تفسير سورة سورة القيامة من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
.
لمؤلفه
أبو بكر الحداد اليمني
.
المتوفي سنة 800 هـ
ﰡ
﴿ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ ؛ معناهُ : أُقسِمُ بيومِ القيامةِ، و(لاَ) صلةٌ. وقال الفرَّاء :( ﴿ لاَ ﴾ رَدٌّ عَلَى الَّذِينَ أنْكَرُوا الْبَعْثَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ)) ويدلُّ على معنى إثباتِ القَسمِ، قراءةُ الحسنِ والأعرج بغيرِ ألفٍ، وتقديرهُ على هذه القراءة : لأُقْسِمَنَّ فحُذفت النون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ ؛ يعني بجميعِ أنفُسِ الخلائقِ ؛ لأنه ليس من نَفْسٍِ بارَّةٍ ولا فاجرةٍ إلاَّ وهي تلومُ نفسَها، قال ﷺ :" لَيْسَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أحَدٌ إلاَّ وَيَلُومُ نَفْسَهُ، إنْ كَانَ مُحْسِناً قَالَ : يَا لَيْتَنِي أزْدَدْتُ، وَإنْ كَانَ مُسِيئاً قَالَ : يَا لَيْتَنِي لَمْ أفْعَلْ " ومعنى :﴿ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ : الملومة، وَقِيْلَ : إنَّما سُميت النفسُ لَوَّامَّةً ؛ لأنَّها كثيرةُ اللَّومِ لا صبرَ لها على مِحَنِ الدُّنيا وشدائدِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾ ؛ يعني الكافرَ بالبعثِ ؛ يقولُ : أيَظُنُّ الكافرُ أنْ لن نجمعَ عظامَهُ بعد التفرُّق، ولن نبعثَهُ في الآخرةِ، ﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ ؛ بلى بجمعِها قادرين على تسويةِ بَنَانِهِ، قال ابنُ عبَّاس :((الْمُرَادُ بهِ أبُو جَهْلٍ، يَقُولُ اللهُ لَهُ : أتَحْسَبُ أنْ لَنْ نَبْعَثَكَ)) ﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ ؛ على ما كانَتْ وإنْ قلَّ عِظَامُها وصَغُرَت فَنردُّها، ونؤَلِّفُ بينها حتى نُسَوِّيَ البَنَانَ، ومَن قدرَ على جمعِ صغار العظام كان على جمعِ كِبارها أقدرَ.
وَقِيْلَ : معناهُ : قادرين على أنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ وأناملَهُ، ونجعلَ أصابعَ يديه ورجليهِ شيئاً واحداً كخُفِّ البعيرِ أو ككَفِّ الخنْزِير وكحافرِ الحميرِ، فلا يمكنهُ أن يفعلَ بها شيئاً، ولكن مَنَنَّا عليه ففرَّقنا أصابعَهُ حتى يأخُذ بها ما شاءُ، ويقبضَ إذا شاءَ ويبسطَ إذا شاءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴾ ؛ أي بل يريدُ الكافر أن يكذِّبَ بما قُدَّامَهُ من البعثِ، ويقدِّمَ الذنبَ ويؤخِّرَ التوبةَ ويكفُرَ أبداً ما عاشَ، قال ابنُ الأنباريِّ :((مَعْنَاهُ : مُدَّةَ عُمُرِهِ وَلَيْسَ فِي نِيَّتِهِ أنْ يَتُوبَ)). والمعنى : ما يجهلُ ابن آدم أنَّ ربَّهُ قادرٌ على جمعِ عِظَامهِ بعدَ الموتِ، ولكنَّهُ يريدُ أن يَفجُرَ أمَامَهُ ؛ أي بمعنى قُدَّاماً قُدَّاماً في معاصِي الله، رَاكباً رأسَهُ لا يُقلِعُ ولا يتوبُ حتى يأتيَهُ الموتُ على أشرِّ أحوالهِ وأسْوَءِ أعمالهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ﴾ ؛ أي يسألُ متَى يومُ القيامةِ تَكذيباً به، ويقالُ في معنى ﴿ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴾ أن يعزمَ على الفُجور في مستقبلِ عُمره في أوقاتٍ لعلَّهُ لا يعيشُ فيها، ولا يبلغُ إليها، وأصلُ الفُجُور : الميلُ عن القصدِ، يقال للكافرِ : فاجرٌ، وللمكذِّب بالحقِّ : فاجرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ﴾ ؛ معناهُ : إذا حارَ البصرُ وفَزِعَ، وذلك عند رُؤية جهنَّم، وهذا جوابٌ لقولهِ تعالى﴿ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ﴾[القيامة : ٦] فيقول الله تعالى :﴿ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ﴾ قرأ نافع بفتحِ الراء من البَرِيقِ، أي يشخَصُ البصرُ إلى ما يتوقَّع من أهوال يوم القيامة، كنظرِ الْمُحتَضِرِ عند نظرهِ إلى الملائكةِ. قوله :﴿ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ﴾ ؛ أي وذهبَ ضوءُ القمرِ، والْخُسُوفُ ذهابُ الضَّوءِ، ﴿ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾ ؛ أي جُمعا في ذهاب نُورهما كالنُّورَين القريبَين، يعني كُوِّرَا يومَ القيامةِ. وَقِيلَ : إنَّهما يُرمى بهما في النار، خُلِقا من النار ثم يَعودان فيها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ﴾ ؛ معناهُ : يقولُ الكافر المكذِّبُ بيومِ القيامة : أين المفَرُّ وأين المهرَبُ من الأهوالِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ كَلاَّ لاَ وَزَرَ ﴾ ؛ أي حَقّاً لا موضعَ يَلِجُ إليه ولا حِصْنَ ولا حِرْزَ. والوَزَرُ في اللغة : كلُّ ما تحصَّنْتَ بهِ، والتجأتَ إليهِ، ومنه الوَزيرُ ؛ لأنَّ الناسَ يلتجِئون إليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴾ ؛ أي الْمُنتَهَى والمرجِعُ والمصيرُ : وَقِيْلَ : المستقَرُّ موضعُ الحساب. وَقِيْلَ : يعني أنَّ مُستقرَّ المؤمنين الجنَّة، ومستقرَّ الكافرين النارُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ ؛ أي بما قدَّمَ من طاعةِ الله، وما أخَّر من طاعةِ الله فلم يعمَلْ به، وَقِيْلَ : معناهُ : يُنَبَّؤُ الإنسانُ بأوَّل عمَلهِ وآخرهِ. وَقِيْلَ : بما قدَّم من أموالهِ، وما خلََّفَ للورَثةِ. وَقِيْلَ : بما عَمِلَ في أوَّل عُمره، وما عَمِلَ في آخرِ عُمره.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾ ؛ يعني أنَّ جَوارحَهُ تشهدُ عليه بما عَمِلَ، فهو شاهدٌ على نفسهِ بشَهادة جوارحهِ، والمعنى : على الإنسانِ رُقَبَاءُ يَشهَدُونَ عليه بعملهِ وإنْ أرخَى سُتُورَهُ وأغلقَ أبوابَهُ، يعني بالرُّقباء سَمْعَهُ وبصرَهُ وذكرَهُ ويديهِ ورجليهِ وجميع جوارحه. ودخولُ الهاء في بصيرةِ لأن المرادَ بالإنسانِ ها هنا الجوارحُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ ؛ أي ولو اعتذرَ وجادلَ عن نفسهِ لم ينفعْهُ ذلك، وإنِ اعتذرَ فعليه مَن يُكذِّبُ عُذرَهُ. وَقِيْلَ : المعاذيرُ جمع الْمِعْذار وهو السَّترُ، معناه : وإن أسْبَلَ السَّترَ ؛ ليَختفي بما عَمِلَ، فإنَّ نفسَهُ شاهدةٌ عليه.
وقولهُ تعالى :﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ ﴾ ؛ خطابٌ للنبيِّ ﷺ يقول : لا تحرِّكْ بالقرآنِ لسَانَكَ، ﴿ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾ ؛ بقراءتهِ قبلَ أن يفرُغَ جبريلُ من قراءتهِ عليك، وذلك أنَّ النَّبيَّ ﷺ كَانَ إذا نَزَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْوَحِيِ لَمْ يَفْرُغْ جِبْرِيلُ مِنْ آخِرِهِ حَتَّى تَلاَهُ النَّبيُّ ﷺ مَخَافَةَ أنْ يَنْفَلِتَ مِنْهُ، فَأَعْلَمَهُ اللهُ بقَوْلِهِ :﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ ؛ أي إنَّ علينا حفظَهُ في قلبكَ، وتأْلِيفَهُ على ما يأمرهُ الله به، وأعلَمهُ بأنه لا يُنسِيه إيَّاهُ، كما قال تعالى﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ﴾[الأعلى : ٦] فلم ينسَ النبيُّ ﷺ شَيئاً حتى ماتَ.
وعن ابنِ عبِّاس في معنى هذه الآيةِ قال :((كَانَ النَّبيُّ ﷺ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شَدَّةً، كَانَ إذا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ قَبْلَ فَرَاغِ جِبْرِيلَ مِنْ قِرَاءَةِ الْوَحْيِ مَخَافَةَ أنْ لاَ يَحْفَظَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ الآيَةَ :﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾ ). ومثلُهُ قوله﴿ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾[طه : ١١٤]. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ﴾ في صَدركَ ﴿ وَقُرْآنَهُ ﴾ أي إنَّ جبريل يَقرؤُه عليكَ حتى تَحفظََهُ.
وقولهُ تعالى :﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ ؛ أي فإذا قرأهُ جبريلُ بأَمرِنا وفرغَ منه، فاقرَأهُ أنتَ إذا فرغَ جبريلُ من قراءتهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : فإذا جَمعناهُ، وألقيناهُ فاتَّبع ما فيه من الحلالِ والحرامِ والأمر والنهي. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ ؛ أي بيانُ ما أشكَلَ عليك من معانيهِ، وبيانُ مُجمَلاتهِ مثلَ أركانِ الصَّلاة وشُروطِها ونِصَاب الزكاة ومقاديرِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ﴾ ؛ معناهُ : كلاَّ لا يُؤمِنُ أبو جهلٍ وأصحابهُ بالقرآنِ وببيانه بل يحبُّون العاجلةَ، يعني كفَّارَ مكَّة يحبُّون الدنيا ويعمَلون لها، ﴿ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ﴾ ؛ ويذرُون العملَ للآخرةِ، فيُؤثِرُون الدُّنيا عليها، وقرأ نافعُ والكوفيون (تُحِبُّونَ) و(تَذرُونَ) بالتاء ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ :﴿ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴾ ؛ معناهُ : وجوهٌ يومَ القيامةِ نَاعِمَةٌ غضَّة حسَنة مضيئةٌ مُسفِرَةٌ مشرقةٌ بنعيمِ الجنَّة، وهي وجوهُ المؤمنين كما قال تعالى﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ﴾[المطففين : ٢٤] وقولهُ تعالى :﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ ؛ قال الكلبيُّ :((تَنْظُرُ إلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَئِذٍ لاَ تُحْجَبُ عَنْهُ))، قال مقاتلُ :((تَنْظُرُ إلَى رَبهَا مُعَايَنَةً)).
قال ﷺ :" إذا دَخَلَ أهْلُ الْجَنَّةِ يَقُولُ تَعَالَى : أتُرِيدُونَ شَيْئاً أزيدُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : ألَمْ تُنَضِّرْ وُجُوهَنَا ؟ ألَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ ؟ ألَمْ تُنْجِنَا مِنَ النَّار ؟ قالَ : فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئاً أحَبَّ إلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِم، يَنْظُرُونَ إلَى اللهِ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ بلاَ كَيْفٍ وَلاَ تَحْدِيدٍ، كَمَا عَرَفَتْهُ الْقُلُوبُ بلاَ كَيْفٍ وَلاَ تَشْبيهٍ ".
وعن عبدِالله بن عمرَ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" إنَّ أدْنَى أهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً أنْ يَنْظُرَ فِي مُلْكِهِ ألْفَ سَنَةٍ يَرَى أقْصَاهُ كَمَا يَرَى أدْنَاهُ، وَيَنْظُرَ فِي سُرُرهِ وَأزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ، وَإنَّ أفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ إلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلَّ يَوْمٍ نَظْرَتَيْنِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴾ ؛ أي كَالِحَةٌ عابسَةٌ كاشرة مُسودَّةٌ، وهي وجوهُ الكفَّار، ﴿ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴾ ؛ أي تَستَيقِنُ أن يُفعلَ بها داهيةٌ من العذاب، والفَاقِرَةُ : الداهيةُ العظيمة والأمرُ الشديد الذي يَكسِرُ فِقَارَ الظَّهرِ، قال ابنُ زيدٍ ((هِيَ دُخُولُ النَّار)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴾ ؛ هذا ذكرُ حالِ من يَحضرهُ الموتُ ليَرتَدِعَ الناسُ عمَّا يؤدِّيهم إلى العذاب، والمعنى : إذا بلَغَتِ الرُّوحُ التُّرْقُوَةَ، ويقولُ مَن يحضرُ الميِّتَ من أهلهِ : هل مِن رَاقٍ يُرَقِّيهِ وطبيبٍ يُداويهِ، يطلُبون الأطباءَ ؛ ليَكشِفُوا عنه إما بالرُّقَى، أو بالعلاجِ. وقال بعضُهم : هذا من قولِ الملائكةِ ؛ لأنَّ النَّفْسَ عندما تُقبض يحضرُها سبعةٌ أملاكٍ من ملائكةِ الرَّحمة، وسبعةُ أملاكٍ من ملائكةِ العذاب أعوانٌ لِمَلَكِ الموتِ، ينظرُ بعضُهم إلى بعضٍ أيُّهم يَرْقَى بروحهِ.
والتَّرَاقِي : جمعُ تُرْقُوَةٍ ؛ وهي عظمُ وصلٍ بين ثَغرَةِ النَّحرِ والعَاتِقِ، وهما تُرقوتَان عن يمينِ ثَغرَةِ النَّحرِ وعن شِمالها كالْحَوْضَين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ﴾ ؛ أي تَيَقَّنَ عند ذلك المريضُ الذي بلَغت روحهُ تَرَاقِيَهُ أنه الفراقُ من الدُّنيا، ومفارقةُ المالِ والأهل والولدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ﴾ ؛ أي اجتمعَتْ عليه الشدائدُ والتقَى عليه أمرُ الدنيا والآخرةِ، وهو في شدَّة كرب الموت وهَوْلِ المطلعِ وآخر شدائدِ الدُّنيا مع أوَّل شدةِ الآخرة.
وقال الضحَّاك :((النَّاسُ يُجَهِّزُونَ بَدَنَهُ، وَالْمَلاَئِكَةُ يُجَهِّزُونَ رُوحَهُ)). وقال الحسنُ :((مَعْنَاهُ : وَالْتَفَّتْ سَاقَاهُ فِي الْكَفَنِ يُلَفُّ أحَدُهُمَا إلَى الآخَرِ)). وقال قتادةُ :((مَاتَتْ سَاقَاهُ فََلَمْ تَحْمِلاَهُ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمَا جَوَّالاً)). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾ ؛ أي إليه المرجعُ والمنتهَى في الآخرةِ إلى حيث يأمرُ اللهُ، إما إلى عِلِّيِّينَ وإمَّا إلى سِجِّين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى ﴾ ؛ يعني أبَا جهلٍ يقولُ اللهُ فيه : لَمْ يصدِّقْ بالقرآنِ، ولم يُصَلِّ للهِ، ﴿ وَلَـاكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ ؛ أي كذبَ بالقرآنِ وتوَلَّى عن الإيمانِ به، ويدخلُ في هذا كلُّ كافرٍ مثله، ﴿ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ﴾ ؛ أي رجعَ إلى أهلهِ بتبَختَرُ في المشي ويختالُ فيه، وأصلهُ : يَتَمَطَّطُ أي يتمَدَّدُ، والْمَطُّ هو الْمَدُّ، وتَمَطَّى الإنسانُ إذا قامَ من منامهِ يَمْتَدُّ، والْمَطِيُّ هو الظهرُ، وتَمَطَّى إذا مَدَّ مَطَاهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾ ؛ هذا وعيدٌ عَلى وعيدٍ من الله لأبي جهلٍ، وهذه كلمةٌ موضوعة للتهديدِ والوعيد، والمعنى كأنَّهُ يقولُ لأبي جهلٍ : الويلُ لكَ يومَ تَموتُ، والويلُ لكَ يومَ تُبعَثُ، والويلُ لكَ يومَ تدخلُ النارَ، وَقِيْلَ : المعنى أوْلاَكَ المكروهُ يا أبَا جهلٍ وقَرُبَ منك ما تكرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴾ ؛ معناهُ : أيَظُنُّ الكافرُ أن يُترَكَ مُهمَلاً لا يؤمَرُ ولا يُنهَى ولا يُوعَظُ ولا يُتلَى ولا يحاسَبُ بعملهِ في الآخرة، والسُّدَى : الْمُهْمَلُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ﴾ ؛ معناهُ : ألَمْ يَكُ هذا الإنسانُ في ابتداءِ خَلقهِ نُطفَةً من مَنِيٍّ تَصَبُّ في الرَّحمِ، ـ قُرئ (تُمْنَى) يعني النطفةَ، ورُوي (يُمْنَى) بمعنى المنِيِّ. قوله :﴿ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً ﴾ ؛ ثم صارَ دَماً مُنعقداً بعدَ النُّطفة، ﴿ فَخَلَقَ فَسَوَّى ﴾ ؛ فخلَقَهُ وسوَّاهُ باليدينِ والرِّجلين والعينينِ والأُذنين إلى أن بلَّغَهُ هذا الحدَّ الذي شاهد، وخَلَقَ منه الروح.
قولهُ :﴿ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ﴾ ؛ أي خَلَقَ من هذه النطفة أولاداً ذُكوراً وإناثاً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِـيَ الْمَوْتَى ﴾ ؛ معناهُ : أليس الَّذي خلقَ الإنسانَ مِن المنِيِّ، ونَقَلَهُ من تلك الأحوالِ إلى هذه الحالةِ قادرٌ على أن يُحييَ الموتَى. والمعنى : مَن قَدَرَ على الابتداءِ، كان على البعثِ أقدرَ بعدَ الموتِ، دلَّهم اللهُ تعالى على البعثِ بابتداء الخلقِ.
وعن رسولِ اللهِ ﷺ " أنَّهُ كَانَ إذا خَتَمَ هَذِهِ السُّورَة قَالَ :" سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبَلَى " وعن ابنِ عبَّاس رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ :((إذا قَرَأ أحَدُكُمْ ﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِـيَ الْمَوْتَى ﴾ فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ بَلَى)).