تفسير سورة النحل

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة النحل من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ ولكم فيها جَمال حين تريحون وحين تسرحون ﴾ [ النحل : ٦ ].
قدّح الإراحة على السّرح، مع أنها مؤخرة عنها في الواقع، لأن الأنعام وقت الإراحة –وهي ردّها عشاء إلى مَرَاحها- أجمل وأحسن من سَرْحها، لأنها تقبل مالئة البطون، حافلة الضُّروع، متهادية في مشيها، بخلاف وقت سرْحها، وهو إخراجها إلى المرعى.
قوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآية لقوم يتفكّرون ﴾ [ النحل : ١١ ].
وحّد الآية في هذه السورة في خمسة( ١ ) مواضع، نظرا لمدلولها.
وجمعها في موضعين( ٢ ) لمناسبة قوله قبلها ﴿ والنّجوم مسخَّرات بأمره ﴾ [ النحل : ١٢ ].
١ - المواضع الخمس هي هذه الآية، والثانية قوله: ﴿إن في ذلك لآية لقوم يذّكرون﴾ والثالثة: ﴿إن في ذلك لآية لقوم يسمعون﴾ والرابعة: ﴿إن في ذلك لآية لقوم يعقلون﴾ والخامسة: ﴿إن في ذلك لآية لقوم يتفكّرون﴾ آيات (١٣، ٦٥، ٦٩)..
٢ - الأول قوله تعالى: ﴿إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون﴾ الثاني قوله: ﴿إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون﴾ آية (١٢ و٧٩)..
قوله تعالى :﴿ وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلّكم تشكرون ﴾ [ النحل : ١٤ ]. قاله هنا بتأخير " فيه " عن " مواخر " وبالواو في " ولتبتغوا "، وقاله في " فاطر " بتقديم " فيه " وحذف الواو( ١ )، جريا هنا على القياس، إذِ " الفلك " مفعول أول لترى، و " مواخر " مفعول ثان له، و " فيه " ظرف وحقّه التأخير، والواو للعطف على لام العلة، في قوله :﴿ لتأكلوا منه لحما طريا ﴾ [ النحل : ١٤ ] وحذف الواو، لعدم المعطوف عليه هنا.
١ - في فاطر: ﴿وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون﴾ آية (١٢)..
قوله تعالى :﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكّرون ﴾ [ النحل : ١٧ ]. هذا من عكس التشبيه( ١ )، إذ مقتضى الظاهر العكس، لأن الخطاب لعُبّاد الأوثان، حيث سمَّوها آلهة، تشبيها له تعالى، فجعلوا غير الخالق كالخالق، فخُولف في خطابهم، لأنهم بالغوا في عبادتها، حتى صارت عندهم أصلا في العبادة، والخالق فرعا، فجاء الإنكار على وَفْق ذلك، ليفهموا المراد على معتقدهم.
إن قلتَ : المراد ب " من لا يخلق " الأصنام، فكيف جيء ب " من " المختصّة بأولي العلم ؟   !
قلتُ : خاطبهم على معتقدهم، لأنهم سمّوها آلهة وعبدوها، فأجروها مجرى أولي العلم، ونظيره قوله تعالى :﴿ ألهم أرجل يمشون بها ﴾ الآية [ الأعراف : ١٩٥ ].
١ - الأصل أن يُقال: أفمن لا يخلق كمن يخلق ؟ فعكسه، فهو من باب التشبيه المقلوب..
قوله تعالى :﴿ أموات غير أحياء وما يشعرون أيّان يبعثون ﴾ [ النحل : ٢١ ].
إن قلتَ : ما فائدة قوله في وصف الأصنام ﴿ غير أحياء ﴾ بعد قوله : " أموات " ؟
قلتُ : فائدته أنها أموات لا يعقب موتها حياة، احترازا عن أموات يعقب موتَها حياة، كالنّطف، والبيض، والأجساد الميتة، وذلك أبلغ في موتها، كأنه قال : أموات في الحال، غير أحياء في المآل.
قوله تعالى :﴿ وما يشعرون أيّان يبعثون ﴾ [ النحل : ٢١ ].
إن قلتَ : كيف عاب الأصنام بأنهم لا يعلمون، مع أن المؤمنين كذلك ؟
قلتُ : معناه وما تشعر الأصنام متى تبعث عُبّادها ؟ فكيف تكون آلهة مع الجهل ؟ بخلاف المؤمنين فإنهم يعلمون أنه يوم القيامة.
قوله تعالى :﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلّونهم ﴾ [ النحل : ٢٥ ]. أي ليحملوا أوزار كفرهم مباشرة، ومثل أو بعض أوزار كفر من أضلّوهم، بسبّبهم في كفرهم.. ف " من " زائدة، أو تبعيضيّة.
وأما قوله تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ] فمعناه وزرا لا مدخل لها فيه، ولا تعلّق له بها بتسبّب ولا غيره.
ونظير هاتين الآيتين، سؤالا وجوابا، قوله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ﴾ [ العنكبوت : ١٢ ].
قوله تعالى :﴿ فأصابهم سيّئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ﴾ [ النحل : ٣٤ ] قال فيه وفي الجاثية( ١ ) ﴿ ما عملوا ﴾ [ الجاثية : ٣٣ ] وفي الزّمر( ٢ ) ﴿ بما كسبوا ﴾ [ الزمر : ٥١ ] موافقة لما قبل كلّ منها، أو بعده، أو قبله وبعده، إذ ما هنا قبله ﴿ ما كنا نعمل من سوء ﴾ [ النحل : ١٨ ] و " تعملون " مرّتين.
وقبلَ ما في الجاثية ﴿ بما كنتم تعملون ﴾ [ الجاثية : ٢٨ ] ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ [ الجاثية : ٣٠ ] وبعده ﴿ سيئات ما عملوا ﴾ [ الجاثية : ٣٣ ].
وقبل ما في الزمر ﴿ ذوقوا ما كنتم تكسبون ﴾ [ الزمر : ٢٤ ] وبعده ﴿ فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ﴾ [ الحجر : ٨٤ ].
١ - في الجاثية: ﴿وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون﴾ آية (٣٣)..
٢ - في الزمر: ﴿فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بعجزين﴾ آية (٥١)..
قوله تعالى :﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾ [ النحل : ٤٠ ].
إن قلتَ : هذا يدلّ على أن المعدوم شيء، وعلى أن خطاب المعدوم جائز، مع أن الأول منتف عند أكثر العلماء، والثاني بالإجماع.
قلتُ : أما تسميته " شيئا " فمجاز بالأول، وأما الثاني فلأن ذلك خطاب تكوين، لا خطاب إيجاد( ١ )، فيمتنع أن يكون المخاطب به موجودا قبل الخطاب، لأنه إنما يكون بالخطاب.
١ - في مخطوطة الجامعة: لا خطاب إيجار، وهو خطأ ظاهر والصواب كما في المصوّرة..
قوله تعالى :﴿ ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابّة... ﴾ [ النحل : ٤٩ ]، تجوّز بالسجود عن الانقياد، فيما لا يعقل، والسّجود على الجبهة فيمن يعقل، ففيه جمع بين الحقيقة والمجاز، وإنما لم يغلّب العقلاء من الدّواب على غيرهم، كما في آية ﴿ والله خلق كل دابّة من ماء ﴾ [ النور : ٤٥ ] لأنه أراد هنا عموم كلّ دابة، ولم يقترن بتغليب، فجاء ب " ما " التي تعمّ النوعين، وفي تلك –وإن أراد العموم- لكنه اقترن بتغليب، وهو ذكر ضمير العقلاء، في قوله ﴿ فمنهم من يمشي ﴾ [ النور : ٤٥ ] فجاء ب " مِنْ " تغليبا للعقلاء.
قوله تعالى :﴿ ليكفروا بما آتيناهم فتمتّعوا فسوف تعلمون ﴾ [ النحل : ٥٥ ]. قاله هنا، وفي الروم( ١ ) بالتّاء، بإضمار القول، أي قل لهم : تمتَّعوا، كما في قوله تعالى :﴿ قل تمتّعوا فإن مصيركم إلى النار ﴾ [ إبراهيم : ٣٠ ] وقوله ﴿ قل تمتّع بكفرك قليلا ﴾ [ الزمر : ٨ ].
وقال في العنكبوت( ٢ ) :﴿ وليتمتّعوا فسوف يعلمون ﴾ [ العنكبوت : ٦٦ ] باللام والياء، على القياس، إذ هو معطوف على اللام ومدخولها في قوله :﴿ ليكفروا بما آتيناهم ﴾ [ العنكبوت : ٦٦ ] ومدخولها غائب.
١ - في الروم: ﴿ليكفروا بما آتيناهم فتمتّعوا فسوف تعلمون﴾ بنفس الصيغة آية (٣٤)..
٢ - في العنكبوت: ﴿ليكفروا بما آتيناهم وليتمتّعوا فسوف يعلمون﴾ آية (٦٦)..
قوله تعالى :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة... ﴾ [ النحل : ٦١ ] ﴿ ما ترك عليها ﴾ أي على الأرض، قال ذلك هنا، وقال في فاطر :﴿ بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ﴾ [ فاطر : ٤٥ ].
ترك لفظ " ظهر " هنا، احترازاً عن الجمع بين الظائين : في ظهرها، وظلمهم، بخلافه في فاطر( ١ )، إذ لم يُذكر فيها " بظلمهم ".
فإن قلتَ : الآية تقتضي مؤاخذة البريء، بظلم الظالم، وذلك لا يحسن من الحكيم ؟   !
قلتُ : المراد بالظلم هنا : الكفر، وبالدّابة : الدّابة الظالمة وهي الكافر، كما نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما.
١ - في فاطر ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى... ﴾ آية (٤٥)..
قوله تعالى :﴿ والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ﴾ [ النحل : ٦٥ ] قاله هنا بحذف " مِنْ " لعدم ذكرها قبله، وليوافق حذفُها بعده من قوله :﴿ لكي لا يعلم بعد علم شيئا ﴾ [ النحل : ٧٠ ].
وقاله في العنكبوت( ١ ) بإثباتها، ليوافق التعبير بها في قوله قبلُ :﴿ ولئن سألتهم من نزّل من السماء ماء ﴾ [ العنكبوت : ٦٣ ].
وأثبتها في قوله في الحج( ٢ ) ﴿ لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ﴾ ليوافق التعبير بها قبلُ في قوله :﴿ فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ﴾ الآية [ الحج : ٥ ].
١ - في العنكبوت: ﴿ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله﴾ آية (٦٣)..
٢ - في الحج: ﴿ومنكم من يُردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا﴾ آية (٥)..
قوله تعالى :﴿ وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه... ﴾ ( ١ ) الآية [ النحل : ٦٦ ]. قاله هنا بإفراد الضمير مذكّرا، وفي المؤمنين ﴿ بطونها ﴾ بجمعه، نظرا هنا إلى أن الأنعام " مفرد " كما نقله الزمخشري عن سيبويه، وثَمَّ إلى أنه " جمع " كما هو الشائع.
١ - في المؤمنين ﴿وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون﴾ آية (٢١)..
قوله تعالى :﴿ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا... ﴾ الآية [ النحل : ٧٢ ]. أي من جنسكم، كما قال تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم... ﴾ الآية [ التوبة : ١٢٨ ].
قوله تعالى :﴿ أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ﴾ [ النحل : ٧٢ ]. قال هنا بزيادة " هم " وفي العنكبوت( ١ ) بدونها.
لأن ما هنا اتّصل بقوله :﴿ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ﴾ إلى آخره، وهو بالخطاب، ثم انتقل إلى الغيبة فقال :﴿ أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ﴾ فلو ترك " هم " ( ٢ ) لالتبست الغيبة بالخطاب، بأن تُبدل الياء تاء.
١ - في العنكبوت: ﴿أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون﴾ آية (٦٧)..
٢ - في المصورة: "فلو ترهم"، وهو خطأ، وصوابه ما أثبتناه، فلو ترك "هم" لالتبس الأمر..
قوله تعالى :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون ﴾ [ النحل : ٧٣ ].
غلّب فيه من يعقل، على من لا يعقل، فعبّر بالواو والنون، إذ في من يُعبد، من يعقل كالعُزَيْر، والمسيح، ومن لا يعقل كالأصنام، وأفرد " يملك " نظرا إلى لفظ " ما " وجمع ﴿ يستطيعون ﴾ نظرا إلى معناها( ١ )، كما قال تعالى :﴿ وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ﴾ [ الزخرف : ١٢، ١٣ ].
فإن قلتَ : ما فائدة نفي استطاعة الرزق، بعد نفي ملكه ؟   !
قلتُ : ليس في " يستطيعون " ضمير مفعول هو الرّزق، بل الاستطاعة منفيّة عنهم مطلقا، في الرّزق وغيره، وبتقدير أن فيه ضميرا، لا يلزم من نفي الملك نفي استطاعته، لجواز بقاء الاستطاعة على اكتساب الملك، بخلاف هؤلاء، فإنهم لا يملكون، ولا يستطيعون أن يملكوا  ! !
١ - الإفراد : يَمْلِكُ" باعتبار اللفظ، لأن لفظ "ما" مفرد، والجمع "يستطيعون" باعتبار المعنى، لأن معناها الجمع..
قوله تعالى :﴿ ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء... ﴾ الآية [ النحل : ٧٥ ].
فائدة ذكره " مملوكا " بعد قوله " عبدا " الاحتراز عن الحُرّ، فإنه عبد الله تعالى، وليس مملوكا لغيره، وفائدة ﴿ لا يقدر على شيء ﴾ بعد قوله : " مملوكا " الاحتراز عن المأذون له، والمكاتَب، لقدرتهما على التصرف استقلالا.
قوله تعالى :﴿ هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ النحل : ٧٥ ].
إن قلتَ : لم جمع ولم يُثنِّ، مع أن المضروب به المثل اثنان : مملوك، ومن رزقه الله رزقا حسنا ؟   !
قلتُ : جُمع باعتبار جنسي المماليك، والمالكين.
أو نظرا إلى أن أقلّ الجمع اثنان( ١ ).
١ - هذا الجمع ﴿لا يستوون﴾ لأنه قصد العبيد والأحرار، فجاء بصيغة الجمع..
قوله تعالى :﴿ وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب... ﴾ [ النحل : ٧٧ ].
إن قلتَ : " أو " للشك، وهو على الله مُحال، فما معنى ذلك ؟
قلتُ : " أو " هنا بمعنى الواو، أو للشك بالنسبة إلينا، أو بمعنى " بل " ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ وأرسلناه إلى مائة أو يزيدون ﴾ [ الصافات : ١٤٧ ]، وقوله :﴿ فهي كالحجارة أو أشد قسوة... ﴾ [ البقرة : ٧٤ ] وأورد على الأخير أن " بل " للإضراب( ١ )، وهو رجوع عن الإخبار، وهو على الله محال.. ويُجاب بمنع أنه مُحال، بناء على جواز وقوع النسخ في الأخبار، وهو جائز عند الأشاعرة مطلقا، خلافا للمعتزلة فيما لا يتغيّر.
١ - هذا على القول بأن "أو" بمعنى بل، و"بل" للإضراب وهو الانتقال من كلام إلى آخر..
قوله تعالى :﴿ وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ وسرابيل تقيكم بأسكم ﴾ [ النحل : ٨١ ] ﴿ سرابيل تقيكم الحر ﴾ أي والبرد، وإنما حذفه لدلالة ضدّه عليه، كما في قوله تعالى :﴿ بيدك الخير ﴾ [ آل عمران : ٢٦ ] أي والشرّ.
وخصّ الحرّ، والخير بالذكر( ١ )، لأن الخطاب بالقرآن أول ما وقع بالحجاز، والوقاية من الحرّ، أهمّ عند أهله، لأن الحرّ عندهم أشد من البرد، والخير مطلوب العباد من ربهم، دون الشرّ.
١ - إنما خصّ الخير بالذكر في الآية ﴿بيدك الخير﴾ أدبا مع الله تعالى، لأن الشر لا ينسب إليه تعالى من باب الأدب، وإن كان خلقا منه وإيجادا، كما قال تعالى: ﴿الذي خلقني فهو يهدين﴾. ﴿والذي هو يطعمني ويسقين﴾. ﴿وإذا مرضت فهو يشفين﴾ نسب المرض إليه أدبا..
قوله تعالى :﴿ يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ﴾ [ النحل : ٨٣ ].
إن قلتَ : بل وكلّهم كافرون ؟   !
قلتُ : المراد بالأكثر هنا الجمع.
قوله تعالى :﴿ وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربّنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك ﴾ [ النحل : ٨٦ ].
إن قلتَ : ما فائدة قولهم ذلك، مع أنه تعالى عالم بهم ؟   !
قلتُ : لما أنكروا الشّرك بقولهم :﴿ والله ربّنا ما كنا مشركين ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] عاقبهم الله بإصمات ألسنتهم، وأنطق جوارحهم( ١ )، فقالوا عند معاينة آلهتهم :﴿ ربنا هؤلاء شركاؤنا ﴾.
فأقرّوا بعد إنكارهم طلبا للرحمة، وفرارا من الغضب، فكان هذا القول على وجه الاعتراف منهم بالذنب، لا على وجه إعلام من لا يعلم، أو أنهم لما عاينوا عظيم غضب الله، قالوا ذلك رجاء أن يلزم الله الأصنام ذنوبهم، فيخفّ عنهم العذاب.
قوله تعالى :﴿ فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ﴾ [ النحل : ٨٦ ].
" فألقوا " أي الشركاء كالأصنام ﴿ إليهم القول ﴾ فُسّر القول بقوله :﴿ إنكم لكاذبون ﴾ أي في قولكم : إنكم عبدتمونا  !.
فإن قلتَ : لم قالت الأصنام للمشركين ذلك، مع أنهم كانوا صادقين فيه ؟   !.
قلتُ : قالوه لهم لتظهر فضيحتهم، حيث عبدوا من لا يعلم بعبادتهم.
فإن قلت : كيف أثبت للأصنام نُطقا هنا، ونفاه عنه في قوله في الكهف :﴿ فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ﴾ ؟   ! [ النحل : ٨٦ ].
قلتُ : المثبت لهم هنا، النّطق بتكذيب المشركين، في دعوى عبادتهم لها، والمنفيّ عنها في الكهف النّطق بالإجابة إلى الشفاعة لهم، ودفع العذاب عنهم، فلا تنافي.
١ - أشار إلى قوله تعالى: ﴿اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون﴾ وقد ثبت في الصحاح (أن الكافر، حين ينكر ما فعل في الدنيا، يُختم على فمه وتنطق جوارحه بما صنع، ثم يُخلّى بينه وبين الكلام، فيقول لجوارحه: سحقا لكنّ وبعدا، فعنكنّ كنت أناضل) رواه البخاري..
قوله تعالى :﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ﴾ [ النحل : ٨٩ ].
إن قلتَ : إذا كان كذلك، فكيف اختلفت الأئمة في كثير من الأحكام ؟   !
قلتُ : لأن أكثر الأحكام ليس منصوصا( ١ ) عليه فيه، وبعضها مستنبط منه، وطرق الاستنباط مختلفة، فبعضها بالإحالة إما على السنة، بقوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ [ الحشر : ٧ ] وقوله :﴿ وما ينطق عن الهوى ﴾ [ النجم : ٣ ] أو على الإجماع بقوله تعالى :﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾ [ الحشر : ٢ ] والاعتبار : النّظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس.
١ - في المصورة: ليس منصوبا عليه وهو خطأ ظاهر..
قوله تعالى :﴿ ولنجزينّ الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾ [ النحل : ٩٦ ].
قاله هنا بلفظ " ما " وفي الزمر بلفظ " الذي " موافقة في كل منهما لما قبله، إذ قبل ما هنا ﴿ إنما عند الله هو خير لكم ﴾ [ النحل : ٩٥ ] وقوله ﴿ ما عندكم ينفد وما عند الله باق ﴾ [ النحل : ٩٦ ] وقبل ما هناك ﴿ أسوأ الذي كانوا يعملون ﴾ [ فصلت : ٢٧ ] وقوله ﴿ والذي جاء بالصدق ﴾ [ الزمر : ٣٣ ].
قوله تعالى :﴿ ثم إن ربّك للذين هاجروا من بعد ما فُتنوا... ﴾ الآية [ النحل : ١١٠ ]. كرّر فيها وفي قوله بعد :﴿ ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ﴾ الآية [ النحل : ١١٩ ]. ﴿ إن ربك ﴾( ١ ) لطول الكلام بين اللفظين، قيل : ومثله :﴿ أيعدكم أنكم إذا متّم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ﴾ [ المؤمنون : ٣٥ ].
١ - تكرر اللفظ في قوله تعالى: ﴿ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربّك من بعدها لغفور رحيم﴾ فقد تكرر لفظ ﴿إن ربك﴾ فيها مرتين..
قوله تعالى :﴿ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها... ﴾ الآية [ النحل : ١١١ ].
إن قلتَ : ما معنى إضافة النفس إلى النفس، مع أن النفس لا نفس لها ؟
قلتُ : النفس تقال للروح، وللجوهر القائم بذاته، المتعلق بالجسم، تعلّق التدبير، ولجملة الإنسان، ولعين الشيء وذاته، كما يقال : نفس الذهب والفضّة محبوبة أي ذاتهما.
فالمراد بالنفس الأولى الإنسان، والثانية ذاته، فكأنه قال : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، لا يهمّه شيء آخر غيره، كل يقول : نفسي، نفسي.
قوله تعالى :﴿ ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ﴾ [ النحل : ١٢٧ ].
قاله هنا بحذف النون، وفي النمل( ١ ) بإثباتها، تشبيها لها بحروف العلّة، وخصّ ما هنا بحذفها موافقة لقوله قبل ﴿ قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ﴾ [ النحل : ١٢٠ ] ولسبب نزول هذه الآية، لأنها نزلت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حين قُتل عمّه " حمزة " ومُثِّل به، فقال صلى الله عليه وسلم : لأفعلنّ بهم ولأصنعنّ، فأنزل الله تعالى :﴿ ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ﴾ الآية [ النحل : ١٢٦ ]، فبالغ في الحذف، ليكون ذلك مبالغة في التسلية، وإثباتها في النمل، جاء على القياس، ولأن الحزن ثَمَّ، دون الحزن هنا.
١ - في النمل: ﴿ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون﴾ آية (٧٠)..
Icon