تفسير سورة النحل

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة النحل من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ هذه السورة مكية كلها، وقيل إلا ثلاث آيات فإِنها مدنية ووجه ارتباطها بما قبلها أنه تعالى لما قال فوربك لنسألنهم أجمعين كان ذلك تنبيهاً على حشرهم يوم القيامة وسؤالهم عما اجترموه في دار الدنيا فقيل: أتى أمر الله وهو يوم القيامة على قول الجمهور. وعن ابن عباس المراد بالأمر نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهوره على الكفار وأتى قيل باق على معناه من المضي والمعنى أتى أمر الله وعداً فلا تستعجلوه وقوعاً. قال ابن عباس: الروح الوحي ينزل به الملائكة على الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ونظيره قوله: يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده وان مصدرية وهي التي من شأنها أن تنصب المضارع وصلت بالأمر كما وصلت في قولهم كتبت إليه بأن قم وهو بدل من الروح أي بإِنذاره وقيل: ان تفسيرية بمعنى أي فلا موضع لها من الإِعراب قال الزمخشري: وان انذروا بدل من الروح أي ننزلهم بأن أنذروا وتقديره بأنه أنذروا أي بأن الشأن. أقول لكم أنذروا أقول لكم أنذروا انه لا إله إلا الله " انتهى ". جعلها المخففة من الثقيلة وأضمر اسمها وهو ضمير الشأن وقدر إضمار القول حتى يكون الخبر جملة خبرية وهي أقول ولا حاجة إلى هذا التكليف مع سهولة كونها الشافية التي من شأنها نصب المضارع وقوله: إلا أنا انتقل من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم في قوله إلا أنا وإذا هنا للمفاجأة بعد خلقه من النطفة لم تقع المفاجأة بالمخاصمة إلا بعد أحوال تطور فيها فتلك الأحوال محذوفة وتقع المفاجأة بعدها وخصيم مبين يحتمل وجهين أحدهما أن يراد به الذم وهو مخاصمته لأنبياء الله صلى الله عليهم وأوليائه بالحجج الداحضة وأكثر ما ذكر الإِنسان في القرآن في معرض الذم أو مردفاً بالذم والوجه الثاني أن يراد به المدح لأنه تعالى قواه على منازعة الخصوم وجعله مبين الحق من الباطل ونقله من تلك الحالة الجمادية وهو كونه نطفة إلى الحالة الشريفة وهي حالة النطق والإِنابة ولما ذكر تعالى خلق الإِنسان ذكر ما امتنّ به عليه في قوام معيشته فذكر أولاً أكثرها منافع والزم لمن أنزل القرآن بلغتهم وذلك لإِنعام وتقدم شرح الانعام في الانعام والذي يظهر أن يكون لكم فيها دفء استئناف لذكر ما ينتفع به من جهتها ولذلك قابله بقوله: ولكم فيها جمال ودفء مبتدأ ولكم خبره ويتعلق فيها بما في لكم من معنى الاستقرار وجوز أبو البقاء أن يكون فيها حالاً من دفء إذ لو تأخر كان صفة وجوز أيضاً إذ يكون لكم حالاً من دفء وفيها الخبر وهذا لا يجوز لأن الحال إذا كان العامل فيها معنى فلا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها لا يجوز قائماً في الدار زيد فإِن تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف والدفء اسم لما يدفأ به أي يسخن وتقول العرب دفىء يومنا فهو دفىء إذا حصلت فيه سخونة تزيل البرد قال الزمخشري: فإِن قلت: تقدم الظرف في قوله: ومنها تأكلون مؤذن بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها. قلت: الأكل منها هو الأصل الذي يعتمدوه الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به وكالجاري مجرى التفكه " انتهى ". وما قاله بناء منه على أن تقديم الظرف أو المفعول دال على الاختصاص وقد رددنا عليه ذلك في قوله:﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾[الفاتحة: ٥].
جمال مصدر جمل بضم الميم حين تريحون يقال: أراح الماشية ردها بالعشي من المرعى وسرحها يسرحها سرحاً وسروحاً أخرجها غدوة إلى مرعى وسرحت هي ويكون متعدياً ولازماً وأكثر ما يكون ذلك أيام الربيع إذ أسقط الغيث وكثر الكلأ وخرجوا للنجعة وقدّم الإِراحة على السرح لأن الجمال فيها أظهر إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ثم أوت إلى الحظائر بخلاف وقت سرحها وإن كانت في الوقتين تزين الأفنية وتجاوب فيها الرغاء والثغاء فيأنس أهلها ويفرح أربابها وتجلهم في أعين الناظرين إليها وتكسبهم الجاه والحرمة والأثقال الأمتعة واحدها ثقل وقوله: إلى بلد لا يراد به معين أي إلى أي بلد بعيد توجهتم إليه لاغراضكم وبالغيه صفة للبلد إلا بشق الأنفس أي إلا بمشقتها وناسب الامتنان بهذه النعمة من حملها الأثقال الختم بصفة الرأفة والرحمة لأن من رأفتيه تيسير هذه المصالح وتسخير الانعام لكم ولما ذكر تعالى مننه بالانعام ومنافعها الضرورية ذكر الامتنان بمنافع الحيوان التي ليست بضرورية ولما كان الركوب أعظم منافعها اقتصر عليه ولا يدل ذلك على أنه لا يجوز أكل الخيل خلافاً لمن استدل بذلك وانتصب وزينة ولم يكن باللام ووصل الفعل إلى الركوب بواسطة الحرف وكلاهما مفعول من أجله لأن التقدير خلقها والركوب من صفات المخلوق لهم وذلك فانتفى شرط النصب وهو اتحاد الفاعل فعدي باللام والزينة من وصف الخالق فاتحد الفاعل فوصل الفعل إليه بنفسه ولما ذكر الحيوان الذي ينتفع به انتفاعاً ضرورياً وغير ضروري أعقب بذكر الحيوان الذي لا ينتفع به غالباً على سبيل الإِجمال إذ تفاصيله خارجة عن الإِحصاء والعدو القصد مصدر ويوصف به يقال: سبيل قصد وقاصد إذا كان مستقيماً كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه والسبيل هنا مفرد اللفظ والجائز العادل عن الهداية والاستقامة كما قال طرفة: يجور بها الملاح طوراً ويهتدي   ولو شاء مفعول شاء محذوف تقديره هدايتكم قال ابن عطية قال الزجاج: يعرض لكم آية تضطركم إلى الاهتداء والإِيمان " انتهى ". وهذا قول سوء لأهل البدع الذين يرون الله تعالى لا يخلق أفعال العباد لم يحصله الزجاج ووقع فيه رحمة الله تعالى من غير قصد " انتهى ". لم يعرف ابن عطية أن الزجاج المعتزلي فلذلك تأول عليه أنه لم يحصله وأنه وقع فيه من غير قصد.﴿ هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً ﴾ الآية مناسبة هذه لما قبلها أنه تعالى لما امتن عليهم بإِيجادهم بعد العدم الصرف وإيجاد ما ينتفعون به من الانعام وغيرها من المركوب ذكر ما امتن به عليهم من إنزال الماء الذي هو قوام حياتهم وحياة الحيوان وما يتولد عنه من أقواتهم وأقواتها من الزرع وما عطف عليه فذكر منها الأغلب ثم عمم بقوله: ومن كل الثمرات، ثم اتبع ذلك بخلق الليل الذي هو سكن لهم والنهار الذي هو معاشهم فيه ثم بالنيرين اللذين جعلهما الله تعالى مؤثرين بإِرادته في إصلاح ما يحتاجون إليه ثم بما ذرأ في الأرض والظاهر أن لكم في موضع الصفة لما يتعلق بمحذوف ويرتفع شراب به إلى ماء كائناً لكم منه شراب ويجوز أن يتعلق بانزل ويجوز أن يكون استئنافاً وشراب مبتدأ لما ذكر الماء أخذ في تقسيمه والشراب هو المشروب والتبعيض في منه شراب ظاهر وأما في منه شجر فجاز لما كان الشجر إنباته على سقيه بالماء جعل الشجر من الماء ومنه تسيمون يقال أسام الماشية وسومها جعلها ترعى وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت وبدأ بالزرع لأن قوت أكثر العالم ثم بالزيتون لما فيه من فائدة الاستصباح بدهنه وهي ضرورية مع منفعة أكله والائتدام به وبدهنه والاطلاء بدهنه ثم بالنخيل لأن ثمرته من أطيب الفواكه وقوت في بعض البلاد ثم بالاعناب لأنها فاكهة محضة ثم قال: ومن كل الثمرات أتى بلفظ من التي للتبعيض لأن كل الثمرات لا يكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة وختم ذلك بقوله تعالى: ﴿ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ لأن النظر في ذلك يحتاج إلى فضل تأمل واستعمال فكر ألا ترى أن الجنة الواحدة إذا وضعت في الأرض ومر عليها مقدار من الزمان معين لحقها من نداوة الأرض ما تنتفخ به فيشق أعلاها فتصعد منه شجرة إلى الهواء وأسفلها يغوص منه في عمق الأرض شجرة أخرى وهي العروق ثم ينمو الأعلى ويقوى ونخرج الأوراق والأزهار والأكمام والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطبائع والطعوم والألوان والرواح والأشكال والمنافع وذلك بتقدير قادر مختار وهو الله تعالى وأفرد في قوله: الآية استدلالاً بإِنبات الماء وهو واحد وإن كثرت أنواع النبات، وقرأ الجمهور: والشمس وما بعده منصوباً وانتصب مسخرات على أنها حال مؤكدة وقرىء: والشمس وما بعده بالرفع على الابتداء والخبر وقرأ: حفص والنجوم مسخرات برفعها على الابتداء والخبر وجمع الآيات عند ذكر العقل لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة وأبين شهادة للكبرياء والعظمة ما ذرأ معطوف على الليل والنهار يعني ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلفاً ألوانه من البياض والسواد وغير ذلك وختم هذا بقوله: يذكرون ومعناه الاعتبار والاتعاظ كان علمهم بذلك سابق طرأ عليه النسيان فقيل يذكرون أي يتذكرون وما نسوا من تسخير هذه المكونات في الأرض وأفرد الآية هنا لأن الذي ذكره مفرد في قوله ما ذرأ ووصفه بمفرد وهو قوله مختلفاً.﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ ﴾ الآية، لما ذكر الاستدلال بما ذرأ في الأرض ذكر ما أمتن به من تسخير البحر ومعنى تسخيره كونه يتمكن الناس من الانتفاع به للركوب في المصالح والغوص في استخراج ما فيه للاصطياد لما فيه والبحر جنس يشمل الملح والعذب وبدأ أولاً من منافعه بما هو الأهم وهو الأكل ومنه على حذف مضاف أي لتأكلوا من حيوانه لحماً طرياً ثم ثنى بما يتزين به وهو الحلية من اللؤلؤ والمرجان ونبه على غاية الحلية وهو اللبس وفيه منافع غير اللبس فاللحم الطري من الملح ولما ذكر تعالى نعمة الأكل منه ونعمة الاستخراج للحلية ذكر نعمة تصرف الفلك فيه مواخر أي شاقة فيه أو ذات صوت لشق الأنفس بحمل الأمتعة والأقوات للتجارة وغيرها وأسند الرؤية إلى المخاطب المفرد فقال: وقرىء: وجعلها جملة معترضة بين التعليلين تعليل الاستخراج وتعليل الابتغاء فلذلك عدل عن جمع المخاطب والظاهر عطف ولتبتغوا على التعليل قبله كما أشرنا إليه والفضل هنا الأرباح بالتجارة والوصول إلى البلاد الشاسعة وفي هذا دليل على جواز ركوب البحر ولعلكم تشكرون على ما منحكم من هذه النعم والسبل الطرق. قال ابن عطية: قوله: وأنهاراً، منصوب بفعل مضمر تقديره وجعل أو خلق أنهاراً وإجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على خصوص ألقى ولو كانت ألقى بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإِضمار. " انتهى ". وأي إجماع في هذا وقد حكى هو على المتأولين أن ألقي بمعنى خلق وجعل.﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ الآية، ذكر تعالى التباين بين من يخلق وهو الباري وبين من لا يخلق وهي الأصنام وجيء بمن في الثاني الاشتمال المعبود غير الله على من يعقل وما لا يعقل أو لاعتقاد الكفار أن لها تأثيراً وأفعالاً فعوملت معاملة أولى العلم أو المشاكلة بينه وبين من يخلق.﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ ﴾ الآية، تقدم الكلام عليه وأخبر تعالى أنه يعلم ما يسرون وضمنه الوعيد لهم والاخبار بعلمه تعالى وفيه التنبيه على نفي هذه الصفة الشريفة عن آلهتهم ولما أظهر تعالى التباين بين الخالق وغيره نص على أن آلهتهم لا تخلق وعلى أنها مخلوقة وأخبر أنهم أموات وأكد ذلك بقوله غير أحياء ثم ثنى عنهم الشعور الذي يكون للبهائم فضلاً عن العلم الذي يتصف به العقلاء وعبر بالذين وهو العاقل عومل غيره معاملته لكونها عبدت وأعتقد فيها الألوهية وايان ظرف زمان وعن ابن عباس: ان الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بكلهم إلى النار وتقدم الكلام في لا جرم في سورة هود ولا يحب المستكبرين عام في الكافرين والمؤمنين.﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ﴾ الآية، قيل سبب نزولها أن النضر بن الحرث سافر من مكة إلى الحيرة وكان قد اتخذ كتب التواريخ والأمثال ككليلة ودمنة واخبار اسنفديار ورستم فجاء إلى مكة وكان يقول إنما يحدث محمد بأساطير الأولين وحدثني أجمل من حديثه فنزلت وماذا كلمة استفهام مفعول بأنزل أو ما مبتدأ خبره بمعنى الذي وعائده في أنزل محذوف أي شىء الذي أنزله. وأجاز الزمخشري أن يكون ماذا مرفوعاً بالابتداء قال: يعني أي شىء أنزله ربكم وهذا لا يجوز عند البصريين إلا في ضرورة الشعر والضمير في لهم عائد على كفار قريش وما أنزل ليس مفعولاً لقيل على مذهب البصريين لأنه جملة والجملة لا تقع موقع المفعول الذي لم يسم فاعله كما لا تقع موقع الفاعل والمفعول الذي لم يسمع فاعله قيل هو ضمير المصدر المفهوم من قبل تقديره قيل: هو أي القول والجملة بعده تفسير لذلك الضمير لا انها هي المفعول الذي لم يسم فاعله واللام في ليحملوا لام الأمر على معنى الختم عليهم والصغار الموجب لهم وكاملة حال أي لا ينقص منها شىء ومن في من أوزار للتبعيض فالمعنى أنه يحمل من وزر كل من أصل أي بعض وزر من ضل بإِضلالهم. وقال الواحدي: ليست من للتبعيض لأنه يستلزم تخفيف الأوزار عن الاتباع وذلك غير جائز لقوله صلى الله عليه وسلم من غير أن ينقص من أوزارهم شىء لكنها للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الاتباع " انتهى ". ولا تتقدر من التي لبيان الجنس هذا الذي قدّره الواحدي وإنما يقدر الأوزار التي هي أوزار الذي يضلونهم فيؤول من حيث المعنى إلى قول الأخفش: وان اختلفا في التقدير. قال الزمخشري: بغير علم حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال " انتهى ". وقال غيره: حال من الفاعل وهو أولى إذ هو المحدث عنه والمسند إليه الإِضلال على جهة الفاعلية والمعنى أنهم يقدمون على هذا الاضلال جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على الإِضلال ثم أخبر تعالى عن سوء ما يتحملونه للآخرة وتقدم الكلام على نظير إعراب الإِساء ما يزرون.
﴿ فَأَتَى ٱللَّهُ ﴾ أي أتى أمره وعذابه والبنيان قيل حقيقة قال ابن عباس وغيره: الذين من قبلهم منهم نمرود بن صرحا ليصعد بزعمه إلى السماء وأفرط في علوه وطوله في السماء فرسخين فخر عليهم السقف من فوقهم. قال ابن الأعرابي: العرب تقول خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وان لم يكن وقع عليه نجاد قوله من فوقهم ليخرج هذا الذي من كلام العرب ممن فوقهم أي عليهم وقع كانوا تحته فهلكوا وأتاهم العذاب. قال ابن عباس: في قصة النمرود ويخزيهم جميعهم المكاره التي تحل بهم ويقتضي ذلك إدخالهم النار لقوله تعالى:﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ﴾[آل عمران: ١٩٢] أي أهنته كل الإِهانة وجمع بين الإِهانة بالفعل والإِهانة بالقول بالتقريع والتوبيخ في جملة يخزيهم ويقول أين شركائي أضاف تعالى الشركاء إليه والاضافة تكون بأدنى ملابسة والمعنى شركائي في زعمكم أو أضاف على جهة الاستهزاء بهم ومفعولاً تزعمون محذوفان التقدير تزعمونهم شركاء الذين تتوفاهم صفة للكافرين فيكون داخلاً تحت القول. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الذين مرتفعاً بالابتداء منقطعاً مما قبله وخبره في قوله: فالقوا السلم فزيدت الفاء في الخبر وقد يجيء مثل هذا " انتهى ". هذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش فإِنه يجيز زيد فقام أي قام ولا يتوهم ان الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ أداة الشرط فلا يجوز فيما ضمن معناه ظالمي أنفسهم تقدّم الكلام عليه في سورة النساء والسلم هنا الاستسلام. وما كنا نعمل من سوء هو على إضمار القول ويكون ذلك كذباً منهم ولذلك ردّ عليهم بقوله: جلني أي كنتم تعملون السوء.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ لما أكذبوهم في دعواهم أخبروا أنه هو العالم بأعمالهم فهو المجازي عليها ثم أمرهم بالدخول واللام في فلبئس لام التوكيد ولا يدخل على الماضي المتصرف ودخلت على الجامد لبعده عن الأفعال وقربه من الأسماء والمخصوص بالذم محذوف تقديره فلبئس مثوى المتكبرين هي، أي جهنم ووصف التكبر دليل على استحقاق صاحبه النار.﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ﴾ الآية، أي أنزل خيراً ودل هذا النصب على أن ماذا أنزل مفعول بأنزله وطابق الجواب السؤال في النصب والظاهر أن قوله: للذين، مندرج تحت القول وهو تفسير للخير الذي أنزل الله في الوحي ان من أحسن في الدنيا بالطاعة فله حسنة في الدنيا ونعيم في الآخرة بدخول الجنة والظاهر أن المخصوص بالمدح هو جنات عدن والكاف في موضع نصب نعتاً للمصدر محذوف أي جزاء مثل جزاء الذين أحسنوا نجزي المتقين وطيبين حال من مفعول تتوفاهم والمعنى أنهم صالحوا لأعمال مستعدون للموت والطيب الذي لا خبث فيه، يقولون: سلام عليكم الظاهر أن هذا القول في الآخرة ولذلك جاء بعده أدخلوا الجنة فهو من قول خزنة الجنة بما كنتم تعملون أي بالعمل الصالح.﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ ﴾ الآية، ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر طعن الكفار في القرآن بقولهم: أساطير الأولين ثم أتبع ذلك وعيدهم وتهديدهم ثم توعد من وصف القرآن بالخيرية فبين أن أولئك الكفرة لا يرتدعون عن حالهم إلى أن تأتيهم الملائكة بالتهديد ثم توعد من وصف القرآن بالخيرية فبين أن أولئك الكفرة لا يرتدعون عن حالهم إلى أن تأتيهم الملائكة بالتهديد أوامر الله تعالى بعذاب الإِستئصال والكاف في موضع نصب أي مثل فعلهم في انتظار الملائكة أوامر الله فعل الكفار الذين تقدموهم.﴿ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ بكفرهم وتكذيبهم الذي أوجب لهم العذاب في الدنيا والآخرة وقوله: فأصابهم، معطوف على فعل وما ظلمهم إعتراض وستأتي عقوبات كفرهم.﴿ وَحَاقَ بِهِم ﴾ أي أحاط بهم جزاء إستهزائهم.﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾ تقدم الكلام عليه في آخر سورة الانعام.﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً ﴾ الآية، ذكر الله تعالى بعثه الرسل في الأمم السالفة فلا يستنكر بعثه محمداً صلى الله عليه سلم في هذه الأمة وأن يجوز أن تكون تفسيرية بمعنى أي وأن تكون مصدرية وتقدم مدلول الطاغوت في البقرة.﴿ مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ ﴾ أي فمنهم من اعتبر فهداه الله، ومنهم من أعرض وكفر ثم أحالهم في معرفة ذلك على المسير في الأرض عاقبة المكذبين لرسلهم بما جاؤوا به عن الله تعالى ثم خاطب نبيه عليه السلام وأعلمه أن من ختم تعالى عليه بالضلالة لا يجدي فيه الحرص على هدايته. وقرىء: يهدي مبنياً للفاعل والظاهر أن في يهدي ضمير يعود على الله ومن مفعول وقرأت فرقة يهدي بضم الياء وكسر الدال وهي ضعيفة " انتهى ". حكى الفراء أن هدى بمعنى إهتدى لازماً وإذ أثبت أن هدى بمعنى إهتدى كما حكاه الفراء لم تكن ضعيفة لأنه أدخل على اللازمة همزة التعدية والمعنى لا يحصل مهتدياً من أصله والضمير في لهم عائد على معنى من والضمير في وأقسموا عائد على كفار قريش.﴿ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ تقدم الكلام عليه في الانعام وانتصب وعداً وحقاً على أنهما مصدر أن يؤكد لما دل عليه بلى من تقدير المحذوف الذي هو يبعثه ليبين لهم اللام في ليبين متعلقة بالفعل المقدر بعد بلى أي يبعثهم ليبين لهم كما تقول: الرجل ما ضربت أحداً فتقول بلى زيداً أي ضربت زيداً ويعود الضمير في يبعثهم المقدر وفي لهم على معنى من في قوله: من يموت وهو شاملٌ للمؤمنين والكفار والذين اختلفوا فيه هو الحق وأنهم كانوا كاذبين فيما اعتقدوا من جعل آلهة مع الله تعالى وإنكار النبوات وإنكار البعث وغير ذلك مما أمروا به وبيّن لهم أنه دين الله فكذبوا به وكذبوا في نسبة أشياء إليه تعالى.﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ ﴾ الآية، لما تقدم إنكارهم البعث وأكدوا ذلك بالحلف بالله الذي أوجدهم ورد عليهم بقوله: بلى وذكر حقيقة وعده بذلك أوضح أنه تعالى متى تعلقت إرادته بوجود شىءٍ أوجده وقد أقروا بأنه تعالى خالق هذا العالم سمائه وأرضه وأن إجاده لذلك لم يتوقف على سبق مادة ولا آلة فكما قدر على الإِيجاد إبتداء وجب أن يكون قادراً على الإِعادة وتقدم الكلام في قوله: كن في البقرة والظاهر أن اللام في لشىءٍ وفي له هي للتبليغ كقولك قلت لزيد قم. قال ابن عطية: إذا أردناه تنزل منزلة مراد ولكنه أتى بهذه الألفاظ المستأنفة بحسب أن الموجودات تجيء وتظهر شيئاً بعد شىء فكأنه قال: إذا ظهر المراد فيه وعلى هذا الوجه يخرج قوله: فيرى الله عملكم ورسوله وقوله: ليعلم الله الذين آمنوا منكم. ونحو هذا معناه يقع منكم بإِرادة الله تعالى في الأزل وعلمه وقوله: أن نقول له كن فيكون تنزل منزل المصدر كأنه قال: قولنا ولكن أن مع الفعل تعطي استئنافاً ليس في المصدر في أغلب أمرها وقد يجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن في هذه الآية وكقوله تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ بِأَمْرِهِ ﴾[الروم: ٢٥] وغير ذلك " إنتهى " قوله. ولكن أن مع الفعل يعني الفعل المضارع وقوله في أغلب أمرها ليس بجيد بل يدل على المستقبل في جميع أمورها وأما قوله: فقد يجيء إلى آخره فلم يفهم ذلك من دلالة أن وإنما ذلك من نسبة قيام السماء والأرض بأمر الله لأن هذا لا يختص بالمستقبل دون الماضي في حقه تعالى ونظيره أن الله كان على كل شىءٍ قديراً وكان تدل على إقتران الجملة بالزمن الماضي وهو تعالى متصف بهذا الوصف ماضياً وحالاً ومستقبلاً وتقييد الفعل بالزمن لا يدل على نفيه بغير ذلك الزمن.﴿ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ ﴾ عام في المهاجرين كائناً ما كانوا فيشمل أولهم وآخرهم.﴿ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ ﴾ كخباب بن الأرت والمخرجين إلى أرض الحبشة والظاهر انتصاب حسنة على أنه نعت لمصدر محذوف يدل عليه الفعل أي تبوئة حسنة وقيل إنتصاب حسنة على المصدر على غير الصدر لأن معنى لنبونئهم في الدنيا أي لنحسنن إليهم فحسنة بمعنى إحساناً. والضمير في يعلمون عائد على المؤمنين أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في إجتهادهم وصبرهم والذين صبروا على تقديرهم الذين أو أعني الذين صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن لا سيما حرّم الله تعالى المحبوب لكل قلب مؤمن فكيف لمن كان مسقط رأسه على بذل الروح في ذات الله تعالى واحتمال الغربة في دار لم ينشأ بها وناس لم يألفهم أجانب في النسب.﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ ﴾ الآية، نزلت إلى ما يؤمرون في مشركي مكة أنكروا نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله أعظم أن يكون رسوله بشراً فهلا بعث إلينا ملكاً وتقدّم تفسير هذه الجملة في أواخر سورة يوسف والمعنى يوحى إليهم على ألسنة الملائكة والأجود أن يتعلق قوله بالبينات بمضمر يدل عليه ما قبله كأنه قيل بم أرسلوا قال: أرسلناهم بالبينات والزبر فتكون على كلامين. قال الزمخشري: يتعلق بما أرسلنا قوله: بالبينات داخلاً تحت حكم الاستثناء مع رجالاً أي وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات كقولك ما ضربت إلا زيداً بالسوط لأن أصله ضربت زيداً بالسوط إنتهى. هذا قاله الحوفي وقال أبو البقاء وفيه ضعف لأن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إذ أتم الكلام على إلا وما يليها إلا أنه قد جاء في الشعر قول الشاعر: ليتهم عذبوا بالنار جارهم   ولا يعذب إلا الله بالنارإنتهى وهذا الذي أجازه الحوفي والزمخشري لا يجوز على مذهب جمهور البصريين لأنهم لا يجيزون أن يقع بعد إلا إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابع وما ظن من غير الثلاثة معمولاً لما قبل إلا قدر له عامل.﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ ﴾ هو القرآن وقيل له ذكر لأنه موعظة وتنبيه للغافلين ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل وشرحك ما أشكل فيدخل في هذا ما بينته السُنة من أمر الشريعة.﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي إرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فينتبهوا ويتأملوا والسيئات نعت لمصدر محذوف أي المكرات السيئات والذين مكروا في قول الأكثرين هم أهل مكة مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم والخسف بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل. وذكر النقاش أنه وقع الخسف في هذه الأمة بهم الأرض كما فعل بقارون وذكر لنا أن إخلاطاً من بلاد الروم خسف بها وحين أحس أهلها بذلك فر أكثرهم وأن بعض التجار ممن كان يرد إليها رأى ذلك من بعيد فرجع بتجارته.﴿ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ من الجهة التي لا شعور لهم بمجيء العذاب منها كما فعل بقوم لوط.﴿ فِي تَقَلُّبِهِمْ ﴾ في أسفارهم والأخذ هنا إلا هلاك كقوله تعالى:﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ﴾[العنكبوت: ٤٠] وعلى تخوف على نقص قاله إبن عباس، وقال ابن بحر: ضد البغتة أي على حدوث حالات يخاف منها كالرياح والزلزال والصواعق ولهذا ختم بقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾.
لأن في ذلك مهلة وامتداد وقت فيمكن في التلافي.﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ ﴾ الآية، بما ذكر تعالى قدرته على تعذيب الماكرين وإهلاكهم بأنواع من الأخذ ذكر تعالى طواعية ما خلق من غيرها وخضوعهم ضد حال الماكرين لينبهم على أنه ينبغي بل يجب عليهم أن يكونوا طائعين منقادين لأمره تعالى. والإِستفهام هنا معناه التوبيخ والجملة من قوله: يتفيأ في موضع الصفة لشىء وما موصولة والعائد محذوف تقديره خلقه ومن شىء تبين لما أنبهم في لفظ ما ويتفيؤ يتفعل من الفيء وهو الرجوع يقال فاء الظل يفيء فيرجع وعاد بعدما نسخه ضياء الشمس وفاء إذا عدي فبالهمزة كقوله تعالى:﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ﴾[الحشر: ٧] أو بالتضعيف نحو فيأ الله الظل فتفيأ أو تفيأ من باب المطاوعة فهو لازم وقد إستعمله أبو تمام متعدياً قال: طلبت ربيع ربيعة الممهي لها   وتفيأت ظلالها ممدوداًويحتاج ذلك إلى نقله من كلام العرب متعدياً وعين الفلك هو المشرق وشماله هو المغرب وخص هذان الإِسمان بهذين الجانبين. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الكتامي المعروف بابن الصائغ: أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين لأن الظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة وهو بالعشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات فلحظت الغايتان في الآية هذا من جهة المعنى وفيه من جهة اللفظ المطابقة لأن سجداً جمع فطابقه جمع الشمائل لاتصاله به فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى ولحظهما معاً وتلك الغاية في الإِعجاز " انتهى ". والظاهر حمل الظلال على حقيقتها وعلى ذلك وقع كلام أكثر المفسرين وقالوا: إذا طلعت الشمس وأتت متوجهة إلى القبلة كان الظل قدامك فإِذا ارتفعت كان على يمينك فإِذا كان بعد ذلك كان خلفك فإِذا أردت الغروب كان عن يسارك. قال الزمخشري: سجداً حال من الظلال.﴿ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴾ حال من الضمير في ظلاله وما أجازه الزمخشري من أن وهم داخرون حال من الضمير في ظلاله فعلى مذهب جمهور البصريين لا يجوز وهي مسألة جاءني غلام هند ضاحكة فلا يجوز جاءني ضاحكة غلام هند ولما كان سجود الظلال في غاية الظهور بدىء به ثم إنتقل إلى سجود ما في السماوات والأرض. قال الزمخشري: فإِن قلت فهلا جيء بمن دون ما تغليباً للعقلاء من الدواب على غيرها. قلت لأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولاً للعقلاء. فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم " إنتهى " ظاهرة تسليم أن من قد يشمل العقلاء وغيرهم على جهة التغليب وظاهر الجواب تخصيص من العقلاء وأن الصالح للعقلاء وغيرهم ما دون من وهذا ليس بجواب لأنه أورد السؤال على التسليم ثم ذكر الجواب على غير التسليم فصار المعنى أن من يغلب بها والجواب لا يغلب بها وهذا في الحقيقة ليس بجواب ومن دابة يجوز أن يكون بياناً لما في الظرفين ويكون في السماوات خلق يدبون ويجوز أن يكون بياناً لما في الأرض ولهذا قال ابن عباس: يريد كل ما دب على الأرض وعطفوا الملائكة على ما في السماوات وما في الأرض وهم مندرجون في عموم ما تشريفاً لهم وتكريماً والظاهر أن الضمير في قوله: يخافون، عائد على المنسوب إليهم السجود في ولله يسجد والفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى فإن علقته بيخافون كان على حذف مضاف أي يخافون عذابه كائناً من فوقهم لأن العذاب إنما ينزل من فوق وإن علقته بربهم كان حالاً منه أي يخافون ربهم قاهراً غالباً كقوله تعالى:﴿ وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾[الأنعام: ١٨] والجملة من يخافون يجوز أن تكون حالاً من الضمير في لا يستكبرون ويفعلون ما يؤمرون واما المؤمنون بحسب الشرع والظاهر واما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما نفذ من أمر الله.
﴿ وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ ﴾ الآية، ولما كان الاسم الموضوع للأفراد والتثنية قد يتجوز فيه فيراد به الجنس نحو نعم الرجل زيد ونعم الرجلان الزيدان. وقال الشاعر: فإِن النار بالعودين تذكى   وإن الحرب أولها الكلام. أكد الموضوع لهما بالوصف فقال إلهين اثنين ولما نهى عن اتخاذ الإِلهين واستلزم النهي عن اتخاذ آلهة أخبر تعالى أنه إله واحد كما قال تعالى:﴿ وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾[البقرة: ١٦٣] بأداة الحصر وبالتأكيد بالوحدة ثم أمرهم بأن يرهبوه والتفت من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ في الرهبة وانتصب إياي بفعل محذوف مقدّر التأخير عنه يدل عليه فارهبون وتقديره وإياي ارهبوا وتقدم نظيره في البقرة. وقال ابن عطية: وإياي منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون " انتهى ". هذا ذهول عن القاعدة النحوية أنه إذا كان المفعول ضميراً منفصلاً والفعل متعد إلى واحد وهو الضمير وجب تأخير الفعل كقوله تعالى:﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾[الفاتحة: ٥].
ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله: إليك حتى بلغت إياكا ثم التفت من التكلم إلى ضمير الغيبة فأخبر تعالى أن له ما في السماوات والأرض.﴿ وَلَهُ ٱلدِّينُ ﴾ أي الطاعة والملك.﴿ وَاصِباً ﴾ أي دائماً يقال وصب الشىء دام قال أبو الأسود الدؤلي: لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه   يوماً بذم الدهر أجمع واصباًقال تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ ﴾ استفهام تضمن التوبيخ والتعجب أي بعدما عرفتم وحدانيته وان ما سواه له ومحتاج إليه كيف تتقون وتخافون غيره ولا نفع ولا ضرر يقدر عليه وما موصولة وصلتها بكم والعامل فعل الاستقرار أي وما استقر بكم ومن نعمة تفسير لما والخبر فمن الله على إضمار مبتدأ محذوف تقديره فهي من الله ودخلت الفاء في جملة الخبر لتضمن الموصول معنى اسم الشرط ولما ذكر تعالى أن جميع النعم منه ذكر حالة افتقار العبد إليه وحده حيث لا يدعو ولا يتضرع لسواه وهي حالة الضر والضر عام في جميع ما يتضرر به وإليه متعلق يتجأرون والجؤار رفع الصوت بالدعاء. قال الأعشى يصف راهباً: يداوم من صلوات المليك طوراً سجوداً وطوراً جؤاراً. وإذا الثانية للفجاءة وفي ذلك دليل على أن إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائة فيما قبلها ومنكم خطاب للذين خوطبوا بقوله: وما بكم من نعمة إذ بكم خطاب عام وفريق مبتدأ ومنكم في موضع الصفة وخبره يشركون وبربهم متعلق به والفريق هنا هم المشركون المعتقدون حالة الرجاء أن آلهتهم تنفع وتضر وتشقي وتسعد اللام في ليكفروا ان كانت للتعليل كان المعنى أن إشراكهم بالله شبيه كفرهم به أي جحودهم أو كفران نعمته وبما آتيناهم من النعم أو من كشف الضر أو من القرآن المنزل إليهم وإن كانت للضرورة فالمعنى صار أمرهم ليكفروا وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا وابل آل أمر ذلك الجؤار والرغبة إلى الكفر بما أنعم عليهم أو إلى الكفر الذي هو جحوده والشرك به وان كانت للأمر فمعناه التهديد والوعيد.﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ مبالغة في التهديد.﴿ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ الآية، الضمير في يجعلون عائد على الكفار وفي لا يعلمون عائد على ما التي هي الأصنام إذ هي جماد لا علم لها ولا شعور والنصيب هو ما جعلوه لها من الحرث والانعام قبح الله تعالى فعلهم ذلك أن يجعلوا مما رزقهم نصيباً للأصنام ثم أقسم تعالى على أنه يسألهم عن افترائهم واختلافهم في إشراكهم مع الله آلهة وانها أهل للتقرب إليها بجعل النصيب إليها ولما ذكر تعالى أنه يسألهم عن افترائهم ذكر أنهم مع اتخاذهم آلهة نسبوا إلى الله التوالد وهو مستحيل ونسبوا ذلك إليه فيما لم يرتضوه لأنفسهم وتربد وجوههم من نسبته إليهم ويكرهونه أشد الكراهة وكانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله.﴿ سُبْحَانَهُ ﴾ تنزيه له سبحانه وتعالى عن نسبة الولد إليه.﴿ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾ وهم الذكور وهي جملة من مبتدأ وخبر. وأجاز الزمخشري وتبع فيه الفراء والحوفي أن يكون ولهم ما يشتهون معطوفاً على قوله لله بنات وذهلوا عن قاعدة في النحو وهي ان الفعل إذا رفع ضميراً وجاء بعده ضمير منصوب لا يجوز أن ينصبه الفعل إلا إذا كان من باب الظن أو فقد وعدم فلو قلت زيد ظنه قائماً تريد ظن نفسه جاز ولو قلت زيد ضربه فجعل في ضرب ضمير رفع عائداً على زيد وقد تعدى للضمير المنصوب لم يجر والمجرور يجري مجرى المنصوب فلو قلت زيد غضب عليه لم يجز كما لم يجز زيد ضربه فلذلك امتنع أن يكون قوله لهم متعلقاً بيجعلون.﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ ﴾ المشهور أن البشارة أول خبر يسر وهنا قد يراد به مطلق الأخبار أو تغير البشرة وهو القدر المشترك بينهما.﴿ بِٱلأُنْثَىٰ ﴾ أي بولادة الأنثى.﴿ ظَلَّ وَجْهُهُ ﴾ بمعنى صار وأصل ظل اتصاف اسمها بالخبر الذي يجيء بعدها.﴿ مُسْوَدّاً ﴾ خبر ظل واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والتكره والنفرة التي لحقته.﴿ وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ أي ممتلىء القلب حزناً وغماً وكظيم يحتمل أن يكون للمبالغة من كاظم ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول كما قال تعالى﴿ وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾[القلم: ٤٨] ويقال: سقاء مكظوم أي مملوء مسدود الفم.﴿ يَتَوَارَىٰ ﴾ يختفي من القوم متعلق به من سوء من للتعليل أي لسوء ما بشر به وقوله: به ذكره حملاً على لفظ ما وان كان أريد به الأنثى ولذلك ذكره في قوله:﴿ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ ﴾ أي على هوان وأيمسكه قبله حال محذوفة التقدير مفكراً أيمسكه أم يدسه معطوف فكرت أزيد في الدار أم عمرو والظاهر من قوله الاساء ما يحكمون رجوعه إلى قوله ويجعلون لله بنات الآية، أي ساء ما يحكمون في نسبتهم إلى الله ما هو مستكره عندهم نافر عنهن طبعهم لا يحتملون نسبتهن إليهم وما في قوله ما يحكمون مصدرية تقديره ساء حكمهم.﴿ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ ﴾ أي صفة السوء من الكفر بالله وإشراكهم معه أصناماً ونسبة الولد إليه وإنكارهم البعث.﴿ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ ﴾ أي الصفة العليا من تنزيهه تعالى عن الولد والصاحبة وجميع ما تنسب الكفرة إليه مما لا يليق به تعالى كالتشبيه والانتقال وظهوره تعالى في صورة وناسب الختم بالعزيز وهو الذي لا يوجد نظيره الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها.﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ ﴾ لما حكى تعالى عن الكفار عظيم ما ارتكبوه من الكفر ونسبة التوالد إليه بين تعالى أنه يمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهار الفضلة ورحمته ويؤاخذ مصارع آخذ والظاهر أنه بمعنى المجرد الذي هو أخذ والضمير في عليها عائد على غير مذكور ودل على أنه الأرض قوله من دابة لأن الدبيب من الناس لا يكون إلا في الأرض والظاهر عموم من دابة فيهلك الصالح بالطالح فكان يهلك جميع ما يدب على الأرض حتى الجعلان في جحرها.﴿ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ ﴾ تقدم نظيره في الأعراف وما في ما يكرهون لمن يعقل وأريد بها النوع كقوله تعالى:﴿ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ ﴾[النساء: ٣] ومعنى ويجعلون يصفونه بذلك ويحكمون به وان لهم الحسنى بدل من الكذب أو على إسقاط الحرف أي بأن لهم وتقدم الكلام في لا جرم مفرطون قال الفراء: تقول العرب: أفرطت منهم ناساً أي خلفهم ونسيتهم وقيل يخلفون متركون في النار ثم أخبر تعالى بإِرسال الرسل إلى أمم من قبل أمتك مقسماً على ذلك ومؤكداً بالقسم وبقد التي تقتضي تحقيق الأمر على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يناله بسبب جهالات قومه ونسبتهم إلى الله ما لا يجوز.﴿ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ من تماديهم على الكفر.﴿ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ ﴾ حكاية حال ماضية أي لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو أو عبر باليوم عن وقت الإِرسال ومحاورة الرسل لهم أو حكاية حال آتية وهو يوم القيامة وأل في اليوم للعهد وهو اليوم المشهور فهو وليهم في ذلك اليوم أي قرينهم وبئس القرين والظاهر عود الضمير في وليهم إلى أمم قيل ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي فهو وليهم أي ولي أمثالهم اليوم " انتهى ". وهذا فيه بعد لاختلاف الضمائر من غير ضرورة تدعو إلى ذلك ولا إلى حذف المضاف بل الضمير في الظاهر عائد إلى أمم واللام في لتبين لام التعليل والكتاب القرآن والذين اختلفوا فيه من الشرك والتوحيد والجبر والقدر وإثبات المعاد ونفيه وغير ذلك مما يعتقدون من الاحكام كتحريم البحيرة وتحليل الميتة والدم وغير ذلك من الأحكام.
﴿ وَهُدًى وَرَحْمَةً ﴾ في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله وانتصبا لاتحاد الفاعل في الفعل وفيهما لأن المنزل هو الله تعالى وهو الهادي والراحم ودخلت اللام في لتبين لاختلاف الفاعل لأن المنزل هو الله تعالى والتبيين مسند للمخاطب وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الزمخشري: معطوفان على محل لتبين " انتهى ". ليس بصحيح لأن محله ليس نصباً فيعطف منصوب عليه ألا ترى أنه لو نصبه لم يجز لاختلاف الفاعل.﴿ وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً ﴾ الآية، لما ذكر تعالى إنزال الكتاب المبين كان القرآن حياة الأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد ولذلك ختم بقوله: يؤمنون أي يصدقون والتصديق محله القلب ذكر إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب لبقائها ثم أشار بإِحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن كما قال تعالى:﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ ﴾[الأنعام: ١٢٢] فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتاً بالجهل ولذلك ختم بقوله: يسمعون، أي هذا التشبيه المشار إليه والمعنى سماع أنصاف وتدبر ولملاحظة هذا المعنى والله أعلم لم يختم بقوله: يبصرون، وان كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد.﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ﴾ الآية، لما ذكر تعالى إحياء الأرض بعد موتها ذكر ما ينشأ عن المطر وهو حياة الانعام التي هي مألوف العرب بما تتناوله من النبات الناشىء عن المطر ونبه على العبرة العظيمة وهو خروج اللبن من بين فرث ودم والفرث كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو الأمعاء وذكر في قوله: مما في بطونه ولا ضعف في ذلك من هذه الجهة لأن التأنيث والتذكير باعتبار وجهين وأعاد الضمير مذكراً مراعاة للجنس لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه جاز عوده عليه مذكراً كقولهم هو أحسن الفتيان وأنبله لأنه يصح هو أحسن فتى وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه إنما يقتصر فيه على ما قالته العرب. قال الزمخشري: ذكر سيبويه الانعام في باب ما لا ينصرف من الأسماء المفردة على أفعال كقولهم: ثوب أكياش ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً " انتهى ". قال سيبويه: وأما أفعال فقد يقع للواحد فقول سبيويه فقد يقع للواحد دليل على أنه ليس ذلك بالوضع وقول الزمخشري أنه ذكره في الأسماء المفردة على أفعال تحريف في اللفظ وفهم عن سيبويه ما لم يرده ويدل على ما قلناه أن سيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة نص على أن أفعالاً ليس من أبنيتها. قال سيبويه في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام أفعيل ولا أفعول ولا أفعيل ولا أفعال إلا أن يكسر عليه أسماء للجميع " انتهى ". فهذا نص منه على أن أفعالاً لا يكون في الأبنية المفردة ولما ذكر تعالى ما من به من بعض منافع الحيوان ذكر ما مّن من بعض منافع النبات.﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ ﴾ متعلق بتتخذون ومنه بدل من قوله: من ثمرات لأنه جمع يقع مكانه المفرد كأنه قيل ومن ثمر النخيل كما ذكرنا في إفراد الضمير في قوله: مما في بطونه لوقوع لنعم مكان الانعام والسكر في اللغة الخمر. قال الشاعر: بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم   إذا جرى منهم المراء والسكروان لكم في الانعام لعبرة ناسب الختم بقوله: يعقلون لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول كما قال تعالى:﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ﴾[الزمر: ٢١] وانظر إلى الاخبار عن نعمة اللبن ونعمة السكر والرزق الحسن لما كان اللبن لا يحتاج إلى معالجة من الناس أخبر عن نفسه بقوله: نسقيكم ولما كان السكر والرزق الحسن يحتاج إلى معالجة قال: تتخذون، فأخبر عنهم باتخاذهم منه السكر والرزق الحسن ولأمر ما عجزت العرب العرباء عن معارضته ولما ذكر تعالى المنة باللبن المشروب وغيره أتم النعم بذكر العسل ولما كانت المشروبات من اللبن وغيره هو الغالب في الناس أكثر من العسل قدم اللبن وغيره عليه وقدم اللبن على ما بعده لأنه المحتاج إليه كثيراً وهو الدليل على الفطرة ولذلك اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسرى به وعرض عليه اللبن والخمر والعسل وجاء ترتيبها في الجنة لهذه الآية ففي إخراج اللبن من النعم والسكر والرزق الحسن من ثمرات الخيل والأعناب والعسل من النحل دلائل باهرة على الألوهية والقدرة والاختبار والإِيحاء هنا الإِلهام والإِلقاء في روعها وتعليمها على وجه أعلم بكنهه لا سبيل إلى الوقوف عليه والنحل جنس واحد نحلة ويؤنث في لغة الحجاز ولذلك قال: ان اتخذي، وان تفسيرية لأنه تقدم معنى القول وهو أوحى أو مصدرية أي باتخاذ ومن للتبعيض لأنها لا تبني في كل جبر وكل شجرة وكل ما يغرس ولا في كل مكان والظاهر أن البيوت هنا عبارة عن الكوى التي تكون في الجبال وفي متجوف الأشجار وأما مما يعرش ابن آدم فالخلايا التي يصنعها للنحل ابن آدم والكوى التي تكون في الحيطان ولما كان النحل نوعين منها ما مقره في الجبال والغياض ولا يتعهده أحد ومنها ما يكون في بيوت الناس ويتعهده في الخلايا ونحوها يشمل الأمر باتخاذ البيوت نوعين وظاهره العطف بالفاء في فاسلكي انه يعتقب الأكل أي فإِذا أكلت فاسلكي سبل ربك أي طرق ربك إلى بيوتك راجعة والسبل إذ ذاك مسالكها في الطيران وربما أجدب مكانها فانتجعت المكان البعيد ثم عادت إلى مكانها الأول وأضاف السبل إلى رب النحل من حيث أنه سبحانه وتعالى هو خالقها ومالكها والناظر في تهيئة مصالحها ومعاشها.﴿ ذُلُلاً ﴾ أي غير متوعرة عليها سبيل تسلكه فعلى هذا ذللاً حال من سبل ربك قوله تعالى:﴿ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً ﴾[الملك: ١٥] أو حال من الضمير في فاسلكي متذللة.﴿ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ ﴾ وهو العسل وسماه شراباً لأنه مما يشرب وقوله: من بطونها لا يدل على تعيين المكان الذي يخرج منه أمن الفم أو من المخرج.﴿ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾ بالخمرة والبياض والسمرة ونكر شفاء إما للتعظيم فيكون المعنى فيه شفاء أي شفاء واما لدلالته على مطلق الشفاء أي فيه بعض شفاء للناس ليس على عمومه لأن بعض الأمراض لا يصلح فيها العسل ولما كان أمر النحل عجيباً في بنائها تل كالبيوت المسدسة وفي أكلها من أنواع الأزهار والأوراق الحامض والمر والضار وفي طواعيتها لأميرها ولمن يملكها في نقلها معه وكان النظر في ذلك يحتاج إلى تأمل وزيادة تدبر ختم بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
﴿ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ﴾ نبه تعالى على قدرته التامة في إنشائنا من العدم وإماتتنا وتنقلنا في حال الحياة من حالة الجهل إلى حالة العلم وذلك كله دليل على القدرة التامة والعلم الواسع ولذلك ختم تعالى بقوله: ﴿ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾.
وأرذل العمر آخره الذي تفسد فيه الحواس ويختل النطق والفكر وخص بالرذيلة لأنها حالة لا رجاء بعدها لإِصلاح ما فسد واللام في لكي لتعليل الردّ إلى أرذل العمر وهي حرف جر وكي هنا ناصبة بنفسها بمعنى أن ينسبك منها مع ما بعدها مصدر فالتقدير لا يبقى علمه شيئاً بعد أن كان علمه ولما ذكر تعالى خلقنا ثم أماتتنا وتفاوتنا في الرزق وان رزقنا أفضل من رزق المماليك وهم بشر مثلنا والتفاضل بالرزق يكون بالكثرة والقلة ثم نفى تعالى أن يكون من فضل في الرزق رادّاً رزقه على مملوكه إذ ذاك الرزق الذي يطعمه مملوكه هو رزق الله والكل مرزوقون لله تعالى بالرزق الذي قدّره للمالك والمملوك ولذلك قال تعالى:﴿ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ ﴾ أي الملاك والمملوكون في الرزق سواء ولذلك قال بعض الأدباء: ولا تقولن لي فضل على أحد   الفضل لله ما للناس أفضالثم استفهم عن جحودهم نعمه استفهام إنكار وأتى بالنعمة الشاملة للرزق وغيره من النعم التي لا تحصى أي أن من يفضل عليكم بالنشأة أولاً ثم بما فيه قوام حياتكم جدير بأن يشكر نعمه ولا يكفر ولما ذكر تعالى امتنانه بالإِيجاد ثم بالرزق المفضل فيه ذكر امتنانه بما يقوم بمصالح الإِنسان مما يأنس به ويستنصر به ويخدمه واحتمل من أنفسكم أن يكون المراد من جنسكم ونوعكم واحتمل أن يكون ذلك باعتبار خلق حوّاء من ضلع من أضلاع آدم صلى الله عليه وسلم فنسب ذلك إلى بني آدم وكلا الاحتمالين مجاز، والظاهر عطف حفدة على بنين كون الجميع من الأزواج وأنهم غير البنين. فقال الحسن: الحفدة هم بنو الابن والحفدة والأعوان والخدم ومن يسارع في الطاعة يقال حفد يحفد حفداً وحفوداً وحفدانا ومنه إليك نسعى ونحفد أي نسرع في الطاعة وقال الشاعر: حفد الولائد حولهن وأسلمت   بأكفهن أزمة الاجمالوقال الأزهري الحفدة أولاد الأولاد ولما ذكر تعالى ما امتن به من جعل الأزواج وما ينتفع به من جهتهن ذكر تعالى منته بالرزق والطيبات عام في النبات والثمار والحبوب والأشربة.﴿ وَيَعْبُدُونَ ﴾ استئناف اخبار عن حالهم في عبادة الأصنام وفي ذلك تبيين لقوله تعالى: ﴿ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ ﴾ نعى عليهم فساد نظرهم في عبادة ما لا يمكن أن يقع منه ما يسع عابده في تحصيله منه وهو الرزق ولا هو في استطاعته ففي أولاً أن يكون شىء من الرزق في ملكهم ونفى ثانياً قدرتها على أن تحاول ذلك وما لا يملك عام في جميع من عبد من دون الله من ملك أو آدمي أو غير ذلك وأجازوا في شيئاً انتصابه بقوله: رزقاً. قال ابن عطية: والمصدر يعمل مضافاً باتفاق لأنه في تقدير الانفصال ولا يعمل إذا دخله الألف واللام لأنه قد توغل في حال الأسماء وبعد عن الفعلية وتقدير الانفصال في الاضافة حسن عمله وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قوله: ضعيف النكاية اعداءه البيت وقوله: لحقت فلم أنكل عن الضرب مسمعاً   انتهى أما قوله يعمل مضافاً باتفاق ان عنى من البصريين فصحيح وان عنى من النحويين فغير صحيح لأن بعض النحويين ذهب إلى أنه وان أضيف لا يعمل وان نصب ما بعده أو رفعة إنما هو على إضمار الفعل المدلول عليه بالمصدر وأما قوله: لأنه في تقدير الانفصال فليس كذلك لأنه لو كان في تقدير الانفصال لكانت الاضافة غير محضة وقد قال بذلك أبو القاسم ابن برهان وأبو الحسين ابن الطراوة ومذهبهما فاسد لنعت هذا المصدر المضاف وتوكيده بالمعرفة. وأما قوله: ولا يعمل إلى آخره فقد ناقض في قوله آخراً وقد جاء عاملاً مع الألف وأما كونه لا يعمل مع الألف واللام فهو مذهب منقول عن الكوفيين ومذهب سيبويه جواز اعماله. قال سيبويه: وتقول عجبت الضرب زيداً كما تقول عجبت من الضارب زيداً تكون الألف واللام بمنزلة التنوين والظاهر عود الضمير في يستطيعون على ما على معناها لأنه يراد بها آلهتهم بعد ما أعاد على اللفظ في قوله: لا يملك فأفرد وجاز أن يكون داخلاً في صلة ما وجاز أن لا يكون داخلاً بل اخبار عنهم بانتفاء الاستطاعة أصل لأنهم أموات وأما قول الزمخشري أنه يراد بالجمع بين نفي الملك والاستطاعة التوكيد فليس كما ذكر لأن نفي الملك مغاير لنفي الاستطاعة.
﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ ﴾ قال ابن عباس لا تشبهوه بخلقه.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ ﴾ أثبت العلم لنفسه والمعنى أنه يعلم ما تفعلون من عبادة غيره والإِشراك به وعبر عن الجزاء بالعلم.﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ كنه ما أقدمتم عليه ولا وبال عاقبته.﴿ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً ﴾ الآية، مناسبة ضرب هذا المثل أنه لما بين تعالى ضلالهم في إشراكهم بالله وغيره وهو لا يجلب نفعاً ولا ضراً لا لنفسه ولا لعابده ضرب لهم مثلاً في قصة عبد في ملك غيره عاجز عن التصرف وحر غني متصرف فيما آتاه الله تعالى فإِذا كان هذان لا يستويان عندكم مع كونهما من جنس واحد ومشتركين في الانسانية فكيف تشركون بالله تعالى وتسوون به من هو مخلوق له مقهور بقدرته من آدمي وغيره مع تباين الأوصاف وان واجب الوجود لا يمكن أن يشبهه شىء من خلقه ولا يمكن لعاقل أن يشبه به غيره.﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ ﴾ أي قصة رجلين وهذا مثل ثان ضربه تعالى إلى نفسه ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه والنعمة الدينية والدنيوية والأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع وإلا بكم الذي ولو أخرس فلا يفهم ولا يفهم.﴿ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ ﴾ أي ثقيل وعيال على من يلي أمره ويعوله.﴿ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ ﴾ حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجح.﴿ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ ﴾ ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفاية مع رشد وديانة فهو يأمر الناس بالعدل.﴿ وَهُوَ ﴾ في نفسه.﴿ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ على سيرة صالحة ودين قويم ذكر تعالى أن له غيب السماوات والأرض وهو ما غاب عن العباد وخفي فيها عنهم عامة والظاهر اتصاله بقوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾.
أخبر باستئثاره بعلم غيب السماوات والأرض ثم بكمال قدرته على الإِتيان بالساعة التي ينكرونها في لمحة البصر أو أقرب والمعنى بهذا الاخبار ان الآلهة التي يعبدونها منتف عنها هذان الوصفان اللذان لاله وهما العلم المحيط بالمغيبات والقدرة البالغة التامة ومن ذكر أن قوله: ومن يأمر بالعدل هو الله ذكر ارتباط هذه الجملة بما قبلها بأن من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم هو الكامل في العلم والقدرة فبين ذلك بهذه الجملة ولما ذكر تعالى أمر الساعة وأنها كائنة لا محالة وكان في ذلك دلالة على النشأة الآخرة وتقدم وصفها بانتفاء العلم ذكر النشأة الأولى وفي إخراجهم من بطون أمهاتهم غير عالمين شيئاً تنبيهاً على وقوع النشأة الآخرة ثم ذكر امتنانه عليهم بجعل الحواس التي هي سبب لإِدراك الأشياء والعلم. قال الزمخشري: والأفئدة من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة إذا لم يرد في السماع غيرها كما قالوا: شسوع في جمع شسع لا غير فجرت ذلك المجرى " انتهى ". ودعوى الزمخشري أنه لم يجىء في جمع شسع إلا شسوع لا غير فليس بصحيح بل جاء فيه جمع القلة قالو: شساع ولما ذكره ابن الخطيب هنا ليس بشىء ولما كانت النشأة الأولى وجعل ما يعلمون به لهم من أعظم النعم عليهم قال: لعلكم تشكرون، وتقدم الكلام في أمهات في النساء ولا تعلمون جملة حالية أي غير عالمين ولما ذكر تعالى مدارك العلم الثلاثة السمع والبصر والعقل والأول مدرك المحسوس. والثاني: مدرك المعقول اكتفى من ذكر مدرك المحسوس بذكر النظر فإِنه أغرب لما يشاهد به من عظيم المخلوقات على بعدها التفاوت كمشاهدته للنيرات في الأفلاك وجعل هنا موضع الاعتبار والتعجب الحيوان الطائر فإِن طيرانه في الهواء في ثقل جسمه مما يتعجب منه ويعتبر به وتضمنت الآية ذكر مدرك العقل في كونه لا يسقط إذ ليس تحته ما يدعمه ولا فوقه ما يتعلق به فيعلم بالعقل أنه له ممسك قادر على إمساكه وهو الله فانتظم في الآية ذكر مدرك الحس ومدرك العقل ومعنى مسخرات مذللات وبني للمفعول دلالة على أنه له مسخراً وهو الله تعالى والجو مسافة ما بين السماء والأرض لآيات جمع ولم يفرد لما في ذلك من الآيات خفة الطائر التي جعلها الله فيه لأن يرتفع بها وثقله الذي جعله الله تعالى فيه لأن ينزل والفضاء الذي بين السماء والأرض والامساك الذي لله او جمع باعتبار ما في هذه الآية والتي قبلها وقال لقوم يؤمنون فإِنهم هم الذين ينتفعون بالاعتبار ولتضمن الآية أن المسخر والممسك لها هو الله تعالى فهو إخبار منه تعالى ما يصدق به إلا المؤمن.﴿ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ ﴾ الآية، والسكن فعل بمعنى مفعول كالقبض وأنشد الفراء. جاء الشتاء ولما اتخذ سكناً   يا ويح نفسي من حفر القراميصوليس السكن بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية والظاهر أنه يندرج في البيوت التي من جلود الأنعام بيوت الشعر وبيوت الصوف والوبر.﴿ يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ﴾ يوم ترحلون خف عليكم حملها ونقلها ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها والظاهر أن أثاثاً مفعول والتقدير جعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً.﴿ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً ﴾ لما كانت بلاد العرب الغالب عليها الحر امتن عليهم بذكر ما يكنهم منه كالظلال فيما له ظل والأكنان من الجبال الغيران والكهوف والبيوت المنحوتة منها والسربال ما ليس على البدن من قميص وغيره وثم محذوف تقديره الحر والبرد لأن ما وفي الحر جدير أن يقي البرد. و ﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ﴾ كناية عن الدروع والمغفر غير ذلك.﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ يحتمل أن يكون ماضياً أي فإِن أعرضوا عن الإِسلام ويحتمل أن يكون مضارعاً أي فإِن تتولوا وحذفت الياء ويكون جارياً على الخطاب السابق والماضي على الإِلتفات والفاء ما بعدها جواب الشرط صورة والجواب حقيقة محذوف أي فأنت معذور إذ أديت ما وجب عليك فأقيم سبب العذر وهو البلاغ مقام المسبب لدلالته عليه.﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ الآية، لما ذكر إنكارهم لنعمة الله ذكر حال يوم القيامة حيث لا ينفع فيه الإِنكار على سبيل الوعيد لهم بذلك اليوم وانتصب يوم بإِضمار ذكر على أنه مفعول به ومتعلق الاذن محذوف فقيل في الرجوع الى دار الدنيا أو في الكلام والاعتذار.﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ أي لا يزول عنهم العتب والظاهر أن قوله: شركاؤهم عام في كل من اتخذوه شريكاً لله تعالى من صنم وغيره والظاهر أن القول منسوب إليهم حقيقة وقيل منسوب إلى جوارحهم لأنهم لما أنكروا الإِشراك بقولهم:﴿ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾[الأنعام: ٢٣]، أصمت الله ألسنتهم وأنطق جوارحهم ومعنى ندعو نعبد، قالوا: ذلك رجاء أن يشركوا معهم في العذاب إذ يحصل التأسي بهم والضمير في فألقوا عائد على الذين أشركوا وإليهم عائد على الشركاء.﴿ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ خطاب العابدين للمعبودين واجهوا من كانوا يعبدونهم بأنهم كاذبون والسلم الاستسلام والانقياد لحكم الله تعالى بعد الاباء والاستكبار في الدنيا.﴿ وَضَلَّ عَنْهُم ﴾ أي بطل عنهم.﴿ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ من أن لله تعالى شركاء والذين مبتدأ وزدناهم الخبر صدر فهم شيئان الكفر والصد عن سبيل الله فعوقبوا بعذابين عذاب على الصد فوق العذاب الذي لهم على الكفر وفي كل أمة يبعث فيها منها حذف في السابق من أنفسهم وأثبته هنا وحذف هناك في وأثبته هنا والمعنى في كليهما أنه يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم والخطاب في بك لرسول الله صلى الله عليه وسلم والإِشارة بهؤلاء إلى أمته ونزلنا استئناف اخبار وليس داخلاً مع ما قبله لاختلاف الزمانين لما ذكر ما شرفه الله تعالى به من الشهادة على أمته ذكر ما أنزل عليه مما فيه بيان كل شىء من أمور الدين ليزيح بذلك علتهم فيما كلفوا فلا حجة لهم ولا معذرة والظاهر أن تبياناً مصدر جاء على تفعال وإن كان باب المصادر أن يجيء على تفعال بالفتح كالترداد والتطواف ونظير تبيان في كسر تائه تلقاء ونصبو تبياناً على الحال ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله. قال الزمخشري: فإِن قلت كيف كان القرآن تبياناً لكل شىء، قلت: المعنى أنه بين كل شىء من أمور الدين حيث كان نصاً على بعضها وإحالة على السنة حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته وفيه وما ينطق عن الهوى. وحثاً على الاجماع في قوله: ويتبع غير سبيل المؤمنين وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباع أصحابه والاقتداء بآثارهم في قوله: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتهم وقد اجتهدوا وقاسوا ووطأوا طرق القياس والاجتهاد فكانت السنة والاجتهاد والاجماع والقياس مستندة إلى تبين الكتاب فمن ثم كان تبياناً لكل شيء " انتهى ". قوله: وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله: اهتديتم لم يقل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث موضوع لا يصح بوجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما في أيدي العامة ترويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما مثل أصحابي كمثل النجوم أو كالنجوم بأيها اقتدوا اهتدوا فهذا كلام لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه هذا نص كلام البزار قال ابن المعين عبد الرحيم بن زيد كذاب خبيث ليس بشىء وقال البخاري هو متروك ورواه أيضاً حمزة الجزري وحمزة هذا ساقط متروك وللمسلمين متعلق ببشرى ومن حيث المعنى متعلق بهدى ورحمة.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ ﴾ الآية، عن ابن عباس في حديث فيه طول منه أن عثمان بن مظعون كان جليس النبي صلى الله عليه وسلم وقتاً فقال له عثمان: ما رأيتك تفعل فعلتك الغداة؟ قال: وما رأيتني فعلت قال: شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته على يمينك فتحرفت عني إليه وتركتني فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئاً يقال لك قال: أو فطنت لذلك أتاني رسول الله آنفاً وأنت جالس قال: فماذا قال لك، قال لي: ان الله يأمرك بالعدل والإِحسان وذكر الآية، قال عثمان: فذلك حين استقر الإِيمان في قلبي فأحببت محمداً صلى الله عليه وسلم ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شىء، وصل به ما يقتضي التكاليف فرضاً ونفلاً وأخلاقاً وأدباً والعدل فعل فروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات وترك الظلم والانصاف وإعطاء الحق والإِحسان فعل كل مندوب إليه وإيتاء ذي القربى هو صلة الرحم وهو مندرج تحت الإِحسان لكنه نبه عليه اهتماماً به وحضاً على الإِحسان إليه والفحشاء الزنا والمنكر الشرك والبغي التطاول بالظلم والسعاية فيه وهو داخل في المنكر ونبه عليه اهتماماً باجتنابه يعظكم به أي بالأمر والنهي لعلكم تذكرون تنتهون لما أمرتم به ونهيتهم عنه.﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ﴾ عهد الله علم لما عقده الإِنسان والتزمه.﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ ﴾ أي العهود الموثقة بالايمان نهي عن نقضها تهمماً بها.﴿ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ أي بعد توثيقها باسم الله تعالى وكفالة الله شهادته ومراقبته والجملة من قوله: وقد جعلتم في موضع الحال.﴿ وَلاَ تَكُونُواْ ﴾ أي في نقض العهد بعد توكيده وتوثيقه بالله تعالى كالمرأة الورهاء تبرم فتل غزلها ثم تنقضه نكثاً وهو ما يحل فتله والتشبيه لا يقتضي تعيين المشبه به وعن الكلبي ومقاتل الورهاء هي من قريش خرقاء اسمها ريطة بنت سعد بن تيم تلقب بجفراء اتخذت مغزلاً قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكة عظيمة على قدرها كانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن والظاهر أن قوله: من بعد قوّة أي شدة حدثت من تركيب قوى الغزل والنكث في اللغة الحبل إذا انتقضت قواه والدخل الفساد والدغل جعلوا الإِيمان ذريعة إلى الخدع والغدر وذلك أن المخلوق له مطمئن فيمكن للحالف ضره بما يريده قالوا: نزلت في العرب كانوا إذا حالفوا قبيلة فجاء أكثر منها عدداً حالفوه وغدروا بالتي كانت أقل.﴿ هِيَ أَرْبَىٰ ﴾ أي أزيد وأكثر والضمير في به عائد على المصدر المنسبك من أن تكون أي بسبب كون أمة هي أربى من أمة.﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ الآية، هذه المشيئة مشيئة اختيار على مذهب أهل السنة ابتلى الناس بالأمر والنهي ليذهب كل إلى ما يسر له.﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ﴾ كرر النهي عن اتخاذ الايمان دخلاً تهمما بذلك مبالغة في النهي عنه لعظم موقعه من الدين. قال ابن عطية: وتردده في معاملات الناس. وقال الزمخشري: تأكيداً عليهم وإظهار العظم ما يرتكب منه " انتهى ". وقيل إنما كرر لاختلاف المعنيين لأن الأول نهي عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة وهنا نهي عن الدخل في الايمان التي يراد بها اقتطاع حقوق فكأنه قال: دخلاً بينكم لتتوصلوا بها الى قطع أموال الناس وأقول لم يتكرر النهي عن اتخاذ الايمان دخلاً وإنما سبق اخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلاً معللاً بشىء خاص وهو أن تكون أمة هي أربى من أمة وجاء النهي بقوله: ولا تتخذوا، استئناف إنشاء عن اتخاذ الايمان دخلاً على العموم فيشمل جميع الصور من الحلف في المبايعة وقطع الحقوق المالية وغير ذلك وانتصب فتزل على جواب النهي وهو استعارة لمن كان مستقيماً ووقع في أمر عظيم وسقط لأن القدم إذا زلت تقلب الإِنسان من حال خير إلى شر.﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ﴾ الآية، هذه آية نهي عن الرشاء وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الأخذ فعله أو فعل ما يجب عليه تركه فإِن هذا هي التي عهد الله إلى عباده فيها وبين تعالى الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتقتضي عن الانسان وينقضي عنها والتي في الآخرة باقية دائمة ودل قوله تعالى: ﴿ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ ﴾ على أن نعيم الجنة لا ينقطع أبداً وما موصولة وهي اسم ان وعند الله صلة والموصول وهو خير لكم جملة في موضع خبر ان وما في الجملتين موصول بمعنى الذي وينفد خبر الأولى وباق خبر الثانية. وهو مؤمن جملة حالية والظاهر من قوله: فلنحيينه، إن ذلك في الدنيا ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم ﴾ يعني في الآخرة.﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شىء وذكر أشياء مما بين في الكتاب، فإِن كان الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لفظاً فالمراد أمته ونفي تعالى سلطان الشيطان عن المؤمنين والسلطان هنا التسلط والولاية والمعنى أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته وظاهر الاخبار انتفاء سلطنته عن المؤمنين مطلقاً ولما ذكر تعالى إنزال الكتاب تبياناً لكل شىء وأمر بالاستعاذة عند قراءته. ذكر تعالى نتيجة ولاية الشيطان لأوليائه المشركين وما يلقيه إليهم من الأباطيل فألقي إليهم إنكار النسخ لما رأوا تبديل آية مكان آية، وتقدم الكلام في النسخ في البقرة والظاهر أن هذا التبديل رفع آية لفظاً ومعنى يجوز أن يكون التبديل لحكم المعنى وإبقاء اللفظ ووجدت الكفار بذلك طعناً في الدين وما علموا أن المصالح تختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأوقات وكما وقع نسخ شريعة بشريعة يقع في شريعة واحدة وأخبر تعالى أنه العالم بما ينزل لا أنتم، وما ينزل مما يقره وما يرفعه فمرجع علم ذلك إليه، وروح القدس هنا هو جبريل عليه السلام وأضاف الرب إلى كاف الخطاب تشريفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم باختصاص الاضافة وبالحق حال أي ملتسباً بالحق سواء كان ناسخاً أم منسوخاً وليثبت معناه أنهم لا يضطربون في شىء منه لكونه نسخاً بل النسخ مثبت لهم على إيمانهم ودل اختصاص التعليل بالمسلمين على اتصاف الكفار بضده من لحاق الاضطراب لهم قال الزمخشري: وهدى وبشرى مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت " انتهى ". تقدم الردّ عليه وفي نحو هذا وهو قوله:﴿ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً ﴾[النحل: ٦٤] في هذه السورة ولا يمتنع عطفه على المصدر المنسبك من أن والفعل لأنه مجرور فيكون هدى وبشرى مجرورين كما تقول: جئت لأحسن إلى زيد وإكرام لخالد إذ التقدير لإِحسان إلى زيد وجاء إسناد التعليم إلى مبهم لم يعين. وقال ابن عباس: كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له: بلعام فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه الإِسلام ويرويه عليه فقالت قريش: هذا يعلم محمداً من جهة الأعاجم وقد ذكروا أسماء ناس أخر غير بلعام لا يصح شىء منها قال الزمخشري: فإِن قلت الجملة التي هي قوله: لسان الذي يلحدون إليه، أعجمي ما محلها. قلت: لا محل لها لأنها مستأنفة جواب لقولهم: ومثله قوله: الله أعلم حيث يجعل رسالاته بعد قوله: وإذا جاءتهم آية قالوا: لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله " انتهى ". يجوز عندي أن تكون جملة حالية فموضعها نصب وذلك أبلغ في الانكار عليهم أي يقولون ذلك والحال هذه أي علمهم بأعجمية هذا البشر وآياته عربية هذا القرآن كان يمنعهم من تلك المقالة كما تقول تشتم فلاناً وهو قد أحسن إليك أي علمك بإِحسانه لك كان يقتضي منعك من شتمه وإنما ذهب الزمخشري الى الاستئناف ولم يذهب إلى الحال لأن مذهبه ان مجيء الجملة الحالية الاسمية بغير واوشاذ وهو مذهب مرجوح جداً ومجيء ذلك بغير واو لا يكاد ينحصر كثرة في كلام العرب وهو مذهب تبع فيه الفراء واما الله أعلم فظاهر قوله فيها لأنها جملة خالية من ضمير يعود على ذي الحال لأن ذا الحال هو ضمير وفي هذه الآية ذو الحال ضمير يقولون: والضمير الذي في جملة الحال هو ضمير الحال في يلحدون فالجملة ان عريت عن الواو ففيها ضمير ذي الحال.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ الآية، أخبر تعالى عنهم بأنهم لا يهديهم الله أبداً إذ كانوا جاحدين آيات الله وما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات وخصوصاً القرآن فمن بالغ في جحد آيات الله سد الله باب الهداية عنهم وذكر تعالى وعيده بالعذاب الأليم لهم ومعنى لا يهديهم لا يخلق الإِيمان في قلوبهم وهذا عام مخصوص فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله.﴿ مَن كَفَرَ ﴾ من شرطية وجوابه محذوف تقديره فهو مؤاخذ بكفره والاستثناء منقطع تقديره لكن من أكره على الكفر ولفظ به وقلبه مطمئن بالإِيمان فلا يؤخذ به.﴿ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ ﴾ من شرطية جوابه فعليهم غضب. وقال ابن عطية: وقيل فعليهم خبر عن من الأولى والثانية إذا هو واحد بالمعنى لأن الأخبار في قوله: من كفر إنما قصد الصنف الشارح بالكفر صدراً انتهى هذا. وان كان كما ذكر في هاتان جملتان شرطيتان وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك فلا بد لكل واحدة منهن من جواب على انفراد لا يشتركان فيه فتقدير الحذف أجرى على صناعة الاعراب وعلى كون من في موضع رفع على الابتداء يجوز أن تكون شرطية كما ذكرنا وان تكون موصولة وما بعدها صلتها والخبر محذوف لدلالة ما بعده عليه لما ذكرنا في حذف جواب الشرط إلا أن من الثانية لا يجوز أن تكون شرطاً حتى يقدر قبلها مبتدأ لأن من وليت لكن فيتعين إذ ذاك أن تكون من موصولة فإِن قدر مبتدأ بعد لكن جاز أن تكون شرطية في موضع خبر ذلك المبتدأ المقدر كقوله: ولكن متى يسترفد القوم أرفد   أي ولكن أنا فكذلك هنا أي ولكن هم من شرح بالكفر صدراً أي منهم وأجاز الحوفي والزمخشري أن تكون من بدلاً من الذين لا يؤمنون ومن الكاذبون ولم يجز الزجاج إلا أن يكون بدلاً من الكاذبون لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلقه بما قبله وأجاز الزمخشري أيضاً أن يكون بدلاً من أولئك فإِذا كان بدلاً من الذين لا يؤمنون فيكون قوله: وأولئك هم الكاذبون جملة اعتراض بين البدل والمبدل منه والمعنى إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه واستثنى منه المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء وإذا كان بدلاً من الكاذبون فالتقدير وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه وإذا كان بدلاً من أولئك فالتقدير من كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون وهذه الأوجه الثلاثة عندي ضعيفة لأن الأول يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه والوجود يقتضي أن من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن وسواء أكان ممن كفر بعد الإِيمان أم كان ممن لم يؤمن قط بل من لم يؤمن قط هم الأكثرون المفترون الكذب. وأما الثاني فيؤول في المعنى إلى ذلك إذ التقدير أولئك أي الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه والذين لا يؤمنون هم المفترون. وأما الثالث: فكذلك إذ التقدير أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه مخبر عنهم الكاذبون. قال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب على الذم وهذا بعيد أيضاً والذي تقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة لا ترتبط بما قبلها من حيث الإِعراب بل من حيث المعنى والمناسبة والظاهر أن ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذاب أي كائن لهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة.﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ ﴾ فيه دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك وهم عمار وأصحابه رضي الله عنهم.﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ ﴾ الآية، يوم ظرف وهو منصوب باذكر على أنه مفعول به والظاهر عموم كل نفس فيجادل المؤمن والكافر وجداله بالكذب والجحد فتشهد عليهم الرسل والجوارح فحيئنذٍ لا ينطقون.﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً ﴾ أي من قرى الأولين جعلت مثلاً لمكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة. قال الزمخشري: يجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة وأن يكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها فضربها الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها " انتهى ". لا يجوز أن يراد قرية على هذه الصفة بل لا بد من وجودها لقوله:﴿ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ ﴾[النحل: ١١٣] الآية.﴿ كَانَتْ آمِنَةً ﴾ ابتداء بصفة إلا من لأنه نعيم لخائف والاطمئنان زيادة في الأمن فلا يزعجها خوف.﴿ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا ﴾ أقواتها كل حين واسعة من جميع جهاتها لا تتعذر منها جهة وأنعم جمع نعمة كشدة وأشدوا لإِذاقة واللباس كناية عن وصول الخوف والجوع إليهم ولما تقدم ذكر إلا من وإيتاء الرزق قابلهما بالجوع الناشىء عن انقطاع الرزق وبالخوف قدّم الجوع ليلي المتأخر وهو إتيان الرزق كقوله تعالى:﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ﴾[آل عمران: ١٠٦] الآية. والظاهر أن الضمير في ولقد جاءهم، عائد على ما عاد عليه في قوله: ﴿ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾.
ولما تقدم فكرت بأنعم الله جاء هنا واشكروا نعمة الله وفي البقرة جاء:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾[البقرة: ١٧٢] لم يذكر من كفر نعمته فقال: واشكروا الله ولما أمرهم بالأكل مما رزقهم عدد عليهم محرماته تعالى ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم دون اتباع ما شرع الله تعالى على لسان أنبيائه وكذا جاء في البقرة ذكر ما حرم إثر قوله: ﴿ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ ﴾ وقوله: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ ﴾ تقدم تفسير مثله في البقرة.
﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ ﴾ الآية، لما بين ما حرم بالغ في تأكيد ذلك بالنهي عن الزيادة فيما حرم وما مصدرية والكذب مفعول بتصف أي بوصف ألسنتكم الكذب وهذا حلال وهذا حرام تفسير للكذب ويجوز أن تكون ما موصولة بمعنى الذي وتصف صلته والضمير عائد على ما محذوف تقديره تصفه والكذب بدل من هذا الضمير المحذوف ويجوز أن ينتصب الكذب على أنه نعت لمصدر محذوف منصوب بتقولوا أي ولا تقولوا القول الكذب لما تصف واللام للتعليل أي لما تصف. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون الكذب بالجر صفة لما المصدرية كأنه قيل لوصفها الكذب بمعنى الكاذب كقوله تعالى:﴿ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾[يوسف: ١٨] المراد بالوصف وصفها البهائم بالحل والحرمة " انتهى " هذا عندي لا يجوز وذلك أنهم نصوا على أن المصدرية لا ينعت المصدر المنسبك منها ومن الفعل فلا يجوز يعجبني ان قمت السريع تريد قيامك السريع ولا عجبت من أن تخرج السريع أي من خروجك السريع وحكم باقي الحروف المصدرية حكم ان فلا يوجد في كلامهم وصف المصدر المنسبك من أن ولا من ما ولا من كي بخلاف صريح المصدر فإِنه يجوز أن ينعت وليس لكل مصدر حكم المنطوق به وإنما يتبع في ذلك ما تكلمت به العرب وارتفع متاع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره عيشهم في الدنيا متاع قليل.﴿ وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا ﴾ تقدم ما حرم عليهم في آخر الانعام ويتعلق من قبل بقصصنا وهو الظاهر وقيل بحرمنا والمحذوف الذي في من قبل تقديره من قبل تحريمنا على أهل ملتك والسوء ما يسوء صاحبه من كفر ومعصية وغيره والكلام في الذين آمنوا وما يتعلق به تقدم نظيره.﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ الآية، مناسبة هذه الآية للتي قبلها أنه لما أبطل تعالى مذاهب المشركين في هذه السورة والطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحليل ما حرم وتحريم ما أحل وكانوا مفتخرين بجدهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم ذكره في آخر السورة وأوضح منهاجه وما كان عليه من طاعة الله ورفض الأصنام ليكون ذلك حاملاً لهم على تركها والاقتداء به. وقال ابن عطية: قال مكي ولا يكون يعني حنيفاً حالاً من إبراهيم لأنه مضاف إليه وليس كما قال لأن الحال قد يعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال كقولك مررت بزيد قائماً " انتهى ". اما ما حكي عن مكي وتعليله امتناع ذلك بكونه مضافاً إليه فليس على إطلاق هذا التعليل لأنه إذا كان المضاف إليه في محل رفع أو نصب جازت الحال منه نحو يعجبني قيام زيد مسرعاً وشرب السويق ملتوتاً. وقال بعض النحاة: ويجوز أيضاً ذلك إذا كان المضاف خبراً من المضاف إليه كقوله تعالى:﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَٰناً ﴾[الحجر: ٤٧] أو كالجزاء كقوله تعالى: ﴿ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾.
وأما قول ابن عطية في رده على مكي بقوله: وليس كما قال لأن الحال إلى آخره، فقول بعيد عن قول أهل الصنعة لأن الباء في يزيد ليست هي العاملة في قائماً وإنما العامل في الحال مررت والباء وإن عملت الجر في يزيد فإِن زيداً في موضع نصب بمررت ولذلك إذا حذفت حرف الجر حيث يجوز حذفه نصب الفعل ذلك الاسم الذي كان مجرور بالحرف وتقدم تفسير القانت والحنيف شاكراً لأنعمه. روي أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداءه فإذا هو بفوج الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فحيلوا له أن بهم جذاماً فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم شكراً لله تعالى على أنه عافاني وابتلاكم.﴿ وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾ قال قتادة: حببه الله تعالى إلى كل الخلق فكل أهل الأديان يتولونه اليهود والنصارى والمسلمون وخصوصاً كفار قريش فإِن فخرهم إنما هو كان به وذلك لإِجابة دعوته واجعل لي لسان صدق في الآخرين ولما وصف إبراهيم عليه السلام بتلك الأوصاف الشريفة أمر نبيه عليه السلام أن يتبع ملته وهذا الأمر من جملة الحسنة التي آتها الله إبراهيم في الدنيا وملته أي عقائد الشرائع دون الفروع لقوله تعالى:﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ﴾[المائدة: ٤٨].
ومنهاجا. ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد اختار يوم الجمعة فدل ذلك على أنه كان في شرع إبراهيم عليه السلام بين أن يوم السبت لم يكن في شرع إبراهيم والسبت مصدر وبه سمي اليوم وتقدم الكلام في هذا اللفظ في الأعراف.﴿ ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ ﴾ أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف وهو أن يسمع المدعو حكمه وهو الكلام الصواب القريب الواقع في النفس أجمل موقع. وعن ابن عباس أن الحكمة هي القرآن وعنه أيضاً الموعظة الحسنة مواعظ القرآن.﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ﴾ الآية، أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة وغيره في يوم أحد والظاهر عود الضمير في لهو إلى المصدر الدال عليه الفعل مقيداً بالاضافة إليهم أي لصبركم وللصابرين أي لكم أيها المخاطبون فوضع الصابرين موضع الضمير ثناء من الله تعالى عليهم بصبرهم على الشدائد أو بصبرهم على المعاقبة ولما خير المخاطبون في المعاقبة والصبر عنها عزم على الرسول صلى الله عليه وسلم في الذي هو خير وهو الصبر فأمر هو وحده بالصبر ومعنى بالله بتوفيقه وتيسيره وإرادته والضمير في عليهم يعود على الكفار وكذلك في يمكرون كما قال تعالى:﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾[المائدة: ٦٨].
ومعنى المعية بالنصر والتأييد والإِعانة.
Icon