تفسير سورة الحشر

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة الحشر مدنية حروفها ألف وخمسمائة وثلاثون كلماتها أربعمائة وخمس وأربعون آياتها أربع وعشرون ).

ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ
(سورة الحشر)
(مدنية حروفها ألف وخمسمائة وثلاثون كلماتها أربعمائة وخمس وأربعون آياتها أربع وعشرون)
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١ الى ٢٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤)
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩)
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)
279
القراآت:
يخربون بالتشديد: أبو عمرو. والباقون: بالتخفيف من الإخراب تكون بالتاء الفوقانية دولة بالرفع على «كان» التامة: يزيد. والآخرون: على التذكير والنصب جدار بالألف على التوحيد: ابن كثير وأبو عمرو. والآخرون: بضمتين من غير ألف. إني أخاف بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. والْبارِئُ بالإمالة:
قتيبة ونصير وأبو عمرو طريق ابن عبدوس.
الوقوف
وَما فِي الْأَرْضِ ط الْحَكِيمُ هـ الْحَشْرِ ط الْأَبْصارِ ط فِي الدُّنْيا ط النَّارِ ط هـ وَرَسُولَهُ ج بناء على أن الشرط من جملة المذكور الْعِقابِ هـ الْفاسِقِينَ هـ مَنْ يَشاءُ ط قَدِيرٌ هـ السَّبِيلِ هـ مِنْكُمْ ط فَانْتَهُوا ج لابتداء من بعد جزاء الشرط مع اتفاق النظم وَاتَّقُوا اللَّهَ ط الْعِقابِ هـ لئلا يوهم أن قوله لِلْفُقَراءِ يتعلق ب شَدِيدُ ورَسُولِهِ ط الصَّادِقُونَ هـ ج بناء على أن ما بعده مستأنف أو معطوف ويجيء وجه كل منهما في التفسير. خَصاصَةٌ قف قيل: وقفة والأحسن الوصل لأن الاعتراض مؤكد لما قبله الْمُفْلِحُونَ هـ لمثل المذكور رَحِيمٌ هـ أَبَداً لا لأن ما بعده من تمام القول لَنَنْصُرَنَّكُمْ ط لَكاذِبُونَ هـ مَعَهُمْ ج لا
280
يَنْصُرُونَهُمْ
ط للعطف فيهما مع الابتداء بالقسم لا يُنْصَرُونَ هـ مِنَ اللَّهِ ط لا يَفْقَهُونَ هـ جُدُرٍ ط شَدِيدٌ هـ لا يَعْقِلُونَ هـ ج لتعلق الكاف ب لا يَعْقِلُونَ أو بمحذوف أو مثلهم كمثل أَمْرِهِمْ ط لاحتلاف الجملتين أَلِيمٌ هـ ج لما قلنا اكْفُرْ ط الْعالَمِينَ هـ فِيها ط الظَّالِمِينَ هـ لِغَدٍ ج لاعتراض خصوص بين العمومين أي لم يتق الله كل واحد منكم فلتنظر لغدها نفس واحد منكم وَاتَّقُوا اللَّهَ هـ تَعْمَلُونَ هـ أَنْفُسَهُمْ ط الْفاسِقُونَ هـ الْجَنَّةِ الأولى ط الْفائِزُونَ هـ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ط يَتَفَكَّرُونَ هـ إِلَّا هُوَ ج لاحتمال كون ما بعده خبر مبتدأ محذوف وَالشَّهادَةِ ج لاحتمال كون الضمير بدلا من عالم أو مبتدأ الرَّحِيمُ هـ إِلَّا هُوَ ط لما قلنا الْمُتَكَبِّرُ ط يُشْرِكُونَ هـ الْحُسْنى ط وَالْأَرْضِ ط الْحَكِيمُ هـ.
التفسير:
قال المفسرون: صالح بنو النضير رسول الله ﷺ على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما غلب الكفار يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له رايه، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبين إلى مكة فعاهدوا قريشا عند الكعبة، فأمر النبي ﷺ محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعبا غيلة وكان أخا كعب من الرضاعة ثم صبحهم بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم:
اخرجوا من المدينة فقالوا: الموت أحب إلينا من ذاك. فتنادوا بالحرب.
وقيل: استمهلوا رسول الله ﷺ عشرة أيام ليتجهزوا للخروج فأرسل إليهم عبد الله بن أبيّ المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولئن خرجتم لنخرجن معكم فدرّبوا على الأزقة وحصنوها، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة. فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصرة المنافقين طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤا من متاعهم، فذهبوا إلى اريحاء وأذرعات من الشام إلا أهل بيتين منهم ابن أبي الحقيق وحييّ بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة.
واللام في قوله لِأَوَّلِ الْحَشْرِ بمعنى الوقت كقولك «جئت ليوم كذا». وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام. فمعنى الحشر إخراج الجميع من مكان، ومعنى الأولية أنه لم يصبهم قبل ذلك مثل هذا الذل لأنهم كانوا أهل منعة هذا قول ابن عباس والأكثرين. وقيل: هذا أول حشرهم، وآخره حيث يحشر الناس للساعة إلى ناحية الشام كما
جاء في الحديث «نار تخرج من المشرق وتسوق الناس إلى المغرب» «١»
قاله
(١) رواه أبو داود في كتاب الملاحم باب ١٢. الترمذي في كتاب الفتن باب ٢١. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٢٨. أحمد في مسنده (٢/ ٨) (٤/ ٧).
281
قتادة. وقيل: آخر حشرهم اجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام. وقيل: معناه لأول ما حشر بقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال في الكشاف: الفرق بين النظم الذي جاء عليه وبين قول القائل «وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم» هو أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلا على فرط وثوقهم بحصانتها، وفي نصب ضميرهم اسما لأن إسناد الجملة إليه دليل على أنهم اعتقدوا عزة أنفسهم ومنعتها بحيث لا يمكن لأحد أن يتعرض لهم.
قلت: حاصل كلامه رضي الله عنه الحصر. ومعنى إتيان الله إتيان أمره وهو النصر إن عاد إلى اليهود وهذا أظهر ليناسب قوله تعالى فِي قُلُوبِهِمُ ولاستعمال القرآن نظيره في مواضع أخر في معرض التهديد هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ [البقرة: ٢١٠] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام: ١٥٨] ومعنى لَمْ يَحْتَسِبُوا أنه لم يخطر ببالهم قتل كعب غيلة على يد أخيه. وقذف الرعب في قلوبهم وهذا من خواص نبينا ﷺ كما مر في آل عمران سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران: ١٥١] وفي لفظ القذف زيادة تأكيد ولهذا قالوا في صفة الأسد «مقذف» فكأنما قذف باللحم قذفا لاكتنازه وتداخل أجزائه. قال الفراء يُخْرِبُونَ بالتشديد يهدمون، وبالتخفيف يخرجون منها ويتركونها. وكان أبو عمرو ويقول: الإخراب أن يترك الشيء خرابا، والتخريب الهدم، وبنو النضير خربوا وما أخربوا. وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في بعض الأحكام نحو «فرحته» و «أفرحته» و «حسنه الله» و «أحسنه». قال المفسرون: إنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل والمسلمون من خارج. قلت:
ويحتمل أن يكون بعض التخريب لسدّ أفواه الازقة بالخشب والحجارة أو لنقل ما أرادوا حمله من جيد الخشب والساج. وأما المؤمنون فداعيهم إلى ذلك إزالة تحصنهم أو أن يتسع لهم في الحرب مجال، ومعنى تخريبهم بأيدي المؤمنين أنهم كانوا السبب فيه وأنهم عرضوا المؤمنين لذلك. ثم أمر أهل الابصار الباطنة بالاعتبار وهو العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ومنه العبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد، والتعبير لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول، والعبارة لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى فهم المستمع، والسعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، أو القائس يعبر عن المقيس عليه إلى المقيس. ومعنى الاعتبار في الآية أنهم اعتمدوا على حصونهم وعدّتهم فأمر الله تعالى أرباب العقول بأن ينظروا في حالهم ولا يعتمدوا على شيء غير الله، أو المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الكفر والغدر والطعن في النبوّة فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر والكفر في البلاء والجلاء. واعترض بأن رب شخص وكفر وما عذب في الدنيا، ورب
282
ممتحن مبتلى هو نبي أو ولي. وأجيب بأن حاصل القياس والاعتبار يرجع إلى أن الغادر الكافر معذب أعم من أن يكون بالتخريب أو بالقتل أو في الدنيا أو في الآخرة والعكس لا يلزم. وقيل: معنى الاعتبار أن رسول الله ﷺ وعدهم أن يورثهم أرضهم وأموالهم بغير قتال فكان كما وقع فدل على صحة نبوّته. والجلاء أن لم يبق لهم بالمدينة دار ولا فيها منهم ديار وهذا عندهم أشدّ من الموت فلهذا قال وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بعد ما عاينوا في الدنيا عَذابُ النَّارِ ذلِكَ التخريب أو الجلاء أو العذاب بسبب مخالفتهم وعصيانهم الله ورسوله. قالت الفقهاء: فيه دليل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها فليس أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب.
يروى أنه ﷺ حين أمر أن يقطع نخلهم ويحرق قالوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء فأنزل الله تعالى ما قَطَعْتُمْ
محله نصب ومِنْ لِينَةٍ بيان له كأنه قيل: أي شيء قطعتم من لينة وهي النخلة من الألوان ما خلا العجوة والبرنية وهما أجود النخل. وياؤها واو في الأصل كالديمة. وقيل: هي النخلة الكريمة من اللين فتكون الياء أصلية، فبين الله تعالى أن ذلك جائز غيظا لقلوب الكفرة. واحتج الفقهاء بها على جواز هدم حصون الكفار وقلع أشجارهم. وعن ابن مسعود: قطعوا منها ما كان موضعا للقتال.
وروي أن رجلين كان يقطع أحدهما العجوة والآخر يترك فسألهما رسول الله ﷺ فقال هذا: تركتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال هذا: قطعتها غيظا للكفار.
وقد يستدل بهذا على جواز الاجتهاد ولو بحضرة النبي ﷺ وعلى أن كل مجتهد مصيب.
قوله وَما أَفاءَ اللَّهُ أدخل العاطف هاهنا دون الأخرى لأن تلك بيان لهذه فهي غير أجنبية عنها والأولى معطوفة على ما قبلها. ومعنى أفاء جعله فيئا من فاء إذا رجع وذلك لرجوعه من ملك الكفار إلى ملك المسلمين. والإيجاف من الوجيف وهو السير السريع.
وقوله عَلَيْهِ أي على ما أفاء. والركاب ما يركب من الإبل واحدتها راحلة ولا واحد لها من لفظها، وقلما تطلق العرب الراكب إلا على راكب البعير، بين الله سبحانه الفرق بين الغنيمة والفيء حين طلب الصحابة أن يقسم أموال أولئك اليهود بينهم اعترض بعضهم بأن أموال بني النضير أخذت بعد القتال لأنهم حوصروا أياما وقاتلوا وقتلوا ثم صالحوا على الجلاء فوجب أن تكون تلك الأموال من الغنيمة لا من الفيء. وأجاب المفسرون من وجهين: الأول أنها لم تنزل في بني النضير وإنما نزلت في فدك ولهذا كان رسول الله ﷺ ينفق على نفسه وعلى عياله من غلة فدك ويجعل الباقي في السلاح والكراع. الثاني تسليم
283
أنها نزلت فيهم ولكن لم يكن للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة، وإنما كانوا على ميلين من المدينة فمشوا على أرجلهم ولم يركب إلا رسول الله ﷺ وكان راكب جمل، فلما كانت المعاملة قليلة ولم يكن خيل ولا ركاب أجراه الله مجرى ما لم يكن قتال ثمة. ثم
روي أنه قسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهو أبو دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن أبرهة
قال الواحدي: كان الفيء مقسوما في زمان رسول الله ﷺ خمسة أسهم: أربعة منها لرسول الله ﷺ خاصة وكذا خمس الباقي، والأسهم الأربعة من هذا الباقي لذي القربى ولد بني هاشم والمطلب، واليتامى والمساكين وابن السبيل. وأما بعد الرسول فللشافعي فيه قولان:
أحدهما أنه للمجاهدين المترصدين للقتال في الثغور لأنهم قاموا مقام رسول الله ﷺ في رباط الثغور. والثاني أنه يصرف إلى مصالح المسلمين من سدّ الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر الأهم فالأهم. هذا في الأربعة الأخماس التي كانت له، وأما السهم الذي كان له من خمس الفيء فإنه لمصالح المسلمين بلا خلاف وقد مر سائر ما يتعلق بقسمة الغنائم في سورة الأنفال. ثم بين الغرض من قسمة الفيء على الوجه المذكور فقال كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً قال المبرد: هي اسم للشيء الذي يتداوله الناس بينهم يكون لهذا مرة ولهذا مرة كالغرفة اسم لما يغرف. والدولة بالفتح انتقال حال سارة إلى قوم عن قوم. قال جار الله: هي بالضم ما يدول للانسان أي يدور من الجد يقال دالت له الدولة. فعلى قول المبرد معناه كيلا يكون الفيء شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه فلا يصيب الفقراء، وعلى قول جار الله: كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء جدا بين الأغنياء يتكاثرون به، أو لكيلا يكون الفيء دولة جاهلية كان الرؤساء منهم يستأثرون بالغنائم لأنهم أهل الرياسة والجد والغلبة وكانوا يقولون من عزبر ومنه قول الحسن «اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا» يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به. ومن قرأ على «كان» التامة فالمعنى كيلا يقع شيء متعاورا بينهم غير مخرج إلى الفقراء، أو كيلا تقع دولة جاهلية أي ينقطع أثرها. قوله وَما آتاكُمُ الآية.
قيل: يختص بأنه يقسم الغنائم وأن على المؤمنين أن يرضوا بما يعطيهم الرسول ﷺ منها، والأولى عند المحققين العموم. قوله لِلْفُقَراءِ بدل من قوله وَلِذِي الْقُرْبى إلى آخر الأصناف الأربعة. ولا يجوز أيضا أن يكون ابتداء البدل من قوله فَلِلَّهِ لأنه يخل بتعظيم الله على ظاهر اللفظ وإن كان المعنى للرسول صلى الله عليه وسلم. ولا يجوز أيضا أن يكون الابتداء من قولهم وَلِلرَّسُولِ لأنه تعالى أخرجه عن الفقراء بقوله وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ولترفع منصبه عن التسمية بالفقير. ولئن صح أنه صلى الله عليه وسلم
قال «الفقر فخري»
فذاك معنى آخر وهو غنى
284
القلب وانقطاع التعلق عما سوى الله وجعل الهموم هما واحدا وهو الافتقار بالكلية إلى الله.
استدل بعض العلماء بقوله أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ على إمامة أبي بكر لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يقولون له يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلو لم تكن خلافته حقة لزم كذبهم وهو خلاف الآية. وقال في الكشاف: أراد صدقهم في إيمانهم وجهادهم. قوله وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ معطوف على المهاجرين وكذا قوله وَالَّذِينَ جاؤُ وذلك عند من يجعل الغنائم حلا للمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان أو التابعين لهم إلى يوم القيامة وعلى هذا يكون قوله يُحِبُّونَ ويَقُولُونَ حالين أي الغنائم لهم محبين قائلين. ومن جعل المراد بيان غنائم بني النضير وقف على هُمُ الصَّادِقُونَ والْمُفْلِحُونَ وجعل الفعلين خبرين.
وعلى هذا يكون الآيتان ثناء على الأنصار على الإيثار، وللتابعين على الدعاء. قال مقاتل: أثنى على الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء إذ جعل للمهاجرين دونهم. وهاهنا سؤالان أحدهما: أنه لا يقال تبوؤا الإيمان. الثاني بتقدير التسليم أن الأنصار ما تبوؤا الإيمان قبل المهاجرين. والجواب عن الأول أن المراد تبوؤا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله:
«علفتها تبنا وماء باردا» أو هو مجاز من تمكنهم واستقامتهم على الإيمان كأنهم جعلوه مستقرا لهم كالمدينة أو هو مجاز بالنقصان. والمعنى تبوّؤا دار الهجرة ودار الإيمان فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه وحذف المضاف من الثاني، أو سمى المدينة بالإيمان لأنها مكان ظهور الإيمان وهذا يؤل بالحقيقة إلى الوجه الذي تقدمه. وعن الثاني أن المراد من قبل هجرتهم أو هو من تمام تبوء الدار، ولا شك أن الأنصار سبقوهم في ذلك وإن لم يسبقوهم في الإيمان وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً أي حسدا وغيظا مما أوتى المهاجرون من الفيء وغيره. وإطلاق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة من إطلاق اسم اللازم على الملزوم لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة. وقال جار الله: المحتاج إليه يسمى حاجة يعني أن نفوسهم لم تتبع ما أعطوا ولم تطمح إلى شيء منه يحتاج إليه وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي خلة فهي من خصاص البيت أي فرجه، وكل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع فهي خصاص الواحد خصاصة. ومفعول يُؤْثِرُونَ محذوف أي يؤثرونهم ويخصونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.
عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لكم من الفيء كما قسمت لهم، وإن شئتم كان لهم القسم ولكم دياركم وأموالكم. فقالوا: لا بل نقسهم لهم من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالقسمة ولا نشاركهم فيها فنزلت.
والشح المنع الذاتي الذي تقتضيه الحالة النفسانية ولهذا أضيف إلى النفس، والبخل المنع المطلق من غير اعتبار صيرورته غريزة
285
وملكة. قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئا نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئا أمره الله بإعطائه فقد وقي شح نفسه. وذكر المفسرون أنواعا من إيثار الأنصار الضيف بالطعام وتعللهم عنه حتى شبع الضيف. والظاهر أنها نزلت في الفيء كما مر ويدخل فيه غيره. قوله وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي هاجروا بعد المهاجرين الأوّلين. وقيل: هم التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، فتشمل الآيات الثلاث جميع المؤمنين. ثم عجب من أحوال أهل النفاق من أهل المدينة كعبد الله بن أبيّ وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن زيد، كانوا في الظاهر من الأنصار ولكنهم يوالون اليهود في السر فصاروا إخوانهم في الكفر وقالوا لهم لا نطيع في قتالكم أو خذلانكم أحدا. ثم شهد إجمالا عليهم بأنهم كاذبون، ثم فصل ذلك قائلا لَئِنْ أُخْرِجُوا إلى قوله وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ وهذا على سبيل الفرض لأنه تعالى كما يعلم ما يكون فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون. والمعنى لو فرض نصر المنافقين اليهود ليهزمن المنافقون ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بعد ذلك أي لا يمنعهم من عذاب الله مانع لظهور كفرهم. وقيل: ليهزمن اليهود ثم لا تنفعهم نصرة المنافقين. وعلى هذا يكون «ثم» لترتيب الأخبار كقوله ثُمَّ اهْتَدى [طه: ٨٢] ثم بيّن الحكمة في الغزو فقال لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً قال في الكشاف: أي مرهوبية هي مصدر رهب المبني للمفعول. وقوله فِي صُدُورِهِمْ دلالة على نفاقهم يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله خوفا شديدا ورهبتهم في السر منكم أشد من ذلك لأنهم لا يفقهون عظمة الله فلا يخشونه حق خشيته. وجوز أن يكون المراد أن اليهود يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله وكانوا يتشجعون للمسلمين مع إضمار الخيفة في صدورهم. قلت: الأظهر أن المراد أنتم فيه أكثر مكانة من مواعظ الله أو لثمرة جهادكم معهم أوفر من ثمرة ترهبهم بعقاب الله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ من سر التكاليف وتبعة الكفر والنفاق في الآخرة فلا يرتدعون إلا خوفا من العقوبة العاجلة. ومن هذا أخذ عمر فقال: ما يزع السلطان أي يمنع أكثر مما يزع القرآن. وقال الشاعر:
السيف أصدق إنباء من الكتب وقيل: العبد لا يردعه إلا العصا. ثم شجع المسلمين بقوله لا يُقاتِلُونَكُمْ أي لا يقدرون على قتالكم مجتمعين إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ غاية التحصين أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ لا مبارزين مكشوفين في الأراضي المستوية بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ لا بينكم لأنكم منصورون بنصرة الله مؤيدون بتأييده، أو لأنهم يحسبون في أنفسهم وفيما بينهم أمورا يعلم الله أنها لا تقع في الخارج على وفق حسبانهم وعن ابن عباس: معناه بعضهم لبعض عدوّ يؤيده قوله تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً مجتمعين ذوي تآلف ومحبة وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى متفرقة وهو فعلى من
286
الشت. وإنما قال هاهنا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ وفي الأوّل لا يَفْقَهُونَ لأن الفقه معرفة ظاهر الشيء وغامضه فنفي عنهم ذلك كما قلنا، وأراد هاهنا أنهم لو عقلوا لاجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا فتشتتهم دليل عدم عقلهم لأن العقل يحكم بأن الاجتماع معين على المطلوب والتفرق يوهن القوى ولا سيما إذا كانوا مبطلين. ثم شبه حالهم بحال من قتلوا قبلهم ببدر في زمان قريب. قال جار الله: انتصب قَرِيباً بمحذوف أي كوجود مثل أهل بدر قريبا. قلت: لا يبعد أن يتعلق بصلة الذين. ثم ضرب مثلا آخر لإغراء المنافقين اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر، والمراد إما عموم دعوة الشيطان للإنسان إلى الكفر وإما خصوص إغراء إبليس قريشا يوم بدر كما مر في الأنفال في قوله سبحانه وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ إلى قوله إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ [الأنفال: ٤٨] قال مقاتل: وكان عاقبة اليهود والمنافقين مثل عاقبة الشيطان والإنسان حتى صار إلى النار. قال جار الله: كرر الأمر بالتقوى تأكيدا أو لأن الأول في أداء الواجبات لأنه قرن بما هو عمل والثاني في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد. وسمى القيامة بالغد تقريبا لمجيئها. عن الحسن: لم يزل بقربه حتى جعله كالغد. وقيل: جعل مجموع زمان الدنيا كنهار عند الآخرة. قال أهل المعاني: تنكير نَفْسٌ للتقليل كما مر في الوقوف وتنكير لِغَدٍ للتعظيم والتهويل. قال مقاتل: ونسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم حتى لم يشعروا لها بما ينفعها، أو فأراهم يوم القيامة من الأحوال ما نسوا فيه أنفسهم. قلت: يجوز أن يراد نسوا ذكر الله فأورثهم القسوة وفساد الاستعداد بالكلية. وحين نهى المؤمنين عن كونهم مثل الناسين الغافلين ذكرهم بأنه لا استواء بين الفريقين ففيه شبه قرع العصا كأنهم غفلوا عن هذا الواضح البين كما تقول لمن يعصي أباه «هو أبوك». استدل أصحاب الشافعي بالآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي وإلا استويا، وأن الكافر لا يملك مال المسلم بالقهر وإلا استويا.
واحتج بعض المعتزلة بها على أن صاحب الكبيرة لو دخل الجنة وهو من أهل النار لزم خلاف الآية. والجواب ظاهر لأنه على تقدير إمكان العفو لا يحكم أنه من أهل النار. ثم عظم أمر القرآن الذي يعلم منه هذا البيان. قال الكشاف: هو مثل وتخييل بدليل قوله وَتِلْكَ الْأَمْثالُ يعني هذا وغيره من أمثال التنزيل. وقال غيره: المعنى إشارة إلى قوله كَمَثَلِ الَّذِينَ كَمَثَلِ الشَّيْطانِ ولما وصف القرآن بما وصف عظم شأنه بوجه آخر وهو التنبيه على أوصاف منزله، وقد سبق شرح أكثر هذه الأسماء في هذا الكتاب ولا سيما في البسملة. والقدّوس مبالغة القدس وهو التبليغ في الطهارة والبراءة عما يشين وهذا بالنسبة إلى زمان الماضي والحال. والسلام إشارة إلى كونه سالما عن الآفات والعاهات والنقائص في زمان الاستقبال، ويجوز أن يراد أنه المعطي للسلامة. المؤمن الواهب الأمن والمصدق
287
لأنبيائه بالمعجزات. وقد مر معنى المهيمن وأصل اشتقاقه في المائدة في قوله وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الآية: ٤٨] وأن معناه الرقيب الحافظ لكل شيء. ولمكان تعداد هذه الأوصاف كرر قوله يُسَبِّحُ لَهُ إلى آخر السورة. فمن عزته كان منزها عن النقائص أهلا للتسبيح، ومن حكمته أمر المكلفين في السموات والأرضين بأن يسبحوا له ليربحوا لا ليربح هو عليهم وهو تعالى أعلم بمراده وبالله التوفيق للخير وإليه المآب.
288
Icon