تفسير سورة النحل

التفسير القيم
تفسير سورة سورة النحل من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس، وهو نفي الحكم لنفي علته وموجبه.
[ أنواع القياس ]
فإن القياس نوعان :
قياس طرد : يقتضي إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه.
وقياس عكس : يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه.
فالمثل الأول : ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان، فالله سبحانه هو المالك لكل شيء، ينفق كيف يشاء على عبيده، سرا وجهرا، وليلا ونهارا، يمينه ملآ لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، والأوثان مملوكة لعابديها عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف يجعلونها شركاء لله، ويعبدونها من دونه، مع هذا التفاوت العظيم، والفرق المبين، هذا قول مجاهد وغيره.
وقال ابن عباس رضي الله عنه : هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، مثل المؤمن في الخير الذي عنده، ثم رزقه منه رزقا حسنا، فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا، والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز، لا يقدر على شيء ؛ لأنه لا خير عنده، فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء ؟
والقول الأول : أشبه بالمراد، فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسبا بقوله :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون * فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾، ثم قال :﴿ ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ﴾ [ النحل : ٧٣. ٧٥ ].
ومن لوازم هذا المثل وأحكامه : أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه منه رزقا حسنا، والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء.
فهذا ما نبه عليه المثل وأرشد إليه، فذكره ابن عباس رضي الله عنهما منبها على إرادته، لا أن الآية اختصت به.
فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن، فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره، فيحكيه قوله.

فصل


وأما المثل الثاني : فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبد من دونه أيضا ؛ فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم، لا يعقل ولا ينطق، بل هو أبكم القلب واللسان، قد عدم النطق القلبي واللساني، ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة، ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير، ولا يقضي لك حاجة. والله سبحانه حي قادر متكلم، يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم.
وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد. فإن أمره بالعدل - هو الحق - يتضمن أنه : سبحانه عالم به، معلم له، راض به، آمر لعباده به، محب لأهله، لا يأمر بسواه، بل تنزه عن ضده، الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل. بل أمره وشرعه عدل كله، وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه، وهم المجاورون له عن يمينه على منابر من نور، وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني، والأمر القدري الكوني. وكلاهما عدل، لا جور فيه بوجه ما، كما في الحديث الصحيح «اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك ». فقضاؤه : هو أمره الكوني، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. فلا يأمر إلا بالحق والعدل، وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل. وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم. فالقضاء غير المقضي، والقدر غير المقدر.
ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم. وهذا نظير قول رسوله هود عليه السلام :﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ﴾ [ هود : ٥٦ ]. فقوله :﴿ ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ﴾، نظير قوله صلى الله عليه وسلم :«ناصيتي بيدك »، وقوله تعالى :﴿ إن ربي على صراط مستقيم ﴾، نظير قوله صلى الله عليه وسلم :«عدل في قضاؤك ». فالأول ملكه، والثاني حمده. وهو سبحانه له الملك وله الحمد. وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق، ولا يأمر إلا بالعدل، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة، وحكمة وعدل، فهو على الحق في أقواله وأفعاله فلا يقضي على العبد بما يكون ظالما له به، ولا يأخذه بغير ذنبه، ولا ينقصه من حسناته شيئا. ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا، ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره، ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه، ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة، فإن كونه على صراط مستقيم : يأبى ذلك كله.
قال محمد بن جرير الطبري : وقوله :﴿ إن ربي على صراط مستقيم ﴾، يقول : إن ربي على طريق الحق، يجازي المحسن من خلقه بإحسانه، والمسيء بإساءته. لا يظلم أحدا منهم شيئا، ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به.
ثم حكى عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح عنه :﴿ إن ربي على صراط مستقيم ﴾، قال : الحق، وكذلك رواه ابن جريج عنه.
وقالت فرقة : هي مثل قوله :﴿ إن ربك لبالمرصاد ﴾ [ الفجر : ١٤ ].
وهذا اختلاف عبارة، فإن كونه بالمرصاد : هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقالت فرقة : في الكلام حذف، تقديره : إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه.
وهؤلاء، إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها، فليس كما زعموا، ولا دليل على هذا المقدر.
وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل، وبين كونه على صراط مستقيم.
وإن أرادوا : أن حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم، فقد أصابوا.
وقالت فرقة أخرى : معنى كونه على صراط مستقيم : أن مراد العباد، والأمور كلها إلى الله، لا يفوته شيء منها.
وهؤلاء : إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك. وإن أرادوا : أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم، ومن مقتضاه وموجبه : فهو حق.
وقالت فرقة أخرى : معناه كل شيء تحت قدرته وقهره، وفي ملكه وقبضته.
وهذا - وإن كان حقا - فليس هو معنى الآية. وقد فرق هود عليه السلام بين قوله :﴿ ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ﴾، وبين قوله :﴿ إن ربي على صراط مستقيم ﴾، فهما معنيان مستقلان.
فالقول قول مجاهد. وهو قول أئمة التفسير. ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه.
وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز :
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
وقد قال تعالى :﴿ من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ﴾ [ الأنعام : ٣٩ ].
وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم، فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله، وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره، فصراطه الذي هو سبحانه عليه : هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده، من قول الحق وفعله، وبالله التوفيق.

فصل


وفي الآية قول ثان مثل الآية سواء أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر وقد تقدم ما في هذا القول وبالله التوفيق.
أه ﴿ إعلام الموقعين ح١ ص ١٩١ ص ١٩٦ ﴾
وقال في «مفتاح دار السعادة ».
فالمثل الأول : للصنم وعابديه. والمثل الثاني : ضربه الله تعالى لنفسه، وأنه يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم.
فكيف يسوي بينه وبين الصنم الذي له مثل السوء ؟ فما فعله الرب تبارك وتعالى مع عباده : هو غاية الحكمة والإحسان والعدل، في إقدارهم وإعطائهم ومنعهم، وأمرهم ونهيهم.
فدعوى المدعي : أن هذا نظير تخلية السيد بين عبيده وإمائه يفجر بعضهم ببعض، ويسبي بعضهم بعضا : أكذب دعوى وأبطلها، والفرق بينهما أظهر وأعظم من أن يحتاج إلى ذكره، والتنبيه عليه. والحمد لله الغني الحميد. فغناه التام فارق، وحمده وملكه، وعزته وحكمته وعلمه، وإحسانه وعدله، ودينه وشرعه، وحكمه وكرمه، ومحبته للمغفرة والعفو عن الجناة، والصفح عن المسيئين، وتوبة التائبين، وصبر الصابرين، وشكر الشاكرين الذين يؤثرونه على غيره، ويتطلبون مرضاته، ويعبدونه وحده، ويسيرون في عبيده بسيرة العدل والإحسان والنصائح، ويجاهدون أعداءه، فيبذلون دماءهم، وأموالهم في محبته ومرضاته ليتميز الخبيث من الطيب، ووليه من عدوه، ويخرج طيبات هؤلاء وخبائث أولئك إلى الخارج، فيترتب عليها آثارها المحبوبة للرب تعالى من الثواب والعقاب، والحمد لأوليائه والذم لأعدائه.
فإن قيل : فقد أثبت له على أوليائه هاهنا سلطانا، فكيف نفاه بقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ] وقال تعالى :﴿ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك ﴾ [ سبأ : ٢٠. ٢١ ].
قيل : السلطان الذي أثبته له عليهم غير الذي نفاه من وجهين :
أحدهما : أن السلطان الثابت : هو سلطان التمكن منهم، وتلاعبه بهم، وسوقه إياهم كيف أراد، بتمكينهم إياه من ذلك، بطاعته وموالاته، والسلطان الذي نفاه : سلطان الحجة، فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها، غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان.
الثاني : إن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة ولكن هم سلطوه على أنفسهم بطاعته، ودخولهم في جملة جنده وحزبه، فلم يتسلط عليهم بقوته. فإن كيده ضعيف : وإنما تسلطن عليهم بإرادتهم واختيارهم.
والمقصود : أن من قصد أعظم أوليائه وأحبابه ونصحائه، فأخذه وأخذ أولاده وحاشيته وسلمهم إلى عدوه، كان من عقوبته : أن يسلط عليه ذلك العدو نفسه.
جعل الله سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق :
فالمتسجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه : يدعى بطريق الحكمة.
والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر : يدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.
والمعاند الجاحد : يجادل بالتي هي أحسن.
هذا هو الصحيح في معنى هذه الآية.
لا ما يزعم أسير منطق اليونان : أن الحكمة قياس البرهان. وهي دعوة الخواص، والموعظة الحسنة : قياس الخطابة، وهي دعوة العوام. والمجادلة بالتي هي أحسن : القياس الجدلي، وهو رد شغب المشاغب بقياس جدلي مسلم المقدمات.
وهذا باطل. وهو مبني على أصول الفلسفة. وهو مناف لأصول المسلمين. وقواعد الدين من وجوه كثيرة : ليس هذا موضع ذكرها.
Icon