ﰡ
(وهي مكية حروفها ثلاثمائة واثنان وخمسون كلماتها مائة وتسع وتسعون آياتها أربعون)
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١ الى ٤٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩)
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩)
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤)
ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩)
أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)
القراآت:
روى الهاشمي وابن ربيعة عن قنبل لأقسم على أن اللام حرف الابتداء أي لأنا أقسم ولا خلاف في قوله وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ برق بفتح الراء: أبو جعفر ونافع. الآخرون: بكسرها تُحِبُّونَ وتَذَرُونَ على الخطاب أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف وَلا صَلَّى إلى اخر السورة بالإمالة اللطيفة: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة الشديدة. يُمْنى على التذكير: حفص والمفضل وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ورويس. الباقون: بتاء التأنيث.
الوقوف:
الْقِيامَةِ هـ لا اللَّوَّامَةِ هـ عِظامَهُ هـ ط لاستئناف الجواب أي بلى نجمعها بَنانَهُ هـ أَمامَهُ هـ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف الْقِيامَةِ هـ ج الْبَصَرُ هـ لا الْقَمَرُ هـ ك الْمَفَرُّ هـ ك لأن كلا يصلح للردع عن الفرار والأجوز لا
هـ ط الْمُسْتَقَرُّ
هـ ط وَأَخَّرَ
هـ ط بَصِيرَةٌ
هـ لا مَعاذِيرَهُ
هـ لا لِتَعْجَلَ بِهِ
هـ ط وَقُرْآنَهُ
هـ ج لاحتمال أن «ثم» لترتيب الأخبار بَيانَهُ هـ ط الْعاجِلَةَ هـ الْآخِرَةَ هـ ناضِرَةٌ هـ ج ناظِرَةٌ هـ ج للفصل بين أهل السعادة والشقاوة باسِرَةٌ هـ فاقِرَةٌ هـ ط التَّراقِيَ هـ لا راقٍ
هـ ك الْفِراقُ هـ ك بِالسَّاقِ هـ ك الْمَساقُ هـ ك وَلا صَلَّى هـ لا وَتَوَلَّى هـ ك يَتَمَطَّى هـ ط للعدول إلى الخطاب فَأَوْلى هـ لا سُدىً هـ ط يُمْنى هـ فَسَوَّى هـ ك وَالْأُنْثى هـ ط الْمَوْتى هـ
التفسير:
المشهور أن «لا» في لا أُقْسِمُ صلة زائدة كما مر في قوله فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: ٧٥] واعترض عليه بوجوه أحدها: أنه يوجب الطعن في القرآن بحيث أنه لا يبقى الوثوق بنفيه وإثباته قلت: إذا عرف من استعمالات العرب زيادة لا في هذا الفعل المخصوص لم يبق للطاعن مجال على أن الحكم بزيادتها إنما هو بالنظر إلى أصل المعنى وإلا فلها في التركيب معان: الأول كأنها نفي لكلام قبل القسم وذلك أنهم أنكروا البعث كما أخبر الله في آخر السورة المتقدمة فقيل: ليس الأمر على ما ذكرتم ثم أقسم بكذا وكذا إنه لواقع. والثاني أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له فكأنه بإدخال حرف القسم يقول: إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام إنه يستأهل فوق ذلك. الاعتراض الثاني أن هذا الحرف إنما يزاد في وسط الكلام لا في أوّله وأجيب بالمنع، ألا ترى أن أمرأ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته:
فلا وأبيك ابنة العامري | لا يدّعي القوم أني أفرّ |
المعنى على الاستفهام الإنكاري والتقدير: ألا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة على أن الحشر حق. وهذا التأويل يعضده قراءة من قرأ لأقسم على أن اللام للابتداء.
وقال بعضهم: على هذه القراءة إنه أقسم بالقيامة تعظيما لها ولم يقسم بالنفس اللوامة تحقيرا لها لأنها إما كافرة بالقيامة مع عظم أمرها، وإما فاسقة مقصرة في العمل. أما تفسير النفس اللوامة فقد سبق لنا في سورة يوسف في قوله إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [الآية:
٥٣] بيان سبب تسمية النفس تارة بالأمارة وأخرى باللوامة ثم بالملهمة ثم بالمطمئنة. والذي ذكره المفسرون هاهنا وجوه منها ما قال ابن عباس: كل نفس فإنها تلوم نفسها يوم القيامة
وعن الحسن أن هذا اللوم في الدنيا والمؤمن لا تراه إلا لائما نفسه وإن الكافر يمضي على سيرته لا يعاتب نفسه. ومنها أنها النفوس المتقية التي تلوم النفس العاصية يوم القيامة بسبب أنها تركت التقوى. ولا يخفى وجه المناسبة بين القسمين أعني بين القيامة وبين النفس اللوامة على هذه الوجوه. وخص النفس اللوامة بعضهم بآدم عليه السلام وذلك أنه لم يزل يتلوم على فعله الذي خرج به من الجنة. وقيل: أن الإنسان خلق هلوعا فأي شيء طلبه إذا وجده مله فيلوم نفسه على أني لم طلبت فلكثرة هذا العمل سميت باللوامة. والجمهور على أن جواب القسم محذوف وهو لتبعثن دل عليه قوله أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وفي الأقسام بيوم القيامة على وقوع يوم القيامة مزيد تقرير وتأكيد لوقوعه فإن الأقسام بالمعدوم لا يعقل معناه، وفي ضم النفس الوامة إليه تنبيه على أن الغرض من القيامة وهو إظهار أحوال النفس ومراتبها في السعادة وضدها. قال جمع من الأصوليين: الإنسان في الآية هو المكذب بالبعث على الإطلاق وقال ابن عباس: هو أبو جهل.
وقال آخرون: إن عدي بن ربيعة ختن الأخنس بن شريق وهما اللذان كان رسول الله ﷺ يقول فيهما: اللهم اكفني جاري السوء. قال: يا محمد حدثنا عن يوم القيامة كيف أمره فأخبره النبي ﷺ فقال:
لو عانيت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أومن به، أو يجمع الله العظام؟ فأنزل الله سبحانه أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ الآية.
قوله قادِرِينَ حال مؤكدة لانه يستحيل جمع العظام بدون القدرة الكاملة التي نبه عليها بقوله أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ لأن من قدر على ضم سلاميات الأصبع مع صغرها ولطافتها كما كانت، كان على ضم العظام الكبار أقدر، وإنما خص البنان وهو الأنملة بالذكر لأنه آخر ما يتم به خلقه فذكره يدل على تمام الأصبع يدل على تمام سائر الأعضاء التي هي أطرافها. وقيل: معنى التسوية جعلها شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار بحيث لا يقدر على البطش، والمراد أنه قادر على رد العظام والمفاصل إلى هيأتها الأولى وعلى ضد ذلك قوله بَلْ يُرِيدُ إضراب عن قوله والظاهر أنه إيجاب ويجوز أن يكون استفهاما مقدرا. ومعنى لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ليدوم على فجوره في الأوقات التي بين يديه وهي المستقبلة. وهذا فحوى قول سعيد بن جبير يقدم الذنب ويؤخر التوبة حتى يأتيه الموت على شر أحواله. قال أهل النظم: وإن إنكار البعث يتولد تارة من الشبهة بأن يستبعد اجتماع الأجزاء بعد تفرقها وتلاشيها، وأخرى من التهور بأن ينكر المعاد باسترسال الطبع والميل إلى الفجور، فأشار إلى الجواب عن الشبهة بقوله أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ إلى قوله بَنانَهُ وأنكر على الثاني بقوله
وقيل: في ذهاب الضوء. وقيل: يجتمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران كما جاء في الحديث،
ولعل ذلك لأنهما عبدا من دون الله، والثور مثل في الذل والبلادة فإذا كان عقيرا أي جريحا كان أبلغ في ذلك. وقيل: يجمعان ثم يقذفان في البحر فيكون نار الله الكبرى. طعن الملاحدة في الآية بأن خسوف القمر لا يحصل باجتماع الشمس والقمر.
وأجيب بأنه تعالى قادر على خسف القمر في غير حالة المقابلة وحيلولة الأرض. والأولى عندي أن يجاب بأن اجتماعهما بمعنى آخر غير ما هو المعهود بين أهل التنجيم كما مر من الأقوال. ولئن سلمنا أن المراد هو الاجتماع المعهود فالقمر حينئذ في المحاق وهو خسفه، أو لعل القمر خسف في وسط الشهر والاجتماع يكون في آخره فإن اتحاد الزمان في هذه الأمور غير مذكور. ومنهم من جعل هذه الأمور من علامات الموت، أما شخوص البصر تحيره حين الموت فظاهر، وأما خسوف القمر فمعناه ذهاب ضوء البصر بعد الحيرة: يقال:
عين خاسفة إذا فقئت فغارت حدقتها في الرأس. وأما جمع الشمس والقمر فكناية عن اتصال الروح بعالم الآخرة، فالروح كالقمر وعالم الآخرة وهو عالم الأنوار والكشوف كالشمس وكما أن القمر يقبل النور من الشمس فالروح تقبل نور المعارف من ذلك العالم وهذا التفسير بالتأويل أشبه. قال الفراء: إنما قال جُمِعَ ولم يقل «جمعت» مع أن التأنيث أحسن لأن المراد أنه جمع بينهما في زوال النور. وقال الكسائي: المعنى جمع النوران والضياءان. وقال أبو عبيدة: القمر شارك الشمس في الجمع فغلب جانب التذكير يَقُولُ الْإِنْسانُ المنكر للقيامة أَيْنَ الْمَفَرُّ والاستفهام على أصله وهو إقرار منه بأنه لا مفر كما إذا أيس من وجدان زيد فيقول: أين زيد كَلَّا ردع عن طلب مكان الفرار وهذا أصح عند أهل اللغة. قال الأخفش والزجاج: المصدر من يفعل بكسر العين مفتوح العين، وبالكسر المكان. وجوز بعضهم أن يكون المفتوح موضعا. وأصل الوزر المحل المنيع ثم استعمل
خاصة دون غيره يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
أي استقرار العباد ولا بد من تقدير مضاف أي إلى حكم ربك أو إلى جنته أو ناره. يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ
من عمل وَأَخَّرَ
فلم يعلمه، أو بما قدم من ماله وتصدق به وما أخر فخلف أو بما قدم من عمل الخير والشر وما أخر من سنة حسنة أو سيئة. وعن مجاهد بأول عمله وآخره أي بجميع أعماله. والأظهر أن هذا الإنباء إنما هو في يوم القيامة. وجوز أن يكون عند الموت حين رأى مقعده من الجنة والنار. ثم بين أن الإنسان لأعماله بصير وإن لم ينبأ فقال بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
أي حجة بينة. وقال أبو عبيدة: التاء للمبالغة كعلامة. قال الأخفش:
جعله في نفسه بصيرة كما يقال «فلان جود وكرم» وذلك أنه يعلم بالضرورة متى رجع إلى عقله أن طاعة خالقه واجبة وعصيانه منكر فهو حجة على نفسه بعقله السليم. قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل: إن المراد شهادة جوارحه عليه. قوله وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
تأكيد أي ولو جاء بكل معذرة يحاج بها عن نفسه فإنها لا تنفعه لأنه لا يخفى شيئا من أفعاله فإن نفسه وأعضاءه تشهد عليه. قال الواحدي والزمخشري: المعاذير اسم جمع للمعذرة كالمناكير للمنكر، ولو كان جمعا لقيل معاذر بغير ياء. وعن الضحاك والسدي أن المعاذير جمع معذار وهو الستر، والمعنى إنه إن أسبل الستور لن يخفى شيء من عمله قال جار الله:
إن صح هذا النقل فالسبب في التسمية أن الستر يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب. فمدار التركيب على الحجب والمنع ومنه العذران قال الإمام فخر الدين الرازي: زعم قوم من قدماء الشيعة أن هذا القرآن مغير بالزيادة والنقصان، ومن جملة استدلالاتهم أنه لا مناسبة بين هذه الآية وبين قوله عقيبها لا تُحَرِّكْ بِهِ
أي بالقرآن الذي نتلوه عليك لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
أي بأخذه.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي ﷺ كان يشتد عليه حفظ التنزيل فكان إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبرائيل مخافة النسيان فنهاه الله تعالى عن ذلك،
نظيره ما مر في «طه» وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [الآية: ١١٤] وهذا من قبيل ترك الأولى، أو لعل هذا كان مأذونا فيه أولا ثم ورد النهي ناسخا له إِنَّ عَلَيْنا
بحكم الوعد أو بالنظر إلى الحكمة جَمْعَهُ
في صدرك وَقُرْآنَهُ
سيعيده عليك جبرائيل أو توقيفك لدراسته وحفظه لقوله سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: ٦] فالقارىء على الأول جبرائيل، وعلى الثاني محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: أراد بالجمع ترتيبه على ما هو عليه في الخارج وبالقرآن جمعه في ذهنه، والتركيب يدل على الضم ومنه القرء فَإِذا قَرَأْناهُ
بقراءة جبرائيل فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
قال قتادة: أي حلاله وحرامه
قال ابن عباس: فكان النبي ﷺ بعد ذلك إذا نزل عليه جبرائيل أطرق واستمع فإذا ذهب قرأ.
ثم إنه ﷺ كما كان حريصا على القراءة حتى لا ينسى لفظه كان حريصا على فهم المعنى، وكان يسأل جبرائيل في أثناء الوحي عن المعاني المشكلة فنهي عن هذا أيضا بوعد البيان وهو قوله إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ قال بعضهم: وفيه دليل على أن تأخير البيان عن وقت الخطاب جائز. إذا عرفت تفسير الآية فاعلم أن العلماء استنبطوا للنظم وجوها منها: أن هذا الاستعجال لعله اتفق للنبي ﷺ عند نزول هذه الآيات فلا جرم نهي عن ذلك في الوقت كما أن المدرس إذا كان يلقي على تلميذه شيئا من العلم وأخذ التلميذ يلتفت يمينا وشمالا فيقول المدرس في أثناء درسه: لا تلتفت يمينا وشمالا، ثم يعود إلى الدرس مع هذا الكلام في أثنائه اشتبه وجه المناسبة على من لم يعرف الواقعة. ومنها أنه علت كلمته أخبر عن الإنسان أنه يحب السعادة العاجلة فيفجر لذلك أمامه، فبين بين ذلك أن التعجل مذموم مطلقا ولو في أمور الدين فقال لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
ورتب على ذم الاستعجال قوله كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ومنها أنه لما قال وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
وكان النبي ﷺ يظهر التعجيل في القراءة خوف النسيان قيل له: إنك وإن أتيت بهذه المعذرة لكنك يجب أن تعلم أن الحفظ لا يحصل إلا بتوفيق الله وإعانته فاترك هذا التعجيل واعتمد على هدايتنا، ولا تستعن في طلب الحفظ بالتكرار، وفيه أن الكافر كان يفر من الله إلى غيره حين قال أَيْنَ الْمَفَرُّ فعلى المؤمن أن يضاده ويفر من غير الله إلى الله ولا يستعين في كل أموره إلا به. ومنها أنه تعالى كأنه قال: يا محمد إن غرضك من هذا هو التبليغ لكنه لا حاجة إليه فإن الإنسان على نفسه بصيرة يعرف قبح الكفر مهما رجع إلى نفسه. وقال القفال: يجوز أن يكون المخاطب بهذا هو الإنسان المذكور في قوله يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
كأنه حين عرض كتابه يقال له اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: ١٤] فإذا أخذ في القراءة ينبأ بقبح أعماله فيتلجلج لسانه من الفزع ويسرع له القراءة فيقال له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
فإنه يجب علينا بحكم الوعد والحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك، فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالاعتراف والإقرار، ثم أن علينا بيان أمره وشرح مراتب عقوبته. قوله سبحانه. كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ قال بعضهم: هو بمعنى حقا. وقال جار الله: هو ردع لرسول الله ﷺ عن عادة العجلة وحث له على الأناة والتؤدة وقد بالغ في ذلك باتباعه قوله بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ كأنه قيل: بل أنتم يا بني آدم خلقتم من عجل
والأولى عندي تقليلا للمجاز أن يراد بالوجوه العيون فيكون من إطلاق الكل على الجزء لا عكسه إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ شديدة العبوس تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ فعل هو في شدته وفظاعته فاقرة أي داهية تقصم فقار الظهر كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير. قال الأصمعي: الفقر أن يحز أنف البعير حتى يخلص إلى العظم أو يقرب منه ثم يجعل فيه خشبة يجر بها البعير، ومنه قيل: عملت به الفاقرة. وقال الكلبي: هي أن تحجب عن رؤية ربها فلا تنظر إليه. وأعلم أن أهل السنة استدلوا بالآية على إمكان رؤية الله تعالى في الآخرة بل على وجوبها بحكم الوعد وحاصل كلامهم أن النظر إن كان بمعنى الرؤية فهو المطلوب، وإن كان بمعنى تقليب الحدقة نحو المرئي فهذا في حقه تعالى محال لأنه منزه عن الجهة والمكان فوجب حمله على مسببه وهو الرؤية وهذا مجاز مشهور وأما المعتزلة فزعموا أن النظر المقرون ب «إلى» إنما يراد به تقليب الحدقة نحو المرئي التماسا للرؤية فقد تحصل الرؤية وقد لا تحصل كما قال سبحانه وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ويقال: دور فلان متناظرة أي متقابلة ولا ريب أن تقليب الحدقة نحو الشيء يستدعي جهة لذلك الشيء وهذا في حق الله تعالى محال فوجب حمل النظر على الانتظار أي منتظرة ثواب ربها كقولك: أنا ناظر إلى فلان ما يصنع فيّ. والانتظار إذا كان في شيء متيقن الوقوع لا يوجب الغم والحزن بل يزيد اللذة والفرح. واعترض بأن النظر إذا كان بمعنى الانتظار لا يعدّى ب «إلى» كقوله انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: ١٣] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف: ٥٣] وأجيب بأن ذلك إنما يكون إذا كان منتظرا للشخص، أما إذا كان منتظرا لرفده ومعونته فإنه يستعمل مقرونا بإلى كقول الرجل: إنما نظري إلى الله ثم إليك. وقد يقول الأعمى: عيني ناظرة إليك. سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون «إلى» واحد الآلاء أي نعمة ربها منتظرة، وتقديم المفعول لأجل الفاصلة أو للاختصاص أي لا ينتظرون إلا إلى نعمة الله ورحمته، قال في الكشاف: وهذا المعنى أعني إفادة الاختصاص أحد الدلائل الدالة، على أن النظر هاهنا ليس بمعنى تقليب الحدقة ولا بمعنى الرؤية لأنهم ينظرون إلى أشياء ويرون أشياء لا تدخل تحت الحصر فلا بد من حمل النظر على معنى يصح معه الإختصاص وهو التوقع والرجاء. وحين وصف القيامة الكبرى أتبعه نعت القيامة الصغرى فروّعهم عن إيثار العاجلة على الآجلة، وذكرهم حالة الموت التي هي أول منزلة من منازل الآخرة. والضمير في بَلَغَتِ للنفس لدلالة قرينة الحال والمقال كما في قوله
إن كان من الرقية يقال رقاه يرقيه إذا عوذه بما يشفيه ومنه
«بسم الله أرقيك من كل ما يؤذيك» «١»
فالقائل هم بعض أصحاب الميت وأقاربه، والاستفهام إما على أصله لأن العادة جارية على طلب الطبيب والراقي في وقت ما يشتد المرض، وإما بمعنى الإنكار أي من الذي يقدر أن يرقي هذا الإنسان المشرف على الموت، وإن كان اشتقاقه من الرقي الصعود ومنه المرقاة قال الله تعالى وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ [الإسراء: ٩٣] فالقائل بعض الملائكة يعني أيكم يرقي بروح هذا المحتضر ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب. وعن ابن عباس: إن الملائكة يكرهون القرب من الكافرين فيقول ملك الموت: من يرقى بروح هذا الكافر؟ وقال الكلبي: يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة العذاب مع ملك الموت فإذا بلغت نفس العبد التراقي نظر بعضهم إلى بعض أيهم يعرج بروحه إلى السماء وَظَنَّ المحتضر أي تيقن أَنَّهُ وقت الْفِراقُ عن الدنيا وأوان الفطام عن مألوفاتها. وفي التعبير عن اليقين هاهنا بالظن تهكم بالميت وإشارة إلى أن الإنسان لتهالكه على الدنيا وحرصه على الحياة العاجلة لا يكاد يقطع بحلول الأجل وإن لم يبق منه إلا حشاشة يسيرة، غايته أنه يغلب على ظنه الموت مع رجاء الحياة العاجلة لا يكاد يقطع بالموت. واستدل بهذه الآية على أن النفس باق بعد خراب البدن لأن الله سمى الموت فراقا والفراق والوصال صفة والصفة تستدعي وجود الموصوف. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ فيه وجهان أحدهما: أنه كناية عن الشدّة كما مر في قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [القلم: ٤٢] أي اتصلت شدة فراق الدنيا وترك الأهل والولد والجاه وشماتة الأعداء وحزن الأولياء وغير ذلك بشدّة الإقبال على أحوال الآخرة وأهوالها. الثاني أن الساق هي العضو المخصوص. قال الشعبي: أما رأيته في النزع كيف يضرب بإحدى رجليه عى الأخرى؟ قال الحسن وسعيد بن المسيب: هما ساقاه التفتا في أكفانه. وقيل: التفاف ساقيه وهو أنه إذا مات يبست ساقاه ولصقت إحداهما بالأخرى.
الحديث «لا أكل ولا شرب ولا استهل» «١»
أما قوله عز من قائل فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: ١١] فسيجيء
قال قتادة والكلبي ومقاتل: أخذ رسول الله ﷺ بيد أبي جهل ثم قال له أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
يوعده ويدعو عليه بالهلاك والبعد عن الخير والقرب من المكاره، وقد مر في قوله فَأَوْلى لَهُمْ [محمد: ٢٠] وذلك في سورة القتال.
فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا فيّ شيئا وأني لأعز أهل هذا الوادي ثم سل يده ذاهبا فأنزل الله كما قال الرسول.
قال القفال: هذا محتمل، ويحتمل أن يكون أيضا وعيدا مبتدأ من الله للكافر على طريقة الالتفات. ويحتمل أن يكون أمرا من الله لنبيه بأن يقوله لعدو الله فيكون القول مقدرا أي فقلنا لك يا محمد قل له هذا. ثم قال دليلين على صحة الخبر الأول أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي هملا لا يكلف ولا يحاسب بعمله وهذا خلاف الحكمة نظيره أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: ١١٥] الثاني الاستدلال بالخلق الأول على الإعادة ومَنِيٍّ يُمْنى يراق في الرحم. من ذكّر فللمني، ومن أنّث فللنطفة. والنطفة اسم لما ينطف كالقبضة لما يقبض والغرفة لما يغرف إلا أنها غلبت على الماء المخصوص الذي هو للحيوان بمنزلة البذر للنبات. والمني «فعيل» بمعنى «مفعول» من المني بالسكون وهو الدفق غلب أيضا على الماء المخصوص فقوله مِنْ مَنِيٍّ أي من هذا الجنس كالتأكيد لها. وقوله
عن رسول الله ﷺ أنه كان إذا قرأ خاتمة السورة قال عقيبها: سبحانك بلى. والله الموفق وإليه المصير والمآب.