، فأصاب رأس جالوت فقتله، وجزّ رأسه، وجعله في مخلاته، واختلط الناس، وحمل أصحابُ طالوت فكانت الهزيمة.
ثم إن داود جاء يطلب شرطه من طالوت، فقال : حتى تقتل مائتين من هؤلاء الجراجمة الذين يؤذون الناس وتجيئني بسلبهم، فقتل داود منهم مائتين، وجاء بذلك، فدفع إليه امرأته وتخلّى له عن الملك. ولما تمكن داود - عليه السلام - من الملك، أجلى من بقي من قوم جالوت إلى المغرب، فمن بقيتهم البرابرة من الشلوح وسائر الأرياف.
فآتي اللّهُ داود ﴿ الملك والحكمة ﴾ وهي النبوة، وقيل : صنعة الدروع ومنطق الطير ﴿ وعلمه مما يشاء ﴾ من أنواع العلوم والمعارف والأسرار، وقد دفع الله بأس الكافرين ورد كيدهم في نحرهم، ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾ أي : لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض، فينصر المسلمين على الكافرين، ويكف فسادهم، لغلبوا وأفسدوا في الأرض. أو : لولا أن الله نصب السلطان، وأقام الحكام لينصفوا المظلوم من الظالم. ويردوا القوي عن الضعيف، لتواثب الخلق بعضهم على بعض، وأكل القوي الضعيفَ فيفسد النظام. أو : لولا أن الله يدفع بالشهود عن الناس في حفظ الأموال والنفوس والدماء والأعراض، لوقع الفساد في الأرض.
أو : لولا أن الله يدفع بأهل الطاعة والإحسان عن أهل الغفلة والعصيان، لفسدت الأرض بشؤم أهل العصيان. وفي الخبر عنه صلى الله عليه وسلم :" إنَّ الله يَدْفَعُ بالمُصلِّي مِنْ أمَّتِي عَمَّنْ لا يُصلي، ويمنْ يُزكيَّ عَمَّنْ لاَ يُزَكِّي، وبِمنْ يَصُومُ، عَمَّنْ لاَ يَصُوم، وبمَنْ يَحُجُّ، عَمَّنْ لاَ يَحُجُّ، وبَمَّنْ يُجاهِدُ عَمَّنْ لاَ يُجَاهِدُ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ هذِهِ الأشْياءِ ما أنْظَرَهُمُ الله طَرْفة عَيْنٍ ".
وفي حديث آخر :" لولا عباد الله رُكَّع، وصبية رُضَّع، لصبَّ عليكم العذاب صبّاً ".
ورَوى جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله ليُصْلِحُ بصلاح الرجل - ولده وولدَه ولدهِ، وأهل دُوَيْرَتِه، ودويراتٍ حوله، ولا يزالون في حِفْظِ الله ما دام فيهم " ه. فهذا من فضل الله على عباده يصلح طالحهم بصالحهم، ويُشَفع خيارُهُم في شرارهم، ولولا ذلك لعوجلوا بالهلاك، ﴿ ولكن الله ذو فضل على العالمين ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة :" من علامة النُجْحِ في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات "، فإذا برز المريد لجهاد أعدائه من النفس وَالهوى والشيطان وسائر القُطاع، واستنصر بالله وتبرأ من حوله وقوته، كان ذلك علامة على نصره وظفره بنفسه، وكان سبباً في نجح نهايته، فيملكه الله الوجود بأسره، ويفتح عليه من خزائن حكمته. قال أبو سليمان الداراني :( إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت ثم عادت إلى صاحبها بطرائف الحكم من غير أن يُؤدّي عالمٌ علماً ). وفي الخبر :" من عَمِل بما عَلِمَ أورثه الله عِلْمَ ما لم يعلمْ ". وكان حينئذٍ رحمة للعباد، يدفع الله بوجوده العذاب عمن يستحقه من عباده.
وفي الحديث القدسي :" يقول الله عزّ وجلّ : إذا كان الغالبَ على عبدي الاشتغالُ بي جعلتُ همته ولذَّته في ذكري، ورفعت الحجاب فيما بيني وبينه، لا يسهو إذا سها الناس، أولئك كَلاَمُهُم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال حقّاً، أولئك الذين إذا أردتُ بأهلِ الأرض عقوبة أو عذاباً ذكرتهم فصرفته بهم عنهم ". حقَّقنا الله بمحبتهم وجعلنا منهم... آمين.


١ كاع الناس عنه: أي جبنوا وضعفوا..
٢ رجل شاكي السلاح: أي كامل السلاح..
﴿ تلك ﴾ يا محمد، ﴿ آيات الله ﴾ والإشارة إلى ما قصَّ من حديث الألوف، وتمليك طالوت، وإتيان التابوت، وانهزام الجبابرة أصحاب جالوت، ﴿ نتلوها ﴾ أي : نقصها عليكم ﴿ بالحق ﴾ أي : بالوجه المطابق الذي لا يَشُك فيه أهل الكتاب وأرباب التواريخ، ﴿ وإنك لمن المرسلين ﴾ حيث أخبرت بها من غير تعرف ولا استماع ولم يعهد منك تعلم ولا اطلاع، فلا يشك أنه مِنْ عند الخبير العليم، إلا من طبع الله على قلبه. نعوذ بالله من ذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة :" من علامة النُجْحِ في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات "، فإذا برز المريد لجهاد أعدائه من النفس وَالهوى والشيطان وسائر القُطاع، واستنصر بالله وتبرأ من حوله وقوته، كان ذلك علامة على نصره وظفره بنفسه، وكان سبباً في نجح نهايته، فيملكه الله الوجود بأسره، ويفتح عليه من خزائن حكمته. قال أبو سليمان الداراني :( إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت ثم عادت إلى صاحبها بطرائف الحكم من غير أن يُؤدّي عالمٌ علماً ). وفي الخبر :" من عَمِل بما عَلِمَ أورثه الله عِلْمَ ما لم يعلمْ ". وكان حينئذٍ رحمة للعباد، يدفع الله بوجوده العذاب عمن يستحقه من عباده.
وفي الحديث القدسي :" يقول الله عزّ وجلّ : إذا كان الغالبَ على عبدي الاشتغالُ بي جعلتُ همته ولذَّته في ذكري، ورفعت الحجاب فيما بيني وبينه، لا يسهو إذا سها الناس، أولئك كَلاَمُهُم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال حقّاً، أولئك الذين إذا أردتُ بأهلِ الأرض عقوبة أو عذاباً ذكرتهم فصرفته بهم عنهم ". حقَّقنا الله بمحبتهم وجعلنا منهم... آمين.

ولمَّا ذكر في هذه السورة جملة من الأنبياء والرسل، وشهد لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه من المرسلين ذكر تفضيل بعضهم على بعض في الجملة، فقال :
﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾
﴿ قلت ﴾ :﴿ تلك ﴾ : مبتدأ، و﴿ الرسل ﴾ : نعت، أو بدل منه، أو بيان، و﴿ فضلنا ﴾ : خبر، أو ﴿ الرسل ﴾ خبر، و﴿ فضلنا ﴾ : خبر ثان، والإشارة إلى الجماعة المذكور قَصَصُها في السورة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ تلك الرسل ﴾ الذين قصصناهم عليك، وذكرتُ لك أنك منهم، ﴿ فضلنا بعضهم على بعض ﴾ بخصائص ومناقب لم توجد في غيره. لكن هذا التفضيل إنما يكون في الجملة من غير تعيين المفضول، لأنه تنقيص في حقه وهو ممنوع. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :" لا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنبِيَاءَ "، " ولا تفضلوني على يونس بن متى " فإن معناه النهي عن تعيين المفضول، لأنه غيبة وتنقيص، وقد صرّح صلى الله عليه وسلم بفضله على جميع الأنبياء بقوله :" أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ ". ولكن لا يُعَيِّن أحداً من الأنبياء بالمفضولية ؛ لئلا يؤدي إلى نقصه، فلا تعارُضَ بين الحديثين.
﴿ منهم مَن كلّم الله ﴾ وهو موسى عليه السلام في جبل الطور، وسيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان قاب قوسين أو أدنى، ﴿ ورفع بعضهم درجات ﴾ وهو نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه خُصَّ بالدعوة العامة، والحُجَج المتكاثرة، والمعجزات المستمرة، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر، والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر. والإبهام لتفخيم شأنه، كأنه العلم المشهور المتعين لهذا الوصف المستغني عن التعيين. وقيل : إبراهيم، خصه بالخلة التي هي أعلى المراتب. قلت : بل المحبة أعلى منها، وقيل : إدريس لقوله :﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ﴾ [ مريَم : ٥٧ ]، وقيل : أولو العزم من الرسل، قاله البيضاوي.
﴿ وآتينا عيسى ابن مريم البينات ﴾ أي : الآيات الواضحات، كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ﴿ وأيدناه بروح القدس ﴾، أي : جبريل عليه السلام كان معه أينما سار، وخصَّه بالتعيين ؛ فإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه، فردَّهم إلى الصواب باعتقاده نبوته دون ربوبيته.
الإشارة : كما فضَّل الله الرسل بعضهم على بعض، كذلك فضل الأولياء بعضهم على بعض، وإنما يقع التفضيل بكمال اليقين، والتغلغل في علم التوحيد الخاص، ذوقاً وكشفاً، والترقي في المعارف والأسرار. وذلك بخدمة الرجال وصحبة أهل الكمال، والتفرغ التام، والزهد الكامل في النفس والفَلْس والجنْس، فمنهم من تحصل له المشاهدة وتصحبها المكالمة، ومنهم من تحصل له المشاهدة دون المكالمة، ومنهم من تحصل له الكرامات الواضحة، ومنهم من لا يرى شيئاً من ذلك استغناءً عنها بكرامة المعرفة. وما قيل في الرسل من عدم تعيين المفضول، مثله يقال في حق الأولياء، وإلا وقع في الغيبة الشنيعة ؛ فإن لحوم الأولياء سموم، فليعتقد الكمال في الجميع، ولا يصرح بتعيين المفضول كما تقدم. والله تعالى أعلم.
ولما ذكر الحقّ تعالى أحوال الرسل، وتفاوتهم في العناية، ذكر أحوال أممهم وتفاوتهم في الهداية، فقال :
﴿. . . وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَاكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾
قلت : إذا وقع فعل المشيئة بعد ﴿ لو ﴾ فالغالب حذف مفعوله، كقوله :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ﴾ [ الأعراف : ١٧٦ ]، أي : لو شئنا رفعه لرفعناه بها، وكقوله :﴿ ولو شاء الله ما اقتتل. . . ﴾، أي : لو شاء هدايتهم ما اقتتلوا، وغير ذلك.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولما بعثتُ الرسلَ، وفضَّلتُ بعضَهم على بعض، اختلفت أممهم من بعدهم فاقتتلوا، وكل ذلك بإرادتي ومشيئتي، ﴿ ولو شاء الله ﴾ هداية أممهم ﴿ ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم ﴾ المعجزات الواضحات في تحقيق رسالتهم وصحة نبوتهم، ﴿ ولكن اختلفوا ﴾ بغياً وحسداً ؛ ﴿ فمنهم من آمن ﴾ بتوفيقه لاتباع دين الأنبياء، ﴿ ومنهم من كفر ﴾ بمخالفتهم، فكان من الأشقياء، ﴿ ولو شاء الله ﴾ جَمْعهم على الهدى ﴿ ما اقتتلوا ﴾، لكن حكمته اقتضت وجود الاختلاف ؛ ليظهر سر اسمه المنتقم والقهار واسمه الكريم والحليم، ﴿ ولكن الله يفعل ما يريد ﴾ ﴿ لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ﴾ [ الأنبيَاء : ٢٣ ].
وفي الآية دليل على أن الحوادث كلها بيد الله خيرها وشرها، وأن أفعال العباد كلها بقدرته تعالى، لا تأثير لشيء من الكائنات فيها. وهذا يردُّ قول المعتزلة القائلين بخلق العبد أفعاله، فما أبعدهم عن الله. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.
الإشارة : اختلاف الناس على الأولياء سُنة ماضية وحكمة أزلية، ﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾ [ الأحزَاب : ٦٢ ]، ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ [ هُود : ١١٨ ]، فمن رأيته من الأولياء اتفق الناسُ على تعظيمه في حياته فهو ناقص أو جاهل بالله ؛ إذ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور، وهذا هو الغالب، والنادر لا حكم له، فلو كان الاتفاق محموداً لكان على الأنبياء أولى، فلما لم يقع للأنبياء والرسل، لم يقع للأولياء ؛ إذ هم على قدمهم، وقائمون بالوراثة الكاملة عنهم. والله تعالى أعلم.
ثم حض على الصدقة في سبيل الله ؛ لأنها برهان الإيمان وعنوان الهداية، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم ﴾ واجباً أو تطوعاً في وجوه الخير، وخصوصاً في الجهاد الذي نحن بصدد الحضّ عليه، وقدموا لأنفسكم ما تجدونه بعد موتكم ﴿ من قبل أن يأتي يوم ﴾ الحساب، واقتضاء الثواب، يوم ليس فيه ﴿ بيع ﴾ ولا شراء، فيكتسب ما يقع به الفداء، وليس فيه ﴿ خُلّة ﴾ تنفعُ إلا خلة الأتقياء ﴿ ولا شفاعة ﴾ ترجى ﴿ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ﴾ [ طه : ١٠٩ ] فأنفقوا مما خولناكم في سبيل الله، وجاهدوا الكافرين أعداء الله، فإن الكافرين ﴿ هم الظالمون ﴾ ؛ حيث وضعوا عبادتهم في غير محلها، ونسبوا الربوبية لغير مستحقيها، إذ لا يستحقها إلا الحيّ القيّوم، الذي أشار إليه الحق جل جلاله :﴿ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. . . ﴾
﴿ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾
قلت :﴿ الله ﴾ : مبتدأ، وجملة ﴿ لا إله إلا هو ﴾ : خبره، والضمير المنفصل بدل من المستتر في الخبر، و﴿ الحي ﴾ : إما خبر ثانيٍ، أو لمبتدأ مضمر، أو بدل من ﴿ الله ﴾، و﴿ قيوم ﴾ فَيْعُول، مبالغة من القيام، ومعناه : القائم بنفسه المستغني عن غيره.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ الله ﴾ الواجب الوجود لا يستحق العبادة غيره، فمن عبد غيره فقد أتى بظلم عظيم ﴿ الحي ﴾ أي : الدائم بلا أول، الباقي بلا زوال ؛ الذي لا سبيل عليه للموت والفناء، ﴿ القيوم ﴾ أي : دائم القيام بتدبير خلقه في إيصال المنافع ودفع المضار، وجلب الأرزاق وأنواع الارتقاء، ﴿ لا تأخذه سنة ولا نوم ﴾ السنة : ما يتقدم النوم من الفتور، والنوم : حالة تعرض للإنسان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، فتقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأساً.
وتقديم السنَة عليه، على ترتيب الوجود، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً ﴾ [ التّوبَة : ١٢١ ]، وجمع بينهما ؛ لأنه لو اقتصر على نفي السَّنَة عند لتوهم أن النوم يغلبه لأنه أشد، ولو اقتصر على نفي النوم لتوهم أن السنة تلحقه لخفتها. والمراد تنزيهه تعالى عن آفات البشرية، وتأكيد كونه حيّاً قيوماً، فإن من أخذه نعاس أو نوم يكون مؤوف الحياة١، قاصراً في الحفظ والتدبير. ولذلك ترك العطف فيه وفي الجمل التي بعدَه ؛ لأنها كلها مقررة له، أي : للحيّ للقيّوم.
وقد ورد أنه اسم الله الأعظم، وقال عليه الصلاة والسلام لفاظمة - رضي الله عنها :" ما مَنَعك أن تَسْمَعي ما أُوصِيك به تَقُولين إذا أصْبَحْتِ وإذا أمْسَيتِ يا حيّ يا قيُّوم، برحمتِكَ أستغيث أصْلحْ لي شأني كُلَّه، ولا تَكلْني إلى نفْسِي طَرْفَةَ عَيْنِ ". رواه النسائي. وأخرج مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال :" قَامَ فِينَا رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بخَمْسِ كلماتٍ قال : إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا ينامُ، ولا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنَام، يَخْفِضُ القِسطُ ويَرْفَعُهُ. يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيل قَبْلَ عَمَلَ النَّهَارِ وعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَملِ اللَّيلِ، حِجَابُهُ النُّورُ - وفي رواية. النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لأحْرَقَتْ سُبَحَاتُ وَجْهِهِ ما أدركه بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ".
﴿ له ما في السماوات وما في الأرض ﴾ هذا تقرير لقيوميته تعالى، واحتجاج على تفرده في الألوهية. والمراد بما فيهما : ما هو أعمُّ من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما، المتمكنة فيهما، من العقلاء وغيرهم، فهو أبلغ من ( له السماوات والأرض وما فيهن )، يعني : أن الله يملك جميع ذلك من غير شريك ولا منازع، وعبر ب ﴿ ما ﴾ تغليباً للغالب.
﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ هذا بيان لكبرياء شأنه، وأنه لا يدانيه أحد ليقدر على تغيير ما يريده بشفاعة واستكانة، فضلاً عن أن يعاوقه عناداً أو مناصبة.
والاستفهام إنكاري، أي : لا أحد يشفع عنده لمن أراد تعالى عقوبته، إلا بإذنه، وذلك أن المشركين زعموا أن الأصنام تشفع لهم، فأخبر تعالى أنه لا شفاعة عنده إلا بإذنه، يريد بذلك شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم وبعض الأنبياء والأولياء والملائكة.
﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ﴾ أي : ما قبلهم وما بعدهم، أو بالعكس، لأنك تستقبل المستقبل وتستدبر الماضي ؛ وقيل :﴿ يعلم ما بين أيديهم ﴾ من الدنيا ﴿ وما خلفهم ﴾ من الآخرة، وقيل : عكسه، لأنهم يقدمون ويُخَلِّفُون الدنيا وراءهم، وقيل : يعلم ما قدموه بين أيديهم من خير أو شر، وما خلفهم وما هم فاعلوه، أو عكسه. والمراد أنه سبحانه أحاط بالأشياء كلها، فلا يخفى عليه شيء ﴿ ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ﴾ أي : لا يحيطون بشيء من معلوماته تعالى إلا بما شاء أن يُطْلعهم عليه، وعطفه على ما قبله ؛ لأن مجموعه يدل على تفرده تعالى بالعلم الذاتي التام، الدال على وحدانيته تعالى في ذاته وصفاته.
﴿ وسع كرسِيُّه السماوات والأرض ﴾ يقال : فلان يسَعُ الشيء سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيامُ به. ويقال : وسع الشيءُ الشيء إذا أحاط به وغمره حتى اضمحلّ في جانبه، وهذا المعنى هو اللائق هنا. وأصل الكرسي في اللغة : من تَركّب الشيء بعضه على بعض، ومنه الكراسة، لتركب أوراقها بعضها على بعض، وفي العرف : اسم لما يُقعد عليه، سُمِّي به لتركب خشباته. واختلف فيه فقيل : العرش، وقيل : غيره.
والصحيح أنه مخلوق عظيم أمام العرش، فوق السماوات السبع دون العرش. يقال : إن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة. والكرسي في جانب العرش كحلقة في فلاة. وعن ابن عباس :( أن السماوات في الكرسي كدراهم سبعة في تُرْسٍ ) وقيل : كرسيه : علمه.
قال البيضاوي : هو تصوير لعظمته تعالى وتمثيل مجرد، كقوله :﴿ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتُ بِيَمِينِهِ ﴾ [ الزمر : ٦٧ ] ولا كرسي في الحقيقة ولا قاعد. وقيل : كرسيه مجاز عن علمه أو ملكه، مأخوذ من كرسي العلم والملك، وقيل : جسم بين يدي العرش محيط بالسماوات السبع لقوله - عليه الصلاة والسلام- :" ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة في فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة " ولعله الفلك المشهور بفلك البروج. ه. قلت : وقد اعترض السيوطي في حاشيته عليه ٢. فالله تعالى أعلم.
﴿ ولا يؤوده ﴾ أي : لا يُثْقله ولاَ يُشقُّ عليه ﴿ حفظهما ﴾ أي : حفظ السماوات والأرض. وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لأن حفظهما مُسْتَتْبع لحفظه، ﴿ وهو العلي ﴾ أي : المتعالي عن الأشباه والأنداد، ﴿ العظيم ﴾ أي : عظيم الشأن، جليل القدر، الذي يُستحفرُ كلُّ شيء دون عظمته.
وهذه الآية مشتملة على أمهات المسائل الإلهية، فإنها دالّة على أنه تعالى موجود واحد في الألوهية، متصف بالحياة الذاتية، واجب الوجود لذاته، موجد لغيره ؛ إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره، منزه عن التحيّز والحلو، مُبرَّأ عن التغير والفتور، لا يناسب الأشباح، ولا يعتريه ما يعتري الأرواح، مالك الملك والملكوت، مبدع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له.
عالم بالأشياء كلها : جَليِّها وخَفِيِّها، وكُليها وجِزْئيَّها. واسع الملك والقدرة لكل ما يصح أن يملك ويقدر عليه، لا يشقُّ عليه شاقٌّ، ولا يشْغَله شأن عن شأن، مُتَعَالٍ عن تناول الأوهام، عظيمٌ لا تحيط به الأفهام، ولذلك تفردت عن أخواتها بفضائل رائعة وخواص فائقة، قال صلى الله عليه وسلم :" أعظمُ آيةٍ في القرآنِ آيةُ الكُرْسيّ ". وقال عليه الصلاة والسلام :" مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسيّ دبُر كُلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ لم يَمْنَعْهُ من دُخُولِ الْجنَّة إلا الموتُ - وفي رواية - كانَ الذي يَتوَلَّى قَبْضَ رُوحِه ذُو الجَلاَل والإكْرَام - ولا يُوَاظِبُ عليها إلا صِدِّيقٌ أو عَابدْ، ومن قَرَأها إذا أخَذ مَضْجَعَه أمن على نفْسِه وَجارِه وَجارِ جَارِه، والأبيات حَوْلَه ".
وقال عليه الصلاة والسلام :" ما قُرئت هذه الآيةُ في بيْت إلا هَجَرَتْهُ الشياطينُ ثلاثين يَوْماً، ولا يدْخُله ساحرُ ولا ساحرةٌ أربعين يوماً، يا عليّ ؛ علِّمْها ولدَك وأهلكَ وجيرانَك، فما نزلَتْ آيةٌ أعظمُ منها ". قاله البيضاوي وأبو السعود، وتكلم السيوطي في بعض هذه الأحاديث. والفضائل يعمل فيها بالضعيف. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان أهل الخصوصية - ﴿ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْناكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ] من سعة العلوم ومخازن الفهوم، من قبل أن يأتي يوم اللقاء، يوم تسقط فيه المعاملات وتغيب تلك الإشارات، لا ينفع فيه إلا الدخول من باب الكرم، فيلقى الله بالله دون شيء سواه، والجاحدون لهذا هم الظالمون لأنفسهم، حيث اعتمدوا على أعمالهم فلقُوا الله بالصنم الأعظم، والحيُّ القيّوم الكبير المتعال غني عن الانتفاع بالأعمال. وبالله التوفيق.
ومَنْ عرف أنه الحيّ الذي لا يموت توكل عليه. قال تعالى :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحِيْ الَّذِي لاَ يَمُوتُ ﴾ [ الفُرقان : ٥٨ ]. والتعلق به : استمداد حياة الروح بالعلم والمحبة الكاملة. ومن عرف أنه الحيّ القيّوم وثق به، ونسي ذكر كل شيء بذكره، ولم يشاهد غيره بمشاهدة قيوميته. والتعلق به استمداد معرفة قيوميته حتى يستريح من نكد التدبير، والتخلق به بأن تكون قائماً على ما كُلِّفْتَ به من أهْلٍ وَوَلَدٍ ونَفْسٍ ومَالٍ، وكُلِّ من تعلق بك من النساء والرجال.
١ مؤوف الحياة: يقال: آف الطعام أوفا وآفة: فسد: وآفت البلاد: أصابتها آفة من قحط أو مرض أو غيرهما..
٢ اعترض السيوطي في حاشيته عليه: أي في حاشيته على البيضاوي في تفسير "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" وحاشية السيوطي (جلال الدين عبد الرحمان بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة ٩١١ هـ) المسماة: "نواهد الأبكار وشوارد الأفكار". انظر كشف الظنون ١/١٨٦- ١٩٢)..
ولمَّا وصف الحيُّ تعالى نفسه بأوصاف الكمال من الكبرياء، والعظمة والجلال وكانت شواهد ذلك ظاهرة في خلقه حتى تبيَّن الحق من الباطل، فقال :
﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
قلت :﴿ الرُشْد ﴾ : مصدر رَشُد، بالكسر والضم، رشداً ورشاداً، و﴿ الغي ﴾ : مصدر غَوَى، إذا ضلَّ مُعْتَقَدِه، و﴿ الطاغوت ﴾ : فعلوت من الطغيان، وأصله : طغيوت، فقلبت لام الكلمة لعينها فصار طيغوت، ثم قلبت الياء ألفاً. وهو كل ما عُبد من دون الله راضياً بذلك، و﴿ العروة ﴾ : ما تستمسك به اليد عند خوف الزلل كالحبل ونحوه، ووثوقها : متانتها، وانفصامها أن تنفك عن موضعها، وأصل الفصم في اللغة : أن ينفك الخلخال ونحوه ولا يَبِين، فإذا بان فهو القَصْم - بالقاف - وهو هنا استعارة للدّين الصحيح.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في شأن رجلًٍ من الأنصار، تَنَصَّر ولدَاه قبل البَعْثَة فلما جاء الإسلامُ قَدِمَا إلى المدينة فدعاهما أبوهما إلى الإسلام فامتنعا، فَلزمَهُمَا أبوهُما وقال : والله لا أدِعكما حتى تُسلما، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله :﴿ لا إكراه في الدين ﴾، فهو خبر بمعنى النهي، أي : لا تُكرهوا أحداً على الدخول في الدين. وهو خاص بأهل الكتاب.
قال البيضاوي : إذ الإكراه في الحقيقة هو : إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً، ولكن ﴿ قد تبين الرشد من الغي ﴾ أي تميّز الإيمان من الكفر بالآيات الواضحة، ودلت الدلائل على أن الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية، والكفر غيّ يوصل إلى الشقاوة السرمدية. والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسُه إلى الإيمان طلباً للفوز بالسعادة والنجاة، ولم يحتج إلى الإكراه والإلجاء. ه.
﴿ فمن يكفر بالطاغوت ﴾ أي : يبعد عنها ويجحد ربوبيتها ﴿ ويؤمن بالله ﴾ أي : يصدق بوحدانيته، ويقر برسله، ﴿ فقد استمسك بالعروة الوثقى ﴾ أي : فقد تمسك بالدين المتين، لا انقطاع له أبداً، ﴿ والله سميع ﴾ بالأقوال، ﴿ عليم ﴾ بالنيات، فإنَّ الدين مشتمل على قول باللسان وعقد بالجَنَان، فحسن التعبير بصفة السمع والعلم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قال في الحكم :" لا يخاف عليك أن تلتبس الطرق، إنما يخاف عليك من غلبة الهوى عليك ". وقال أحمد بن حضرويه : الطريق واضح، والحق لائح، والداعي قد أَسْمَع، ما التحير بعد هذا إلا من العمَى. ه. فطريق السير واضحة لمن سبقت له العناية، باقية إلى يوم القيامة، وكل ما سوى الله طاغوت، فمن أعرض عن السَّوَى، وعلق قلبه بمحبة المولى، فقد استمسك بالعروة الوثقى، التي لا انفصام لها على طول المدى، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم بين الحق تعالى حال أهل العناية من أهل الشقاوة، فقال :
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
قلت : الولي : هو المحب الذي يتولى أمور محبوبه، أو الناصر الذي ينصر محبوبه، ولا يخذله بأن يكله إلى نفسه. وجملة ﴿ يخرجهم ﴾ : حال من الضمير المستتر في الخبر، أو من الموصول أو منهما، أو خبر ثان.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ الله ولي الذين آمنوا ﴾ أي : محبهم ومتولي أمورهم، ﴿ يخرجهم من ﴾ ظلمات الكفر والجهل، ومتابعة الهوى وقبول الوسواس، والشبه المُشْكِلة في التوحيد - إلى نور الإيمان واليقين، وصحة التوحيد، ومتابعة الداعي إلى الله، ﴿ والذين كفروا أولياؤهم ﴾ أي : أحباؤهم ﴿ الطاغوت ﴾ أي : الشياطين، أو المضلات من الهوى والشيطان وغيرهما، ﴿ يُخرجونهم من النور ﴾ الذي مُنِحوه بالفطرة الأصلية، أو يصدونهم من الدخول في الإيمان إلى ظلمات الكفر والجهل، والتقليد الرديء واتباع الهوى، ﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ بسبب نِيَّاتهم البقاء على الكفر إلى الممات، ولم يذكر في جانب المؤمنين دخول الجنة ؛ لتكون عبادتهم عبودية، لا خوفاً ولا طمعاً. والله تعالى أعلم.
الإشارة :﴿ الله ولي الذين آمنوا ﴾ ؛ حيث تولاهم بسابق العناية، وكلأهم بعين الرعاية، يخرجهم أولاً من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ثم من ظلمات الحس ورؤية الأكوان إلى نور المعاني بحصول الشهود والعيان، فافن عن الإحساس تر عبراً. " الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهور الحق فيه ". أو تقول : الكون كله ظلمة لأهل الحجاب، وأما عند أهل المعرفة فالكون عندهم كله نور، وإنما حجبه ظهور الحكمة فيه، " فمن رأى الكون ولم يشهد النور فيه، أو قبله، أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار ". والذين كفروا - وهم الذين سبق لهم الشقاء، وحكم عليهم بالبعد القدر والقضاء - أولياؤهم الطاغوت، وهم القواطع : من الهوى والشيطان والدنيا والناس، ﴿ يخرجونهم من النور إلى الظلمات ﴾ أي : يمنعونهم من شهود تلك الأنوار السابقة، إلى الوقوف مع تلك الظلمات المتقدمة، فهم متعاكسون مع من سبقت لهم العناية، فما خرج منه أهل العناية وقع فيه أهل الغواية. نسأل الله الحفظ والعافية في الدنيا والآخرة.
ثم بين الحق تعالى حال من سبق له الشقاء، فقال :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
قلت :﴿ أن آتاه ﴾ : على حذف لام العلة، و﴿ إذ قال ﴾ : ظرف ل ﴿ حاجَّ ﴾، أبو بدل من ﴿ آتاه الله ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله : متعجباً من جهالة النمرود، والمراد تعجيب السامع :﴿ ألم تر ﴾ يا محمد، ﴿ إلى ﴾ جهالة ﴿ الذي حاج إبراهيم ﴾ أي : خاصمه ﴿ في ربه ﴾ لأجْل ﴿ أن ﴾ أعطاه ﴿ الله الملك ﴾، أي : حمله على ذلك بطر الملك. وذلك أنه لما كسَّر إبراهيم الأصنام، سجنه أياماً، وأخرجه من السجن، وقال له : من ربك الذي تعبد ؟ ﴿ قال ﴾ له ﴿ إبراهيم ﴾ عليه السلام :﴿ ربي الذي يحيي ويميت ﴾، أي : يخلق الأرواح في الأجسام، ويخرجها عند انقضاء آجالها، ﴿ قال ﴾ نمرود :﴿ أنا أحيي وأميت ﴾، فدعا برجلين فقتل أحدهما، وعفا عن الآخر، فلما رأى إبراهيم عليه السلام غلطه وتشغيبه عدل له إلى حجة أخرى، لا مقدور للبشر على الإتيان بمثلها، قال له :﴿ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها ﴾ أنت ﴿ من المغرب ﴾ ؛ لأنك تدَّعي الربوبية، ومن شأن الربوبية أن تقدر على كل شيء، ولا يعجزها شيء، ﴿ فبُهت الذي كفر ﴾ أي : غُلب وصار مبهوتاً، ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ إلى قبول الهداية، أو إلى طريق النجاة، أو إلى محجة الاحتجاج.
الإشارة : قال بعض الحكماء : للنفس سر، ظهر على فرعون والنمرود، حتى صرّحا بدعوى الربوبية : قلت : وهذا السر هو ثابت للروح في أصل نشأتها ؛ لأنها جاءت من عالم العز والكبرياء. انظر قوله تعالى :﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ﴾ [ الحِجر : ٢٩ ]، وقال أيضاً :﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى ﴾ [ الإسَراء : ٨٥ ] أي : سر من أسراره، فلما رُكبت في هذا القلب الذي هو قالب العبودية - طلبت الرجوع إلى أصلها. فجعل لها الحقّ جلّ جلاله باباً تدخل منه فترجع إلى أصلها ؛ وهو الذل والخضوع والانكسار والافتقار، فمن دخل من هذا الباب، واتصل بمن يعرّفه ربه، رجعت روحه إلى ذلك الأصل، وأدركت ذلك السر، فمنها من تتسع لذلك السر وتطيقه، ومنها من تضيق عن حمله وتبوح به، فتقتلها الشريعة، كالحلاج وأمثاله، ومن طلب الرجوع إلى ذلك الأصل من غير بابه، ورام إدراكه بالعز والتكبّر، طُرد وأُبعد، وهو الذي صدر من النمرود وفرعون وغيرهما ممن ادّعى الربوبية جهلاً. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحقّ تعالى من أدركته العناية، وفي قصته برهان على إحياء الموتى الذي احتج إبراهيم - عليه السلام – فقال :
﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
قلت :﴿ أو ﴾ عاطفة، و﴿ كالذي ﴾ : معطوف على الموصول المجرور بإلى، أي : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، وإلى مثل الذي مرّ على قرية. وإنما أدخل حرف التشبيه ؛ لأن المُنكر للإحياء كثيرٌ، والجاهل بكيفيته أكثر، بخلاف مدعي الربوبية فإنه قليل. وقيل : الكاف مزيدة، والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج وإلى الذي مرَّ، و﴿ أنَّى ﴾ : ظرف ليُحيي، بمعنى : متى، أو حال بمعنى كيف، و﴿ يتسنه ﴾ بمعنى يتغير، وأصله : يتسنن، فأبدلت النون الثالثة حرف علة. قال في الكافية :
وتتعب فيما سوف تكره غبه ....
٥ الأبيات لأبي العتاهية في ديوانه ٢/١٢٠..
وثَالِثَ الأمثَالِ أبدِلَنْه يا نحو ( تَظَنَّى خالدٌ تَظَنِّيَا )
فصار تَسَنَّى ثم حُذفت للجازم، وأتى بهاء السَّكْت، وقفا ووصل، كالعِوض من المحذوف، وقيل : من السَّنة، وهو التغير، فالهاء أصلية، و﴿ لنجعلك ﴾ : معطوف على محذوف، أي : لتعتبر ولنجعلك آية للناس.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ألم تر يا محمد أيضاً إلى مثل الذي ﴿ مرَّ على قرية ﴾، وهو عُزَير، حَبْرُ بني إسرائيل - وقيل : غيره - مرَّ على بيت المقدس حين خربها بُختنصر ﴿ وهي خاوية ﴾ ساقطة حيطانها ﴿ على عروشها ﴾ أي : سقفها، وذلك بعد مائة سنة حتى سقطت العروش، ثم سقطت الحيطان عليها، فلما رآها خالية، وعظام الموتى فيها بالية، ﴿ قال ﴾ في نفسه :﴿ أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها ﴾ أي : متى يقع هذا. اعترافاً بالقصور عن معرفة طريق الإحياء، واستعظاماً لقدرة المحيي، إن كان القائل عزيراً، أو استبعاداً إن كان كافراً، ﴿ فأماته الله مائة عام ﴾ أي : ألبثه ميتاً مائة عام، ﴿ ثم بعثه ﴾ بالإحياء، فقال له على لسان الملك، أو بلا واسطة :﴿ كم لبثت ﴾ ميتاً ؟ ﴿ قال لبثت يوماً أو بعض يوم ﴾، وذلك أنه مات ضحى وبعث بعد مائة عام قبل غروب الشمس، فقال قبل النظر إلى الشمس ﴿ يوماً ﴾، ثم التفت فرأى بقية منها، فقال :﴿ أو بعض يوم ﴾ على الإضراب، قال له الحقّ جلّ جلاله :﴿ بل لبثت مائة عام ﴾.
وذلك أن عزيراً ذهب ليخترف لأهله١ فجعل على حماره سَلة عنب وجَرَّة عصير. فلما مرَّ بتلك القرية ربط حماره، وجعل يتعجب من خرابها وخلائها بعد عمارتها، فقال في نفسه ما قال، فلطف الله به، وأراه كيفية الأحياء عياناً، فأماته مائة عام، حتى بليت عظام حماره وبقي العصير والعنب كأنه حين جنى وعصر فقال له جلّ جلاله :﴿ فانظر إلى طعامك ﴾ وهو العنب، ﴿ وشرابك ﴾ وهو العصير، ﴿ لم يتسنه ﴾، أي : لم يتغير بمرور الزمان وطول المدة، ﴿ وانظر إلى حمارك ﴾ كيف تفرقت أوصاله، وبليت عظامه، فعلنا ذلك بك لتشاهد قدرتنا، ﴿ ولنجعلك آية للناس ﴾ بعدك، ﴿ وانظر إلى العظام ﴾ أي : عظام حمارك، ﴿ كيف ننشرها ﴾، أي : نحييها، من نَشَرَ الله الموتى : أحياها. أو :﴿ كيف ننشزها ﴾ بالزاي - أي : نرفع بعضها، ونركبه عليه، ﴿ ثم نكسوها لحماً ﴾.
فنظر إلى العظام، فقام كلُّ عَظْم إلى موضعه، ثم كسى لحماً وجلداً، وجعل ينهق، ﴿ فلما تبين له ﴾ ما كان استغربه وأُشكل عليه ﴿ قال أعلمُ ﴾ عليم اليقين ﴿ أن الله على كل شيء قدير ﴾، أو فلما تبين له الحق، وهو قدرته تعالى على كل شيء، قال لنفسه :﴿ أعلمُ أن الله على كل شيء قدير ﴾.
رُوِيَ أنه أتى قومه على حماره، وقال أنا عزير، فكذبوه، فقرأ التوراة من حفظه، ولم يحفظها أحد قبله، فعرفوه بذلك، وقالوا : هو ابن الله - تعالى عن قولهم - وقيل : لما رجع إلى منزله - وكان شاباً - وجد أولاده شيوخاً، فإذا حدَّثهم بحديث قالوا : حديث مائة سنة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : في هذه الآية والتي بعدها، الإشارة إلى الأمر بتربية اليقين والترقي فيه من علم اليقين إلى عين اليقين، فإن الروح ما دامت محجوبة بالوقوف مع الأسباب والعوائد، وبرؤية الحس والوقوف مع الوسائط، لم تخل من طوارق الشكوك وخواطر، فإذا انقطعت إلى ربها، وخرقت عوائد نفسها، كشف لها الحق تعالى عن أستار غيبه، وأطلعها على مكنونات سره، وكشف لها عن أسرار الملكوت، وأراها سنا الجبروت، فنظرت إلى قدرة الحي الذي لا يموت، وتمتعت بشهود الذات وأنوار الصفات، في هذه الحياة وبعد الممات، فحينئذٍ ينقطع عنها الشكوك والأوهام، وتتطهر من طوارق الخواطر، وتزول عنها الأمراض والأسقام.
قال في الحكم :" كيف تُخْرَق لك العوائد وأنت لم تخرِق من نفسك العوائد ".
فانظر إلى عزير. . . ما أراه الحق قدرته عياناً حتى خرق له عوائده فأماته ثم أحياه، فكذلك أنت أيها المريد ؛ لا تطمع أن تخرق لك العوائد، فتشاهد قدرة الحق أو ذاته عياناً، حتى تموت عن حظوظك وهواك، ثم تحيا روحك وسرك، فحينئذٍ تشاهد أسرار ربك، ويكشف الأستار عن عين قلبك. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
١ ليخترف لأهله: يقال خرف الثمر خرفا وخرافا: خباه في الخريف..
ثم ذكر الحقّ تعالى قصة خليله عليه السلام في طلبه رؤية عين القدرة في إحياء الموتى، ليترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، فقال :
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
قلت : رأى : البصرية، إنما تتعدى إلى مفعول واحد، فإذا أُدخلت عليها الهمزة تعدت إلى مفعولين. وعلقها هنا عن الثاني الاستفهام، ﴿ وصرهن ﴾ أي : أَمْلهُنَّ واضمُمْهن إليك. وفيه لغتان : صار يصير ويصور، ولذلك قرئ بكسر الصاد وضمها، و﴿ سعياً ﴾ : أي حال، أي : ساعيات.
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر يا محمد، أو أيها السامع، حين ﴿ قال إبراهيم ﴾ عليه السلام : يا ﴿ رب أرني كيف تحيي الموتى ﴾ أي : أبصرني كيفية إحياء الموتى، حتى أرى ذلك عياناً، أراد عليه السلام أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، وقيل : لما قال للنمرود :﴿ ربي الذي يحيي ويميت ﴾ قال له : هل عاينت ذلك ؟ فلم يقدر أن يقول : نعم. وانتقل إلى حجة أخرى، ثم سأل ربه أن يريه ذلك ؛ ليطمئن قلبه على الجواب، إن سئل مرة أخرى، فقال له الحقّ جلّ جلاله :﴿ أولم تؤمن ﴾ بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب والحياة ؟ وإنما قال له ذلك، مع علمه بتحقيق إيمانه ؛ ليجيبه بما أجاب فيعلم السامعون غرضه، ﴿ قال ﴾ إبراهيم عليه السلام :﴿ بلى ﴾ آمنت أنك على كل شيء قدير، ﴿ ولكن ﴾ سألتك ﴿ ليطمئن قلبي ﴾ ؛ إذ ليس الخبر كالعيان، وليس علم اليقين كعين اليقين، أراد أن يضم الشهود والعيان إلى الوحي والبرهان.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فخذ أربعة من الطير ﴾ ؛ طاووساً وديكاً وغراباً وحمامةً، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمام، ﴿ فصرهن إليك ﴾ أي : اضممهن إليك لتتأملها وتعرف أشكالها، لئلا يلتبس عليك بعد الإحياء أشكالها، ﴿ ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ﴾ أي : ثم جَزَّئهن، وفرق أجزاءهن على الجبال التي تحضرك. قيل : كانت أربعة وقيل : سبعة، ﴿ ثم ادعهن ﴾ وقل لهن : تعالين بإذن الله، ﴿ يأتينك سعياً ﴾ أي : ساعيات مسرعات، رُوِيَ أنه أمر أن يذبحها وينتف ريشها، ويقطعها ويخلط بعضها ببعض، ويوزعها على الجبال، ويمسك رؤوسها عنده، ثم يناديها، ففعل ذلك، فجَعَل كل جزء يطير إلى الآخر ويلتئم بصاحبه حتى صارت جثثاً، ثم أقبل إليه فأعطى كل طير رأسه فطار في الهواء. فسبحان من لا يعجزه شيء، ولا يغيب عن علمه شيء، ثم نبّه إلى التفكر في عجائب قدرته وحكمته فقال :﴿ واعلم أن الله عزيز ﴾ لا يعجزه شيء، ﴿ حكيم ﴾ ذو حكمة بالغة فيما يفعل ويذر.
الإشارة : من أراد أن تحيا رُوحُه الحياة الأبدية، وينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، فلا بد أن تموت نفسه أربع موتات :
الأولى : تموت عن حب الشهوات والزخارف الدنيوية، التي هي صفة الطاووس.
الثانية : عن الصولة والقوى النفسانية، التي هي صفة الديك.
الثالثة : عن خسة النفس والدناءة وبعد الأمل، التي هي صفة الغراب.
الرابعة : عن الترفع والمسارعة إلى الهوى المتصف بها الحمام.
فإذا ذبح نفسه عن هذه الخصال حييتْ روحه، وتهذبت نفسه، فصارت طوع يده، كلما دعاها إلى طاعة أتت إليها مسرعة ساعية.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو الحسن الشاذلي بقوله في حزبه الكبير :( واجعل لنا ظهيراً من عقولنا ومهيمناً من أرواحنا، ومسخراً من أنفسنا، كي نسبحك كثيراً، ونذكرك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً ).
ولما كانت حياة الروح متوقفة على أمرين : بذل النفوس، ودفع الفلوس وقدم الإشارة إلى الأول بقوله :﴿ وقاتلوا في سبيل الله ﴾، أشار إلى الثاني بقوله :
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
قلت :﴿ مثل الذين ﴾ : مبتدأ، و﴿ كمثل ﴾ : خبر، ولا بد من حذف مضاف، إما من المبتدأ أو الخبر، أي : مثل نفقة الذين ينفقون كمثل حبة، أو مثل الذين ينفقون كمثل باذر حبة. . . الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في التحريض على النفقة في سبيل الله :﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ﴾ أي : يتصدقون بها في سبيل الله، كالجهاد ونحوه، ﴿ كمثل ﴾ زارع ﴿ حبة أنبتت ﴾ له ﴿ سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ﴾، فالمجموع سبعمائة. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" الحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إلى سَبعمائَة إلى أضْعَافٍ كَثيرَةٍ ". وإسناد الإنبات إلى الحبة مجاز، والمنبت هو الله، وهذا مثال لا يقتضي الوقوع، وقد يقع في الذرة والدخن١ في الأرض الطيبة، بحيث تخرج الحبة ساقاً يتشعب إلى سبع شعب، في كل شعبة سنبلة، ﴿ والله يضاعف ﴾ تلك المضاعفة ﴿ لمن يشاء ﴾ بفضله، على حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه، وبحسبه تتفاوت الأعمال في مقادير الثواب، ﴿ والله واسع ﴾ لا يضيق عليه ما يتفضل به من الثواب، ﴿ عليم ﴾ بنية المنفق وقدر إنفاقه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : التقرب إلى الله تعالى يكون بالعمل البدني وبالعملي المالي، وبالعمل القلبي، أما العمل البدني، ويدخل فيه العمل اللساني، فقد ورد فيه التضعيف بعشر وبعشرين وبثلاثين وبخمسين وبمائة، وبأكثر من ذلك أو أقل، وكذلك العمل المالي : قد ورد تضعيفه إلى سبعمائة، ويتفاوت ذلك بحسب النيات والمقاصد، وأما العمل القلبي : فليس له أجر محصور، قال تعالى :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ الزُّمَر : ١٠ ]، فالصبر، والخوف، والرجاء، والورع، والزهد، والتوكل، والمحبة، والرضا، والتسليم، والمعرفة، وحسن الخلق، والفكرة، وسائر الأخلاق الحميدة، إنما جزاؤها : الرضا، والإقبال والتقريب، وحسن الوصال. قال تعالى :﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [ التّوبَة : ٧٢ ] أي : أكبر من الجزاء الحسيّ الذي هو القصور والحور.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام :" تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة ". فإنما هو كناية عن الكثرة والمبالغة، كقوله تعالى :﴿ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ هَمْ ﴾ [ التّوبَة : ٨٠ ]. ومثله قول الشاعر :
كُلُّ وَقْتٍ من حبَيبِي قَدْرُه كألفِ حجَّهْ
أي : سَنَة. والله تعالى أعلم.


١ الدخن: من النباتات. حبه صغير أملس. كحب السمسم، ينبت بريا ومزروعا..
ثم ذكر شرطَيْن آخرَيْن في قبول النفقة، فقال :﴿ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى ﴾. المن : أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه ؛ بحيث يقول : أنا فعلت معه كذا، وكذا إظهاراً لميزته عليه. والأذى : أن يتطاول عليه بذلك. ويقول : لولا أنا لم يكن منك شيء، مثلاً. فمن فعل هذا فقد ذهبت صدقته هباءاً منثوراً، ومن سلم من ذلك، وأنفق ماله ابتغاء وجه الله ف ﴿ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾. وقال زيد بن أسلم رضي الله عنه : إذا أعطيت أحداً شيئاً وظننت أن سلامَكَ يَثْقُلُ عليه فَكُفَ سلامَكَ عنه. ه.
قيل : إن الآية نزلت في عثمان وعبد الرحمان بن عوف - رضي الله عنهما ؛ أما عثمان فإنه جهز جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها. وقال عبد الرحمان بن سمرة : جاء عُثْمَانُ بألْفِ دِينَارِ في جيش العُسْرَةِ، فصَبَها في حُجْرِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَرَأيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُدخل يَده فيها، ويُقلِّبهَا ويقول :" ما ضَرَّ ابن عفَّان ما عَمِلَ بَعْدَ اليوم ". زاد في رواية سعيد : فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم رافعاً يدعو لعثمان، ويقول :" يا رب عثمان بن عفان، رضيتُ عنه فارض عنه ". وأما عبد الرحمان : فإنه أتى النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم، صدقة، وأمسك أربعة آلاف لعياله، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم :" بارك الله لك فيما أعطيتَ وفيما أمسكتَ ".
وإنما لم يدخل الفاء في قوله :﴿ لا خوف عليهم ﴾، مع أن الموصول قد تضمن معنى الشرط، إيهاماً بأنهم أهلٌ لذلك، وإن لم يفعلوا، فكيف بهم إذا فعلوا. قاله البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : التقرب إلى الله تعالى يكون بالعمل البدني وبالعملي المالي، وبالعمل القلبي، أما العمل البدني، ويدخل فيه العمل اللساني، فقد ورد فيه التضعيف بعشر وبعشرين وبثلاثين وبخمسين وبمائة، وبأكثر من ذلك أو أقل، وكذلك العمل المالي : قد ورد تضعيفه إلى سبعمائة، ويتفاوت ذلك بحسب النيات والمقاصد، وأما العمل القلبي : فليس له أجر محصور، قال تعالى :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ الزُّمَر : ١٠ ]، فالصبر، والخوف، والرجاء، والورع، والزهد، والتوكل، والمحبة، والرضا، والتسليم، والمعرفة، وحسن الخلق، والفكرة، وسائر الأخلاق الحميدة، إنما جزاؤها : الرضا، والإقبال والتقريب، وحسن الوصال. قال تعالى :﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [ التّوبَة : ٧٢ ] أي : أكبر من الجزاء الحسيّ الذي هو القصور والحور.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام :" تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة ". فإنما هو كناية عن الكثرة والمبالغة، كقوله تعالى :﴿ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ هَمْ ﴾ [ التّوبَة : ٨٠ ]. ومثله قول الشاعر :
كُلُّ وَقْتٍ من حبَيبِي قَدْرُه كألفِ حجَّهْ
أي : سَنَة. والله تعالى أعلم.

ثم بيَّن الحقّ تعالى أن حسن الخلق ولين الجانب أفضل من الصدقة المشوبة، فقال :
﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾
قلت :﴿ قول ﴾ : مبتدأ، و﴿ خير ﴾ : خبر، والمسوِّغ الصفةُ.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قول ﴾ جميل يقوله الإنسان للسائل في حال رده، حيث لم يجد ما يعطيه، ﴿ خير ﴾ وأفضل عند الله من الصدقة التي يتبعها المن والأذى، ومثال القول المعروف : الله يرزقنا وإياك رزقاً حسناً. والله يغنينا وإياك من فضله العظيم، وشبه ذلك من غير تعبيس ولا كراهية. ﴿ ومغفرة ﴾ للسائل والعفو عن جفوته وإلحاحه، ﴿ خير ﴾ أيضاً ﴿ من صدقة يتبعها ﴾ مَنٍّ، أو ﴿ أذى ﴾ للسائل، علم الحق جلّ جلاله أن الفقير إذا رُدَّ بغير نوال شقَّ عليه، فربما أطلق لسانه وأظهر الشكوى فأمر المسؤول بالعفو والتواضع. ولو شاء الحقّ تعالى لأغنى الجميع، لكنه أعطى الأغنياء ليظهر شكرهم، وابتلى الفقراء لينظر كيف صبرهم، ﴿ والله ﴾ تعالى ﴿ غني ﴾ عن إنفاق يصحبه مَنٌ أو أذى، ﴿ حليم ﴾ عن معالجة من يَمُنُّ أو يؤذي بالعقوبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يُفهم من الآية أن حسنَ الخلق، ولينَ الجانب، وخفض الجناح، وكف الأذى، وحمل الجفاء، وشهود الصفاء، من أفضل الأعمال وأزكى الأحوال وأحسن الخلال، وفي الحديث :" إنَّ حُسْن الخُلق يعدل الصيام والقيام ".
وفي قوله :﴿ والله غني حليم ﴾ : تربية للسائل والمسؤول، فتربية السائل : أن يستغني بالغنيِّ الكبير عن سؤال العبد الفقير، ويكتفي بعلم الحال عن المقال، وتربية المسؤول : أن يحلم عن جفوة السائل فيتلطف في الخطاب، ويحسن الرد والجواب. قال في شرح الأسماء : والتخلق بهذا الاسم - يعني الحليم - بالصفح عن الجنايات، والسمح فيما يقابلونه به من الإساءات، بل يجازيهم بالإحسان، تحقيقاً للحلم والغفران. ه.
ثم حذر الحق تعالى من المن والأذى في الصدقة، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾
قلت :﴿ كالذي ﴾ : الكاف في محل نصب على المصدر، أي : إبطالاً كإبطال الذي ينفق ماله رئاء الناس. أو حال، أي : مشبَّهين بالذي ينفق رئاء. و﴿ رئاء ﴾ مفعول له، والصفوان : الحجر الأملس، والصلد : البارز الذي لا تراب عليه، وجمع الضمير في قوله :﴿ لا يقدرون ﴾ باعتبار معنى ﴿ الذي ﴾ ؛ لأن المراد به الجنس.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا ﴾ أجر صدقتكم بسبب ﴿ المن ﴾ بها على المتصدَّقِ عليه، ﴿ والأذى ﴾ الذي يصدر منكم له، بأن تذكروا ذلك للناس، فتكون صدقتكم باطلة، ﴿ كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾، فإن أجره يوم القيامة يكون هباء منثوراً، ﴿ فمثله ﴾ في انتفاعه بصدقته، وتستره بها في دار الدنيا، وافتضاحه يوم القيامة، كحجر أملس ﴿ عليه تراب ﴾ يستره، فيظن الرائي أنه أرض طيبة تصلح للزراعة، ﴿ فأصابه وابل ﴾ أي : مطر غزير ﴿ فتركه صلداً ﴾ حجراً يابساً خالياً من التراب، كذلك المراؤون بأعمالهم، ينتفعون بها في الدنيا بثناء الناس عليهم وستر حالهم، فإذا قدموا يوم القيامة وجدوها باطلة، ﴿ لا يقدرون على ﴾ الانتفاع ب ﴿ شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ إلى مراشدهم ومصالح دينهم. وفيه تعريض بأن الرياء والمن والأذى من صفة الكافر، ولا بد للمؤمن أن يتجنب عنها. وبالله التوفيق.
الإشارة : تصفية الأعمال على قدر تصفية القلوب، وتصفية القلوب على قدر مراقبة علام الغيوب، والمراقبة على قدر المعرفة. والمعرفة على قدر المشاهدة. والمشاهدة تحصل على قدر المجاهدة. ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فيِنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [ العَنكبوت : ٦٩ ]. وفي الحكم :" حسن الأعمال من نتائج حسن الأحوال، وحسن الأحوال من التحقق بمقامات الإنزال " والحاصل أن من لم يتحقق بمقام الفناء لا تخلوا أعماله من شوب الخلل، ومن تحقق بالزوال لم ير لنفسه نسبة في عطاء ولا منع، ولا حركة ولا سكون، ولم ير لغيره وجوداً حتى يرجو منه نفعاً ولا خيراً. وفي بعض الإشارات : يا من يرائي أَمْر مَنْ من ترائِي بيد من تعصيه. ه. وفي تمثيله بالحجر إشارة إلى قساوة قلبه ويبوسة طبعه، فلا يجرى منه خير قط. والعياذ بالله.
ثم ذكر الحقّ تعالى ضد هؤلاء، وهم المخلصون، فقال :
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
قلت : الربوة - مثلثة الراء - : المكان المرتفع، والوابل : المطر الغزير، والطل : المطر الخفيف، وفي ذلك يقول الراجز :
والطلُّ ما خفَّ من الأمْطَارِ والوابلُ الغزيرُ ذو انْهِمَارِ
و﴿ ابتغاء مَرْضات الله ﴾ و﴿ تثبيتاً ﴾ : حالان من الوافي في :﴿ ينفقون ﴾، أو مفعولان له. والتثبيت بمعنى التثبت، أي : التحقق، كقوله تعالى :﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْه تَبْتِيلاً ﴾ [ المُزمّل : ٨ ] أي : تبتلاً.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم ﴾ في سبيل الله ﴿ ابتغاء مرضات الله ﴾ وتحققاً ﴿ من أنفسهم ﴾ بثواب الله، أو تحقيقاً من أنفسهم بالوصول إلى رضوان الله إن بذلوا أموالهم في طلب رضى الله، مَثَلُ نفقتهم في النمو والارتفاع ﴿ كمثل جنة ﴾ أي : بستان ﴿ بربوة ﴾ بمكان مرتفع، فإن شجره يكون أحسن منظراً وأزكى ثمراً، ﴿ أصابها وابل ﴾ أي : مطر غزير ﴿ فآتت أكلها ﴾ أي : ثمارها ﴿ ضعفين ﴾ أي : مِثْلَيْ ما كانت تثمر في عادتها، أي : حملت في سَنَةٍ ما يحمل غيرها في سنتين، بسبب هذا المطر الذي نزل بها، ﴿ فإن لم يصبها وابل فطل ﴾ أي : فيصيبها طل، أي : مطر قليل يكفيها ؛ لطيب تربتها وارتفاع مكانها، فأقلُّ شيء يكفيها.
والمراد : أن نفقات هؤلاء، لإخلاصهم وكمال يقينهم، كثيرة زاكية عند الله، وإن كانت قليلة في الحس فهي كثيرة في المعنى. وفي الحديث :" مَنْ تصدَّقَ ولو بلُقْمة وقعتْ في كَفٍّ الرحمان فيُرَبِّيها كما يُربى أحدُكُم غلُوَّهُ١ أو فَصِيله٢، حتى تكونَ مثل الجبل ". وفي قوله :﴿ والله بما تعلمون بصير ﴾ : تحذير من الرياء، وترغيب في الإخلاص. الله تعالى أعلم.
الإشارة : تنمية الأعمال على قدر تصفية الأحوال، وتصفية الأحوال على قدر التحقق بمقامات الإنزال، أي : على قدر التحقق بالإنزال في مقامات اليقين، فكل من تحقق بالنزول في مقامات اليقين، ورسخت قدمه فيها، كانت أعماله كلها عظيمة، مضاعفة أضعافاً كثيرة، فتسبيحة واحدة من العارف، أن تهليلة واحدة، تعدل الوجود بأسره، ولا يزنها ميزان، وكذلك سائر أعمال العارف : كلها عظيمة مضاعفة ؛ لأنها بالله ومن الله وإلى الله، وما كان بالله ومن الله يطرقه نقص ولا يشوبه خلل، ولأجل هذا صارت أوقاتهم كلها ليلة القدر، وأماكنهم كلها عرفات، وأنفاسهم كلها زكيات، وصحبتهم كلها نفحات، ومخالطتهم كلها بركات. نفعنا الله بذكرهم وخرطنا في سلكهم. آمين.
١ الغلو: هو المهر الصغير..
٢ الفصيل: ولد الناقة بعد أن يفصل عن أمه..
ثم حذر الحق تعالى من طوارق الخلل بعد تمام العمل، فقال :
﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾
قلت : الإعصار : عمود من ريح فيه عجاجة، يدور ويرتفع.
يقول الحقّ جلّ جلاله : أيتمنى أحدكم ﴿ أن تكون له جنة ﴾ أي : بستان ﴿ من نخيل وأعناب ﴾، هما الغالبان فيه ؛ لكثرة منافعهما، ﴿ تجري من ﴾ تحت تلك الأشجار ﴿ الأنهار ﴾ ؛ إذ من كمال البستان أن يشتمل على الماء البارد والظل الممدود، و﴿ له فيها ﴾ أي : في تلك الجنة ﴿ من كل الثمرات ﴾ زائدة على النخيل والأعناب، ثم ﴿ أصابه الكبر ﴾ فضعف عن القيام بتلك الجنة، ﴿ وله ذرية ضعفاء ﴾ لا يستطيعون القيام بأنفسهم لصغرهم، فأصاب تلك الجنة ﴿ إعصار ﴾ أي : ريح شديد ﴿ فيه نار فاحترقت ﴾ تلك الجنة، فلا تسأل عن حسرة صاحب هذا البستان، لخوفه من ضياع نفسه وعياله. وهذا مثال لمن يُكثر من أعمال البر، كالصلاة والصيام والصدقة والحج والجهاد وغير ذلك، ثم يُعجب به، ويفتخر وَيَمُنَّ بصدقته أو يؤذي، فتحبط تلك الأعمال وتذهب، فيتحسر عليها يوم القيامة، وهو أحوج ما يكون إليها. أو يعمل بالطاعة في أيام عمره، فإذا قرب الموت عمل بالمعاصي حتى ختم له بها فحبطت تلك الأعمال، والعياذ بالله ﴿ كذلك يبن الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ﴾ فيها فتعتبرون، وتخلصون في أعمالكم، وتخافون من سوء عاقبتكم. أعاذنا الله من ذلك.
الإشارة : في الآية تخويف للمريد أن يرجع إلى عوائده، ويلتفت إلى عوالم حسه، فيشتغل بالدنيا بعد أن استشرف على جنة المعارف، تجري على قلبه أنهار العلوم، فينقُضُ العهد مع شيخه، أو يسيء الأدب معه، ولم يتب حتى تيبس أشجار معارفه، وتلعب به ريح الهوى، فيحترق قلبه بنار الشهوات.
قال البيضاوي : وأشبههم به من جال سره في عالم الملكوت، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور، والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثوراً. ه.
ثم رغب الحق تعالى في الصدقة من الكسب الطيب، فرضا ونفلا، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾
قلت :﴿ تيمموا ﴾ : أصله : تتيمموا، أي تقصدوا، وجملة ﴿ تنفقون ﴾ : حال مقدرة - من فاعل ﴿ تيمموا ﴾، و﴿ منه ﴾ : يصح أن يتعلق ب ﴿ تنفقون ﴾ أو ب ﴿ الخبيث ﴾، أي ؛ ولا تقصدوا الخبيث حال كونكم تنفقونه، أو لا تقصدوا الخبيث تنفقون منه، و﴿ لستم بآخذيه ﴾ : حال أيضاً من فاعل ﴿ تنفقون ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ﴾ من الأموال في التجارة وغيرها، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" يا معشرَ التُجار، أنتم فُجار إلا من اتقى وبَرَّ وصَدَق وَقَالَ بالمال هكذا وهكذا١ ".
وقوله :﴿ من طيبات ما كسبتم ﴾ أي : من حلاله، أو من خياره، أما في الزكاة فعلى الوجوب، إذ لا يصح دفع الرديء فيها، وأما من التطوع فعلى سبيل الكمال، وأنفقوا أيضاً من طيبات ﴿ ما أخرجنا لكم من الأرض ﴾ من أنواع الحبوب والثمار والفواكه، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" مَا مِنْ مُسْلِم يَغْرِسَ غَرْساً، أَوْ يَزرَعُ زَرْعاً، فَيَأكُلُ مِنهُ إنْسَانٌ ولا دَابَّةٌ ولاَ طَائِرٌ، إلاَّ كَانَت لَهُ صدقةً إلى يَوَمِ الِقِيَامِةِ ". ولا تقصدوا ﴿ الخبيث ﴾ أي : الرديء من أموالكم، فتنفقون منه وأنتم ﴿ لستم بآخذيه ﴾ في ديونكم ﴿ إلا أن تُغْمضوا ﴾ بصركم فيه، وتقبضونه حياء أو كرهاً أو مسامحة.
نزلت في قوم كانوا يتصدقون بخبيث التمر وشراره، فنُهوا عنه، وأدبهم بقوله :﴿ واعلموا أن الله غني ﴾ عن إنفاقكم، وإنما أمركم به منفعة لكم، ﴿ حميد ﴾ بقبوله وإثابته، فهو فعيل بمعنى الفاعل، مبالغة، أي : يحمد فعلكم ويشكره لكم، إن أحسنتم فيه، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إن الله قَسَم بينَكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم، وإن الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيباً، لا يكسبُ عبدٌ مالاً من حرام فيتصدقُ منه فيُقْبل منه، ولا ينفقُ منه فيبَارك له فيه، ولا يتركهُ خلفَ ظهره إلا كان زاده إلى النار، وإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، وإن الخبيث لا يمحوه الخبيث ".
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص، أنفقوا العلوم اللدنية والأسرار الربانية، من طيبات ما كسبتم ؛ من تصفية أسراركم وتزكية أرواحكم، وأنفقوا أيضاً علوم الشريعة وأنوار الطريقة، مما أخرجنا لكم من أرض نفوسكم التي تزكت بالأعمال الصافية والأحوال المُرْضِية.
ولا تيمموا العمل الخبيث أو الحال الخبيث، تريدون أن تنفقوا منه شيئاً من تلك العلوم، فإن ذلك لا يزيد النفس إلا جهلاً وبعداً، فكما أن الحبة لا تنبت إلا في الأرض الطيبة، كذلك النفس لا تُدفن إلا في الحالة المرضية، فلا تؤخذ العلوم اللدنية من النفس حتى تدفن في أرض الخُمول، وأرض الخمول هي الأحوال المرضية، الموافقة للقواعد الشرعية، وإليه الإشارة بقوله :﴿ ولستم بآخذيه ﴾ أي : لستم بآخذي العلم اللدني من الحال الخبيث، إلا أن تغيبوا فيه عن حِسَّكم، ومن غلبه الحال لم يبق عليه مقال. وعليها تتخرج قصة لص الحَمَّام٢، فلا يقتدى به لغلبة الحال عليه، واعلموا أن الله غني حميد، لا يتقرب إليه إلا بما هو حميد. والله تعالى أعلم.
١ قال بالمال هكذا وهكذا: أي صرف المال في وجوه الخير..
٢ قصة لص الحمام: وهو رجل عرف بالزهد وأقبل الناس عليه، فدخل حماما ولبس ثياب غيره، وخرج، فوقف في الطريق حتى عرفه الناس فأخذوه وضربوه واستردوا الثياب وهجروه، قلت: ما فعل هذا الرجل مبالغة وشطط لا يقره الشرع، وكما قال المفسر: لا يقتدى به لغلبة الحال عليه. والقصة ذكرها الغزالي في إحياء علوم الدين ٣/٣٠٥..
ثم حذر من الشح، فقال :
﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾
قلت : يقال : وعدته خيراً ووعدته شرّاً، هذا إن ذكر الخير أو الشر، وأما إذا لم يذكر فيقال في الخير : وعدته، وفي الشر : أوعدته، قال الشاعر١ :
وإنّيَ وإنْ أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ لمخلِفُ إيعادي ومنْجِزُ مَوْعدي
و﴿ الفحشاء ﴾ هنا : البخل والشح.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ الشيطان يعدكم ﴾ أي : يخوفكم ﴿ الفقر ﴾ بسبب الإنفاق، ويقول في وسوسته : إن أعطيت مالك بقيت فقيراً تتكفف الناس، ﴿ ويأمركم بالفحشاء ﴾ أي : ويأمركم بالبخل والشح، والعرب تسمي البخيل فاحشاً، وفي الحديث :
" البخيلُ بعيدٌ من الله، بعيدُ من الناسِ، بعيد من الجنة قريب من النار. والسخي قريب من الله. قريبٌ من الناس، قريب من الجنة، بعيد من النار. ولجاهل سخيٍّ أحبُّ إلى الله من عابدٍ بخيل ". وفي حديث آخر :" إنَّ الله يأخذُ بيد السخيِّ كلما عثر ". ﴿ والله يعدكم ﴾ في الإنفاق ﴿ مغفرة منه ﴾ لذنوبكم، وستراً لعيوبكم، ﴿ وفضلاً ﴾ أي : خَلَفاً أفضل مما أنفقتم في الدنيا والآخرة، ﴿ وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ﴾، ﴿ والله واسع ﴾ الفضل والعطاء، ﴿ عليم ﴾ بما أنفقتم، ولماذا أنفقتم، وفيما أخلصتم، لا يخفى عليه شيء من أموركم.
الإشارة : إذا توجه المريد إلى الله تعالى، وأراد سلوك طريق التجريد والزهد والانقطاع إلى الله تعالى، تعرض له الشيطان، اختباراً منه تعالى وابتلاء، إذ الحضرة محروسة بالقواطع ؛ ليظهر الصادق في الطلب من الكاذب، فيخوفه من الفقر، ويأمره بالوقوف مع الأسباب والعوائد، وهي أفحش المعاصي عند الخواص، إذ الهمة العالية تأنف عن الاشتغال بغير الحضرة الإلهية. والله يعدكم - أيها المتوجهون إليه - مغفرة لذنوبكم، وستراً لعيوبكم، فيغطي وصفكم بوصفه، ونعتكم بنعته، فيوصلكم بما منه إليكم من الفضل والجود، لا بما منكم إليه من المجاهدة والمكابدة، ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ﴾ [ النُّور : ٢١ ]، ﴿ والله واسع ﴾ الجود والإحسان، ﴿ عليم ﴾ بمن يستحق الفضل والامتنان.
١ البيت لعامر بن الطفيل في ديوانه ص ٥٨، ولسان العرب (ختأ)، (وعد)، (ختا)، وتاج العروس (ختأ)، وبلا نسبة في إنباه الرواة ٤/١٣٩، ومراتب النحويين ص ٣٨..
ومن نتائج الزهد والانقطاع : ورود الحكمة على لسان العبد وقلبه، كما أشار إلى ذلك بقوله :
﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾
قال البيضاوي : الحكمة : تحقيق العلم وإتقان العلم. ه. وقيل : هي سرعة الجواب وإصابة الصواب، وقيل : كل فصل جَزْلٍ من قول أو فعل.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يؤتي ﴾ الحق تعالى ﴿ الحكمة من يشاء ﴾ من عباده، وهي التفقّه في الدين والتبصر في الأمور. قال صلى الله عليه وسلم :" مَنْ يُرد اللّهُ به خيراً يُفقِّهْه في الدين، ويُلهمْه رُشْدَه "، وقيل : الحكمة : الإصابة في الرأي. وقيل : الفهم في كتاب الله. وقيل الفهم عن الله. ﴿ ومن يؤت الحكمة ﴾ أي : أعطيها، ﴿ فقد أوتي خيراً كثيراً ﴾ ؛ لأنه حاز خيرَ الدارَيْن، ولا شك أن من حقَّق العلم بالله وبأحكامه، وأتقنَ العملَ بما أمره الله به، فقد صفا قلبه، وتطهر سره، فصار من أولي الألباب ولذلك قال عقبه :﴿ وما يذكر إلا أولوا الألباب ﴾.
الإشارة : الحكمة هي : شهود الذات مرتديةً بأنوار الصفات، وهي حقيقة المعرفة، ومن عرف الله هابه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :" رأس الحكمة مخافة الله ". وقيل : هي تجريد السر لورود الإلهام، وقيل : هي النور المفرق بين الوسواس والإلهام، وقيل : شهود الحق تعالى في جميع الأحوال. والتحقيق : أن الحكمة هي إبداع الشيء وإتقانه حتى يأتي على غاية الكمال، ويجري ذلك في العلم والعمل والحال والمعرفة.
وقال القُشَيْري : الحكمة : أن يَحكم عليك خاطر الحق لا داعي الباطل، وأن تحكم قواهر الحق لا زواجر الشيطان. ويقال : الحكمة : صواب الأمر، ويقال : هي ألا تغلب عليك رعونات البشرية، ومن لا حكم له على نفسه لا حُكْمَ له على غيره. ويقال : الحكمة : موافقة أمر الله، والسفه : مخالفة أمره، ويقال : الحكمة شهود الحق، والسفه : شهود الغير. قاله المحشي.
واعلم أن الصوفية، في اصطلاحهم، يُعبِّرون عن أسرار الذات بالقدرة، وعن أنوار الصفات - وهي ظهور آثارها - بالحكمة. فالوجودُ كله قائم بين الحكمة والقدرة، فالقدرة تُبرز الأشياء، والحكمة تَسترها. فربط الأشياء واقترانها بأسبابها تُسمى عندهم الحكمة، وإنفاذ الأمر وإظهار يُسمى القدرة، فمن وقف مع الحكمة حجب عن شهود القدرة، وكان محجوباً عن الله. ومن نفذ إلى شهود القدرة ولم يرتبط مع الأسباب والعوائد كان عارفاً محبوباً. فالعارف الكامل هو الذي جمع بين شهود القدرة وإقرار الحكمة، فأعطى كل ذي حق حقه، وَوَفَّى كلَّ ذي قسط قسطه، لكن يكون ذلك ذوقاً وكشفاً، لا علماً وتقليداً. وبالله تعالى التوفيق.
ثم رغب في الإخلاص، وحذر من شوب الحظوظ في النفقة، فقال :
﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ * ﴿ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾
قلت : النذْر : هو إلزَامُ المكلف نفسه ما لم يَجب، كقوله : لله عليَّ أن أتصدق بكذا، أو أن أصلي كذا، أو أن أصوم كذا، أو إن شفى الله مريضي فعليَّ كذا، فمن نطق بشيء من ذلك لزمه، ومن علق بشيء وحصل ذلك لزمه ما نطق به.
يقوله الحقّ جلّ جلاله :﴿ وما أنفقتم من نفقة ﴾ قليلة أو كثيرة، سرّاً أو علانية، في حق أو باطل، ﴿ أو نذرتم من نذر ﴾ بشرط أو بغير شرط، في طاعة أو معصية، ﴿ فإن الله يعلمه ﴾، فيجازيكم عليه، فمن أنفق في طاعة أو نذر قربة كان من المحسنين، ومن أنفق في معصية أو نذر معصية كان من الظالمين. ﴿ وما للظالمين من أنصار ﴾ ينصرونهم من عذاب الله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : معاملة العبد مع مولاه : إما أن تكون لطلب الأجور، وإما لرفع الستور، فالأول يُعطي أجره من وراء الباب، والثاني يدخل مع الأحباب. وأما العامل للدنيا فهو ظالم لنفسه ﴿ وما للظالمين من أنصار ﴾، وفي بعض الآثار : طالبُ الدنيا أسير، وطالب الآخرة أجير، وطالب الحق أمير.
ثُم الناس في معاملة الحق على أقسام ثلاثة : قِسْمٍ يليق بهم الإخفاء والإسرار، وهم طالبوا الإخلاص من المريدين السائرين. وقسْمٍ يليق بهم الإظهار وهم أهل الاقتداء من العلماء المخلصين. وقسْم لا يقفون مع ظهور ولا خفاء، بل مع ما يبرز في الوقت، وهم العارفون الكاملون. ولذلك قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه :( من أحبَّ الظهور فهو عبد الظهور، ومن أحب الخفاء فهو عبد الخفاء، ومن كان عبد الله فسواء عليه أظهره أم أخفاه ).

و﴿ نعمّا ﴾ أصلها : نِعم ما هي، فأدغمت الميم في الميم، وفي ﴿ نعم ﴾ : ثلاث لغات :" نعم " بفتح النون وكسر العين وهي الأصل، وبسكونها، وبكسر النون وسكون العين، فمن قرأ بكسر النون والعين، فعلى لغة كسر العين، وأتبع النون للعين، ومن اختلس، أشار إلى لغة السكون، ومن قرأ بفتح النون وكسر العين، فعلى الأصل وأدغم المثلين، ومن قرأ بفتح النون وسكون العين فعلى لغة ﴿ نَعْم ﴾ بالفتح والسكون، ثم أدغم، ولم يعتبر التقاء الساكنين لعروضه، أو لكون الثاني مُشدَّداً سهل ذلك. والله أعلم.
ومن قرأ :﴿ ونكَّفرْ ﴾، بالجزم، فعطف على محل الجزاء، ومن قرأ بالرفع، فعلى الاستئناف، أي : ونحن نكفر، أو : فهو يكفر، على القراءتين.
﴿ إن ﴾ تُظهروا ﴿ الصدقات ﴾، مخلصين فيها، ﴿ فَنِعِمَّا هي ﴾ أي : فنعم شيئاً إبداؤها، ولاسيما للمقتدى به، فهو أفضل في حقه، ﴿ وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء ﴾ خفيه ﴿ فهو خير لكم ﴾ ؛ لأنه أقرب للإخلاص، وهذا في التطوع، تفضل عَلانيتها بسبعين ضعفاً. وأما الفريضة ففيها تفصيل، فمن خاف على نفسه شوْبَ الرياء أخفى أو نَوّب، ومَنْ أَمِنَ أَظْهَر. فقد ورد أن علانية الفريضة تَفْضُلُ سرَّها بخمسة وعشرين ضعفاً، فإن فعلتم ما أُمرتم به في الوجهين، فقد أحسنتم، ﴿ ونكفر عنكم من سيئاتكم ﴾ أي : نستر عنكم بعض ذنوبكم، وقد ورد في صدقة السر أن صاحبها يُظله الله يوم لا ظل إلا ظله ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ ؛ لا يخف عليه من أَسَرَّ أو جَهَر، ومن أخلص أو خلط، ففيه ترغيب وترهيب. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : معاملة العبد مع مولاه : إما أن تكون لطلب الأجور، وإما لرفع الستور، فالأول يُعطي أجره من وراء الباب، والثاني يدخل مع الأحباب. وأما العامل للدنيا فهو ظالم لنفسه ﴿ وما للظالمين من أنصار ﴾، وفي بعض الآثار : طالبُ الدنيا أسير، وطالب الآخرة أجير، وطالب الحق أمير.
ثُم الناس في معاملة الحق على أقسام ثلاثة : قِسْمٍ يليق بهم الإخفاء والإسرار، وهم طالبوا الإخلاص من المريدين السائرين. وقسْمٍ يليق بهم الإظهار وهم أهل الاقتداء من العلماء المخلصين. وقسْم لا يقفون مع ظهور ولا خفاء، بل مع ما يبرز في الوقت، وهم العارفون الكاملون. ولذلك قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه :( من أحبَّ الظهور فهو عبد الظهور، ومن أحب الخفاء فهو عبد الخفاء، ومن كان عبد الله فسواء عليه أظهره أم أخفاه ).

والهداية كلها بيد الله، ليس لغيره منها شيء، كما أبان ذلك الحق جل جلاله بقوله :
﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : لنبيه عليه الصلاة والسلام :﴿ ليس عليك ﴾ يا محمد ﴿ هداهم ﴾ أي : لا يجب عليك أن تخلق الهداية في قلوبهم، وليس من شأنك ذلك، إنما أنت نذير تدلُّ على الخير، كالنفقة وغيرها، وتنهى عن الشر كالمِّن والأذى، وإنفاق الخبيث، وغير ذلك من المساوئ ﴿ ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ بفضله وإحسانه، فالأمور كلها بيد الله خيرها وشرها، لكن من جهة الأدب ﴿ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾ [ النِّساء : ٧٩ ]. وبالله التوفيق.
الإشارة : ما قيل في الرسول - عليه الصلاة والسلام - يقال في ورثته من أهل التذكير، فليس بيدهم الهداية والتوفيق، وإنما شأنهم الإرشاد وبيان الطريق، فليس من شأن الدعاة إلى الله الحرص على هداية الخلق. وإنما من شأنهم بيان الحقّ. ﴿ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ ﴾ [ النّحل : ٣٧ ]. والله تعالى أعلم.
ثم رجع الحقّ تعالى إلى الترغيب في الصدقة والإخلاص فيها، فقال :
﴿. . . وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾
قلت : هذه ثلاث جمل كلها تدل على الترغيب في إنفاق الطيب وإخلاص النية.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وما تنفقوا من خير ﴾ قليل أو كثير، فهو ﴿ لأنفسكم ﴾ لا ينتفع به غيركم، فإن كان طيباً فلأنفسكم، وإن كان خبيثاً فأجره لكم، وإن مننتم به أو آذيتم فقد ظلمتم أنفسكم، وإن أخلصتم فيه فلأنفسكم. وأيضاً إنكم تَدَّعُونَ أنكم ﴿ ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ﴾، فكيف تقصدون الخبيث، وتجعلونه لوجه الله ؟ وكيف تَمُنُّونَ أو تؤذون بها وهي وجه الله ؟ هذا تكذيب للدعوى، وكل ما تنفقون من خير قليل أو كثير ﴿ يُوف إليكم ﴾ جزاؤه يوم القيامة بسبعمائة إلى أضعاف كثيرة، ويخلفه لكم في الدنيا، ﴿ وأنتم لا تظلمون ﴾ شيئاً من أعمالكم إن أخلصتم أو أحسنتم. وستأتي إشارتها مع ما بعدها.
ثم بين المصرف، فقال :
﴿ لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾
قلت :﴿ للفقراء ﴾ : متعلق بمحذوف، أي : يعطي ذلك للفقراء، أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء، والإلحاف، : هو الإلحاح في السؤال، وهو أن يلازم المسؤول حتى يعطيه، وهو منصوب على المصدر أو الحال.
يقول الحقّ جلّ جلاله : تجعلون ما تنفقونه ﴿ للفقراء الذين أحصروا ﴾ أي : حبسوا أنفسهم في ﴿ سبيل الله ﴾ وهو الجهاد، ﴿ لا يستطيعون ضرباً في الأرض ﴾ أي : ذهاباً في الأرض للتجارة أو للأسباب، بل شغلهم الجهاد والتبتل للعبادة عن الأسباب، وهم أهل الصُّفَّة، كانوا نحواً من أربعمائة من فقراء المهاجرين، يسكنون صفة المسجد، يستغرقون أوقاتهم في العلم والذكر والعبادة، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس رضي الله عنه :" وقف النبيّ صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحاب الصفة، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلبوهم، فقال :" أبشروا يا أصحاب الصفة، فمن بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه، راضياً بما فيه فإنه، من رفقائي ".
وقيل : المراد الفقراء مطلقاً، حصرهم الفقر عن الضرب في الأرض للتجارة، ﴿ يحسبهم الجاهل ﴾ بهم ﴿ أغنياء من التعفف ﴾، أي : من أجل تعففهم عن السؤال، ﴿ تعرفهم بسيماهم ﴾ من الضعف ورثاثة الحال. الخطاب للرسول، أو لكل أحد ﴿ لا يسألون الناس إلحافاً ﴾، أي : لا يسألون، وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا، وقيل : نفي للأمرين معاً، ليس لهم سؤال، فيقع فيه إلحاف، كقول الشاعر١ :
على لا حِبٍ لا يُهْتَدى بمنَارِه ***. . .
وليس ثَمَّ لا حب ولا منار، وإنما المراد نفيهما، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" منْ سأَلَ، وله أربعونَ دِرهماً، فَقَدْ سأل إلحافاً ".
﴿ وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ﴾ فيجازي على القليل والكثير، وهذا ترغيب في الإنفاق، وخصوصاً على هؤلاء.
الإشارة : ما أفلح من أفلح، وخسر مَنْ خسر، إلا من نفسه وفلسه، فمن جاد بهما، أو بأحدهما، فقد فاز وأفلح وظفر بما قصد، والجود بالنفس أعظم، وهو يستلزم الجود بالفلس، والجود بالفلس، إن دام، يوصل إل الجود بالنفس، والمراد بالجود بالنفس : إسلامها للشيخ يفعل بها ما يشاء، وتكون الإشارة فيها كافية عن التصريح، ومن بخل بهما أو بأحدهما، فقد خسر وخاب في طريق الخصوص، ومصرف ذلك هو الشيخ، أو الفقراء المنقطعون إلى الله ؛ الذي حصروا أنفسهم في سبيل الله، وهو الجهاد الأكبر.
قال في القوت : وكان بعض الفضلاء يؤثر بالعطاء فقراء الصوفية دون غيرهم، فقيل له في ذلك، فقال : لأن هؤلاء همهم الله عزّ وجلّ، فإذا ظهر منهم فاقة تَشَتَّتَ قلبُ أحدِهم، فلأنْ أرد هِمة واحدٍ إلى الله أحب إليّ من أن أعطي ألفاً من غيرهم ممن همه الدنيا. فذكر هذا الكلام لأبي القاسم الجنيد، فقال : هذا كلام ولي من أولياء الله.
ثم قال : ما سمعت كلاماً أحسنَ من هذا. وبلغني أن هذا الرجل اقتر حاله في أمر الدنيا حتى همّ بترك الحانوت ؛ فبعث إليه الجنيد بمال كان صرف إليه، وقال له : اجعل هذا في بضاعتك، ولا تترك الحانوت فإنَّ التجارة لا تضرُّ مثلك. ويقال : إن هذا لم يكن يأخذ من الفقراء ثمن ما يبتاعون منه. ه.
وكان عبد الله بن المبارك يصرف مصروفه لأهل العلم، ويقول : إني لا أعرف بعد النبوة أفضل من العلماء، فإذا اشتغل قلب أحدهم بالحاجة والعيلة لم يتفرغ للعلم، ولا يقبل على تعليم الناس، فرأيت أن أكفيهم أمر الدنيا ؛ لأفرغهم للعلم، فهو أفضل. ه. والله تعالى أعلم.
١ عجز البيت:
... *** إذا سافه العود الديافي جرجرا
والبيت لامرئ القيس في ديوانه ص ٦٦، ولسان العرب (ديف)، (سوف)، (لحف)، وتهذيب اللغة ٥/٧٠، وأساس البلاغة (سوف)، وتاج العروس (ديف)، (لحف)، (سوف)..

ثم رغب في النفقة مطلقا، فقال :
﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
قلت : الموصول مبتدأ، و﴿ فلهم أجرهم ﴾ : خبر، والفاء للسببية، ولأن في الموصول معنى الشرط، وقيل : الخبر محذوف، أي : ومنهم الذين ينفقون الخ : و﴿ فلهم ﴾ : استئناف بياني.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية ﴾، ويعمرون أوقاتهم بفعل الخيرات، ﴿ فلهم أجرهم عند ربهم ﴾ إذا قدموا عليه، ﴿ ولا خوف عليهم ﴾ من لُحوق مكروه، ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ على فوات محبوب، بل وجدوا الله فأغناهم عن كل شيء.
قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ؛ تصدَّق بأربعين ألف دينار، عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة بالسر، وعشر بالعلانية، أو في عليّ - كرّم الله وجهه - لم يملك إلا أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلاً، ودرهم نهاراً، ودرهم سرّاً، ودرهم علانية. وهي عامة لمن فعل فعلهما.
الإشارة : أجر بذل الأموال هو إعطاء الثواب من وراء الباب، والأمن من العذاب وسوء المآب، وأجر بذل النفوس هو دخول حضرة القدوس، والأنس بالأحباب داخل الحجاب، فمن بذل نفسه لله على الدوام، أمنه من الحجبة في دار السلام، فلا خوف يلحقهم في الدارين، ولا يعتريهم حزن في الكونين. وبالله التوفيق.
ولما رغَّب في الصدقة، وكانت في الغالب لا يتوصل إليها إلا بتعاطي أسباب المال، وهو البيع والشراء حذر من الربا ؛ لئلا يتساهل الناس في المعاملة به، حرصاً على الصدقة، فقال :
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ * ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ * ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
قلت :﴿ الربا ﴾ في الأصل : هو الزيادة، رَبا المال يربو : زاد. وكتبت بالواو مراعاة للأصل، وهو المصدر، قال الفراء : إنما كتبوه بالواو لأن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل الحيرة، ولغتهم الربو، فعلموهم صورة الحروف، وكذلك قرأها أبو السمال العدوي، وقرأ الأخَوَان بالإمالة لمكان الكسرة، والباقون بالتفخيم.
والربا في اصطلاح الشرع على قسمين : ربا الفضل وربا النِّسَاءِ، فأما ربا الفضل فهو التفاضل بين الطعامين أو النقدين في المبادلة من الجنس الواحد، فإن اختلفت الأجناس فلا حرج، وأما ربا النساء فهو بيع الطعامين أو النقدين بعضهما ببعض بالتأخير، وهذا حرام ولو اختلفت الأجناس.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ الذين يأكلون الربا ﴾ أي : يأخذونه، وإنما خص الأكل لأنه أعظم منافع المال، ﴿ لا يقومون ﴾ من قبورهم يوم البعث ﴿ إلا كما يقوم ﴾ المجنون ﴿ الذي يتخبطه الشيطان من ﴾ أجل ﴿ المس ﴾ الذي يمسه يقوم ويسقط، رُوِيَ أن بطونهم تكون أمامهم كالبيت الضخم، يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما أُسْرِيَ بِي إلى السماء رأيتُ رِجالاً بُطُونُهُمْ كَالبُيوتِ، فيهَا حَيَّاتٌ تُرى مِنْ خِارِجِ بُطُونِهمْ، فقلت مَنْ هؤلاءِ يا جِبْرِيل ؟ فقال : أكَلَةُ الرِّبا ".
ذلك العذاب بسبب أنهم استحلُّوا الربا، و﴿ قالوا إنما البيع مثل الربا ﴾ فنظموا الربا والبيع في سلك واحد، وفيه عكس التشبيه. والأصل : إنما الربا مثل البيع، قصدوا المبالغة، كأنهم جعلوا الربا أصلاً وقاسوا عليه البيع. وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حلّ ماله على غريمه يقول الغريم : زدني في الأجل أزدك في المال، فيفعلان، ويقولان : سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند محل الدين، هو مراضاة. فكذبهم الحقّ تعالى بقوله :﴿ وأحلّ الله البيع وحرّم الربا ﴾ ؛ لأن القياس مع وجود النص فاسد، والفرق ظاهر ؛ فإن من باع درهماً بدرهمين ضيع درهماً من غير فائدة، بخلاف من اشترى سلعة بدرهم، وباعها بدرهمين، فلعل مساس الحاجة، والرغبة فيها، توقع رواجها فيجبر الغبن.
﴿ فمن جاءه موعظة من ربه ﴾ كالنهي عن الربا ﴿ فانتهى ﴾ وترك الربا ﴿ فله ما سلف ﴾ قبل التحريم ولا يَرُدُّهُ، ﴿ وأمره إلى الله ﴾ لا إلى أحد منكم، فلا يتعرض له، ﴿ ومن عاد ﴾ إلى تحليل الربا بعد بلوغه النهي ﴿ فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ لأنهم كفروا وسفهوا أمر الله.
﴿ يمحق الله الربا ﴾ أي : يذهب بركته، ويُهلك المال الذي يدخل فيه ﴿ ويربي الصدقات ﴾ أي : يضاعف ثوابها ويُبارك في المال الذي أخرجت منه، فقد رُوِيَ عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال :" ما نَقَصَ مالٌ مِنْ صَدقة "، " وأنه يُربي الصدقةَ حتى تكونَ مثلَ الجبل ". قال يحيى بن معاذ :( ما أعرفُ حبةً تزن جبال الدنيا إلا الحبَّةَ من الصدقة ).
﴿ والله لا يحب كل كفّار ﴾ أي : مُصِرٍّ على تحليل المحرمات، ﴿ أثيم ﴾ أي : منهمك في ارتكاب المنهيات، أي : لا يرتضي حاله، ولا يحبه كما يحب التوابين.
ثم ذكر مقابله فقال :﴿ إن الذين آمنوا ﴾ بالله، وصدَّقُوا بما جاء من عنده، ﴿ وعملوا ﴾ الأعمال ﴿ الصالحات وأقاموا الصلاة ﴾ أي : أتقنوها ﴿ وآتوا الزكاة ﴾ أي : أدوها على التمام، فلهم أجرهم عند ربهم إذا قدموا عليه، ﴿ ولا خوف عليهم ﴾ من آت، ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ على ما فات، إذ لم يفتهم شيء حيث وجدوا الله.
ثم أكد في الربا، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ﴾ أي : اتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا، فلا تقبضوها منهم، ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾. فإن دليل الإيمان : امتثال ما أمرتم به، رُوِيَ أنه كان لثقيف مال على بعض قريش، فطالبوهم عند الحَلِّ بالمال والربا، فنزلت الآية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مدار صفاء المعاملة على تصفية اللقمة، فمن صفَّا طعمته صفت معاملته، ومن صفت معاملته أفضى الصفاء إلى قلبه، ومن خلط في لقمته تكدرت معاملته، ومن تكدرت معاملته تكدر قلبه، ولذلك قال بعضهم :( مَنْ أكَلَ الحلال أطاع الله، أحبَّ أم كَرِهَ، ومن أكل الحرام : عصى الله، أحبَّ أم كَرِه ) وكذلك الواردات الإلهية، لا ترد إلا على من صفا مطعمه ومشربه، ولذلك قال بعضهم :( من لا يعرف ما يدخل بطنه لا يفرق بين الخواطر الربانية والشيطانية ).
وقال سيدي علي الخواص رضي الله عنه :( اعلم أن المدد الذي لم يزل فياضاً على قلب كل إنسان ويتلون بحسب القلب، والقلب يتلون بحسبه هو بحسب صلاح الطعمة وفسادها ). هـ. فالذين يأكلون الحرام ؛ كالربا وشبهه، لا يقومون إلى معاملتهم للحق إلا كما يقوم المجنون الذي يلعب به الشيطان، ولا يدري ما يقول ولا ما يقال له، فقد حُرم لذيذ المناجاة وحلاوة خلوص المعاملات، فإن احتج لنفسه واستعمل القياس لم يُرْجَ فلاحُه في طريق الخواص، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى، وطلب العفاف فقد عفا الله عما سلف. ومن عاد إلى ما خرج عنه ؛ من متابعة هواه، فنار القطيعة مثواه ومأواه.
ومن شأن الحق جلّ جلاله مع عباده : أن من طلب الزيادة في حس ظاهره محق الله نور باطنه، ومن حسم مادة زيادة الحس في ظاهره قوي الله مدد الأنوار في باطنه،
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَواْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ ﴾ [ البقرة : ٢٧٦ ]، أي : يُقَوِّي مدد ثواب الصدقات.
﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَارٍ أَثِيمٍ ﴾ [ البقرة : ٢٧٦ ]، وإنما يحب كل مطيع منيب، وهو من آمن إيمان أهل التحقيق، وسلك مسلك أهل التوفيق. فلا جرم أنه ينخرط في سلك أهل العناية، ويسلك به مسلك أهل الولاية، الذين ﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ يونس : ٦٢ ].
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ﴾ حق تقاته، واتركوا ما بقي في باطنكم من بقايا الحس وأسبابه، إن كنتم طالبين إيمان أهل الشهود، والوصول إلى الملك المعبود. فإن لم تفعلوا ذلك فاعلموا أنكم في مقام البعد من حيث لا تظنون، معاندون وأنتم لا تشعرون. وإن رجعتم إلى ربكم فلكم رؤوس أموالكم، وهم نور التوحيد، لا تنقصون منه ولا تزيدون عليه، إلا إن أفردتم الوجهة إليه، وطلبتم الوصول منه إليه، فإن الله لا يُخيٍّب من أمَّل جُوده، ولا يردُّ من وقَف ببابه، بمنِّه وكرمه.

﴿ فإن لم تفعلوا ﴾ وتتركوا ما نهيتم عنه، ﴿ فأذنوا ﴾ أي : فاعلموا ﴿ بحرب من الله ورسوله ﴾ ومن قرأ :﴿ فآذنوا ﴾ بالمد، فمعناه : أعلموا بها غيركم، رُوِيَ أنها لما نزلت، قالت ثقيف : لا يَدَانِ لنا بحرب الله ورسوله١. ﴿ وإن تبتم ﴾ من تعاطي الربا واعتقاد حله ﴿ فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ﴾ الغريم بأخذ الزيادة، ﴿ ولا تظلمون ﴾ بنقص رأس مالكم. مفهومه أن لم يتب فليس له شيء، لأنه مرتد. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مدار صفاء المعاملة على تصفية اللقمة، فمن صفَّا طعمته صفت معاملته، ومن صفت معاملته أفضى الصفاء إلى قلبه، ومن خلط في لقمته تكدرت معاملته، ومن تكدرت معاملته تكدر قلبه، ولذلك قال بعضهم :( مَنْ أكَلَ الحلال أطاع الله، أحبَّ أم كَرِهَ، ومن أكل الحرام : عصى الله، أحبَّ أم كَرِه ) وكذلك الواردات الإلهية، لا ترد إلا على من صفا مطعمه ومشربه، ولذلك قال بعضهم :( من لا يعرف ما يدخل بطنه لا يفرق بين الخواطر الربانية والشيطانية ).
وقال سيدي علي الخواص رضي الله عنه :( اعلم أن المدد الذي لم يزل فياضاً على قلب كل إنسان ويتلون بحسب القلب، والقلب يتلون بحسبه هو بحسب صلاح الطعمة وفسادها ). هـ. فالذين يأكلون الحرام ؛ كالربا وشبهه، لا يقومون إلى معاملتهم للحق إلا كما يقوم المجنون الذي يلعب به الشيطان، ولا يدري ما يقول ولا ما يقال له، فقد حُرم لذيذ المناجاة وحلاوة خلوص المعاملات، فإن احتج لنفسه واستعمل القياس لم يُرْجَ فلاحُه في طريق الخواص، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى، وطلب العفاف فقد عفا الله عما سلف. ومن عاد إلى ما خرج عنه ؛ من متابعة هواه، فنار القطيعة مثواه ومأواه.
ومن شأن الحق جلّ جلاله مع عباده : أن من طلب الزيادة في حس ظاهره محق الله نور باطنه، ومن حسم مادة زيادة الحس في ظاهره قوي الله مدد الأنوار في باطنه،
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَواْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ ﴾ [ البقرة : ٢٧٦ ]، أي : يُقَوِّي مدد ثواب الصدقات.
﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَارٍ أَثِيمٍ ﴾ [ البقرة : ٢٧٦ ]، وإنما يحب كل مطيع منيب، وهو من آمن إيمان أهل التحقيق، وسلك مسلك أهل التوفيق. فلا جرم أنه ينخرط في سلك أهل العناية، ويسلك به مسلك أهل الولاية، الذين ﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ يونس : ٦٢ ].
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ﴾ حق تقاته، واتركوا ما بقي في باطنكم من بقايا الحس وأسبابه، إن كنتم طالبين إيمان أهل الشهود، والوصول إلى الملك المعبود. فإن لم تفعلوا ذلك فاعلموا أنكم في مقام البعد من حيث لا تظنون، معاندون وأنتم لا تشعرون. وإن رجعتم إلى ربكم فلكم رؤوس أموالكم، وهم نور التوحيد، لا تنقصون منه ولا تزيدون عليه، إلا إن أفردتم الوجهة إليه، وطلبتم الوصول منه إليه، فإن الله لا يُخيٍّب من أمَّل جُوده، ولا يردُّ من وقَف ببابه، بمنِّه وكرمه.


١ لا يدان لنا بحرب الله ورسوله: يقال: ما لي بهذا الأمر يد ويدان: أي لا طاقة لي به، لأن المدافعة تكون باليد، فكأن يده معدومة لعجزه عن دفعه..
ثم ذكر حال المعسر، فقال :
﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾
قلت :﴿ كان ﴾ : تامة بمعنى حضر، وقرأ أُبَيّ وابنُ مسعود :﴿ ذا عسرة ﴾ فتكون ناقصة، و﴿ نظرة ﴾ : مبتدأ، والخبر محذوف، أي : فعليكم نظرة، أو فالواجب نظرة. وهو مصدر بمعنى الإنظار، وهو الإمهال، و﴿ ميسرة ﴾ : فيه لغتان : الفتح والضم، وهي مَفْعَلة من اليسر، فالضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغة تميم وقَيْس ونَجْد.
يقول الحقّ جلّ جلاله : وإن حضر الغريم وهو معسر، فعليكم إنظاره، أي : إمهاله إلى زمان يسره ولا يحل لكم أن تُضَيِّقُوا عليه، وتطالبوه بما ليس عنده إن أقام البيِّنَةَ على عسره ﴿ وأن تصدقوا ﴾ عليه برؤوس أموالكم ولا تطالبوه بها ﴿ خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾ ما في ذلك من الخير الجزيل والذكر الجميل.
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ أَنْظَر مُعْسِراً، أو وَضَعَ عنه، أَظلَّه اللّهُ في ظِلِّ عَرْشِه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه " وقال - عليه الصلاة والسلام - :" من أَحَبَّ أن تُستجاب دعوته، وتُكشف كُربتُه، فليُيسِّرْ على المُعسر ". وقال صلى الله عليه وسلم :" من أنْظَر معسراً كان له بكل يوم صدقةٌ بمثل ما أنظره به ". وقد ورد في فضل الدَّيْن قوله - عليه الصلاة والسلام :" إن الله مع المدين حتى يقضي دَيْنه، ما لم يكن فيما يكره الله ". فكان عبد الله يقول :" إني أكره أن أبيت ليلة إلا والله تعالى معي، فيأمر غلامه أن يأخذ بدين ".
وقد ورد الترغيب أيضاً في الإسراع بقضاء الدين دون مطل، قال صلى الله عليه وسلم :" مَنْ مشَى إلى غَريمه بحقه، صَلَّتْ دوابُّ الأرض ونُونُ الماء، وكتبت له بكل خُطوة شجرة في الجنة، وذنب يغفر له فإن لم يفعل ومطل فهو مُعْتَدِ ". وقال أيضاً :" مطْلُ الغَنِيِّ ظلم، وإذا أُتْبعَ أحَدكُمْ على مَليء فَلْيتْبَعْ ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإن كان ذو عسرة من نور اليقين والمعرفة، فلينظر إلى أهل الغنى بالله، وليصحبهم ويتعلَّق بهم، وهم العارفون، فإنهم يغنونه بالنظر. وفي بعض الأخبار : إن لله رجالاً ؛ من نظر إليهم سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً. هـ. ولله رجال إذا نظروا أغنَوْا، وفي هذا المعنى يقول صاحب العينية :
فَشَمِّرْ، ولُذْ بالأَوْليَاءِ فَإنَّهُمْ لَهُمْ مِنْ كِتَابِ الله تلْكَ الوقَائعُ
هُمُ الذُّخْرُ لِلمَلهُوفِ، والكَنْزُ لِلرَّجَا وَمِنْهُمْ يَنَالُ الصَبُّ مَا هُوَ طَامِعُ
وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه : والله ما بيني وبين الرجل إلا أن أنظر إليه وقد أغنيته. وقال فيه شيخه : نعم الرجل أبو العباس، يأتيه البدويُّ يبول على ساقه، فلا يُمسي إلا وقد أوصله إلى ربه. وقال شيخ شيوخنا سيدي العربي بن عبد الله : لو أتاني يهودي أو نصراني، لَمْ يُمْسِ إلا وقد أوصلته إلى الله. هـ. وفي كل زمان رجال يُغْنُونَ بالنظر، وقد أدركتهم، وصحبتُهم والحمد لله، والإشارة بقوله :﴿ وأن تصدقوا خير لكم ﴾ إلى أهل الغنى بالله، يتصدقون على الفقراء بالنظرة والهمة، حتى يحصل لهم الغنى بالله. والله تعالى أعلم.

ثم قال تعالى :﴿ واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ﴾، وهو يوم القيامة، فتأهبوا للمصير إله بالصدقة وسائر الأعمال الصالحة، ﴿ ثم توفّى كل نفس ﴾ جزاء ما أسلفت، ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ بنقص ثواب أو تضعيف عقاب. قال ابن عباس :( هذه آخر آية نزل بها جبريل، فقال : ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة، وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً وعشرين يوماً ). وقيل : أحداً وثمانين، وقيل غير ذلك. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإن كان ذو عسرة من نور اليقين والمعرفة، فلينظر إلى أهل الغنى بالله، وليصحبهم ويتعلَّق بهم، وهم العارفون، فإنهم يغنونه بالنظر. وفي بعض الأخبار : إن لله رجالاً ؛ من نظر إليهم سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً. هـ. ولله رجال إذا نظروا أغنَوْا، وفي هذا المعنى يقول صاحب العينية :
فَشَمِّرْ، ولُذْ بالأَوْليَاءِ فَإنَّهُمْ لَهُمْ مِنْ كِتَابِ الله تلْكَ الوقَائعُ
هُمُ الذُّخْرُ لِلمَلهُوفِ، والكَنْزُ لِلرَّجَا وَمِنْهُمْ يَنَالُ الصَبُّ مَا هُوَ طَامِعُ
وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه : والله ما بيني وبين الرجل إلا أن أنظر إليه وقد أغنيته. وقال فيه شيخه : نعم الرجل أبو العباس، يأتيه البدويُّ يبول على ساقه، فلا يُمسي إلا وقد أوصله إلى ربه. وقال شيخ شيوخنا سيدي العربي بن عبد الله : لو أتاني يهودي أو نصراني، لَمْ يُمْسِ إلا وقد أوصلته إلى الله. هـ. وفي كل زمان رجال يُغْنُونَ بالنظر، وقد أدركتهم، وصحبتُهم والحمد لله، والإشارة بقوله :﴿ وأن تصدقوا خير لكم ﴾ إلى أهل الغنى بالله، يتصدقون على الفقراء بالنظرة والهمة، حتى يحصل لهم الغنى بالله. والله تعالى أعلم.

ثم أمر الحق تعالى بتحصين الأموال ؛ بتقييد الديون والإشهاد عليها، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ﴾ أي : داين بعضكم بعضاً في بيع أو سلف، ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ أي : معلوم بالأيام أو الأشهر، لا بالحصاد أو قدوم الحاج، ألا في السَّلمَ، ﴿ فاكتبوه ﴾ ؛ لأنه أوثق وأدفع للنزاع. والجمهور : أن الأمر للاستحباب، ﴿ وليكتب بينكم كاتب بالعدل ﴾ لا يزيد ولا ينقص، ولا بد أن يكون عدلاً حتى يجيء مكتوبه موثوقاً به، ﴿ ولا يأب كاتب أن يكتب ﴾ أي : ولا يمتنع كاتب من الكتابة ﴿ كما علمه الله فليكتب ﴾ أي : فليكتب كما علمه الله من كتابة الوثائق، أو : لا يأب أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها. ﴿ وليملل الذي عليه الحق ﴾ أي : وليكن المُملي مَنْ عليه الحق ؛ لأنه المُقر للشهود، يقال : أملل وأملي، إذا ذكر ما عنده أو ما عليه، ﴿ وليتق الله ربه ﴾ أي : المملي أو الكاتب، ﴿ ولا يبخس منه شيئاً ﴾ أي : ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئاً في الإملاء أو في الكتابة.
﴿ فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً ﴾ : ناقص العقل مُبذراً، ﴿ أو ضعيفاً ﴾ شيخاً مخبلاً، أو صبيّاً صغيراً، ﴿ أو لا يستطيع أن يمل هو ﴾، لخرس أو جهل باللغة، ﴿ فليملل ﴾ عنه ﴿ وليه بالعدل ﴾، من وَصِيٍّ أو وكيل، ﴿ واستشهدوا ﴾ على معاملتكم ﴿ شهيدين من رجالكم ﴾ المسلمين، ﴿ فإن لم يكونا رجلين ﴾، بأن تعذر إحضارهما، ﴿ فرجل وامرأتان ﴾ فأكثر، تقوم مقام رجلين ﴿ ممن ترضون من الشهداء ﴾ لعلمكم بِعَدالَتِهِمْ، وإنما شرط تعدد النساء لأجل ﴿ أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ﴾ أي : إن ضلت إحداهما الشهادة، ونسيتها، ذكرتها الأخرى ؛ لأنها ناقصة عقل ودين.
ثم حذَّر الشهود من الامتناع عن تحمل الشهادة أو أدائها، فقال :
﴿. . . وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
قلت : السَّأَمُ هو : الملَلُ، و﴿ لا يضار ﴾ يحتمل أن يكون مبنيّاً للفاعل، وأصله : يضارر بالكسر، أو للمفعول، فيكون الأصح بالفتح.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولا يمتنع ﴿ الشهداء ﴾ من تحمل الشهادة إذا دعوا إليها، حيث تعيَّنت عليهم، وسُموا شهداء باعتبار المآل، وإنما تتعين إذا لم يوجد غيرهم. أو : من أدائها حيث لا ضرر، ﴿ ولا تسأموا أن تكتبوه ﴾ أي : ولا تملوا من كتابة الحق إذا تكرر ﴿ صغيراً ﴾ كان ﴿ أو كبيراً ﴾، فقيدوا ذلك ﴿ إلى أجله ﴾، ﴿ ذلكم أقسط عند الله ﴾ أي : ذلك الكتاب والتقييد للحقوق، أكثر قسطاً عند الله ؛ لأنه أدفع للنزاع وأحفظ للحقوق، ﴿ وأقوم للشهادة ﴾ أي : أثبتُ لها وأعون على أدائها، ﴿ وأدنى ألا ترتابوا ﴾ أي : وأقرب لعدم الريب والشك في جنس الدين وقَدْره وأجلَه، لأنه إذا كتب جنسه وقدره وأجله لم يبق لأحد شك في ذلك، ﴿ إلا أن تكون تجارة حاضرة ﴾ لا أجَل فيها، ﴿ تديرونها بينكم ﴾ أي : تتعاملون فيها نقداً، ﴿ فليس عليكم جُنَاحٌ ألا تكتبوها ﴾ ؛ لقلة النزاع فيها، ﴿ وأشهدوا إذا تبايعتم ﴾ مطلقاً بدين أو نقد ؛ لأنه أحوط، خوفاً من الإنكار، والأوامر في هذه الآية للاستحباب عند الأكثر.
﴿ ولا يضار كاتب ولا شهيد ﴾ بالتحريف والتغيير في الكتابة والشهادة، على البناء للفاعل، أو : ولا يضارا بأن يُعْجلا عن مهم، أو يكلفا الأداء من شقة بعيدة، أو يمنع من أجرته، ﴿ وإن تفعلوا ﴾ ذلك الضرار وما نهيتهم عنه ﴿ فإنه فسوق بكم ﴾ أي : خروج بكم عن حد الاستقامة، ﴿ واتقوا الله ﴾ في مخالفة أمره ونهيه، ﴿ ويعلمكم الله ﴾ العلوم اللدنية ﴿ والله بكل شيء عليم ﴾ ؛ فلا يخفى عليه من اتقى الله ممن عصاه. وكرر لفظ الجلالة في الجمل الثلاث، لاستقلالها، فإن الأُولى حثٌّ على التقوى والثانية وعدٌ بتعليم العلم، والثالثة تعظيم لشأنه، ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية. قاله البيضاوي.
وأدخل الواو في جوابه الأمر ليقتضي أن تعليمه سبحانه لأهل التقوى ليس هو مسبباً عن التقوى، بل هو بمحض الفضل والكرم، والتقوى إنما هي طريق موصل لذلك الكرم، لا سبب فيه " جَلَّ حُكْمُ الأزل أن يُضَافَ إلى العلل ". والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى حكم الرهان، فقال :
﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾
قلت :﴿ فرهان ﴾ : خبر، أو مبتدأ، أي : فالمستوثق به رهان، أو فعليه رهان.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإن كنتم على ﴾ جناح ﴿ سفر ﴾ أي : مسافرين، ﴿ ولم تجدوا كاتباً ﴾ يكتب شهادة البيع أو الدين، فالمستوثق به عروضاً من الإشهاد :﴿ رهان مقبوضة ﴾. وليس السفر شرطاً في صحة الارتهان، لأنه عليه الصلاة والسلام :" رَهَنَ دِرْعَه عند يهودي بالمدينة في شَعِير " لكنّ لمّا كان السفر مَظنَّة إعواز الكتاب، ذكره الحق تعالى حكماً للغالب. والجمهور على اعتبار القبض فيه، فإن لم يقبض حتى حصل المانع، فلا يختص به في دينه، ﴿ فإن أمن بعضكم بعضاً ﴾ واستغنى بأمانته عن الارتهان، لوثوقه بأمانته فداينه بلا رهن، ﴿ فليؤد الذي أؤتمن أمانته ﴾ أي : دينه، وسماه أمانة ؛ لائتمانه عليه بلا ارتهان ولا إشهاد، ﴿ وليتق الله ربه ﴾ في أداء دينه وعدم إنكاره.
﴿ ولا تكتموا الشهادة ﴾ أيها الشهود، أو أهل الدين، أي : شهادتهم على أنفسهم، ﴿ ومن يكتمها ﴾ منكم بأن يمتنع من أداء ما تحمل من الشهادة، أو من أداء ما عليه من الدين، ﴿ فإنه آثم قلبه ﴾ حيث كتم ما علمه به، لأن الكتمان من عمل القلوب فتعلق الإثم به، ونظيره :" العين زانية وزناها النظر "، أو أسنده إلى القلب، مبالغة ؛ لأنه رئيس الأعضاء، فإذا أثم قلبه فقد أثم كله، وكأنه قد تمكن الإثم منه فأخذ أشرف أجزائه، وفاق سائر ذنوبه، ثم هدد الكاتمين فقال :﴿ والله بما تعملون عليم ﴾ ؛ لا يخفى عليه ما تبدون وما تكتمون، رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" من كَتَمَ شهادةً إذا دُعِي - كَان كَمَنْ شَهِدَ بالزُّور ".
الإشارة : كما أمر الله تعالى بتقييد الديون الدنيوية، والاعتناء بشأنها، أمر بتقييد العلوم اللدنية والواردات القدسية والاغتباط بأمرها، بل هي أولى ؛ لدوام ثمراتها وخلود نتائجها، فإن الحكمة ترد على القلب من عالم القدس عظيمة كالجبل، فإن أهملتها ولم تبادر إلى تقييدها، رجعت كالجمل، فإن أخرتها رجعت كالطير، ثم كالبيضة، ثم تمتحي من القلب، وفي هذا المعنى قيل :
العلمُ صيدٌ والكتابةُ قَيْدُه قَيِّدْ صُيودَك بالحِبَالِ المُوثِقَهْ
وَمِنَ الجَهَالة أن تصِيدَ حمامةً وتتركُها بَيْنَ الأوانِس مطلقهْ
فإن لم يحسن الكتابة، فليملله على من يُحسنها، ولا يبخس منه شيئاً، بل يمُليه على ما ورد في قلبه، فإن كان ضعيف العبارة، فليملل عنه من يحسنها بالعدل، من غير زيادة ولا نقصان في المعنى، وليُشهد عليها رجال أهل الفن وهم العارفون، فإن لم يكونوا، فمن حضر من الفقراء المتمكنين ؛ لئلا يكون في تلك الحكمة شيء من الخلل ؛ لنقصان صاحبها، أو : وليُشْهِد على ذلك الوارد عدلين، وهما الكتاب والسنّة، فإن كان موافقاً لهما، قُبل، وإلا رُدَّ.
قال الجنيد رضي الله عنه : إن النكتةَ لتقع في قلبي فلا أقبلها إلا بشهادة عَدْلَين : الكتاب والسنّة. ه. وإن كنتم مستعجلين، ولم تجدوا كاتباً، فارتهنوها في قلوب بعضكم بعضاً، حتى تُقيد. ومن كتم الواردات عن شيخه أو إخوانه، فقد أثم قلبه ؛ لأنه نوع من الخيانة في طريق التربية. والله تعالى أعلم.
ثم هدد الحق تعالى عباده، على مخالفة ما أمرهم به، فقال :
﴿ للَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيا أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
قلت : من قرأ ﴿ فيغفر ﴾ ؛ بالجزم، فعلى العطف على الجواب، ومن قرأ بالرفع فعلى الاستئناف، أي : فهو يغفرُ.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ لله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ خلقاً وملكاً وعبيداً، يتصرف فيهم كيف شاء ؛ يرحم من يشاء بفضله، ويعذب من يشاء بعدله، ﴿ وإن تبدوا ﴾ أي : تظهروا ﴿ ما في أنفسكم ﴾ من السوء والعزم عليه، ﴿ أو تخفوه ﴾ في قلوبكم، ﴿ يحاسبكم به الله ﴾ يوم القيامة ؛ ﴿ فيغفر لمن يشاء ﴾ مغفرته، ﴿ ويعذب من يشاء ﴾ تعذيبه، ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ لا يعجزه عذاب أحد ولا مغفرته. وعبَّر الحق تعالى بالمحاسبة دون المؤاخذة، فلم يقل : يؤاخذكم به الله ؛ لأن المحاسبة أعم، فتصدق بتقرير الذنوب دون المؤاخذة بها، لقوله - عليه الصلاة والسلام :" يدنو المؤمن من ربه حتى يضع كنفه عليه، فيقرره بذنوبه، فيقول : هل تعرف كذا ؟ فيقول : يا رب، أعرف، فيوقفه على ذنبه ذنباً، ذنباً فيقول الله تعالى : أنا الذي سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم ". فلله الفضل والمنّة، وله الحمد والشكر.
الإشارة :﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم ﴾ من الخواطر الردية والطوارق الشيطانية، أو تخفوه في قلوبكم، حتى يحول بينكم وبين شهود محبوبكم، ﴿ يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ﴾ فيمحو ظلمته من قلبه ؛ بإلهام التوبة والمبادرة إلى اليقظة، ﴿ ويعذب من يشاء ﴾ بتركه مع ظلمة تلك الأغيار، وخوضه في بحار تلك الأكدار، فما منع القلوب من مشاهدة الأنوار إلا اشتغالها بظلمة الأغيار، فرّغْ قلبك من الأغيار تملأه بالمعارف والأسرار، فإن أردت أن تكون عين العين، فامح من قلبك نقطة الغين، وهي نقطة السوى، ولله درّ القائل :
إِنْ تَلاشَى الكونُ عن عَيْنِ كشْفِي شاهَدَ السرُّ غَيْبَه في بَيَاني
فاطْرح الكونَ عن عِيانِكَ وامْحُ نقطةَ الغَيْنِ إنْ أردتَ تَرَاني
واعلم أن الخواطر أربعة : ملكي ورباني ونفساني وشيطاني، فالملكي والرباني لا يأمران إلا بالخير، والنفساني والشيطاني لا يأمران إلا بالشر، وقد يأمران بالخير إذا كان فيه دسيسة إلى الشر، والفرق بين النفساني والشيطاني : أن الخاطر النفساني ثابت لا يزول بتعوذ ولا غيره، إلا بسابق العناية، بخلاف الشيطاني : فإنه يزول بذكر الله، ويرجع مع الغفلة عن الله. والله تعالى أعلم.
ولمَّا نزل قوله تعالى :﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم. . . ﴾ الآية. شق ذلك على الصحابة - رضي الله عنهم - فجاء الصدِّيقُ والفاروق وعبدُ الرحمان ومعاذ، وناسُ من الأنصار، فَجَثَوْا على الرُّكَب، وقالوا : يا رسول الله، ما نزلت علينا آيةٌ أشدُّ من هذه الآية وأنا إن أخذنا بما نُحَدِّثُ به أنفَسنا هَلَكْنَا ! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" هكذا نزلت ". فقالوا : كُلِّفنا من العمل ما لا نطيق، فقال - عليه الصلاة والسلام :" فلعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل :﴿ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ [ البقرة : ٩٣ ]، قولوا :﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ]، فقالوا :﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾، وذَلَّتْ بها أَلْسِنَتُهُمْ، فأَنْزَلَ اللّهُ التخفيف، وحكى ما وقع لهم من الإيمان والإذعان، فقال :
﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ * ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾
قلت : من قرأ :﴿ لا نفرق ﴾ بالنون، فعلى حذف القول، أي : قالوا : لا نفرق، ومن قرأ بالياء فيرجع إلى الكل، أي : لا يفرق كل واحد منهم بين أحد من رسله، و﴿ بين ﴾ : من الظروف النسبية، لا تقع إلا بين شيئين أو أشياء، تقول : جلست بين زيد وعمرو، وبين رجلين، أو رجال، ولا تقول بين زيد فقط، وإنما أضيف هنا إلى أحد لأنه في معنى الجماعة، أي : لا نفرق بين آحاد منهم كقوله عليه الصلاة والسلام :" ما أُحلَّت الغنائم لأحدٍ، سُودِ الرؤوس، غيركم ". و﴿ غفرانك ﴾ : مفعول مطلق، أي : اغفر لنا غفرانك. أو : نطلب غفرانك، فيكون مفعولاً به.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ﴾ إيمان تحقيق وشهود ﴿ والمؤمنون ﴾ كل على قدر إيقان، ﴿ كل ﴾ واحد منهم ﴿ آمن بالله ﴾ على ما يليق به من شهود وعيان، أو دليل وبرهان، وآمن بملائكته وأنهم عباد مكرمون ﴿ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التّحْريم : ٦ ]، ﴿ وكتبه ﴾ وأنها كلام الله، مشتملة على أمر ونهي ووعد ووعيد وقصص وأخبار، وما عرف منها ؛ كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وجب الإيمان به بعينه، وما لم يعرف وجب الإيمان به في الجملة، ﴿ ورسله ﴾ وأنهم بشر متصفون بالكمالات، منزّهون عن النقائص، كما يليق بحالهم، حال كون الرسول والمؤمنون قائلين ﴿ لا نفرق بين أحد من رسله ﴾ أو :﴿ لا يفرق ﴾ كل منهم بين أحد من رسله ؛ بأن يصدقوا بالبعض، دون البعض كما فرقت اليهود والنصارى، ﴿ وقالوا ﴾ أي المؤمنين ﴿ سمعنا وأطعنا ﴾ أي : سمعنا قولك وأطعنا أمرك، نطلب ﴿ غفرانك ﴾ يا ربنا ﴿ وإليك المصير ﴾ بالبعث والنشور، وهذا إقرار منهم بالبعث الذي هو من تمام أركان الإيمان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يُفهم من سرّ الآية أن مَن شَقّ عليه أمر من الأمور، أو عَسرت عليه حاجةٌ، أو نزلت به شدة أبو بليّة، فليرجعْ إلى الله، ولينطرح بين يدي مولاه، وليعتقد أن الأمور كلها بيده ؛ فإن الله تعالى لا يخليه من معونته ورفده، فيخفف عنه ما نزل به، أو يقويه على حمله، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - لما شق عليهم المحاسبة على الخواطر سلَّموا وأذعنوا لأمر مولاهم، فأنزل عليهم التخفيف، وأسقط عنهم في ذلك التكليف، وكل من رجع في أموره كلها إلى الله قضيت حوائجه كلها بالله. " من علامات النُّجْحِ في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات ".
وقوله تعالى :﴿ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾، قيل : هو الحب لله، فلا يسأل العبد من مولاه من حبه إلا ما يطيقه، وتأمل قضية الرجل الذي سأل سيدنا موسى عليه السلام أن يرزقه الله حبه، فلما سأل ربه موسى عليه السلام هام ذلك الرجل، وشق ثيابه، وتمزقت أوصاله حتى مات. فناجى موسى رضي الله عنه ربه في شأنه، فقال : يا موسى، ألف رجل كلهم سألوني ما سأل ذلك الرجل، فقسمت جزءاً من محبتي بينهم، فنابه ذلك. الجزء. أو كما قال سبحانه.
وقال بعض الصالحين : حضرتُ مجلس ذي النون، في فسطاط مصر، فَحَزَرْت٣ في مجلسه سبعين ألفاً، فتكلم ذلك اليوم في محبته تعالى فمات أحدَ عشرَ رجلاً في المجلس، فصاح رجل من المريدين فقال : يا أبا الفيض، ذكرْتَ محبة الله تعالى فاذكر محبة المخلوقين، فتأوّه ذو النون تأوّهاً شديداً، ومدّ يده إلى قميصه، وشقه اثنتين، وقال : آه ! غلقت رهونهم، واستعبرت عيونهم، وحالفوا السُّهَاد، وفارقوا الرُّقاد، فليلُهم طويل، ونومهم قليل، أحزانهم لا تُنْفذ. وهمومهم لا تفقد، أمورهم عسيرة، ودموعهم غزيرة، باكية عيونهم، قريحة جفونهم، عاداهم الزمان والأهل والجيران.
قلت : هذه حالة العباد والزهاد، أُولي الجد والاجتهاد، غلب عليهم الخوف المزعج، أو الشوق المقلق، وأما العارفون الواصلون ؛ فقد زال عنهم هذا التعب، وأفضوا إلى الراحة بعد النصب، قد وصلوا إلى مشاهدة الحبيب، ومناجاة القريب، فعبادتهم قلبية، وأعمالهم باطنية، بين فكرة ونظرة، مع العكوف في الحضرة، قد سكن شوقهم وزال قلقهم، قد شربوا ورووا، وسكروا وصحوا، لا تحركهم الأحوال، ولا تهيجهم الأقوال، بل هم كالجبال الرواسي، نفعنا الله بذكرهم، وجعلنا من حزبهم. آمين.
قوله تعالى :﴿ واعف عنا ﴾، قال الورتجبي : أي :﴿ واعف عنا ﴾ قلة المعرفة بك، ﴿ واغفر لنا ﴾ التقصير في عبادتك، ﴿ وارحمنا ﴾ بمواصلتك ومشاهدتك. هـ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

فلمّا تحقق إيمانُهم، وتيقن إذعانُهم، خفَّف الله عنهم بقوله :﴿ لا يكف الله نفساً إلا وسعها ﴾ أي : إلا ما في طاقتها وتسعه قدرتها. وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه. أما المحال العادي١ فجائز التكليف به، وأما المحال العقلي٢ فيمتنع. إذ لا يتصور وقوعه، وإذا كلف الله عباده بما يطيقونه، فكل نفس ﴿ لها ما كسبت ﴾ من الخير فتوفى أجره على التمام، ﴿ وعليها ما اكتسبت ﴾ من الشر، فترى جزاءه، إلا أن يعفو ذو الجلال والإكرام.
وعبر في جانب الخير بالكسب، وفي جانب الشر بالاكتساب، تعليماً للأدب في نسبة الخير إلى الله، والشر إلى العبد، فتأمله.
ثم قالوا في تمام دعائهم :﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ﴾، أي : لا تؤاخذنا بما أدى إلى نسيان أو خطأ من تفريط أو قلة مبالاة، وفي الحديث :" إنّ الله رفعَ عن أمتي الْخَطأَ والنِّسْيَانَ وما حدثتْ به نفسَها ". ويجوز أن يراد نفس الخطأ والنسيان ؛ إذ لا تمتنع المؤاخذة بهما عقلاً، فإن الذنوب كالسموم، فكما أن تناول السم ويؤدي إلى الهلاك، وإن كان خطأ - فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب، وإن لم يكن عزيمة، لكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة وفضلاً. ويجوز أن يدعو به الإنسان، استدامة واعتدادا بالنعمة فيه. ويؤيد ذلك مفهوم قوله – عليه الصلاة والسلام - :" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان "، أي : فإن غير هذه الأمة كانوا يؤاخذون به، فدل علا عدم امتناعه. قاله البيضاوي.
ثم قالوا :﴿ ربنا ولا تحمل علينا إصراً ﴾ أي : عهداً ثقيلاً يأصر ظهورنا، أي : يثقله، فتعذبنا بتركه وعدم حمله، ﴿ كما حملته على الذين من قبلنا ﴾ مثل اليهود في تكليفهم بقتل الأنفس في التوبة، وقطع موضع النجاسة، وغير ذلك من التكاليف الشاقة، ﴿ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾ من التكاليف التي لا تسعها طاقتنا، وهذا يدل على جواز التكليف بما لا يطاق عادة، وإلا لما سئل التخلص منه، ﴿ واعف عنا ﴾ أي : امح ذنوبنا، ﴿ واغفر لنا ﴾ أي : استر عيوبنا، ﴿ وارحمنا ﴾ أي : تعطف علينا. ﴿ اعف عنا ﴾ الصغائر، ﴿ واغفر لنا ﴾ الكبائر، ﴿ وارحمنا ﴾ عند الشدائد والحسرات، ﴿ أنت مولانا ﴾ أي : سيدنا وناصرنا، ﴿ فانصرنا على القوم الكافرين ﴾ ؛ فإن من شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء.
قال البيضاوي :( رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام - لمّا دعا بهذه الدعوات قيل له : فعلتُ ) : وعنه عليه الصلاة والسلام :" أُنْزِلَ آيتان من كُنوز الجنة، كتبهما الرحمان بيده قبل أن يخلق الخلق بألفَيْ سنة، من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجْزَأتَاه عن قيام الليل ". وعنه عليه الصلاة والسلام :" من قرأ الآيَتينِ مِنْ آخِر سُورَةِ الْبَقَرةِ في لَيْلَة كَفَتَاهُ ". وهو يَرُدُّ قول من استكره أن يقال سورة البقرة، وقال : ينبغي أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة، كما قال - عليه الصلاة والسلام - :" السورةُ التي يُذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها ؛ فإنَّ تعلُّمها بَرَكَة، وَتَرْكَهَا حَسْرَة، ولن يَسْتَطِيعها البَطَلَةُ. قيل : وما البطلة ؟ قال : السحرة ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يُفهم من سرّ الآية أن مَن شَقّ عليه أمر من الأمور، أو عَسرت عليه حاجةٌ، أو نزلت به شدة أبو بليّة، فليرجعْ إلى الله، ولينطرح بين يدي مولاه، وليعتقد أن الأمور كلها بيده ؛ فإن الله تعالى لا يخليه من معونته ورفده، فيخفف عنه ما نزل به، أو يقويه على حمله، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - لما شق عليهم المحاسبة على الخواطر سلَّموا وأذعنوا لأمر مولاهم، فأنزل عليهم التخفيف، وأسقط عنهم في ذلك التكليف، وكل من رجع في أموره كلها إلى الله قضيت حوائجه كلها بالله. " من علامات النُّجْحِ في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات ".
وقوله تعالى :﴿ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾، قيل : هو الحب لله، فلا يسأل العبد من مولاه من حبه إلا ما يطيقه، وتأمل قضية الرجل الذي سأل سيدنا موسى عليه السلام أن يرزقه الله حبه، فلما سأل ربه موسى عليه السلام هام ذلك الرجل، وشق ثيابه، وتمزقت أوصاله حتى مات. فناجى موسى رضي الله عنه ربه في شأنه، فقال : يا موسى، ألف رجل كلهم سألوني ما سأل ذلك الرجل، فقسمت جزءاً من محبتي بينهم، فنابه ذلك. الجزء. أو كما قال سبحانه.
وقال بعض الصالحين : حضرتُ مجلس ذي النون، في فسطاط مصر، فَحَزَرْت٣ في مجلسه سبعين ألفاً، فتكلم ذلك اليوم في محبته تعالى فمات أحدَ عشرَ رجلاً في المجلس، فصاح رجل من المريدين فقال : يا أبا الفيض، ذكرْتَ محبة الله تعالى فاذكر محبة المخلوقين، فتأوّه ذو النون تأوّهاً شديداً، ومدّ يده إلى قميصه، وشقه اثنتين، وقال : آه ! غلقت رهونهم، واستعبرت عيونهم، وحالفوا السُّهَاد، وفارقوا الرُّقاد، فليلُهم طويل، ونومهم قليل، أحزانهم لا تُنْفذ. وهمومهم لا تفقد، أمورهم عسيرة، ودموعهم غزيرة، باكية عيونهم، قريحة جفونهم، عاداهم الزمان والأهل والجيران.
قلت : هذه حالة العباد والزهاد، أُولي الجد والاجتهاد، غلب عليهم الخوف المزعج، أو الشوق المقلق، وأما العارفون الواصلون ؛ فقد زال عنهم هذا التعب، وأفضوا إلى الراحة بعد النصب، قد وصلوا إلى مشاهدة الحبيب، ومناجاة القريب، فعبادتهم قلبية، وأعمالهم باطنية، بين فكرة ونظرة، مع العكوف في الحضرة، قد سكن شوقهم وزال قلقهم، قد شربوا ورووا، وسكروا وصحوا، لا تحركهم الأحوال، ولا تهيجهم الأقوال، بل هم كالجبال الرواسي، نفعنا الله بذكرهم، وجعلنا من حزبهم. آمين.
قوله تعالى :﴿ واعف عنا ﴾، قال الورتجبي : أي :﴿ واعف عنا ﴾ قلة المعرفة بك، ﴿ واغفر لنا ﴾ التقصير في عبادتك، ﴿ وارحمنا ﴾ بمواصلتك ومشاهدتك. هـ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


١ المحال العادي: كرفع الإنسان جبلا..
٢ المحال العقلي: كالجمع بين الضدين..
Icon