ﰡ
وهو مكتوب في مصاحفنا، محفوظ في قلوبنا، مقروء بألسنتنا، متلو في محاريبنا، مسموع بأسماعنا، ليس بكتابة ولا حفظ ولا قراءة ولا تلاوة ولا سمع، لأن ذلك محدث عن عدم، وكلام الله تعالى قديم، كما أن الباري سبحانه وتعالى مكتوب في كتابنا، معلوم في قلوبنا، مذكور بألسنتنا، وليس ذات الباري سبحانه وتعالى كتابة ولا ذكرا.
والدليل على أن كلامه تعالى قديم قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ اِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ فأثبت أن المخلوق مقولا له : كن، فلو كان قوله :« كن » مخلوقا لكان مقولا له : كن، وكان يؤدي إلى أن يتصل كل قول بقول آخر إلى ما لا يتناهى، وذلك يوجب بطلان القول. فلما كان ذلك باطلا، وجب أن يكون قوله تعالى أزليا غير مخلوق ولا محدث٢. ولأن الحيَّ الذي يصح عليه الكلام لا يصح أن يعرى عنه أو عن الآفات المانعة من الكلام كواحد منا، والباري سبحانه وتعالى حي يصح أن يكون متكلما، والآفات المانعة من الكلام عليه محال، فثبت أنه متكلم لم يزل، وكلامه قديم. ( الكوكب الأزهر شرح الفقه الأكبر ص : ١٦. )
٢ - ن الإبانة عن أصول الديانة للأشعري ص: ٦٢..
قال الشافعي : ثم منَّ عليهم بما آتاهم من العلم، وأمرهم بالاقتصار عليه، وأن لا يتولوا غيره إلا بما علَّمهم. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنَ اَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا اَلْكِتَابُ وَلا اَلاِيـمَانُ ﴾٢ وقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ وَلا تَقُولَنَّ لِشَاْىْءٍ اِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا اِلا أَنْ يَّشَاء اَللَّهُ ﴾٣ وقال لنبيه :{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ اَلرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ
بِكُمُ }٤. ( الأم : ٧/٢٩٤. ون أحكام الشافعي : ١/٣٠٠-٣٠١. )
٢ - الشورى: ٥٢..
٣ - الكهف: ٢٣..
٤ - الأحقاف: ٩..
فمنها : ما أبانه لخلقه نصا، مثل : جُمَلُ فرائضه في أن عليهم صلاة وزكاة وحجا وصوما، وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونصَّ على الزنا والخمور وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وبين لهم كيف فرض الوضوء، مع غير ذلك مما بين نصا.
ومنه : ما أحكم فرضه بكتابه، وبيَّن كيف هو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، مثل : عدد الصلاة والزكاة ووقتها، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل في كتابه.
ومنه : ما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما ليس لله فيه نصُّ حُكْم. وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى حكمه، قال الله تعالى :﴿ يَاأَيُّهَا اَلذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَأَطِيعُوا اَلرَّسُولَ ﴾٣ وقال :﴿ مَّنْ يُّطِعِ اِلرَّسُولَ فَقَدَ اَطَاعَ اَللَّهَ ﴾٤.
وقال :﴿ اِنَّ اَلذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اَللَّهَ يَدُ اَللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾٥ فأعلمهم أن بيعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعتُه، وكذلك أعلمهم أن طاعته طاعتُه، وقال :﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُومِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾٦ مع سائر ما ورد في معنى هذه الآيات.
قال الشافعي : فمن قَبِلَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبفرض الله قَبِلَ.
ثم قال : ومنه ما فرض على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض الله عليهم، فإنه يقول :﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ اَلْمُجَهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّبِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمُ ﴾٧ وقال :﴿ وَلِيَبْتَلِىَ اَللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ ﴾٨ وقال :﴿ عَسى رَبُّكُمُ أَنْ يُّهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى اِلاَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾٩.
قال الشافعي : فليس لأحد أبدا أن يقول في شيء حلَّ أو حَرُمَ إلا من جهة العلم، وجهة العلم في الخبر : في الكتاب، والسنة، أو الإجماع، أو القياس.
والقياس : ما طلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم من الكتاب والسنة، لأنهما علم الحق المفترض طلبه، وموافقته تكون من وجهين : أحدهما، أن يكون الله أو رسوله حرَّم الشيء منصوصا أو أحلَّه لمعنى، فإذا وجدنا ما في مثل ذلك المعنى فيما لم ينص فيه بعيْنه كتاب ولا سنة، أحللناه أو حرَّمناه، لأنه في معنى الحلال أو الحرام. ونجد الشيء يشبه الشيء منه والشيء من غيره، ولا نجد شيئا أقرب به شبها من أحدهما فلنلحقه بأولى الأشياء شبها به. ( مناقب الشافعي : ١/٣٦٩-٣٧١. ون الرسالة : ٢١-٢٣. )
ــــــــــــ
٢٩٠- قال الشافعي : وأقام الحجة على خلقه لئلا يكون لله على الناس حجة بعد الرسل وقال :﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ﴾١٠ وقال :﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾١١، وفرض عليهم اتباع ما أنزل عليه وسنَّ رسوله لهم فقال :﴿ وَمَا كَانَ لِمُومِنٍ وَلا مُومِنَةٍ اِذَا قَضَى اَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرا اَن تَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنَ اَمْرِهِمْ وَمَنْ يَّعْصِ اِللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾١٢ فأعلم أن معصيته في ترك أمره وأمر رسوله ولم يجعل لهم إلا اتباعه. وكذلك قال لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال :﴿ وَلَـاكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اِللَّهِ ﴾١٣ مع ما أعلم نبيه بما فرض من اتباع كتابه فقال :﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ ﴾١٤ وقال :﴿ وَأَنُ اَحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اَللَّهُ وَلا تَتَّبِعَ اَهْوَاءهُمْ ﴾١٥ وأعلمهم أنه أكمل لهم دينهم، فقال عز وجل :﴿ اِلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ اَلاِسْلَـامَ دِينًا ﴾١٦. ( الأم : ٧/٢٩٤. )
٢ - النحل: ٤٤..
٣ - النساء: ٥٩..
٤ - النساء: ٨٠..
٥ - الفتح: ١٠..
٦ - النساء: ٦٥..
٧ - محمد: ٣١..
٨ - آل عمران: ١٥٤..
٩ - الأعراف: ١٢٩..
١٠ - النحل: ٨٩..
١١ - النحل: ٤٤..
١٢ - الأحزاب: ٣٦..
١٣ - الشورى: ٥٢..
١٤ - الزخرف: ٤٣..
١٥ - المائدة: ٤٩..
١٦ - المائدة: ٣..
قال الشافعي : وأيهما فعل الرجل أجزأه، إن جهر أو أخفى. وكان بعضهم يتعوذ حين يفتتح قبل أم القرآن، وبذلك أقول. وأحب أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، [وإذا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ] ٥، وأي كلام استعاذ به، أجزأه، ويقوله في أول ركعة٦.
وقد قيل : إن قاله حين يفتتح كل ركعة قبل القراءة فَحَسَنٌ، ولا آمر به في شيء من الصلاة، أمرت به في أول ركعة. وإن تركه ناسيا أو جاهلا أو عامدا، لم يكن عليه إعادة، ولا سجود سهو. وأكره له تركه عامدا، وأحب إذا تركه في أول ركعة أن يقوله في غيرها.
وإنما منعني أن آمره أن يعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم عَلَّمَ رجلا ما يكفيه في الصلاة، فقال :« كبر ثم اقرأ »٧.
قال : ولم يرو عنه أنه أمره بتعوذ ولا افتتاح. فدل على أنه افتتاح رسول الله صلى الله عليه وسلم اختيار، وأن التعوذ مما لا يفسد الصلاة إن تركه. ( الأم : ١/١٠٧. ون أحكام الشافعي : ١/٦٢. )
٢ - صالح بن أبي صالح الكوفي. عن: أبي هريرة. وعنه: أبو بكر بن عياش. واهٍ. الكاشف: ٢/٢١. ون التهذيب:
٤/١٧. وقال في التقريب: ضعيف..
٣ - رواه البيهقي في كتاب الصلاة باب: الجهر بالتعوذ والإسرار به ٢/٣٦. ورواه الشافعي في المسند (ر٢١٨)..
٤ - رواه البيهقي عن الشافعي في نفس الباب والصفحة..
٥ - قوله: وإذا استعاذ إلخ كذا في النسخ، ولعله زيادة من الناسخ..
٦ - قال البيهقي: وبه قال الحسن وعطاء وإبراهيم النخعي..
٧ - رواه أبو داود في الصلاة (٢) باب: صلاة من لا يقيم صلبه (١٤٨)(ر٢٥٩) عن رفاعة بن رافع بلفظ: « إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر، ثم اقرا بأم القرآن... الحديث.
ورواه الترمذي في الصلاة (٢) باب: ما جاء في وصف الصلاة (٢٢٦)(ر٣٠٢) وقال: حديث حسن.
ورواه النسائي في التطبيق (١٢) باب: الرخصة في ترك الذكر في الركوع (١٥)(ر١٠٥٢).
ورواه ابن ماجة في الطهارة وسننها (١) باب: ما جاء في الوضوء على أمر الله تعالى (٥٧)(ر٤٦٠).
ورواه الدارمي، وأحمد، والبيهقي.
ورواه الشافعي في المسند (ر٢٠٨)..
٢٩٢- قال الشافعي رحمه الله تعالى : ولما فرض الله عز وجل الجهاد على رسوله صلى الله عليه وسلم، وجاهد المشركين بعد إذ كان أباحه، وأثخن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل مكة، ورأوا كثرة من دخل في دين الله عز وجل، اشتدوا على من أسلم منه، ففتنوهم عن دينهم أو من فتنوا منهم، فعذر الله من لم يقدر على الهجرة من المفتونين فقال :﴿ إِلا مَنُ اَكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِيـمَانِ ﴾. وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :« إن الله عز وجل قد جعل لكم مخرجا وفرض على من قدر على الهجرة الخروج إذا كان ممن يفتن عن دينه ولا يمتنع »١. ( الأم : ٤/١٦١. ون الأم : ٦/١٦٢. )
ــــــــــــ
٢٩٣- قال الشافعي : وأبان الله عز وجل لخلقه أنه تولى الحكم ـ فيما أثابهم وعاقبهم عليه ـ على ما علم من سرائرهم ووافقت سرائرهم علانيتهم أو خالفتها، وإنما جزاهم بالسرائر، فأحبط عمل كل من كفر به، ثم قال تبارك وتعالى فيمن فتن عن دينه :﴿ إِلا مَنُ اَكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِيـمَانِ ﴾٢ فطرح عنهم حبوط أعمالهم والمأثم بالكفر إذا كانوا مكرهين وقلوبهم على الطمأنينة بالإيمان وخلاف الكفر. ( الأم : ٧/٢٩٤. ون أحكام الشافعي : ١/٢٩٩. )
ــــــــــــ
٢٩٤- قال الشافعي رحمه الله تعالى : قال الله عز وجل :﴿ إِلا مَنُ اَكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِيـمَانِ ﴾٣ الآية.
قال الشافعي : وللكفر أحكام : كفراق الزوجة، وأن يقتل الكافر ويغنم ماله، فلما وضع الله عنه سقطت عنه أحكام الإكراه على القول كله، لأن الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه، وما يكون حكمه بثبوته عليه.
قال الشافعي : والإكراه : أن يصير الرجل في يدي من لا يقدر على الامتناع منه : من سلطان أو لصٍّ، أو متغلب على واحد من هؤلاء، ويكون المكره يخاف خوفا عليه دلالة : أنه إن امتنع من قول ما أمر به يبلغ به الضرب المؤلم، أو أكثر منه، أو إتلاف نفسه.
قال الشافعي : فإذا خاف هذا يسقط عنه حكم ما أكره عليه من قول ما كان القول شراء أو بيعا أو إقرارا لرجل بحقٍّ أو حدٍّ، أو إقرار بنكاح أو عتق أو طلاق، أو إحداث واحدٍ من هذا وهو مكره، فأي هذا أحدث وهو مكره لم يلزمه. ( الأم : ٣/٢٣٦. ون أحكام الشافعي : ١/٢٢٤. )
ـــــــــــــ
٢٩٥- قال الشافعي : فأما ما فرض الله على القلب من الإيمان : فالإقرار والمعرفة والعقد، والرضا والتسليم، بأن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله من نبيّ أو كتاب. فذلك ما فرض الله جل ثناؤه على القلب، وهو عمله :﴿ إِلا مَنُ اَكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِيـمَانِ وَلَـاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرا ﴾٤ وقال :﴿ أَلا بِذِكْرِ اِللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ ﴾٥ وقال :﴿ مِنَ اَلذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُومِن قُلُوبُهُمْ ﴾٦ وقال :﴿ وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمُ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اِللَّهُ ﴾٧ فذلك ما فرض الله على القلب من الإيمان، وهو عمله، وهو رأس الإيمان. ( ٢٩٥- مناقب الشافعي : ١/٣٨٩. )
وأخرج عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في أناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة أن هاجروا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش بالطريق ففتنوهم فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية. لباب النقول ص: ١٨٧. ون تفسير ابن جرير: ٧/٦٥١..
٢ - النحل: ١٠٦..
٣ - النحل: ١٠٦..
٤ - النحل: ١٠٦..
٥ - الرعد: ٢٨..
٦ - المائدة: ٤١..
٧ - البقرة: ٢٨٤..