تفسير سورة النحل

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة النحل من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة النحل
وهي مكية سوى ثلاث آيات من آخرها، وهي قوله تعالى :( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) ( ١ ) إلى آخر السورة، وقيل : إن قوله :( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد فتنوا ) ( ٢ ) الآية مدنية أيضا، وهذه السورة تسمى سورة النعم، وقيل : سورة الآلاء.
١ - النحل: ١٢٦..
٢ - النحل: ١١٠..

قَوْله تَعَالَى: ﴿أَتَى أَمر الله﴾ أَي: دنا وَقرب، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: أَتَاك الْخَبَر، أَو أَتَاك الْغَوْث إِذا دنى مِنْهُ، وَيُقَال: إِن مَعْنَاهُ سَيَأْتِي أَمر الله، وَهَذَا مثل مَا يَقُول الْقَائِل: إِذا أكرمتني أكرمتك أَي: أكرمك. وَاخْتلفُوا فِي معنى قَوْله: ﴿أَمر الله﴾ فالأكثرون على أَن المُرَاد مِنْهُ عُقُوبَته وعذابه للمكذبين الجاحدين.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من أَمر الله هُوَ الْفَرَائِض وَالْأَحْكَام، ذكره الضَّحَّاك، وَهَذَا قَول ضَعِيف. وَزعم الْكَلْبِيّ وَغَيره أَن المُرَاد مِنْهُ الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿فَلَا تستعجلوه﴾ الاستعجال طلب الشَّيْء قبل حِينه، وَمَعْنَاهُ: لَا تطلبوه قبل وقته، وَرُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: لما نزل قَوْله: ﴿أَتَى أَمر الله﴾ رفع الْكفَّار رُءُوسهم، وظنوا أَنَّهَا قد أَتَت حَقِيقَة، لما قَالَ: ﴿فَلَا تستعجلوه﴾ خفضوا رُءُوسهم. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: ﴿أَتَى أَمر الله﴾ قَامَ رَسُول الله فَزعًا، فَقَالَ جِبْرِيل: فَلَا تستعجلوه "، قد ذكره مقَاتل فِي تَفْسِيره.
وَقَوله: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ﴾ مَعْنَاهُ: تعاظم بالأوصاف الحميدة عَمَّا يصفه بِهِ (الْمُشْركُونَ).
قَوْله تَعَالَى: ﴿ينزل الْمَلَائِكَة بِالروحِ من أمره﴾ روى
158
﴿من أمره على من يَشَاء من عباده أَن أنذروا أَنه لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاتقون (٢) خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يشركُونَ (٣) خلق الْإِنْسَان من نُطْفَة فَإِذا هُوَ خصيم مُبين (٤) والأنعام خلقهَا لكم فِيهَا دفء وَمَنَافع وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥) وَلكم﴾ مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس: أَن الرّوح خلق من خلق الله تَعَالَى على صور بني آدم، وَلَيْسوا بِالْمَلَائِكَةِ، لَا ينزل الله ملكا إِلَّا وَمَعَهُ روح، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الرّوح هُوَ الْوَحْي؛ لِأَنَّهُ تقع بِهِ حَيَاة الْقُلُوب، كالروح تقع بهَا حَيَاة الْأَبدَان، وَقيل: إِنَّهَا النُّبُوَّة، وَقيل: إِنَّهَا الرَّحْمَة.
وَقَوله: ﴿على من يَشَاء من عباده﴾ يَعْنِي: من النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ.
وَقَوله: ﴿أَن أنذروا أَنه لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاتقون﴾ مَعْنَاهُ: مُرُوهُمْ بقول لَا إِلَه إِلَّا الله منذرين ومخوفين لَهُم بِالْعَذَابِ؛ يَقُولُوا أَو لم يَقُولُوا. فَقَوله: ﴿فاتقون﴾ أَي: فخافون.
159
قَوْله تَعَالَى: ﴿خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ﴾ أَي: لإِظْهَار الْحق. وَقَوله تَعَالَى: ﴿تَعَالَى عَمَّا يشركُونَ﴾ أَي: ارْتَفع عَمَّا يشركُونَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿خلق الْإِنْسَان من نُطْفَة﴾ يُقَال: إِنَّه نزلت هَذِه الْآيَة فِي أبي بن خلف، وَالصَّحِيح أَنَّهَا عَامَّة فِي الْكل. وَقَوله: ﴿من نُطْفَة فَإِذا هُوَ خصيم مُبين﴾ أَي: مخاصم مفصح عَمَّا فِي ضَمِيره بِالْخُصُومَةِ، وَالْخُصُومَة: قد تكون حَسَنَة، وَقد تكون قبيحة؛ فالحسن مِنْهَا مَا كَانَ لإِظْهَار الْحق، والقبيح مَا كَانَ لدفع الْحق، وَمعنى الْآيَة بَيَان الْقُدْرَة، وَهِي أَن الله تَعَالَى خلق النُّطْفَة من كَائِن بِهَذِهِ الْحَالة، وَقيل: إِن المُرَاد من الْآيَة بَيَان النِّعْمَة، وَقيل: إِن المُرَاد من الْآيَة كشف قَبِيح مَا فعلوا من جحدهم نعْمَة الله مَعَ ظُهُورهَا عَلَيْهِم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿والأنعام خلقهَا لكم فِيهَا دفء﴾ الدفء هُوَ الْحر المعتدل الَّذِي يكون فِي بدن الْإِنْسَان من الدثار. وَأما معنى الْآيَة: قَالَ ابْن عَبَّاس: الدفء هُوَ اللبَاس، وَقَالَ قَتَادَة: مَا يستدفأ بِهِ من الأصواف والأوبار، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَقَالَ بَعضهم: الدفء هُوَ النَّسْل، وَذكر الْآمِدِيّ أَن هَذَا من كَلَام الْعَرَب.
159
﴿فِيهَا جمال حِين تريحون وَحين تسرحون (٦) وَتحمل أثقالكم إِلَى بلد لم تَكُونُوا بالغيه إِلَّا بشق الْأَنْفس إِن ربكُم لرءوف رَحِيم (٧) وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير﴾
وَقَوله: ﴿وَمَنَافع﴾ الْمَنَافِع هِيَ الرّكُوب والنتاج، وَسَائِر مَا ينْتَفع بِهِ. وَقَوله: ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ هُوَ التَّنَاوُل من لَحمهَا ولبنها.
160
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلكم فِيهَا جمال﴾ أَي: زِينَة، قَالَ السّديّ: الْجمال: أَنَّهَا إِذا خرجت ورئيت قيل: هَذِه إبل فلَان.
وَإِنَّمَا خص [بقوله] :﴿حِين تريحون وَحين تسرحون﴾ الرواح فِي الْأَنْعَام هُوَ إِذا جَاءَت من مراعيها إِلَى أفنية ملاكها عشيا، والسراح هُوَ إِذا خرجت من الأفنية إِلَى المراعي بكرَة؛ فَإِن قَالَ قَائِل: لم قدم الرواح، والسراح هُوَ الْمُقدم؟ قُلْنَا: لِأَن الْمَالِك يكون أعجب بهَا إِذا راحت؛ وَلِأَن الْمَنَافِع مِنْهَا إِنَّمَا تُؤْخَذ بعد الرواح.
وَقَوله: ﴿وَتحمل أثقالكم﴾ الثّقل: هُوَ الْمَتَاع الَّذِي يثقل حمله. وَقَوله: ﴿إِلَى بلد لم تَكُونُوا بالغيه إِلَّا بشق الْأَنْفس﴾ أَي: بِجهْد الْأَنْفس ومشقتها، وَقُرِئَ: " بشق الْأَنْفس ". وَاخْتلفُوا فِي الْبَلَد الْمَذْكُور، قَالَ بَعضهم: هِيَ مَكَّة، وَقَالَ بَعضهم: أَي بلد كَانَ فِي الْعَالم، فَإِن قَالَ قَائِل: أَي مشقة فِي أَن يركب دَابَّة وطية ويسير عَلَيْهَا من بلد إِلَى بلد مَعَ الزَّاد التَّام وَأمن الطَّرِيق؟
وَالْجَوَاب أَن السّفر لَا يَخْلُو عَن مشقة فِي الْجُمْلَة، وَالثَّانِي: أَن معنى الْآيَة لم تَكُونُوا بالغيه إِلَّا بشق الْأَنْفس، لَوْلَا هَذِه الدَّوَابّ.
وَقَوله: ﴿إِن ربكُم لرءوف رَحِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير﴾ الْآيَة حُكيَ أَن أَبَا عَمْرو بن الْعَلَاء سُئِلَ: لم سميت الْخَيل خيلا؟ فَلم يذكر شَيْئا، وَكَانَ ثمَّ أَعْرَابِي حَاضرا، فَقَالَ: سميت الْخَيل خيلا لاختيالها.
وَقَوله: ﴿لتركبوها﴾ زعم بَعضهم أَن ركُوب الْحمر الْغرَّة الحسان أبلغ فِي الزِّينَة من الْخَيل وَالْبِغَال؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿لتركبوها وزينة﴾ عقيب ذكر الْحمر، وَهَذَا
160
﴿لتركبوها وزينة ويخلق مَا لَا تعلمُونَ (٨) ﴾ كَقَوْلِه تَعَالَى: ﴿قَالُوا ادْع لنا رَبك يخرج لنا مِمَّا تنْبت الأَرْض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها﴾ دلّ أَن البصل أرذل من هَذِه الْأَشْيَاء حَيْثُ ذكر قَوْله: ﴿أتستبدلون الَّذِي هُوَ أدنى﴾ عقيب ذكر البصل، وَقيل: شَرّ الْحمر الْأسود الْقصير.
وَالْأولَى أَن يُقَال: إِن الْجمال فِي الْخَيل أَكثر لِلْحسنِ والعيان؛ وَلِأَن الله تَعَالَى بَدَأَ بهَا بِالذكر.
وَقيل لخَالِد بن صَفْوَان: مَا لَك لَا تركب الْحمر؟ قَالَ: هِيَ بطيئة الْغَوْث كَثِيرَة الروث، إِذا سَار أَبْطَأَ وَإِذا وقف أدلى. ورؤي مرّة على حمَار؛ فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ: أدب عَلَيْهِ دبيبا، وَألقى عَلَيْهِ حبيبا، ويمنعني أَن أكون جبارا عنيدا.
وَقد ثَبت أَن رَسُول الله ركب الْفرس والبغل وَالْحمار. وَفِي الْآثَار: أَن الْأَنْبِيَاء من بني إِسْرَائِيل كَانُوا يركبون الأتن. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه كره لحم الْخَيل؛ قَالَ: لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿لتركبوها وزينة﴾. وَقد ثَبت بِرِوَايَة جَابر أَن النَّبِي أذن فِي لُحُوم الْخَيل "، وَثَبت أَيْضا عَن أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق أَنَّهَا قَالَت: " أكلنَا لحم فرس على عهد رَسُول الله " فَالْأولى هُوَ الْإِبَاحَة، وَعَلِيهِ أَكثر أهل الْعلم.
وَقَوله: ﴿ويخلق مَا لَا تعلمُونَ﴾ قيل مَعْنَاهُ: ويخلق مَا لَا يخْطر ببال أحد،
161
﴿وعَلى الله قصد السَّبِيل وَمِنْهَا جَائِر وَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أنزل من السَّمَاء مَاء لكم مِنْهُ شراب وَمِنْه شجر فِيهِ تسيمون (١٠) ينْبت لكم بِهِ الزَّرْع وَالزَّيْتُون﴾ وَالْإِنْسَان قل مَا يَخْلُو فِي يَوْم وَلَيْلَة أَن يرى شَيْئا من خلق الله تَعَالَى لم يره من قبل. وروى ابْن السّديّ عَن أَبِيه أَن معنى قَوْله: ﴿ويخلق مَا لَا تعلمُونَ﴾ أَي: السوس فِي النَّبَات والحبوب. وَفِي بعض التفاسير: أَن النَّبِي قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: " إِن لله تَعَالَى أَرضًا بَيْضَاء خلقهَا، ومسافتها قدر مسيرَة الشَّمْس ثَلَاثِينَ لَيْلَة، وَقد ملأها من خلق لم يعصوا الله طرفَة عين؛ فَقيل لَهُ: أهم من بني آدم؟
فَقَالَ: إِنَّهُم لَا يعلمُونَ أَن الله تَعَالَى خلق آدم، فَقيل لَهُ: فَكيف لَا يفتنهم إِبْلِيس؟ قَالَ: إِنَّهُم لَا يعلمُونَ أَن لله فِي خلقه إِبْلِيس " وَهَذَا خبر غَرِيب، وَالله أعلم.
162
قَوْله تَعَالَى: ﴿وعَلى الله قصد السَّبِيل﴾ قيل مَعْنَاهُ: وعَلى الله بَيَان الْهدى من الضَّلَالَة، وَقيل: بَيَان الْحق بِالْآيَاتِ والبراهين، وَهَذَا بِحكم الْوَعْد، وَيُقَال: وعَلى الله قصد السَّبِيل أَي: على الله الحكم بِالْعَدْلِ بَين الْخلق.
وَقَوله: ﴿وَمِنْهَا جَائِر﴾ مَعْنَاهُ: وَمن السَّبِيل جَائِر، وَقَرَأَ عَليّ وَابْن مَسْعُود: " ومنكم جَائِر ". أَي: عَادل عَن الْحق، قَالَ الشَّاعِر:
(لما خلطت دماؤنا بدمائهم وقف الثقال بهَا (وجار) الْعَادِل)
الثقال: البطر.
وَقَوله: ﴿وَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَفِيه رد على الْقَدَرِيَّة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي أنزل من السَّمَاء مَاء لكم مِنْهُ شراب﴾ أَي: لكم مِنْهُ مَا تشربون.
وَقَوله: ﴿وَمِنْه شجر فِيهِ تسيمون﴾ أَي: تسيمون الْمَوَاشِي فِيهَا، والإسامة هِيَ
162
﴿والنخيل وَالْأَعْنَاب وَمن كل الثمرات إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يتفكرون (١١) وسخر لكم اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم مسخرات بأَمْره إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يعْقلُونَ (١٢) وَمَا ذَرأ لكم فِي الأَرْض مُخْتَلفا ألوانه إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يذكرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سخر الْبَحْر لتأكلوا مِنْهُ لَحْمًا طريا وتستخرجوا مِنْهُ حلية تلبسونها﴾ تخلية الْمَوَاشِي للرعي.
163
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ينْبت لكم بِهِ الزَّرْع وَالزَّيْتُون والنخيل وَالْأَعْنَاب وَمن كل الثمرات إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يتفكرون﴾ الْآيَة. ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وسخر لكم اللَّيْل وَالنَّهَار﴾ أَي: ذلل لكم اللَّيْل وَالنَّهَار، وَقيل: سخر ضوء الشَّمْس بِالنَّهَارِ وَنور الْقَمَر بِاللَّيْلِ.
وَقَوله: ﴿والنجوم مسخرات بأَمْره﴾ أَي: مذللات بأَمْره. وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يعْقلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
﴿وَمَا ذَرأ لكم فِي الأَرْض﴾ أَي: مَا خلق لكم فِي الأَرْض. وَقَوله: ﴿مُخْتَلفا ألوانه﴾ أَي: صورته وهيئته. وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يذكرُونَ﴾ أَي: يعتبرون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سخر الْبَحْر﴾ أَي: ذلل الْبَحْر ﴿لتأكلوا مِنْهُ لَحْمًا طريا﴾ أَي: السّمك. وَقَوله: ﴿وتستخرجوا مِنْهُ حلية تلبسونها﴾ يَعْنِي: دَرأ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ لباسا للتحلي.
وَقَوله: ﴿وَترى الْفلك مواخر فِيهِ﴾ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مواقر - أَي مَمْلُوءَة - وَيُقَال: مواخر أَي: مقبلة مُدبرَة برِيح وَاحِدَة، والمخر هُوَ الشق، والسفينة تمخر المَاء أَي: تشقه، وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا أَرَادَ أحدكُم الْبَوْل فليتمخر الرّيح " أَي:
163
﴿وَترى الْفلك مواخر فِيهِ ولتبتغوا من فَضله ولعلكم تشكرون (١٤) وَألقى فِي الأَرْض رواسي أَن تميد بكم وأنهارا وسبلا لَعَلَّكُمْ تهتدون (١٥) وعلامات وبالنجم هم يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَن يخلق كمن لَا يخلق أَفلا تذكرُونَ (١٧) وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها إِن الله لغَفُور رَحِيم (١٨) وَالله يعلم مَا تسرون وَمَا تعلنون (١٩) وَالَّذين﴾ لينْظر مَوضِع هبوبها فليستدبرها، والمخر: صَوت هبوب الرّيح عِنْد شدتها.
وَقَوله: ﴿ولتبتغوا من فَضله﴾ يَعْنِي: للتِّجَارَة. وَقَوله: ﴿ولعلكم تشكرون﴾ يَعْنِي: إِذا رَأَيْتُمْ صنع الله فِيمَا سخر لكم، وَرُوِيَ أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - كتب إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ يسْأَله عَن الْبَحْر؛ فَقَالَ: خلق عَظِيم يركبه خلق ضَعِيف، دود على عود، لَيْسَ إِلَّا السَّمَاء وَالْمَاء، إِن مَال غرق، وَإِن نجا برق، أَي: دهش وتحير.
164
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَألقى فِي الأَرْض رواسي﴾ أَي: جبالا ثوابت، وَفِي الْآثَار: أَن الله تَعَالَى لما خلق الأَرْض كَانَت تكفأ؛ فَقَالَت الْمَلَائِكَة: إِن هَذِه غير مقرة على ظهرهَا أحد؛ فَأَصْبحُوا وَقد خلق الْجبَال فاستقرت وَثبتت.
وَقَوله: ﴿أَن تميد بكم﴾ أَي: أَن تميل بكم. وَقَوله: ﴿وأنهارا وسبلا﴾ يَعْنِي: طرائق. وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تهتدون﴾ أَي: لَعَلَّكُمْ تهتدون بِالطَّرِيقِ وَالْجِبَال.
وَقَوله: ﴿وعلامات﴾ أَي: ودلالات، وَقيل: إِن هَذِه العلامات هِيَ الْجبَال. وَقَوله: ﴿وبالنجم هم يَهْتَدُونَ﴾ قَالَ الْفراء: بالجدي والفرقدين، وَقيل: وبالنجوم هم يَهْتَدُونَ، وَعَن قَتَادَة قَالَ: خلق الله النُّجُوم لثَلَاثَة أَشْيَاء: لزينة السَّمَاء الدُّنْيَا، ولرجم الشَّيَاطِين، وليهتدي بهَا فِي الْبَحْر وَالْبر، فَمن طلب مِنْهَا علما غير هَذَا فقد أَخطَأ، وَهَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة مَذْكُورَة فِي الْقُرْآن.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَمَن يخلق كمن لَا يخلق﴾ قيل: أَفَمَن ينعم كمن لَا ينعم. وَقَوله: ﴿أَفلا تذكرُونَ﴾ أَي: أَفلا تعتبرون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها﴾ أَي: تُطِيقُوا عدهَا، وَقيل: لَا تُطِيقُوا شكرها. وَقَوله: ﴿إِن الله لغَفُور رَحِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
164
﴿يدعونَ من دون الله لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون (٢٠) أموات غير أَحيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يبعثون (٢١) إِلَهكُم إِلَه وَاحِد فَالَّذِينَ لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة قُلُوبهم مُنكرَة﴾
165
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالله يعلم مَا تسرون وَمَا تعلنون وَالَّذين يدعونَ من دون الله لَا يخلقون شَيْئا﴾ أَرَادَ بِهِ الْأَصْنَام. وَقَوله: ﴿وهم يخلقون﴾ مَعْنَاهُ: أَن الْمَخْلُوق لَا يكون إِلَهًا.
والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا ) أراد به الأصنام. وقوله :( وهم يخلقون ) معناه : أن المخلوق لا يكون إلها.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أموات غير أَحيَاء﴾ فَإِن قيل: الصَّنَم كَيفَ يكون مَيتا وَلم يكن حَيا قطّ؟ الْجَواب: أَن مَعْنَاهُ: أَنَّهَا كالأموات فِي أَنَّهَا لَا تعقل.
وَقَوله: ﴿غير أَحيَاء﴾ تَأْكِيد للْأولِ. وَقَوله: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يبعثون﴾ أَي: مَتى يبعثون؟ فَإِن قيل: هَل للأصنام بعث؟ وَالْجَوَاب: أَنه قد ذكر فِي بعض التفاسير: أَن الْأَصْنَام تبْعَث، وَتجْعَل فِيهَا الْحَيَاة، وتتبرأ من عابديها، وَقد دلّ على هَذَا الْقُرْآن فِي مَوَاضِع، وَقيل فِي معنى الْآيَة: وَمَا تشعر الْأَصْنَام مَتى يبْعَث الْكفَّار؟ وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن مَعْنَاهَا: وَمَا يشْعر الْكفَّار مَتى يبعثون؟.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِلَهكُم إِلَه وَاحِد فَالَّذِينَ لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة قُلُوبهم مُنكرَة﴾ أَي: جاحدة، وَهَذَا دَلِيل على أَن الْعبْرَة بجحد الْقلب وإنكاره.
وَقَوله: ﴿وهم مستكبرون﴾ أَي: متكبرون، وَيُقَال: إِنَّه لَا يُنكر الدّين إِلَّا متكبر.
قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ﴾ وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا يدْخل الْجنَّة أحد فِي قلبه ذرة من كبر ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا جرم﴾ مَعْنَاهُ: حَقًا {أَن الله يعلم مَا يسرون وَمَا يعلنون إِنَّه
165
﴿وهم مستكبرون (٢٢) لَا جرم أَن الله يعلم مَا يسرون وَمَا يعلنون إِنَّه لَا يحب المستكبرين (٢٣) وَإِذا قيل لَهُم مَاذَا أنزل ربكُم قَالُوا أساطير الْأَوَّلين (٢٤) ليحملوا أوزارهم كَامِلَة يَوْم الْقِيَامَة وَمن أوزار الَّذين يضلونهم بِغَيْر علم أَلا سَاءَ مَا يزرون (٢٥) ﴾ لَا يحب المستكبرين) أَي: المتكبرين.
166
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا قيل لَهُم مَاذَا أنزل ربكُم﴾ مَعْنَاهُ: وَإِذا قيل للْكفَّار الَّذين تقدم ذكرهم: " مَاذَا أنزل ربكُم "؟ مَا الَّذِي أنزل ربكُم؟
وَقَوله: ﴿قَالُوا أساطير الْأَوَّلين﴾ يَعْنِي: أكاذيب الْأَوَّلين، والأساطير وَاحِدهَا أسطورة، وَقيل: أقاصيص الْأَوَّلين.
وَقَوله: ﴿وليحملوا أوزارهم كَامِلَة يَوْم الْقِيَامَة﴾ الأوزار هِيَ الذُّنُوب.
وَقَوله: ﴿كَامِلَة﴾ إِنَّمَا ذكر الْكَمَال؛ لِأَن البلايا والمحن الَّتِي تلحقهم فِي الدُّنْيَا لَا تكفر عَنْهُم شَيْئا، وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ بنية الْحَسَنَات.
وَقَوله: ﴿وَمن أوزار الَّذين يضلونهم بِغَيْر علم﴾ وَمن ذنُوب الَّذين يضلونهم، وهم الأتباع.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يحملون أوزار الأتباع، وَالله تَعَالَى يَقُول: ﴿وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى﴾ ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: يحملوا ذنوبهم بِحكم الإغواء وَالدُّعَاء إِلَى الضلال؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَيّمَا دَاع دَعَا إِلَى الْهدى (فَاتبع) ؛ فَلهُ أجره وَأجر من عمل بِهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من غير أَن ينقص من أُجُورهم شَيْء، وَأَيّمَا دَاع دَعَا إِلَى ضَلَالَة فَاتبع فَعَلَيهِ وزرها ووزر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من غير أَن ينقص من أوزارهم شَيْء ".
166
﴿قد مكر الَّذين من قبلهم فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد فَخر عَلَيْهِم السّقف من فَوْقهم﴾
وَقَوله: ﴿بِغَيْر علم﴾ مَعْنَاهُ: أَنهم رجعُوا إِلَى مَحْض التَّقْلِيد من غير دَلِيل، وَمِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ: أَنهم دعوهم إِلَى الضلال من غير حجَّة. وَقَوله: ﴿أَلا سَاءَ مَا يزرون﴾ مَعْنَاهُ: أَلا بئس مَا يحملون من الذُّنُوب.
167
قَوْله تَعَالَى: ﴿قد مكر الَّذين من قبلهم﴾ مَعْنَاهُ: قد أشرك الَّذين من قبلهم، وَقيل: الْمَكْر هُوَ التَّدْبِير الْفَاسِد.
وَقَوله: ﴿فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد﴾ وَهَذَا مَذْكُور على طَرِيق التَّمْثِيل، يَعْنِي: قلع الله مَكْرهمْ من أَصله، ورد وبال مَكْرهمْ وضرره عَلَيْهِم، وَإِلَّا فَلَيْسَ ثمَّ بُنيان وَلَا أساس وَلَا سقف.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن الْآيَة نزلت فِي نمروذ بن كنعان لما بنى الصرح ليصعد إِلَى السَّمَاء، وَفِي الْقِصَّة: أَنه بنى قصرا طوله فِي السَّمَاء فرسخان، وَقيل: كَانَ خَمْسَة آلَاف ذِرَاع وَزِيَادَة شَيْء، وَعرضه ثَلَاثَة آلَاف ذِرَاع؛ فَبعث الله جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فَرمى بِرَأْسِهِ فِي الْبَحْر، ثمَّ خرب الْبَاقِي؛ فَسقط عَلَيْهِم وهم تَحْتَهُ، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد فَخر عَلَيْهِم السّقف من فَوْقهم﴾ وَهَذَا محكي عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -.
فَإِن قيل: قَالَ: ﴿فَخر عَلَيْهِم السّقف من فَوْقهم﴾ فأيش معنى قَوْله: ﴿من فَوْقهم﴾ وَقد فهم الْمَعْنى بقوله: ﴿فَخر عَلَيْهِم السّقف﴾ ؟ وَالْجَوَاب: أَن ذَلِك مَذْكُور على طَرِيق التَّأْكِيد مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿يَقُولُونَ بأفواههم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم﴾، وَمثل قَوْله: ﴿فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم﴾.
جَوَاب آخر ذكره ابْن الْأَنْبَارِي وَغَيره: أَن الْعَرَب تَقول: خر على فلَان بيوته، إِذا سَقَطت، وَإِن لم يكن تحتهَا، فَإِذا قَالَت: خر على فلَان بَيته من فَوْقه يفهم أَنه كَانَ
167
﴿وأتاهم الْعَذَاب من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثمَّ يَوْم الْقِيَامَة يخزيهم وَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تشاقون فيهم قَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم إِن الخزي الْيَوْم وَالسوء على الْكَافرين (٢٧) الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة ظالمي أنفسهم فَألْقوا السّلم مَا كُنَّا نعمل من سوء بلَى إِن﴾ تَحْتَهُ. وَقَوله: ﴿وأتاهم الْعَذَاب من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ مَعْنَاهُ: من الْجِهَة الَّتِي كَانُوا آمِنين مِنْهَا.
168
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ يَوْم الْقِيَامَة يخزيهم﴾ يَعْنِي: يذلهم ويهينهم فِيهَا. وَقَوله: ﴿وَيَقُول أَيْن شركاءي الَّذين كُنْتُم تشاقون فيهم﴾ أَي: تعادون الْمُؤمنِينَ فيهم.
فَإِن قيل: أَيْن شركائي؟ وَلَيْسَ لله شريك، فَكيف معنى الْآيَة؟ وَالْجَوَاب أَن مَعْنَاهَا: أَيْن شكائي فِي زعمكم؟ ﴿وَمِنْهُم من قَالَ: أَيْن الَّذين كُنْتُم تدعونهم شُرَكَاء؟﴾
وَقَوله: ﴿قَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم﴾ يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: ﴿إِن الخزي الْيَوْم وَالسوء على الْكَافرين﴾ مَعْنَاهُ: أَن الْعَذَاب الْيَوْم والهوان على الْكَافرين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة ظالمي أنفسهم﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذِه نزلت فِي قوم أَسْلمُوا بِمَكَّة، فَلَمَّا هَاجر النَّبِي لم يهاجروا، ثمَّ إِن الْمُشْركين لما هَاجرُوا إِلَى بدر أخرجوهم مَعَ أنفسهم، فَلَمَّا رَأَوْا النَّبِي وَقلة من مَعَه ظنُّوا أَنهم يهْلكُوا على أَيدي الْمُشْركين، فَمَكَثُوا مَعَ الْكفَّار فَقتلُوا يَوْمئِذٍ فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم هَذِه الْآيَة: ﴿الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة ظالمي أنفسهم﴾ مَعْنَاهُ: فِي حَال ظلمهم أنفسهم بتركهم المهاجرة مَعَ النَّبِي وخروجهم مَعَ الْكفَّار.
قَوْله: ﴿فَألْقوا السّلم﴾ أَي: استسلموا وانقادوا لملك الْمَوْت.
وَقَوله: ﴿مَا كُنَّا نعمل من سوء﴾ أَي: مَا كُنَّا مُشْرِكين. وَقَوله: ﴿بلَى إِن الله عليم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ مَعْنَاهُ: أَن الله عليم بأنكم عملتم عمل الْكفَّار - وَعمل الْكفَّار هُوَ ترك المهاجرة وَالْخُرُوج مَعَ الْمُشْركين - وَقد كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام لَا يقبل
168
﴿الله عليم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (٢٨) فادخلوا أَبْوَاب جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا فلبئس مثوى المتكبرين (٢٩) وَقيل للَّذين اتَّقوا مَاذَا أنزل ربكُم قَالُوا خيرا للَّذين أَحْسنُوا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة ولدار الْآخِرَة خير ولنعم دَار الْمُتَّقِينَ (٣٠) جنَّات عدن يدْخلُونَهَا تجْرِي﴾ الْإِسْلَام إِلَّا مَعَ الْهِجْرَة، فَهَؤُلَاءِ أَسْلمُوا وَلم يهاجروا، فَلم يقبل إسْلَامهمْ.
169
وَقَوله: ﴿فادخلوا أَبْوَاب جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا﴾ أَي: مقيمين دائمين فِيهَا، وَهَا هُنَا إِضْمَار، وَهُوَ أَنه يُقَال لَهُم: ادخُلُوا أَبْوَاب جَهَنَّم. وَقَوله: ﴿فلبئس مثوى المتكبرين﴾ يَعْنِي: منزل الْكَافرين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقيل للَّذين اتَّقوا مَاذَا أنزل ربكُم﴾ فَإِن قيل: قد قَالَ من قبل: ﴿وَإِذا قيل لَهُم مَاذَا أنزل ربكُم قَالُوا أساطير الْأَوَّلين﴾ بِالرَّفْع وَقَالَ هَا هُنَا: ﴿مَاذَا أنزل ربكُم قَالُوا خيرا﴾ بِالنّصب، فَكيف وَجه الْآيَتَيْنِ؟
وَالْجَوَاب: أَن معنى قَوْله: ﴿أساطير الْأَوَّلين﴾ أَي: الْمنزل أساطير الْأَوَّلين، وَقَوله: ﴿قَالُوا خيرا﴾ مَعْنَاهُ: أنزل رَبنَا خيرا. وَقَوله: ﴿للَّذين أَحْسنُوا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة﴾ إحسانهم هُوَ قَول: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَقَوله: ﴿حَسَنَة﴾ اخْتلف القَوْل فِيهَا:
قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ تَضْعِيف الْأجر إِلَى الْعشْر فَمَا زَاد، وَقَالَ الضَّحَّاك: الْحَسَنَة هُوَ النَّصْر وَالْفَتْح، وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ الرزق الْحسن، وَقَالَ غَيره: مَا فتح الله على الْمُسلمين من الْبلدَانِ، وأفاء عَلَيْهِم من الْغَنَائِم.
وَقَوله: ﴿ولدار الْآخِرَة خير﴾ مَعْنَاهُ: ولحال دَار الْآخِرَة خير.
وَقَوله: ﴿ولنعم دَار الْمُتَّقِينَ﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد [مِنْهَا] الْجنَّة، وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: هِيَ الدُّنْيَا، وَالدُّنْيَا دَار الْمُتَّقِينَ، وَمِنْهَا يتزود إِلَى الْآخِرَة، [و] فِيهَا يطْلب رضَا الله تَعَالَى، وَرُوِيَ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ إِذا فرق العطايا بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار قَالَ: هَذَا لكم فِي الدُّنْيَا وَمَا ادخر الله لكم فِي الْآخِرَة.
169
﴿من تحتهَا الْأَنْهَار لَهُم فِيهَا مَا يشاءون كَذَلِك يَجْزِي الله الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة طيبين يَقُولُونَ سَلام عَلَيْكُم ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (٣٢) هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة أَو يَأْتِي أَمر رَبك كَذَلِك فعل الَّذين من قبلهم وَمَا ظلمهم الله وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ (٣٣) فَأَصَابَهُمْ سيئات مَا عمِلُوا وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ﴾
170
قَوْله تَعَالَى: ﴿جنَّات عدن يدْخلُونَهَا تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار لَهُم فِيهَا مَا يشاءون كَذَلِك يَجْزِي الله الْمُتَّقِينَ﴾ ظَاهر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة طيبين﴾ يَعْنِي: طاهرين زاكين من الشّرك، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن وفاتهم تقع طيبَة سهلة.
قَوْله: ﴿يَقُولُونَ سَلام عَلَيْكُم﴾ يُقَال: إِن المُرَاد مِنْهُ تَسْلِيم الْمَلَائِكَة، يبلغون سَلام الله إِلَيْهِم، وَفِي الْأَخْبَار: " أَنهم يَقُولُونَ لكل وَاحِد مِنْهُم: السَّلَام عَلَيْك يَا ولي الله ". وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: أَن الْمَيِّت الْمُؤمن يزف إِلَى الله كَمَا تزف الْعَرُوس. وَقَوله: ﴿ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ يَعْنِي: يُقَال لَهُم: ادخُلُوا الْجنَّة بإيمانكم وطاعتكم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة﴾ مَعْنَاهُ: هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة بِالْمَوْتِ؟ ﴿أَو يَأْتِي أَمر رَبك﴾ الْقِيَامَة.
وَفِي بعض الْآثَار: أَن أعوان ملك الْمَوْت سِتَّة أَمْلَاك: ثَلَاثَة يقبضون أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ، وَثَلَاثَة يقبضون أَرْوَاح الْكفَّار، وَقيل: هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة بِالْعَذَابِ وَالْقَتْل للْكفَّار، أَو يَأْتِي أَمر رَبك؟ يَعْنِي: الْمَوْت. وَقَوله: ﴿كَذَلِك فعل الَّذين من قبلهم﴾ يَعْنِي: كَذَلِك كفر الَّذِي من قبلهم. وَقَوله: ﴿وَمَا ظلمهم الله وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأَصَابَهُمْ سيئات مَا عمِلُوا﴾ مَعْنَاهُ: فَأَصَابَهُمْ وبال السَّيِّئَات الَّتِي
170
﴿يستهزءون (٣٤) وَقَالَ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا عَبدنَا من دونه من شَيْء نَحن وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء كَذَلِك فعل الَّذين من قبلهم فَهَل على الرُّسُل إِلَّا﴾ عمِلُوا، وَقيل: جَزَاء السَّيِّئَات الَّتِي عمِلُوا. وَقَوله: ﴿وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون﴾ مَعْنَاهُ: نزل بهم، وأحاط بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون.
171
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا عَبدنَا من دونه من شَيْء نَحن وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء﴾.
وَمعنى التَّحْرِيم الْمَذْكُور فِي الْآيَة هُوَ مَا حرمُوا من الْبحيرَة والوصيلة والسائبة والحام، وَقد احتجت الْقَدَرِيَّة بِهَذِهِ الْآيَة، وَوجه احتجاجهم أَن الْمُشْركين قَالُوا: لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا، [ ﴿وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء﴾ ] ثمَّ إِن الله تَعَالَى قَالَ فِي آخر الْآيَة: ﴿كَذَلِك فعل الَّذين من قبلهم﴾ ردا وَإِنْكَارا عَلَيْهِم، فَدلَّ على أَن الله تَعَالَى لَا يَشَاء الْكفْر، وَأَنَّهُمْ فعلوا مَا فعلوا بِغَيْر مَشِيئَة الله.
وَالْجَوَاب عَنهُ: ذكر الزّجاج وَغَيره أَنهم قَالُوا هَذَا القَوْل على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء لَا على طَرِيق التَّحْقِيق، وَلَو قَالُوا على طَرِيق التَّحْقِيق لَكَانَ قَوْلهم مُوَافقا لقَوْل الْمُؤمنِينَ، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة شُعَيْب: ﴿إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد﴾ فَإِنَّهُم قَالُوا هَذَا على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء لَا على طَرِيق التَّحْقِيق، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة يس، ﴿وَإِذا قيل لَهُم أَنْفقُوا مِمَّا رزقكم الله قَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أنطعم من لَو يَشَاء الله أطْعمهُ﴾ وَهَذَا إِنَّمَا قَالُوهُ على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء؛ لِأَنَّهُ فِي نَفسه قَول حق يُوَافق قَول الْمُؤمنِينَ، كَذَلِك هَاهُنَا قَالُوا مَا قَالُوا على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء؛ فَلهَذَا أنكر الله تَعَالَى عَلَيْهِم، ورد قَوْلهم، وَالدَّلِيل على أَن المُرَاد من هَذَا مَا ذكر من بعد وسنبين.
وَقَوله: ﴿فَهَل على الرُّسُل إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين﴾ يَعْنِي: لَيْسَ إِلَيْهِم الْهِدَايَة والإضلال، وَإِنَّمَا عَلَيْهِم التَّبْلِيغ.
171
﴿الْبَلَاغ الْمُبين (٣٥) وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا أَن اعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت فَمنهمْ من هدى الله وَمِنْهُم من حقت عَلَيْهِ الضَّلَالَة فسيروا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين (٣٦) إِن تحرص على هدَاهُم فَإِن الله لَا يهدي من يضل وَمَا لَهُم من ناصرين (٣٧) وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم لَا يبْعَث الله من يَمُوت بلَى وَعدا عَلَيْهِ﴾
172
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا أَن اعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت﴾ أَي: وحدوا الله وَاجْتَنبُوا الْأَصْنَام. وَقَوله: ﴿فَمنهمْ من هدى الله وَمِنْهُم من حقت عَلَيْهِ الضَّلَالَة﴾ مَعْنَاهُ: فَمنهمْ من هداه الله للْإيمَان، وَمِنْهُم من وَجَبت عَلَيْهِ الضَّلَالَة، وَتَركه فِي الْكفْر بِالْقضَاءِ السَّابِق، فَهَذِهِ الْآيَة تبين أَن من آمن بِمَشِيئَة الله، وَأَن من كفر، كفر بِمَشِيئَة الله.
وَقَوله: ﴿فسيروا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين﴾ مَعْنَاهُ: مآل أَمر المكذبين ومرجعهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن تحرص على هدَاهُم﴾ الْحِرْص: طلب الشَّيْء بالجد وَالِاجْتِهَاد: وَقَوله: ﴿فَإِن الله لَا يهدي من يضل﴾ قَرَأَ بقراءتين: قَرَأَ أهل الْكُوفَة: " لَا يهدي من يضل " بِفَتْح الْيَاء الأولى وَضم الثَّانِيَة، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: " لَا يهدي من يضل " بِضَم اليائين، أما الْقِرَاءَة الأولى فَمَعْنَاه: لَا يهدي الله من أضلّهُ، وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة فَمَعْنَاه: فَإِن من يضله الله لَا يهدى، وَقيل: لَا يقدر أحد على هدايته، قَالُوا: وَهَذَا أولى الْقِرَاءَتَيْن. وَقَوله: ﴿وَمَا لَهُم من ناصرين﴾ أَي: مانعين من الْعَذَاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم﴾ جهد الْيَمين هُوَ أَن يحلف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه غَيره. وَقَوله: ﴿لَا يبْعَث الله من يَمُوت﴾ هَذَا دَلِيل على أَنهم كَانُوا مستبصرين فِي كفرهم.
وَقَوله: ﴿بلَى وَعدا عَلَيْهِ حَقًا﴾ مَعْنَاهُ: لَيْسَ الْأَمر كَمَا قَالُوا، وَلَكِن الله يَبْعَثهُم، ثمَّ قَالَ: ﴿وَعدا عَلَيْهِ حَقًا﴾ أَي: وَاجِبا.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ﴾ يَعْنِي: أَن وعد الله حق؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُعلمهُ
172
﴿حَقًا وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (٣٨) ليبين لَهُم الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وليعلم الَّذين كفرُوا أَنهم كَانُوا كاذبين (٣٩) إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون (٤٠) وَالَّذين هَاجرُوا فِي الله من بعد مَا ظلمُوا لنبوئنهم فِي الدُّنْيَا حَسَنَة ولأجر الْآخِرَة﴾ الْمُؤْمِنُونَ دون الْكفَّار.
173
قَوْله تَعَالَى: ﴿ليبين لَهُم الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ يَعْنِي: ليظْهر لَهُم الْحق فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. وَقَوله: ﴿وليعلم الَّذين كفرُوا أَنهم كَانُوا كاذبين﴾ يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه﴾ فَإِن قيل: قد قُلْتُمْ بِأَن الْمَعْدُوم لَيْسَ بِشَيْء، وَقد جعل الله هَاهُنَا الْمَعْدُوم شَيْئا حَيْثُ قَالَ: ﴿إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه﴾ وَمَعْنَاهُ: أردنَا تكوينه.
وَالْجَوَاب: أَن الْأَشْيَاء الَّتِي قدر الله كَونهَا هِيَ فِي علم الله كالكائنة (الْقَائِمَة) ؛ فاستقام قَوْله: ﴿إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه﴾ وَقيل: إِن هَذَا على طَرِيق الْمجَاز، وَمَعْنَاهُ: إِنَّمَا يكون شَيْئا إِذا أردنَا تكوينه.
وَقَوله: ﴿أَن نقُول لَهُ﴾ مَعْنَاهُ: أَن نقُول لأَجله: ﴿كن فَيكون﴾ أَي: كن فَكَانَ، وقرىء بقرائتين. " فَيكون " بِالنّصب، " وَيكون " بِالرَّفْع.
أما بِالرَّفْع مَعْنَاهُ: فَهُوَ يكون، وَأما بِالنّصب فَهُوَ منسوق على قَوْله: ﴿أَن نقُول﴾ وَذَلِكَ يَقْتَضِي النصب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين هَاجرُوا فِي الله من بعد مَا ظلمُوا﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: نزلت الْآيَة فِي عمار، وبلال، وصهيب بن سِنَان، وخباب بن الْأَرَت، وَسَالم مولى أبي حُذَيْفَة. وَقَوله: ﴿من بعد مَا ظلمُوا﴾ يَعْنِي: من بعد مَا عذبُوا وأوذوا.
وَقَوله: ﴿لنبوئنهم فِي الدُّنْيَا حَسَنَة﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس وَالشعْبِيّ وَالْحسن: هِيَ الْمَدِينَة، وَيُقَال: هِيَ قدم الصدْق، وَقيل: التَّوْفِيق وَالْهِدَايَة.
173
﴿أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ (٤١) الَّذين صَبَرُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّنَاتِ والزبر وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم ولعلهم يتفكرون (٤٤) أفأمن﴾
وَقَوله: ﴿ولأجر الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ﴾ أَي: أعظم لَو كَانُوا يعلمُونَ. وَقَوله: ﴿لَو كَانُوا يعلمُونَ﴾ منصرف إِلَى الْمُشْركين دون هَؤُلَاءِ النَّفر، فَإِنَّهُم كَانُوا يعلمُونَ أَن أجر الْآخِرَة أكبر.
174
وَقَوله: ﴿الَّذين صَبَرُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَهِي نازلة فِي هَؤُلَاءِ الْخَمْسَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم﴾ مَعْنَاهُ: إِلَّا رجَالًا من الْبشر نوحي إِلَيْهِم، فَإِن الْمُشْركين كَانُوا يُنكرُونَ إرْسَال الْآدَمِيّين، وَيطْلبُونَ إرْسَال الْمَلَائِكَة على مَا ذكر الله تَعَالَى ذَلِك فِي غير مَوضِع. وَقَوله: ﴿فاسألوا أهل الذّكر﴾ يَعْنِي: مؤمني أهل الْكتاب، وَقيل: حَملَة أهل الْكِتَابَيْنِ، فَإِنَّهُم كَانُوا لَا يُنكرُونَ هَذَا. وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ والزبر﴾ اخْتلفُوا فِي أَن قَوْله: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ والزبر﴾ إِلَى مَاذَا يرجع؟
قَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا بِالْبَيِّنَاتِ والزبر، وَمِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ: وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم بِالْبَيِّنَاتِ والزبر. ثمَّ قَالَ: ﴿فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ﴾.
قَوْله: ﴿وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم﴾. وَقد كَانَ الرَّسُول مُبينًا للوحي، وَقد قَالَ أهل الْعلم: إِن بَيَان الْكتاب فِي السّنة. وَقَوله: ﴿ولعلهم يتفكرون﴾ يَعْنِي: يتدبرون ويعتبرون.
قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿أفأمن الَّذين مكروا السَّيِّئَات أَن يخسف الله بهم الأَرْض﴾ " مكروا السَّيِّئَات " يَعْنِي: فعلوا السَّيِّئَات، وَذَلِكَ جحدهم التَّوْحِيد وعبادتهم غير الله، وعملهم بِالْمَعَاصِي، وَقد قَالُوا: إِن الْمَكْر فِي هَذَا الْمَوْضُوع هُوَ السَّعْي بِالْفَسَادِ، وَمَا قُلْنَاهُ أفسد الْفساد.
174
﴿الَّذين مكروا السَّيِّئَات أَن يخسف الله بهم الأَرْض أَو يَأْتِيهم الْعَذَاب من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَو يَأْخُذهُمْ فِي تقلبهم فَمَا هم بمعجزين (٤٦) أَو يَأْخُذهُمْ على تخوف﴾
وَقَوله: ﴿أَن يخسف الله بهم الأَرْض﴾ الْخَسْف مَعْلُوم الْمَعْنى، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " بَيْنَمَا رجل يتبختر فِي حلَّة لَهُ فَخسفَ بِهِ الأَرْض، فَهُوَ يتجلجل فِيهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَحكى النقاش عَن بعض أهل الْعلم مُسْندًا: أَن قوما تدافعوا الْإِمَامَة بعد مَا أُقِيمَت الصَّلَاة فَخسفَ الله بهم الأَرْض.
وَفِي بعض المسانيد عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يفتح للنَّاس مَعْدن، ويبدو من الذَّهَب أَمْثَال البخت؛ فيميل النَّاس إِلَيْهِ فيخسف الله بهم وبالمعدن، فهم يتجلجلون فِيهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَقَوله: ﴿أَو يَأْتِيهم الْعَذَاب من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ.
175
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو يَأْخُذهُمْ فِي تقلبهم﴾ قَالَ ابْن جريج: فِي إقبالهم وإدبارهم، وَقيل: فِي ليلهم ونهارهم، وَقيل: فِي أسفارهم. وَقَوله: ﴿فَمَا هم بمعجزين﴾ أَي: بفائتين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو يَأْخُذهُمْ على تخوف﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: على تنقص، وَمعنى التنقص فِي هَذَا الْموضع أَنه يَأْخُذهُمْ الأول فَالْأول حَتَّى يُهْلِكهُمْ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى التخوف هُوَ أَن يَأْخُذ قوما وَلَا يَأْخُذ آخَرين، وتخوفهم بِأخذ هَؤُلَاءِ، قَول الْحسن وَالضَّحَّاك.
وَالْقَوْل الثَّالِث: حكى عَن اللَّيْث بن سعد أَنه قَالَ: سَمِعت أَنه على عجل.
175
﴿فَإِن ربكُم لرءوف رَحِيم (٤٧) أولم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيأ ظلاله عَن الْيَمين وَالشَّمَائِل سجدا لله﴾
وَقَوله: ﴿فَإِن ربكُم لرءوف رَحِيم﴾ رَحمته للْكفَّار هِيَ إمهالهم فِي الْعَذَاب.
176
قَوْله تَعَالَى: (أولم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيأ ظلاله) يتَحَوَّل ظلاله، وَأما الْفرق بَين الْفَيْء والظل: فَيُقَال: إِن الظل بِالْغَدَاةِ، والفيء بالْعَشي، وَيُقَال: إِن مَعْنَاهُمَا وَاحِد.
وَقَوله: ﴿عَن الْيَمين﴾ أَي: عَن الْأَيْمَان؛ لِأَنَّهُ قد قَالَ عَقِيبه: ﴿وَالشَّمَائِل﴾ والظل دائر من جَوَانِب الْإِنْسَان، فَمرَّة يكون عَن يَمِينه، وَمرَّة يكون عَن شِمَاله، وَمرَّة يكون قدامه، وَمرَّة يكون خَلفه.
وَقَوله: ﴿سجدا لله﴾ أَكثر السّلف أَن السُّجُود هَاهُنَا: هُوَ الطَّاعَة لله، وَأَن كل الْأَشْيَاء سَاجِدَة لله مطيعة من حَيَوَان وجماد، وَهَذَا محكي عَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ، قَالَ الْحسن: يَا ابْن آدم، ظلك يسْجد لله تَعَالَى، وَأَنت لَا تسْجد، فبئس مَا صنعت.
وَذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِرِوَايَة ابْن عمر عَن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي قَالَ: أَربع بعد الزَّوَال قبل الظّهْر يعدلن مِثْلهنَّ من السحر، وَمَا من شَيْء إِلَّا وَيسْجد لله فِي تِلْكَ السَّاعَة، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: ﴿أولم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيأ ظلاله﴾ الْآيَة.
قَالَ الضَّحَّاك: المُرَاد من سُجُود الظلال سُجُود الْأَشْخَاص، وَذكر بَعضهم أَن معنى قَوْله: ﴿سجدا لله﴾ أَي: خاضعة ذليلة خادمة فِيمَا أُرِيد لَهَا بِأَصْل الْخلقَة، والأشياء.
176
﴿وهم داخرون (٤٨) وَللَّه يسْجد مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض من دَابَّة وَالْمَلَائِكَة وهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم ويفعلون مَا يؤمرون (٥٠) وَقَالَ الله﴾ كلهَا مجبولة على مَا أُرِيد لَهَا فِي أصل الْخلقَة.
وَذكر بَعضهم: أَنه إِنَّمَا أضَاف السُّجُود إِلَى هَذِه الْأَشْيَاء؛ لِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَى السُّجُود، فَكَأَنَّهَا فِي أَنْفسهَا سَاجِدَة، وَالأَصَح هُوَ القَوْل الأول ثمَّ الثَّانِي.
وَقَوله: ﴿وهم داخرون﴾ أَي: صاغرون.
177
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَللَّه يسْجد مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض من دَابَّة﴾ المُرَاد من الدَّابَّة هَاهُنَا قَالُوا: هِيَ الْحَيَوَان؛ لِأَن الْحَيَوَان من شَأْنه الدبيب، وَيُقَال: وَللَّه يسْجد مَا فِي السَّمَوَات من الْمَلَائِكَة، وَمَا فِي الأَرْض من دَابَّة.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا الْمَعْنى، وَقد قَالَ بعده: ﴿وَالْمَلَائِكَة﴾ ؟
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه خصهم بِالذكر تَشْرِيفًا لَهُم.
وَالْآخر: أَن المُرَاد من الْمَلَائِكَة الْمَذْكُورين أخيرا هم مَلَائِكَة الله فِي الأَرْض، يعْبدُونَ الله تَعَالَى ويسبحونه. وَقَوله: ﴿وهم لَا يستكبرن﴾ الاستكبار: طلب الْكبر بترك الإذعان للحق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم﴾ قَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: يخَافُونَ عَذَاب رَبهم من فَوْقهم، وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح - أَن هَذِه صفة الْعُلُوّ [الَّتِي] تفرد الله بهَا، وَهُوَ كَمَا وصف بِهِ نَفسه من غير تكييف.
وَقَوله: ﴿ويفعلون مَا يؤمرون﴾ يَعْنِي: أَن الْمَلَائِكَة لَا يعصونه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الله لَا تَتَّخِذُوا إلَيْهِنَّ اثْنَيْنِ﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: أيش معنى قَوْله: ﴿اثْنَيْنِ﴾ وَقد قَالَ: ﴿إِلَهَيْنِ﴾ ؟
الْجَواب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: على طَرِيق التَّأْكِيد، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَام
177
﴿لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد فإياي فارهبون (٥١) وَله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَله الدّين واصبا أفغير الله تَتَّقُون (٥٢) وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله ثمَّ إِذا﴾ ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا أرجعتم تِلْكَ عشرَة كَامِلَة).
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن الْآيَة على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهَا: وَقَالَ الله: لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد. ﴿فإياي فارهبون﴾ يَعْنِي: فخافون.
178
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿وَله الدّين واصبا﴾ أَي: دَائِما، هَكَذَا قَالَه ابْن عَبَّاس، وَالدّين بِمَعْنى الطَّاعَة.
وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَن [طَاعَة] غير الله تَنْقَطِع وتزول، وَطَاعَة الله لَا تَزُول وَلَا تَنْقَطِع، وَقيل: واصبا أَي: خَالِصا، والوصب فِي اللُّغَة هُوَ التَّعَب، فَيُقَال على هَذَا: أَن معنى الْآيَة أَن الطَّاعَات كلهَا لله، وَإِن كَانَ فِيهَا الوصب والتعب.
وَقَوله: ﴿أفغير الله تَتَّقُون﴾ أَي: تخافون، وَهَذَا اسْتِفْهَام على طَرِيق الْإِنْكَار.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله﴾ مَعْنَاهُ: وَمَا يكن لكم من نعْمَة فَمن الله، وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا مس عبدا نعْمَة فَعلم أَنَّهَا من الله إِلَّا وَقد [شكر] الله، وَإِن لم يحمده ".
وَقَوله: ﴿ثمَّ إِذا مسكم الضّر﴾ قيل: الْقَحْط، وَقيل: الْمَرَض. وَقَوله: ﴿فإليه تجأرون﴾ الجؤار هُوَ الصَّوْت على وَجه الاستغاثة، وَمِنْه جؤار الْبَقر، وَمعنى الْآيَة أَنكُمْ تدعون الله مستغيثين. قَالَ الشَّاعِر:
178
﴿مسكم الضّر فإليه تجأرون (٥٣) ثمَّ إِذا كشف الضّر عَنْكُم إِذا فريق مِنْكُم برَبهمْ يشركُونَ (٥٤) ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم فتمتعوا فَسَوف تعلمُونَ (٥٥) ويجعلون لما لَا يعلمُونَ نَصِيبا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تالله لتسألن عَمَّا كُنْتُم تفترون (٥٦) ويجعلون لله الْبَنَات﴾
179
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ إِذا كشف الضّر عَنْكُم﴾ يَعْنِي: مَا يضركم. وَقَوله: ﴿إِذا فريق مِنْكُم برَبهمْ يشركُونَ﴾ أَي: يكفرون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم﴾ مَعْنَاهُ: أَن حَاصِل أَمرهم هُوَ كفرهم بِمَا آتَيْنَاهُم من النِّعْمَة، وَهَذِه اللَّام وأمثالها تسمى لَام الْعَاقِبَة، وَقيل: إِن النِّعْمَة هِيَ الْآيَات الَّتِي أَرَاهَا خلقه على وحدانيته.
وَقَوله: ﴿فتمتعوا﴾ أَي: عيشوا الْمدَّة الَّتِي ضرب لكم فِي طلب اللَّذَّة ﴿فَسَوف تعلمُونَ﴾ عَاقِبَة أَمركُم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ويجعلون لما لَا يعلمُونَ نَصِيبا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ مَعْنَاهُ: ويجعلون للأصنام نَصِيبا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿فَقَالُوا هَذَا لله بزعمهم وَهَذَا لشركائنا﴾. وَقَوله: ﴿لَا يعلمُونَ﴾ يَعْنِي: لَا يعلمُونَ أَنَّهَا تَضُرهُمْ وَلَا تنفعهم.
وَقَوله: ﴿تالله لتسألن عَمَّا كُنْتُم تفترون﴾ مَعْنَاهُ: وَالله لتسألن، وَالسُّؤَال سُؤال إِلْزَام الْحجَّة، لَا سُؤال الاستعلام والاستفهام.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ويجعلون لله الْبَنَات﴾ هَذَا معنى قَوْلهم: إِن الْمَلَائِكَة بَنَات الله. وَقَوله: ﴿سُبْحَانَهُ﴾ هُوَ بَيَان تنزيهه عَن قَوْلهم.
وَقَوله: ﴿وَلَهُم مَا يشتهون﴾ أَي: الْبَنِينَ، فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ الْبَنَات، وَلنَا البنون.
وَقَوله: ﴿وَإِذا بشر أحدهم بِالْأُنْثَى﴾ كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يودون الذُّكُور من الْأَوْلَاد، ويكرهون الْإِنَاث، وَيَقُولُونَ: إنَّهُنَّ لَا يقاتلن، وَلَا يركبن الْخَيل، وَكَانَ الرجل مِنْهُم إِذا دنت ولادَة امْرَأَته توارى من نَادَى قومه، فَإِن بشر بالابن ظهر، ويهنئه الْقَوْم،
179
﴿سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَا يشتهون (٥٧) وَإِذا بشر أحدهم بِالْأُنْثَى ظلّ وَجهه مسودا وَهُوَ كظيم (٥٨) يتَوَارَى من الْقَوْم من سوء مَا بشر بِهِ أيمسكه على هون أم يدسه فِي التُّرَاب أَلا﴾ وَإِن بشر بِالْأُنْثَى تغير واستخفى وَرُبمَا يئدها؛ فَهَذَا معنى
180
قَوْله: ﴿يتَوَارَى من الْقَوْم من سوء مَا بشر بِهِ﴾ يَعْنِي: من كَرَاهَة مَا بشر بِهِ.
وَأما قَوْله: ﴿ظلّ وَجهه مسودا وَهُوَ كظيم﴾ مَعْنَاهُ: تغير وَجهه من الْغم، تَقول الْعَرَب: اسود وَجه فلَان، إِذا تغير بِمَا أَصَابَهُ من الْغم.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ كظيم﴾ أَي: ممتلىء حزنا، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: حَزِين، وَقَالَ غَيره: امْتَلَأَ حزنا، فَهُوَ يكظمه، أَي: يمسِكهُ وَلَا يظهره.
وَأما قَوْله: ﴿أيمسكه على هون﴾ قَرَأَ الجحدري: " على هوان "، وَقَالَ الْكسَائي: الْهون والهوان بِمَعْنى وَاحِد، وَقَالَت الخنساء شعرًا:
(يراوح فِي صلوَات المليك فطورا سجودا وطورا وجؤارا)
(نهين النُّفُوس ووهن النُّفُوس ليَوْم الكريهة أبقى لَهَا)
وَقَرَأَ عِيسَى بن عمر: " أم يدسها فِي التُّرَاب " وَيلْزمهُ على هَذِه الْقِرَاءَة أَن يقْرَأ: " أيمسكها "، وَأما على الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة فَإِنَّهَا تَنْصَرِف إِلَى لَفْظَة " مَا " وَمَا بِمَعْنى الَّذِي.
وَقَوله: (أم يدسه فِي التُّرَاب) أَي: يدفنه حَيا، وَعَن قَتَادَة قَالَ: رب أُنْثَى خير لأَهْلهَا من غُلَام، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا وضعت امْرَأَة بِنْتا إِلَّا وضع الْملك يَده على رَأسهَا وَقَالَ: ضَعِيفَة خرجت من ضَعِيفَة، الْمُنفق عَلَيْهَا معَان إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
180
﴿سَاءَ مَا يحكمون (٥٩) للَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة مثل السوء وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (٦٠) وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بظلمهم مَا ترك عَلَيْهَا من دَابَّة وَلَكِن﴾
وَقَوله: ﴿أَلا سَاءَ مَا يحكمون﴾ أَي: بئس مَا يحكمون، وحكمهم: وأد الْبَنَات وَترك الْبَنِينَ.
181
قَوْله تَعَالَى: ﴿للَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة مثل السوء﴾ أَي: صفة السوء، وَقيل: عَاقِبَة السوء. وَقَوله: ﴿وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى﴾ أَي: الصّفة الْعليا، وَذَلِكَ مثل قَوْلهم: عَالم وقادر ورازق وَحي، وَغير هَذَا.
وَقَالَ مُجَاهِد: " وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى " شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، فَإِن قيل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال﴾ وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى﴾ فَكيف وَجه الْجمع؟ وَالْجَوَاب أَن معنى قَوْله: ﴿فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال﴾ أَي: الْأَمْثَال الَّتِي هِيَ الْأَشْبَاه فَإِن الله تَعَالَى لَا شبه لَهُ، وَأما قَوْله: ﴿وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى﴾ أَي: الصّفة الْعليا، وَهَذَا جَائِز لكل أحد أَن يَقُوله، بل وَاجِب. وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بظلمهم﴾ أَي: بكفرهم. وَقَوله: ﴿مَا ترك عَلَيْهَا من دَابَّة﴾ رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: إِن الْجعل فِي جُحْره يعذب بذنب بني آدم، وَعَن أبي هُرَيْرَة أَنه سمع رجلا يَقُول: إِن الظَّالِم لَا يضر إِلَّا نَفسه، فَقَالَ لَهُ: بئْسَمَا قلت، إِن الْحُبَارَى تَمُوت هزلا من ظلم الظَّالِم.
وَقَالَ بعض أهل الْمعَانِي معنى الْآيَة: لَو أَخذ الظَّالِمين فَأهْلك الْآبَاء انْقَطع النَّسْل، وَلم يُوجد الْأَبْنَاء فَيهْلك من فِي الأَرْض.
181
﴿يؤخرهم إِلَى أجل مُسَمّى فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) ويجعلون لله مَا يكْرهُونَ وتصف ألسنتهم الْكَذِب أَن لَهُم الْحسنى لَا جرم أَن لَهُم النَّار وَأَنَّهُمْ مفرطون (٦٢) تالله لقد أرسلنَا إِلَى أُمَم من قبلك فزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم﴾
وَقَوله: ﴿وَلَكِن يؤخرهم إِلَى أجل مُسَمّى﴾ يَعْنِي: إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: ﴿فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
182
قَوْله تَعَالَى: ﴿ويجعلون لله مَا يكْرهُونَ﴾ يَعْنِي: الْبَنَات. وَقَوله: ﴿وتصف ألسنتهم الْكَذِب﴾ معنى الْكَذِب الْمَذْكُور هُوَ قَوْلهم: ﴿أَن لَهُم الْحسنى﴾.
وَفِي الْحسنى قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا البنون، وَالْآخر: أَنَّهَا الْجنَّة. وَقَوله: ﴿لَا جرم أَن لَهُم النَّار﴾ " لَا " رد لقَولهم. وَقَوله: ﴿جرم﴾ أَي: حَقًا، وَقيل: لَا محَالة أَن لَهُم النَّار، وَقيل: لَا بُد، وَقد بَينا أَن رجم بِمَعْنى كسب، وَذكرنَا عَلَيْهِ الاستشهاد.
وَقَوله: ﴿وَأَنَّهُمْ مفرطون﴾ أَكثر الْقُرَّاء قرأوا بِفَتْح الرَّاء، وَقَرَأَ نَافِع: " مفرطون " بِالْكَسْرِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر الْمدنِي: " مفرِّطون " بتَشْديد الرَّاء.
وَاخْتلف القَوْل فِي معنى قَوْله: ﴿مفرطون﴾ بِفَتْح الرَّاء، قَالَ سعيد بن جُبَير وَمُجاهد: منسيون، وعنهما: متروكون، وَقيل: مضيعون، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ، مقدمون إِلَى النَّار، وَمِنْه الفارط، وَهُوَ الَّذِي يتَقَدَّم إِلَى المَاء، قَالَ الشَّاعِر:
(استعجلونا فَكَانُوا من صحابتنا كَمَا تقدم فراط لوراد)
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَنا فَرَطكُمْ على الْحَوْض " أَي: متقدمكم، وَاخْتَارَ الْكسَائي وَأَبُو عُبَيْدَة وَالْفراء معنى قَول مُجَاهِد.
وَأما قَوْله: " مفرطون " بِكَسْر الرَّاء، هُوَ من الإفراط، يَعْنِي: مبالغون فِي الْإِسَاءَة، وَأما قَوْله: " مفرطون " هُوَ من التَّفْرِيط، يَعْنِي: أَنهم مقصرون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿تالله لقد أرسلنَا إِلَى أُمَم من قبلك﴾ يَعْنِي: وَالله لقد أرسلنَا إِلَى أُمَم
182
﴿فَهُوَ وليهم الْيَوْم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (٦٣) وَمَا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب إِلَّا لتبين لَهُم الَّذِي اخْتلفُوا فِيهِ وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ (٦٤) وَالله أنزل من السَّمَاء مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يسمعُونَ (٦٥) وَإِن لكم فِي الْأَنْعَام لعبرة﴾ من قبلك. وَقَوله: ﴿فزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم﴾ يَعْنِي: كفرهم وجحودهم. وَقَوله: ﴿فَهُوَ وليهم الْيَوْم﴾ سَمَّاهُ وليا لَهُم لطاعتهم إِيَّاه. وَقَوله: ﴿وَلَهُم عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: مؤلم.
183
قَوْله: ﴿وَمَا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب إِلَّا لتبين لَهُم الَّذِي اخْتلفُوا فِيهِ﴾ الْفرق بَين التَّبْيِين والتمييز، أَن فِي التَّبْيِين طلب الْعلم، وَلَيْسَ فِي التَّمْيِيز طلب الْعلم، فَإِن الرجل يُمَيّز بَين الْجيد والردىء (مَعَ علمه) بهما.
وَقَوله: ﴿اخْتلفُوا فِيهِ﴾ أَي: فِي الْكتاب. وَقَوله: ﴿وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ﴾ مَعْنَاهُ: أَن الْكتاب هدى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين، وَقيل: إِن الرَّسُول هدى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالله أنزل من السَّمَاء مَاء﴾ أَي: الْمَطَر. وَقَوله: ﴿فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا﴾ أَي: بالنبات. وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يسمعُونَ﴾ يَعْنِي: يسمعُونَ سَماع التفهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن لكم فِي الْأَنْعَام لعبرة نسقيكم﴾ قرىء بِالنّصب وَالرَّفْع، أما بِالنّصب فمعلوم الْمَعْنى، وَأما بِالرَّفْع فَهُوَ أَن يَجْعَل لكم سقيا، قَالَ الشَّاعِر فِي الْفرق بَينهمَا:
(سقى قومِي بني مجد وأسقي نميرا والقبائل من هِلَال)
قَوْله: ﴿مِمَّا فِي بطونه﴾ فَإِن قيل: كَيفَ لم يقل: مِمَّا فِي بطونها، والأنعام جمع؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن مَعْنَاهُ: مِمَّا فِي بطُون كل وَاحِد مِنْهُمَا أَو كل نوع مِنْهَا، وَالْعرب قد تحذف مثل هَذَا، قَالَ الشَّاعِر:
183
﴿نسقيكم مِمَّا فِي بطونه من بَين فرث وَدم لَبَنًا خَالِصا سائغا للشاربين (٦٦) وَمن ثَمَرَات النخيل وَالْأَعْنَاب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سكرا وَرِزْقًا حسنا﴾
أَي بردت.
وَقَوله: ﴿من بَين فرث وَدم﴾ الفرث هُوَ مَا يحصل فِي الكرش من الثّقل، وَيُقَال: إِن الْعلف الَّذِي تَأْكُله الدَّابَّة يتَغَيَّر فِي الكرش فيتحول لَبَنًا وفرثا ودما فأعلاه دم، وأوسطه لبن، وأسفله فرث، ثمَّ يُمَيّز الله تَعَالَى بَينهمَا، فَيجْرِي كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي مجْرَاه على حِدة، (فَيجْعَل) اللَّبن فِي الضَّرع، وَيجْعَل الدَّم فِي الْعُرُوق، وَيبقى الفرث فِي الكرش، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿من بَين فرث وَدم﴾.
وَقَوله: ﴿لَبَنًا خَالِصا﴾ أَي: لَيْسَ عَلَيْهِ لون الدَّم وَلَا رَائِحَة الفرث. وَقَوله: ﴿سائغا﴾ السائغ: مَا يجْرِي فِي الْحلق على السهولة، وَفِي بعض الْأَخْبَار: مَا غص أحد بِلَبن؛ لقَوْله: ﴿سائغا﴾. وَقَوله: ﴿للشاربين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
184
قَوْله: ﴿وَمن ثَمَرَات النخيل وَالْأَعْنَاب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سكرا﴾ اخْتلفُوا فِي السكر، فالمروي عَن ابْن عَبَّاس: أَن السكر مَا حرم من الثَّمر، والرزق الْحسن مَا حل من الثَّمر، وَعَن مُجَاهِد وَقَتَادَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ: أَن الْآيَة مَنْسُوخَة، وَهَذَا قبل تَحْرِيم الْخمر ثمَّ حرمت.
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: السكر هُوَ النَّبِيذ، والرزق الْحسن هُوَ التَّمْر وَالزَّبِيب، وَهَذَا قَول من يُبِيح (النَّبِيذ)، وَأما على قَول ابْن عَبَّاس فَالْمُرَاد من الْآيَة هُوَ الْإِخْبَار عَنْهُم، لَا الْإِحْلَال لَهُم، وَأولى الْأَقَاوِيل أَن قَوْله: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سكرا﴾ مَنْسُوخ.
وَفِي بعض المسانيد أَن النَّبِي قَالَ: " لكم من الْعِنَب خَمْسَة حَلَال: الْعصير، وَالزَّبِيب، والخل، والرب، وَأَن تأكلوه عنبا " وَالله أعلم بِصِحَّتِهِ. وَقَالَ الشَّاعِر فِي
184
﴿إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يعْقلُونَ (٦٧) وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل أَن اتخذي من الْجبَال بُيُوتًا وَمن الشّجر وَمِمَّا يعرشون (٦٨) ثمَّ كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل رَبك دللا﴾ السكر:
(أَلا يَا سُهَيْل فالقطيخ قد فسد وطاب ألبان اللقَاح فبرد)
(بئس الضجيع وَبئسَ الشّرْب شربهم إِذا جرى فيهم المزاء وَالسكر)
أَي: الْمُسكر. وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يعْقلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
185
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل﴾ الْآيَة، وَأوحى رَبك أَي: ألهم رَبك، وَالْوَحي فِي اللُّغَة هُوَ إِعْلَام الشَّيْء فِي الستْرَة، وَقد يكون ذَلِك بِالْكِتَابَةِ، وَقد يكون بِالْإِشَارَةِ وَقد يكون بالإلهام، وَقد يكون بالْكلَام الْخَفي، وَقَالَ بَعضهم معنى قَوْله: ﴿وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل﴾ أَي: جعل فِي غرائزها ذَلِك، وَقيل: أوحى بِمَعْنى سخر، وذلل، وَأَصَح الْأَقَاوِيل هُوَ الأول. وَقَوله: ﴿إِلَى النَّحْل﴾ والنحل: ذُبَاب الْعَسَل، وَفِي رِوَايَة ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كل الذُّبَاب فِي النَّار إِلَّا النَّحْل " وَالْخَبَر غَرِيب.
وَقَوله: ﴿أَن اتخذي من الْجبَال بُيُوتًا وَمن الشّجر﴾ أَي: خلايا، وَهِي الْأَمْكِنَة الَّتِي يضع النَّحْل فِيهَا الْعَسَل، وَيُقَال: إِنَّمَا يضع الْعَسَل فِي أَجْوَاف الْأَشْجَار، وَقد يضع على أَغْصَان الْأَشْجَار، وَقَوله: ﴿وَمِمَّا يعرشون﴾ يَعْنِي: يبنون، وَقد جرت عَادَة أَهلهَا أَنهم يبنون لَهَا الْأَمَاكِن فَهِيَ تأوي إِلَيْهَا بتسخير الله إِيَّاهَا لذَلِك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل رَبك﴾ أَي: طرق رَبك، قَالَ مُجَاهِد: هِيَ تسلك سبلها لَا يتوعر عَلَيْهَا مَكَان.
185
﴿يخرج من بطونها شراب مُخْتَلف ألوانه فِيهِ شِفَاء للنَّاس إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يتفكرون﴾
وَقَوله: ﴿ذللا﴾ يحْتَمل وَجْهَيْن:
يحْتَمل أَنه رَاجع إِلَى الطّرق، يُقَال: سَبِيل ذَلُول، وسبل ذلل، إِذا كَانَت سهلة المسلك، وَيحْتَمل أَنه ينْصَرف إِلَى النَّحْل، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا مطيعة منقادة لما خلقت لَهُ، وَيُقَال: إِن للنحل يعسوبا - وَهُوَ سيد النَّحْل - إِذا وقفت وقفت، وَإِذا سَارَتْ سَارَتْ، وَيُقَال: " ذللا " يَعْنِي لأربابها؛ فَإِنَّهُ قد جرت الْعَادة أَن أَرْبَابهَا ينقلونها من مَكَان إِلَى مَكَان، فَهِيَ مسخرة لذَلِك.
وَقَوله: ﴿يخرط من بطونها﴾. فَإِن قَالَ قَائِل: إِنَّمَا يخرج من أفواهها لَا من بطونها؟، وَالْجَوَاب عَنهُ أَنه إِنَّمَا ذكر بطونها لِأَن الاستحالة تقع فِي بطونها؛ وَلِأَنَّهُ يخرج من بطونها إِلَى أفواهها، ثمَّ تسيل من أفواهها كَهَيئَةِ الرِّيق، وَرُوِيَ أَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - مر على عبد الرَّحْمَن بن عتاب بن أسيد، وَهُوَ مقتول يَوْم الْجمل؛ فَقَالَ: هَذَا يعسوب قُرَيْش شفيت نَفسِي، وَقتلت قومِي، أَشْكُو إِلَى الله عجري وبجري، أَي: همومي وأحزاني.
وَقَوله: ﴿شراب مُخْتَلف ألوانه﴾ يَعْنِي: أَحْمَر، وأصفر، وأبيض. وَقَوله: ﴿فِيهِ شِفَاء للنَّاس﴾ لَا يشكل على أحد أَن فِي الْعَسَل شِفَاء لبَعض الْأَمْرَاض، وَقد يَجْعَل فِي المعجونات وَكثير من الْأَدْوِيَة، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: فِيهِ شِفَاء للنَّاس، أَي: فِي الْقُرْآن، وَالْأَظْهَر فِي الْآيَة هُوَ القَوْل الأول.
وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: " أَن رجلا أَتَى النَّبِي وَذكر أَن أَخَاهُ اشْتَكَى بَطْنه فَقَالَ: اسْقِهِ عسلا، فَسَقَاهُ، فَزَاد الوجع، فَعَاد وَذكر لَهُ؛ فَقَالَ: اسْقِهِ عسلا، فَسَقَاهُ فازداد وجعا، فَعَاد وَذَلِكَ لَهُ ذَلِك؛ فَقَالَ: اسْقِهِ عسلا، فَسَقَاهُ فبرأ، فَعَاد وَذكر ذَلِك للنَّبِي فَقَالَ: صدق الله، وَكذب بطن أَخِيك ".
وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: من اشْتَكَى شَيْئا فليأخذ من امْرَأَته أَرْبَعَة
186
( ﴿٦٩) وَالله خَلقكُم ثمَّ يتوفاكم ومنكم من يرد إِلَى أرذل الْعُمر لكَي لَا يعلم بعد علم شَيْئا إِن الله عليم قدير (٧٠) وَالله فضل بَعْضكُم على بعض فِي الرزق فَمَا الَّذين فضلوا﴾ دَرَاهِم من مهرهَا وليشتر بهَا عسلا، وليخلطه بِمَاء الْمَطَر وليشربه؛ فَإِن فِيهِ شِفَاء.
وَكَانَ ابْن عمر إِذا أَصَابَهُ وجع طلى على مَوضِع الوجع بالعسل حَتَّى الدمل: وَعَن أبي حرَّة أَنه كَانَ يكتحل بالعسل. وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يتفكرون﴾ أَي: يتدبرون.
187
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالله خَلقكُم ثمَّ يتوفاكم ومنكم من يرد إِلَى أرذل الْعُمر﴾ يَعْنِي: الْهَرم، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: إِنَّه خمس وَسَبْعُونَ سنة، وَقيل: ثَمَانُون سنة، حَكَاهُ قطرب. وَقيل: تسعون سنة، وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: من قَرَأَ الْقُرْآن لم يرد إِلَى أرذل الْعُمر، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يذهب عقله وَلَا يخرف، وَقيل: إِن الرَّد إِلَى أرذل الْعُمر للْكَافِرِينَ؛ فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿ثمَّ رددناه أَسْفَل سافلين إِلَّا الَّذين آمنُوا﴾.
وَقَوله: ﴿لكيلا يعلم بعد علم شَيْئا﴾ يَعْنِي: ينتقص علمه وعقله، وَهَذَا دَلِيل على أَنه قد يذكر الشَّيْء، وَيُرَاد بِهِ الْأَغْلَب، فَإِنَّهُ إِذا رد إِلَى أرذل الْعُمر لَا يذهب جَمِيع علمه إِذا، وَإِنَّمَا يذهب أَكثر علمه. وَقَوله: ﴿إِن الله عليم قدير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالله فضل بَعْضكُم على بعض فِي الرزق﴾ مَعْنَاهُ: بسط لهَذَا وضيق على هَذَا، وَأكْثر لهَذَا وقلل.
وَقَوله: ﴿فَمَا الَّذين فضلوا برادي رزقهم على مَا ملكت أَيْمَانهم﴾ فِي الْآيَة رد على الْمُشْركين فِي اتخاذهم الْأَصْنَام آلِهَة مَعَ الله، وَمعنى الْآيَة: أَن الْأَحْرَار المالكين مِنْكُم لَا تسخو أنفسهم بِدفع أَمْوَالهم إِلَى عبيدهم ليشاركوهم فِي الْملك، فَيَكُونُوا وهم سَوَاء؛ فَإِذا لم ترضوا هَذَا لأنفسكم؛ فَأولى أَن تنزهوا ربكُم عَنهُ، وَنَظِير هَذَا مَا ذكر فِي سُورَة الرّوم: ﴿ضرب لكم مثلا من أَنفسكُم﴾ إِلَى قَوْله: ﴿فَأنْتم فِيهِ سَوَاء﴾.
187
﴿برادي رزقهم على مَا ملكت أَيْمَانهم فهم فِيهِ سَوَاء أفبنعمة الله يجحدون (٧١) وَالله جعل لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا وَجعل لكم من أزواجكم بَنِينَ وحفدة ورزقكم من الطَّيِّبَات أفبالباطل يُؤمنُونَ وبنعمت الله هم يكفرون (٧٢) ويعبدون من دون الله مَا لَا﴾
وَقَوله: ﴿أفبنعمة الله يجحدون﴾ يَعْنِي: بِأَن أنعم عَلَيْكُم جحدتموه، واتخذتم غَيره إِلَهًا مَعَه.
188
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالله جعل لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن هَذَا فِي آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - فَإِن الله تَعَالَى خلق حَوَّاء من بعض أضلاعه.
وَالْقَوْل الثَّانِي: خلق من أَنفسكُم أَزْوَاجًا أَي: من جنسكم أَزْوَاجًا.
وَقَوله: ﴿وَجعل لكم من أزواجكم بَنِينَ وحفدة﴾ فِي الحفدة أَقْوَال: رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: هم الْأخْتَان، وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: هم الأصهار، وَمعنى الْآيَة على هَذَا القَوْل: وَجعل لكم من أزواجكم بَنِينَ وَبَنَات تزوجونهم؛ فَيحصل لكم بسببهم الْأخْتَان والأصهار.
وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - وَمُجاهد وَغَيرهمَا أَنهم قَالُوا: الخدم، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: الأعوان، وَقيل: [أَوْلَاد] الْأَوْلَاد، وَقيل: بَنو الْمَرْأَة من غَيره.
والحفد فِي اللُّغَة: هُوَ الْإِسْرَاع فِي الْعَمَل، وَفِي دُعَاء الْقُنُوت: وَإِلَيْك نسعى ونحفد أَي: نسرع، وَقَالَ الشَّاعِر:
(حفد الولائد حَوْلهنَّ وَأسْلمت بأكفهن أزمة الأجمال)
وَقيل: إِن الْبَنِينَ هم الْكِبَار، والحفدة هم الصغار، وَيُقَال: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ: وَجعل لكم حفدة وَمن أزواجكم بَنِينَ. وَقَوله: ﴿ورزقكم من الطَّيِّبَات﴾ يَعْنِي: من النعم الْحَلَال.
وَقَوله: ﴿أفبالباطل يُؤمنُونَ﴾ وَهَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار. وَقَوله: {وبنعمة الله هم
188
﴿يملك لَهُم رزقا من السَّمَوَات وَالْأَرْض شَيْئا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال إِن الله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ (٧٤) ضرب الله مثلا عبدا مَمْلُوكا لَا يقدر على شَيْء وَمن﴾ يكفرون) يَعْنِي: بِالْإِسْلَامِ هم يكفرون، وَقيل: بمحمدهم يكفرون.
189
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ويعبدون من دون الله مَا لَا يملك لَهُم رزقا من السَّمَوَات وَالْأَرْض شَيْئا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ المُرَاد من الْآيَة ذكر عجز الْأَصْنَام عَن إِيصَال نفع أَو دفع ضرّ.
وَقَوله: ﴿فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال﴾ أَي: الْأَشْبَاه، وَمَعْنَاهُ: فَلَا تجْعَلُوا لله شبها. وَلَا مثلا؛ فَإِنَّهُ لَا شبه لَهُ، وَلَا مثل لَهُ. وَقَوله: ﴿إِن الله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ضرب الله مثلا عبدا مَمْلُوكا لَا يقدر على شَيْء وَمن رزقناه منا رزقا حسنا فَهُوَ ينْفق مِنْهُ سرا وجهرا﴾ قَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك: ضرب الْمثل لنَفسِهِ وللصنم الَّذِي عبد من دونه، فَقَوله: ﴿عبدا مَمْلُوكا﴾ أَرَادَ بِهِ الصَّنَم. وَقَوله: ﴿وَمن رزقناه منا رزقا حسنا﴾ ضرب مثلا لنَفسِهِ على معنى أَنه الْجواد الرازق الَّذِي يُعْطي من حَيْثُ يُعلمهُ العَبْد وَمن حَيْثُ لَا يُعلمهُ.
وَقَالَ قَتَادَة - وَهُوَ القَوْل الثَّانِي - هُوَ ضرب مثلا للْكَافِرِ وَالْمُؤمن، فَقَوله: ﴿عبدا مَمْلُوكا﴾ أَرَادَ بِهِ الْكَافِر، وَقَوله: ﴿وَمن رزقناه منا رزقا حسنا﴾ أَرَادَ بِهِ الْمُؤمن، وَقيل: إِن القَوْل الأول أليق بِظَاهِر الْآيَة؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا سبق ذكر الْأَصْنَام، (وَتَأَخر ذكر الْأَصْنَام).
وَمن نصر القَوْل الثَّانِي اسْتدلَّ على صِحَّته بقوله: ﴿عبدا مَمْلُوكا﴾ والصنم لَا يُسمى عبدا، وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس أَن الْآيَة فِي رجلَيْنِ بأعيانهما: أما الَّذِي رزقه الله رزقا حسنا، فَهُوَ ينْفق مِنْهُ سرا وجهرا، هُوَ عَمْرو بن هِشَام، وَأما [العَبْد] الْمَمْلُوك فَهُوَ هُوَ مَوْلَاهُ أَبُو الْجَواب، وَكَانَ يَأْمُرهُ بِالْإِيمَان وَيمْتَنع، أوردهُ
189
﴿رزقناه منا رزقا حسنا فَهُوَ ينْفق مِنْهُ سرا وجهرا هَل يستوون الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (٧٥) وَضرب الله مثلا رجلَيْنِ أَحدهمَا أبكم لَا يقدر على شَيْء وَهُوَ كل على مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يوجهه لَا يَأْتِ بِخَير هَل يَسْتَوِي هُوَ وَمن يَأْمر بِالْعَدْلِ وَهُوَ على صِرَاط﴾ النّحاس فِي تَفْسِيره بِإِسْنَادِهِ.
وَقَوله: ﴿هَل يستوون﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: ﴿هَل يستوون﴾، وَإِنَّمَا ضرب الْمثل لاثْنَيْنِ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن المُرَاد مِنْهُ الْجِنْس لَا وَاحِد بِعَيْنِه. وَقَوله: ﴿الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى. أَي: حمد نَفسه على علمه وجهلهم، وَقيل: مَعْنَاهُ: قل الْحَمد لله على مَا أوضح من الدَّلِيل. وَبَين من الْحق بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ، وَيُقَال: الْحَمد لي فَإِنِّي أَنا الْمُسْتَحق للحمد لَا مَا يشركُونَ بِي، بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ أَنِّي أَنا الْمُسْتَحق للحمد.
190
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَضرب الله مثلا رجلَيْنِ أَحدهمَا أبكم﴾ الأبكم: هُوَ الَّذِي لَا ينْطق، وَلَا يعقل، وَلَا يفهم. وَقَوله: ﴿لَا يقدر على شَيْء﴾ أَي: لَا يقدر على النُّطْق.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ كل على مَوْلَاهُ﴾ أَي: ثقل على مَوْلَاهُ. وَقَوله: ﴿أَيْنَمَا يوجهه لَا يَأْتِ بِخَير﴾ يَعْنِي: أَيْنَمَا يَبْعَثهُ لَا يَهْتَدِي إِلَى خير. وَقَوله: ﴿هَل يَسْتَوِي هُوَ وَمن يَأْمر بِالْعَدْلِ﴾ عَنى بِهِ نَفسه، وَالله تَعَالَى يَأْمر بِالْعَدْلِ، وَيفْعل الْعدْل.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ على صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ أَي: على طَرِيق قويم، وَالْمرَاد من الْآيَة: ضرب مثلا آخر لنَفسِهِ وللأصنام، فَالْأول هُوَ الصَّنَم، وَالْمرَاد من قَوْله: ﴿وَمن يَأْمر بِالْعَدْلِ﴾ هُوَ الله تَعَالَى. وَقَوله: ﴿على صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ لِأَن الله تَعَالَى على طَرِيق الْحق، وَلَيْسَ عَنهُ معدل.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ مَا روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْآيَة فِي رجلَيْنِ بأعيانهما: أما الأول: فَهُوَ أسيد بن أبي العيض. وَقَوله: ﴿وَمن يَأْمر بِالْعَدْلِ﴾ هُوَ عُثْمَان بن عَفَّان، وَكَانَ عُثْمَان يَأْمُرهُ بِالْإِسْلَامِ فَلَا يسلم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَللَّه غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ يَعْنِي: علم غيب السَّمَوَات
190
﴿مُسْتَقِيم (٧٦) وَللَّه غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا أَمر السَّاعَة إِلَّا كلمح الْبَصَر أَو هُوَ أقرب إِن الله على كل شَيْء قدير (٧٧) وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تشكرون (٧٨) ألم يرَوا إِلَى الطير مسخرات فِي جو السَّمَاء مَا يمسكهن إِلَّا الله إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ (٧٩) ﴾ وَالْأَرْض. وَقَوله: ﴿وَمَا أَمر السَّاعَة إِلَّا كلمح الْبَصَر﴾ مَعْنَاهُ: أَنه إِذا قَالَ لَهُ: كن فَيكون.
وَقَوله: ﴿أَو هُوَ أقرب﴾ يَعْنِي: أدنى من لمح الْبَصَر، فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: ﴿أَو هُوَ أقرب﴾، و " أَو " للشَّكّ وَلَا يجوز على الله هَذَا؟
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن قَوْله: ﴿أَو هُوَ أقرب﴾ يَعْنِي: بل هُوَ أقرب قَالَ الشَّاعِر:
(بَدَت مثل قرن الشَّمْس فِي رونق الضُّحَى وبهجته أَو أَنْت فِي الْعين أَمْلَح)
يَعْنِي: بل أَنْت فِي الْعين أَمْلَح.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن المُرَاد مِنْهُ: أَو هُوَ أقرب فِي علمكُم. وَقَوله: ﴿إِن الله على كل شَيْء قدير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
191
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا﴾ يَعْنِي: لَا تعلمُونَ شَيْئا مِمَّا علمْتُم الْآن.
وَقَوله: ﴿وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة﴾ أَي: الأسماع والأبصار والأفئدة، وَهِي جمع الْفُؤَاد. وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تشكرون﴾ أَي: نعمتي عَلَيْكُم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم يرَوا إِلَى الطير مسخرات فِي جو السَّمَاء﴾ أَي: مذلالات فِي كبد السَّمَاء، وَعَن كَعْب الْأَحْبَار أَن الطير يرْتَفع اثنى عشر ميلًا وَلَا يرْتَفع فَوق هَذَا. وَفَوق الجو السكاك وَفَوق السكاك السَّمَاء.
وَقَوله: ﴿مَا يمسكهن إِلَّا الله﴾ يَعْنِي: فِي حَال طيرانهن وقبضهن وبسطهن.
191
﴿وَالله جعل لكم من بُيُوتكُمْ سكنا وَجعل لكم من جُلُود الْأَنْعَام بُيُوتًا تستخفونها يَوْم ظعنكم وَيَوْم إقامتكم وَمن أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا أثاثا ومتاعا إِلَى حِين (٨٠) وَالله جعل لكم مِمَّا خلق ظلالا وَجعل لكم من الْجبَال أكنانا وَجعل لكم سرابيل تقيكم الْحر﴾ وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ﴾ أَي: لعبرا.
192
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالله جعل لكم من بُيُوتكُمْ سكنا﴾ أَي: مَوَاضِع تسكنون فِيهَا. وَقَوله: ﴿وَجعل لكم من جُلُود الْأَنْعَام بُيُوتًا﴾ يَعْنِي: الفساطيط والخيم والقباب من الْأدم.
وَقَوله: ﴿تستخفونها﴾ يَعْنِي: يخف عَلَيْكُم حملهَا. وَقَوله: ﴿يَوْم ظعنكم﴾ يَعْنِي: يَوْم سفركم. وَقَوله: ﴿وَيَوْم إقامتكم﴾ أَي: حَال إقامتكم.
وَقَوله: ﴿وَمن أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا﴾ الأصواف للغنم، والأوبار لِلْإِبِلِ، والأشعار للمعز. وَقَوله: ﴿أثاثا﴾ الأثاث: مَتَاع الْبَيْت، وَهُوَ مَا يتأثث بِهِ أَي: ينْتَفع بِهِ، قَالَ الشَّاعِر:
(أهاجتك الظعائن يَوْم بانوا على الزي الْجَمِيل من الأثاث)
وَقيل: الأثاث اللبَاس. وَقَوله: ﴿ومتاعا إِلَى حِين﴾ أَي: مُتْعَة إِلَى حِين آجالكم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالله جعل لكم مِمَّا خلق ظلالا﴾ أَي: مَا يظلكم من الشَّمْس من الْأَشْجَار والحيطان والسقوف وَالْجِبَال وَأَشْبَاه ذَلِك.
وَقَوله: ﴿وَجعل لكم من الْجبَال أكنانا﴾ أَي: الغيران والأسراب، والأكنان جمع الْكن. وَقَوله: ﴿وَجعل لكم سرابيل﴾ أَي: قمصا، وَقد تكون من الصُّوف، وَقد تكون من الْقطن، وَقد تكون من الْكَتَّان.
وَقَوله: ﴿تقيكم الْحر﴾ هَاهُنَا حذف، وَمَعْنَاهُ: تقيكم الْحر وَالْبرد. قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَا أَدْرِي إِذا يممت أَرضًا أُرِيد الْخَيْر أَيهمَا يليني)
قَالَ النّحاس: أُرِيد الْخَيْر وأتقي الشَّرّ؛ لِأَن كل من يُرِيد الْخَيْر فيتقي الشَّرّ، وَقَوله: أَيهمَا يليني أَي: الْخَيْر وَالشَّر.
192
﴿وسرابيل تقيكم بأسكم كَذَلِك يتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تسلمون (٨١) فَإِن توَلّوا فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ الْمُبين (٨٢) يعْرفُونَ نعمت الله ثمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرهم الْكَافِرُونَ (٨٣) ﴾
وَقَوله: ﴿وسرابيل تقيكم بأسكم﴾ أَي: الدروع، والبأس هُوَ مَا يَقع بِهِ الْبَأْس، وَهُوَ السِّلَاح. وَقَوله: ﴿كَذَلِك يتم نعْمَته عَلَيْكُم﴾ يَعْنِي: منته عَلَيْكُم. وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تسلمون﴾ أَي: تؤمنون، وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " لَعَلَّكُمْ تسلمون " وَالْقِرَاءَة غَرِيبَة.
فَإِن قيل: كَيفَ ذكر هَذِه النعم من الْجبَال والظلال والسرابيل والقمص والأوبار والأصواف، وَللَّه تَعَالَى نعم كَثِيرَة فَوق هَذَا لم يذكرهَا؟ فَمَا معنى تَخْصِيص هَذِه النعم وَترك مَا فَوْقهَا؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْعَرَب كَانُوا أَصْحَاب أنعام، وَكَانُوا أهل جبال، وَكَانَت بِلَادهمْ حارة؛ فَذكر من النعم مَا يَلِيق بحالهم، وَكَانَت هَذِه النعم عِنْدهم فَوق كل نعْمَة؛ فخصها بِالذكر لهَذَا الْمَعْنى، وَعَن قَتَادَة: أَن هَذِه السُّورَة تسمى سُورَة النعم.
193
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِن توَلّوا فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ الْمُبين﴾ هَذِه تَسْلِيَة للنَّبِي وَمَعْنَاهُ: أَنهم إِن أَعرضُوا فَلَا يلحقك فِي ذَلِك عتب وَلَا سمة تقصيرا؛ فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ وَقد بلغت.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يعْرفُونَ نعْمَة الله ثمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾ قَالَ السّديّ: هُوَ مُحَمَّد، وعَلى هَذَا جمَاعَة من أهل التَّفْسِير، وَيُقَال: إِن مَعْنَاهُ الْإِسْلَام. وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى الْآيَة: أَنه كَانَ إِذا قيل لَهُم: من أَعْطَاكُم هَذِه النعم؟ فَيَقُولُونَ: الله، فَإِذا قيل لَهُم: فوحدوه؛ فَيَقُولُونَ: أعطينا بشفاعة آلِهَتنَا.
وَعَن قَتَادَة: أَنهم يقرونَ أَن النعم من الله، ثمَّ إِذا قيل لَهُم: تصدقوا، وامتثلوا فِيهَا أَمر الله تَعَالَى، قَالُوا: وَرِثْنَاهَا من آبَائِنَا.
وَعَن عون بن عبد الله قَالَ: إِنْكَار النِّعْمَة هُوَ أَن يَقُول: لَوْلَا كَذَا لَأُصِبْت كَذَا، وَلَوْلَا فلَان لأصابني كَذَا. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: النعم سِتَّة: مُحَمَّد،
193
﴿وَيَوْم نبعث من كل أمة شَهِيدا ثمَّ لَا يُؤذن للَّذين كفرُوا وَلَا هم يستعتبون (٨٤) وَإِذا رأى الَّذين ظلمُوا الْعَذَاب فَلَا يُخَفف عَنْهُم وَلَا هم ينظرُونَ (٨٥) وَإِذا رأى الَّذين أشركوا شركاءهم قَالُوا رَبنَا هَؤُلَاءِ شركاؤنا الَّذين كُنَّا نَدْعُو من دُونك فَألْقوا إِلَيْهِم القَوْل إِنَّكُم لَكَاذِبُونَ (٨٦) وألقوا إِلَى الله يَوْمئِذٍ السّلم وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون﴾ وَالْقُرْآن، وَالْإِسْلَام، والعافية، والستر، والاستغناء عَن النَّاس.
وَقَوله: ﴿وَأَكْثَرهم الْكَافِرُونَ﴾ يَعْنِي: وَكلهمْ الْكَافِرُونَ؛ لِأَن الْآيَة فِي الْكفَّار.
194
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَوْم نبعث من كل أمة شَهِيدا﴾ هَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿فَكيف إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ شَهِيدا﴾.
وَقَوله: (ثمَّ لَا يُؤذن للَّذين كفرُوا) يَعْنِي: فِي الِاعْتِذَار، وَقيل: فِي الْكَلَام أصلا. وَقَوله: ﴿وَلَا هم يستعتبون﴾ يَعْنِي: لَا يردون إِلَى الدُّنْيَا ليتوبوا، وَحَقِيقَة الْمَعْنى فِي الاستعتاب: هُوَ التَّعْرِيض لطلب الرِّضَا، وَهَذَا الْبَاب منسد على الْكفَّار فِي الْآخِرَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا رأى الَّذين ظلمُوا الْعَذَاب﴾ يَعْنِي: جَهَنَّم. وَقَوله: ﴿فَلَا يُخَفف عَنْهُم﴾ أَي: لَا يسهل عَلَيْهِم. وَقَوله: ﴿وَلَا هم ينظرُونَ﴾ أَي: لَا يمهلون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا رأى الَّذين أشركوا شركاءهم﴾ هَذَا فِي الْوَقْت الَّذِي يبْعَث الله الْأَصْنَام ويحضرها، فَإِذا رَآهَا الْكفَّار ﴿قَالُوا رَبنَا هَؤُلَاءِ شركاؤنا الَّذين كُنَّا ندعوا من دُونك﴾.
وَقَوله: ﴿فَألْقوا إِلَيْهِم القَوْل إِنَّكُم لَكَاذِبُونَ﴾ فِيهِ قَولَانِ:
الْأَظْهر أَن هَذَا قَول الْأَصْنَام يَقُولُونَ للْمُشْرِكين: إِنَّكُم لَكَاذِبُونَ، يَعْنِي: فِي أَنا دعوناكم إِلَى عبادتنا، أَو فِي قَوْلكُم: إِن هَؤُلَاءِ آلِهَة، أَو فِي قَوْلكُم: إِنَّا نستحق الْعِبَادَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْمَلَائِكَة يَقُولُونَ: إِنَّكُم لَكَاذِبُونَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وألقوا إِلَى الله يَوْمئِذٍ السّلم﴾ أَي: استسلم العابد والمعبود لله
194
( ﴿٨٧) الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله زدناهم عذَابا فَوق الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يفسدون (٨٨) وَيَوْم نبعث فِي كل أمة شَهِيدا عَلَيْهِم من أنفسهم وَجِئْنَا بك شَهِيدا على هَؤُلَاءِ ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء وَهدى وَرَحْمَة وبشرى للْمُسلمين (٨٩) إِن﴾ تَعَالَى. وَقَوله: ﴿وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون﴾ أَي: بَطل عَنْهُم مَا كَانُوا يكذبُون، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنه فَاتَ عَنْهُم مَا زعموه؛ فَإِنَّهُ كَانَ فِرْيَة وكذبا.
195
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله﴾ يَعْنِي: منعُوا النَّاس من طَرِيق الْحق. وَقَوله: ﴿زدناهم عذَابا فَوق الْعَذَاب﴾ روى مَسْرُوق عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: عقارب كالبغال، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ: أفاعي كالفيلة، وعقارب كالنخيل الطوَال، وَعَن أبي الزَّاهِرِيَّة قَالَ: [مَا] من عَذَاب يعرفهُ النَّاس، أَو لَا يعرفونه إِلَّا ويعذب الله بِهِ أهل النَّار. وَرُوِيَ أَنهم يهربون من النَّار، فَيخْرجُونَ إِلَى زمهرير فِي جَهَنَّم، هُوَ أَشد عَلَيْهِم من النَّار؛ فيعودون إِلَى النَّار مستغيثين بهَا، وَقَوله: ﴿بِمَا كَانُوا يفسدون﴾ أَي: [يشركُونَ].
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَيَوْم نبعث فِي كل أمة شَهِيدا عَلَيْهِم من أنفسهم وَجِئْنَا بك شَهِيدا على هَؤُلَاءِ﴾ قد بَينا الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء﴾ أَي: بَيَانا للثَّواب وَالْعِقَاب، والحلال وَالْحرَام. وَعَن الْأَوْزَاعِيّ قَالَ: تبيانا بِالسنةِ.
وَقَوله: ﴿وَهدى﴾ أَي: من الضَّلَالَة. وَقَوله: ﴿وَرَحْمَة﴾ أَي: عطفا على من أنزل عَلَيْهِم. وَقَوله: ﴿وبشرى﴾ أَي: بِشَارَة ﴿للْمُسلمين﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان﴾ فِي الْآيَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْعدْل هُوَ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره، وَقيل: إِنَّه التَّوْحِيد، وَهُوَ فِي معنى الأول.
195
﴿الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي﴾
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الْإِنْصَاف وَترك [الْجور [، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ أَنه دَعَاهُ عمر بن عبد الْعَزِيز حِين ولي الْخلَافَة، فَقَالَ لَهُ: صف لي الْعدْل، فَقَالَ: كن للصَّغِير أَبَا، وللكبير ابْنا، ولمثلك أَخا، وعاقب النَّاس على قدر ذنوبهم، وَإِيَّاك أَن تضرب أحدا (بِغَضَبِك) وَالْقَوْل الثَّالِث: وَهُوَ أَن الْعدْل هُوَ أَن تستوي سريرة الْمَرْء وعلانيته.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَالْإِحْسَان﴾ أَن تكون سريرة الْمَرْء أفضل من عَلَانِيَته عِنْد الله، وَقَوله: ﴿وَالْإِحْسَان﴾ فِيهِ أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن الْإِحْسَان هُوَ الْعَفو، وَالْآخر: هُوَ أَدَاء الْفَرَائِض وَالثَّالِث: (أَنه) أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ، فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك، وَالرَّابِع: أَنه التفضل، وَقيل: الْإِحْسَان أَن تكون سريرة الْمَرْء أفضل من عَلَانِيَته.
وَقَوله: ﴿وإيتاء ذِي الْقُرْبَى﴾ أَي: صلَة ذَوي الْأَرْحَام، وَقيل: إِنَّه يدْخل فِي هَذَا جَمِيع بني آدم؛ لِأَن بَينه وَبَين الْكل وصلَة بِآدَم - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَأدنى مَا يَقع فِي الصِّلَة ترك الْأَذَى، وَأَن يحب لَهُ مَا يُحِبهُ لنَفسِهِ، وَيكرهُ لَهُ مَا يكره لنَفسِهِ.
وَقَوله: ﴿وَينْهى عَن الْفَحْشَاء﴾ الْفَحْشَاء: كل مَا استقبح من الذُّنُوب، وَقيل: إِنَّه الزِّنَا، وَقيل: إِنَّه الْبُخْل، وَقيل الْفَحْشَاء: أَن تكون عَلَانيَة الْمَرْء أفظع من سَرِيرَته.
وَقَوله: ﴿وَالْمُنكر﴾ يَعْنِي: كل مَا يكون مُنْكرا فِي الدّين، وَقيل: إِنَّه الشّرك، فَإِنَّهُ أعظم الْمَنَاكِير.
وَقَوله: ﴿وَالْبَغي﴾ يُقَال: إِنَّه الظُّلم والاستطالة على النَّاس، وَقيل: إِنَّه الْكبر، وَقيل: إِنَّه الْغَيْبَة، وَعَن قَتَادَة قَالَ: جمع الله تَعَالَى كل مَا يحب، وكل مَا يكره فِي هَذِه الْآيَة.
196
﴿يعظكم لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ (٩٠) وأوفوا بِعَهْد الله إِذا عاهدتم وَلَا تنقضوا الْأَيْمَان بعد توكيدها وَقد جعلتم الله عَلَيْكُم كَفِيلا إِن الله يعلم مَا تَفْعَلُونَ (٩١) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي﴾
وَفِي بعض المسانيد: أَن شتيرا جَاءَ إِلَى مَسْرُوق، فَقَالَ لَهُ: إِمَّا أَن تُحَدِّثنِي عَن عبد الله فأصدقك، أَو أحَدثك عَن عبد الله فتصدقني، فَقَالَ: حدث أَنْت، فَقَالَ: سَمِعت عبد الله يَقُول: أجمع آيَة فِي الْقُرْآن للخير وَالشَّر قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان﴾ فَقَالَ لَهُ مَسْرُوق: صدقت.
وَيُقَال: إِن الْعدْل زَكَاة الْولَايَة، وَالْعَفو زَكَاة الْقُدْرَة، وَالْإِحْسَان زَكَاة النِّعْمَة، والكتب إِلَى الإخوان زَكَاة الجاه؛ يَعْنِي: كتب الْوَسِيلَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿يعظكم لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ﴾ يَعْنِي: تعتبرون.
197
قَوْله تَعَالَى: ﴿وأوفوا بِعَهْد الله إِذا عاهدتم﴾ الْآيَة، قَالَ: الْعَهْد هَاهُنَا هُوَ الْيَمين، وَعَن جَابر بن زيد وَالشعْبِيّ أَنَّهُمَا قَالَا: الْعَهْد يَمِين، وكفارته كَفَّارَة الْيَمين.
وَعَن عمر قَالَ: الْوَعْد من الْعَهْد، وَمثله عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: ﴿وَلَا تنقضوا الْأَيْمَان بعد توكيدها﴾ أَي: بعد إحكامها ﴿وَقد جعلتم الله عَلَيْكُم كَفِيلا﴾ أَي: شَهِيدا، وَقيل: توثقتم باسمه كَمَا يتوثق بالكفيل. وَقَوله: ﴿إِن الله يعلم مَا تَفْعَلُونَ﴾ وَعِيد وتهديد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نقضت غزلها﴾ هَذِه امْرَأَة كَانَت تسمى ريطة بنت سعد، وَكَانَت بهَا وَسْوَسَة؛ فَكَانَت تجْلِس بِجَانِب الْحجر، وتغزل طول نَهَارهَا بمغزل كَبِير، فَإِذا كَانَ الْعشي نقضته.
وَقيل: كَانَت تَأمر جواريها بنقضه، فَشبه الله من نقض الْعَهْد بهَا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا لم تكف عَن الْعَمَل، وَلَا حِين عملت كفت عَن النَّقْض، فَكَذَلِك أَنْتُم لَا كففتم عَن الْعَهْد، وَلَا حِين عهدتم وفيتم.
وَقَوله: ﴿من بعد قُوَّة﴾ أَي: بعد إحكام. وَقَوله: ﴿أنكاثا﴾ أَي: إنقاضا وقطعا.
197
﴿نقضت غزلها من بعد قُوَّة أنكاثا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانكُم دخلا بَيْنكُم أَن تكون أمة هِيَ أربى من أمة إِنَّمَا يبلوكم الله بِهِ وليبينن لكم يَوْم الْقِيَامَة مَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون (٩٢) وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة وَلَكِن يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء ولتسألن عَمَّا كُنْتُم﴾ وَقَوله: ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانكُم دخلا بَيْنكُم﴾ أَي: غشا وخديعة.
والدخل: مَا تدخل فِي الشَّيْء للْفَسَاد، وَيُقَال: إِن (الدغل) هُوَ أَن يظْهر الْوَفَاء، ويبطن النَّقْض، وَكَذَلِكَ الدخل.
وَقَوله: ﴿أَن تكون أمة هِيَ أربى﴾ أَي: أَكثر، وَأما مَعْنَاهُ: فروى عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: كَانُوا يعاهدون مَعَ قوم، فَإِذا رَأَوْا أَقْوَامًا أعز مِنْهُم وَأكْثر، نقضوا عهد الْأَوَّلين، وعاهدوا مَعَ الآخرين؛ فعلى هَذَا قَوْله: ﴿أَن تكون أمة هِيَ أربى من أمة﴾ يَعْنِي: طلبتم الْعِزّ بِنَقْض الْعَهْد بِأَن كَانَت أمة أَكثر من أمة.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهِي نزلت فِي قوم عَاهَدُوا مَعَ النَّبِي ثمَّ نقضوا الْعَهْد مَعَه، وعاهدوا مَعَ قوم من الْكفَّار، فظنوا أَن قوتهم أَكثر، لِأَن عَددهمْ أَكثر، وَيُقَال: إِن الْآيَة نزلت فِي الْمُؤمنِينَ، نَهَاهُم الله تَعَالَى عَن نقض الْعَهْد؛ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِذا عاهدتم مَعَ قوم لمخافة، فَإِذا أمنتم فَلَا تنقضوا، ليَكُون جانبكم أقوى وَأكْثر.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا يبلوكم الله بِهِ﴾ يَعْنِي: بِالْكَثْرَةِ والقلة، وَقيل: يبلوكم الله بِهِ يَعْنِي: بِالْأَمر بِالْوَفَاءِ بالعهد. وَقَوله: ﴿وليبين لكم يَوْم الْقِيَامَة مَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
198
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة﴾ أَي: على دين وَاحِد، وَهُوَ الْإِسْلَام. وَقَوله: ﴿وَلَكِن يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء﴾ وَالْآيَة صَرِيحَة فِي الرَّد على الْقَدَرِيَّة.
وَقَوله: ﴿ولتسألن عَمَّا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة، وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَنِّي لَا أسأَل عَمَّا أفعل من الإضلال وَالْهِدَايَة، وَأَنْتُم تسْأَلُون عَمَّا تَعْمَلُونَ من الْخَيْر وَالشَّر.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانكُم دخلا بَيْنكُم﴾ أَي: سَبَب فَسَاد بَيْنكُم، وَقد
198
﴿تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانكُم دخلا بَيْنكُم فتزل قدم بعد ثُبُوتهَا وتذوقوا السوء بِمَا صددتم عَن سَبِيل الله وَلكم عَذَاب عَظِيم (٩٤) وَلَا تشتروا بِعَهْد الله ثمنا قَلِيلا إِنَّمَا عِنْد الله هُوَ خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ (٩٥) مَا عنْدكُمْ ينْفد وَمَا عِنْد الله بَاقٍ ولنجزين الَّذين صَبَرُوا أجرهم بِأَحْسَن مَا كَانُوا يعْملُونَ (٩٦) من عمل صَالحا من ذكر﴾ بَينا معنى الدخل.
وَقَوله: ﴿فتزل قدم بعد ثُبُوتهَا﴾ يَعْنِي: تزل عَن الْإِسْلَام بعد ثُبُوتهَا على الْإِسْلَام قَالَ:
(النَّحْو صَعب وطويل سلمه... إِذا ارْتقى فِيهِ الَّذِي لَا يُعلمهُ)
(زلت بِهِ إِلَى الحضيض قدمه... )
وَقَوله: ﴿وتذوقوا السوء﴾ بِالْعَذَابِ. وَقَوله: ﴿بِمَا صددتم عَن سَبِيل الله﴾ يَعْنِي: سهلتم طَرِيق نقض الْعَهْد على النَّاس بنقضكم الْعَهْد. وَقَوله: ﴿وَلكم عَذَاب عَظِيم﴾ أَي: كَبِير.
199
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تشتروا بِعَهْد الله ثمنا قَلِيلا﴾ يَعْنِي: شَيْئا يَسِيرا من عرض الدُّنْيَا. وَقَوله: ﴿إِنَّمَا عِنْد الله هُوَ خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا عنْدكُمْ ينْفد﴾ يَعْنِي: أَن الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا تفنى. وَقَوله: ﴿وَمَا عِنْد الله بَاقٍ﴾ يَعْنِي: الْآخِرَة، وعَلى الْعَاقِل أَن يُؤثر مَا يبْقى، وَفِي بعض الْآثَار: للدنيا بنُون، وللآخرة بنُون، فكونوا من أَبنَاء الْآخِرَة، وَلَا تَكُونُوا من أَبنَاء الدُّنْيَا.
وَقَوله: ﴿ولنجزين الَّذين صَبَرُوا أجرهم﴾ يَعْنِي: صَبَرُوا عَن الدُّنْيَا. وَقَوله: ﴿أجرهم﴾ أَي: ثوابهم وجزاءهم. وَقَوله: ﴿بِأَحْسَن مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾ أَي: بِأَحْسَن الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿من عمل صَالحا من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فلنحيينه حَيَاة طيبَة﴾ اخْتلفُوا فِي الْحَيَاة الطّيبَة على أقاويل:
199
﴿أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فلنحيينه حَيَاة طيبَة ولنجزينهم أجرهم بِأَحْسَن مَا كَانُوا يعْملُونَ (٩٧) فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم (٩٨) ﴾
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْحَيَاة الطّيبَة هِيَ الرزق الْحَلَال. وَعَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة: أَنَّهَا القناعة، وَفِي بعض دُعَاء النَّبِي: " اللَّهُمَّ قنعني بِمَا رزقتني " وَفِي منثور الْكَلَام: القناعة ملك خَفِي.
وَالْقَوْل الثَّالِث: رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: الْحَيَاة الطّيبَة فِي الْجنَّة، قَالَ الْحسن: وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا حَيَاة طيبَة، وَعنهُ أَنه قَالَ: الدُّنْيَا كلهَا بلَاء، فَمَا كَانَ فِيهَا من خير فَهُوَ ريح، وَرُوِيَ أَنه سمع رجلا يَقُول لآخر: لَا أَرَاك الله مَكْرُوها أبدا، فَقَالَ لَهُ: دَعَوْت الله لَهُ بِالْمَوْتِ، فَإِن الدُّنْيَا لَا تَخْلُو عَن الْمَكْرُوه.
وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: الْحَيَاة الطّيبَة رزق يَوْم بِيَوْم، وَقيل: إِنَّه حلاوة الْعِبَادَة وَأكل الْحَلَال، وَيُقَال: إِنَّهَا عَيْش الْإِنْسَان فِي بَلَده مَعَ الْكِفَايَة والعافية، وَقيل: مُطلق الْكِفَايَة والعافية.
وَقَوله: ﴿ولنجزينهم أجرهم بِأَحْسَن مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾ قد بَينا الْمَعْنى.
200
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن﴾ رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم بعد الْقِرَاءَة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه﴾ وَحكى بَعضهم عَن مَالك مثل هَذَا.
وَالأَصَح أَن الِاسْتِعَاذَة قبل الْقِرَاءَة، وَقد رُوِيَ ذَلِك بروايات كَثِيرَة عَن النَّبِي وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي المتَوَكل النَّاجِي عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ لَهُ: " إِذا افتتحت الْقِرَاءَة فَقل: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم ". وَثَبت
200
﴿إِنَّه لَيْسَ لَهُ سُلْطَان على الَّذين آمنُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّمَا سُلْطَانه على الَّذين يتولونه وَالَّذين هم بِهِ مشركون (١٠٠) وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة وَالله أعلم بِمَا ينزل﴾ أَن النَّبِي قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الشَّيْطَان من همزه ونفثه ".
وَأما معنى الْآيَة: إِذا أردْت قِرَاءَة الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿يأيها الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا﴾ يَعْنِي: إِذا أردتم الْقيام إِلَى الصَّلَاة، وَفِي بعض الْآثَار: أَنه لَا شَيْء أَشد على إِبْلِيس من الِاسْتِعَاذَة، والاستعاذة بِاللَّه هِيَ الِاعْتِصَام بِاللَّه.
وَقَوله: ﴿من الشَّيْطَان الرَّجِيم﴾ أَي: الشَّيْطَان المرجوم.
201
وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِنَّه لَيْسَ لَهُ سُلْطَان على الَّذين آمنُوا﴾ أَي: لَيْسَ لَهُ ولَايَة على الَّذين آمنُوا. وَقَوله: ﴿وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ﴾ يُقَال مَعْنَاهُ: أَنه لَا يقدر على إيقاعهم فِي ذَنْب لَيْسَ لَهُم مِنْهُ تَوْبَة، وَقيل: إِنَّه لَا يقدر على إدخالهم فِي الشّرك وإغوائهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانه على الَّذين يتولونه﴾ يَعْنِي: الَّذين يدْخلُونَ فِي ولَايَته ويتبعونه.
وَقَوله: ﴿وَالَّذين هم بِهِ مشركون﴾ قَالَ بَعضهم: بِرَبّ الْعَالمين مشركون، وَقَالَ ثَعْلَب: وَالَّذين هم بِهِ مشركون أَي: لأَجله مشركون أَي: لأجل إِبْلِيس، وَهَذَا معنى صَحِيح؛ لِأَن من يُشْرك بإبليس يكون مُؤمنا بِاللَّه، فَالْمَعْنى هَذَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ النَّبِي إِذا نزلت عَلَيْهِ آيَة شدَّة، ثمَّ نسخت، وأنزلت عَلَيْهِ آيَة لين، قَالَ الْمُشْركُونَ: انْظُرُوا إِلَى
201
﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْت مفتر بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (١٠١) قل نزله روح الْقُدس من رَبك بِالْحَقِّ ليثبت الَّذين آمنُوا وَهدى وبشرى للْمُسلمين (١٠٢) وَلَقَد نعلم أَنهم يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعلمهُ﴾ هَذَا الرجل يُبدل كَلَام الله من قبل نَفسه، وَكَانُوا يَقُولُونَ على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء: وتبدل الشَّيْء بالشَّيْء؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: ﴿وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة﴾ " أَي: وَضعنَا آيَة مَكَان آيَة.
وَقَوله: ﴿وَالله أعلم بِمَا ينزل﴾ يَعْنِي: وَالله أعلم بِمَنْفَعَة الْعباد فِيمَا ينزل.
وَقَوله: ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْت مفتر﴾ أَي: مختلق. وَقَوله: ﴿بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ﴾ يَعْنِي: كلهم لَا يعلمُونَ أَنِّي أَنا الْمنزل لجَمِيع الْآيَات النَّاسِخ والمنسوخ.
202
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل نزله روح الْقُدس﴾ أَي: جِبْرِيل. وَقَوله: ﴿من رَبك بِالْحَقِّ﴾ أَي: بِالصّدقِ وَقَوله: ﴿ليثبت الَّذين آمنُوا﴾ أَي: ليثبت قُلُوب الَّذين آمنُوا.
وَقَوله: ﴿وَهدى وبشرى للْمُسلمين﴾ قد بَينا الْمَعْنى.
قَوْله: ﴿وَلَقَد نعلم أَنهم يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعلمهُ بشر﴾ الْآيَة، اخْتلفت الْأَقَاوِيل فِي معنى قَوْله: ﴿بشر﴾ رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هُوَ غُلَام لعامر بن الْحَضْرَمِيّ، وَكَانَ يقْرَأ الْكتب، وَكَانَ الْمُشْركُونَ يَزْعمُونَ أَن رَسُول الله يتَعَلَّم مِنْهُ، وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ غُلَام لحويطب، وَقَالَ غَيره: كَانَ اسْمه جبر، وَمِنْهُم من قَالَ: غلامان من عين التَّمْر يُسمى أَحدهمَا: جبر، وَالْآخر: يسَار، وَكَانَا يقرآن الْكتب بلسانهما، وَقَالَ بَعضهم: كَانَ اسْمه: أَبُو (فكيهة)، وَقيل: كَانَ اسْمه: عايش، قَالُوا: كَانَ النَّبِي يجلس إِلَيْهِمَا، ويدعوهما، إِلَى الْإِسْلَام، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿لِسَان الَّذِي يلحدون إِلَيْهِ﴾ قرئَ: " يلحدون إِلَيْهِ " و " يلحدون "، والإلحاد: الْميل، والملحد هُوَ الَّذِي مَال عَن الْحق إِلَى التعطيل؛ فَقَوله: ﴿يلحدون إِلَيْهِ﴾ أَي: يميلون إِلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿يلحدون إِلَيْهِ﴾ أَي: يميلون القَوْل إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: يومئون إِلَيْهِ،
202
﴿بشر لِسَان الَّذِي يلحدون إِلَيْهِ أعجمي وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبين (١٠٣) إِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بآيَات الله لَا يهْدِيهم الله وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (١٠٤) إِنَّمَا يفتري الْكَذِب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بآيَات الله وَأُولَئِكَ هم الْكَاذِبُونَ (١٠٥) ﴾ وَقَوله: ﴿أعجمي﴾ الأعجمي: هُوَ الَّذِي لَا يفصح بِالْعَرَبِيَّةِ.
وَقَوله: ﴿وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبين﴾ أَي: كَلَام عَرَبِيّ مُبين، وَمعنى الْآيَة: أَنه كَيفَ يَأْخُذ مِنْهُم، وهم لَا يفصحون بِالْعَرَبِيَّةِ؟ وَقد رُوِيَ أَن ذَلِك الرجل الَّذِي كَانُوا يشيرون إِلَيْهِ أسلم، وَحسن إِسْلَامه.
203
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بآيَات الله لَا يهْدِيهم الله﴾ يَعْنِي: لَا يرشدهم الله إِلَى الْحق، وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه﴾.
وَقَوله: ﴿وَلَهُم عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: مؤلم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يفتري الْكَذِب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بآيَات الله وَأُولَئِكَ هم الكذبون﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ: ﴿إِنَّمَا يفتري الْكَذِب﴾ فأيش معنى قَوْله: ﴿وَأُولَئِكَ هم الْكَاذِبُونَ﴾ ؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن قَوْله: ﴿إِنَّمَا يفتري الْكَذِب﴾ هَذَا إِخْبَار عَن فعل الْكَذِب، وَقَوله: ﴿وَأُولَئِكَ هم الْكَاذِبُونَ﴾ نعت لَازم، وَمَعْنَاهُ: أَن هَذَا صفتهمْ ونعتهم، وَهَذَا كَالرّجلِ يَقُول لغيره: كذبت، وَأَنت كَاذِب أَي: كذبت فِي هَذَا القَوْل، وَمن صِفَتك الْكَذِب. وَفِي بعض المسانيد عَن يعلى بن الْأَشْدَق عَن عبد الله بن جَراد أَنه قَالَ: " قلت يَا رَسُول الله: الْمُؤمن يَزْنِي؟ قَالَ: قد يكون ذَلِك، فَقلت: الْمُؤمن يسرق؟ قَالَ: قد يكون ذَلِك، فَقلت الْمُؤمن يكذب؟ فَقَالَ: لَا، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يفتري الْكَذِب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بآيَات الله﴾ " وَعَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ
203
﴿من كفر بِاللَّه من بعد إيمَانه إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا فَعَلَيْهِم غضب من الله وَلَهُم عَذَاب عَظِيم (١٠٦) ذَلِك بِأَنَّهُم استحبوا الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة وَأَن الله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين (١٠٧) أُولَئِكَ الَّذين طبع الله على قُلُوبهم وسمعهم وأبصارهم وَأُولَئِكَ هم الغافلون (١٠٨) لَا جرم أَنهم فِي الْآخِرَة هم﴾ : الْكَذِب مُجَانب للْإيمَان.
204
قَوْله تَعَالَى: ﴿من كفر بِاللَّه من بعد إيمَانه﴾ نزلت الْآيَة فِي عمار بن يَاسر - رَضِي الله عَنهُ - أَخذه الْمُشْركُونَ، وأكرهوه على سبّ النَّبِي فطاوعهم فِي بعض القَوْل، ثمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: " مَا وَرَاءَك؟ فَقَالَ: شَرّ يَا رَسُول الله، لم يتركني الْكفَّار حَتَّى نلْت مِنْك، وَذكرت آلِهَتهم بِخَير، فَقَالَ: وَكَيف وجدت قَلْبك؟ فَقَالَ: مطمئنا بِالْإِيمَان؛ فَقَالَ: إِن عَادوا فعد؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة " وَتَقْدِير الْآيَة: من كفر بِاللَّه من بعد إيمَانه فَعَلَيْهِم غضب من الله وَلَهُم عَذَاب أَلِيم إِلَّا من أكره، وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان ﴿وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا﴾ فَحكمه مَا بَينا. وَقَوله: ﴿شرح﴾ أَي: فتح قلبه لقبُول الْكفْر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك بِأَنَّهُم استحبوا الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة﴾ يَعْنِي: آثروا الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة. وَاعْلَم أَن الْمُؤمن يجوز أَن يطْلب الدُّنْيَا، وَيطْلب الْآخِرَة، وَلَكِن لَا يُؤثر الدُّنْيَا على الْآخِرَة إِلَّا الْكَافِر. وَقَوله: ﴿وَأَن الله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين﴾ لَا يرشد الْقَوْم الْكَافرين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذين طبع الله على قُلُوبهم وسمعهم وأبصارهم وَأُولَئِكَ هم الغافلون﴾ أَي: عَمَّا يُرَاد بهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا جرم أَنهم فِي الْآخِرَة هم الخاسرون﴾ أَي: حَقًا أَنهم فِي الْآخِرَة هم المغبونون.
204
﴿الخاسرون (١٠٩) ثمَّ إِن رَبك للَّذين هَاجرُوا من بعد مَا فتنُوا ثمَّ جاهدوا وصبروا إِن رَبك من بعْدهَا لغَفُور رَحِيم (١١٠) يَوْم تَأتي كل نفس تجَادل عَن نَفسهَا وَتوفى كل﴾
205
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ إِن رَبك للَّذين هَاجرُوا من بعد فتنُوا﴾ نزلت الْآيَة فِي قوم كَانُوا بقوا بِمَكَّة من الْمُسلمين، وعذبهم الْمُشْركُونَ حَتَّى ذكرُوا كلمة الْكفْر بلسانهم، مِنْهُم عمار وخباب وصهيب وَغَيرهم.
وَقَوله: ﴿من بعد مَا فتنُوا﴾ أَي: عذبُوا حَتَّى وَقَعُوا فِي الْفِتْنَة، ثمَّ إِنَّهُم بعد ذَلِك هَاجرُوا، وَلَحِقُوا بِالنَّبِيِّ. وَقَوله: ﴿ثمَّ جاهدوا وصبروا﴾ يَعْنِي: على الْجِهَاد وَالْإِيمَان.
وَقَوله: ﴿إِن رَبك من بعْدهَا لغَفُور رَحِيم﴾ أَي: من بعد فعلتهم الَّتِي فَعَلُوهَا من إِعْطَاء الْكفَّار بعض مَا أَرَادوا مِنْهُم.
فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَ ذَلِك رخصَة، فَلَا يحْتَاج إِلَى الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة؟ وَالْجَوَاب: أَنه يحْتَمل أَنهم فعلوا مَا فعلوا ذَلِك قبل نزُول الرُّخْصَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم تَأتي كل نفس تجَادل عَن نَفسهَا﴾. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: تجَادل، وَقد سبق ذكر كل، وَلَفظ كل مُذَكّر؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه عَاد كلمة كل على الْمُؤَنَّث؛ فَلهَذَا الْمَعْنى أنث، وَهَذَا كَمَا يُقَال: كل امْرَأَة قَائِمَة، وَمَا أشبه هَذَا.
وَقَوله: ﴿تجَادل عَن نَفسهَا﴾ أَي: تخاصم عَن نَفسهَا، ومجادلتهم هِيَ قَوْلهم: وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين، وَقَوْلهمْ: رَبنَا هَؤُلَاءِ شركاؤنا الَّذين كُنَّا ندعوا من دُونك، وَمَا أشبه هَذَا من الْأَقْوَال الَّتِي ذكرت فِي الْقُرْآن.
وَقيل: تجَادل عَن نَفسهَا: تدفع عَن نَفسهَا. وَرُوِيَ عَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه قَالَ: تزفر جَهَنَّم يَوْم الْقِيَامَة زفرَة، فَلَا يبْقى ملك مقرب، وَلَا نَبِي مُرْسل إِلَّا خر وجثى على رُكْبَتَيْهِ، وَيَقُول: نَفسِي نَفسِي حَتَّى إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن فَيَقُول: رَبِّي لَا أُرِيد إِلَّا نجاة نَفسِي، قَالَ كَعْب: وَهُوَ فِي كتاب الله تَعَالَى: ﴿يَوْم تَأتي كل نفس تجَادل عَن نَفسهَا﴾.
205
﴿نفس مَا عملت وهم لَا يظْلمُونَ (١١١) وَضرب الله مثلا قَرْيَة كَانَت آمِنَة مطمئنة يَأْتِيهَا رزقها رغدا من كل مَكَان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لِبَاس الْجُوع وَالْخَوْف بِمَا كَانُوا﴾
وَرُوِيَ أَنه قَالَ هَذَا بَين يَدي عمر - رَضِي الله عَنهُ - وَقد كَانَ عمر قَالَ لَهُ: حَدثنَا، ذكرنَا. وَقَوله: ﴿وَتوفى كل نفس مَا عملت وهم لَا يظْلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
206
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَضرب الله مثلا قَرْيَة كَانَت آمِنَة مطمئنة﴾ الْآيَة. أَكثر أهل التَّفْسِير: أَن الْقرْيَة هَا هُنَا هِيَ مَكَّة - وَقَوله: ﴿يَأْتِيهَا رزقها رغدا من كل مَكَان﴾ هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وارزقهم من الثمرات﴾.
وَقَوله: ﴿فكفرت بأنعم الله﴾ الأنعم: جمع النِّعْمَة. وَقَوله: ﴿فأذاقها الله لِبَاس الْجُوع وَالْخَوْف﴾ ذكر الذَّوْق، لِأَن المُرَاد من لِبَاس الْجُوع وَالْخَوْف التعذيب، ويستقيم أَن يُقَال فِي التعذيب: ذُقْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم﴾.
وَالْمعْنَى: أَن الْعَذَاب يَتَجَدَّد إِدْرَاكه كل سَاعَة كالذوق.
رُوِيَ أَن الله تَعَالَى سلط عَلَيْهِم الْقَحْط سبع سِنِين حَتَّى أكلُوا (الطَّعَام) الْمُحْتَرِقَة وَالْعِلْهِز، وَهُوَ الْوَبر بِالدَّمِ، حَتَّى كَانَ ينظر أحدهم إِلَى السَّمَاء فَيرى كشبه الدُّخان من الْجُوع ".
﴿وَالْخَوْف﴾ هُوَ الْخَوْف من الْقَتْل، وَمن سَرَايَا النَّبِي.
وَالْمرَاد من الْقرْيَة: أهل الْقرْيَة، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿واسأل الْقرْيَة﴾ وَكَذَلِكَ قَوْله: ﴿آمِنَة﴾ أَي: آمن أَهلهَا، وَكَذَلِكَ مطمئنة.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَنه كل بلد من بلدان الْكفَّار.
206
﴿يصنعون (١١٢) وَلَقَد جَاءَهُم رَسُول مِنْهُم فَكَذبُوهُ فَأَخذهُم الْعَذَاب وهم ظَالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رزقكم الله حَلَال طيبا واشكروا نعمت الله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ (١١٤) إِنَّمَا حرم عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل لغير الله بِهِ فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد فَإِن الله غَفُور رَحِيم (١١٥) وَلَا تَقولُوا لما تصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب هَذَا حَلَال وَهَذَا﴾
وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَنَّهَا الْمَدِينَة، وكفران أَهلهَا بأنعم الله هُوَ مَا فعلوا بعد النَّبِي من قتل عُثْمَان، وَمَا يعقبه من الْأُمُور، وَهُوَ قَول ضَعِيف. وَأما ذكر اللبَاس فِي الْآيَة، فَلِأَن من جَاع لحقه من الهزال والشحوب والتغير مَا يزِيد ظَاهره عَمَّا كَانَ من قبل؛ فَجعل ذَلِك كاللباس لجلوده.
وَقَوله: ﴿بِمَا كَانُوا يصنعون﴾ أَي: يكفرون.
207
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد جَاءَهُم رَسُول مِنْهُم﴾ أَي: مُحَمَّد، وَقَوله: ﴿مِنْهُم﴾ أَي: نسبهم، وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة بن خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وَقَوله: ﴿فَكَذبُوهُ﴾ أَي: كفرُوا بِهِ. وَقَوله: ﴿فَأَخذهُم الْعَذَاب وهم ظَالِمُونَ﴾ أَي: كافرون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رزقكم الله حَلَال طيبا واشكروا نعْمَة الله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ﴾ قد بَينا الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا حرم عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل لغير الله بِهِ فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد﴾ معنى قَوْله: ﴿بَاغ﴾ أَي: طَالب بذلك ليتقوى على الْمعْصِيَة ﴿وَلَا عَاد﴾ أَي: لَا يتَعَدَّى الْقدر الَّذِي جوز لَهُ من التَّنَاوُل، وَهَذَا دَلِيل على أَن العَاصِي فِي السّفر لَا يترخص بِهَذِهِ الرُّخْصَة.
وَقَوله: ﴿فَإِن الله غَفُور رَحِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله: ﴿وَلَا تَقولُوا لما تصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب﴾ يَعْنِي: لوصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب. وَقَوله: ﴿هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام﴾ المُرَاد مِنْهُ: مَا ذَكرُوهُ فِي الْبحيرَة والسائبة
207
﴿حرَام لتفتروا على الله الْكَذِب إِن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب لَا يفلحون (١١٦) مَتَاع قَلِيل وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (١١٧) وعَلى الَّذين هادوا حرمنا مَا قَصَصنَا عَلَيْك من قبل وَمَا ظلمناهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ (١١٨) ثمَّ إِن رَبك للَّذين عمِلُوا السوء بِجَهَالَة ثمَّ تَابُوا من بعد ذَلِك وَأَصْلحُوا إِن رَبك من بعْدهَا لغَفُور رَحِيم (١١٩) إِن﴾ والوصيلة والحام، وَقد كَانُوا يحلونها لقوم، ويحرمونها على قوم. وَقَوله: ﴿لتفتروا على الله الْكَذِب﴾ أَي: لتختلقوا على الله الْكَذِب. وَقَوله: ﴿إِن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب لَا يفلحون﴾ أَي: لَا يفوزون.
208
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَتَاع قَلِيل وَلَهُم عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: عيشهم فِي الدُّنْيَا مَتَاع قَلِيل، ﴿وَلَهُم عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: وجيع.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وعَلى الَّذين هادوا حرمنا مَا قَصَصنَا عَلَيْك من قبل﴾ مَعْنَاهُ: مَا ذكره فِي سُورَة الْأَنْعَام، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وعَلى الَّذين هادوا حرمنا كل ذِي ظفر﴾. وَقَوله: ﴿وَمَا ظلمناهم﴾ أَي: مَا نقصنا من حَقهم ﴿وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ﴾ أَي: هم الَّذين نَقَصُوا من حُقُوقهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ إِن رَبك للَّذين عمِلُوا السوء بِجَهَالَة﴾ قَالَ أهل الْعلم: وكل من عمل بِمَعْصِيَة، فَهُوَ من دَاعِي الْجَهَالَة. وَقَوله: ﴿ثمَّ تَابُوا من بعد ذَلِك وَأَصْلحُوا﴾ شَرط الصّلاح هَاهُنَا، وَمَعْنَاهُ: الاسْتقَامَة على التَّوْبَة. وَقَوله: ﴿إِن رَبك من بعْدهَا لغَفُور رَحِيم﴾ أَي: من بعد الفعلة الَّتِي تَابُوا عَنْهَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة﴾ فِي الْأمة أَقْوَال، أحسن الْأَقَاوِيل مَا حَكَاهُ مَسْرُوق عَن ابْن مَسْعُود أَنه الْمعلم للخير، وَهُوَ الَّذِي يقْتَدى بِهِ ويؤتم؛ وَرُوِيَ أَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ بعد موت معَاذ بن جبل: كَانَ معَاذ بن جبل أمة، وَأَرَادَ بِهِ هَذَا الْمَعْنى.
القَوْل الثَّانِي: كَانَ أمة، أَي: إِمَام هدى، وَالْقَوْل الثَّالِث: كَانَ أمة أَي: كَانَ مُؤمنا
208
﴿إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا لله حَنِيفا وَلم يَك من الْمُشْركين (١٢٠) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (١٢١) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين (١٢٢) ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن ابتع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا وَمَا كَانَ من الْمُشْركين (١٢٣) إِنَّمَا جعل السبت على الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ وَإِن رَبك ليحكم بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا﴾ بِاللَّه، وَجَمِيع النَّاس كافرون. وَقَوله: ﴿قَانِتًا لله﴾ قَالَ ابْن مَسْعُود: مُطيعًا لله، وَقَالَ غَيره: قَائِما بأوامر الله، وَقيل: دَائِما على الْعِبَادَة.
وَقَوله: ﴿حَنِيفا﴾ أَي: مخلصا، وَقيل: مُسْتَقِيمًا على الدّين.
قَوْله: ﴿وَلم يَك من الْمُشْركين﴾ أَي: مِمَّن يعبد الْأَصْنَام، وَقَالَ بعض أهل الْمعَانِي: كَانَ يرى الْعَطاء وَالْمَنْع من الله.
209
قَوْله: ﴿شاكرا لأنعمه﴾ أَي: لنعمه. وَقَوله: ﴿اجتباه وهداه﴾ أَي: اخْتَارَهُ وأرشده. وَقَوله: ﴿إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ أَي: إِلَى دين الْحق.
قَوْله: ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة﴾ قيل: هِيَ النُّبُوَّة، وَقيل: لِسَان الصدْق، وَقيل: التنويه لذكره بِطَاعَتِهِ لرَبه، وَقيل: قبُول كل أهل الْملَل لَهُ، وَقيل: ضيافته وَدُعَاء النَّاس لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: ﴿وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا﴾ هَذَا دَلِيل على أَنه يجوز للفاضل أَن يتبع الْمَفْضُول. وَقَوله: ﴿وَمَا كَانَ من الْمُشْركين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقد قَالَ بعض أهل الْأُصُول: إِن النَّبِي كَانَ مَأْمُورا بشريعة إِبْرَاهِيم إِلَّا مَا نسخ فِي شَرِيعَته بِدَلِيل هَذِه الْآيَة، وَقد قيل غير هَذَا، وَالصَّحِيح أَنه كَانَ مَأْمُورا بِاتِّبَاع شَرِيعَته فِي بعض الْأَشْيَاء، وَصَارَ ذَلِك شَرِيعَة لَهُ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا جعل السبت على الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ﴾ مَعْنَاهُ: إِنَّمَا جعل السبت لعنة على الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ. وَقَوله: ﴿اخْتلفُوا فِيهِ﴾ أَي: خالفوا فِيهِ، وَقَالَ
209
﴿كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْع إِلَى سَبِيل رَبك بالحكمة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن إِن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بالمهتدين (١٢٥) وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهو خير للصابرين﴾ بَعضهم: اخْتلفُوا فِيهِ أَي: حرم بَعضهم، وَأحل بَعضهم يَعْنِي: السبت.
وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ الله تَعَالَى أَمرهم بِالْجمعَةِ فَأَبَوا، وطلبوا السبت فَشدد عَلَيْهِم فِيهِ، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى أمروا بِالْجمعَةِ فَأَبَوا، وطلبوا الْأَحَد، وَأعْطى الله تَعَالَى الْجُمُعَة لهَذِهِ الْأمة فقبلوا، وبورك لَهُم فِيهَا، وَفِي الْبَاب خبر صَحِيح قد بَيناهُ من قبل.
قَوْله: ﴿وَإِن رَبك ليحكم بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
210
قَوْله تَعَالَى: ﴿ادْع إِلَى سَبِيل رَبك﴾ إِلَى دين رَبك. وَقَوله: ﴿بالحكمة﴾ أَي: بِالْقُرْآنِ، وَقيل: الْحِكْمَة معرفَة الْأَشْيَاء على مراتبها فِي الْحسن والقبح، وَقيل: الدُّعَاء بالحكمة هُوَ الرَّد عَن الْقَبِيح إِلَى الْحسن بِشَرْط الْعلم.
وَقَوله: ﴿وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة﴾ الموعظة هِيَ الدُّعَاء إِلَى الله بالترغيب والترهيب، وَقيل: الموعظة الْحَسَنَة هِيَ القَوْل اللين الرَّقِيق من غير غلظة وَلَا تعنيف.
وَقَوله: ﴿وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن﴾ أَي: مَعَ الْإِعْرَاض عَن أذاهم لَك وَالصَّبْر على مكروههم، وَقد نسخ هَذَا بِآيَة السَّيْف.
وَقَوله: ﴿إِن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بالمهتدين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ أَكثر أهل التَّفْسِير أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِيمَا فعله الْمُشْركُونَ بِحَمْزَة وَأَصْحَابه؛ فَإِنَّهُ يرْوى: " أَن النَّبِي - مر عَلَيْهِ، وَقد بقر بَطْنه، وَأخذ كبده، وَقطعت مذاكيره وَجعلت فِي فِيهِ؛ فَرَأى أمرا فظيعا؛ فَقَالَ: لَئِن قدرت عَلَيْهِم لَأُمَثِّلَن بسبعين مِنْهُم، وَرُوِيَ أَن الصَّحَابَة قَالُوا قَرِيبا
210
﴿واصبر وَمَا صبرك إِلَّا بِاللَّه وَلَا تحزن عَلَيْهِم وَلَا تَكُ فِي ضيق مِمَّا يمكرون (١٢٧) إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون (١٢٨) ﴾ من هَذَا القَوْل فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ".
وَقد قَالَ زيد بن أسلم وَالضَّحَّاك: إِن الْآيَة مَكِّيَّة، وَلَيْسَت فِي حَمْزَة وَأَصْحَابه، وَالأَصَح هُوَ الأول.
وَقَوله: ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهو خير للصابرين﴾ يَعْنِي: لَئِن عفوتم ﴿لَهو خير للصابرين﴾ أَي: خير للعافين، وَقد تحقق هَذَا الْعَفو فِي حق وَحشِي قَاتل حَمْزَة بَعْدَمَا أسلم، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كل الْمُشْركين الَّذين أَسْلمُوا.
211
قَوْله تَعَالَى: ﴿واصبر وَمَا صبرك إِلَّا بِاللَّه﴾ أَي: بمعونة الله. وَقَوله: ﴿وَلَا تحزن عَلَيْهِم﴾ أَي: لَا تحزن على أفعالهم وإبائهم لِلْإِسْلَامِ.
وَقَوله: ﴿وَلَا تَكُ فِي ضيق مِمَّا يمكرون﴾ قرئَ: " فِي ضيق " وَمعنى الْقِرَاءَتَيْن: لَا يضيقن صدرك ﴿مِمَّا يمكرون﴾ أَي: يشركُونَ، وَقيل: مِمَّا فعلوا من الأفاعيل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون﴾ يَعْنِي: اتَّقوا المناهي ﴿وَالَّذين هم محسنون﴾ بأَدَاء الْفَرَائِض، [وَقَوله] :﴿مَعَ﴾ بِالْحِفْظِ والنصرة والمعونة، وَالله أعلم.
211

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿سُبْحَانَ الَّذِي أسرى﴾
تَفْسِير سُورَة بني إِسْرَائِيل
وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا خمس آيَات، سنذكرها فِي موَاضعهَا.
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: سُورَة بني إِسْرَائِيل والكهف وَمَرْيَم وطه من تلادي، وَهن من الْعتاق الأول.
212
Icon