تفسير سورة النحل

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة النحل من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة النحل
قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر : هي كلها مكية.
وقال ابن عباس : إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة بعد حمزة وهي قوله :﴿ ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً ﴾ إلى قوله :﴿ بأحسن ما كانوا يعملون ﴾ وقيل : إلا ثلاث آيات ﴿ وإن عاقبتم ﴾ الآية نزلت في المدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد، وقوله :﴿ واصبر وما صبرك إلا بالله ﴾ وقوله :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا ﴾ وقيل : من أولها إلى قوله :﴿ يشركون ﴾ مدني وما سواه مكي.
وعن قتادة عكس هذا.
ووجه ارتباطها بما قبلها أنه تعالى لما قال :﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين ﴾ كان ذلك تنبيهاً على حشرهم يوم القيامة، وسؤالهم عما أجرموه في دار الدنيا، فقيل : أتى أمر الله وهو يوم القيامة على قول الجمهور.

سورة النّحل
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١ الى ٢٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤)
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)
500
النُّطْفَةُ: الْقَطْرَةُ مِنَ الْمَاءِ، نَطَفَ رَأْسُهُ مَاءً أَيْ قَطَرَ. الدِّفْءُ اسْمٌ لِمَا يُدَّفَأُ بِهِ أَيْ يُسَخَّنُ. وتقول العرب: دفىء يَوْمُنَا فَهُوَ دَفِيءٌ إِذَا حَصَلَتْ فِيهِ سُخُونَةٌ تُزِيلُ البرد، ودفىء الرجل فداء وَدَفَأً، وَجَمْعُ الدِّفْءِ أَدَفَاءٌ. وَرَجُلٌ دَفْآنُ وَامْرَأَةٌ دَفْأَى، وَالدَّفِئَةُ الْإِبِلُ الْكَثِيرَةُ
501
الْأَوْبَارِ، لِإِدْفَاءِ بَعْضِهَا بَعْضًا بِأَنْفَاسِهَا. وَقَدْ تُشَدَّدُ، وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ الدَّفِئَةُ الْكَثِيرَةُ الْأَوْبَارِ وَالشُّحُومِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الدِّفْءُ نِتَاجُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا، وَمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا. الْبَغْلُ: مَعْرُوفٌ، وَلِعَمْرِو بْنِ بَحْرٍ الْجَاحِظِ كِتَابُ الْبِغَالِ. الْحِمَارُ: مُعَيْرُوفٌ، يُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَحْمُرٍ وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى حُمُرٍ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَعَلَى حَمِيرٍ. الطَّرِيُّ: فَعِيلٌ مِنْ طَرَّ وَيُطِرُ، وَطَرَاوَةً مِثْلُ سَرَّ وَيُسِرُّ سَرَاوَةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: طَرِيَ يَطْرِي طِرَاءً وَطَرَاوَةً مِثْلُ: شَقِيَ، يَشْقَى، شَقَاءً، وَشَقَاوَةً.
الْمَخْرُ: شَقُّ الْمَاءِ مِنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، يُقَالُ: مَخَرَ الْمَاءُ الْأَرْضَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: صَوْتُ جَرْيِ الْفُلْكِ بِالرِّيَاحِ، وَقِيلَ: الصَّوْتُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ هُبُوبِ الرِّيحِ إِذَا اشْتَدَّتْ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ السَّفِينَةِ وَنَحْوِهَا. مَادَ: تَحَرَّكَ وَدَارَ. السَّقْفُ: مَعْرُوفٌ وَيُجْمَعُ عَلَى سُقُوفٍ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَعَلَى سُقُفٍ وَسَقَفٍ، وَفُعُلٌ وَفَعَلٌ مَحْفُوظَانِ فِي فَعْلٍ، وَلَيْسَا مَقِيسَيْنِ فِيهِ.
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ: قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَجَابِرٌ: هِيَ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ حَمْزَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِلَى قَوْلِهِ: بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ «١» وَقِيلَ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ وَإِنْ عاقَبْتُمْ «٢» الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ التَّمْثِيلِ بِحَمْزَةَ وَقَتْلَى أُحُدٍ، وَقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ «٣» وَقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا «٤» وَقِيلَ: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: يُشْرِكُونَ مَدَنِيٌّ وَمَا سِوَاهُ مَكِّيٌّ. وَعَنْ قَتَادَةَ عَكْسُ هَذَا.
وَوَجْهُ ارْتِبَاطِهَا بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «٥» كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى حَشْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسُؤَالِهِمْ عَمَّا أَجْرَمُوهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَقِيلَ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ: نَصْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
(١) سورة النحل: ١٦/ ٩٥- ٩٦.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ١٢٦.
(٣) سورة النحل: ١٦/ ١٢٧.
(٤) سورة النحل: ١٦/ ١١٠.
(٥) سورة الحجر: ١٥/ ٩٢. [.....]
502
وَظُهُورُهُ عَلَى الْكُفَّارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ مَا وُعِدُوا مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ، أَوْ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ اسْتِهْزَاءً وَتَكْذِيبًا بِالْوَعْدِ انْتَهَى. وَهَذَا الثَّانِي قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ:
الْأَمْرُ هُنَا مَا وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنَ النَّصْرِ وَظَفَرِهِ بِأَعْدَائِهِ، وَانْتِقَامِهِ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ وَدِيَارِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْأَمْرُ هُنَا مَصْدَرُ أَمَرَ، وَالْمُرَادُ بِهِ: فَرَائِضُهُ وَأَحْكَامُهُ. قِيلَ: وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ اسْتَعْجَلَ فَرَائِضَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ أَيْضًا: الْأَمْرُ عِقَابُ اللَّهِ لِمَنْ أَقَامَ عَلَى الشِّرْكِ، وَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ، وَاسْتِعْجَالُ الْعَذَابِ مَنْقُولٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: هُوَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُجَازَاةِ عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَقِيلَ: الْأَمْرُ بَعْضُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَأَتَى قِيلَ: بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ مِنَ الْمُضِيِّ، وَالْمَعْنَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَعْدًا فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ وُقُوعًا. وَقِيلَ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، أَتَتْ مَبَادِئُهُ وَأَمَارَاتُهُ. وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُضَارِعِ لِقُرْبِ وُقُوعِهِ وَتَحَقُّقِهِ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
تَسْتَعْجِلُوهُ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ عَلَى مَعْنَى: قُلْ لَهُمْ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ. وَقَالَ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها «١» وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ: بِالْيَاءِ نَهْيًا لِلْكُفَّارِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ عَلَى الْأَمْرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ.
وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ أَيْ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوا اللَّهَ بِالْعَذَابِ، أَوْ بِإِتْيَانِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ «٢» وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تُشْرِكُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُوهُ جَعْفَرٌ، وَابْنُ وَضَّاحٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ. وَقَرَأَ عِيسَى: الْأُولَى بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، وَالثَّانِيَةُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ مَعًا الْأَعْمَشُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَمَصْدَرِيَّةً. وَأَفْضَلُ قِرَاءَتِهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ بِاسْتِعْجَالِهِمْ، لِأَنَّ اسْتِعْجَالَهُمُ اسْتِهْزَاءٌ وَتَكْذِيبٌ، وَذَلِكَ مِنَ الشِّرْكِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: يُنْزِلُ مُخَفَّفًا، وَبَاقِي السَّبْعَةِ مُشَدَّدًا، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو بَكْرٍ: تُنَزَّلُ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، الْمَلَائِكَةُ بِالرَّفْعِ. وَالْجَحْدَرِيُّ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ. وَالْحَسَنُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْمُفَضَّلُ، عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ: بِفَتْحِ التَّاءِ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مَا نُنَزِّلُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَالتَّشْدِيدِ، وَقَتَادَةُ بِالنُّونِ وَالتَّخْفِيفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَفِيهِمَا شُذُوذٌ كَثِيرٌ انْتَهَى. وَشُذُوذُهُمَا أَنَّ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ ضَمِيرُ غَيْبَةٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ الْتِفَاتٌ، وَالْمَلَائِكَةُ هَنَا جِبْرِيلُ وَحْدَهُ قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوِ الْمَلَائِكَةُ الْمُشَارُ إليهم بقوله:
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ١٨.
(٢) سورة الحج: ٢٢/ ٢٧، والعنكبوت: ٢٩/ ٥٣- ٥٤.
503
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً «١» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرُّوحُ الْوَحْيُ تَنْزِلُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَنَظِيرُهُ: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ «٢» وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَمِنْهُ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «٣» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ بِالرُّوحِ أَرْوَاحُ الْخَلْقِ، لَا يَنْزِلُ مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ رُوحٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الرُّوحُ الرَّحْمَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَا مَعْنَاهُ الرُّوحُ الْهِدَايَةُ لِأَنَّهَا تَحْيَا بِهَا الْقُلُوبُ، كَمَا تَحْيَا الْأَبْدَانُ بِالْأَرْوَاحِ. وَقِيلَ: الرُّوحُ جِبْرِيلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «٤» وَتَكُونُ الْبَاءُ لِلْحَالِ أَيْ: مُلْتَبِسَةٌ بِالرُّوحِ. وَقِيلَ:
بِمَعْنَى مَعَ، وَقِيلَ: الرُّوحُ حَفَظَةٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ لَا تَرَاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا الْمَلَائِكَةُ حَفَظَةٌ عَلَيْنَا لَا تَرَاهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الرُّوحُ اسْمُ مَلَكٍ، وَمِنْهُ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا «٥» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرُّوحَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَصُوَرِ ابْنِ آدَمَ، لَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قول ضَعِيفٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ سَنَدٌ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ، بِمَا تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ الْمَيِّتَةُ بِالْجَهْلِ، مِنْ وَحْيِهِ أَوْ بِمَا يَقُومُ فِي الدِّينِ مَقَامَ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ انْتَهَى. ومن لِلتَّبْعِيضِ، أَوْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَمَنْ يَشَاءُ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وأن مَصْدَرِيَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَنْصِبَ الْمُضَارِعَ، وُصِلَتْ بِالْأَمْرِ كَمَا وُصِلَتْ فِي قَوْلِهِمْ: كَتَبْتُ إِلَيْهِ بِأَنْ قُمْ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الرُّوحِ.
أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ: بِأَنْ أَنْذِرُوا، فَيَجْرِي الْخِلَافِ فِيهِ: أَهْوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ؟ أَوْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْ أَنْذِرُوا بَدَلًا مِنَ الرُّوحِ أَيْ: نُنَزِّلُهُمْ بِأَنْ أَنْذِرُوا، وَتَقْدِيرُهُ: أَنْذِرُوا أَيْ: بِأَنَّ الشَّأْنَ أَقُولُ لَكُمْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا انْتَهَى. فجعلها المخفف مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَأَضْمَرَ اسْمُهَا وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَقَدَّرَ إِضْمَارَ الْقَوْلِ: حَتَّى يَكُونَ الْخَبَرُ جُمْلَةً خَبَرِيَّةً وَهِيَ أَقُولُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّكَلُّفِ مَعَ سُهُولَةِ كَوْنِهَا الشَّانِيَّةَ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا نَصْبُ الْمُضَارِعِ. وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَصَاحِبُ الْغُنْيَانِ: أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَذَلِكَ لِمَا فِي التَّنَزُّلِ بِالْوَحْيِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ أَيْ: أَعْلِمُوا النَّاسَ مِنْ نَذَرْتُ بِكَذَا إِذَا أَعْلَمْتُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى يَقُولُ لَهُمْ: أَعْلِمُوا النَّاسَ قَوْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ انْتَهَى. لَمَّا جَعَلَ أَنْ هِيَ الَّتِي حُذِفَ مِنْهَا ضَمِيرُ الشأن قدر هذا
(١) سورة النازعات: ٧٩/ ١.
(٢) سورة غافر: ٤٠/ ١٥.
(٣) سورة الشورى: ٤٢/ ٥٢.
(٤) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٩٣.
(٥) سورة النبأ: ٧٨/ ٣٨.
504
التَّقْدِيرَ وَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ: أعلموا. وقرىء: لِيُنْذِرُوا أَنَّهُ، وَحَسُنَتِ النِّذَارَةُ هُنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا فِيهِ خَوْفٌ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمُنْذِرُونَ كَافِرِينَ بِأُلُوهِيَّتِهِ، فَفِي ضِمْنِ أَمْرِهِمْ مَكَانُ خَوْفٍ، وَفِي ضِمْنِ الْإِخْبَارِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ نَهْيٌ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَوَعِيدٌ وَتَحْذِيرٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. وَمَعْنَى: فَاتَّقُونِ أَيِ اتَّقُوا عِقَابِي بِاتِّخَاذِكُمْ إِلَهًا غَيْرِي. وَجَاءَتِ الْحِكَايَةُ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنَا، وَلَوْ جَاءَتْ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكِلَاهُمَا سَائِغٌ.
وَحِكَايَةُ الْمَعْنَى هُنَا أَبْلَغُ إِذْ فِيهَا نِسْبَةُ الْحُكْمِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ، ثُمَّ دَلَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ بِمَا ذَكَرَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ من خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُهَا. وَبِالْحَقِّ أَيْ: بِالْوَاجِبِ اللَّائِقِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِفَاتٍ تُحِقُّ لِمَنْ كَانَتْ لَهُ أَنْ يَخْلُقَ وَيَخْتَرِعَ وَهِيَ: الْحَيَاةُ، وَالْعِلْمُ، وَالْقُدْرَةُ، وَالْإِرَادَةُ، بِخِلَافِ شُرَكَائِهِمُ الَّتِي لَا يَحِقُّ لَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: فَتَعَالَى بِزِيَادَةِ فَاءٍ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُنَبِّهَةً عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى مُوجِدِ هَذَا الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ عَنْ أَنْ يُتَّخَذَ مَعَهُ شَرِيكٌ فِي الْعِبَادَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ مِنْ خَلْقِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالْخَارِجِ، ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، فَذَكَرَ إِنْشَاءَهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَكَانَ حَقُّهُ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ وَيَنْقَادَ لِأَمْرِ اللَّهِ. وَالْخَصِيمُ مِنْ صِفَاتِ الْمُبَالَغَةِ مِنْ خَصَمَ بِمَعْنَى اخْتَصَمَ، أَوْ بِمَعْنَى مُخَاصِمٍ، كَالْخَلِيطِ وَالْجَلِيسِ، وَالْمُبِينُ الظَّاهِرُ الْخُصُومَةِ أَوِ الْمُظْهِرُهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سِيَاقَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ سِيَاقُ ذَمٍّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، وَقَوْلُهُ: أَنْ أَنْذِرُوا الْآيَةَ. ولتكرير تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، وَلِقَوْلِهِ فِي يس: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ «١» الْآيَةَ وَقَالَ:
بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ «٢» وَعَنَى بِهِ مُخَاصَمَتَهُمْ لِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِالْحُجَجِ الدَّاحِضَةِ، وَأَكْثَرُ مَا ذُكِرَ الْإِنْسَانُ فِي الْقُرْآنِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، أَوِ مُرْدَفًا بِالذَّمِّ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هَنَا أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ. وَقَالَ قَوْمٌ: سِيَاقُ الْوَصْفَيْنِ سِيَاقُ الْمَدْحِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَوَّاهُ عَلَى مُنَازَعَةِ الْخُصُومِ، وَجَعَلَهُ مُبَيِّنَ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَنَقَلَهُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الْجَمَادِيَّةِ وَهُوَ كَوْنُهُ نُطْفَةً إِلَى الْحَالَةِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ وَهِيَ: حالة النطق والإبانة.
وإذ هُنَا لِلْمُفَاجَأَةِ، وَبَعْدَ خَلْقِهِ مِنَ النُّطْفَةِ لَمْ تَقَعِ الْمُفَاجَأَةُ بِالْمُخَاطَبَةِ إِلَّا بَعْدَ أَحْوَالٍ تَطَوَّرَ فِيهَا، فَتِلْكَ الْأَحْوَالُ مَحْذُوفَةٌ، وَتَقَعُ الْمُفَاجَأَةُ بَعْدَهَا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ
(١) سورة يس: ٣٦/ ٧٧.
(٢) سورة الزخرف: ٤٣/ ٥٨.
505
أَشْرَفَ الْأَجْسَامِ بَعْدَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ هُوَ الْإِنْسَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْإِنْسَانَ وَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ بَدَنٍ وَنَفْسٍ فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَلَا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ أَشْرَفُ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَلَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ فِي قِوَامِ مَعِيشَتِهِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا أَكْثَرَهَا مَنَافِعَ، وَأَلْزَمَ لِمَنْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ وَذَلِكَ الْأَنْعَامُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْأَنْعَامِ فِي الْأَنْعَامِ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ اسْتِئْنَافٌ لِذَكَرِ مَا يُنْتَفَعُ بِهَا مِنْ جِهَتِهَا، وَدِفْءٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لَكُمْ، وَيَتَعَلَّقُ فِيهَا بِمَا فِي لَكُمْ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَالًا مِنْ دِفْءٍ، إِذْ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً. وَجَوَّزَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لَكُمْ حَالًا مِنْ دِفْءٍ وَفِيهَا الْخَبَرُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْحَالَ إِذَا كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا مَعْنًى فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْجُمْلَةِ بِأَسْرِهَا، لَا يَجُوزُ: قَائِمًا فِي الدَّارِ زَيْدٌ، فَإِنْ تَأَخَّرَتِ الْحَالُ عَنِ الْجُمْلَةِ جَازَتْ بِلَا خِلَافٍ، أَوْ تَوَسَّطَتْ فَأَجَازَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ، وَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَرْتَفِعَ دِفْءٌ بلكم أو نعتها بأل، وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ انْتَهَى. وَلَا تُسَمَّى جُمْلَةً، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ:
خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ، أَوْ خَلَقهَا لَكُمْ كَائِنًا فِيهَا دِفْءٌ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْجُمْلَةِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ لَكُمْ مُتَعَلِّقًا بِخَلَقَهَا، وَفِيهَا دِفْءٌ اسْتِئْنَافٌ لِذِكْرِ مَنَافِعِ الْأَنْعَامِ.
وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ يَظْهَرُ فِيهِ الِاسْتِئْنَافُ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ، فَقَابَلَ الْمَنْفَعَةَ الضَّرُورِيَّةَ بِالْمَنْفَعَةِ غَيْرِ الضَّرُورِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الدِّفْءُ نَسْلُ كُلِّ شَيْءٍ، وَذَكَرُهُ الْأُمَوِيُّ عَنْ لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَصْبَ وَالْأَنْعَامَ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَحَسَّنَ النَّصْبَ كَوْنُ جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ تَقَدَّمَتْ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَتُهُ فِي الشَّاذِّ بِرَفْعِ الْأَنْعَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُطِفَ عَلَى الْبَيَانِ، وعلى هذا يكون لَكُمْ اسْتِئْنَافٌ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِخَلَقَهَا. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ: دفء بِضَمِّ الْفَاءِ وَشَدِّهَا وَتَنْوِينِهَا، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَقَلَ الْحَرَكَةَ مِنَ الْهَمْزَةِ إِلَى الْفَاءِ بَعْدَ حَذْفِهَا، ثُمَّ شَدَّدَ الْفَاءَ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، إِذْ يَجُوزُ تَشْدِيدُهَا فِي الْوَقْفِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: دِفٌ بِنَقْلِ الْحَرَكَةِ، وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ دُونَ تَشْدِيدِ الْفَاءِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: الزُّهْرِيُّ دُفٌّ بِضَمِّ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَالْفَاءُ مُحَرَّكَةٌ بِحَرَكَةِ الْهَمْزَةِ الْمَحْذُوفَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ مِنْ هَذِهِ الْهَمْزَةِ فَيُشَدِّدُ الْفَاءَ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْ حَمْزَةَ بْنِ حَبِيبٍ وَقْفًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَنَافِعُ الرُّكُوبِ، والحمل، والألبان، والسمن، والنضج عَلَيْهَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَأَفْرَدَ مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ بِالذِّكْرِ، كَمَا أَفْرَدَ مَنْفَعَةَ الدِّفْءِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : تَقَدُّمُ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ مُؤْذِنٌ، بِالِاخْتِصَاصِ وَقَدْ يُؤْكَلُ مِنْ غَيْرِهَا (قُلْتُ) : الْأَكْلُ مِنْهَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ النَّاسُ فِي
506
مَعَائِشِهِمْ، وَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَصَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَكَغَيْرِ الْمُعْتَدِّ بِهِ، وَكَالْجَارِي مَجْرَى التَّفَكُّهِ. وَمَا قَالَهُ مِنْهُ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ أَوِ الْمَفْعُولِ دَالٌّ عَلَى الِاخْتِصَاصَ. وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «١» وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ كَقَوْلِكَ: إِذَا أَكَلْتَ مِنَ الرَّغِيفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ طُعْمَتَكُمْ مِنْهَا لِأَنَّكُمْ تَحْرُثُونَ بِالْبَقْرِ، وَالْحَبُّ وَالثِّمَارِ الَّتِي تَأْكُلُونَهَا مِنْهَا، وَتَكْتَسِبُونَ بِإِكْرَاءِ الْإِبِلِ، وَتَبِيعُونَ نِتَاجَهَا وَأَلْبَانَهَا وَجُلُودَهَا انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّبْعِيضُ مَجَازًا، أَوْ تَكُونُ مِنْ لِلسَّبَبِ. الْجَمَالُ مَصْدَرُ جَمُلَ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَالرَّجُلُ جَمِيلٌ، وَالْمَرْأَةُ جَمِيلَةٌ وَجَمْلَاءُ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَأَنْشَدَ:
فَهِيَ جَمْلَاءُ كَبَدْرٍ طَالِعٍ بَزَّتِ الْخَلْقَ جَمِيعًا بِالْجَمَالِ
وَيُطْلَقُ الْجَمَالُ وَيُرَادُ بِهِ التَّجَمُّلُ، كَأَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى إِسْقَاطِ الزَّوَائِدِ. وَالْجَمَالُ يَكُونُ فِي الصُّورَةِ بِحُسْنِ التَّرْكِيبِ يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ، وَيُلْقِيهِ فِي أَلْقَابٍ، فَتَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ. وَفِي الْأَخْلَاقِ بِاشْتِمَالِهَا عَلَى الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ: كَالْعِلْمِ، وَالْعِفَّةِ، وَالْحِلْمِ، وَفِي الْأَفْعَالِ: بِوُجُودِهَا مُلَائِمَةً لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ، وَجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ إِلَيْهِمْ، وَصَرْفِ الشَّرِّ عَنْهُمْ.
وَالْجَمَالُ الَّذِي لَنَا فِي الْأَنْعَامِ هُوَ خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَنَا فِيهَا جَمَالٌ وَعَظَمَةٌ عِنْدَ النَّاسِ بِاقْتِنَائِهَا وَدَلَالَتِهَا عَلَى سَعَادَةِ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا، وَكَوْنِهِ فِيهَا مِنْ أَهْلِ السِّعَةِ، فَمَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّجَمُّلِ بِهَا، كَمَا مَنَّ بِالِانْتِفَاعِ الضَّرُورِيِّ، لِأَنَّ التَّجَمُّلَ بِهَا مِنْ أَغْرَاضِ أَصْحَابِ الْمَوَاشِي وَمَفَاخِرِ أَهْلِهَا، وَالْعَرَبُ تَفْتَخِرُ بِذَلِكَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرُ:
لَعَمْرِي لَقَوْمٌ قَدْ نَرَى أَمْسَ فِيهِمْ مَرَابِطَ للإمهاز وَالْعَكَرِ الدَّثْرِ
أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أُنَاسٍ بِقَنَّةٍ يَرُوحُ عَلَى آثَارِ شَائِهِمُ النَّمِرُ
وَالْعَكَرَةُ مِنَ الْإِبِلِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَالْجَمْعُ عَكَرٌ. وَالدَّثْرُ الْكَثِيرُ، وَيُقَالُ: أَرَاحَ الْمَاشِيَةَ رَدَّهَا بِالْعَشِيِّ مِنَ الْمَرْعَى، وَسَرَحَهَا يَسْرَحُهَا سَرْحًا وَسُرُوحًا أَخْرَجَهَا غُدْوَةً إِلَى الْمَرْعَى، وَسَرَحَتْ هِيَ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا وَلَازِمًا، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ أَيَّامَ الرَّبِيعِ إِذَا سَقَطَ الْغَيْثُ وَكَبُرَ الْكَلَأُ وَخَرَجُوا لِلنُّجْعَةِ. وَقَدَّمَ الْإِرَاحَةَ عَلَى السَّرْحِ لِأَنَّ الْجَمَالَ فِيهَا أَظْهَرُ إِذَا أَقْبَلَتْ مَلْأَى الْبُطُونِ، حَافِلَةَ الضُّرُوعِ، ثُمَّ أَوَتْ إِلَى الْحَظَائِرِ، بِخِلَافِ وَقْتِ سَرْحِهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْوَقْتَيْنِ تُزَيِّنُ الْأَفْنِيَةَ، وَتَجَاوَبَ فِيهَا الرُّغَاءُ وَالثُّغَاءُ، فَيَأْتَنِسُ أَهْلُهَا، وَتَفْرَحُ أَرْبَابُهَا وَتُجِلُّهُمْ فِي أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ إِلَيْهَا، وَتُكْسِبُهُمُ الْجَاهَ وَالْحُرْمَةَ لقوله تعالى:
(١) سورة فاتحة الكتاب: ١/ ٤.
507
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا «١» وَقَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ «٢» ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ «٣» وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْجَحْدَرِيُّ: حِينًا فِيهِمَا بِالتَّنْوِينِ، وَفَكِّ الْإِضَافَةِ.
وَجَعَلُوا الْجُمْلَتَيْنِ صِفَتَيْنِ حُذِفَ مِنْهُمَا الْعَائِدُ كَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي «٤» وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِي حِينًا عَلَى هَذَا، إِمَّا الْمُبْتَدَأُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّجَمُّلِ، وَإِمَّا خَبَرُهُ بِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَالْأَثْقَالُ. الْأَمْتِعَةُ: وَاحِدُهَا ثِقَلٌ. وَقِيلَ: الْأَجْسَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها «٥» أَيْ أَجْسَادَ بَنِي آدَمَ. وَقَوْلُهُ: إِلَى بَلَدٍ، لَا يُرَادُ بِهِ مُعَيَّنٌ أَيْ: إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ تَوَجَّهْتُمْ إِلَيْهِ لِأَغْرَاضِكُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مُعَيَّنٌ وَهُوَ مَكَّةَ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقِيلَ: مَدِينَةُ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: مِصْرُ. وَيَنْبَغِي حَمْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى الْمُرَادِ، إِذِ الْمِنَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْحَمْلِ إِلَيْهَا. وَلَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ صِفَةٌ لِلْبَلَدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ بِهَا، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى بُعْدِ الْبَلَدِ، وَأَنَّهُ مَعَ الِاسْتِعَانَةِ بِهَا بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ. أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ بِأَنْفُسِكُمْ دُونَهَا إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ عَنْ أَنْ تَحْمِلُوا عَلَى ظُهُورِكُمْ أَثْقَالَكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِشِقِّ بِكَسْرِ الشِّينِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَعُمَرُ بْنُ مَيْمُونٍ، وَابْنُ أَرْقَمَ: بِفَتْحِهَا. وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو، وَهُمَا مَصْدَرَانِ مَعْنَاهُمَا الْمَشَقَّةُ. وَقِيلَ: الشَّقُّ بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، وَبِالْكَسْرِ الِاسْمُ، وَيَعْنِي بِهِ: الْمَشَقَّةَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي الكسر:
أذي إِبِلٍ يَسْعَى وَيَحْسَبُهَا لَهُ أَخِي نَصَبٍ مِنْ شِقِّهَا ودؤوب
أَيْ مَشَقَّتِهَا. وَشِقُّ الشَّيْءِ نِصْفُهُ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ الْفَرَّاءُ هُنَا أَيْ: يُذْهِبَانِ نِصْفَ الْأَنْفُسِ، كَأَنَّهَا قَدْ ذَابَتْ تَعَبًا وَنَصَبًا كَمَا تَقُولُ: لَا تَقْدِرُ عَلَى كَذَا إِلَّا بِذَهَابِ جُلِّ نَفْسِكَ، وَبِقِطْعَةٍ مِنْ كَبِدِكَ. وَنَحْوِ هَذَا مِنَ الْمَجَازِ. وَيُقَالُ: أَخَذْتُ شِقَّ الشَّاةِ أَيْ نِصْفَهَا وَالشِّقُّ: الْجَانِبُ، وَالْأَخُ الشَّقِيقُ، وَشَقٌّ اسْمُ كَاهِنٍ. وَنَاسَبَ الِامْتِنَانَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ مِنْ حَمْلِهَا الْأَثْقَالَ الْخَتْمُ بِصِفَةِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، لِأَنَّ مِنْ رَأْفَتِهِ تَيْسِيرُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ وَتَسْخِيرُ الْأَنْعَامِ لَكُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مِنَنَهُ بِالْأَنْعَامِ وَمَنَافِعَهَا الضَّرُورِيَّةِ، ذَكَرَ الِامْتِنَانَ بِمَنَافِعِ الْحَيَوَانِ الَّتِي لَيْسَتْ بِضَرُورِيَّةٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْخَيْلَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى وَالْأَنْعَامَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالرَّفْعِ. وَلَمَّا كَانَ الرُّكُوبُ أَعْظَمَ مَنَافِعِهَا اقْتُصِرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لكل
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٤٦.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٤.
(٣) سورة الأنعام: ١٨/ ١٣.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٤٨. [.....]
(٥) سورة الزلزلة: ٩٩/ ٢.
508
الْخَيْلِ، خِلَافًا لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ. وَانْتَصَبَ وَزِينَةً، وَلَمْ يَكُنْ بِاللَّامِ، وَوُصِلَ الْفِعْلُ إِلَى الرُّكُوبِ بِوَسَاطَةِ الْحَرْفِ، وَكِلَاهُمَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: خَلَقَهَا، وَالرُّكُوبُ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ لَهُمْ ذَلِكَ فَانْتَفَى شَرْطُ النَّصْبِ، وَهُوَ: اتِّحَادُ الْفَاعِلِ، فَعُدِّيَ بِاللَّامِ.
وَالزِّينَةُ مِنْ وَصْفِ الْخَالِقِ، فَاتَّحَدَ الْفَاعِلُ، فَوَصَلَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَزِينَةً نُصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَجَعَلْنَاهَا زِينَةً. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِتَرْكَبُوهَا زِينَةً بِغَيْرِ وَاوٍ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَالزِّينَةُ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الِاسْمِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي خَلَقَهَا، أَوْ مِنْ لِتَرْكَبُوهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ وَخَلَقَهَا زِينَةً لِتَرْكَبُوهَا، أَوْ يَجْعَلُ زِينَةً حَالًا مِنْ هَاءِ، وَخَلَقَهَا لِتَرْكَبُوهَا وَهِيَ زِينَةٌ وَجَمَالٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالنَّصْبُ حِينَئِذٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي تَرْكَبُوهَا. وَالظَّاهِرُ نَفْيُ الْعِلْمِ عَنْ ذَوَاتِ مَا يَخْلُقُ تَعَالَى، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمَعْنَى مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا كُلَّهَا لِمَنَافِعِكُمْ، فَأَخْبَرَنَا بِأَنَّ لَهُ مِنَ الْخَلَائِقِ مَا لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ، لِنَزْدَادَ دَلَالَةً عَلَى قُدْرَتِهِ بِالْإِخْبَارِ، وَإِنْ طَوَى عَنَّا عِلْمَهُ حِكْمَةً لَهُ فِي طَيِّهِ، وَمَا خَلَقَ تَعَالَى مِنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ لَا يُحِيطُ بِعِلْمِهِ بَشَرٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا لَا تَعْلَمُونَ، أَصْلَ حُدُوثِهِ كَالسُّوسِ فِي النَّبَاتِ وَالدُّودِ فِي الْفَوَاكِهِ. وَقَالَ ابْنُ بحر: لا تَعْلَمُونَ كَيْفَ يَخْلُقُهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَزَادَ بَعْدُ فِي الْجَنَّةِ وَفِي النَّارِ لِأَهْلِهَا، وَالْبَاقِي بِالْمَعْنَى.
وَرُوِيَتْ تَفَاسِيرُ فِي: مَا لَا تَعْلَمُونَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَالشَّعْبِيِّ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا. وَيُقَالُ: لَمَّا ذَكَرَ الْحَيَوَانَ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا ضَرُورِيًّا وَغَيْرَ ضَرُورِيٍّ، أَعْقَبَ بِذَكَرِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ غَالِبًا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، إِذْ تَفَاصِيلُهُ خَارِجَةٌ عَنِ الْإِحْصَاءِ وَالْعَدِّ، وَالْقَصْدُ مَصْدَرٌ يَقْصِدُ الْوَجْهَ الَّذِي يَؤُمُّهُ السَّالِكُ لَا يَعْدِلُ عَنْهُ، وَالسَّبِيلُ هُنَا مُفْرَدُ اللَّفْظِ. فَقِيلَ: مُفْرَدُ الْمَدْلُولِ، وَأَلْ فِيهِ لِلْعَهْدِ، وَهِيَ سَبِيلُ الشَّرْعِ، وَلَيْسَتْ لِلْجِنْسِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ لَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا جَائِرٌ. وَالْمَعْنَى: وَعَلَى اللَّهِ تَبْيِينُ طَرِيقِ الْهُدَى، وَذَلِكَ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَبِعْثَةِ الرُّسُلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ مِنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْقَاصِدَ فَعَلَى اللَّهِ رَحْمَتُهُ وَنَعِيمُهُ وَطَرِيقُهُ، وَإِلَى ذَلِكَ مصيره. وعلى أنّ لِلْعَهْدِ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهَا جَائِرٌ، عَائِدٌ عَلَى السَّبِيلِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا مَعْنَى الْآيَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنَ السَّبِيلِ جَائِرٌ، فَأَعَادَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، لِأَنَّ مُقَابِلَهَا يَدُلُّ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الشَّرْعِ، وَتَكُونُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُرَادُ: فِرَقُ الضَّلَالَةِ مِنْ
509
أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنْ بُنَيَّاتِ الطُّرُقِ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ، وَمِنْ شُعَبِهَا. وَقِيلَ: الْ فِي السَّبِيلِ لِلْجِنْسِ، وَانْقَسَمَتْ إِلَى مَصْدَرٍ وَهُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ، وَإِلَى جَائِرٍ وَهُوَ طَرِيقُ الْبَاطِلِ، وَالْجَائِرُ الْعَادِلُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ وَالْهِدَايَةِ كَمَا قَالَ:
يَجُورُ بِهَا الْمَلَّاحُ طَوْرًا وَيَهْتَدِي وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
وَمِنَ الطَّرِيقَةِ جَائِرٌ وَهُدَى قَصْدِ السَّبِيلِ وَمِنْهُ ذُو دَخَلِ
قَسَّمَ الطَّرِيقَةَ: إِلَى جَائِرٍ، وَإِلَى هُدًى، وَإِلَى ذِي دَخَلٍ وَهُوَ الْفَسَادُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أَنَّ هِدَايَةَ الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْحَقِّ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى «١» (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ غَيَّرَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ:
وَمِنْهَا جَائِرٌ؟ (قُلْتُ) : لِيُعْلَمَ بِمَا يَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ وَمَا لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ كَمَا تَزْعُمُ الْمُجَبِّرَةُ لَقِيلَ: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ، وَعَلَيْهِ جَائِرُهَا، أَوْ وَعَلَيْهِ الْجَائِرُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمِنْكُمْ جَائِرٌ يَعْنِي وَمِنْكُمْ جَائِرٌ عَنِ القصد بسواء اختياره، والله بريء مِنْهُ. وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قَسْرًا وَالْجَاءً انْتَهَى. وَهُوَ تَفْسِيرٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَمِنْهَا يَعُودُ عَلَى الْخَلَائِقِ أَيْ: وَمِنَ الْخَلَائِقِ جَائِرٌ عَنِ الْحَقِّ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عِيسَى: وَمِنْكُمْ جَائِرٌ، وَكَذَا هِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ،
وَقِرَاءَةُ عَلِيٍّ: فَمِنْكُمْ جَائِرٌ بِالْفَاءِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
هُمْ أَهْلُ الْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ. وَلَهَدَاكُمْ: لَخَلَقَ فِيكُمُ الْهِدَايَةَ، فَلَمْ يَضِلَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ، وَهِيَ مَشِيئَةُ الِاخْتِيَارِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَفَرَضَ عَلَيْكُمْ آيَةً تَضْطَرُّكُمْ إِلَى الِاهْتِدَاءِ وَالْإِيمَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلُ سُوءٍ لِأَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَرَوْنَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، لَمْ يُحَصِّلْهُ الزَّجَّاجُ، وَوَقَعَ فِيهِ رَحْمَةُ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ انْتَهَى.
وَلَمْ يَعْرِفِ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ الزَّجَّاجَ مُعْتَزِلِيٌّ، فَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ أَنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْهُ، وَأَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ إِلَى الثَّوَابِ، أَوْ إِلَى الْجَنَّةِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَوْ شَاءَ لَمَحَضَ قَصْدِ السَّبِيلِ دُونَ الْجَائِرِ. وَمَفْعُولُ شَاءَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ لَهَدَاكُمْ أَيْ:
وَلَوْ شَاءَ هِدَايَتَكُمْ.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ
(١) سورة الليل: ٩٢/ ١٢.
510
الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَّ بِإِيجَادِهِمْ بَعْدَ الْعَدَمِ وَإِيجَادِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الرُّكُوبِ، ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ حَيَاتِهِمْ وَحَيَاةِ الْحَيَوَانِ، وَمَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ مِنْ أَقْوَاتِهِمْ وَأَقْوَاتِهَا مِنَ الزَّرْعِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فَذَكَرَ مِنْهَا الْأَغْلَبَ، ثُمَّ عَمَّمَ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّيْلِ الَّذِي هُوَ سَكَنٌ لَهُمْ، وَالنَّهَارِ الَّذِي هُوَ مَعَاشٌ، ثُمَّ بِالنَّيِّرَيْنِ اللَّذَيْنِ جَعَلَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مُؤَثِّرَيْنِ بِإِرَادَتِهِ فِي إِصْلَاحِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ بِمَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَكُمْ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لماء، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَيَرْتَفِعُ شَرَابٌ بِهِ أَيْ:
مَاءً كَائِنًا لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَنْزَلَ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا، وَشَرَابٌ مُبْتَدَأٌ. لَمَّا ذَكَرَ إِنْزَالَ الْمَاءِ أَخَذَ فِي تَقْسِيمِهِ. وَالشَّرَابُ هُوَ الْمَشْرُوبُ، وَالتَّبْعِيضُ فِي مِنْهُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي مِنْهُ شَجَرٌ فَمَجَازٌ، لَمَّا كَانَ الشَّجَرُ إِنْبَاتُهُ عَلَى سَقْيِهِ بِالْمَاءِ جَعَلَ الشَّجَرَ مِنَ الْمَاءِ كَمَا قَالَ: أَسْنِمَةُ الْآبَالِ فِي رَبَابِهْ، أَيْ فِي سَحَابِ الْمَطَرِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، إِمَّا قَبْلَ الضَّمِيرِ أَيْ: وَمِنْ جِهَتِهِ، أَوْ سَقْيُهُ شَجَرٌ، وَإِمَّا قَبْلَ شَجَرٍ أَيْ:
شُرِبَ شَجَرٌ كَقَوْلِهِ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «١» أَيْ حُبَّهُ. وَالشَّجَرُ هُنَا كُلُّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ: نُطْعِمُهَا اللَّحْمَ إِذَا عَزَّ الشَّجَرُ، فَسُمِّيَ الْكَلَأُ شَجَرًا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الشَّجَرُ هُنَا الْكَلَأُ،
وَفِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ: «لَا تَأْكُلُوا الشَّجَرَ فَإِنَّهُ سُحْتٌ»
يَعْنِي الْكَلَأَ.
وَيُقَالُ: أَسَامَ الْمَاشِيَةَ وَسَوَّمَهَا جَعَلَهَا تَرْعَى، وَسَامَتْ بِنَفْسِهَا فَهِيَ سَائِمَةٌ وَسِوَامٌ رَعَتْ حَيْثُ شَاءَتْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مِنَ السُّومَةِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ، لِأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ عَلَامَاتٌ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تَسِيمُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ، فَإِنْ سُمِعَ مُتَعَدِّيًا كَانَ هُوَ وَأَسَامَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا فَتَأْوِيلُهُ عَلَى حذف مضاف يسيمون أَيْ: تُسِيمُ مَوَاشِيكُمْ لَمَّا ذَكَرَ، وَمِنْهُ شَجَرٌ. أَخَذَ فِي ذِكْرِ غَالِبُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنَ الشَّجَرِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنْهُ شَجَرُ الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْكَلَأَ فَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارِ مَنَافِعِ الْمَاءِ. وَيُقَالُ: نَبَتَ الشَّيْءُ وَأَنْبَتَهُ اللَّهُ فَهُوَ مَنْبُوتٌ، وَهَذَا قِيَاسُهُ مَنْبَتٌ. وَقِيلَ: يُقَالُ أَنْبَتَ الشَّجَرُ لَازِمًا. وأنشد الفراء:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٩٣.
511
رَأَيْتُ ذَوِي الْحَاجَّاتِ حَوْلَ بيوتهم قطينا بهم حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ
أَيْ نَبَتَ. وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يَأْبَى أَنْبَتَ بِمَعْنَى نَبَتَ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: نُنْبِتُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: نُنَبِّتُ بِالتَّشْدِيدِ قِيلَ: لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّكْرِيرِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَضْعِيفُ التَّعْدِيَةِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: يَنْبُتُ مِنْ نَبَتَ وَرَفَعَ الزرع وما عطف عليه. وَخَصَّ الْأَرْبَعَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَا يَنْبُتُ، وَأَجْمَعُهُ لِلْمَنَافِعِ. وَبَدَأَ بِالزَّرْعِ لِأَنَّهُ قُوتُ أَكْثَرِ الْعَالَمِ، ثُمَّ بِالزَّيْتُونِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ الِاسْتِصْبَاحِ بِدُهْنِهِ، وَهِيَ ضَرُورِيَّةٌ مَعَ مَنْفَعَةِ أَكْلِهِ وَالِائْتِدَامِ بِهِ وَبِدَهْنِهِ، وَالِاطِّلَاءِ بِدُهْنِهِ، ثُمَّ بِالنَّخْلِ لِأَنَّ ثَمَرَتَهُ مِنْ أَطْيَبِ الْفَوَاكِهِ وَقُوتٌ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، ثُمَّ بِالْأَعْنَابِ لِأَنَّهَا فَاكِهَةٌ مَحْضَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، أَتَى بِلَفْظِ مِنْ الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ كُلَّ الثَّمَرَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا أُنْبِتَ فِي الْأَرْضِ بَعْضٌ مِنْ كُلِّهَا لِلتَّذْكِرَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، كَذَلِكَ هُنَا ذَكَرَ الْأَنْوَاعَ الْمُنْتَفَعَ بِهَا مِنَ النَّبَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَصِفَاتِهَا وَمَنَافِعهَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُحْصَرُ، كَمَا أَنَّ تَفْصِيلَ مَا خَلَقَ مِنْ بَاقِي الْحَيَوَانِ لَا يَكَادُ يُحْصَرُ. وَخَتَمَ ذَلِكَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، لِأَنَّ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى فَضْلِ تَأَمُّلٍ وَاسْتِعْمَالِ فِكْرٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَبَّةَ الْوَاحِدَةَ إِذَا وُضِعَتْ فِي الْأَرْضِ وَمَرَّ عَلَيْهَا مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَانِ مُعَيَّنٌ لَحِقَهَا مِنْ نَدَاوَةِ الْأَرْضِ مَا تَنْتَفِخُ بِهِ، فَيَنْشَقُّ أَعْلَاهَا فَيَصْعَدُ مِنْهُ شَجَرَةٌ إِلَى الْهَوَاءِ، وَأَسْفَلُهَا يَغُوصُ مِنْهُ فِي عُمْقِ الْأَرْضِ شَجَرَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْعُرُوقُ، ثُمَّ يَنْمُو الْأَعْلَى وَيَقْوَى، وَتَخْرُجُ الْأَوْرَاقُ وَالْأَزْهَارُ وَالْأَكْمَامُ، وَالثِّمَارُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى أَجْسَامٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ وَالطُّعُومِ وَالْأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ وَالْأَشْكَالِ وَالْمَنَافِعِ، وَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ قَادِرٍ مُخْتَارٍ وَهُوَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالشَّمْسَ وَمَا بَعْدَهُ مَنْصُوبًا، وَانْتَصَبَ مُسَخَّرَاتٍ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ إِنْ كَانَ مُسَخَّرَاتٍ اسْمَ مَفْعُولٍ، وَهُوَ إِعْرَابُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يكون الْمَعْنَى: أَنَّهُ سَخَّرَهَا أَنْوَاعًا مِنَ التَّسْخِيرِ جَمْعُ مُسَخَّرٍ بِمَعْنَى: تَسْخِيرٍ مِنْ قَوْلِكَ: سَخَّرَهُ اللَّهُ مُسَخَّرًا، كَقَوْلِكَ: سَرَّحَهُ مُسَرَّحًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَسَخَّرَهَا لَكُمْ تَسْخِيرَاتٍ بِأَمْرِهِ انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: والشمس وَمَا بَعْدَهُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ، وَحَفْصٌ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِرَفْعِهِمَا، وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ يُبْعِدَانِ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ إِنَّ مُسَخَّرَاتٍ بِمَعْنَى تَسْخِيرَاتٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُصَرِّفٍ: وَالرِّيَاحُ مُسَخَّرَاتٌ فِي مَوْضِعِ، وَالنُّجُومُ وَهِيَ مُخَالَفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ. وَالظَّاهِرُ فِي قِرَاءَةِ نَصْبِ الْجَمِيعِ أَنَّ وَالنُّجُومَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَقَالَ
512
الْأَخْفَشُ: وَالنُّجُومَ مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَجَعَلَ النُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ، فَأَضْمَرَ الْفِعْلَ. وَعَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ لَا تَكُونُ مُسَخَّرَاتٍ حَالًا مُؤَكِّدَةً، بَلْ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِجَعَلَ إِنْ كَانَ جَعَلَ الْمُقَدَّرَةُ بِمَعْنَى صَيَّرَ، وَحَالًا مُبَيِّنَةً إِنْ كَانَ بِمَعْنَى خَلَقَ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ تَسْخِيرِ هَذِهِ النَّيِّرَاتِ فِي الْأَعْرَافِ. وَجَمَعَ الْآيَاتِ هُنَا، وَذَكَرَ الْعَقْلَ، وَأَفْرَدَ فِيمَا قَبْلُ، وَذَكَرَ التَّفَكُّرَ لِأَنَّ فِيمَا قَبْلُ استدلالا بإنبات الْمَاءِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَإِنْ كَثُرَتْ أَنْوَاعُ النَّبَاتِ، وَالِاسْتِدْلَالُ هُنَا مُتَعَدِّدٌ، وَلِأَنَّ الْآثَارَ الْعُلْوِيَّةَ أَظْهَرُ دَلَالَةً عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَأَبْيَنُ شَهَادَةً للكبرياء والعظمة. وما درأ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَعْنِي: مَا خَلَقَ فِيهَا مِنْ حَيَوَانٍ وَشَجَرٍ وَثَمَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ مِنَ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ أَصْنَافُهُ كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ أَلْوَانٌ مِنَ الثَّمَرِ وَمِنَ الطَّعَامِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَعَادِنُ. إِنَّ فِي ذَلِكَ أَيَ: فِيمَا ذَرَأَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ اخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ، أَوْ إِنَّ فِي ذَلِكَ أَيَ: اخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ. وَخَتَمَ هَذَا بِقَوْلِهِ: يَذَّكَّرُونَ، وَمَعْنَاهُ الِاعْتِبَارُ وَالِاتِّعَاظُ، كَانَ علمهم بذلك سابق طَرَأَ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ فَقِيلَ: يَذَّكَّرُونَ أَيْ: يَتَذَكَّرُونَ مَا نَسُوا مِنْ تَسْخِيرِ هَذِهِ الْمُكَوِّنَاتِ فِي الْأَرْضِ.
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الِاسْتِدْلَالَ بِمَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ، ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ مِنْ تَسْخِيرِ الْبَحْرِ. وَمَعْنَى تَسْخِيرِهِ: كَوْنُهُ يَتْمَكَنُّ النَّاسُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِلرُّكُوبِ فِي الْمَصَالِحِ، وَلِلْغَوْصِ فِي اسْتِخْرَاجِ مَا فِيهِ، وَلِلِاصْطِيَادِ لِمَا فِيهِ. وَالْبَحْرُ جِنْسٌ يَشْمَلُ الْمِلْحَ وَالْعَذْبَ، وَبَدَأَ أَوَّلًا مِنْ مَنَافِعِهِ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ وَهُوَ الْأَكْلُ، وَمِنْهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: لِتَأْكُلُوا مِنْ حَيَوَانِهِ طَرِيًّا، ثُمَّ ثَنَّى بِمَا يُتَزَيَّنُ بِهِ وَهُوَ الْحِلْيَةُ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ، وَنَبَّهَ عَلَى غَايَةِ الْحِلْيَةِ وَهُوَ اللُّبْسُ. وَفِيهِ مَنَافِعُ غَيْرُ اللُّبْسِ، فَاللَّحْمُ الطَّرِيُّ مِنَ الْمِلْحِ وَالْعَذْبِ، وَالْحِلْيَةِ مِنَ الْمِلْحِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَذْبَ يَخْرُجُ مِنْهُ لُؤْلُؤٌ لَا يُلْبَسُ إِلَّا قَلِيلًا وَإِنَّمَا يُتَدَاوَى بِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ فِي الزُّمُرُّدِ بَحْرِيًّا، فَأَمَّا لِتَأْكُلُوا فَعَامٌّ فِي النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَأَمَّا تَلْبَسُونَهَا فَخَاصٌّ بِالنِّسَاءِ. وَالْمَعْنَى: يَلْبَسُهَا نِسَاؤُكُمْ. وَأُسْنِدَ اللُّبْسُ إِلَى الذُّكُورِ، لِأَنَّ النِّسَاءَ إِنَّمَا يَتَزَيَّنَّ بِالْحِلْيَةِ مِنْ أَجْلِ رِجَالِهِنَّ، فَكَأَنَّهَا زِينَتُهُمْ وَلِبَاسُهُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى نِعْمَةَ الْأَكْلِ مِنْهُ وَالِاسْتِخْرَاجِ لِلْحِلْيَةِ، ذَكَرَ نِعْمَةَ تَصَرُّفِ الْفُلْكِ فِيهِ مَاخِرَةً أَيْ: شَاقَّةً فِيهِ، أَوْ ذَاتَ صَوْتٍ لِشَقِّ الْمَاءِ لِحَمْلِ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَقْوَاتِ لِلتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَسْنَدَ الرُّؤْيَةَ إِلَى الْمُخَاطَبِ الْمُفْرَدِ فَقَالَ: وَتَرَى، وَجَعَلَهَا جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً بَيْنَ التَّعْلِيلَيْنِ: تَعْلِيلِ الِاسْتِخْرَاجِ،
513
وتعليل الابتغاء، فلذلك عَدَلَ عَنْ جَمْعِ الْمُخَاطَبِ، وَالظَّاهِرُ عَطْفُ، وَلِتَبْتَغُوا عَلَى التَّعْلِيلِ قَبْلَهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ. وَأَجَازَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ: لِتَبْتَغُوا بِذَلِكَ. وَلِتَبْتَغُوا، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: وَفَعَلَ ذَلِكَ لِتَبْتَغُوا. وَالْفَضْلُ هُنَا حُصُولُ الْأَرْبَاحِ بِالتِّجَارَةِ، وَالْوُصُولُ إِلَى الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ.
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، عَلَى مَا مَنَحَكُمْ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ. قِيلَ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَجَعَلَتْ تمور فقالت الْمَلَائِكَةُ: مَا هِيَ بِمَقَرِّ أَحَدٍ عَلَى ظَهْرِهَا، فَأَصْبَحَتْ وَقَدْ أُرْسِيَتْ بِالْجِبَالِ، لَمْ تَدْرِ الْمَلَائِكَةُ مِمَّ خُلِقَتْ. وَعَطَفَ وَأَنْهَارًا عَلَى رَوَاسِيَ. وَمَعْنَى أَلْقَى: جَعَلَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً «١» وَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ، مِنْ فَوْقِهَا. وَقَالَ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أَيْ: جَعَلْتُ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ الْمُتَأَوِّلُونَ: أَلْقَى بِمَعْنَى خَلَقَ وَجَعَلَ، وَهِيَ عِنْدِي أَخَصُّ مِنْ خَلَقَ وَجَعَلَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَلْقَى يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَ الْجِبَالَ لَيْسَ مِنَ الْأَرْضِ لَكِنْ مِنْ قُدْرَتِهِ وَاخْتِرَاعِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا النَّظَرَ مَا رُوِيَ فِي الْقَصَصِ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمُورُ إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا: وَقَوْلُهُ: وَأَنْهَارًا، مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: وَجَعَلَ، أَوْ خَلَقَ أَنْهَارًا. وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى إِضْمَارِ هَذَا الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى خُصُوصِ أَلْقَى، وَلَوْ كَانَتْ أَلْقَى بِمَعْنَى خَلَقَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ انْتَهَى.
وَأَيُّ إِجْمَاعٍ فِي هَذَا، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنَّ أَلْقَى بِمَعْنَى خَلَقَ وَجَعَلَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْهَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا أَنْهَارًا لِأَنَّ أَلْقَى فِيهِ مَعْنَى جَعَلَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً «٢». وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَيْ وَشَقَّ أَنْهَارًا وَعَلَامَاتٍ أَيْ:
وَضَعَ عَلَامَاتٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى رَوَاسِيَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَنْهَارِ إِنَّمَا تَتَفَجَّرُ مَنَابِعُهَا فِي الْجِبَالِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَتْبَعَ ذِكْرَهَا بِتَفْجِيرِ الْأَنْهَارِ، وَسُبُلًا طُرُقًا إِلَى مَقَاصِدِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ بِالسُّبُلِ إِلَى مَقَاصِدِكُمْ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَقِيلَ: تَهْتَدُونَ أَيْ: بِالنَّظَرِ فِي دَلَالَةِ هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ عَلَى صَانِعِهَا، فَهُوَ مِنَ الْهِدَايَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَدِينِ اللَّهِ.
وَعَلَامَاتٍ هِيَ مَعَالِمُ الطُّرُقِ، وَكُلُّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ السَّابِلَةُ مِنْ جَبَلٍ وَسَهْلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَرَأَيْتُ جَمَاعَةً يَتَعَرَّفُونَ الطُّرُقَاتِ بِشَمِّ التُّرَابِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الْعَلَامَةُ صُورَةٌ يُعْلَمُ بِهَا مَا يُرَادُ مِنْ خَطٍّ أَوْ لَفْظٍ أو
(١، ٢) سورة النبأ: ٧٨/ ٧.
514
إِشَارَةٍ أَوْ هَيْئَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَامَاتٍ نُصِبَ كَالْمَصْدَرِ أَيْ: فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَعَلَّكُمْ تَعْتَبِرُونَ بِهَا، وَعَلَامَاتٍ أَيْ: عِبْرَةً وَإِعْلَامًا فِي كُلِّ سُلُوكٍ، فَقَدْ يُهْتَدَى بِالْجِبَالِ وَبِالْأَنْهَارِ وَبِالسُّبُلِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: الْعَلَامَاتُ الْجِبَالُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ: النُّجُومُ.
وَأَغْرَبُ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْعَلَامَاتُ أَنَّهَا حَيَّتَانِ طُوَالٌ رِقَاقٌ كَالْحَيَّاتِ فِي أَلْوَانِهَا وَحَرَكَاتِهَا تُسَمَّى بِالْعَلَامَاتِ، وَذَلِكَ فِي بَحْرِ الْهِنْدِ الَّذِي يُسَارُ إِلَيْهِ مِنَ الْيَمَنِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ كَانَتْ عَلَامَةً لِلْوُصُولِ لِبِلَادِ الْهِنْدِ وَأَمَارَةً لِلنَّجَاةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَبِالنَّجْمِ، عَلَى أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ ابْنِ وَثَّابٍ: وَبِالنُّجُمِ بِضَمِّ النُّونِ وَالْجِيمِ، وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ: بِضَمِّ النُّونِ. وَفِي اللَّوَامِحِ الْحَسَنُ: النُّجُمُ بِضَمَّتَيْنِ، وَابْنُ وَثَّابٍ: بِضَمَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ الرِّفَاعِيِّ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَذْكُرُهُ عَنْ أَصْحَابِ عَاصِمٍ انْتَهَى. وَذَلِكَ جَمْعٌ كَسُقُفٍ وَسَقَفِ، وَرُهُنٍ وترهن، وَجَعْلُهُ مِمَّا جُمِعَ عَلَى فُعُلٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ النُّجُومَ، فَحَذَفَ الْوَاوَ. إِلَّا أَنَّ ابْنَ عُصْفُورٍ ذَكَرَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: النُّجُمُ مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَأَنْشَدَ:
إِنَّ الَّذِي قَضَى بِذَا قَاضٍ حَكَمْ أَنْ يَرِدَ الْمَاءَ إِذَا غَابَ النُّجُمْ
قَالَ: يُرِيدُ النُّجُومَ. مِثْلَ قَوْلِهِ:
حَتَّى إِذَا ابْتَلَّتْ حَلَاقِيمُ الْحَلْقِ يُرِيدُ: الْحُلُوقَ. وَالتَّسْكِينُ: قِيلَ تَخْفِيفٌ، وَقِيلَ: لُغَةٌ. وَعَنِ السُّدِّيِّ: هُوَ الثُّرَيَّا، وَالْفَرْقَدَانِ، وَبَنَاتُ نَعْشٍ، وَالْجَدْيُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُرَادُ الْجَدْيُ وَالْفَرْقَدَانِ انْتَهَى. قِيلَ:
وَالْجَدْيُ هُوَ السَّابِعُ مِنْ بَنَاتِ نَعْشِ الصُّغْرَى، وَالْفَرْقَدَانِ الْأَوَّلَانِ مِنْهَا، وَلَيْسَ بِالْجَدْيِ الَّذِي هُوَ الْمَنْزِلَةُ، وَبَعْضُهُمْ يُصَغِّرُهُ فَيَقُولُ: جُدَيٌّ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: وَبِالنَّجْمِ، فقل: «هُوَ الْجَدْيُ»
وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمْ يَعْدِلْ أَحَدٌ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَيْهِ قِبْلَتُكُمْ، وَبِهِ تَهْتَدُونَ فِي بَرِّكُمْ وَبَحْرِكُمْ. وَقِيلَ: هُوَ الْقُطْبُ الَّذِي لَا يَجْرِي. وَقِيلَ: هُوَ الثُّرَيَّا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا طَلَبَ الْجَوْزَاءُ وَالنَّجْمُ طَالِعٌ فَكُلُّ مَخَاضَاتِ الْفُرَاتِ مَعَابِرُ
وَقَالَ آخَرُ:
حَتَّى إِذَا مَا اسْتَقَلَّ النَّجْمُ فِي غَلَسٍ وَغُودِرَ الْبَقْلُ مُلَوًّى وَمَحْصُودُ
أَيْ وَمِنْهُ مُلَوًّى، وَمِنْهُ مَحْصُودٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيَّا. وَهُمْ: ضَمِيرُ غَيْبَةٍ خَرَجَ
515
مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، كَانَ الضَّمِيرُ النَّعْتَ بِهِ إِلَى قُرَيْشٍ إِذْ كَانَ لَهُمُ اهْتِدَاءٌ بِالنُّجُومِ فِي مَسَايِرِهِمْ، وَكَانَ لَهُمْ بِذَلِكَ عِلْمٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ، فَكَانَ الشُّكْرُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ وَالِاعْتِبَارُ أَلْزَمَ لَهُمْ. وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اعْتِنَاءً وَلِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى عَادَتِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَبِالنَّجْمِ خُصُوصًا هُمْ يَهْتَدُونَ.
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ: ذَكَرَ تَعَالَى التَّبَايُنَ بَيْنَ مَنْ يَخْلُقُ وَهُوَ الْبَارِي تَعَالَى، وَبَيْنَ مَنْ لَا يَخْلُقُ وَهِيَ الْأَصْنَامُ، وَمَنْ عُبِدَ مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ، فَجَدِيرٌ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ مَنْ لَهُ الْإِنْشَاءُ دُونَ غَيْرِهِ. وَجِيءَ بِمَنْ فِي الثَّانِي لِاشْتِمَالِ الْمَعْبُودِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ، أَوْ لِاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ أَنَّ لَهَا تَأْثِيرًا وَأَفْعَالًا، فَعُومِلَتْ مُعَامَلَةَ أُولِي الْعِلْمِ، أَوْ لِلْمُشَاكَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَخْلُقُ، أَوْ لِتَخْصِيصِهِ بِمَنْ يَعْلَمُ. فَإِذَا وَقَعَتِ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَبَيْنَ غَيْرِ الْخَالِقِ، مِنْ أُولِي الْعِلْمِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَعْلَمُ الْبَتَّةَ كَقَوْلِهِ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها «١» أَيْ:
أَنَّ آلِهَتَهُمْ مُنْحَطَّةٌ عَنْ حَالِ مَنْ لَهُ أَرْجُلٌ، لِأَنَّ مَنْ لَهُ هَذِهِ حَيٌّ، وَتِلْكَ أَمْوَاتٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ لَا أَنَّ مَنْ لَهُ رِجْلٌ يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ؟ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : هُوَ إِلْزَامٌ لِلَّذِينِ عَبَدُوا الْأَوْثَانَ وَسَمَّوْهَا آلِهَةً تَشْبِيهًا بِاللَّهِ، فَقَدْ جَعَلُوا غَيْرَ الْخَالِقِ مِثْلَ الْخَالِقِ، فَكَانَ حَقَّ الْإِلْزَامِ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: أَفَمَنْ لَا يَخْلُقُ كَمَنْ يَخْلُقُ؟ (قُلْتُ) : حِينَ جَعَلُوا غَيْرَ اللَّهِ مِثْلَ اللَّهِ فِي تَسْمِيَتِهِ بِاسْمِهِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ، وَسَوَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَقَدْ جَعَلُوا اللَّهَ مِنْ جِنْسِ الْمَخْلُوقَاتِ وَشَبِيهًا بِهَا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ، ثُمَّ وَبَّخَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، أَيْ: مِثْلُ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ فِيهِ الْغَفْلَةُ. وَالنِّعْمَةُ يُرَادُ بِهَا النِّعَمُ لَا نِعْمَةٌ وَاحِدَةٌ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا وَقَوْلُهُ: لَا تُحْصُوها «٢» إِذْ يَنْتَفِي الْعَدُّ وَالْإِحْصَاءُ فِي الْوَاحِدَةِ، وَالْمَعْنَى: لَا تُحْصُوا عَدَّهَا، لِأَنَّهَا لِكَثْرَتِهَا خَرَجَتْ عَنْ إِحْصَائِكُمْ لَهَا، وَانْتِفَاءُ إِحْصَائِهَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا مِنَ الشُّكْرِ. وَلَمَّا ذَكَرَ نِعَمًا سَابِقَةً أَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ نِعَمِهِ لَا يُطِيقُونَ عَدَّهَا. وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، حَيْثُ يَتَجَاوَزُ عَنْ تقصيركم في
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٩٥.
(٢) سورة ابراهيم: ١٤/ ٣٤.
516
أَدَاءِ شُكْرِ النِّعَمِ، وَلَا يَقْطَعُهَا عَنْكُمْ لِتَفْرِيطِكُمْ، وَلَا يُعَاجِلُكُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى كُفْرَانِهَا. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى أَدَاءِ شُكْرِ النِّعَمِ، وَأَنَّ لَهُ حَالَةً يَعْرِضُ فِيهَا مِنْهُ كُفْرَانَهَا قَالَ فِي عَقِبِ الْآيَةِ الَّتِي فِي إِبْرَاهِيمَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ «١» أَيْ لَظَلُومٌ بِتَرْكِ الشُّكْرِ كَفَّارٌ لِلنِّعْمَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ لُطْفًا بِهِ، وَإِيذَانًا فِي التَّجَاوُزِ عَنْهُ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ، وَضَمَّنَهُ الْوَعِيدَ لَهُمْ، وَالْإِخْبَارَ بِعِلْمِهِ تَعَالَى. وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَةِ الشَّرِيفَةِ عَنْ آلِهَتِهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ فِي تُسِرُّونَ وَتُعْلِنُونَ وَتَدْعُونَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ: مُجَاهِدٍ، وَالْأَعْرَجِ، وَشَيْبَةَ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَهُبَيْرَةَ، عَنْ عَاصِمٍ عَلَى مَعْنَى: قُلْ لَهُمْ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي مَشْهُورِهِ: يَدْعُونَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَبِالتَّاءِ فِي السَّابِقَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ:
يَعْلَمُ الَّذِي يُبْدُونَ وَمَا يَكْتُمُونَ، وَتَدْعُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ فِي الثَّلَاثَةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَتَدْعُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ مُخَالِفَتَانِ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ، وَالْمَشْهُورُ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِ، فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى التَّفْسِيرِ، لَا عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ.
وَلَمَّا أَظْهَرَ تَعَالَى التَّبَايُنَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَغَيْرِهِ، نَصَّ عَلَى أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَخْلُقُ، وَعَلَى أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: غَيْرُ أَحْيَاءٍ، ثُمَّ نَفَى عَنْهُمُ الشُّعُورَ الَّذِي يَكُونُ لِلْبَهَائِمِ، فَضْلًا عَنِ الْعِلْمِ الَّذِي تَتَّصِفُ بِهِ الْعُقَلَاءُ. وَعَبَّرَ بِالَّذِينِ وَهُوَ لِلْعَاقِلِ عُومِلَ غَيْرُهُ مُعَامَلَتَهُ، لِكَوْنِهَا عُبِدَتْ وَاعْتُقِدَتْ فِيهَا الْأُلُوهِيَّةُ، وَقَرَأَ مُحَمَّدٌ الْيَمَانِيُّ: يُدْعَوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتَحَ الْعَيْنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَيِ: اللَّهُ أَنْشَأَهُمْ وَاخْتَرَعَهُمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ النَّاسَ يَخْلُقُونَهُمْ بِالنَّحْتِ وَالتَّصْوِيرِ، وَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَهُمْ أَعْجَزُ مِنْ عَبَدَتِهِمْ انْتَهَى. وَأَمْوَاتٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُمْ أَمْوَاتٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مِمَّا حَدَّثَ بِهِ عَنِ الْأَصْنَامِ، وَيَكُونُ بَعْثُهُمْ إِعَادَتُهَا بَعْدَ فَنَائِهَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «٢». وَقِيلَ: مَعْنَى بَعْثِهَا إِثَارَتُهَا، كَمَا تَقُولُ: بَعَثْتُ النَّائِمَ مِنْ نَوْمِهِ إِذَا نَبَّهْتَهُ، كَأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِغَايَةِ الْجُمُودِ أَيْ: وَإِنْ طَلَبْتَهُمْ بِالتَّحْرِيكِ أَوْ حَرَّكْتَهُمْ لَمْ يَشْعُرُوا بِذَلِكَ، وَنَفَى عَنْهُمُ الْحَيَاةَ لِأَنَّ مِنَ الْأَمْوَاتِ مَا يَعْقُبُ مَوْتَهُ حَيَاةٌ كَالنُّطَفِ الَّتِي يُنْشِئُهَا اللَّهُ حَيَوَانًا، وَأَجْسَادِ الْحَيَوَانِ الَّتِي تُبْعَثُ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَأَمَّا الْأَصْنَامُ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْخَشَبِ
(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ٣٤.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢١.
517
فَأَمْوَاتٌ لَا يَعْقُبُ مَوْتَهَا حَيَاةٌ، وَذَلِكَ أَعْرَقُ فِي مَوْتِهَا. وَقِيلَ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ، هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَكَانَ نَاسٌ من الكفار يعبدونهم. وأموت أَيْ: لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، وَغَيْرُ أَحْيَاءٍ أَيْ: غَيْرُ بَاقٍ حَيَاتُهُمْ، وَمَا يَشْعُرُونَ أَيْ: لَا عِلْمَ لَهُمْ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ. وَجَوَّزُوا فِي قِرَاءَةِ: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ، بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَوْ موت، يُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ ضَمِيرُهُمْ فِي:
يَدْعُونَ، شَبَّهَهُمْ بِالْأَمْوَاتِ غَيْرِ الْأَحْيَاءِ مِنْ حَيْثُ هُمْ ضُلَّالٌ. غَيْرُ مُهْتَدِينَ وَمَا بَعْدَهُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَالْبَعْثُ الْحَشْرُ مِنْ قُبُورِهِمْ. وَقِيلَ: فِي هَذَا التَّقْدِيرِ وَعِيدٌ أَيْ: أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَى التَّعْذِيبِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَمَا يَشْعُرُونَ، لِلْأَصْنَامِ وَفِي: يُبْعَثُونَ، لِعَبَدَتِهَا. أَيْ: لَا تَشْعُرُ الْأَصْنَامُ مَتَى تُبْعَثُ عَبَدَتُهَا. وَفِيهِ تَهَكُّمٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَقْتَ بَعْثِ عَبَدَتِهِمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُمْ وَقْتُ جَزَاءٍ عَلَى عِبَادَتِهِمْ. وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ تَكُونَ الْأَخْبَارُ بِتِلْكَ الجمل كلها عن الْمَدْعُوِّينَ آلِهَةً، إِمَّا الْأَصْنَامُ، وَإِمَّا الْمَلَائِكَةُ، أَوْ يَكُونُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْوَاتٌ إِلَى آخره، إخبارا عن الكفار. أو يكون وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، فقط إخبارا عن الكفار، أو يكون وما يشعرون إِخْبَارًا عَنِ الْمَدْعُوِّينَ، وَيُبْعَثُونَ: إِخْبَارًا عَنِ الدَّاعِينَ الْعَابِدِينَ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِيَّانَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ قَوْمِهِ سُلَيْمٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ:
إِيَّانَ، مَعْمُولٌ لِيُبْعَثُونِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِيَشْعُرُونَ، لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ. إِذْ مَعْنَاهُ الْعِلْمُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ نَفَى عَنْهُمْ عِلْمَ مَا انْفَرَدَ بِعِلْمِهِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَهُوَ وَقْتُ الْبَعْثِ إِذَا أُرِيدَ بِالْبَعْثِ الْحَشْرُ إِلَى الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمَا يشعرون. وأيان يُبْعَثُونَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ:
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، أَخْبَرَ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنَّ الْإِلَهَ فِيهِ وَاحِدٌ انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ لِأَنَّ أَيَّانَ إِذْ ذَاكَ تَخْرُجُ عَمَّا اسْتَقَرَّ فِيهَا مِنْ كَوْنِهَا ظَرْفًا، إِمَّا اسْتِفَهَامًا، وَإِمَّا شَرْطًا. وَفِي هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ ظَرْفًا بِمَعْنَى وَقْتٍ مُضَافًا لِلْجُمْلَةِ بَعْدَهَا، مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: وَاحِدٌ، كَقَوْلِك: يَوْمَ يَقُومُ زَيْدٌ قَائِمٌ. وَفِي قَوْلِهِ: أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْبَعْثِ، وَأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ التَّكْلِيفِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا اتَّصَفَتْ بِهِ آلِهَتُهُمْ بِمَا يُنَافِي الْأُلُوهِيَّةَ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ هُوَ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَجَزَّأُ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْجَزَاءِ بَعْدَ وُضُوحِ بُطْلَانِ أَنْ تَكُونَ الْإِلَهِيَّةُ لِغَيْرِهِ بَلْ لَهُ وَحْدَهُ، هُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى شِرْكِهِمْ، مُنْكِرُونَ وَحْدَانِيَّتَهُ، مُسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِهَا، لِاعْتِقَادِهِمُ الْإِلَهِيَّةَ لِأَصْنَامِهِمْ وَتَكَبُّرِهَا فِي الْوُجُودِ. وَوَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مُبَالَغَةٌ فِي نِسْبَةِ الْكُفْرِ إِلَيْهِمْ، إِذْ عَدَمُ التَّصْدِيقِ بِالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ يَتَضَمَّنُ التَّكْذِيبَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِالْبَعْثِ، إِذْ مَنْ آمَنَ بِالْبَعْثِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُكَذِّبَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: مُسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِهِ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: كُلُّ ذَنْبٍ يُمْكِنُ التَّسَتُّرُ بِهِ وَإِخْفَاؤُهُ إِلَّا التَّكَبُّرَ فَإِنَّهُ
518
فِسْقٌ يَلْزَمُهُ الْإِعْلَانُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ يجيؤون أَمْثَالَ الذَّرِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَطَؤُهُمُ النَّاسُ بِأَقْدَامِهِمْ»
أَوْ كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَا جَرَمَ فِي هُودٍ «١».
وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ إِنَّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالْقَطْعِ مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا:
وَقَدْ يُغْنِي لَا جَرَمَ عَنْ لَفْظِ الْقَسَمِ، تَقُولُ: لَا جَرَمَ لَآتِيَنَّكَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ تَعَلَّقَ بِلَا جَرَمَ، وَلَا يَكُونُ اسْتِئْنَافًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ لِمِرْدَاسٍ الْخَارِجِيِّ: لَا جَرَمَ وَاللَّهِ لَأُفَارِقَنَّكَ أَبَدًا، نَفَى كَلَامَهُ تَعَلُّقُهَا بِالْقَسَمِ. وَفِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَعِيدٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْمُجَازَاةِ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ، وَالنَّقَّاشُ: الْمُرَادُ هُنَا بِمَا يُسِرُّونَ تَشَاوُرُهُمْ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فِي قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم انتهى. ولا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَامٌّ فِي الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقِسْطِهِ.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ. قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ الْآيَةَ، أَنَّ النضر بن الحرث سَافَرَ عَنْ مَكَّةَ إِلَى الْحِيرَةِ، وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ كُتُبَ التَّوَارِيخِ وَالْأَمْثَالِ كَكَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ، وَأَخْبَارَ اسْفَنْدِيَارَ وَرُسْتُمَ، فَجَاءَ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا يُحَدِّثُ مُحَمَّدٌ بِأَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ وَحَدِيثِي أَجْمَلُ من حديثه. وماذا كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٍ مَفْعُولٌ بِأَنْزَلَ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ذَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَعَائِدُهُ فِي أَنْزَلَ مَحْذُوفٌ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ الَّذِي أَنْزَلَهُ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مَاذَا مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ قَالَ: بِمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ أَنْزَلَهُ رَبُّكُمْ. وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى كفار قريش. وَمَاذَا أَنْزَلَ لَيْسَ مَعْمُولًا لَقِيلَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ، وَالْجُمْلَةُ لَا تَقَعُ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، كَمَا لَا تَقَعُ مَوْقِعَ الْفَاعِلِ. وقرىء شَاذًّا: أَسَاطِيرَ بِالنَّصْبِ عَلَى معنى ذكر ثم أَسَاطِيرَ، أَوْ أَنْزَلَ أَسَاطِيرَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالسُّخْرِيَةِ، لِأَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْإِنْزَالِ يُنَافِي أَسَاطِيرَ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مَا نَزَلَ شَيْءٌ وَلَا أن ثمّ منزل. وَبَنَى قِيلَ: لِلْمَفْعُولِ، فَاحْتَمَلَ أن كون القائل بعضهم
(١) سورة هود: ١١/ ٢٢.
519
لِبَعْضٍ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ قَالُوا لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ. وَقِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ الَّذِينَ تَقَاسَمُوا مَدَاخِلَ مَكَّةَ يُنَفِّرُونَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَأَلَهُمْ وُفُودُ الْحَاجِّ: مَاذَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِرَفْعِ أَسَاطِيرَ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ الْمَذْكُورُ: أَسَاطِيرُ، أَوِ الْمُنَزَّلُ أَسَاطِيرُ، جَعَلُوهُ مُنَزَّلًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ. وَاللَّامُ فِي لِيَحْمِلُوا لَامُ الْأَمْرِ عَلَى مَعْنَى الْحَتْمِ عَلَيْهِمْ وَالصَّغَارِ الْمُوجِبِ لَهُمْ، أَوْ لَامُ التَّعْلِيلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ غَرَضًا كَقَوْلِكَ: خَرَجْتُ مِنَ الْبَلَدِ مَخَافَةَ الشَّرِّ، وَهِيَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِلَامِ الْعَاقِبَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا بِقَوْلِهِمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَنْ يَحْمِلُوا الْأَوْزَارَ. وَلَمَّا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَامَ الْعَاقِبَةِ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَرِيحُ لَامِ كَيْ عَلَى مَعْنَى قُدِّرَ هَذَا لِكَذَا، وَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْهَا بِقَوْلِهِ. قَالُوا: بَلْ أَضْمَرَ فِعْلًا آخَرَ وَهُوَ: قَدَّرَ هَذَا، وَكَامِلَةً حَالٌ أَيْ: لَا يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْمِلُ مِنْ وِزْرِ كُلِّ مَنْ أَضَلَّ أَيْ:
بَعْضَ وِزْرِ مَنْ ضَلَّ بِضَلَالِهِمْ، وَهُوَ وِزْرُ الْإِضْلَالِ، لِأَنَّ الْمُضِلَّ وَالضَّالَّ شَرِيكَانِ، هَذَا يُضِلُّهُ، وَهَذَا يُطَاوِعُهُ عَلَى إِضْلَالِهِ، فَيَتَحَامَلَانِ الْوِزْرَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مِنْ زَائِدَةٌ أَيْ: وَأَوْزَارَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، وَالْمَعْنَى: وَمِثْلَ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ «١»
كَقَوْلِهِ: «فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
الْمُرَادُ: وَمِثْلُ وِزْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّئِيسَ إِذَا وَضَعَ سُنَّةً قَبِيحَةً عَظُمَ عِقَابُهُ حَتَّى إِنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِعِقَابِ كُلِّ مَنِ اقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: لَيْسَتْ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَخْفِيفَ الْأَوْزَارِ عَنِ الْأَتْبَاعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ»
لَكِنَّهَا لِلْجِنْسِ أَيْ:
لِيَحْمِلُوا مِنْ جِنْسِ أَوْزَارِ الْأَتْبَاعِ انْتَهَى. وَلَا تَتَقَدَّرُ مِنَ الَّتِي لِبَيَانِ الْجِنْسِ هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ الْوَاحِدِيُّ، وَإِنَّمَا تُقَدَّرُ: الْأَوْزَارُ الَّتِي هِيَ أَوْزَارُ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، فيؤول مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي التَّقْدِيرِ. وَبِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَالٌ مِنْ الْمَفْعُولِ أَيْ: يُضِلُّونَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ ضُلَّالٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَهُوَ أَوْلَى، إِذْ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ الْإِضْلَالُ عَلَى جِهَةِ الْفَاعِلِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى هَذَا الْإِضْلَالِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى ذَلِكَ الْإِضْلَالِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ سُوءِ مَا يَتَحَمَّلُونَهُ لِلْآخِرَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِعْرَابِ مِثْلِ سَاءَ مَا يَزِرُونَ. فَأَتَى اللَّهُ أَيْ: أَمْرُهُ وَعَذَابُهُ وَالْبُنْيَانُ، قِيلَ: حَقِيقَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ نمرود بنى
(١) سورة النحل: ١٦/ ٢٥.
520
صَرْحًا لِيَصْعَدَ بِزَعْمِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَفْرَطَ فِي عُلُوِّهِ وَطُولِهِ فِي السَّمَاءِ فَرْسَخَيْنِ عَلَى مَا حَكَى النَّقَّاشُ، وَقَالَهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبٌ: طَولُهُ فِي السَّمَاءِ خَمْسَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ رِيحًا فَهَدَمَتْهُ، وَخَرَّ سَقْفُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ. وَقِيلَ: هَدَمَهُ جِبْرِيلُ بِجَنَاحِهِ، وَأَلْقَى أَعْلَاهُ فِي الْبَحْرِ، وَالْحِقْفُ مِنْ أَسْفَلِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: الْمُرَادُ الْمُقْتَسِمُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. وَقِيلَ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بخت نصر وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قُرَيَّاتُ قَوْمِ لُوطٍ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَمَكَرَ، وَنَزَلَتْ بِهِ عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَيَكُونُ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ إِلَى آخِرِهِ تَمْثِيلًا وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ سَوَّوْا مَنْصُوبَاتٍ لِيَمْكُرُوا بِهَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَجَعَلَ اللَّهُ هَلَاكَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَنْصُوبَاتِ كَحَالِ قَوْمٍ بَنَوْا بُنْيَانًا وَعَمَّدُوهُ بِالْأَسَاطِينِ، فَأَتَى الْبُنْيَانَ مِنَ الْأَسَاطِينِ بِأَنْ تَضَعْضَعَتْ، فَسَقَطَ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ وَهَلَكُوا وَنَحْوُهُ: مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ جُبًّا وَقَعَ فِيهِ مُنْكَبًّا. وَمِنَ الْقَوَاعِدِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ: أَتَاهُمْ أَمْرُ اللَّهِ مِنْ جِهَةِ الْقَوَاعِدِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ. جَاءَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ قِبَلِ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ فَوْقَهُمْ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَقَطَ بُنْيَانُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يَنْجَرُّ إِلَى اللُّغْزِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ فَوْقِهِمْ، رَفْعُ الِاحْتِمَالِ فِي قَوْلِهِ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: انْهَدَمَ عَلَى فُلَانٍ بِنَاؤُهُ وَلَيْسَ تَحْتَهُ، كَمَا تَقُولُ: انْفَسَدَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ:
مِنْ فَوْقِهِ، أَلْزَمَ أَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَهُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: يُعْلِمُكَ أَنَّهُمْ كَانُوا جَالِسِينَ تَحْتَهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَرَّ عَلَيْنَا سَقْفٌ، وَوَقَعَ عَلَيْنَا سَقْفٌ، وَوَقَعَ عَلَيْنَا حَائِطٌ إِذَا كَانَ يَمْلِكُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَعَ عَلَيْهِ فَجَاءَ بِقَوْلِهِ مِنْ فَوْقِهِمْ لِيَخْرُجَ هَذَا الَّذِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَقَالَ: مِنْ فَوْقِهِمْ، أَيْ: عَلَيْهِمْ وَقَعَ، وَكَانُوا تَحْتَهُ فَهَلَكُوا، فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَعْنِي الْبَعُوضَةَ الَّتِي أُهْلِكَ بِهَا نُمْرُوذٌ، وَقِيلَ: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بُنْيَانَهُمْ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بُنْيَتَهُمْ. وَقَرَأَ جَعْفَرٌ: بَيْتَهُمْ، وَالضَّحَّاكُ:
بُيُوتَهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: السَّقْفُ مُفْرَدًا، وَالْأَعْرَجُ السُّقُفُ بِضَمَّتَيْنِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَمُجَاهِدٌ، بِضَمِّ السِّينِ فَقَطْ. وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ مِثْلِ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي وَبِالنَّجْمِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: السَّقُفُ بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّ الْقَافِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي السَّقْفِ، وَلَعَلَّ السَّقْفَ مُخَفَّفٌ منعه، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا قَالُوا فِي رَجُلٍ رَجْلٍ وَهِيَ لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَلَّ بِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، ذَكَرَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَيُخْزِيهِمْ: يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَكَارِهِ الَّتِي تَحُلُّ بِهِمْ،
521
وَيَقْتَضِي ذَلِكَ إِدْخَالَهُمُ النَّارَ كَقَوْلِهِ: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ «١» أَيْ أَهَنْتَهُ كُلَّ الْإِهَانَةِ. وَجَمَعَ بَيْنَ الْإِهَانَةِ بِالْفِعْلِ، وَالْإِهَانَةِ بِالْقَوْلِ بِالتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: يُخْزِيهِمْ.
وَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكَائِي، أَضَافَ تَعَالَى الشُّرَكَاءَ إِلَيْهِ، وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَالْمَعْنَى: شُرَكَائِي فِي زَعْمِكُمْ، إِذْ أَضَافَ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: شُرَكَائِيَ مَمْدُودًا مَهْمُوزًا مَفْتُوحَ الْيَاءِ، وَفِرْقَةٌ كَذَلِكَ: تُسَكِّنُهَا، فَسَقَطَ فِي الدَّرَجِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ: مَقْصُورًا وَفَتَحَ الْيَاءَ هُنَا خَاصَّةً. وَرُوِيَ عَنْهُ: تَرْكُ الْهَمْزِ فِي الْقَصَصِ وَالْعَمَلُ عَلَى الْهَمْزِ فِيهِ وَقَصْرُ الْمَمْدُودِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِثُبُوتِهِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَيَجُوزُ قَلِيلًا فِي الْكَلَامِ. وَالْمُشَاقَّةُ: الْمُفَادَاةُ وَالْمُخَاصَمَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُشَاقُّونَ بِفَتْحِ النُّونِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ بِكَسْرِهَا، وَرُوِيَتْ عَنِ الْحَسَنِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى تَضْعِيفِ أَبِي حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: بِتَشْدِيدِهَا، أُدْغِمَ نُونُ الرَّفْعِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ. وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، عَامٌّ فِيمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَعُلَمَاءِ أُمَمِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَيَعِظُونَهُمْ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِمْ، وَيُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ:
هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: مَنْ حَضَرَ الْمَوْقِفَ مِنْ مَلَكٍ وَإِنْسِيٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ انْتَهَى. وَيَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ:
شَمَاتَةً بِالْكُفَّارِ وَتَسْمِيعًا لَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ إِعْظَامٌ لِلْعِلْمِ، إِذْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا أَهْلُهُ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ «٢» تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ «٣». وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ صِفَةٌ لِلْكَافِرِينَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي الْقَوْلِ. فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَكُونُ تَتَوَفَّاهُمْ حكاية حال ماضية، وأن كَانَ الْقَوْلُ فِي الدُّنْيَا لَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُخْزِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَقُولُ لَهُمْ مَا يَقُولُ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ أَنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُخْزِيهِمْ فِيهِ، فَيَكُونُ تَتَوَفَّاهُمْ عَلَى بَابِهَا. وَيَشْمَلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مِنْ تَوَفَّتْهُ، وَمَنْ تَتَوَفَّاهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الذَّمِّ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَقُولًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقُولٍ، بَلْ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مُرْتَفِعًا بِالِابْتِدَاءِ مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ، وَخَبَرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ، فَزِيدَتِ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ يَجِيءُ مِثْلُ هَذَا انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، فَإِنَّهُ يُجِيزُ: زَيْدٌ فَقَامَ، أَيْ قَامَ. وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْفَاءَ هِيَ الدَّاخِلَةَ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَإِ
(١- ٣) سورة آل عمران: ٣/ ١٩٢.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٩٧.
522
إِذَا كَانَ مَوْصُولًا، وَضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ مَعَ صَرِيحِ الشَّرْطِ، فَلَا يَجُوزُ فِيمَا ضُمِّنَ مَعْنَاهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْأَعْمَشُ: يَتَوَفَّاهُمْ بِالْيَاءِ مِنْ أسفل في الموضعين. وقرىء: بِإِدْغَامِ تَاءِ الْمُضَارَعَةِ فِي التَّاءِ بَعْدَهَا، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَالسَّلْمُ هُنَا الِاسْتِسْلَامُ. قَالَهُ الْأَخْفَشُ، أَوِ الْخُضُوعُ قَالَهُ مُقَاتِلٌ. أَيِ، انْقَادُوا حِينَ عَايَنُوا الْمَوْتَ قَدْ نَزَلَ بِهِمْ. وَقِيلَ: فِي الْقِيَامَةِ انْقَادُوا وَأَجَابُوا بِمَا كَانُوا عَلَى خِلَافِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّقَاقِ وَالْكِبْرِ. وَالظَّاهِرُ عَطْفُ فَأَلْقَوْا عَلَى تَتَوَفَّاهُمْ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: الَّذِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا.
وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى حِكَايَةِ كَلَامِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: قَالَ الَّذِينَ إِلَى قَوْلِهِ فَأَلْقَوْا، جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ الْإِخْبَارِ بِأَحْوَالِ الْكُفَّارِ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَيْ: وَنَعْتُهُمْ بِحَمْلِ السُّوءِ، إِمَّا أَنْ يكون صريخ كَذِبٍ كَمَا قَالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: عِنْدَ أَنْفُسِنَا أَيْ لَوْ كَانَ الْكُفْرُ عِنْدَ أَنْفُسِنَا سَوَاءً مَا عَلِمْنَاهُ. وَيُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِبَلَى، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى حَسْبِ اعْتِقَادِهِمْ لَمَا كَانَ الْجَوَابُ بَلَى، عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِبَلَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ كَذَبْتُمْ فِي اعْتِقَادِكُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِسُوءٍ، بَلْ كُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ سُوءٌ لِأَنَّكُمْ تَبَيَّنْتُمُ الْحَقَّ وَعَرَفْتُمُوهُ وَكَفَرْتُمْ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «١» وَقَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا «٢» وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ كُلَّهُ هُوَ مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْكُفَّارِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ رَدُّوا عَلَيْهِمْ إِخْبَارَهُمْ بِنَفْيِ عَمَلِ السُّوءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمُ الْآمِرُوهُمْ بِالدُّخُولِ فِي النَّارِ، يَسُوقُونَهُمْ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: الْخَزَنَةُ، وَالظَّاهِرُ الْأَبْوَابُ حَقِيقَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الدَّرَكَاتُ. وَقِيلَ: الْأَصْنَافُ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْظُرُ فِي بَابٍ مِنَ الْعِلْمِ أَيْ صِنْفٍ. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ عَذَابُ الْقَبْرِ مُسْتَدِلًّا بِمَا
جَاءَ «الْقَبْرِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةً مِنْ حُفَرِ النَّارِ»
وَلَمَّا أَكْذَبُوهُمْ مِنْ دَعْوَاهُمْ أُخْبِرُوا أَنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِأَعْمَالِهِمْ، فَهُوَ الْمُجَازِي عَلَيْهَا، ثُمَّ أَمَرُوهُمْ بِالدُّخُولِ، وَاللَّامُ فِي فَلَبِئْسَ لَامُ تَأْكِيدٍ، وَلَا تَدْخُلَ عَلَى الْمَاضِي الْمُنْصَرِفِ، وَدَخَلَتْ عَلَى الْجَامِدِ لِبُعْدِهِ عَنِ الْأَفْعَالِ وَقُرْبِهِ مِنَ الأسماء.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٨٩.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ١٤. [.....]
523
وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ هِيَ أَيْ جَهَنَّمُ. وَوَصْفُ التَّكَبُّرِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ صَاحِبِهِ النَّارَ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ «١».
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٠ الى ٥٠]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤)
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩)
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩)
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠)
(١) سورة النحل: ١٦/ ٢٢.
524
خَسَفَ الْمَكَانُ يَخْسِفُ خُسُوفًا ذَهَبَ، وَخَسَفَهُ اللَّهُ يُرِيدُ أَذْهَبَهُ فِي الْأَرْضِ بِهِ. دَخَرَ دُخُورًا تَصَاغَرَ، وَفَعَلَ مَا يُؤْمَرُ شَاءَ أَوْ أَبَى. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَوَاضَعَ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا دَاخِرٌ فِي مَجْلِسٍ وَمُنْجَحِرٌ فِي غير أرضك في حجر
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: تَقَدَّمَ إِعْرَابُ مَاذَا، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ ذَا مَوْصُولَةً لَمْ يَكُنِ الْجَوَابُ عَلَى وَفْقِ السُّؤَالِ، لِكَوْنِ ماذا مبتدأ وخبر، أَوِ الْجَوَابُ نَصْبٌ وَهُوَ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ الْمُطَابَقَةَ فِي الْإِعْرَابِ أَحْسَنُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَيْرًا بِالنَّصْبِ أَيْ: أَنْزَلَ خَيْرًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمْ نَصَبَ هَذَا، وَرَفَعَ الْأَوَّلَ؟ (قُلْتُ) : فَصْلًا بَيْنَ جَوَابِ الْمُقِرِّ وَجَوَابِ الْجَاحِدِ، يَعْنِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا سُئِلُوا: لَمْ يَتَلَعْثَمُوا وَأَطْبَقُوا الْجَوَابَ عَلَى السُّؤَالِ مَكْشُوفًا مَفْعُولًا لِلْإِنْزَالِ فَقَالُوا: خَيْرًا، وَأُولَئِكَ عَدَلُوا بِالْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ فَقَالُوا: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْزَالِ فِي شَيْءٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: خَيْرٌ بِالرَّفْعِ أَيِ:
الْمُنَزَّلُ فَتُطَابِقُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَأْوِيلَ مَنْ جَعَلَ إِذَا مَوْصُولَةً، وَلَا تُطَابِقُ مَنْ جَعَلَ مَاذَا مَنْصُوبَةً، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْإِعْرَابِ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ جَائِزًا كَمَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ أَنَّ أَحْيَاءَ الْعَرَبِ
525
كَانُوا يَبْعَثُونَ أَيَّامَ الْمَوَاسِمِ مَنْ يَأْتِيهِمْ بِخَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا جَاءَ الْوَفْدُ كَفَّهُ الْمُقْتَسِمُونَ وَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ وَقَالُوا: إِنْ لَمْ تَلْقَهُ كَانَ خَيْرًا لَكَ فَيَقُولُ: أَنَا شَرُّ وَافِدٍ إِنْ رَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي دُونَ أَنْ أَسْتَطْلِعَ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَاهُ، فَيَلْقَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرُونَهُ بِصِدْقِهِ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ، فَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا خَيْرًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لِلَّذِينَ، مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْقَوْلِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلْخَيْرِ الَّذِي أنزله اللَّهُ فِي الْوَحْيِ: أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا بِالطَّاعَةِ فَلَهُ حَسَنَةٌ فِي الدُّنْيَا وَنَعِيمٌ فِي الْآخِرَةِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا وَمَا بَعْدَهُ بَدَلٌ مِنْ خَيْرٍ، حِكَايَةً لِقَوْلِ الَّذِينَ اتَّقَوْا أَيْ: قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، فَقَدَّمَ عَلَيْهِ تَسْمِيَتَهُ خَيْرًا ثُمَّ خكاه انْتَهَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، مَقْطُوعٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَهُوَ بِالْمَعْنَى وَعْدٌ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ إِحْسَانِ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَالَتِهِمْ. وَمَعْنَى حَسَنَةٍ مُكَافَأَةٌ فِي الدُّنْيَا بِإِحْسَانِهِمْ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدَّارَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالْمَدْحِ هُوَ جَنَّاتُ عَدْنٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ دَارُ الْآخِرَةِ، فَحَذَفَ الْمُخَصَّصَ بِالْمَدْحِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ، وَجَنَّاتُ عَدْنٍ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ انْتَهَى.
وَقَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَبْلَهُمَا الزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ جَنَّاتُ عَدْنٍ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ يَدْخُلُونَهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ جَنَّاتِ عَدْنٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ أَيْ: يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُقَوِّي إِعْرَابَ جَنَّاتُ عَدْنٍ بِالرَّفْعِ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، ويدخلونها الخبر. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَلَنِعْمَتُ دَارِ، بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ، وَدَارٍ مَخْفُوضٌ بِالْإِضَافَةِ، فيكون نعمت مبتدأ وجنات الْخَبَرَ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: تَدْخُلُونَهَا بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ عَنْ نَافِعٍ: يَدْخُلُونَهَا بِيَاءٍ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَالْفِعْلُ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ: تَجْرِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ لِجَنَّاتٌ انْتَهَى. فَكَانَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَحَظَ كَوْنَ جَنَّاتُ عَدْنٍ مَعْرِفَةً، وَالْحَوْفِيُّ لَحَظَ كَوْنَهَا نَكِرَةً، وَذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي عَدْنٍ هَلْ هِيَ عَلَمٌ؟ أَوْ نَكِرَةٌ بِمَعْنَى إِقَامَةٍ؟ وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: جَزَاءٌ مِثْلُ جَزَاءِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا يَجْزِي، وَطَيِّبِينَ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ تَتَوَفَّاهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ صَالِحُو الْأَحْوَالِ مُسْتَعِدُّونَ لِلْمَوْتِ وَالطِّيبِ الَّذِي لَا خَبَثَ فِيهِ، وَمِنْهُ: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ «١».
وَقَالَ أَبُو مُعَاذٍ: طَيِّبِينَ طاهرين من الشرك بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ. وَقِيلَ: طَيِّبِينَ سَهْلَةٌ وَفَاتُهُمْ لَا صُعُوبَةَ فِيهَا وَلَا أَلَمَ، بِخِلَافِ مَا يَقْبِضُ رُوحَ الْكَافِرِ وَالْمُخْلِطِ. وَقِيلَ: طَيِّبَةٌ نُفُوسُهُمْ
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٧٣.
526
بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: زَاكِيَةٌ أَفْعَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ، وَقِيلَ: صَالِحِينَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: طَاهِرِينَ مِنْ ظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ.
وَيَقُولُونَ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَتَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ صِحَاحٌ. وَقَوْلُهُ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، هُوَ وَقْتُ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، قاله: ابن مسعود، ومحمد بْنُ كَعْبٍ، وَمُجَاهِدٌ. وَالْأَكْثَرُونَ جَعَلُوا التَّبْشِيرَ بِالْجَنَّةِ دُخُولًا مَجَازًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْحَسَنُ: عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ خَزَنَةِ الْجَنَّةِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بما صبرتم، فنعم عقبى الدَّارِ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ يَقُولُونَ حَالًا مُقَدَّرَةً، وَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ وَقْتَ التَّوَفِّي. وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ يَقُولُونَ، وَالْمَعْنَى: يَقُولُونَ لَهُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُمُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَوَقْتَ الْمَوْتِ لَا يُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَالتَّوَفِّي هُنَا تَوَفِّي الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ وَقْتَ الْحَشْرِ. وَقَوْلُهُ: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ظَاهِرُهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ:
مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ طَعْنَ الْكُفَّارِ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِوَعِيدِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ، ثُمَّ تَوَعَّدَ مَنْ وَصَفَ الْقُرْآنُ بِالْخَيْرِيَّةِ بَيَّنَ أَنَّ أُولَئِكَ الْكَفَرَةَ لَا يَرْتَدِعُونَ عَنْ حَالِهِمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّهْدِيدِ، أَوْ أَمْرِ اللَّهِ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَأْتِيهِمْ بِالْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ عَلَى تَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَإِتْيَانِ الْمَلَائِكَةِ لِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَهُمْ ظَالِمُو أَنْفُسِهِمْ، وَأَمْرُ رَبِّكَ الْعَذَابُ الْمُسْتَأْصِلُ أَوِ الْقِيَامَةُ. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ:
مِثْلُ فِعْلِهِمْ فِي انْتِظَارِ الْمَلَائِكَةِ أَوَامِرَ اللَّهِ فِعْلُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُقَدِّمُونَهُمْ. وَقِيلَ: مِثْلُ فِعْلِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالدَّيْمُومَةِ عَلَيْهِ فَعَلَ مُتَقَدِّمُوهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: فَعَلَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ اغْتِرَارِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مِثْلُ اغْتِرَارِهِمْ بِاسْتِبْطَاءِ الْعَذَابِ اغْتَرَّ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ:
هَلْ يَنْظُرُونَ عليه، وما ظلمهم بالله بِإِهْلَاكِهِمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمُ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: فَأَصَابَهُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى فَعَلَ، وَمَا ظَلَمَهُمُ اعْتِرَاضٌ. وَسَيِّئَاتُ: عُقُوبَاتُ كُفْرِهِمْ. وَحَاقَ بِهِمْ أَحَاطَ بِهِمْ جَزَاءَ اسْتِهْزَائِهِمْ. وَقَالَ
527
الَّذِينَ أَشْرَكُوا، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ، فَأَغْنَى عَنِ الْكَلَامُ فِي هَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنَا يَعْنِي أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَحَرَّمُوا مَا أَحَلَّ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ نَسَبُوا فِعْلَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ نَفْعَلْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُجَبِّرَةِ بِعَيْنِهِ. كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ أَشْرَكُوا وَحَرَّمُوا حَلَالَ اللَّهِ، فَلَمَّا نُبِّهُوا على قبح فعلهم وركوا عَلَى رَبِّهِمْ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا أَنْ يُبَلِّغُوا الْحَقَّ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَشَاءُ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ، وَيَطَّلِعُوا عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَقُبْحِهِ، وَبَرَاءَةِ اللَّهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَأَنَّهُمْ فَاعِلُوهَا بِقَصْدِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَاعِثُهُمْ عَلَى جَمِيلِهَا، وَمُوَفِّقُهُمْ لَهُ وَزَاجِرُهُمْ عَنْ قَبِيحِهَا وَمُوعِدُهُمْ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَهَذَا الْقَوْلُ صَادِرٌ مِمَّنْ أَقَرَّ بِوُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَقُولُ بِوُجُودِهِ. فَعَلَى تَقْدِيرٍ أَنَّ الرَّبَّ الذي يعبده محمد وَيَصِفُهُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ يَعْلَمُ حَالَنَا، وَهَذَا جِدَالٌ مِنْ أي الصفنين كَانَ لَيْسَ فِيهِ اسْتِهْزَاءٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَمِنَ الْمُطَابَقَةِ الَّتِي أَنْكَرَتْ مُطَابَقَةَ الْأَدِلَّةِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ مِنْ مَذْهَبِ خَصْمِهَا مُسْتَهْزِئَةً فِي ذَلِكَ.
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَقَدْ أَمَدَّ إِبْطَالَ قَدْرِ السُّوءِ وَمِشْيَةِ الشَّرِّ بِأَنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَقَدْ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولًا يَأْمُرُهُمْ بِالْخَيْرِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَعِبَادَةُ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ الشَّرِّ الَّذِي هُوَ الطَّاغُوتُ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ أَيْ لَطَفَ بِهِ، لِأَنَّهُ عَرَفَهُ مِنْ أَهْلِ اللُّطْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ أَيْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْخِذْلَانُ وَالشِّرْكُ مِنَ اللُّطْفِ، لِأَنَّهُ عَرَفَهُ مُصَمَّمًا عَلَى الْكُفْرِ لَا يَأْتِي مِنْهُ خَيْرٌ. فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا مَا فَعَلْتُ بِالْمُكَذِّبِينَ حَتَّى لَا تَبْقَى لَكُمْ شُبْهَةٌ وَإِنِّي لَا أُقَدِّرُ الشَّرَّ وَلَا أَشَاؤُهُ، حَيْثُ أَفْعَلُ مَا أَفْعَلُ بِالْأَشْرَارِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَلَمَّا قَالَ: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، بَيَّنَ ذَلِكَ هُنَا بِأَنَّهُ بَعَثَ الرُّسُلَ بِعِبَادَتِهِ وَتَجَنُّبِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ فَهَدَاهُ اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ وَكَفَرَ، ثُمَّ أَحَالَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ عَلَى السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَاسْتِقْرَاءِ الْأُمَمِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى عَذَابِ الْكَافِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ، ثُمَّ خَاطَبَ نَبِيَّهُ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ مَنْ حَتَّمَ عَلَيْهِ بِالضَّلَالَةِ لَا يُجْدِي فِيهِ الْحِرْصُ عَلَى هِدَايَتِهِ.
528
وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ: وَإِنْ بِزِيَادَة وَاوٍ وَهُوَ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ: تَحْرَصْ بِفَتْحِ الرَّاءِ مُضَارِعُ حَرِصَ بِكَسْرِهَا وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْكَسْرِ مُضَارِعُ حَرَصَ بِالْفَتْحِ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَمُجَاهِدٌ، وَشَيْبَةُ، وَشِبْلٌ، وَمُزَاحِمٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَالْعُطَارِدِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ: لَا يُهْدَى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَمَنْ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَالْفَاعِلُ فِي يُضِلُّ ضَمِيرُ اللَّهِ وَالْعَائِدُ عَلَى مَنْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَنْ يُضِلُّهُ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبَ، وَجَمَاعَةٌ: يَهْدِي مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي يَهْدِي ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ مَفْعُولٌ، وَعَلَى مَا حَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّ هَدَى يَأْتِي بِمَعْنَى اهْتَدَى يَكُونُ لَازِمًا، وَالْفَاعِلُ مَنْ أَيْ لَا يَهْتَدِي مَنْ يُضِلُّهُ اللَّهُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ:
لَا يَهِدِي بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَالدَّالِ. كَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيَعْنِي: وَتَشْدِيدُ الدَّالِ وَأَصْلُهُ يَهْتَدِي، فَأُدْغِمَ كَقَوْلِكَ فِي: يَخْتَصِمُ يَخْصِمُ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: يَهْدِي بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ ضَعِيفَةٌ انْتَهَى. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَدَى لَازِمٌ بِمَعْنَى اهْتَدَى لَمْ تَكُنْ ضَعِيفَةً، لِأَنَّهُ أَدْخَلَ عَلَى اللَّازِمِ هَمْزَةَ التَّعْدِيَةِ، فَالْمَعْنَى: لَا يَجْعَلُ مُهْتَدِيًّا مَنْ أَضَلَّهُ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: لَا هَادِيَ لِمَنْ أَضَلَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي قِرَاءَةِ أُبِيٍّ فَإِنَّ اللَّهَ لَا هَادِيَ لِمَنْ يُضِلُّ وَلِمَنْ أضل. وقرىء: يَضِلُّ بِفَتْحِ الْيَاءِ،
وَقَالَ أَيْضًا: حَرِصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِيمَانِ قُرَيْشٍ،
وَعَرَّفَهُ أَنَّهُمْ مَنْ قِسْمِ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ، وَأَنَّهُ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أَيْ:
لَا يَلْطُفُ بِمَنْ يَخْذُلُ لِأَنَّهُ عَبَثٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنِ الْعَبَثِ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْقَبَائِحِ الَّتِي لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَالضَّمِيرُ فِي وَأَقْسَمُوا عَائِدٌ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَقَاضَى دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ فِيمَا تَكَلَّمَ بِهِ الْمُسْلِمُ الَّذِي ادَّخَرَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَالَ الْمُشْرِكُ، وَأَنْكَرَ أَنَّكَ تُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَقْسَمُ بِاللَّهِ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، بَلَى رَدَّ عَلَيْهِ مَا نَفَاهُ، وَأَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلَى يَبْعَثُهُ. وَانْتَصَبَ وَعْدًا وَحَقًّا عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ مُؤَكِّدَانِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ بَلَى مِنْ تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ يَبْعَثُهُ. وَقَالَ الحوفي: حقا نعت لو عدا. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: بَلَى وَعْدٌ حَقٌّ، وَالتَّقْدِيرُ: بَعْثُهُمْ وَعْدٌ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَحَقٌّ صِفَةٌ لِوَعْدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، إِيذَانًا بِأَنَّهُمَا كُفْرَتَانِ عَظِيمَتَانِ مَوْصُوفَتَانِ حَقِيقَتَانِ بِأَنْ تُحْكَيَا وَتُدَوَّنَا، تُورِيكَ ذُنُوبَهُمْ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَإِنْكَارَهُمُ الْبَعْثَ مُقْسِمِينَ عَلَيْهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْوَفَاءَ بِهَذَا الْمَوْعِدِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ، أَوْ أَنَّهُ وَعْدٌ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ:
529
لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، لَا ثَوَابُ عَامِلٍ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ مَوَاجِبِ الْحِكْمَةِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ هُمُ الْكُفَّارُ الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشِّيعَةِ: إِنَّ الْإِشَارَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هِيَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُهُ فِي الدُّنْيَا، فَسَخَافَةٌ مِنَ الْقَوْلِ.
وَالْقَوْلُ بِالرَّجْعَةِ بَاطِلٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ عَلَى عَادَتِهِمْ، رَدَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَاللَّامُ فِي لِيُبَيِّنَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ بَعْدَ بَلَى أَيْ: نَبْعَثُهُمْ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: مَا ضَرَبْتَ أَحَدًا فَيَقُولُ: بَلَى زَيْدًا أَيْ: ضَرَبْتُ زَيْدًا. وَيَعُودُ الضَّمِيرُ فِي يَبْعَثُهُمْ الْمُقَدَّرُ، وَفِي لَهُمْ عَلَى مَعْنَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ يَمُوتُ، وَهُوَ شَامِلٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ. وَالَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيمَا اعْتَقَدُوا مِنْ جَعْلِ آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ، وَإِنْكَارِ النُّبُوَّاتِ، وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ. وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ فَكَذَّبُوا بِهِ وَكَذَبُوا فِي نِسْبَةِ أَشْيَاءَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُمْ كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، وَفِي قَوْلِهِمْ:
لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِمْ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ لِيُبَيِّنَ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، أَيْ: لِيُظْهِرَ لَهُمُ اخْتِلَافَهُمْ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ مِنْ قَبْلِ بَعْثِ ذَلِكَ الرَّسُولِ، كَاذِبُونَ فِي رَدِّ مَا يَجِيءُ بِهِ الرُّسُلُ.
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ: لَمَّا تَقَدَّمَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ وَأَكَّدُوا ذَلِكَ بِالْحَلِفِ بِاللَّهِ الَّذِي أَوَجَدَهُمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: بَلى «١» وَذَكَرَ حَقِّيَّةَ وَعْدِهِ بِذَلِكَ، أَوْضَحَ أَنَّهُ تَعَالَى مَتَى تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِوُجُودِ شَيْءٍ أَوْجَدَهُ. وَقَدْ أَقَرُّوا بِأَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ هَذَا الْعَالَمِ سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ، وَأَنَّ إِيجَادَهُ ذَلِكَ لَمْ يُوقَفْ عَلَى سَبْقِ مَادَّةٍ وَلَا آلَةٍ، فَكَمَا قَدَرَ عَلَى الْإِيجَادِ ابْتِدَاءً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْ فَيَكُونُ فِي الْبَقَرَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ فِي لِشَيْءٍ وَفِي لَهُ لِلتَّبْلِيغِ، كَقَوْلِكَ: قُلْتُ لِزَيْدٍ قُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ لَامُ السَّبَبِ أَيْ: لِأَجْلِ إِيجَادِ شَيْءٍ، وَكَذَلِكَ لَهُ أَيْ لِأَجْلِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا فِي أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِئْنَافِ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُرَادِ، لَا إِلَى الْإِرَادَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُرَادَةَ الْمُكَوَّنَةَ فِي وُجُودِهَا اسْتِئْنَافٌ وَاسْتِقْبَالٌ، لَا فِي إِرَادَةِ ذَلِكَ، وَلَا فِي الْأَمْرِ بِهِ، لِأَنَّ ذَيْنَكَ قَدِيمَانِ. فَمِنْ أَجْلِ الْمُرَادِ عَبَّرَ بِإِذَا، وَنَقُولُ: وَأَمَّا قَوْلُهُ لِشَيْءٍ فَيَحْتَمِلُ وجهين:
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٧٢.
530
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ وُجُودُهُ حَتْمًا جَازَ أَنْ يُسَمَّى شَيْئًا وَهُوَ فِي حَالَةِ عَدَمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ لِشَيْءٍ تَنْبِيهٌ عَلَى الْأَمْثِلَةِ الَّتِي يَنْظُرُ فِيهَا، وَأَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا مَوْجُودًا كَانَ مُرَادًا، وَقِيلَ لَهُ: كُنْ فَكَانَ، فَصَارَ مِثَالًا لِمَا يَتَأَخَّرُ مِنَ الْأُمُورِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَفِي هَذَا مَخْلَصٌ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَعْدُومِ شَيْئًا انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ: إِذَا أَرَدْنَاهُ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ مُرَادٍ، وَلَكِنَّهُ أَتَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَأْنَفَةِ بِحَسْبِ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ تَجِيءُ وَتَظْهَرُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا ظَهَرَ الْمُرَادُ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَخْرُجُ قَوْلُهُ: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ «١» وَقَوْلُهُ: لِيَعْلَمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَنَحْوُ هَذَا مَعْنَاهُ يَقَعُ مِنْكُمْ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ وَعَلِمَهُ، وَقَوْلُهُ: أَنْ نَقُولَ، يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قَالَ قَوْلُنَا، وَلَكِنَّ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ تُعْطِي اسْتِئْنَافًا لَيْسَ في الصدر فِي أَغْلَبِ أَمْرِهَا، وَقَدْ تَجِيءُ فِي مَوَاضِعَ لَا يُلْحَظُ فِيهَا الزَّمَنُ كَهَذِهِ الْآيَةِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ «٢» وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَلَكِنَّ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ يَعْنِي الْمُضَارِعَ، وَقَوْلُهُ: فِي أَغْلَبِ أَمْرِهَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدْ تَجِيءُ إِلَى آخِرِهِ، فَلَمْ يُفْهَمْ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ أَنْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ نِسْبَةِ قِيَامِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِأَمْرِ اللَّهِ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي فِي حَقِّهِ تَعَالَى.
ونظيره كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً «٣» فَكَانَ تَدُلُّ عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَنِ الْمَاضِي، وَهُوَ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِهَذَا الْوَصْفِ مَاضِيًا وَحَالًا وَمُسْتَقْبَلًا، وَتَقْيِيدُ الْفِعْلِ بِالزَّمَنِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَنِ. وَالَّذِينَ هَاجَرُوا قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي مُهَاجِرِي أَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ: فِي أَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي صُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ، وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وَأَضْرَابِهِمْ عَذَّبَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ، فَبَوَّأَهُمُ اللَّهُ الْمَدِينَةَ. وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي السَّبَبِ يَتَنَزَّلُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَا ذَكَرَ اللَّهُ كُفَّارَ مَكَّةَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ مَنْ يَمُوتُ، وَرَدَّ عَلَى قَوْلِهِمْ ذَكَرَ مُؤْمِنِي مَكَّةَ الْمُعَاصِرِينَ لَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي سَبَبِ الْآيَةِ، لِأَنَّ هِجْرَةَ الْمَدِينَةِ مَا كَانَتْ إِلَّا بَعْدَ وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ انْتَهَى. وَالَّذِينَ هَاجَرُوا، عُمُومٌ فِي الْمُهَاجِرِينَ كَائِنًا مَا كَانُوا، فَيَشْمَلُ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ. وَقَرَأَ الجمهور: لنبوأنهم، وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُ حَسَنَةٍ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ أَيْ: تَبْوِئَةً حَسَنَةً. وَقِيلَ: انْتِصَابُ حَسَنَةٍ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، لِأَنَّ مَعْنَى لنبوأنهم
(١) سورة التوبة: ٩/ ١٠٥.
(٢) سورة الروم: ٣٠/ ٢٥.
(٣) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٢٧.
531
فِي الدُّنْيَا لَنُحْسِنَنَّ إِلَيْهِمْ، فَحَسَنَةٌ فِي مَعْنَى إِحْسَانًا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: حَسَنَةً مفعول ثان لنبوأنهم، لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَنُعْطِيَنَّهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ أي: دار حَسَنَةً انْتَهَى. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ: دَارًا حَسَنَةً وَهِيَ الْمَدِينَةُ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ مَنْزِلَةً حَسَنَةً، وَهِيَ الْغَلَبَةُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَعَلَى الْعَرَبِ قَاطِبَةً، وَعَلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرِّزْقُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النَّصْرُ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَقِيلَ: مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ فُتُوحِ الْبِلَادِ وَصَارَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ. وَقِيلَ: مَا بَقِيَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الثَّنَاءِ، وَمَا صَارَ فِيهَا لِأَوْلَادِهِمْ مِنَ الشَّرَفِ. وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَحْسَنٌ نَالَهُ الْمُهَاجِرُونَ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَنُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ، وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ: لَنُثْوِيَنَّهُمْ بِالثَّاء الْمُثَلَّثَةِ
، مُضَارِعُ أَثْوَى الْمَنْقُولُ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ مَنْ ثَوَى بِالْمَكَانِ أَقَامَ فِيهِ، وَانْتَصَبَ حَسَنَةً عَلَى تَقْدِيرِ إثواءة حَسَنَةً، أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: فِي حَسَنَةً، أي: دار حَسَنَةً، أَوْ مَنْزِلَةً حَسَنَةً. وَدَلَّ هَذَا الْإِخْبَارُ بِالْمُؤَكَّدِ بِالْقَسَمِ عَلَى عَظِيمِ مَحَلِّ الْهِجْرَةِ، لِأَنَّهُ بِسَبَبِهَا ظَهَرَتْ قُوَّةُ الْإِسْلَامِ كَمَا أَنَّ بِنُصْرَةِ الْأَنْصَارِ قَوِيَتْ شَوْكَتُهُ. وَفِي اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى إِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمَنْ هَاجَرَ لِغَيْرِ اللَّهِ هِجْرَتُهُ لِمَا هَاجَرَ إِلَيْهِ. وَفِي الْإِخْبَارِ عَنْ الَّذِينَ بِجُمْلَةِ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفَةِ الدَّالِّ عَلَيْهَا الْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ وُقُوعِ الْجُمْلَةِ الْقَسَمِيَّةِ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، خِلَافًا لِثَعْلَبٍ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لنبوأنهم، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يُفَسِّرُ إِلَّا مَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ. وَلَا يَجُوزُ زَيْدًا لَأَضْرِبَنَّ، فَلَا يَجُوزُ زَيْدًا لَأَضْرِبَنَّهُ.
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَعْطَى رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَطَاءَهُ قَالَ: خُذْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِ، هَذَا مَا وَعَدَكَ فِي الدُّنْيَا وَمَا ادَّخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَكْثَرَ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَيْ: وَلَأَجْرُ الدَّارِ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ، أَيْ: أَكْبَرُ أَنْ يَعْلَمَهُ أَحَدٌ قَبْلَ مُشَاهَدَتِهِ كَمَا قَالَ: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا.
وَالضَّمِيرُ فِي يَعْلَمُونَ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ أَيْ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَيْدِيهِمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ لَرَغِبُوا فِي دِينِهِمْ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَزَادُوا فِي اجْتِهَادِهِمْ وَصَبْرِهِمْ، وَالَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى تَقْدِيرِهِمُ الَّذِينَ، أَوْ أَعْنِي الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى الْعَذَابِ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ، لَا سِيَّمَا حَرَمُ اللَّهِ الْمَحْبُوبَ لِكُلِّ قَلْبٍ مُؤْمِنٍ، فَكَيْفَ لِمَنْ كَانَ مَسْقَطَ رَأْسِهِ؟ وَعَلَى بَذْلِ الرُّوحِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَاحْتِمَالِ الْغُرْبَةِ فِي دَارٍ لَمْ يَنْشَأْ بِهَا، وَنَاسٍ لَمْ يَأْلَفْهُمْ أَجَانِبَ حَتَّى فِي النَّسَبِ.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ
532
مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ
نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا، فَهَلَّا بَعَثَ إِلَيْنَا مَلَكًا؟ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي آخِرِ يُوسُفَ، وَالْمَعْنَى:
نُوحِي إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُوحَى بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ:
بِالْيَاءِ وَكَسْرِهَا وَعَبْدُ اللَّهِ، وَالسُّلَمِيُّ، وَطَلْحَةُ، وَحَفْصٌ: بِالنُّونِ وَكَسْرِهَا. وَأَهْلُ الذِّكْرِ:
الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: الْيَهُودُ.
وَالذِّكْرُ: التَّوْرَاةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ «١» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَسَلْمَانَ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَامٌّ فِيمَنْ يُعْزَى إِلَيْهِ عِلْمٌ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ زَيْدٍ: أَهْلُ الْقُرْآنِ. وَيُضَعَّفُ هَذَا الْقَوْلِ وَقَوْلِ مَنْ قَالَ: مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ عَلَى الْكُفَّارِ فِي إِخْبَارِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا، وَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ النَّازِلَةِ، إِنَّمَا يُخْبِرُونَ مِنَ الرُّسُلِ عَنِ الْبَشَرِ، وَإِخْبَارُهُمْ حُجَّةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُصَدِّقِينَ لَهُمْ، وَلَا يُتَّهَمُونَ بِشَهَادَةٍ لَهُمْ لَنَا، لِأَنَّهُمْ مُدَافِعُونَ فِي صَدْرِ مِلَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا هُوَ كَسْرُ حُجَّتِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ، لا أنا افْتَقَرْنَا إِلَى شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ، بَلِ الْحَقُّ وَاضِحٌ فِي نَفْسِهِ. وَقَدْ أَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى يَهُودِ يَثْرِبَ يَسْأَلُونَهُمْ وَيُسْدُونَ إِلَيْهِمْ انْتَهَى.
وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ: بِالْبَيِّنَاتِ، بِمُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ أُرْسِلُوا؟ قَالَ:
أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، فَيَكُونُ عَلَى كَلَامَيْنِ، وَقَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا.
وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا، وَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّيَّةَ فِيهِ التَّقْدِيمُ قَبْلَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلَّا رِجَالًا حَتَّى لَا يَكُونَ مَا بَعْدَ إِلَّا مَعْمُولَيْنِ مُتَأَخِّرِينَ لَفْظًا وَرُتْبَةً، دَاخِلَيْنَ تَحْتَ الْحَصْرِ لِمَا قَبْلَهَا، وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ فِرْقَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُنْوَى بِهِ التَّقْدِيمُ، بَلْ وَقَعَا بَعْدَ إِلَّا فِي نِيَّةِ الْحَصْرِ، وَهَذَا قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَدَأَ بِهِ قَالَ: تَتَعَلَّقُ بِمَا أَرْسَلْنَا دَاخِلًا تَحْتَ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ رِجَالًا أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَّا رِجَالًا بِالْبَيِّنَاتِ، كَقَوْلِكَ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا بِالسَّوْطِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ ضَرَبْتُ زَيْدًا بِالسَّوْطِ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَفِيهِ ضَعْفٌ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ إِلَّا لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهَا إِذَا تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى إِلَّا وَمَا يَلِيهَا، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٠٥.
533
لَيْتَهُمْ عَذَّبُوا بِالنَّارِ جَارَهُمْ وَلَا يُعَذِّبُ إِلَّا اللَّهُ بِالنَّارِ
انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ إِلَّا، إِلَّا مُسْتَثْنًى، أَوْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ، أَوْ تَابِعًا، وَمَا ظَنَّ مِنْ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ مَعْمُولًا لِمَا قَبْلَ إِلَّا قُدِّرَ لَهُ عَامِلٌ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ أَنْ تَقَعَ مَعْمُولًا لِمَا قَبْلَهَا مَنْصُوبٌ نَحْوِ: مَا ضَرَبَ إِلَّا زَيْدٌ عَمْرًا، وَمَخْفُوضٌ نَحْوَ: مَا مَرَّ إِلَّا زَيْدٌ بِعَمْرٍو، وَمَرْفُوعٌ نَحْوِ: مَا ضَرَبَ إِلَّا زَيْدًا عَمْرٌو. وَوَافَقَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَرْفُوعِ، وَالْأَخْفَشُ فِي الظَّرْفِ وَالْجَارِّ وَالْحَالِ. فَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ يَتَمَشَّى عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِرِجَالٍ أَيْ:
رِجَالًا مُلْتَبِسِينَ بِالْبَيِّنَاتِ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَهَذَا وَجْهٌ سَائِغٌ، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ صِفَةٍ لِمَا بَعْدَ:
إِلَّا، فَوُصِفَ رِجَالًا بِيُوحَى إِلَيْهِمْ، وَبِذَلِكَ الْعَامِلِ فِي بِالْبَيِّنَاتِ كَمَا تَقُولُ: مَا أَكْرَمْتُ إِلَّا رَجُلًا مُسْلِمًا مُلْتَبِسًا بِالْخَيْرِ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِيُوحَى إِلَيْهِمْ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِلَا يَعْلَمُونَ. قَالَ:
عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي مَعْنَى التَّبْكِيتِ وَالْإِلْزَامِ كَقَوْلِ الْأَجِيرِ: إِنْ كُنْتَ عَمِلْتُ لَكَ فَأَعْطِنِي حَقِّي، وَقَوْلُهُ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ، اعْتِرَاضٌ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَعْنِي: مِنَ الَّتِي ذَكَرَ غَيْرَ الْوَجْهِ الْأَخِيرِ. وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ لَهُ ذِكْرٌ لِأَنَّهُ مَوْعِظَةٌ وَتَنْبِيهٌ لِلْغَافِلِينَ.
وَقِيلَ: الذِّكْرُ الْعِلْمُ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُشْكِلِ وَالْمُتَشَابِهِ، لِأَنَّ النَّصَّ وَالظَّاهِرَ لَا يَحْتَاجَانِ إِلَى بَيَانٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِمَّا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ، وَوُعِدُوا وَأُوعِدُوا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِتُبَيِّنَ بِسَرْدِكَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لِتُبَيِّنَ بِتَفْسِيرِكَ الْمُجْمَلِ وَشَرْحِكَ مَا أُشْكِلَ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَا تُبَيِّنُهُ السُّنَّةُ مِنْ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ انْتَهَى. وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَيْ: وَإِرَادَةُ أَنْ يُصْغُوا إِلَى تَنْبِيهَاتِهِ فَيَتَنَبَّهُوا وَيَتَأَمَّلُوا، وَالسَّيِّئَاتُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: الْمَكْرَاتِ السَّيِّئَاتِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ مَفْعُولٌ يمكروا عَلَى تَضْمِينِ مَكَرُوا مَعْنَى فَعَلُوا وَعَمِلُوا، وَالسَّيِّئَاتُ عَلَى هَذَا مَعَاصِي الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ مَفْعُولٌ بِأَمِنَ وَيَعْنِي بِهِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَسُوءُهُمْ ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَطِيَّةَ. وَعَلَى هَذَا الْأَخِيرِ يَكُونُ أَنْ يَخْسِفَ بَدَلًا مِنَ السَّيِّئَاتِ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ، قَبْلَهُ مَفْعُولٌ بِأَمِنَ، وَالَّذِينَ مَكَرُوا فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ مَكَرُوا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ نُمْرُودٌ، وَالْخَسْفُ بَلْعُ الْأَرْضِ الْمَخْسُوفِ بِهِ وَقُعُودُهَا بِهِ إِلَى أَسْفَلَ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّهُ وَقَعَ الْخَسْفُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهِمُ الْأَرْضَ كَمَا فُعِلَ بِقَارُونَ، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ أَخْلَاطًا مِنْ بِلَادِ الرُّومِ خُسِفَ بِهَا، وَحِينَ أَحَسَّ أَهْلُهَا بِذَلِكَ فَرَّ أَكْثَرُهُمْ، وَأَنَّ بَعْضَ التُّجَّارِ مِمَّنْ كَانَ يَرِدُ إِلَيْهَا رَأَى ذَلِكَ مِنْ بَعِيدٍ فَرَجَعَ بِتِجَارَتِهِ. مِنْ حَيْثُ
534
لَا يَشْعُرُونَ: مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي لَا شُعُورَ لَهُمْ بِمَجِيءِ الْعَذَابِ مِنْهَا، كَمَا فُعِلَ بِقَوْمِ لُوطٍ فِي تَقَلُّبِهِمْ فِي أَسْفَارِهِمْ قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ فِي مَنَامِهِمْ رُوِيَ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمُقَاتِلٌ: فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ أَيْ: حَالَةَ ذَهَابِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ فِيهِمَا.
وَقِيلَ: فِي تَقَلُّبِهِمْ فِي مَكْرِهِمْ وَحِيَلِهِمْ، فَيَأْخُذُهُمْ قَبْلَ تَمَامِ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَمِيعُ مَا يَتَقَلَّبُونَ فِيهِ، فَمَا هُمْ بِسَابِقِينَ اللَّهَ وَلَا فَائِتِيهِ. وَالْأَخْذُ هُنَا الْإِهْلَاكُ كَقَوْلِهِ: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «١» وعلى تَخَوُّفٍ عَلَى تَنَقُّصٍ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ خَوَّفْتُهُ وَتَخَوَّفْتُهُ إِذَا تَنَقَّصْتُهُ وَأَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ وَجِسْمِهِ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: هُوَ النَّقْصُ بِلُغَةِ أَزْدِشَنُوءَةَ. وَفِي حَدِيثٍ لِعُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ التَّخَوُّفِ، فَأَجَابَهُ شَيْخٌ: بِأَنَّهُ التَّنَقُّصُ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ. وَأَنْشَدَهُ قَوْلِ أَبِي كَثِيرٍ الْهُذَلِيِّ:
تَخَوَّفَ الرجل مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا كَمَا تخوف عود النبعة السقر
وَهَذَا التَّخَوُّفُ بِمَعْنَى التَّنَقُّصِ، قِيلَ: مِنْ أَعْمَالِهِ، وَقِيلَ: يَأْخُذُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَرُوِيَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُنْقِصُ ثِمَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ حَتَّى يُهْلِكَهُمْ. وَقِيلَ: عَلَى تَخَوُّفٍ، عَلَى خَوْفِ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ أَوْ يَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى تَخَوُّفٍ مُتَخَوِّفِينَ، وَهُوَ أَنْ يُهْلِكَ قَوْمًا قَبْلَهُمْ فَيَتَخَوَّفُوا، فَيَأْخُذَهُمْ بِالْعَذَابِ وَهُمْ مُتَخَوِّفُونَ مُتَوَقِّعُونَ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ انْتَهَى. وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ، يَأْخُذُ قَرْيَةً فَتَخَافُ الْقَرْيَةُ الْأُخْرَى. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: عَلَى تَخَوُّفٍ ضِدُّ الْبَغْتَةِ أَيْ: عَلَى حُدُوثِ حَالَاتٍ يُخَافُ مِنْهَا كَالرِّيَاحِ وَالزَّلَازِل وَالصَّوَاعِقِ، وَلِهَذَا خَتَمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمْ لرؤوف رَحِيمٌ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُهْلَةً وَامْتِدَادَ وَقْتٍ، فَيُمْكِنُ فِيهِ التَّلَافِي. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: عَلَى تَخَوُّفٍ عَلَى عَجَلٍ. وَقِيلَ: عَلَى تَقْرِيعٍ بِمَا قَدَّمُوهُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ وَلَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِهَا نَاسَبَ وَصْفَهُ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ.
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قُدْرَتَهُ عَلَى تَعْذِيبِ الْمَاكِرِينَ وَإِهْلَاكِهِمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْأَخْذِ، ذَكَرَ تَعَالَى طَوَاعِيَةَ مَا خَلَقَ مِنْ غَيْرِهِمْ وَخُضُوعَهُ ضِدَّ حَالِ الْمَاكِرِينَ، لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا طائعين
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٤٠.
535
مُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، والأعرج، والأخوان: أو لم تَرَوْا، بِتَاءِ الْخِطَابِ إِمَّا عَلَى الْعُمُومِ لِلْخَلْقِ اسْتُؤْنِفَ بِهِ الْإِخْبَارُ، وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى: قُلْ لَهُمْ إِذَا كَانَ خِطَابًا خَاصًّا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَاحْتَمَلَ أَيْضًا أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الذين مَكَرُوا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَعِيسَى، وَيَعْقُوبُ: تتفيئوا بالتاء على لتأنيث، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ظِلَالُهُ جَمْعُ ظِلٍّ.
وَقَرَأَ عِيسَى: ظُلَلُهُ جَمْعُ ظُلَّةٍ، كَحُلَّةٍ وَحُلَلٍ. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا رُؤْيَةُ الْقَلْبِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الِاعْتِبَارُ، وَلَكِنَّهَا بِوَاسِطَةِ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ. قِيلَ: وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبَ وَالتَّقْدِيرُ: تَعَجَّبُوا مِنِ اتِّخَاذِهِمْ مَعَ اللَّهِ شَرِيكًا وَقَدْ رَأَوْا هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ الَّتِي أَظْهَرَتْ عَجَائِبَ قُدْرَتِهِ وَغَرَائِبَ صُنْعِهِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ آلِهَتَهُمُ الَّتِي اتخذوها شركاء لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ الْبَتَّةَ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: تَتَفَيَّئُوا، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَنْ شَيْءٍ لَفْظٌ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا اقْتَضَتْهُ الصِّفَةُ في قوله: تتفيؤ ظِلَالُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ لِمَا عُرِضَ لِلْعِبْرَةِ فِي جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ الَّتِي لَهَا ظِلٌّ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا مَوْصُولَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ وَهُوَ مُبْهَمٌ بَيَانُهُ مِنْ شَيْءٍ تتفيؤ ظِلَالُهُ، وَقَالَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ: الْمَعْنَى مِنْ شَيْءٍ لَهُ ظِلٌّ مِنْ جَبَلٍ وَشَجَرٍ وَبِنَاءٍ وَجِسْمٍ قَائِمٍ، وَقَوْلُهُ: تتفيؤ ظِلَالُهُ، إِخْبَارٌ عَنْ قَوْلِهِ مِنْ شَيْءٍ وَصْفٌ لَهُ، وَهَذَا الْإِخْبَار يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هو له ظل. وتتفيؤ تتفعل مِنَ الْفَيْءِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ يُقَالُ: فَاءَ الظِّلُّ يَفِيءُ فيأرجع، وعاد بعد ما نَسَخَهُ ضِيَاءُ الشَّمْسِ. وَفَاءَ إِذَا عُدِّيَ فَبِالْهَمْزَةِ كَقَوْلِهِ: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ «١» أَوْ بِالتَّضْعِيفِ نَحْوَ: فَيَّأَ اللَّهُ الظِّلَّ فَتَفَيَّأَ، وَتَفَيَّأَ مِنْ بَابِ الْمُطَاوَعَةِ، وَهُوَ لَازِمٌ وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ أَبُو تَمَّامٍ مُتَعَدِّيًا قَالَ:
طَلَبْتُ رَبِيعَ رَبِيعَةَ الْمُمْهَى لها وتفيأت ظلالها مَمْدُودًا
وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى نَقْلِهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مُتَعَدِّيًا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: تَفَيُّؤُ الظِّلَالِ رُجُوعُهَا بَعْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، فَالتَّفَيُّؤُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْعَشِيِّ وَمَا انْصَرَفَتْ عَنْهُ الشَّمْسُ، وَالظِّلُّ مَا يَكُونُ بِالْغَدَاةِ وَهُوَ مَا لَمْ تَنَلْهُ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَا الظِّلَّ مِنْ بَرْدَ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ وَلَا الْفَيْءَ مَنْ بَرْدِ الْعَشِيِّ تَذُوقُ
(١) سورة الحشر: ٥٩/ ٧.
536
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
تَيَمَّمَتِ الْعَيْنُ الَّتِي عِنْد ضَارِجٍ يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طام
وَعَنْ رُؤْبَةَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَزَالَتْ عَنْهُ فَهُوَ فَيْءٌ وَظِلٌّ مَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ فَهُوَ ظِلٌّ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّمْسَ مِنْ طُلُوعِهَا إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ تَنْسَخُ الظِّلَّ، فَإِذَا زَالَتْ رَجَعَ، وَلَا يَزَالُ يَنْمُو إِلَى أَنْ تَغِيبَ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْفَيْءُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَالِاعْتِبَارُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى آخِرِهِ. فَمَعْنَى تَتَفَيَّؤُ تَتَنَقَّلُ وَتَمِيلُ، وَأَضَافَ الظِّلَالَ وَهِيَ جَمْعٌ إِلَى ضَمِيرٍ مُفْرَدٍ، لِأَنَّهُ ضَمِيرُ مَا، وَهُوَ جَمْعٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ «١» وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فِي قِرَاءَةِ عِيسَى ظُلَلُهُ، وَظِلُّهُ الْغَيْمُ وَهُوَ جِسْمٌ، وَبِالْكَسْرِ الْفَيْءُ وَهُوَ عَرَضٌ فِي الْعَامَّةِ: فَرَأَى عِيسَى أَنَّ التَّفَيُّؤَ الَّذِي هُوَ الرُّجُوعُ بِالْأَجْسَامِ أَوْلَى، وَأَمَّا فِي الْعَامَّةِ فَعَلَى الِاسْتِعَارَةِ انْتَهَى.
قَالُوا فِي قَوْلِهِ: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ، بَحْثَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ. وَالثَّانِي:
مَا الْحِكْمَةُ فِي إِفْرَادِ الْيَمِينِ وَجَمْعِ الشَّمَائِلِ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالُوا: يَمِينُ الْفَلَكِ وَهُوَ الْمَشْرِقُ.
وَشِمَالُهُ هُوَ الْمَغْرِبُ. وَخَصَّ هَذَانِ الِاسْمَانِ بِهَذَيْنِ الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّ أَقْوَى جَانِبَيِ الْإِنْسَانِ يَمِينُهُ، وَمِنْهُ تَظْهَرُ الْحَرَكَةُ الْفَلَكِيَّةُ الْيَوْمِيَّةُ آخِذَةً مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، لَا جَرَمَ كَانَ الْمَشْرِقُ يَمِينَ الْفَلَكِ وَالْمَغْرِبُ شِمَالَهُ، فَعَلَى هَذَا تَقُولُ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا إِلَى وَقْتِ انْتِهَائِهَا إِلَى وَسَطِ الْفَلَكِ يَقَعُ الظِّلَالُ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَإِنِ انْحَدَرَتْ مِنْ وَسَطِ الْفَلَكِ عَنِ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَقَعَتِ الظِّلَالُ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَهَذَا الْمُرَادُ مِنْ تَفَيُّؤِ الظِّلَالِ من اليمين إلى الشمال. وَقِيلَ: الْبَلْدَةُ الَّتِي عَرْضُهَا أَقَلُّ مِنْ مِقْدَارِ الْمِيلِ تَكُونُ الشَّمْسُ فِي الصَّيْفِ عَنْ يَمِينِ الْبَلْدَةِ فَتَقَعُ الظِّلَالُ عَلَى يَمِينِهِمْ. وَقَالَ الزمخشري: المعنى أَوْ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرَامِ الَّتِي لَهَا ظِلَالٌ مُتَفَيِّئَةٌ عَنْ أَيْمَانِهَا وَشَمَائِلِهَا عَنْ جَانِبَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَشِقَّيْهِ، اسْتِعَارَةٌ مِنْ يَمِينِ الْإِنْسَانِ وَشِمَالِهِ بِجَانِبَيِ الشَّيْءِ أَيْ: تَرْجِعُ الظِّلَالُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَقْصُودُ الْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هُوَ كُلُّ جِرْمٍ لَهُ ظِلٌّ كَالْجِبَالِ وَالشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالَّذِي يَتَرَتَّبُ فِيهِ أَيْمَانٌ وَشَمَائِلُ إِنَّمَا هُوَ الْبَشَرُ فَقَطْ، لَكِنَّ ذِكْرَ الْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ هُنَا عَلَى حَسْبِ الِاسْتِعَارَةِ لِغَيْرِ اللَّبْسِ تُقَدِّرُهُ: ذَا يَمِينِ وَشِمَالٍ، وَتُقَدِّرُهُ:
بِمُسْتَقْبِلِ أَيِّ جِهَةٍ شِئْتَ، ثُمَّ تَنْظُرُ ظِلَّهُ فَتَرَاهُ يَمِيلُ إِمَّا إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ وَإِمَّا إِلَى جِهَةِ
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ١٣.
537
الشِّمَالِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ أَقْطَارِ الدُّنْيَا، فَهَذَا يَعُمُّ أَلْفَاظَ الْآيَةِ. وَفِيهِ تَجَوُّزٌ وَاتِّسَاعٌ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْيَمِينَ مِنْ غُدْوَةِ الزَّوَالِ، وَيَكُونُ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْمَغِيبِ عَنِ الشِّمَالِ، وَهُوَ قَوْلِ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، فَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ فِيمَا قَدَّرَهُ مُسْتَقْبِلَ الْجَنُوبِ انْتَهَى. وَأَمَّا الثَّانِي فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَالْيَمِينُ بِمَعْنَى الْأَيْمَانِ، فَجَعَلَهُ وَهُوَ مُفْرَدٌ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، فَطَابَقَ الشَّمَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «١» يُرِيدُ الْإِدْبَارَ. وَقَالَ الفراء: كأنه إذا وجد ذَهَبَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ ذَوَاتِ الظِّلَالِ، وَإِذَا جَمَعَ ذَهَبَ إِلَى كُلِّهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، لفظه وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ، فَعَبَّرَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِلَفْظِ الْوَاحِدِ لِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «٢» وَقَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ «٣» وَقِيلَ: إِذَا فَسَّرْنَا الْيَمِينَ بِالْمَشْرِقِ، كَانَتِ النُّقْطَةُ الَّتِي هِيَ مَشْرِقُ الشَّمْسِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، فَكَانَتِ الْيَمِينُ وَاحِدَةً. وَأَمَّا الشَّمَائِلُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْحِرَافَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي تِلْكَ الظِّلَالِ بَعْدَ وُقُوعِهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ، فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالشَّمَائِلِ الشِّمَالُ وَالْقُدَّامُ وَالْخَلْفُ، لِأَنَّ الظِّلَّ يَفِيءُ من الجهات كلها فبدىء بِالْيَمِينِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ التَّفَيُّؤِ مِنْهَا، أَوْ تَيَمُّنًا بِذِكْرِهَا، ثُمَّ جَمَعَ الْبَاقِيَ عَلَى لَفْظِ الشِّمَالِ لِمَا بَيْنَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ مِنَ التَّضَادِّ، وَتَنَزُّلُ الْقُدَّامُ وَالْخَلْفُ مَنْزِلَةَ الشِّمَالِ لِمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْيَمِينِ مِنَ الْخِلَافِ. وَقِيلَ: وَحَّدَ الْيَمِينَ وَجَمَعَ الشَّمَائِلَ، لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ عَنِ الْيَمِينِ، ثُمَّ يَنْقَبِضُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، فَصَدَقَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَفْظَةُ الشِّمَالِ، فَتَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِ الْحَالَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الْيَمِينَ أَوَّلُ وَقْعَةٍ لِلظِّلِّ بَعْدَ الزَّوَالِ، ثُمَّ الْآخِرُ إِلَى الْغُرُوبِ هِيَ عَنِ الشَّمَائِلِ، وَأَفْرَدَ الْيَمِينَ فَتَخْلِيطٌ مِنَ الْقَوْلِ وَمُبْطَلٌ مِنْ جِهَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا صَلَّيْتَ الْفَجْرَ كَانَ مَا بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا ظِلًّا، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّمْسَ دَلِيلًا فَقَبَضَ إِلَيْهِ الظِّلَّ، فَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَ دَوْرَةَ الشَّمْسِ بِالظِّلِّ عَنْ يَمِينِ مُسْتَقْبَلِ الْجَنُوبِ، ثُمَّ يَبْدَأُ الانحراف فهو عن الشَّمَائِلِ، لِأَنَّهُ حَرَكَاتٌ كَثِيرَةٌ وَظِلَالٌ مُنْقَطِعَةٌ، فَهِيَ شَمَائِلُ كَثِيرَةٌ، فَكَانَ الظِّلُّ عَنِ الْيَمِينِ مُتَّصِلًا وَاحِدًا عَامًّا لِكُلِّ شَيْءٍ انْتَهَى. وَقَالَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْكُتَامِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّائِغِ: أَفْرَدَ وَجَمَعَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْغَايَتَيْنِ، لِأَنَّ ظِلَّ الْغَدَاةِ يَضْمَحِلُّ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا الْيَسِيرُ فَكَأَنَّهُ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ بِالْعَشِيِّ عَلَى الْعَكْسِ لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ، فَلُحِظَتِ الْغَايَتَانِ فِي الْآيَةِ: هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَفِيهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ
(١) سورة القمر: ٥٤/ ٤٥.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٧.
538
الْمُطَابَقَةُ، لِأَنَّ سُجَّدًا جَمْعٌ فَطَابَقَهُ جَمْعُ الشَّمَائِلِ لِاتِّصَالِهِ بِهِ، فَحَصَلَ فِي الْآيَةِ مُطَابَقَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى، وَلَحْظُهُمَا مَعًا وَتِلْكَ الْغَايَةُ فِي الْإِعْجَازِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الظِّلَالِ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ وَقَعَ كَلَامُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَقَالُوا: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَنْتَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقِبْلَةِ كَانَ الظِّلُّ قُدَّامَكَ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ كَانَ عَلَى يَمِينِكَ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ خَلْفَكَ فَإِذَا أرادت الْغُرُوبَ كَانَ عَلَى يَسَارِكَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الظِّلَالُ هُنَا الْأَشْخَاصُ وَهِيَ الْمُرَادَةُ نَفْسُهَا، وَالْعَرَبُ تُخْبِرُ أَحْيَانًا عَنِ الْأَشْخَاصِ بِالظِّلَالِ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدَةَ بْنِ الطَّبِيبِ:
إِذَا نَزَلْنَا نَصَبْنَا ظِلَّ أَخْبِيَةٍ وَفَارَ لِلْقَوْمِ بِاللَّحْمِ الْمَرَاجِيلُ
وَإِنَّمَا تُنْصَبُ الْأَخْبِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَتْبَعُ أَفْيَاءَ الظِّلَالِ عَشِيَّةً أَيْ: أَفْيَاءَ الْأَشْخَاصِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ غَيْرُ صَرِيحٍ، وَإِنْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ قَرَّرَهُ انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ السُّجُودَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الِانْقِيَادِ، وَجَرَيَانِهَا عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ مَيَلَانِ تِلْكَ الظِّلَالِ وَدَوَرَانِهَا كَمَا يُقَالُ لِلْمُشِيرِ بِرَأْسِهِ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى جِهَةِ الْخُضُوعِ: سَاجِدٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُجَّدًا حَالٌ مِنَ الظِّلَالِ، وَهُمْ دَاخِرُونَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي ظِلَالُهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهُوَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ لَهُ ظِلٌّ. وَجُمِعَ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الدُّخُورَ مِنْ أَوْصَافِ الْعُقَلَاءِ، أَوْ لِأَنَّ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ مَنْ يَعْقِلُ فَغُلِّبَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الظِّلَالَ مُنْقَادَةٌ لِلَّهِ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ عَلَيْهِ فِيمَا سَخَّرَهَا لَهُ مِنَ التَّفَيُّؤِ وَالْإِجْرَامِ في أنفسها. ذاخرة أَيْضًا صَاغِرَةٌ مُنْقَادَةٌ لِأَفْعَالِ اللَّهِ فِيهَا لَا تَمْتَنِعُ انْتَهَى. فَغَايَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، جَعَلَ سُجَّدًا حَالًا من الظلال، ووهم دَاخِرُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي سُجَّدًا، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا ثَانِيَةً مِنَ الظِّلَالِ كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ رَاكِبًا وَهُوَ ضَاحِكٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَهُوَ ضَاحِكٌ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي رَاكِبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ زَيْدٍ، وَهَذَا الثَّانِي عِنْدِي أَظْهَرُ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالَيْنِ هُوَ تَتَفَيَّؤُ، وعن مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَقِيلَ: عَنِ اسْمِ أَيْ: جَانِبِ الْيَمِينِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِ. وَأَمَّا مَا أَجَازَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ دَاخِرُونَ، حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي ظِلَالِهِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ لَا يَجُوزُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ جَاءَنِي غُلَامُ هِنْدٍ ضَاحِكَةً، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ جُزْءًا أَوْ كَالْجُزْءِ جَازَ، وَقَدْ يُخْبِرُ هُنَا وَيَقُولُ: الظِّلَالُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ جُزْءًا مِنَ الْأَجْرَامِ فَهِيَ كَالْجُزْءِ، لأن وجودها ناشىء عَنْ
539
وُجُودِهَا. وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ إِلَى أَنَّ السُّجُودَ هُنَا حَقِيقَةٌ. قَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَجَدَ كُلُّ شَيْءٍ قَبْلَ الْقِبْلَةِ مِنْ نَبْتٍ وَشَجَرٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّالِحُونَ يَسْتَحِبُّونَ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا تَسْجُدُ الظِّلَالُ دُونَ الْأَشْخَاصِ، وَعَنْهُ أَيْضًا إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَجَدَ كُلُّ شَيْءٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَمَّا ظِلُّكَ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَلَا تَسْجُدُ لَهُ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الظِّلَالُ مُلْصَقَةً بِالْأَرْضِ وَاقِعَةً عَلَيْهَا عَلَى هَيْئَةِ السَّاجِدِ وُصِفَتْ بِالسُّجُودِ، وَكَوْنُ السُّجُودِ يُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ وَهُوَ الْوُقُوعُ عَلَى الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْعِبَادَةِ وَقَصْدِهَا يَبْعُدُ، إِذْ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقَصْدَ بِالْعِبَادَةِ. وَخَصَّ الظِّلَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ سَرِيعُ التَّغَيُّرِ، وَالتَّغَيُّرُ يَقْتَضِي مُغَيِّرًا غَيْرَهُ وَمُدَبِّرًا لَهُ، وَلَمَّا كَانَ سُجُودُ الظِّلَالِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ بدىء بِهِ، ثُمَّ انْتُقِلَ إِلَى سجود ما في السموات والأرض. ومن دَابَّةٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَا فِي الظَّرْفَيْنِ، ويكون من في السموات خَلْقٌ يَدِبُّونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَا فِي الْأَرْضِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ كُلَّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ. وَعَطَفَ وَالْمَلَائِكَةُ عَلَى مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَهُمْ مُنْدَرِجُونَ فِي عُمُومِ مَا تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَكْرِيمًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْحَفَظَةُ الَّتِي فِي الْأَرْضِ، وَبِمَا في السموات مَلَائِكَتُهُنَّ، فَلَمْ يَدْخُلُوا فِي العموم. قيل: بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَةِ الظِّلَالِ أَنَّ الْجَمَادَاتِ بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ لِلَّهِ، بَيَّنَ أَنَّ أَشْرَفَ الْمَوْجُودَاتِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَخَسَّهَا وَهِيَ الدَّوَابُّ مُنْقَادَةٌ له تَعَالَى، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ مُنْقَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ:
الدَّابَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ حَيَوَانٍ جُسْمَانِيٍّ يَتَحَرَّكُ وَيَدِبُّ، فَلَمَّا مَيَّزَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَنِ الدَّابَّةِ، عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَدِبُّ، بَلْ هِيَ أَرْوَاحٌ مُخْتَصَّةٌ بِحَرَكَةٍ انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلٌ فَلْسَفِيٌّ. وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ وَغَيْرِهِمْ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِي السُّجُودِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ لِإِرَادَةِ اللَّهِ، جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي كَيْفِيَّةِ السُّجُودِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَهَلَّا جيء بمن دُونَ مَا تَغْلِيبًا لِلْعُقَلَاءِ مِنَ الدَّوَابِّ عَلَى غَيْرِهِمْ؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّهُ لَوْ جِيءَ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّغْلِيبِ، فَكَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْعُقَلَاءِ خَاصَّةً، فَجِيءَ بِمَا هُوَ صَالِحٌ لِلْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ إِرَادَةَ الْعُمُومِ انْتَهَى. وَظَاهِرُ السُّؤَالِ تَسْلِيمُ أَنَّ مَنْ قَدْ تَشْمَلُ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيبِ، وَظَاهِرُ الْجَوَابِ تَخْصِيصُ مَنْ بِالْعُقَلَاءِ، وَأَنَّ الصَّالِحَ لِلْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ مَا دُونَ مَنْ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَوَابٍ، لِأَنَّهُ أَوْرَدَ السُّؤَالَ عَلَى التَّسْلِيمِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْجَوَابَ عَلَى غَيْرِ التَّسْلِيمِ فَصَارَ الْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ يُغَلَّبُ بِهَا، وَالْجَوَابُ لَا يُغَلَّبُ بِهَا، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِجَوَابٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ:
يَخَافُونَ، عَائِدٌ عَلَى الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِمُ السُّجُودُ. فِي وَلِلَّهِ يَسْجُدُ، وَقَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ.
540
وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: يَخَافُونَ مِنْ صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ خَاصَّةً، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَالْمَلَائِكَةُ مَوْصُوفُونَ بِالْخَوْفِ، لِأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْعِصْيَانِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْصُونَ. وَالْفَوْقِيَّةُ الْمَكَانِيَّةُ مُسْتَحِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى، فَإِنْ علقته بيخافون كَانَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: يَخَافُونَ عَذَابَهُ كَائِنًا مِنْ فَوْقِهِمْ، لِأَنَّ الْعَذَابَ إِنَّمَا يَنْزِلُ مِنْ فَوْقُ، وَإِنْ عَلَّقْتَهُ بِرَبِّهِمْ كَانَ حَالًا مِنْهُ أَيْ: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ عَالِيًا لَهُمْ قَاهِرًا لِقَوْلِهِ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ «١» وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ «٢» وَفِي نِسْبَةِ الْخَوْفِ لِمَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ السُّجُودُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ خَاصَّةً دَلِيلٌ عَلَى تَكْلِيفِ الْمَلَائِكَةِ كَسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ، وَأَنَّهُمْ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ مُدَارُونَ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ «٣» وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ: إِنَّهُ إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ، فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: الْخَوْفُ خَوْفُ جَلَالٍ وَمَهَابَةٍ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ يَخَافُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي من لَا يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِنَفْيِ الِاسْتِكْبَارِ وَتَأْكِيدًا لَهُ، لِأَنَّ مَنْ خَافَ اللَّهَ لَمْ يَسْتَكْبِرْ عَنْ عِبَادَتِهِ. وَقَوْلِهِ: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَبِحَسْبِ الشَّرْعِ وَالطَّاعَةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنَ الْحَيَوَانِ فَبِالتَّسْخِيرِ وَالْقَدْرِ الَّذِي يَسُوقُهُمْ إِلَى مَا نَفَذَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥١ الى ٧٤]
وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧٤)
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٨. [.....]
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٢٧.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٨.
541
وَصَبَ الشَّيْءُ دَامَ، قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:
542
لَا أَبْتَغِي الْحَمْدَ الْقَلِيلَ بَقَاؤُهُ يَوْمًا بِذَمِّ الدَّهْرِ أَجْمَعَ وَاصِبًا
وَقَالَ حَسَّانُ:
غَيَّرَتْهُ الرِّيحُ يُسْفَى بِهِ وَهَزِيمُ رَعْدِهِ وَاصِبُ
وَالْعَلِيلُ وَصِيبٌ، لَكِنَّ الْمَرَضَ لَازِمٌ لَهُ. وَقِيلَ: الْوَصَبُ التَّعَبُ، وَصَبَ الشَّيْءُ شُقَّ، وَمَفَازَةٌ وَاصِبَةٌ بَعِيدَةٌ لَا غَايَةَ لها. الجوار: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ، وَقَالَ الْأَعْشَى يَصِفُ رَاهِبًا:
يُدَاوِمُ من صلوات المليك طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارًا وَيُرْوَى: يُرَاوِحُ. دَسَّ الشَّيْءَ فِي الشَّيْءِ أَخْفَاهُ فِيهِ. الْفَرْثُ: كَثِيفٌ مَا يَبْقَى مِنَ الْمَأْكُولِ فِي الْكَرِشِ أَوِ الْمِعَى. النَّحْلُ: حَيَوَانٌ مَعْرُوفٌ. الْحَفَدَةُ: الْأَعْوَانُ وَالْخَدَمُ، وَمَنْ يُسَارِعُ فِي الطَّاعَةِ حَفَدَ يَحْفِدُ حَفْدًا وَحُفُودًا وَحَفَدَانًا، وَمِنْهُ: وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ أَيْ:
نُسْرِعُ فِي الطَّاعَةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
حَفَدَ الْوَلَائِدُ حَوَّلَهُنَّ وَأَسْلَمَتْ بِأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةُ الْأَجْمَالِ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
كَلَّفَتْ مَجْهُودَهَا نُوقًا يَمَانِيَةً إِذَا الْحُدَاةُ عَلَى أَكْسَائِهَا حَفَدُوا
وَتَتَعَدَّى فَيُقَالُ: حَفَدَنِي فَهُوَ حَافِدِي. قَالَ الشَّاعِرُ:
يَحْفِدُونَ الضَّيْفَ فِي أَبْيَاتِهِمْ كَرَمًا ذَلِكَ مِنْهُمْ غَيْرَ ذُلِّ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى، أَحْفَدَ إِحْفَادًا، وَقَالَ: الْحَفَدُ الْعَمَلُ وَالْخِدْمَةُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْحَفَدَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْخَدَمُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْحَفَدَةُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ، وَقِيلَ:
الْأَخْتَانُ. وَأَنْشَدَ:
فَلَوْ أَنَّ نَفْسِي طَاوَعَتْنِي لَأَصْبَحَتْ لَهَا حَفَدٌ مِمَّا يُعَدُّ كَثِيرُ
وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ عَلَيَّ أَبِيَّةٌ عَيُوفٌ لِأَصْحَابِ اللِّئَامِ قَذُورُ
وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ: لَمَّا ذَكَرَ انْقِيَادَ مَا في السموات وَمَا فِي
543
الْأَرْضِ لِمَا يُرِيدُهُ تَعَالَى مِنْهَا، فَكَانَ هُوَ الْمُتَفَرِّدَ بِذَلِكَ. نَهَى أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَدَلَّ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ إِلَهَيْنِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ. وَلَمَّا كَانَ الِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِلْإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ قَدْ يُتَجَوَّزُ فِيهِ فَيُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ نَحْوَ: نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، وَنِعْمَ الرَّجُلَانِ الزَّيْدَانِ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَإِنَّ النَّارَ بِالْعُودَيْنِ تُذْكَى وَإِنَّ الْحَرْبَ أَوَّلُهَا الْكَلَامُ
أَكَّدَ الْمَوْضُوعَ لَهُمَا بِالْوَصْفِ، فَقِيلَ: إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، وَقِيلَ: إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الِاسْمُ الْحَامِلُ لِمَعْنَى الْإِفْرَادِ أَوِ التَّثْنِيَة دَالٌّ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى الْجِنْسِيَّةِ، وَالْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ. فَإِذَا أَرَدْتَ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى بِهِ مُبْهَمٌ. وَالَّذِي يُسَاقُ بِهِ الْحَدِيثُ هُوَ الْعَدَدُ شَفَعَ بِمَا يُؤَكِّدُهُ، فَدَلَّ بِهِ عَلَى الْقَصْدِ إِلَيْهِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَلَمْ تُؤَكِّدْهُ بِوَاحِدٍ، لَمْ يَحْسُنْ، وَخُيِّلَ، أَنَّك تُثْبِتُ الْإِلَهِيَّةَ لَا الْوَحْدَانِيَّةَ انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا تَتَّخِذُوا، تُعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ تَأْكِيدٌ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، فَقِيلَ: تَقَدَّمَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَتَّخِذُوا اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ.
وَقِيلَ: حَذَفَ الثَّانِيَ لِلدَّلَالَةِ تَقْدِيرُهُ مَعْبُودًا وَاثْنَيْنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَأْكِيدٌ، وَتَقْرِيرُ مُنَافَاةِ الاثْنَيْنِيَّةِ لِلْإِلَهِيَّةِ مِنْ وُجُوهٍ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ. وَلَمَّا نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ الْإِلَهَيْنِ، وَاسْتَلْزَمَ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «١» بِأَدَاةِ الْحَصْرِ، وَبِالتَّأْكِيدِ بِالْوَحْدَةِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَرْهَبُوهُ، وَالْتَفَتَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الرَّهْبَةِ، وانتصب إياي بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرِ التَّأْخِيرِ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَارْهَبُونِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِيَّايَ ارْهَبُوا. وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: فَإِيَّايَ، مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: فَارْهَبُوا إِيَّايَ فَارْهَبُونِ، ذُهُولٌ عَنِ الْقَاعِدَةِ فِي النَّحْوِ، أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَفْعُولُ ضَمِيرًا مُنْفَصِلًا وَالْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إِلَى وَاحِدٍ هُوَ الضَّمِيرُ، وَجَبَ تَأْخِيرُ الْفِعْلِ كَقَوْلِكَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «٢» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ:
إِلَيْكَ حِينَ بَلَغْتَ إِيَّاكَا ثُمَّ الْتَفَتَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فَأَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّ له ما في السموات وَالْأَرْضِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هُوَ الْإِلَهَ الْوَاحِدَ الْوَاجِبَ لِذَاتِهِ كَانَ مَا سِوَاهُ مَوْجُودًا بِإِيجَادِهِ وَخَلْقِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُ الدِّينَ وَاصِبًا.
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٦٣.
(٢) سورة فاتحة الكتاب ١/ ٤.
544
قَالَ مُجَاهِدٌ: الدِّينُ الْإِخْلَاصُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْعِبَادَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالْفَرَائِضِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: الطَّاعَةُ، زَادَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُلْكُ. وَأَنْشَدَ:
فِي دِينِ عَمْرٍو وَحَالَتْ بَيْنَنَا فَدَكُ أَيْ: فِي طَاعَتِهِ وَمُلْكِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوَّلُهُ الْحَدَّادُ أَيْ: دَائِمًا ثَابِتًا سَرْمَدًا لَا يَزُولُ، يَعْنِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالثَّوْرِيُّ: وَاصِبًا دَائِمًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْوَاصِبُ الْوَاجِبُ الثَّابِتُ لِأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ مِنْهُ بِالطَّاعَةِ وَاجِبَةٌ لَهُ عَلَى كُلِّ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ مِنَ الْوَصَبِ وَهُوَ التَّعَبُ، وَهُوَ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ أَيْ: ذَا وَصَبٍ، كَمَا قَالَ: أَضْحَى فُؤَادِي بِهِ فَاتِنًا، أَيْ ذَا فُتُونٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ وَلَهُ الدِّينُ ذَا كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَكْلِيفًا انْتَهَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَهُ الدِّينُ وَالطَّاعَةُ رَضِيَ الْعَبْدُ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ وَسَهُلَ عَلَيْهِ أَمْ لَا يَسْهُلُ فَلَهُ الدِّينُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْوَصَبُ. وَالْوَصَبُ: شِدَّةُ التَّعَبِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ:
وَاصِبًا خَالِصًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْوَاوُ فِي وله ما في السموات وَالْأَرْضِ عَاطِفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ:
إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاوَ ابْتِدَاءٍ انْتَهَى. وَلَا يُقَالُ وَاوُ ابْتِدَاءٍ إِلَّا لِوَاوِ الْحَالِ، وَلَا يَظْهَرُ هُنَا الْحَالُ، وَإِنَّمَا هِيَ عَاطِفَةٌ: فَإِمَّا عَلَى الْخَبَرِ كَمَا ذَكَرَ أَوْلَا فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي تَقْدِيرِ الْمُفْرَدِ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْخَبَرِ، وَإِمَّا عَلَى الْجُمْلَةِ بِأَسْرِهَا الَّتِي هِيَ: إِنَّمَا هي إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَانْتَصَبَ وَاصِبًا عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَجْرُورُ.
أَفَغَيْرَ اللَّهِ اسْتِفْهَامٌ تَضَمَّنَ التَّوْبِيخَ وَالتَّعَجُّبَ أَيْ: بعد ما عَرَفْتُمْ وَحْدَانِيَّتَهُ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ لَهُ وَمُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، كَيْفَ تَتَّقُونَ وَتَخَافُونَ غَيْرَهُ وَلَا نَفْعَ وَلَا ضُرَّ يَقْدِرُ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ الْمُكْتَسَبَةِ مِنَّا إِنَّمَا هِيَ مِنْ إِيجَادِهِ وَاخْتِرَاعِهِ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ الشُّكْرِ عَلَى مَا أَسْدَى مِنَ النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. وَنِعَمُهُ تَعَالَى لَا تُحْصَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها «١». وما مَوْصُولَةٌ، وَصِلَتُهَا بِكُمْ، وَالْعَامِلُ فِعْلُ الِاسْتِقْرَارِ أَيْ: وَمَا استقر بكم، ومن نِعْمَةٍ تَفْسِيرٌ لِمَا، وَالْخَبَرُ فَمِنَ اللَّهِ أَيْ: فَهِيَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، وَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ الْعَامِلِ بِكُمْ خَاصًّا كَحَلَّ أَوْ نَزَلَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَالْحَوْفِيُّ: أَنْ تَكُونَ مَا شَرْطِيَّةً، وَحُذِفَ فِعْلُ الشَّرْطِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ. وَمَا يَكُنْ بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ، وَهَذَا ضعيف جدا لأنه
(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ٣٤.
545
لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَحَّدَهَا فِي بَاب الِاشْتِغَالِ، أَوْ مَتْلُوَّةً بِمَا النَّافِيَةِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِمَا قَبْلَهُ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
فَطَلِّقْهَا فَلَسْتَ لَهَا بِكُفْءٍ وَإِلَّا يَعْلُ مَفْرِقَكَ الْحُسَامُ
أَيْ: وَإِلَّا تُطَلِّقْهَا، حَذَفَ تطلقها الدلالة طَلِّقْهَا عَلَيْهِ، وَحَذْفُهُ بَعْدَ أَنْ مَتْلُوَّةً بِلَا مُخْتَصٌّ بِالضَّرُورَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ:
قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا قَالَتْ وَإِنْ
أَيْ: وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا، وَأَمَّا غَيْرُ إِنْ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِلَّا مَدْلُولًا عَلَيْهِ فِي بَابِ الِاشْتِغَالِ مَخْصُوصًا بِالضَّرُورَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: أَيْنَمَا الرِّيحُ تُمَيِّلْهَا تَمِلْ. التَّقْدِيرُ: أَيْنَمَا تُمَيِّلْهَا الرِّيحُ تُمَيِّلْهَا تَمِلْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ مِنْهُ ذَكَرَ حَالَةَ افْتِقَارِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، حَيْثُ لَا يَدْعُو وَلَا يَتَضَرَّعُ لِسِوَاهُ، وَهِيَ حَالَةُ الضُّرِّ وَالضُّرُّ، يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُتَضَرَّرُ بِهِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ نَهْبِ مَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: تَجَرُونَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى الْجِيمِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: كَاشَفَ، وَفَاعِلٌ هُنَا بِمَعْنَى فَعَلَ، وَإِذَا الثَّانِيَةُ لِلْفُجَاءَةِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِذَا الشَّرْطِيَّةَ لَيْسَ الْعَامِلُ فِيهَا الْجَوَابُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ فِيمَا قَبْلَهَا. وَمِنْكُمْ: خِطَابٌ لِلَّذِينِ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ، إِذْ بِكُمْ خِطَابٌ عَامٌّ. وَالْفَرِيقُ هُنَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُعْتَقِدُونَ حَالَةَ الرَّجَاءِ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَنْفَعُ وَتَضُرُّ وَتُشْقِي. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُنَافِقُونَ. وَعَنِ ابن السائب: الكفار. ومنكم فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَمَنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلْبَيَانِ لَا لِلتَّبْعِيضِ قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ فَإِذَا فَرِيقٌ كَافِرٌ وَهُمْ أَنْتُمْ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِيهِمْ مَنِ اعْتَبَرَ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ «١» انْتَهَى وَاللَّامُ فِي لِيَكْفُرُوا، إِنْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ إِشْرَاكَهُمْ بِاللَّهِ سَبَبُهُ كُفْرُهُمْ بِهِ، أَيْ جُحُودُهُمْ أَوْ كُفْرَانُ نِعْمَتِهِ، وَبِمَا آتَيْنَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ، أَوْ مِنْ كَشْفِ الضُّرِّ، أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانَتْ لِلصَّيْرُورَةِ فَالْمَعْنَى: صَارَ أَمْرُهُمْ لِيَكْفُرُوا وَهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا بِأَفْعَالِهِمْ تِلْكَ أَنْ يَكْفُرُوا، بَلْ آلَ أَمْرُ ذَلِكِ الْجُؤَارِ وَالرَّغْبَةِ إِلَى الْكُفْرِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، أَوْ إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ جُحُودُهُ وَالشِّرْكُ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ لِلْأَمْرِ فَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَكْفُرُوا فَتَمَتَّعُوا، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَمْرِ الْوَارِدِ فِي مَعْنَى الْخِذْلَانِ وَالتَّخْلِيَةِ، وَاللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ انْتَهَى. وَلَمْ يَخْلُ كَلَامُهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهِيَ قوله:
(١) سورة لقمان: ٣١/ ٣٢.
546
فِي مَعْنَى الْخِذْلَانِ وَالتَّخْلِيَةِ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ: فَيُمَتَّعُوا بِالْيَاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا مَضْمُومَةً مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، سَاكِنَ الْمِيمِ وَهُوَ مُضَارِعُ مَتَعَ مُخَفَّفًا، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى لِيَكْفُرُوا، وَحُذِفَتِ النُّونُ إِمَّا لِلنَّصْبِ عَطْفًا إِنْ كَانَ يَكْفُرُوا مَنْصُوبًا، وَإِمَّا لِلْجَزْمِ إِنْ كَانَ مَجْزُومًا إِنْ كَانَ عَطْفًا، وَأَنْ لِلنَّصْبِ إِنْ كَانَ جَوَابَ الْأَمْرِ.
وَعَنْهُ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَقَدْ رَوَاهُمَا مَكْحُولٌ الشَّامِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ.
وَالتَّمَتُّعُ هُنَا هُوَ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَآلُهَا إِلَى الزَّوَالِ.
وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
: الضَّمِيرُ فِي: وَيَجْعَلُونَ، عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي يَعْلَمُونَ عائد عليهم. وما هِيَ الْأَصْنَامُ أَيْ: لِلْأَصْنَامِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ الْكُفَّارُ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، أَوْ لَا يَعْلَمُونَ فِي اتِّخَاذِهَا آلِهَةً حُجَّةً وَلَا بُرْهَانًا. وَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا جَمَادٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَشْفَعُ، فَهُمْ جَاهِلُونَ بِهَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَا يَعْلَمُونَ لِلْأَصْنَامِ أَيْ: لِلْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَعْلَمُ شَيْئًا وَلَا تَشْعُرُ بِهِ، إِذْ هِيَ جَمَادٌ لَمْ يَقُمْ بها علم الْبَتَّةِ. وَالنَّصِيبُ: هُوَ مَا جَعَلُوهُ لَهَا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، قَبَّحَ تَعَالَى فِعْلَهُمْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يُفْرِدُوا نَصِيبًا مِمَّا أَنْعَمَ بِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لِجَمَادَاتٍ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَنْتَفِعُ هِيَ بِجَعْلِ ذَلِكَ النَّصِيبِ لَهَا، ثُمَّ أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ عَنِ افْتِرَائِهِمْ وَاخْتِلَاقِهِمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً، وَأَنَّهَا أَهْلٌ لِلتَّقَرُّبِ إِلَيْهَا بِجَعْلِ النَّصِيبِ لَهَا، وَالسُّؤَالِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ عِنْدَ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَوْ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ أقوال. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ عَنِ افْتِرَائِهِمْ، ذَكَرَ أَنَّهُمْ مَعَ اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى التَّوَالُدَ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ، وَنَسَبُوا ذَلِكَ إِلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَرْتَضُوهُ، وَتَرْبَدُّ وُجُوهُهُمْ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِمْ وَيَكْرَهُونَهُ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ. وَكَانَتْ خُزَاعَةُ وَكِنَانَةُ تَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَنْزِيهٌ لَهُ تَعَالَى عَنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ: وَهُمُ الذُّكُورُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ فِيمَا يَشْتَهُونَ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْبَنَاتِ أَيْ: وَجَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الذُّكُورِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ مِنَ النَّصْبِ تَبِعَ فِيهِ الْفَرَّاءَ وَالْحَوْفِيَّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَقَدْ حَكَاهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَذَهِلَ هَؤُلَاءِ عَنْ قَاعِدَةٍ فِي النَّحْوِ: وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلِ الرَّافِعِ لِضَمِيرِ الِاسْمِ الْمُتَّصِلِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى ضَمِيرِهِ الْمُتَّصِلِ
547
الْمَنْصُوبِ، فَلَا يَجُوزُ زَيْدٌ ضَرَبَهُ زَيْدٌ، تُرِيدُ ضَرْبَ نَفْسِهِ إِلَّا فِي بَابِ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَلْبِيَّةِ، أَوْ فَقْدٍ، وَعَدَمٍ، فَيَجُوزُ: زَيْدٌ ظَنَّهُ قَائِمًا وَزَيْدٌ فَقَدَهُ، وَزَيْدٌ عَدِمَهُ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْحَرْفِ الْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ، فَلَا يَجُوزُ زَيْدٌ غَضِبَ عَلَيْهِ تُرِيدُ غَضِبَ عَلَى نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ لَا يَجُوزُ النَّصْبُ إِذْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ. قَالُوا:
وَضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ، وَلَهُمْ مَجْرُورٌ بِاللَّامِ، فَهُوَ نَظِيرُ: زَيْدٌ غَضِبَ عَلَيْهِ.
وَإِذَا بُشِّرَ، الْمَشْهُورُ أَنَّ الْبِشَارَةَ أَوَّلُ خَبَرٍ يَسُرُّ، وَهُنَا قَدْ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْإِخْبَارِ، أَوْ تَغَيُّرُ الْبَشَرَةِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْخَبَرِ السَّارِّ أَوِ الْمُخْبِرِينَ، وَفِي هَذَا تَقْبِيحٌ لِنِسْبَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ الْمُنَزَّهِ عَنِ الْوَلَدِ الْبَنَاتِ وَاحِدُهُمْ أَكْرَهُ النَّاسِ فِيهِنَّ، وَأَنْفَرُهُمْ طَبْعًا عَنْهُنَّ. وَظَلَّ تَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ، وَبِمَعْنَى أَقَامَ نَهَارًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تُسْنَدُ إِلَى اسْمِهَا تَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى صَارَ، لِأَنَّ التَّبْشِيرَ قَدْ يَكُونُ فِي لَيْلٍ وَنَهَارٍ، وَقَدْ تُلْحَظُ الْحَالَةُ الْغَالِبَةُ. وَأَنَّ أَكْثَرَ الْوِلَادَاتِ تَكُونُ بِاللَّيْلِ، وَتَتَأَخَّرُ أَخْبَارُ الْمَوْلُودِ لَهُ إِلَى النَّهَارِ وَخُصُوصًا بِالْأُنْثَى، فَيَكُونُ ظُلُولُهُ عَلَى ذَلِكَ طُولَ النَّهَارِ. وَاسْوِدَادُ الْوَجْهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْعُبُوسِ وَالْغَمِّ وَالتَّكَرُّهِ وَالنَّفْرَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُ بِوِلَادَةِ الْأُنْثَى. قِيلَ: إِذَا قَوِيَ الْفَرَحُ انْبَسَطَ رَوْحُ الْقَلْبِ مِنْ دَاخِلِهِ وَوَصَلَ إِلَى الْأَطْرَافِ، وَلَا سِيَّمَا إِلَى الْوَجْهِ لِمَا بَيْنَ الْقَلْبِ وَالدِّمَاغِ مِنَ التَّعَلُّقِ الشَّدِيدِ، فَتَرَى الْوَجْهَ مُشْرِقًا مُتَلَأْلِئًا.
وَإِذَا قَوِيَ الْغَمُّ انْحَصَرَ الرُّوحُ إِلَى بَاطِنِ الْقَلْبِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ قَوِيٌّ فِي ظَاهِرِ الْوَجْهِ، فَيَرْبَدُّ الْوَجْهُ وَيَصْفَرُّ وَيَسْوَدُّ، وَيَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْأَرْضِيَّةِ، فَمِنْ لَوَازِمِ الْفَرَحِ اسْتِنَارَةُ الْوَجْهِ وَإِشْرَاقُهُ، وَمِنْ لَوَازِمَ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ ارْبِدَادُهُ وَاسْوِدَادُهُ، فَلِذَلِكَ كَنَّى عَنِ الْفَرَحِ بِالِاسْتِنَارَةِ، وَعَنِ الْغَمِّ بِالِاسْوِدَادِ. وَهُوَ كَظِيمٌ أي: ممتلىء الْقَلْبِ حُزْنًا وَغَمًّا. أَخْبَرَ عَمَّا يَظْهَرُ فِي وَجْهِهِ وَعَنْ مَا يُجِنُّهُ فِي قَلْبِهِ. وَكَظِيمٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِقَوْلِهِ:
وَهُوَ مَكْظُومٌ «١» وَيُقَالُ: سِقَاءٌ. مَكْظُومٌ، أَيْ مَمْلُوءٌ مَشْدُودُ الْفَمِ. وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ بِنْتًا سَمَّتْهَا الذَّلْفَاءَ، فَهَجَرَهَا زَوْجُهَا فَقَالَتْ:
مَا لِأَبِي الذَّلْفَاءِ لَا يَأْتِينَا يَظَلُّ فِي الْبَيْتُ الذي يلينا
يحردان لَا نَلِدَ الْبَنِينَا وَإِنَّمَا نَأْخُذُ مَا يُعْطِينَا
يَتَوَارَى: يَخْتَفِي مِنَ النَّاسِ، وَمِنْ سوء للتعليل أي: الحال لَهُ عَلَى التَّوَارِي هُوَ سُوءُ مَا أُخْبِرَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَوَارَى حَالَةَ الطَّلْقِ، فَإِنْ أُخْبِرَ بِذَكَرٍ ابْتَهَجَ، أو أنثى
(١) سورة القلم: ٦٨/ ٤٨.
548
حَزِنَ. وَتَوَارَى أَيَّامًا يُدَبِّرُ فِيهَا مَا يَصْنَعُ. أَيُمْسِكُهُ قَبْلَهُ حَالٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: مُفَكِّرًا أَوْ مُدَبِّرًا أَيُمْسِكُهُ؟ وَذَكَرَ الضَّمِيرُ مُلَاحَظَةً لِلَّفْظِ مَا فِي قَوْلِهِ: مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: أَيُمْسِكُهَا عَلَى هَوَانٍ، أَمْ يَدُسُّهَا بِالتَّأْنِيثِ عَوْدًا عَلَى قَوْلِهِ: بِالْأُنْثَى، أَوْ عَلَى مَعْنَى مَا بُشِّرَ بِهِ، وَافَقَهُ عِيسَى عَلَى قِرَاءَةِ هَوَانٍ عَلَى وَزْنٍ فَعَالٍ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: أَيُمْسِكُهُ بِضَمِيرِ التَّذْكِيرِ، أَمْ يَدُسُّهَا بِضَمِيرِ التَّأْنِيثِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: عَلَى هَوْنٍ بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: عَلَى سُوءٍ، وَهِيَ عِنْدِي تَفْسِيرٌ لَا قِرَاءَةٌ، لِمُخَالَفَتِهَا السَّوَادَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الْإِمْسَاكِ حَبْسُهُ وَتَرْبِيَتُهُ، وَالْهُونُ الْهَوَانُ كَمَا قَالَ: عَذابَ الْهُونِ «١» وَالْهَوْنُ بِالْفَتْحِ الرِّفْقُ وَاللِّينُ، يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً «٢» وَفِي قَوْلِهِ: عَلَى هُونٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِلْأَبِ، وَالْمَعْنَى:
أَيُمْسِكُهَا مَعَ رِضَاهُ بِهَوَانِ نَفْسِهِ، وَعَلَى رَغْمِ أَنْفِهِ؟ وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ أَيْ: أَيُمْسِكُهَا مُهَانَةً ذَلِيلَةً، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ، أَنَّهُ يَئِدُهَا وَهُوَ دَفْنُهَا حَيَّةً حَتَّى تَمُوتَ.
وَقِيلَ: دَسُّهَا إِخْفَاؤُهَا عَنِ النَّاسِ حَتَّى لَا تُعْرَفَ كَالْمَدْسُوسِ فِي التُّرَابِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ:
أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، رُجُوعُهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ الْآيَةَ أَيْ: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ فِي نِسْبَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ مَا هُوَ مُسْتَكْرَهٌ عِنْدَهُمْ، نَافِرٌ عَنْهُنَّ طَبْعُهُمْ، بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُونَ نِسْبَتَهُنَّ إِلَيْهِنَّ، وَيَئِدُونَهُنَّ اسْتِنْكَافًا مِنْهُنَّ، وَيَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ الذَّكَرَ كَمَا قَالَ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى «٣» وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَى الْآيَةِ يُدَبِّرُ أَيُمْسِكُ هَذِهِ الْأُنْثَى عَلَى هَوَانٍ يَتَجَلَّدُ لَهُ، أَمْ يَئِدُهَا فَيَدْفِنُهَا حَيَّةً فَهُوَ الدَّسُّ فِي التُّرَابِ؟ ثُمَّ اسْتَقْبَحَ اللَّهُ سُوءَ فِعْلِهِمْ وَحُكْمِهِمْ بِهَذَا فِي بَنَاتِهِمْ وَرِزْقُ الْجَمِيعِ عَلَى اللَّهِ انْتَهَى. فَعَلَّقَ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ بِصُنْعِهِمْ فِي بَنَاتِهِمْ مَثَلَ السَّوْءِ. قِيلَ: مَثَلُ بِمَعْنَى صِفَةٍ أَيْ: صِفَةُ السُّوءِ، وَهِيَ الْحَاجَةُ إِلَى الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ وَكَرَاهَةُ الْإِنَاثِ، وَوَأْدُهُنَّ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ وَإِقْرَارُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالشُّحِّ الْبَالِغِ. وَلِلَّهِ المثل الأعلى أي: الصفة الْعُلْيَا، وَهِيَ الْغِنَى عَنِ الْعَالَمِينَ، وَالنَّزَاهَةُ عَنْ سِمَاتِ الْمُحْدَثِينَ. وَقِيلَ: مَثَلُ السَّوْءِ هُوَ وَصْفُهُمُ اللَّهَ تَعَالَى بِأَنَّ لَهُ الْبَنَاتِ، وَسَمَّاهُ مَثَلَ السَّوْءِ لِنِسْبَتِهِمُ الْوَلَدَ إِلَى اللَّهِ، وَخُصُوصًا عَلَى طَرِيقِ الْأُنُوثَةِ الَّتِي هُمْ يَسْتَنْكِفُونَ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَثَلُ السَّوْءِ النَّارِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَتْ فِرْقَةٌ مَثَلُ بِمَعْنَى صِفَةٍ أَيْ: لِهَؤُلَاءِ صِفَةُ السَّوْءِ، وَلِلَّهِ الْوَصْفُ الْأَعْلَى، وَهَذَا لَا نَضْطَرُّ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنِ اللَّفْظِ، بَلْ قَوْلُهُ: مَثَلُ، عَلَى بَابِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا:
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٩٣.
(٢) سورة الفرقان: ٢٥/ ٦٣.
(٣) سورة النجم: ٥٣/ ٢١.
549
إِنَّ الْبَنَاتِ لِلَّهِ فَقَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ مَثَلًا، فَالْبَنَاتُ مِنَ الْبَشَرِ وَكَثْرَةُ الْبَنَاتِ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ ذَمِيمٌ فَهُوَ الْمَثَلُ السُّوءُ. وَالَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَهُمْ وَلَيْسَ فِي الْبَنَاتِ فَقَطْ، بَلْ لَمَّا جَعَلُوهُ هُمُ الْبَنَاتُ جَعَلَهُ هُوَ لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي كُلِّ سَوْءٍ، وَلَا غَايَةَ أَبْعَدُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيِ: الْكَمَالُ الْمُسْتَغْنَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَثَلُ الْأَعْلَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ انْتَهَى، وَقَوْلُ قَتَادَةَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ الْآيَةَ تَقَدَّمَ مَا نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ، وَأَتَى ثَانِيًا مَا كَانَ مَنْسُوبًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَبَدَأَ هُنَا بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ، وَأَتَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يُقَابِلُ قَوْلَهُ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ التَّنْزِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَهُوَ الْوَصْفُ الْمُنَزَّهُ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَالتَّوَالُدِ، وَهُوَ الْوَصْفُ الْأَعْلَى الَّذِي لَيْسَ يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَنَاسَبَ الْخَتْمَ بِالْعَزِيزِ وَهُوَ الَّذِي لَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ، الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا.
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ: لَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّار عَظِيمَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَنِسْبَةِ التولد لَهُ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُمْهِلُهُمْ وَلَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ إِظْهَارًا لِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَيُؤَاخِذُ: مُضَارِعُ آخَذَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ الَّذِي هُوَ أَخَذَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ أَحَدَ الْمُؤَاخِذَيْنِ يَأْخُذُ مِنَ الْآخَرِ، إِمَّا بِمَعْصِيَةٍ كَمَا هِيَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِإِذَايَةٍ فِي جِهَةِ الْمَخْلُوقِينَ، فَيَأْخُذُ الْآخَرُ مِنَ الْأَوَّلِ بِالْمُعَاقَبَةِ وَالْجَزَاءِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ: عُمُومُ النَّاسِ. وَقِيلَ: أَهْلُ مَكَّةَ، وَالْبَاءُ فِي بِظُلْمِهِمْ لِلسَّبَبِ. وَظُلْمُهُمْ كُفْرُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهَا عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْأَرْضُ قَوْلُهُ:
مِنْ دَابَّةٍ، لِأَنَّ الدَّبِيبَ مِنَ النَّاسِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً «١» أَيْ بِالْمَكَانِ لِأَنَّ وَالْعادِياتِ «٢» مَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تَعْدُو إِلَّا فِي مَكَانٍ، وَكَذَلِكَ الْإِثَارَةُ وَالنَّقْعُ.
وَالظَّاهِرُ عُمُومُ مِنْ دَابَّةٍ فَيُهْلِكُ الصَّالِحَ بِالطَّالِحِ، فَكَانَ يُهْلِكُ جَمِيعَ مَا يدب على الأرض
(١) سورة العاديات: ١٠٠/ ٤.
(٢) سورة العاديات: ١٠٠/ ١.
550
حَتَّى الْجِعْلَانُ فِي جُحْرِهَا قَالَهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ. قَالَ قَتَادَةُ: وَقَدْ فَعَلَ تَعَالَى فِي زَمَنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: إِذَا قَحِطَ الْمَطَرُ لَمْ تَبْقَ دَابَّةٌ إِلَّا هَلَكَتْ. وَسَمِعَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ حَتَّى إِنَّ الْحَبَارَى لَتَمُوتَ فِي وَكْرِهَا بِظُلْمِ الظَّالِمِ. وَهَذَا نَظِيرُ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً «١» الْآيَةَ
وَالْحَدِيثُ «أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ»
وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ: مِنْ دَابَّةٍ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مِنَ النَّاسِ خَاصَّةً. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ دَابَّةٍ مِنْ مُشْرِكٍ يَدِبُّ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ الْآيَةَ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَا يُشْبِهُهُ فِي الْأَعْرَافِ. وَمَا فِي مَا يَكْرَهُونَ لِمَنْ يَعْقِلُ، أُرِيدَ بِهَا النَّوْعُ كَقَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ «٢» وَمَعْنَى: وَيَجْعَلُونَ، يَصِفُونَهُ بِذَلِكَ وَيَحْكُمُونَ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا يَكْرَهُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَنَاتِ، وَمِنْ شُرَكَاءَ فِي رِئَاسَتِهِمْ، وَمِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِرُسُلِهِمْ وَالتَّهَاوُنِ بِرِسَالَاتِهِمْ، وَيَجْعَلُونَ لَهُ أَرْذَلَ أَمْوَالِهِمْ، وَلِأَصْنَامِهِمْ أَكْرَمَهَا، وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى عِنْدَ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «٣» انْتَهَى.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحُسْنَى قَوْلُ قُرَيْشٍ لَنَا الْبَنُونَ، يَعْنِي قَالُوا: لِلَّهِ الْبَنَاتُ وَلَنَا الْبَنُونَ.
وَقِيلَ: الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَيُؤَيِّدُهُ: لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْمَكْرُوهَ، وَيَدَّعُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ تَعْصِي اللَّهَ وَتَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: أَنَّكَ تَنْجُو، أَيْ هَذَا بَعِيدٌ مَعَ هَذَا. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِمَّنْ يَقُولُ بِالْبَعْثِ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِهِ. أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مِنَ الْبَعْثِ صَحِيحًا، وَأَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبِ، أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ أَيْ: بِأَنَّ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ بِاخْتِلَافِ أَلْسِنَتِهِمْ: بِإِسْكَانِ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ جمع لسانا الْمُذَكَّرِ نَحْوَ: حِمَارٍ وَأَحْمِرَةٍ، وَفِي التَّأْنِيثِ: أَلْسُنٌ كَذِرَاعٍ وَأَذْرُعٍ. وَقَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَبَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ: الْكُذُبُ بِضَمِّ الْكَافِ وَالذَّالِ وَالْبَاءِ صِفَةً لِلْأَلْسُنِ، جَمْعُ كَذُوبٍ كَصَبُورٍ وَصُبُرٍ، وَهُوَ مَقِيسٌ، أَوْ جَمْعُ كَاذِبٍ كَشَارِفٍ وَشُرُفٍ وَلَا يَنْقَاسُ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ لَهُمْ مَفْعُولُ تَصِفُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَا جَرَمَ أَنَّ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عِمْرَانَ: لَهُمْ بِكَسْرِ الهمزة، وأن جَوَابُ قَسَمٍ أَغْنَتْ عَنْهُ
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٢٥.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٣. [.....]
(٣) سورة فصلت: ٤١/ ٥٠.
551
لَا جَرَمَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو رَجَاءٍ، وَشَيْبَةُ، وَنَافِعٌ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ:
مُفْرِطُونَ بِكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ أَفْرَطَ حَقِيقَةً أَيْ: مُتَجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِي مَعَاصِي اللَّهِ. وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ، بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ أَفْرَطْتُهُ إِلَى كَذَا قَدَّمْتُهُ، مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ مِنْ فَرَطَ إِلَى كَذَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ. قَالَ الْقَطَامِيُّ:
وَاسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ صَحَابَتِنَا كَمَا تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ
وَمِنْهُ «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ»
أَيْ مُتَقَدِّمُكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ أَبِي هِنْدٍ:
مُفْرَطُونَ مُخَلَّفُونَ مَتْرُوكُونَ فِي النَّارِ مِنْ أَفْرَطْتُ فُلَانًا خَلْفِي إِذَا خَلَّفْتُهُ وَنَسِيتُهُ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَفْرَطْتُ مِنْهُمْ نَاسًا أَيْ خَلَّفْتُهُمْ وَنَسِيتُهُمْ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: مُفَرِّطُونَ مُشَدَّدًا مِنْ فَرَّطَ أَيْ: مُقَصِّرُونَ مُضَيِّعُونَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: فَتْحُ الرَّاءِ وَشَدُّهَا أَيْ، مُقَدَّمُونَ مِنْ فَرَّطْتُهُ الْمُعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ مِنْ فَرَّطَ بِمَعْنَى: تَقَدَّمَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِإِرْسَالِ الرُّسُلَ إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِ أُمَمِكَ، مُقْسِمًا عَلَى ذَلِكَ وَمُؤَكِّدًا بِالْقَسَمِ وَبِقَدِ الَّتِي تَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لما كَانَ يَنَالُهُ بِسَبَبِ جَهَالَاتِ قَوْمِهِ وَنِسْبَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ مَا لَا يَجُوزُ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ مِنْ تَمَادِيهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٌ أَيْ:
لَا نَاصِرَ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ إِلَّا هُوَ، أَوْ عَبَّرَ بِالْيَوْمِ عَنْ وَقْتِ الْإِرْسَالِ وَمُحَاوَرَةِ الرُّسُلِ لَهُمْ، أَوْ حِكَايَةُ حَالٍ آتِيَةٍ وَهِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَالْ فِي الْيَوْمِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْمَشْهُودُ، فَهُوَ وَلِيُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيْ: قَرِينُهُمْ وَبِئْسَ الْقَرِينُ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي وَلِيُّهُمْ إِلَى أُمَمٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَأَنَّهُ زَيَّنَ لِلْكُفَّارِ قَبْلَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، فَهُوَ وَلِيُّ هَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ: فَهُوَ وَلِيُّ أَمْثَالِهِمُ الْيَوْمَ انْتَهَى. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِاخْتِلَافِ الضَّمَائِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَلَا إِلَى حَذْفِ الْمُضَافِ. وَاللَّامُ فِي لِتُبَيِّنَ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالْكِتَابُ الْقُرْآنُ، وَالَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَإِثْبَاتِ الْمَعَادِ وَنَفْيِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَقِدُونَ مِنَ الْأَحْكَامِ:
كَتَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ، وَتَحْلِيلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَهُدًى وَرَحْمَةً فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَانْتَصَبَا لِاتِّحَادِ الْفَاعِلِ فِي الْفِعْلِ وَفِيهِمَا، لِأَنَّ الْمُنَزِّلَ هُوَ اللَّهُ وَهُوَ الْهَادِي وَالرَّاحِمُ. وَدَخَلَتِ اللَّامُ فِي لِتُبَيِّنَ لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْمُنَزِّلَ هُوَ اللَّهُ، وَالتَّبْيِينُ مُسْنَدٌ لِلْمُخَاطَبِ وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: مَعْطُوفُ مَحَلِّ لِتُبَيِّنَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ لَيْسَ نَصْبًا فَيُعْطَفُ مَنْصُوبٌ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَصَبَهُ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ؟.
552
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْقُرْآنِ أَرْبَعَةٌ:
الْإِلَهِيَّاتُ، وَالنُّبُوَّاتُ، والمعاد، والقدر، والأعظم مِنْهَا الْإِلَهِيَّاتُ فَابْتَدَأَ فِي ذِكْرِ دَلَائِلِهَا بِالْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ، ثُمَّ بِالْإِنْسَانِ ثُمَّ بِالْحَيَوَانِ، ثُمَّ بِالنَّبَاتِ ثُمَّ بِأَحْوَالِ الْبَحْرِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى تَقْدِيرِ الْإِلَهِيَّاتِ فَبَدَأَ بِذِكْرِ الْفَلَكِيَّاتِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَّا أَمَرَهُ بِتَبْيِينِ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ قَصَّ الْعِبَرَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى بَيَانِ أَمْرِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَبَدَأَ بِنِعْمَةِ الْمَطَرِ الَّتِي هِيَ أَبْيَنُ الْعِبَرِ، وَهِيَ مِلَاكُ الْحَيَاةِ، وَهِيَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِيهَا عَاقِلٌ انْتَهَى. وَنَقُولُ: لَمَّا ذَكَرَ إِنْزَالَ الْكِتَابِ لِلتَّبْيِينِ كَانَ الْقُرْآنُ حَيَاةَ الْأَرْوَاحِ وَشِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنْ عِلَلِ الْعَقَائِدِ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أَيْ: يُصَدِّقُونَ. وَالتَّصْدِيقُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، فَكَذَا إِنْزَالُ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْأَجْسَامِ وَسَبَبٌ لِبَقَائِهَا. ثُمَّ أَشَارَ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا إِلَى إِحْيَاءِ الْقُلُوبِ بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «١» فَكَمَا تَصِيرُ الْأَرْضُ خَضِرَةً بِالنَّبَاتِ نَضِرَةً بَعْدَ هُمُودِهَا، كَذَلِكَ الْقَلْبُ يَحْيَا بِالْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَيْتًا بِالْجَهْلِ. وَكَذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: يَسْمَعُونَ هَذَا التَّشْبِيهَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: سَمَاعَ إِنْصَافٍ وَتَدَبُّرٍ، وَلِمُلَاحَظَةِ هَذَا الْمَعْنَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لَمْ يَخْتِمْ بلقوم يُبْصِرُونَ، وَإِنْ كَانَ إِنْزَالُ الْمَطَرِ مِمَّا يُبْصَرُ وَيُشَاهَدُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ يَسْمَعُونَ، يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ هَذَا الْمُعْتَبَرِ فِيهِ وَتِبْيَانُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَلَا تَفَكُّرٍ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ الْبَتَّةَ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ الْقَوْلَ فَقَطْ.
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ: لما ذكر الله تعالى إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، ذَكَرَ مَا يَنْشَأُ عَنْ مَا يَنْشَأُ عَنِ الْمَطَرِ وَهُوَ حَيَاةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ مَأْلُوفُ الْعَرَبِ بِمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ النَّبَاتِ النَّاشِئِ عَنِ الْمَطَرِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِبْرَةِ الْعَظِيمَةِ وَهُوَ خُرُوجُ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِخِلَافٍ، وَالْحَسَنُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَنَافِعٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ. نَسْقِيكُمْ هُنَا، وَفِي قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ: بِفَتْحِ النُّونِ مُضَارِعُ سَقَى، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّهَا مُضَارِعُ أَسْقَى، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سَقَى وَأَسْقَى في قوله
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٢٢.
553
فَأَسْقَيْناكُمُوهُ «١» وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: يُسْقِيكُمْ بِالْيَاء مَضْمُومَةً، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ أَيْ:
يَسْقِيكُمُ اللَّهُ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى النَّعَمِ، وَذَكَّرَ لِأَنَّ النَّعَمَ مِمَّا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَمَعْنَاهُ: وَأَنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ نِعْمًا يَسْقِيكُمْ أَيْ: يَجْعَلُ لَكُمْ سُقْيًا انْتَهَى.
وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: بِالتَّاءِ مَفْتُوحَةً مِنْهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ ضَعِيفَةٌ انْتَهَى. وَضَعْفُهَا عِنْدَهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مِنْ حَيْثُ أَنَّثَ فِي تَسْقِيكُمْ، وَذَكَّرَ فِي قَوْلِهِ مِمَّا فِي بُطُونِهِ، وَلَا ضَعْفَ فِي ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، لِأَنَّ التَّأْنِيثَ وَالتَّذْكِيرَ بِاعْتِبَارِ وَجْهَيْنِ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ مُذَكَّرًا مُرَاعَاةً لِلْجِنْسِ، لِأَنَّهُ إِذَا صَحَّ وُقُوعُ الْمُفْرَدِ الدَّالِّ عَلَى الْجِنْسِ مَقَامَ جَمْعِهِ جَازَ عَوْدُهُ عَلَيْهِ مُذَكَّرًا كَقَوْلِهِمْ: هُوَ أَحْسَنُ الْفِتْيَانِ وَأَنْبَلُهُ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ هُوَ أَحْسَنُ فَتًى، وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يَنْقَاسُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، إِنَّمَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى مَا قَالَتْهُ الْعَرَبُ. وَقِيلَ: جَمْعُ التَّكْسِيرِ فِيمَا لَا يَعْقِلُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْجَمَاعَةِ، وَمُعَامَلَةَ الْجَمْعِ، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ مُفْرَدًا. كَقَوْلِهِ:
مِثْلُ الْفِرَاخِ نَبَقَتْ حَوَاصِلُهُ وَقِيلَ: أَفْرَدَ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَذْكُورِ كَمَا يُفْرَدُ اسْمُ الْإِشَارَةِ بَعْدَ الْجَمْعِ كَمَا قَالَ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
فَقَالَ: كَأَنَّهُ وَقَدَّرَ بَكَانَ الْمَذْكُورِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَيْ فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَهَذَا سَائِغٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ «٢» فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ «٣» أَيْ ذَكَرَ هَذَا الشَّيْءَ. وَقَالَ: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي «٤» أَيْ هَذَا الشَّيْءُ الطَّالِعُ. وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا فِي التَّأْنِيثِ الْمَجَازِيِّ، لَا يَجُوزُ جَارِيَتُكَ ذَهَبَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْبَعْضِ، إِذِ الذُّكُورُ لَا أَلْبَانَ لَهَا، فَكَأَنَّ الْعِبْرَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي بَعْضِ الْأَنْعَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ الْأَنْعَامَ فِي بَابِ مَا لَا يَنْصَرِفُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ عَلَى أفعال كقولهم: ثواب أَكْيَاشَ، وَلِذَلِكَ رَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ مُفْرَدًا، وَأَمَّا فِي بُطُونِهَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَلِأَنَّ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَنْعَامِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَكْسِيرُ نَعَمٍ كَالْأَجْبَالِ فِي جَبَلٍ، وَأَنْ يَكُونَ اسْمًا مُفْرَدًا مُقْتَضِيًا لِمَعْنَى الْجَمْعِ كَنَعَمٍ، فَإِذَا ذُكِّرَ فَكَمَا يُذْكَرُ نَعَمٍ فِي قَوْلِهِ:
(١) سورة الحجر: ١٥/ ٢٢.
(٢) سورة المزمل: ٧٣/ ١٩.
(٣) سورة عبس: ٨٠/ ١٢.
(٤) سورة الأنعام: ٦/ ٧٨.
554
فِي كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهُ يُلَقِّحُهُ قَوْمٌ وَيُنْتِجُونَهُ
وَإِذَا أُنِّثَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: إِنَّهُ تَكْسِيرُ نَعَمٍ، وَأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ انْتَهَى. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ فَفِي كِتَابِهِ فِي هَذَا فِي بَابِ مَا كَانَ عَلَى مِثَالِ مُفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا أَجَمَالٌ وَفُلُوسٌ فَإِنَّهَا تَنْصَرِفُ وَمَا أَشْبَهَهَا، لِأَنَّهَا ضَارَعَتِ الْوَاحِدَ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَقْوَالٌ وَأَقَاوِيلُ، وَأَعْرَابٌ وَأَعَارِيبُ، وَأَيْدٍ وَأَيَادٍ، فَهَذِهِ الْأَحْرُفُ تَخْرُجُ إِلَى مِثَالِ مُفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ كَمَا يَخْرُجُ إِلَيْهِ الْوَاحِدُ إِذَا كُسِرَ لِلْجَمْعِ، وَأَمَّا مَفَاعِلُ وَمَفَاعِيلُ فَلَا يُكْسَرُ، فَيَخْرُجُ الْجَمْعُ إِلَى بِنَاءٍ غَيْرِ هَذَا، لِأَنَّ هَذَا الْبِنَاءَ هُوَ الْغَايَةُ، فَلَمَّا ضَارَعَتِ الْوَاحِدَ صُرِفَتْ. ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْفُعُولُ لَوْ كُسِرَتْ مِثْلُ الْفُلُوسِ لِأَنْ تُجْمَعَ جَمْعًا لَأَخْرَجَتْهُ إِلَى فَعَائِلَ، كَمَا تَقُولُ: جُدُودٌ وَجَدَائِدُ، وَرُكُوبٌ وَرَكَائِبُ، وَلَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِمَفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ لَمْ يُجَاوِزْ هَذَا الْبِنَاءَ. وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: أَتَى لِلْوَاحِدِ فَيَضُمُّ الْأَلِفَ، وَأَمَّا أَفْعَالٌ فَقَدْ تَقَعُ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ هُوَ الْأَنْعَامُ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَعَزَّ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ الْعَرَبَ يقولون: هذا ثواب أَكْيَاشَ انْتَهَى. وَالَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ، وَبَيْنَ أَفْعَالٍ وَفُعُولٍ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ أَبْنِيَةً لِلْجَمْعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ لَا يُجْمَعَانِ، وَأَفْعَالٌ وَفُعُولٌ قَدْ يَخْرُجَانِ إِلَى بِنَاءِ شِبْهِ مَفَاعِلَ أَوْ مَفَاعِيلَ لِشَبَهِ ذَيْنَكَ بِالْمُفْرَدِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا وَامْتِنَاعُ هَذَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ، ثُمَّ قَوَّى شَبَهُهُمَا بِالْمُفْرَدِ بِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ قَالَ فِي أَتَى: أُتَى بِضَمِّ الْهَمْزَةِ يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ جَاءَ نَادِرًا فُعُولٌ مِنْ غَيْرِ الْمَصْدَرِ لِلْمُفْرَدِ، وَبِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ قَدْ يُوقِعُ أَفْعَالًا لِلْوَاحِدَةِ مِنْ حَيْثُ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فَتَقُولُ: هُوَ الْأَنْعَامُ، وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، لِأَنَّ الْأَنْعَامَ فِي مَعْنَى النَّعَمِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَكْنَا الْخَيْلَ وَالنَّعَمَ الْمُفَدَّى وَقُلْنَا لِلنِّسَاءِ بِهَا أَقِيمِي
وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا أَفْعَالٌ فَقَدْ تَقَعُ لِلْوَاحِدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ بِالْوَضْعِ. فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ عَلَى أَفْعَالٍ تَحْرِيفٌ فِي اللَّفْظِ، وَفُهِمٌ عَنْ سِيبَوَيْهِ مَا لَمْ يُرِدْهُ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّ سِيبَوَيْهِ حِينَ ذَكَرَ أَبْنِيَةَ الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ نَصَّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالًا لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَتِهَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا لَحِقَتْهُ الزَّوَائِدُ مِنْ بَنَاتِ الثَّلَاثَةِ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ:
أَفْعِيلٌ، وَلَا أُفَعْوِلٌ، وَلَا أَفْعَالٌ، وَلَا إِفْعِيلٌ، وَلَا إِفْعَالٌ إِلَّا أَنْ تَكْسِرَ عَلَيْهِ اسْمًا لِلْجَمِيعِ انْتَهَى. فَهَذَا نَصٌّ مِنْهُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالًا لَا يَكُونُ فِي الْأَبْنِيَةِ الْمُفْرَدَةِ. وَنَسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ
555
تَبْيِينٌ لِلْعِبْرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ الْعِبْرَةُ؟ فَقِيلَ: نَسْقِيكُمْ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، أَيْ: يَخْلُقُ اللَّهُ اللَّبَنَ وَسَطًا بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ يَكْتَنِفَانِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ لَا يَبْغِي أَحَدَهُمَا عَلَيْهِ بِلَوْنٍ وَلَا طَعْمٍ وَلَا رَائِحَةٍ، بَلْ هُوَ خَالِصٌ مِنْ ذلك كُلِّهِ انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا اسْتَقَرَّ الْعَلَفُ فِي الْكِرْشِ صَارَ أَسْفَلُهُ فَرْثًا يَبْقَى فِيهِ، وَأَعْلَاهُ دَمًا يَجْرِي فِي الْعُرُوقِ، وَأَوْسَطُهُ لَبَنًا يَجْرِي فِي الضَّرْعِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْفَرْثُ فِي أَوْسَطِ الْمَصَارِينِ، وَالدَّمُ فِي أَعْلَاهَا، وَاللَّبَنُ بَيْنَهُمَا، وَالْكَبِدُ يَقْسِمُ الْفَرْثَ إِلَى الْكَرِشِ، وَالدَّمَ إِلَى الْعُرُوقِ، وَاللَّبَنَ إِلَى الضُّرُوعِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، هُوَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ تَتَوَلَّدُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَالْفَرْثُ يَكُونُ فِي أَسْفَلِ الْكَرِشِ، وَالدَّمُ فِي أَعْلَاهُ، وَاللَّبَنُ فِي الْوَسَطِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى خِلَافِ الْحِسِّ وَالتَّجْرِبَةِ، وَكَانَ الرَّازِيُّ قَدْ قَدَّمَ أَنَّ الْحَيَوَانَ يُذْبَحُ وَلَا يُرَى فِي كَرِشِهِ دَمٌ وَلَا لَبَنٌ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْغِذَاءَ إِذَا تَنَاوَلَهُ الْحَيَوَانُ وَصَلَ إِلَى الْكَرِشِ وَانْطَبَخَ وَحَصَلَ الْهَضْمُ الْأَوَّلُ فِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ كَثِيفًا نَزَلَ إِلَى الْأَمْعَاءِ، وَصَافِيًا انْحَدَرَ إِلَى الْكَبِدِ فَيَنْطَبِخُ فِيهَا وَيَصِيرُ دَمًا، وَهُوَ الْهَضْمُ الثَّانِي مَخْلُوطًا بِالصَّفْرَاءِ وَالسَّوْدَاءِ وَزِيَادَةِ الْمَائِيَّةِ، فَتَذْهَبُ الصَّفْرَاءُ إِلَى الْمَرَارَةِ، وَالسَّوْدَاءُ إِلَى الطِّحَالِ، وَالْمَاءُ إِلَى الْكُلْيَةِ، وَخَالِصُ الدَّمِ يَذْهَبُ إِلَى الْأَوْرِدَةِ وَهِيَ الْعُرُوقُ النَّابِتَةُ مِنَ الْكَبِدِ فَيَحْصُلُ الْهَضْمُ الثَّالِثُ. وَبَيْنَ الْكَبِدِ وَبَيْنَ الضَّرْعِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ يَنْصَبُّ الدَّمُ مِنْ تِلْكَ الْعُرُوقِ إِلَى الضَّرْعِ، وَهُوَ لَحْمٌ رِخْوٌ أَبْيَضُ فَيَنْقَلِبُ مِنْ صُورَةِ الدَّمِ إِلَى صُورَةِ اللَّبَنِ، فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَالُدِ اللَّبَنِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ أَيْضًا: وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ اللَّبَنَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الدَّمِ، وَالدَّمُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَجْزَاءِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي فِي الْفَرْثِ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَأْكُولَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْكَرِشِ. فَاللَّبَنُ مُتَوَلَّدٌ مِمَّا كَانَ حَاصِلًا فِيمَا بَيْنُ الْفَرْثِ أَوَّلًا، ثُمَّ مِمَّا كَانَ حَاصِلًا فِيمَا بَيْنَ الدَّمِ ثَانِيًا انْتَهَى، مُلَخَّصًا أَيْضًا.
وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّبَنَ يَكُونُ وَسَطًا بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، وَالْبَيْنِيَّةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِيَّةِ حَقِيقَةً كَمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَادَّعَى الرَّازِيُّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَيْنِيَّةُ مَجَازِيَّةً، بِاعْتِبَارِ تَوَلُّدِهِ مِنْ مَا حَصَلَ فِي الْفَرْثِ أَوَّلًا، وَتُوَلُّدِهُ مِنَ الدَّمِ النَّاشِئِ مِنْ لَطِيفِ مَا كَانَ فِي الْفَرْثِ ثَانِيًا كما قرره الرازي. ومن الأولى للتبعيض متعلقة بنسقيكم، وَالثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بنسقيكم، وَجَازَ تَعَلُّقُهُمَا بِعَامِلٍ
556
وَاحِدٍ لِاخْتِلَافِ مَدْلُولَيْهِمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْنِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً أَيْ: كَائِنًا مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ بَدَلًا مِنْ مَا فِي بُطُونِهِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: سَيِّغًا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: سَيْغًا مُخَفَّفًا مِنْ سَيِّغٍ كَهَيْنٍ الْمُخَفَّفِ مِنْ هَيِّنٍ، وَلَيْسَ بِفِعْلٍ لَازِمٍ كَانَ يَكُونُ سَوْغًا. وَالسَّائِغُ: السَّهْلُ فِي الْحَلْقِ اللَّذِيذُ،
وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّبَنَ لَمْ يَشْرَقْ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ»
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا مَنَّ بِهِ مِنْ بَعْضِ مَنَافِعِ الْحَيَوَانِ، ذَكَرَ مَا مَنَّ بِهِ مِنْ بَعْضِ مَنَافِعِ النَّبَاتِ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ من ثمرات بتتخذون، وَكُرِّرَتْ مِنْ لِلتَّأْكِيدِ، وَكَانَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا رَاعِيًا لِمَحْذُوفٍ أَيْ: وَمِنْ عَصِيرِ ثَمَرَاتٍ، أَوْ عَلَى مَعْنَى الثَّمَرَاتِ وَهُوَ الثَّمَرُ، أَوْ بِتَقْدِيرٍ مِنَ الْمَذْكُورِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بنسقيكم، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى مِمَّا في بطونه، أو بنسقيكم مَحْذُوفَةً دَلَّ عَلَيْهَا نُسْقِيكُمُ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ إِذَا اشْتَرَكَا فِي الْعَامِلِ. وَقِيلَ:
مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَنْعَامِ أَيْ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ عِبْرَةٌ، ثُمَّ بَيَّنَ الْعِبْرَةَ بِقَوْلِهِ:
تَتَّخِذُونَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: التَّقْدِيرُ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مَا تَتَّخِذُونَ. فَحَذَفَ مَا هو لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ كَقَوْلِهِ: بِكَفِّي كَانَ مِنْ أَرْمَى البشر. تَقْدِيرُهُ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ ثَمَرٌ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ قَالَ: أَيْ وَإِنَّ مِنْ ثَمَرَاتِ، وَإِنْ شِئْتَ شَيْءٌ بِالرَّفْعِ بِالِابْتِدَاءِ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ خَبَرُهُ انْتَهَى.
وَالسَّكَرُ فِي اللُّغَةِ الْخَمْرُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
بِئْسَ الصُّحَاةُ وَبِئْسَ الشُّرْبُ شُرْبُهُمْ إِذَا جَرَى مِنْهُمُ الْمُزَّاءُ وَالسَّكَرُ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ مِنْ سَكِرَ سُكْرًا وَسَكَرًا نَحْو: رَشُدَ رُشْدًا وَرَشَدًا.
قَالَ الشَّاعِرُ:
وَجَاءُونَا بِهِمْ سكر عَلَيْنَا فَأُجْلِيَ الْيَوْمَ وَالسَّكْرَانُ صَاحِي
وَقَالَهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْكَلْبِيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْجُمْهُورُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، ثُمَّ حُرِّمَتْ بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ. قَالَ الْحَسَنُ: ذَكَرَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ فِي السَّكَرِ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْخَلُّ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. وَقِيلَ: الْعَصِيرُ الْحُلْوُ الْحَلَالُ، وَسُمِّيَ سَكَرًا بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ إِذَا تُرِكَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السَّكَرُ الطعم، يُقَالُ هَذَا سَكَرٌ
557
لك أي طعم، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ قَالَ: وَالسَّكَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يُطْعَمُ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
جَعَلَتْ أَعْرَاضَ الْكِرَامِ سَكَرًا أَيْ: تَنَقَّلَتْ بِأَعْرَاضِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْخَمْرِ، وَأَنَّهُ إِذَا ابْتَرَكَ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ فَكَأَنَّهُ تَخَمَّرَ بِهَا، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَتَبِعَ الزَّجَّاجُ قَالَ: يَصِفُ أَنَّهُ يُخَمَّرُ بِعُيُوبِ النَّاسِ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا نَسْخَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ لَا يَصِحُّ، وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى خِلَافِهِ. وَقِيلَ: السَّكَرُ مَا لَا يُسْكِرُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ، وَقِيلَ: السَّكَرُ النَّبِيذُ، وَهُوَ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ إِذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَهُوَ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى حَدِّ السُّكْرِ انْتَهَى. وَإِذَا أُرِيدَ بِالسَّكَرِ الْخَمْرُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، وَإِذَا لَمْ نَقُلْ بِنَسْخٍ فَقِيلَ: جَمَعَ بَيْنَ الْعِتَابِ وَالْمِنَّةِ. يَعْنِي بِالْعِتَابِ عَلَى اتِّخَاذِ مَا يَحْرُمُ، وَبِالْمِنَّةِ عَلَى اتِّخَاذِ مَا يَحِلُّ، وَهُوَ الْخَلُّ وَالرُّبُّ وَالزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ السَّكَرُ رِزْقًا حَسَنًا كَأَنَّهُ قِيلَ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ مَا هُوَ سَكَرٌ وَرِزْقٌ حَسَنٌ انْتَهَى. فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ، وَظَاهِرُ الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ.
وَلَمَّا كَانَ مُفْتَتَحُ الْكَلَامِ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً، نَاسَبَ الْخَتْمَ بِقَوْلِهِ: يَعْقِلُونَ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ إِلَّا ذَوُو الْعُقُولِ كَمَا قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ «١».
وَانْظُرْ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ نِعْمَةِ اللَّبَنِ وَنِعْمَةِ السَّكَرِ وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ، لَمَّا كَانَ اللَّبَنُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُعَالَجَةٍ مِنَ النَّاسِ، أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: نُسْقِيكُمْ. وَلَمَّا كَانَ السَّكَرُ وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ يَحْتَاجُ إِلَى مُعَالَجَةٍ قَالَ: تَتَّخِذُونَ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِاتِّخَاذِهِمْ مِنْهُ السَّكَرَ وَالرِّزْقَ، وَلِأَمْرٍ مَا عَجَزَتِ الْعَرَبُ الْعَرْبَاءُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمِنَّةَ بِالْمَشْرُوبِ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ، أَتَمَّ النِّعْمَةَ بِذِكْرِ الْعَسَلِ النَّحْلِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْمَشْرُوبَاتِ مِنَ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ هُوَ الْغَالِبَ فِي النَّاسِ أَكْثَرَ مِنَ الْعَسَلِ، قَدَّمَ اللَّبَنَ وَغَيْرَهُ عَلَيْهِ، وَقَدَّمَ اللَّبَنَ عَلَى مَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ كَثِيرًا وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى الْفِطْرَةِ. وَلِذَلِكَ اخْتَارَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ اللَّبَنُ وَالْخَمْرُ وَالْعَسَلُ، وَجَاءَ تَرْتِيبُهَا فِي الْجَنَّةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى «٢» فَفِي إِخْرَاجِ اللَّبَنِ مِنَ النِّعَمِ وَالسَّكَرِ، وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَالْعَسَلِ مِنَ النَّحْلِ، دَلَائِلُ بَاهِرَةٌ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ. وَالْإِيحَاءُ هُنَا الْإِلْهَامُ وَالْإِلْقَاءُ فِي رُوعِهَا، وَتَعْلِيمُهَا عَلَى وَجْهٍ هُوَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِكُنْهِهِ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ. والنحل: جنس واحده
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٣ وفي لفظها لأولي الأبصار.
(٢) سورة محمد: ٤٧/ ١٥.
558
نَحْلَةٌ، وَيُؤَنَّثُ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أَنِ اتَّخِذِي. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ: النحل بفتح الحاء، وأن تَفْسِيرِيَّةٌ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْقَوْلِ وَهُوَ: وَأَوْحَى. أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: بِاتِّخَاذٍ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَنْ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِمَا فِي الْوَحْيِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَفِيهِ نَظَرٌ. لِأَنَّ الْوَحْيَ هُنَا بِإِجْمَاعٍ مِنْهُمْ هُوَ الْإِلْهَامُ، وَلَيْسَ فِي الْإِلْهَامِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَقَالَ: قَرَّرَ تَعَالَى فِي أَنْفُسِهَا الْأَعْمَالَ الْعَجِيبَةَ الَّتِي يَعْجِزُ عَنْهَا لِلْعُقَلَاءِ مِنَ الْبَشَرِ مِنْهَا بِنَاؤُهَا الْبُيُوتَ الْمُسَدَّسَةَ مِنْ أَضْلَاعٍ، مُتَسَاوِيَةٍ بِمُجَرَّدِ طِبَاعِهَا، وَلَا يَتِمُّ مِثْلُ ذلك العقلاء إِلَّا بِآلَاتٍ كَالْمِسْطَرَةِ وَالْبُرْكَانِ، وَلَمْ تَبْنِهَا بِأَشْكَالٍ غَيْرِ تِلْكَ، فَتَضِيقُ تِلْكَ الْبُيُوتُ عَنْهَا لِبَقَاءِ فُرَجٍ لَا تَسَعُهَا، وَلَهَا أَمِيرٌ أَكْبَرُ جُثَّةً مِنْهَا نَافِذُ الْحُكْمِ يَخْدِمُونَهُ، وَإِذَا نَفَرَتْ عَنْ وَكْرِهَا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَأَرَادُوا عَوْدَهَا إِلَى وَكْرِهَا ضربوا الطبول وآلات الموسيقى، وَبِوَسَاطَةِ تِلْكَ الْأَلْحَانِ تَعُودُ إِلَى وَكْرِهَا، فَلَمَّا امْتَازَتْ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ الْعَجِيبَةِ وَلَيْسَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ، وَهِيَ حَالَةٌ تُشْبِهُ الْوَحْيَ لِذَلِكَ قَالَ: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. ومن لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّهَا لَا تَبْنِي فِي كُلِّ جَبَلٍ، وَكُلِّ شَجَرٍ، وَكُلِّ مَا يُعْرَشُ، وَلَا فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبُيُوتَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْكُوَى الَّتِي تَكُونُ فِي الْجِبَالِ، وَفِي مُتَجَوِّفِ الْأَشْجَارِ. وَإِمَّا مِنْ مَا يَعْرِشُ ابْنُ آدم فالخلايا التي يصنها لِلنَّحْلِ ابْنُ آدَمَ، وَالْكُوَى الَّتِي تَكُونُ فِي الْحِيطَانِ. وَلَمَّا كَانَ النَّحْلُ نَوْعَيْنِ: مِنْهُ مَا مَقَرُّهُ فِي الْجِبَالِ وَالْغِيَاضِ وَلَا يَتَعَهَّدُهُ أَحَدٌ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ فِي بُيُوتِ النَّاسِ وَيُتَعَهَّدُ فِي الْخَلَايَا وَنَحْوِهَا، شَمِلَ الْأَمْرَ بِاتِّخَاذِ الْبُيُوتِ النَّوْعَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيِّ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبُيُوتَ لَيْسَتِ الْكُوَى، وَإِنَّمَا هِيَ مَا تَبْنِيهِ هِيَ، فَقَالَ: أُرِيدَ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، يَعْنِي بِمِنْ، وَأَنْ لَا يُبْنَى بُيُوتُهَا فِي كُلِّ جَبَلٍ وَكُلِّ شَجَرٍ وَكُلِّ مَا يُعْرَشُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَمِمَّا يَعْرِشُونَ الْكُرُومُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مِمَّا يَبْنُونَ مِنَ السُّقُوفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا مِنْهُمَا تَفْسِيرٌ غَيْرُ مُتْقَنٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَعُبَيْدُ بْنُ نَضْلَةَ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: بِضَمِّ الرَّاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا، وَتَقْتَضِي ثُمَّ الْمُهْلَةَ وَالتَّرَاخِيَ بَيْنَ الِاتِّخَاذِ وَالْأَكْلِ الَّذِي تَدَّخِرُ مِنْهُ الْعَسَلَ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَطْفُ بِثُمَّ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى اتَّخِذِي، وَهُوَ أَمْرٌ مَعْطُوفٌ عَلَى أَمْرٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «١» إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلِّ الثَّمَرَاتِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ أَيِ: الْمُعْتَادَةِ، لَا كُلِّهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيِ ابْنِي الْبُيُوتَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ ثَمَرَةٍ تَشْتَهِيهَا انْتَهَى. فَدَلَّ قَوْلُهُ: أَيْ ابني
(١) سورة النمل: ٢٧/ ١٨.
559
الْبُيُوتَ، أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ بُيُوتًا الْكُوَى الَّتِي فِي الْجِبَالِ وَمُتَجَوِّفِ الْأَشْجَارِ وَلَا الْخَلَايَا، وَإِنَّمَا يُرَادُ البيوت المسدسة التي تبينها هِيَ. وَظَاهِرُ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كل الثمرات أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، فَتَأْكُلُ مِنَ الْأَشْجَارِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَوْرَاقِ الْعَطِرَةِ أَشْيَاءَ يُوَلِّدُ اللَّهُ مِنْهَا فِي أَجْوَافِهَا عَسَلًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا تَأْكُلُ النَّوَّارَ مِنَ الْأَشْجَارِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: يُحْدِثُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْهَوَاءِ ظِلًّا كَثِيرًا يَجْتَمِعُ مِنْهُ أَجْزَاءٌ محسوسة مثل الترنجبين وهو محسوس، وقليلا لَطِيفُ الْأَجْزَاءِ صَغِيرُهَا، وَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّحْلَ الْتِقَاطَهُ مِنَ الْأَزْهَارِ وَأَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ، وَتَغْتَذِي بِهَا فَإِذَا شَبِعَتِ الْتَقَطَتْ بِأَفْوَاهِهَا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ، وَوَضَعَتْهَا فِي بُيُوتِهَا كَأَنَّهَا تُحَاوِلُ أَنْ تَدَّخِرَ لِنَفْسِهَا غِذَاءَهَا، فَالْمُجْتَمِعُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْعَسَلُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لَا لِلتَّبْعِيضِ انْتَهَى. وَظَاهِرُ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ فِي فَاسْلُكِي أَنَّهُ بِعَقِيبِ الْأَكْلِ أَيْ: فَإِذَا أَكَلْتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ، أَيْ طُرُقَ رَبِّكِ إِلَى بُيُوتِكِ رَاجِعَةً، وَالسُّبُلُ إِذْ ذَاكَ مَسَالِكُهَا فِي الطَّيَرَانِ. وَرُبَّمَا أَخَذَتْ مَكَانَهَا فَانْتَجَعَتِ الْمَكَانَ الْبَعِيدَ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى مَكَانِهَا الْأَوَّلِ.
وَقِيلَ: سُبُلَ رَبِّكِ أَيِ الطُّرُقَ الَّتِي أَلْهَمَكِ وَأَفْهَمَكِ فِي عَمَلِ الْعَسَلِ، أَوْ فَاسْلُكِي مَا أَكَلْتِ أَيْ: فِي سُبُلِ رَبِّكِ، أَيْ فِي مَسَالِكِهِ الَّتِي يحيل فيها بقدرته النور الْمُرَّ عَسَلًا مِنْ أَجْوَافِكِ وَمَنَافِذِ مَأْكَلِكِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَنْتَصِبُ سُبُلَ رَبِّكِ عَلَى الظَّرْفِ، وَعَلَى مَا قَبْلَهُ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ثُمَّ كُلِي، ثُمَّ اقْصِدِي الْأَكْلَ مِنَ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي فِي طَلَبِهَا سُبُلَ رَبِّكِ، وَهَذَا الْقَوْلُ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ فِي الْمَجَازِ فِي سُبُلَ رَبِّكِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنَّ كُلِي بِمَعْنَى اقْصِدِي الْأَكْلَ، مَجَازٌ أَضَافَ السُّبُلَ إِلَى رَبِّ النَّحْلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُهَا وَمَالِكُهَا وَالنَّاظِرُ فِي تَهْيِئَةِ مَصَالِحِهَا وَمَعَاشِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذُلُلًا غَيْرَ مُتَوَعِّرَةٍ عَلَيْهَا سَبِيلٌ تَسْلُكُهُ، فَعَلَى هَذَا ذُلُلًا حَالٌ مِنْ سَبِيلِ رَبِّكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا «١» وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ مُطِيعَةً مُنْقَادَةً. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَخْرُجُونَ بِالنَّحْلِ يَنْتَجِعُونَ وَهِيَ تَتْبَعُهُمْ، فَعَلَى هَذَا ذُلُلًا حَالٌ مِنَ النَّحْلِ كَقَوْلِهِ: وَذَلَّلْناها لَهُمْ «٢» ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى عَلَى جِهَةِ تَعْدِيدِ النِّعْمَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْمِنَّةِ ثَمَرَةَ هَذَا الِاتِّخَاذِ وَالْأَكْلِ وَالسُّلُوكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ، وَهُوَ الْعَسَلُ. وَسَمَّاهُ شَرَابًا لِأَنَّهُ مِمَّا يُشْرَبُ، كَمَا ذَكَرَ ثَمَرَةَ الْأَنْعَامِ وَهِيَ سَقْيُ اللَّبَنِ، وَثَمَرَةَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَهُوَ اتِّخَاذُ السَّكَرِ والرزق الحسن.
(١) سورة الملك: ٦٧/ ١٥.
(٢) سورة يس: ٣٦/ ٧٢.
560
وَذَكَرَ تَعَالَى الْمَقَرَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الشَّرَابُ وَهُوَ بُطُونُهَا، وَهُوَ مَبْدَأُ الْغَايَةِ الْأُولَى، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهَا وَهُوَ مَبْدَأُ الْغَايَةِ الْأَخِيرَةِ وَلِذَلِكَ قال الحريري:
تقل هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ وَإِنْ ذَمَمْتَ تَقُلْ قَيْءَ الزَّنَابِيرِ
وَالْمُجَاجُ وَالْقَيْءُ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنَ الْفَمِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ فِي تَحْقِيرِ الدُّنْيَا: أَشْرَفُ لِبَاسِ ابْنِ آدَمَ فِيهَا لُعَابُ دُودَةٍ، وَأَشْرَفَ شَرَابِهِ رَجِيعُ نَحْلَةٍ.
وَعَنْهُ أَيْضًا: أَمَّا الْعَسَلُ فَوَنِيمُ ذُبَابٍ
، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْعَسَلَ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ الْفَمِ، وَقَدْ خَفِيَ مِنْ أَيِّ الْمَخْرَجَيْنِ يَخْرُجُ، أَمِنَ الْفَمِ؟ أَمْ مِنْ أَسْفَلُ؟
وَحُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْإِسْكَنْدَرَ، وَأَرِسْطَاطَالِيسَ، صَنَعُوا لَهَا بُيُوتًا مِنْ زُجَاجٍ لِيَنْظُرُوا إِلَى كَيْفِيَّةِ صُنْعِهَا، وَهَلْ يَخْرُجُ الْعَسَلُ مِنْ فِيهَا أَمْ مِنْ أَسْفَلِهَا؟ فَلَمْ تَضَعْ مِنَ الْعَسَلِ شَيْئًا حَتَّى لَطَّخَتْ بَاطِنَ الزُّجَاجِ بِالطِّينِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ الْمُشَاهَدَةَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لُبَابُ الْبُرِّ بِلُعَابِ النَّحْلِ بِخَالِصِ السَّمْنِ مَا عَابَهُ مُسْلِمٌ، فَجَعَلَهُ لُعَابًا كَالرِّيقِ الدَّائِمِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ فَمِ ابْنِ آدَمَ. وَقِيلَ: مِنْ بُطُونِهَا مِنْ أَفْوَاهِهَا، سَمَّى الْفَمَ بَطْنًا لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَطْنِ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا يَبْطَنُ وَلَا يَظْهَرُ. وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِهِ بِالْبَيَاضِ وَالصُّفْرَةِ وَالْحُمْرَةِ وَالسَّوَادِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ طِبَاعِ النَّحْلِ، وَاخْتِلَافِ الْمَرَاعِي. وَقَدْ يَخْتَلِفُ طَعْمُهُ لِاخْتِلَافِ الْمَرْعَى كَمَا
فِي الْحَدِيثِ «جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعَرْفَطَ»
وَقِيلَ: الْأَبْيَضُ تُلْقِيهِ شَبَابُ النَّحْلِ، وَالْأَصْفَرُ كُهُولُهَا، وَالْأَحْمَرُ شَبِيبُهَا. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِيهِ إِلَى الشَّرَابِ وَهُوَ الْعَسَلُ، لِأَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْفِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ الْمَشْهُورَةِ النَّافِعَةِ. وَقَلَّ مَعْجُونٌ مِنَ الْمَعَاجِينِ لَمْ يَذْكُرِ الْأَطِبَّاءُ فِيهِ الْعَسَلَ، وَالْعَسَلُ مَوْجُودٌ كَثِيرٌ فِي أَكْثَرِ الْبُلْدَانِ. وَأَمَّا السَّكَرُ فَمُخْتَصٌّ بِهِ بَعْضُ الْبِلَادِ وَهُوَ مُحْدَثٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَزْمَانِ يُجْعَلُ فِي الْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ إِلَّا الْعَسَلَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الْعُمُومَ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَمْرَاضِ لَا يَدْخُلُ فِي دَوَائِهَا الْعَسَلُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى لِلنَّاسِ الَّذِي يُنْجَعُ الْعَسَلُ فِي أَمْرَاضِهِمْ. وَنَكَّرَ شِفَاءً إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِيهِ شِفَاءٌ أَيْ شِفَاءٌ، وَإِمَّا لِدَلَالَتِهِ عَلَى مُطْلَقِ الشِّفَاءِ أَيْ: فِيهِ بَعْضُ الشِّفَاءِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكِ، وَالْفَرَّاءِ، وَابْنِ كَيْسَانَ: أَنَّ الضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ: فِي الْقُرْآنِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ أَيْ: فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: أَرَى هَذَا الْقَوْلَ لَا يَصِحُّ نَقْلُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَلَوْ صَحَّ نَقْلًا لَمْ يَصِحَّ عَقْلًا فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ كُلِّهِ لِلْعَسَلِ لَيْسَ لِلْقُرْآنِ فِيهِ ذِكْرٌ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ النِّحَلِ عَجِيبًا فِي بِنَائِهَا تِلْكَ الْبُيُوتَ
561
الْمُسَدَّسَةَ، وَفِي أَكْلِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَزْهَارِ وَالْأَوْرَاقِ الْحَامِضِ وَالْمُرِّ وَالضَّارِّ، وَفِي طَوَاعِيَتِهَا لِأَمِيرِهَا وَلِمَنْ يَمْلِكُهَا فِي النُّقْلَةِ مَعَهُ، وَكَأَنَّ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ وَزِيَادَةِ تَدَبُّرٍ خَتَمَ بقوله تخ عالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ وَالثَّمَرَاتِ وَالنَّحْلِ، ذَكَرَ مَا نَبَّهَنَا بِهِ عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ فِي إِنْشَائِنَا مِنَ الْعَدَمِ وَإِمَاتَتِنَا، وَتَنَقُّلِنَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ مِنْ حَالَةِ الْجَهْلِ إِلَى حَالَةِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: عَلِيمٌ قَدِيرٌ.
وَأَرْذَلُ الْعُمُرِ آخِرُهُ الَّذِي تَفْسُدُ فِيهِ الْحَوَاسُّ، وَيَخْتَلُّ النُّطْقُ وَالْفِكْرُ. وَخَصَّ بِالرَّذِيلَةِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ لَا رَجَاءَ بَعْدَهَا لِإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ، بِخِلَافِ حَالِ الطُّفُولَةِ فَإِنَّهَا حَالَةٌ تَتَقَدَّمُ فِيهَا إِلَى الْقُوَّةِ وَإِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ وَلَا يَتَقَيَّدُ أَرْذَلُ الْعُمُرِ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، كَمَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً.
وَعَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ تِسْعُونَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسْبِ إِنْسَانٍ إِنْسَانٍ فَرُبَّ ابْنِ خَمْسِينَ انْتَهَى، إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَرُبَّ ابْنِ مِائَةٍ لَمْ يُرَدَّ إِلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ عَامٌّ، فِيمَنْ يَلْحَقُهُ الْخَرَفُ وَالْهَرَمُ. وَقِيلَ: هَذَا فِي الْكَافِرِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَزْدَادُ بطول عمره لا كَرَامَةً عَلَى اللَّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «١» أَيْ لَمْ يُرَدُّوا إِلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إلى أرذل لعمر.
وَاللَّامُ فِي لِكَيْ قَالَ الْحَوْفِيُّ: هِيَ لَامُ كَيْ دَخَلَتْ عَلَى كَيْ لِلتَّوْكِيدِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِيُرَدُّ انْتَهَى. وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَقِّقُو النُّحَاةِ فِي مِثْلِ لِكَيْ أَنَّ كَيْ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا اللَّامُ وَهِيَ النَّاصِبَةُ كَأَنْ، وَاللَّامُ جَارَّةٌ، فَيَنْسَبِكُ مِنْ كَيْ وَالْمُضَارِعُ بَعْدَهَا مَصْدَرٌ مَجْرُورٌ بِاللَّامِ تَقْدِيرًا، فَاللَّامُ عَلَى هَذَا لَمْ تَدْخُلْ عَلَى كَيْ لِلتَّوْكِيدِ لِاخْتِلَافِ مَعْنَاهُمَا واختلاف
(١) سورة التين: ٩٥/ ٥- ٦.
562
عَمَلِهِمَا، لِأَنَّ اللَّامَ مُشْعِرَةٌ بِالتَّعْلِيلِ، وَكَيْ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ، وَاللَّامُ جَارَّةٌ، وَكَيْ نَاصِبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ لَامَ صَيْرُورَةٍ وَالْمَعْنَى: لِيَصِيرَ أَمْرُهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ إِلَى أَنْ لَا يَعْلَمَ شَيْئًا. وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ، لَا أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا الْبَتَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
لِيَصِيرَ إِلَى حَالَةٍ شَبِيهَةٍ بِحَالِهِ فِي النِّسْيَانِ، وَأَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا ثُمَّ يُسْرِعُ فِي نِسْيَانِهِ فَلَا يَعْلَمُهُ إِنْ سُئِلَ عَنْهُ. وَقِيلَ: لِئَلَّا يَعْقِلَ مِنْ بَعْدِ عَقْلِهِ الْأَوَّلِ شَيْئًا. وَقِيلَ: لِئَلَّا يَعْلَمَ زِيَادَةَ عِلْمٍ عَلَى عِلْمِهِ انْتَهَى. وَانْتَصَبَ شَيْئًا إِمَّا بِالْمَصْدَرِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ فِي اخْتِيَارِ أَعْمَالِهِ مَا يَلِي لِلْقُرْبِ، أو بيعلم عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي اخْتِيَارِ أَعْمَالِ مَا سَبَقَ لِلسَّبْقِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يَعْرِضُ فِي الْهَرَمِ مِنْ ضَعْفِ الْقُوَى وَالْقُدْرَةِ وَانْتِفَاءِ الْعِلْمِ، ذَكَرَ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ اللَّذَيْنِ لَا يَتَبَدَّلَانِ وَلَا يَتَغَيَّرَانِ وَلَا يَدْخُلُهُمَا الْحَوَادِثُ، وَوَلِيَتْ صِفَةُ الْعِلْمِ مَا جَاوَرَهَا مِنِ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا ذِكْرُ مُنَاسَبَةٍ لِلْخَتْمِ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى خَلْقَنَا، ثُمَّ إِمَاتَتَنَا وَتَفَاوُتَنَا فِي السِّنِّ، ذَكَرَ تَفَاوُتَنَا فِي الرِّزْقِ، وَأَنَّ رِزْقَنَا أَفْضَلُ مِنْ رِزْقِ الْمَمَالِيكِ وَهُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا، وَرُبَّمَا كَانَ الْمَمْلُوكُ خَيْرًا مِنَ الْمَوْلَى فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَالتَّصَرُّفِ، وَأَنَّ الْفَاضِلَ فِي الرِّزْقِ لَا يُسَاهِمُ مَمْلُوكَهُ فِيمَا رُزِقَ فَيُسَاوِيهِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ فَضْلَ مَا رُزِقَ عَلَيْهِ وَيُسَاوِيهِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ، كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ رِيءَ عَبْدُهُ وَإِزَارُهُ وَرِدَاؤُهُ مِثْلُ رِدَائِهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، عَمَلًا
بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هُمْ إِخْوَانُكُمْ فَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَطْعَمُونَ»
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْإِخْبَارَ بِقَوْلِهِ: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ أَيْ: أَنَّ الْمُفَضَّلَيْنِ فِي الرِّزْقِ لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يُسَاهِمُوا مَمَالِيكَهُمْ فِيمَا أُعْطُوا حَتَّى تَسْتَوِيَ أَحْوَالُهُمْ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْبَشَرِ فَكَيْفَ تَنْسُبُونَ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْكَفَرَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يُشْرِكُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، وَمَنْ عُبِدَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ وَالْجَمِيعُ عَبِيدُهُ وَخَلْقُهُ؟ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْآيَةَ مُشِيرَةٌ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ «١» الْآيَةَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْمَوَالِيَ وَالْمَمَالِيكَ أَنَا رَازِقُهُمْ جَمِيعًا، فَهُمْ فِي رِزْقِي سَوَاءٌ، فَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَوَالِيَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ مِنْ عِنْدِهِمْ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ أُجْرِيهِ إِلَيْهِمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ جُمْلَةَ إِخْبَارٍ عَنْ تَسَاوِي الْجَمِيعِ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ رَازِقُهُمْ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي
(١) سُورَةِ الرُّومِ: ٣٠/ ٢٨.
563
مَوْضِعِ جَوَابِ النَّفْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَيَسْتَوُوا. وَقِيلَ: هِيَ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ حُذِفَ مِنْهَا الْهَمْزَةُ التَّقْدِيرُ: أَفَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَيْ: لَيْسُوا مُسْتَوِينَ فِي الرِّزْقِ، بَلِ التَّفْضِيلُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَنْ جُحُودِهِمْ نِعْمَهُ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ، وَأَتَى بِالنِّعْمَةِ الشَّامِلَةِ لِلرِّزْقِ وَغَيْرِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى أَيْ: إِنَّ مَنْ تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ بِالنَّشْأَةِ أَوَّلًا ثُمَّ مِمَّا فِيهِ قِوَامُ حَيَاتِكُمْ جَدِيرٌ بِأَنْ تُشْكَرَ نِعَمُهُ وَلَا تُكْفَرَ.
وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْأَعْرَجُ بِخِلَافِ عَنْهُ: تَجْحَدُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لِقَوْلِهِ: فَضَّلَ، تَبْكِيتًا لَهُمْ فِي جَحْدِ نِعْمَةِ اللَّهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى امْتِنَانَهُ بِالْإِيجَادِ ثُمَّ بِالرِّزْقِ الْمُفَضَّلِ فِيهِ، ذَكَرَ امْتِنَانَهُ بِمَا يَقُومُ بِمَصَالِحِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَأْنَسُ بِهِ وَيَسْتَنْصِرُ بِهِ وَيَخْدِمُهُ، وَاحْتَمَلَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ جِنْسِكُمْ وَنَوْعِكُمْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ خَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ، فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى بَنِي آدَمَ، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ مُجَازٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَطْفَ حَفَدَةً عَلَى بَنِينَ يُفِيدُ كَوْنَ الْجَمِيعِ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ الْبَنِينَ.
فَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ بَنُو ابْنِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَزْهَرِيُّ: الْحَفَدَةُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْبَنُونَ صِغَارُ الْأَوْلَادِ، وَالْحَفَدَةُ كِبَارُهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
بِعَكْسِهِ، وَقِيلَ: الْبَنَاتُ لِأَنَّهُنَّ يَخْدِمْنَ فِي الْبُيُوتِ أَتَمَّ خِدْمَةٍ. فَفِي هَذَا الْقَوْلِ خَصَّ الْبَنِينَ بِالذُّكْرَانِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُذَكَّرٌ كَمَا قَالَ: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا «١» وَإِنَّمَا الزِّينَةُ فِي الذُّكُورَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمْ أَوْلَادُ الزَّوْجَةِ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ الَّتِي هِيَ فِي عِصْمَتِهِ. وَقِيلَ:
وَحَفَدَةً مَنْصُوبٌ بِجَعَلَ مُضْمَرَةً، وَلَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي كَوْنِهِمْ مِنَ الْأَزْوَاجِ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَأَبُو الضُّحَى، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْأَصْهَارُ، وَهُمْ قَرَابَةُ الزَّوْجَةِ كَأَبِيهَا وَأَخِيهَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْأَنْصَارُ وَالْأَعْوَانُ وَالْخَدَمُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْحَفَدَةُ هُمُ الْبَنُونَ أَيْ: جَامِعُونَ بَيْنَ الْبُنُوَّةِ وَالْخِدْمَةِ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا مَعْنَاهُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ جَعَلَ لَهُ مِنْ زَوْجِهِ بَنِينَ وَحَفَدَةً، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْغَالِبِ وعظم النَّاسِ. وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْعُمُومِ وَالِاشْتِرَاكِ أَيْ:
مِنْ أَزْوَاجِ الْبَشَرِ جَعَلَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْبَنِينَ، وَمِنْهُمْ جَعَلَ الْخِدْمَةَ، وَهَكَذَا رَتَّبَتِ الْآيَةُ النِّعْمَةَ الَّتِي تَشْمَلُ الْعَالَمَ. وَيَسْتَقِيمُ لَفْظُ الْحَفَدَةِ عَلَى مَجْرَاهَا فِي اللُّغَةِ، إِذِ الْبَشَرُ بِجُمْلَتِهِمْ لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ حَفَدَةٍ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا دَلَالَةٌ عَلَى كَذِبِ الْعَرَبِ في
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٤٦. [.....]
564
اعْتِقَادِهَا أَنَّ الْآدَمِيَّ قَدْ يَتَزَوَّجُ مِنَ الْجِنِّ وَيُبَاضِعُهَا، حَتَّى حَكَوْا ذَلِكَ عَنْ عَمْرِو بْنِ هندانة تزوج سعلاة.
ومن فِي الطَّيِّبَاتِ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ كُلَّ الطَّيِّبَاتِ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي فِي الدُّنْيَا أُنْمُوذَجٌ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّيِّبَاتِ هُنَا الْمُسْتَلَذَّاتُ لَا الْحَلَالُ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كُفَّارٌ لَا يَتَلَبَّسُونَ بِشَرْعٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا امْتَنَّ بِهِ مِنْ جَعْلِ الْأَزْوَاجِ وَمَا نَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ جِهَتَيْنِ، ذَكَرَ مِنَنَهُ بِالرِّزْقِ. وَالطَّيِّبَاتِ عَامٌّ فِي النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ وَالْأَشْرِبَةِ، وَمِنَ الْحَيَوَانِ. وَقِيلَ:
الطَّيِّبَاتُ الْغَنَائِمُ. وَقِيلَ: مَا أَتَى مِنْ غَيْرِ نَصَبٍ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَاطِلُ الشَّيْطَانُ، وَنِعْمَةُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: طَاعَةُ الشَّيْطَانِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقِيلَ: مَا يُرْجَى مِنْ شَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ وَبَرَكَتِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَهُوَ مَا يعتقدون من مننفعة الْأَصْنَامِ وَبَرَكَتِهَا وَشَفَاعَتِهَا، وَمَا هُوَ إِلَّا وَهْمٌ بَاطِلٌ لَمْ يَتَوَصَّلُوا إِلَيْهِ بِدَلِيلٍ وَلَا أَمَارَةٍ، فَلَيْسَ لَهُمْ إِيمَانٌ إِلَّا بِهِ، كَأَنَّهُ شَيْءٌ مَعْلُومٌ مُسْتَيْقَنٌ. وَنِعْمَةُ اللَّهِ الْمُشَاهَدَةُ الْمُعَايَنَةُ الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا لِذِي عقل، وتمييزهم كَافِرُونَ بِهَا مُنْكِرُونَ لَهَا كَمَا يُنْكَرُ الْمُحَالَ الَّذِي لَا تَتَصَوَّرُهُ الْعُقُولُ. وَقِيلَ:
الْبَاطِلُ مَا يُسَوِّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَنِعْمَةُ اللَّهِ مَا أَحَلَّ لَهُمْ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُؤْمِنُونَ بِالْيَاءِ، وَهُوَ تَوْقِيفٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم على إِيمَانِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَيَنْدَرِجُ فِي التَّوْقِيفِ الْمَعْطُوفِ بَعْدَهَا. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِالتَّاءِ، وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِمٍ، وَهُوَ خِطَابُ إِنْكَارٍ وَتَقْرِيعٍ لَهُمْ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُجَرَّدُ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْدَرِجُ فِي التَّقْرِيعِ. وَيَعْبُدُونَ، اسْتِفْهَامُ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَفِي ذَلِكَ تَبْيِينٌ لِقَوْلِهِ:
أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ، نَعَى عَلَيْهِمْ فَسَادَ نَظَرِهِمْ فِي عِبَادَةِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ مَا يَسْعَى عَابِدُهُ فِي تَحْصِيلِهِ مِنْهُ وَهُوَ الرِّزْقُ، وَلَا هُوَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ. فَنَفَى أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الرِّزْقِ فِي مِلْكِهِمْ، وَنَفَى ثَانِيًا قُدْرَتَهَا عَلَى أَنْ تُحَاوِلَ ذَلِكَ، وما لا تملك فِي جَمِيعِ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ مَلَكٍ أَوْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَجَازُوا فِي شَيْئًا انْتِصَابَهُ بِقَوْلِهِ: رِزْقًا، أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ. وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الطَّرَاوَةِ بِأَنَّ الرِّزْقَ هُوَ الْمَرْزُوقُ كَالرَّعْيِ وَالطَّحْنِ، وَالْمَصْدَرُ هُوَ الرَّزْقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ كَالرَّعْيِ وَالطَّحْنِ. وَرُدَّ عَلَى ابن الطراوة بأن الرزق بِالْكَسْرِ يَكُونُ أَيْضًا مَصْدَرًا، وَسُمِعَ ذَلِكَ فِيهِ، فَصَحَّ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ وَالْمَعْنَى: مَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَرْزُقَ مِنَ السموات والأرض شيئا. ومن السموات مُتَعَلِّقٌ إِذْ ذَاكَ بِالْمَصْدَرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ إِعْمَالَ الْمَصْدَرِ مُنَوَّنًا: وَالْمَصْدَرُ يَعْمَلُ مُضَافًا بِاتِّفَاقٍ، لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ، وَلَا يَعْمَلُ إِذَا دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِأَنَّهُ قَدْ تَوَغَّلَ فِي حَالِ الْأَسْمَاءِ وَبَعُدَ عَنِ الْفِعْلِيَّةِ. وَتَقْدِيرُ
565
الِانْفِصَالِ فِي الْإِضَافَةِ حَسُنَ عَمَلُهُ، وَقَدْ جَاءَ عَامِلًا مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
ضَعِيفُ النِّكَايَةِ أَعْدَاءَهُ الْبَيْتَ. وَقَوْلِهِ:
لَحِقْتُ فَلَمْ أَنْكُلْ عَنِ الضَّرْبِ مَسْمَعًا انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: يَعْمَلُ مُضَافَاً بِالِاتِّفَاقِ إِنْ عَنَى مِنَ الْبَصْرِيِّينَ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ عَنَى مِنْ النَّحْوِيِّينَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ وَإِنْ أُضِيفَ لَا يَعْمَلُ، وَإِنْ نَصَبَ مَا بَعْدَهُ أَوْ رَفَعَهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْمَصْدَرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ لَكَانَتِ الْإِضَافَةُ غَيْرَ مَحْضَةٍ، وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بُرْهَانٍ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الطَّرَاوَةِ، وَمَذْهَبُهُمَا فَاسِدٌ لِنَعْتِ هَذَا الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ، وَتَوْكِيدِهِ بِالْمَعْرِفَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَعْمَلُ إِلَى آخِرِهِ فَقَدْ نَاقَضَ فِي قَوْلِهِ أَخِيرًا: وَقَدْ جَاءَ عَامِلًا مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يَعْمَلُ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فَهُوَ مَذْهَبٌ مَنْقُولٌ عَنِ الْكُوفِيِّينَ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ جَوَازُ إِعْمَالِهِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَتَقُولُ عَجِبْتُ مِنَ الضَّرْبِ زَيْدًا، كَمَا تَقُولُ: عَجِبْتُ مِنَ الضَّارِبِ زَيْدًا، تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ بِمَنْزِلَةِ التَّنْوِينِ. وَإِذَا كَانَ رِزْقًا يُرَادُ بِهِ الْمَرْزُوقُ فَقَالُوا: انْتَصَبَ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ رِزْقًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ من السموات وَالْأَرْضِ شَيْئًا، وَهُوَ الْبَدَلُ جَارِيًا عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ رِزْقٍ، وَلَا عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ لِعُمُومِهِ لَيْسَ مُرَادِفًا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ، إِذْ لَا يَخْلُوَ الْبَدَلُ مِنْ أَحَدِ نَوْعَيْهِ هَذَيْنِ: إِمَّا الْبَيَانُ، وَإِمَّا التَّوْكِيدُ. وَأَجَازُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْمِلْكِ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا أَيْ شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْإِعْرَابَيْنِ تتعلق من السموات بِقَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُ، أَوْ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِرِزْقٍ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.
وَمِنَ السموات رِزْقًا يَعْنِي بِهِ الْمَطَرَ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ رِزْقٌ لِأَنَّهُ عَنْهُ يَنْشَأُ الرِّزْقُ. وَالْأَرْضُ يَعْنِي: الشَّجَرَ، وَالثَّمَرَ، وَالزَّرْعَ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي يَسْتَطِيعُونَ عَلَى مَا عَلَى مَعْنَاهَا، لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَا آلهتهم، بعد ما عَادَ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَا يَمْلِكُ، فَأَفْرَدَ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي صِلَةِ مَا، وَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ دَاخِلًا، بَلْ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ بِانْتِفَاء الِاسْتِطَاعَةِ أَصْلًا، لِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّهُ يُرَادُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِ الْمِلْكِ وَالِاسْتِطَاعَةِ التَّوْكِيدِ فَلَيْسَ كَمَا ذُكِرَ، لِأَنَّ نَفْيَ الْمِلْكَ مُغَايِرٌ لِنَفْيِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرْزُقُوا أَنْفُسَهُمْ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ:
566
وَيَعْبُدُونَ، وَهُمُ الْكُفَّارُ أَيْ: وَلَا يَسْتَطِيعُ هَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ مُتَصَرِّفُونَ أُولُو أَلْبَابٍ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَكَيْفَ بِالْجَمَادِ الَّذِي لَا حِسَّ بِهِ؟ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ بِبُرْهَانٍ يُظْهِرُونَهُ وَحُجَّةٍ يُثْبِتُونَهَا انْتَهَى.
وَنَهَى تَعَالَى عَنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِلَّهِ، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ تَمْثِيلُهَا وَالْمَعْنَى هُنَا: تَمْثِيلٌ لِلْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ وَالتَّشْبِيهِ بِهِ، لِأَنَّ مَنْ يَضْرِبُ الْأَمْثَالَ مُشَبِّهٌ حَالًا بِحَالٍ. وَقِصَّةً بِقِصَّةٍ مِنْ قَوْلِهِمْ:
هَذَا ضَرْبٌ لِهَذَا أَيْ: مَثَلٌ، وَالضَّرْبُ النَّوْعُ. تَقُولُ: الْحَيَوَانُ عَلَى ضُرُوبٍ أَيْ أَنْوَاعٍ، وَهَذَا مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ أَيْ: مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ لَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ انْتَهَى.
وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَثْبَتَ الْعِلْمَ لِنَفْسِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَالْإِشْرَاكِ بِهِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْجَزَاءِ بِالْعِلْمِ: وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ كُنْهَ مَا أَقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ، وَلَا وَبَالَ عَاقِبَتِهِ، فَعَدَمُ عِلْمِكُمْ بِذَلِكَ جَرَّكُمْ وَجَرَّأَكُمْ وَهُوَ كَالتَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كَيْفَ نَضْرِبُ الْأَمْثَالَ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ انْتَهَى. وَقَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ قَالَ: يَعْلَمُ بِضَرْبِ الْمَثَلِ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: يَعْلَمُ خَطَأَ مَا تَضْرِبُونَ مِنَ الْأَمْثَالِ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ صَوَابَ ذلك من خطته.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٥ الى ٨٩]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤)
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
567
الْكَلُّ: الثَّقِيلُ، وَقَدْ يُسَمَّى الْيَتِيمُ كَلًّا لِثِقَلِهِ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَكُولٌ لِمَالِ الْكَلِّ قَبْلَ شَبَابِهِ إِذَا كَانَ عَظْمُ الْكَلِّ غَيْرَ شَدِيدِ
وَالْكَلُّ أَيْضًا الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَالْكَلُّ الْعِيَالُ، وَالْجَمْعُ كُلُولٌ. اللَّمْحُ: النَّظَرُ بِسُرْعَةٍ، لَمَحَهُ لَمْحًا وَلَمَحَانًا. الْجَوُّ: مَسَافَةُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يَلِي الْأَرْضَ فِي سَمْتِ الْعُلُوِّ، وَاللَّوْحُ وَالسُّكَاكُ أَبْعَدُ مِنْهُ. الظَّعْنُ: سَيْرُ الْبَادِيَةِ فِي الِانْتِجَاعِ وَالتَّحَوُّلُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَالظَّعْنُ الْهَوْدَجُ أَيْضًا. الصُّوفُ لِلضَّأْنِ، وَالْوَبَرُ لِلْإِبِلِ، وَالشَّعْرُ لِلْمَعَزِ، قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَصْوَافِهَا الْآيَةَ. الْأَثَاثُ: قَالَ الْمُفَضَّلُ مَتَاعُ الْبَيْتِ كَالْفُرُشِ وَالْأَكْسِيَةِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لفظه، كَمَا أَنَّ الْمَتَاعَ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ
568
لَفْظِهِ، وَلَوْ جَمَعْتَ لَقُلْتَ: أَأْثِثَةٌ فِي الْقَلِيلِ، وَأُثُثٌ فِي الْكَثِيرِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَاحِدُهُ أُثَاثةٌ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَثَثَ النَّبَاتُ وَالشَّعْرُ، فَهُوَ أَثِيثٌ إِذَا كَثُرَ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَفَرْعٌ يُزَيِّنُ المتن أسود فاحم أثيت كَقِنْوِ النَّخْلَةِ الْمُتَعَثْكِلِ
الْكِنُّ مَا حَفَظَ، وَمَنَعَ مِنَ الرِّيحِ وَالْمَطَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنَ الْجِبَالِ الْغَارُ. اسْتَعْتَبْتُ الرَّجُلَ بِمَعْنَى أَعْتَبْتُهُ أَيْ: أَزَلْتُ عَنْهُ مَا يُعْتَبُ عَلَيْهِ وَيُلَامُ، وَالِاسْمُ الْعُتْبَى، وَجَاءَتِ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ نَحْوَ اسْتَدْيَنْتُهُ وَأَدْيَنْتُهُ.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: مُنَاسَبَةُ ضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى ضَلَالَهُمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ غَيْرَهُ وَهُوَ لَا يَجْلِبُ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا لِنَفْسِهِ وَلَا لِعَابِدِهِ، ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا قِصَّةَ عَبْدٍ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، عَاجِزٍ عَنِ التَّصَرُّفِ، وَحُرٍّ غَنِيٍّ مُتَصَرِّفٍ فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَانِ لَا يَسْتَوِيَانِ عِنْدَكُمْ مَعَ كَوْنِهِمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَمُشْتَرِكَيْنِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، فَكَيْفَ تُشْرِكُونَ بِاللَّهِ وَتُسَوُّونَ به من مَخْلُوقٌ لَهُ مَقْهُورٌ بِقُدْرَتِهِ مِنْ آدَمِيٍّ وَغَيْرِهِ، مَعَ تَبَايُنِ الْأَوْصَافِ. وَأَنَّ مُوجِدَ الْوُجُودِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْبِهَهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا يُمْكِنَ لِعَاقِلٍ أَنْ يُشَبِّهَ بِهِ غَيْرَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا مَثَلٌ لِلَّهِ وَلِلْأَصْنَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَالْكَافِرُ الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ لَا يَنْتَفِعُ بِعِبَادَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ رَزَقْنَاهُ الْمُؤْمِنُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مَثَلٌ لِلْبَخِيلِ وَالسَّخِيِّ انْتَهَى.
وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ عَبْدٍ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْحُرِّ، خُصِّصَ بِمَمْلُوكٍ. وَلَمَّا كَانَ الْمَمْلُوكُ قَدْ يَكُونُ لَهُ تَصَرُّفٌ وَقُدْرَةٌ كَالْمَأْذُونِ لَهُ وَالْمُكَاتَبِ، خُصِّصَ بِقَوْلِهِ: لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَالْمَعْنَى: عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ حَرَكَاتِهِ: كَالْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالنَّوْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ كَوْنُ وَمَنْ مَوْصُولَةً أَيْ: وَالَّذِي رَزَقْنَاهُ، وَدَلَّتِ الصِّلَةُ وَمَا عُطِفَ عَلَى أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْحُرُّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مَوْصُوفَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: وَحُرًّا رَزَقْنَاهُ لِيُطَابِقَ عَبْدًا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ
569
مَوْصُولَةً. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مَنْ بِمَعْنَى الَّذِي، وَلَا يَقْتَضِي ضَرْبَ الْمَثَلِ لِشَخْصَيْنِ مَوْصُوفَيْنِ بِأَوْصَافٍ مُتَبَايِنَةٍ تَعْيِينُهُمَا، بَلْ مَا رُوِيَ فِي تَعْيِينِهِمَا مِنْ أَنَّهُمَا: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَبْدٌ لَهُ أَوْ أَنَّهُمَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَبُو جَهْلٍ، لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ. وَجَمَعَ الضَّمِيرِ فِي يَسْتَوُونَ وَلَمْ يُثَنِّ لِسَبْقِ اثْنَيْنِ، لِأَنَّ مَنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْجَمْعُ فَيَصِيرُ إِذْ ذَاكَ جَمْعُ الضَّمِيرِ لِانْتِظَامِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ وَالْأَغْنِيَاءِ فِي الْجَمْعِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: عَبْدًا مَمْلُوكًا. وَالْمُلَّاكُ الْمُرْزُوقُونَ الْمُنْفِقُونَ. ويحتمل أن يراد بعبدا مَمْلُوكًا الْجِنْسُ، فَيَصْلُحُ عَوْدُ الضَّمِيرِ جَمْعًا عَلَيْهِ، وَعَلَى جِنْسِ الْأَغْنِيَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لِلْجَمْعَيْنِ ذِكْرٌ، لِدَلَالَةِ عَبْدٍ مَمْلُوكٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ عَلَيْهِمَا.
قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ، أَمَرَهُ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ عَلَى أَنْ مَيَّزَهُ بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ الضَّعِيفِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرٌ عَلَى بَيَانِ الْأَمْرِ بِهَذَا الْمَثَلِ، وَعَلَى إِذْعَانِ الْخَصْمِ لَهُ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ أَذْعَنَ لَكَ فِي حُجَّةٍ وَسَلَّمَ تَبْنِي أَنْتَ عَلَيْهِ، قَوْلَكَ: اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى هَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا قَالَ هُنَا: هَلْ يَسْتَوُونَ، فَكَأَنَّ الْخَصْمَ قَالَ لَهُ: لَا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ انْتَهَى.
وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَيْ: هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ دُونَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ، إِذْ لَا نِعْمَةَ لِلْأَصْنَامِ عَلَيْهِمْ فَتُحْمَدُ عَلَيْهَا، إِنَّمَا الْحَمْدُ الْكَامِلُ لِلَّهِ لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ الْخَالِقُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا فَعَلَ بِأَوْلِيَائِهِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْحِيدِ. وَالظَّاهِرُ نَفْيُ الْعِلْمِ عَنْ أَكْثَرِهِمْ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ بَانَ لَهُ الْحَقُّ وَرَجَعَ إِلَيْهِ، أَوْ أَكْثَرُ الْخَلْقِ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ أَيْ: بَلْ هُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَمُتَعَلِّقُ يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ، إِمَّا لِأَنَّ الْمَعْنَى نَفْيُ الْعِلْمِ عَنِ الْأَكْثَرِ وَلَمْ يُلْحَظْ مُتَعَلِّقُهُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ مَحْذُوفٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي سَبَبُهَا قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَيْ قِصَّةَ رَجُلَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا مَثَلٌ ثَانٍ ضَرَبَهُ لِنَفْسِهِ وَلِمَا يُفِيضُ عَلَى عِبَادِهِ وَيَشْمَلُهُمْ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ وَأَلْطَافِهِ وَنِعَمِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَالْأَصْنَامِ الَّتِي هِيَ أَمْوَاتٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ. وَالْأَبْكَمُ الَّذِي وُلِدَ أخرس لَا يُفْهَمُ وَلَا يَفْهَمُ.
وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْ: ثَقِيلٌ، وَعِيَالٌ عَلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهُ وَيَعُولُهُ. أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ: حَيْثُمَا يُرْسِلْهُ وَيَصْرِفْهُ فِي مَطْلَبِ حَاجَةٍ أَوْ كِفَايَةٍ مُهِمٍّ لَمْ يَنْفَعْ وَلَمْ يَأْتِ بِنُجْحٍ. هَلْ يَسْتَوِي هُوَ، وَمَنْ هُوَ سَلِيمُ الْحَوَاسِّ نَفَّاعٌ ذُو كِفَايَاتٍ مَعَ رُشْدٍ وَدِيَانَةٍ، فَهُوَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ عَلَى سِيرَةٍ صَالِحَةٍ، وَدِينٍ قَوِيمٍ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ مَثَلٌ
570
لِلْكَافِرِ، وَالَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الْمُؤْمِنُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مثل لله تعالى، والأصنام فهي الأبكم الَّذِي لَا نُطْقَ لَهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مَنْ وَالَاهُ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ صَدِيقٍ، كَمَا الْأَصْنَامُ تَحْتَاجُ أَنْ تُنْقَلَ وَتُخْدَمَ وَيُتَعَذَّبَ بِهَا، ثُمَّ لَا يَأْتِي مِنْ جِهَتِهَا خَيْرٌ أَلْبَتَّةَ. وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا وَغَيْرِهِ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَلِلْوَثَنِ، فَالْأَبْكَمُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ هُوَ الْوَثَنُ، وَالَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: مَثَلًا رَجُلَيْنِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَدِيلَ الأبكم الموصوف بتلك الصفات، وَمُقَابِلُهُ رَجُلٌ مَوْصُوفٌ بِمَا يُقَابِلُ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنَ النُّطْقِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكِفَايَةِ، وَلَكِنَّهُ حَذَفَ الْمُقَابِلَ لِدَلَالَةِ مُقَابِلِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قِيلَ: هَلْ يَسْتَوِي ذَلِكَ الْأَبْكَمُ الْمَوْصُوفُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَهَذَا النَّاطِقُ: فَفِي ذِكْرِ اسْتِوَائِهِمَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى حَذْفِ الْمُقَابِلِ. وَلَمَّا كَانَ الْبُكْمُ هُوَ الْمُبْدَأُ بِهِ مِنَ الْأَوْصَافِ، وَعَنْهُ تَكُونُ الْأَوْصَافُ الَّتِي بَعْدَهُ قَابِلَةً فِي الِاسْتِوَاءِ بِالنُّطْقِ، وَثَمَرَتُهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ غَيْرُهُ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ عَلَى طَرِيقَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ، فَحَيْثُمَا تَوَجَّهَ صَدَرَ مِنْهُ الخبر وَنَفَعَ، وَلَيْسَ بِكَالٍّ عَلَى أَحَدٍ. وَقَدْ تَقَرَّرُ فِي بِدَايَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْأَبْكَمَ الْعَاجِزَ لَا يَكُونُ مُسَاوِيًا فِي الْعَقْلِ وَالشَّرَفِ لِلنَّاطِقِ الْقَادِرِ الْكَامِلِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْبَشَرِيَّةِ، فَلِأَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ الْجَمَادَ لَا يَكُونُ مُسَاوِيًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فِي العبودية أَحْرَى وَأَوْلَى. وَكَمَا قُلْنَا فِي الْمَثَلِ السَّابِقِ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِ الْمَضْرُوبِ بِهِمَا الْمَثَلُ، فَكَذَلِكَ هُنَا، فَتَعْيِينُ الْأَبْكَمِ بِأَبِي جَهْلٍ، وَالْآمِرُ بِالْعَدْلِ: بِعَمَّارٍ، أَوْ بِأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، أَوْ بِهَاشِمِ بن عمرو بن الحرث كَانَ يُعَادِي الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَلْقَمَةُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَلْحَةُ يُوَجِّهُ بِهَاءٍ وَاحِدَةٍ سَاكِنَةٍ مَبْنِيًّا، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَوْلَاهُ، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ عَائِدًا عَلَى الْأَبْكَمِ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ لَازِمًا وَجَّهَ بِمَعْنَى تَوَجَّهَ، كَانَ الْمَعْنَى: أَيْنَمَا يَتَوَجَّهْ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا: تُوَجِّهْهُ بِهَاءَيْنِ، بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَالْجُمْهُورُ بِالْيَاءِ وَالْهَاءَيْنِ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ وَابْنِ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةَ، يوجه بهاء، واحدة ساكنة، وَالْفِعْلُ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ، وَطَلْحَةَ: يُوَجِّهُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَهَاءٍ وَاحِدَةٍ مَضْمُومَةٍ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَإِنَّ الْهَاءَ الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ مَحْذُوفَةٌ فِرَارًا مِنَ التَّضْعِيفِ، وَلِأَنَّ اللَّفْظَ بِهِ صَعْبٌ مَعَ التَّضْعِيفِ، أَوْ لَمْ يُرَدْ بِهِ الشَّرْطُ، بَلْ أَمَرَ هُوَ بِتَقْدِيرِ أَيْنَمَا هُوَ يُوَجِّهُ، وَقَدْ حُذِفَ مِنْهُ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ بِهِ، فَيَكُونُ حَذْفُ الْيَاءِ مِنْ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ عَلَى التَّخْفِيفِ نَحْوَ: يَوْمَ يَأْتِ. وإذا يَسْرِ انْتَهَى. وَلَا يَخْرُجُ أَيْنَ عَنِ الشَّرْطِ أَوْ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ ضَعِيفَةٌ، لِأَنَّ الْجَزْمَ لَازِمٌ انْتَهَى. وَالَّذِي تُوَجَّهُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ إِنْ صَحَّتْ أَنَّ أَيْنَمَا شَرْطٌ
571
حُمِلَتْ عَلَى إِذَا لِجَامِعٍ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ الشَّرْطِيَّةِ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْيَاءُ مِنْ لَا يَأْتِ تَخْفِيفًا، أَوْ جَزْمُهُ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّهُ نُطِقَ بِأَيْنَمَا الْمُهْمَلَةِ مُعْمِلَةً لِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَيَكُونُ مَعْنَى يُوَجَّهْ يَتَوَجَّهْ، فَهُوَ فِعْلٌ لَازِمٌ لَا مُتَعَدٍّ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَهُ غيب السموات وَالْأَرْضِ، وَهُوَ مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ وَخَفِيَ فِيهِمَا عَنْهُمْ عِلْمُهُ. وَالظَّاهِرُ اتِّصَالُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ «١» أَخْبَرَ باستئثاره بعلم غيب السموات وَالْأَرْضِ، بِكَمَالِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالسَّاعَةِ الَّتِي تُنْكِرُونَهَا فِي لَمْحَةِ الْبَصَرِ أَوْ أَقْرَبَ، وَالْمَعْنَى بِهَذَا الْإِخْبَارِ: أَنَّ الْآلِهَةَ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مُنْتَفٍ عَنْهَا هَذَانِ الْوَصْفَانِ اللَّذَانِ لِلْإِلَهِ وَهُمَا: الْعِلْمُ الْمُحِيطُ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَالْقُدْرَةُ الْبَالِغَةُ التَّامَّةُ. وَمَنْ ذَكَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، ذَكَرَ ارْتِبَاطَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا بِأَنَّ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ هُوَ الْكَامِلُ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَبَيَّنَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ. قِيلَ: وَالْغَيْبُ هُنَا مَا لَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ، وَلَا يُفْهَمُ بِالْعَقْلِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: مَا غَابَ عَنِ الْخَلْقِ هُوَ فِي قَبْضَتِهِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ. وَقِيلَ: هُوَ مَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «٢» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أو أراد بغيب السموات وَالْأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَلَى أَنَّ عِلْمَهُ غَائِبٌ عَنْ أهل السموات وَالْأَرْضِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ. قِيلَ: لَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ آتِيَةً وَلَا بُدَّ، جُعِلَتْ مِنَ الْقُرْبِ كَلَمْحِ الْبَصَرِ. وَقَالَ الزَّجَّاجَ: لَمْ يُرِدْ أَنَّ السَّاعَةَ تَأْتِي فِي لَمْحِ الْبَصَرِ، وَإِنَّمَا وَصَفَ سُرْعَةَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا أَيْ: يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ. وَقِيلَ: هَذَا تَمْثِيلٌ لِلْقُرْبِ كَمَا تَقُولُ: مَا السَّنَةُ إِلَّا لَحْظَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ تَرَاخَى، كَمَا يَقُولُونَ أَنْتُمْ في الشيء التي تَسْتَقْرِبُونَهُ: كَلَمْحِ الْبَصَرِ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِذَا بَالَغْتُمْ فِي اسْتِقْرَابِهِ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ «٣» ولَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ «٤» وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «٥» أَيْ هُوَ عِنْدَهُ دَانٍ، وَهُوَ عِنْدُكُمْ بَعِيدٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ إِقَامَةَ السَّاعَةِ وَإِمَاتَةَ الْأَحْيَاءِ، وَإِحْيَاءَ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، يَكُونُ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ أَوْحَاهُ. إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُقِيمَ السَّاعَةَ، وَيَبْعَثَ الْخَلْقَ، لِأَنَّهُ بَعْضُ الْمَقْدُورَاتِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَعْنَى عَلَى مَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، وَمَا تَكُونُ السَّاعَةُ وَإِقَامَتُهَا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنْ يَقُولَ لَهَا: كُنْ فَلَوِ اتَّفَقَ أَنْ يَقِفَ عَلَى ذَلِكَ شَخْصٌ مِنَ الْبَشَرِ لَكَانَتْ مِنَ السرعة
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١٦.
(٢) سورة لقمان: ٣١/ ٣٤.
(٣) سورة الحج: ٢٢/ ٤٧.
(٤) سورة الحج: ٢٢/ ٤٧.
(٥) سورة الحج: ٢٢/ ٤٧.
572
بِحَيْثُ يَشُكُّ هَلْ هِيَ كَلَمْحِ الْبَصَرِ؟ أَوْ هِيَ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَأَوْ عَلَى هَذَا عَلَى بَابِهَا فِي الشَّكِّ. وَقِيلَ: هِيَ لِلتَّخْيِيرِ انْتَهَى. وَالشَّكُّ وَالتَّخْيِيرُ بَعِيدَانِ، لِأَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عن أَمْرِ السَّاعَةِ، فَالشَّكُّ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ التَّخْيِيرَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَحْظُورَاتِ كَقَوْلِهِمْ:
خُذْ مِنْ مَالِي دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا، أَوْ فِي التَّكْلِيفَاتِ كَآيَةِ الْكَفَّارَاتِ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ «١» وَأَوْ هُنَا لِلْإِبْهَامِ عَلَى الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ «٢» وَقَوْلِهِ: أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً «٣» وَهُوَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ عَدَدَهُمْ، وَمَتَى يَأْتِيهَا أَمْرُهُ، كَمَا عَلِمَ أَمْرَ السَّاعَةِ، لَكِنَّهُ أُبْهِمَ عَلَى الْمُخَاطَبِ. وَكَوْنُ أَوْ هُنَا لِلْإِبْهَامِ ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ هُنَا. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ إِقَامَةَ السَّاعَةِ لَيْسَتْ حَالَ تَكْلِيفٍ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَأْتِي بِهَا فِي زَمَانٍ يَعْنِي الْقَاضِيَ فَيَكُونُ الإبهام على المخاطب في ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَلَيْسَ زَمَانَ تَكْلِيفٍ. وَالَّذِي نَقُولُهُ:
إِنَّ الْإِبْهَامَ وَقَعَ وَقْتَ الْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى أَمْرِ السَّاعَةِ، لَا وَقْتَ الْإِتْيَانِ بِهَا. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِبْهَامِ عَلَى الْمُخَاطَبِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ شَيْءٍ اتِّحَادُ زَمَانِ الْإِخْبَارِ وَزَمَانِ وُقُوعِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، أَلَا تَرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ «٤» كيف تأمر زَمَانُ الْإِخْبَارِ عَنْ زَمَانِ وُقُوعِ ذَلِكَ الْإِرْسَالِ، وَوُجُودِهِمْ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَمْحُ الْبَصَرِ انْتِقَالُ الْجِسْمِ بِالطَّرْفِ مِنْ أَعْلَى الْحَدَقَةِ، وَهِيَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ أَجْزَاءٍ وَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ كَثِيرَةٌ، وَالزَّمَانُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ للمح مُرَكَّبٌ مِنْ آنَاءٍ مُتَعَاقِبَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِقَامَةِ الْقِيَامَةِ فِي آنٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْآنَاءِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ «٥» وَلَمَّا كَانَ أَسْرَعُ الْأَحْوَالِ وَالْحَوَادِثِ فِي عُقُولِنَا هُوَ لَمْحُ الْبَصَرِ ذَكَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ تَنْبِيهًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ طَرِيقَةَ الشَّكِّ، وَالْمُرَادُ بَلْ هُوَ أَقْرَبُ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ أَوْ بِمَعْنَى بَلْ، هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْإِضْرَابَ عَلَى قِسْمَيْنِ كِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ هُنَا. أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَأَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا لِلْإِسْنَادِ السَّابِقِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ هُنَا، لِأَنَّهُ يؤول إِلَى إِسْنَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ انْتِقَالًا مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ لِذَلِكَ الشَّيْءِ السَّابِقِ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ هُنَا لِلتَّنَافِي الَّذِي بَيْنَ الْإِخْبَارِ بِكَوْنِهِ مِثْلَ لَمْحِ الْبَصَرِ فِي السُّرْعَةِ، وَالْإِخْبَارِ بِالْأَقْرَبِيَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا معا. وقال
(١) سورة المجادلة: ٥٨/ ٢.
(٢) سورة الصافات: ٣٧/ ١٤٧.
(٣) سورة يونس: ١٠/ ٢٤.
(٤) سورة الصافات: ٣٧/ ١٤٧.
(٥) سورة النحل: ١٦/ ٧٧.
573
صَاحِبُ الْغَنِيَّانِ: وَهَذَا وَإِنْ كان يعتبر إِدْرَاكُهُ حَقِيقَةً، إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمُبَالَغَةُ عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ وَأَرْبَابِ النَّظْمِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْأَبْلَهِ الشَّاعِرِ فِي الْمَعْنَى:
قَالَ لَهُ الْبَرْقُ وَقَالَتْ لَهُ الرِّيحُ جَمِيعًا وَهُمَا مَا هُمَا
أَأَنْتَ تَجْرِي مَعَنَا قَالَ إِنْ نَشِطْتُ أَضْحَكْتُكُمَا مِنْكُمَا
أَنَا ارْتِدَادُ الطَّرْفِ قَدْ فُتُّهُ إِلَى الْمَدَى سَبْقًا فَمَنْ أَنْتُمَا
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَمْرَ السَّاعَةِ وَأَنَّهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ. وَتَقَدَّمَ وَصْفُهُمْ بِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ، ذَكَرَ تَعَالَى النَّشْأَةَ الْأُولَى وَهِيَ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ غَيْرَ عَالِمِينَ شَيْئًا، تَنْبِيهًا عَلَى وُقُوعِ النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى امْتِنَانَهُ عَلَيْهِمْ بِجَعْلِ الْحَوَاسِّ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِإِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ وَالْعِلْمِ، وَلَمَّا كَانَتِ النَّشْأَةُ الْأُولَى، وَجَعَلَ مَا يَعْلَمُونَ بِهِ لَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أُمَّهَاتِ فِي النِّسَاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْمِيمِ هُنَا وَفِي النُّورِ، وَالزُّمَرِ، وَالنَّجْمِ، وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِنَّ، وَالْأَعْمَشُ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى بِحَذْفِهَا وَفَتْحِ الْمِيمِ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَذْفُ الْهَمْزَةِ رديء، وَلَكِنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ أُبَيٍّ أَصْوَبُ انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَانَتْ أَصْوَبَ لِأَنَّ كَسْرَ الْمِيمِ إِنَّمَا هُوَ لِإِتْبَاعِهَا حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْهَمْزَةُ مَحْذُوفَةً زَالَ الْإِتْبَاعُ، بِخِلَافِ قِرَاءَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ أَقَرَّ الْمِيمَ عَلَى حركتها. ولا تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: غَيْرُ عَالِمِينَ. وَقَالُوا: لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِمَّا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيثَاقِ فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ، أَوْ شَيْئًا مِمَّا قَضَى عَلَيْكُمْ مِنَ السَّعَادَةِ أَوِ الشَّقَاوَةِ، أَوْ شَيْئًا مِنْ مَنَافِعِكُمْ. وَالْأَوْلَى عُمُومُ لَفْظِ شَيْءٍ، وَلَا سِيَّمَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَقَالَ وَهْبٌ: يُولَدُ الْمَوْلُودُ حَذِرًا إِلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ لَا يُدْرِكُ رَاحَةً وَلَا أَلَمًا. وَيَحْتَمِلُ وَجَعَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَخْرَجَكُمْ، فَيَكُونُ وَاحِدًا فِي حَيِّزِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ مَعْطُوفًا عَلَى الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ كَاسْتِئْنَافِهَا.
وَالْمُرَادُ بِالسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ إِحْسَاسُهَا وَإِدْرَاكُهَا، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْآيَةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّمَا جَمَعَ الْفُؤَادَ جَمْعَ قِلَّةٍ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا خُلِقَ لِلْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ مَشْغُولُونَ بِالْأَفْعَالِ الْبَهِيمِيَّةِ، فَكَانَ فُؤَادُهُمْ لَيْسَ بِفُؤَادٍ، فَلِذَلِكَ ذَكَرَ فِي جَمْعِهِ جَمْعَ الْقِلَّةِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَهُوَ قَوْلٌ هَذَيَانِيٌّ، وَلَوْلَا جَلَالَةُ قَائِلِهِ وَتَسْطِيرُهُ فِي الْكُتُبِ مَا ذَكَرْتُهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي هَذَا مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّهُ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ الَّتِي جَرَتْ مَجْرَى
574
جُمُوعِ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، إِذَا لَمْ يَرِدْ فِي السَّمَاعِ غَيْرُهَا كَمَا جَاءَ: شُسُوعٌ فِي جَمْعِ شِسْعٍ لَا غَيْرُ، فَجَرَى ذَلِكَ الْمَجْرَى انْتَهَى. إِلَّا أَنَّ دَعْوَى الزمخشري أنه لم يجىء فِي جَمْعِ شِسْعٍ إِلَّا شسع لَا غَيْرُ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ جَاءَ فِيهِ جَمْعُ الْقِلَّةِ قَالُوا: أَشْسَاعٌ، فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ: غُلِّبَ شُسُوعٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ هُرْمُزَ: أَلَمْ تَرَوْا بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاخْتَلَفَ عَنِ الْحَسَنِ، وَعِيسَى الثَّقَفِيِّ، وَعَاصِمٍ، وَأَبِي عَمْرٍو. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَدَارِكَ الْعِلْمِ الثَّلَاثَةَ: السَّمْعَ، وَالنَّظَرَ، وَالْعَقْلَ، وَالْأَوَّلَانِ مَدْرِكُ الْمَحْسُوسِ، وَالثَّالِثُ مَدْرِكُ الْمَعْقُولِ، اكْتَفَى مِنْ ذِكْرِ مُدْرِكِ الْمَحْسُوسِ بِذِكْرِ النَّظَرِ، فَإِنَّهُ أَغْرَبُ لِمَا يُشَاهَدُ بِهِ مِنْ عَظِيمِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بُعْدِهَا الْمُتَفَاوِتِ، كَمُشَاهَدَتِهِ النَّيِّرَاتِ الَّتِي فِي الْأَفْلَاكِ. وَجَعَلَ هُنَا مَوْضِعَ الِاعْتِبَارِ وَالتَّعَجُّبِ الْحَيَوَانَ الطَّائِرَ، فَإِنَّ طَيَرَانَهُ فِي الْهَوَاءِ مَعَ ثِقَلِ جِسْمِهِ مِمَّا يُعْجَبُ مِنْهُ وَيُعْتَبَرُ بِهِ. وَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ أَيْضًا ذِكْرَ مُدْرِكِ الْعَقْلِ فِي كَوْنِهِ لَا يَسْقُطُ، إِذْ لَيْسَ تَحْتَهُ مَا يُدَعِّمُهُ، وَلَا فَوْقَهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَيُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لَهُ مُمْسِكَ قَادِرٌ عَلَى إِمْسَاكِهِ وَهُوَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ «١» فَانْتَظَمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ مُدْرِكِ الْحِسِّ وَمَدْرَكِ الْعَقْلِ. وَمَعْنَى مُسَخَّرَاتٍ: مُذَلَّلَاتٌ، وَبُنِيَ لِلْمَفْعُولِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ لَهُ مُسَخِّرًا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الطَّائِرَ خِلْقَةً مَعَهَا يُمْكِنُهُ الطَّيَرَانُ، أَعْطَاهُ جَنَاحًا يَبْسُطُهُ مَرَّةً، وَيُكِنُّهُ أُخْرَى مِثْلَ مَا يَعْمَلُ السَّابِحُ فِي الْمَاءِ، وَخَلَقَ الْجَوَّ خِلْقَةً مَعَهَا يُمْكِنُ الطَّيَرَانُ خَلَقَهُ خِلْقَةً لَطِيفَةً، يَسْهُلُ بِسَبَبِهَا خَرْقُهُ وَالنَّفَاذُ فِيهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ الطَّيَرَانُ مُمْكِنًا انْتَهَى. وَكَلَامُهُ مُنْتَزَعٌ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي قَالَ: إِنَّمَا أَضَافَ الْإِمْسَاكَ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَى الْآلَاتِ لِأَجْلِهَا تَمَكَّنَ الطَّائِرُ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ، فَلَمَّا كَانَ هُوَ الْمُتَسَبِّبَ لِذَلِكَ صَحَّتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ انْتَهَى. وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَطِيرَ وَلَوْ لَمْ يُخْلَقْ لَهُ جَنَاحٌ، وَأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ خَرْقُ الشَّيْءِ الْكَثِيفِ وَذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْمُمْسِكَ لَهُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ، فَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ لَوْلَا الْجَنَاحُ وَلُطْفُ الْجَوِّ مَا أَمْكَنَ الطَّيَرَانُ، وَلَا لَوْلَا الْآلَاتُ مَا أَمْكَنَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا يُوَافِقُ كَلَامَهُمَا قَالَ: مُسَخَّرَاتٌ، مُذَلَّلَاتٌ لِلطَّيَرَانِ بِمَا خَلَقَ لَهَا مِنَ الْأَجْنِحَةِ، وَالْأَسْبَابِ الْمُوَاتِيَةِ لِذَلِكَ. ثُمَّ أَحْسَنَ أَخِيرًا فِي قَوْلِهِ: مَا يمسكهن في قبضهن
(١) سورة الملك: ٦٧/ ١٩.
575
وَبَسْطِهِنَّ وَوُقُوفِهِنَّ إِلَّا اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ انْتَهَى. لَآيَاتٍ: جَمَعَ وَلَمْ يُفْرِدْ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ خِفَّةُ الطَّائِرِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ فِيهِ لِأَنْ يَرْتَفِعَ بِهَا، وَثِقْلُهُ الَّذِي جَعَلَهُ فِيهِ لِأَنْ يَنْزِلَ، وَالْفَضَاءُ الَّذِي بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْإِمْسَاكُ الَّذِي لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ جَمْعٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا وَقَالَ: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالِاعْتِبَارِ، وَلِتَضَمُّنِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُسَخِّرَ وَالْمُمْسِكَ لَهَا هُوَ اللَّهُ، فَهُوَ إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى مَا يُصَدِّقُ بِهِ إِلَّا الْمُؤْمِنُ.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ خَلْقِهِمْ، وَمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنْ مَدَارِكِ الْعِلْمِ، ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ عَنْ دَوَابِّهِمْ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا، مِنَ الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ وَالْأَخْشَابِ وَغَيْرِهَا. وَالسَّكَنُ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَالْقَنْصِ، وَالنَّقْصِ. وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
جَاءَ الشِّتَاءُ وَلَمَّا أَتَّخِذْ سَكَنًا يَا وَيْحَ نَفْسِيَ مِنْ حَفْرِ الْقَرَامِيصِ
وَلَيْسَ السَّكَنُ بِمَصْدَرٍ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا مَا غَالَبَ الْبُيُوتِ عَلَيْهِ مِنْ كونها لا تنقل، بَلْ يَنْتَقِلُ النَّاسُ إِلَيْهَا. ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ الْمُتَّخَذِ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ مَا يَنْتَقِلُ مِنَ الْقِبَابِ وَالْخِيَامِ وَالْفَسَاطِيطِ الَّتِي مِنَ الْأَدَمِ، أَوْ ذَكَرَ أَوَّلًا الْبُيُوتَ عَلَى طَرِيقِ الْعُمُومِ، ثُمَّ ذَكَرَ بُيُوتَ الْجُلُودِ خُصُوصًا تَنْبِيهًا عَلَى حَالِ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ لِانْتِجَاعِهِمْ إِنَّمَا بُيُوتُهُمْ مِنَ الْجُلُودِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْدَرِجُ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتُ الشَّعَرِ، وَبُيُوتُ الصُّوفِ وَالْوَبَرِ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: تَنْدَرِجُ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِيهَا، فَهِيَ مِنْهَا.
وَمَعْنَى تَسْتَخِفُّونَهَا: تَجِدُونَهَا خَفِيفَةَ الْمَحْمَلِ فِي الضَّرْبِ وَالنَّقْضِ وَالنَّقْلِ. يَوْمَ ظَعْنِكُمْ: يَوْمَ تَرْحَلُونَ خَفَّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا وَنَقْلُهَا، وَيَوْمَ تَنْزِلُونَ وَتُقِيمُونَ فِي مَكَانٍ لَمْ يَثْقُلْ عَلَيْكُمْ ضَرْبُهَا.
وَقَدْ يُرَادُ بِالِاسْتِخْفَافِ فِي وَقْتَيِ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ أَيْ: مُدَّةَ النُّجْعَةِ وَالْإِقَامَةِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو: ظَعَنِكِمْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِسُكُونِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَلَيْسَ السُّكُونُ بِتَخْفِيفٍ كَمَا جَاءَ فِي نَحْوِ الشَّعَرُ وَالشَّعْرُ لِمَكَانِ حَرْفِ الْحَلْقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَثَاثًا مَفْعُولٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلَ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا. وَقِيلَ: أَثَاثًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ عَلَى
576
أَنَّ الْمَعْنَى: جَعَلَ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا بُيُوتًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَعْطُوفًا عَلَى مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ، كَمَا تَقُولُ: جَعَلْتُ لَكَ مِنَ الْمَاءِ شَرَابًا وَمِنَ اللَّبَنِ، وَفِي التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَدْ عَطَفَ مَجْرُورًا عَلَى مَجْرُورٍ، وَمَنْصُوبًا عَلَى مَنْصُوبٍ كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ فِي الدَّارِ زَيْدًا وَفِي الْقَصْرِ عَمْرًا، وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ بِلَادُهُمْ بِلَادَ قُطْنٍ وَكَتَّانٍ وَحَرِيرٍ اقْتُصِرَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ هُنَا، وَانْدَرَجَتْ فِي قَوْلِهِ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ. وَالْمَتَاعُ: مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ أَيْ: يُنْتَفَعُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزِّينَةُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: الْمَتْجَرُ وَالْمَعَاشُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْأَثَاثُ وَالْمَتَاعُ وَاحِدٌ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ كَقَوْلِهِ: وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا. وَغَيَّا تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِلَى حِينٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَى الْمَوْتِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَى بِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ. وَقِيلَ: إِلَى انْقِضَاءِ حَاجَتِكُمْ مِنْهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَكَانَتْ بِلَادُهُمْ غَالِبًا عَلَيْهَا الْحَرُّ، ذَكَرَ امْتِنَانَهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَقِيهِمُ الْحَرَّ مِنْ خَلْقِ الْأَجْرَامِ الَّتِي لَهَا ظِلٌّ كَالشَّجَرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ أَذَى الشَّمْسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: ظِلَالُ الْغَمَامِ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ:
ظِلَالُ الْبُيُوتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالزَّجَّاجُ: ظِلَالُ الشَّجَرِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ظِلَالُ الشَّجَرِ وَالْجِبَالِ وَالْأَكْنَانُ مِنَ الْجِبَالِ هِيَ الْغِيرَانُ، وَالْكُهُوفُ، وَالْبُيُوتُ الْمَنْحُوتَةُ مِنْهَا. وَالسِّرْبَالُ مَا لُبِسَ عَلَى الْبَدَنِ مِنْ: قَمِيصٍ، وَقَرْقَلٍ، وَمِجْوَلٍ، وَدِرْعٍ، وَجَوْشَنٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صُوفٍ وَكَتَّانٍ وَقُطْنِ وَغَيْرِهَا. وَاقْتُصِرَ عَلَى ذِكْرِ الْحَرِّ إِمَّا لِأَنَّ مَا يَقِي الْحَرَّ يَقِي الْبَرْدَ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ حَذَفَ الْبَرْدَ لِدَلَالَةِ ضِدِّهِ عَلَيْهِ قَالَهُ الْمُبَرِّدُ، أَوْ لِأَنَّهُ أَمَسُّ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ وَالْبَرَدُ فِيهَا مَعْدُومٌ فِي الْأَكْثَرِ.
وَإِذَا جَاءَ تَوَقَّى بِالْأَثَاثِ فَيَخْلُصُ السِّرْبَالُ لِتَوَقِّي الْحَرِّ فَقَطْ، قَالَهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ. وَهَذَا فِي بِلَادِ الْحِجَازِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ فَيُوجَدُ فِيهَا الْبَرْدُ الشَّدِيدُ كَمَا قَالَ مُتَمِّمٌ:
إِذَا الْقَشْعُ مِنْ بَرْدِ الشِّتَاءِ تَقَعْقَعَا وَقَالَ آخَرُ:
فِي ليلةٍ من جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةِ وَالسَّرَابِيلُ الَّتِي تَقِي النَّاسَ هِيَ الدُّرُوعُ. قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
شُمُّ الْعِرَانَيْنِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمْ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
وَالسِّرْبَالُ عَامٌّ، يَقَعُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ حَدِيدٍ وَغَيْرِهِ. وَالْبَأْسُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الشِّدَّةُ، وَهُنَا الْحَرْبُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «كُنَّا إِذَا اشْتَدَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
وَالْمَعْنَى: تَقِيكُمْ أَذَى
577
الْحَرْبِ وَهُوَ مَا يَعْرِضُ فِيهَا مِنَ الْجِرَاحِ النَّاشِئَةِ مِنْ ضَرْبِ السَّيْفِ، وَالدَّبُّوسِ، وَالرُّمْحِ، وَالسَّهْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ لِلْحَدِيثِ. كَذَلِكَ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِتْمَامِ لِلنِّعْمَةِ فِيمَا سَبَقَ، يُتِمُّ نِعْمَتَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَتِمُّ بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ نِعْمَتُهُ بِالرَّفْعِ، أَسْنَدَ التَّمَامَ إِلَيْهَا اتِّسَاعًا، وَعَنْهُ نِعَمُهُ جَمْعًا. وَقَرَأَ: لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ، وَاللَّامِ مِنَ السَّلَامَةِ وَالْخَلَاصِ، فَكَأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِوِقَايَةِ السَّرَابِيلِ مِنْ أَذَى الْحَرْبِ، أَوْ تُسْلِمُونَ مِنَ الشِّرْكِ. وَأَمَّا تُسْلِمُونَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْمَعْنَى: تُؤْمِنُونَ، أَوْ تَنْقَادُونَ إِلَى النَّظَرِ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى مُفْضٍ إِلَى الْإِيمَانِ وَالِانْقِيَادِ. رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ فَقَالَ: عِنْدَ كُلِّ نِعْمَةٍ اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَلَمَّا سَمِعَ: لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ، قَالَ:
اللَّهُمَّ هَذَا فَلَا، فَنَزَلَتْ.
فَإِنْ تَوَلَّوْا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا أَيْ: فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِسْلَامِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعًا أَيْ: فَإِنْ تَتَوَلَّوْا، وَحُذِفَتِ التَّاءُ، وَيَكُونُ جَارِيًا عَلَى الْخِطَابِ السَّابِقِ وَالْمَاضِي عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَالْفَاءُ وَمَا بَعْدَهَا جَوَابُ الشَّرْطِ صُورَةً، وَالْجَوَابُ حَقِيقَةً مَحْذُوفٌ أَيْ: فَأَنْتَ مَعْذُورٌ إِذْ أَدَّيْتَ مَا وَجَبَ عَلَيْكَ، فَأُقِيمَ سَبَبُ الْعُذْرِ وَهُوَ الْبَلَاغُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى إِنْ أَعْرَضُوا فَلَسْتَ بِقَادِرٍ عَلَى حَقِّ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُبَيِّنَ وَتُبَلِّغَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ انْتَهَى. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا، وَعِرْفَانُهُمْ لِلنِّعَمِ الَّتِي عُدَّتْ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يَعْتَرِفُونَ بِهَا، وَأَنَّهَا مِنْهُ تَعَالَى، وَإِنْكَارُهُمْ لَهَا حَيْثُ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ إِنْكَارًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، إِذْ لَمْ يُرَتِّبُوا عَلَى مَعْرِفَةِ نِعَمِهِ تَعَالَى مُقْتَضَاهَا مِنْ عِبَادَتِهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ دُونَ مَا نَسَبُوا إِلَيْهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ، قَالَ قَرِيبًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى مُجَاهِدٌ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: النِّعْمَةُ هَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَالْمَعْنَى: يَعْرِفُونَ بِمُعْجِزَاتِهِ وَآيَاتِ نُبُوَّتِهِ، وَيُنْكِرُونَ ذَلِكَ بِالتَّكْذِيبِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: إِنْكَارُهُمْ قَوْلَهُمْ وَرِثْنَاهَا مِنْ آبَائِنَا. وَعَنِ ابْنِ عَوْنٍ: إِضَافَتُهَا إِلَى الْأَسْبَابِ لَا إِلَى مُسَبِّبِهَا، وَحَكَى صَاحِبُ الْغَنِيَّان: يَعْرِفُونَهَا فِي الشِّدَّةِ، ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا فِي الرَّخَاءِ. وَقِيلَ:
إِنْكَارُهُمْ هِيَ بِشَفَاعَةِ آلِهَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: يَعْرِفُونَهَا بِقُلُوبِهِمْ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ وَأَكْثَرُهُمْ مَوْضُوعُهُ الْأَصْلِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَكُلُّهُمْ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَقُومُ بِوَاجِبِ حَقِّ الشُّكْرِ، فَجَعَلَهُ من كفران النعمة. وظاهر أَنَّ الْكُفْرَ هُنَا هُوَ مُقَابِلُ الْإِيمَانِ.
وَقِيلَ: أَكْثَرُ أَهْلِ مَكَّةَ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَبَى. وَقِيلَ: مَعْنَى الْكَافِرُونَ الْجَاحِدُونَ الْمُعَانِدُونَ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ كَانَ جَاهِلًا لَمْ يَعْرِفْ فَيُعَانِدُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى ثُمَّ؟
578
(قُلْتُ) : الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ إِنْكَارَهُمْ مُسْتَبْعَدٌ بَعْدَ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّ حَقَّ مَنْ عَرَفَ النِّعْمَةَ أَنْ يَعْتَرِفَ لَا أَنْ يُنْكِرَ.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ: لَمَّا ذَكَرَ إِنْكَارَهُمْ لِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ذَكَرَ حَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ فِيهِ الْإِنْكَارُ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ لَهُمْ بِذَلِكَ الْيَوْمِ. وَانْتَصَبَ يَوْمَ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ قَالَهُ:
الْحَوْفِيُّ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يَوْمَ نَبْعَثُ وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى ظَرْفٍ مَحْذُوفٍ الْعَامِلُ فِيهِ: ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا، أَيْ يُنْكِرُونَهَا الْيَوْمَ. وَيَوْمَ نَبْعَثُ أَيْ: يُنْكِرُونَ كُفْرَهُمْ، فَيُكَذِّبُهُمُ الشَّهِيدُ، وَالشَّهِيدُ نَبِيُّ تِلْكَ الْأُمَّةِ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِإِيمَانِهِمْ وَبِكُفْرِهِمْ، وَمُتَعَلِّقُ الْإِذْنِ مَحْذُوفٌ. فَقِيلَ: فِي الرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ وَالِاعْتِذَارِ كَمَا قَالَ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ «١» فَيَعْتَذِرُونَ أَيْ بَعْدَ شَهَادَةِ أَنْبِيَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَقَبْلَ ذَلِكَ تُجَادِلُ كُلُّ أُمَّةٍ عَنْ نَفْسِهِ. وَجَاءَ كَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا مَوَاطِنُ يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِهَا وَلَا يَنْطِقُونَ فِي بَعْضِهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أَيْ: مُزَالٌ عَنْهُمُ الْعَتَبُ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ لَا يَسْأَلُونَ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا اسْتِعْتَابٌ مَعْنَاهُ طَلَبُ عُتْبَاهُمْ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: وَلَا هُمْ يُسْتَرْضَوْنَ أَيْ:
لَا يُقَالُ لَهُمُ ارْضُوا رَبَّكُمْ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدَارِ عَمَلٍ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ:
مَعْنَاهُ يُعْطَوْنَ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيَقَعُ مِنْهُمْ تَوْبَةٌ وَعَمَلٌ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى ثُمَّ هَذِهِ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَاهَا أَنَّهُمْ يُمْنَوْنَ بَعْدَ شَهَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا هُوَ أَطَمُّ مِنْهُ، وَأَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ الْكَلَامَ فَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي إِلْقَاءِ مَعْذِرَةٍ، وَلَا إِدْلَاءٍ بِحُجَّةٍ انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَتْ حَالَةُ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا مُخَالِفَةً لِحَالِ الْآخِرَةِ إِذْ مَنْ رَأَى الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا رَجَا أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُ، وَإِنْ وَقْعَ فِيهِ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ، أَخْبَرَ تَعَالَى أن عذاب
(١) سورة المرسلات: ٧٧/ ٣٥- ٣٦.
579
الْآخِرَةِ لَا يَكُونُ فِيهِ تَخْفِيفٌ وَلَا نَظِرَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَ إِذَا قَوْلُهُ فَلَا يُخَفَّفُ، وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ أَيْ: فَهُوَ لَا يُخَفَّفُ، لِأَنَّهُ لَوْلَا تَقْدِيرُ الْإِضْمَارِ لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ، لِأَنَّ جَوَابَ إِذَا إِذَا كَانَ مُضَارِعًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى دُخُولِ الْفَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ مُوجَبًا أَمْ مَنْفِيًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ «١» وَتَقُولُ: إِذَا جَاءَ زَيْدٌ لَا يَجِيءُ عَمْرٌو. قَالَ الْحَوْفِيُّ: فَلَا يُخَفَّفُ جَوَابُ إِذَا، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي إِذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فَاءَ الْجَوَابِ فِي غَيْرِ أَمَّا لَا تَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَبَيَّنَا أَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذَا الْفِعْلُ الَّذِي يَلِيهَا كَسَائِرِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ قَوْلَ الْجُمْهُورِ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ جَوَابَ إِذَا مَحْذُوفًا فَقَالَ: وَقَدْ قُدِّرَ الْعَامِلُ فِي يَوْمَ نَبْعَثُ مَجْزُومًا قَالَ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، وَكَذَلِكَ وَإِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ بَغَتَهُمْ وَثَقُلَ عَلَيْهِمْ فَلَا يُخَفَّفُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ كَقَوْلِهِ: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً «٢» فَتَبْهَتُهُمْ الْآيَةَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: شُرَكَاءَهُمْ، عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ اتَّخَذُوهُ شَرِيكًا لِلَّهِ مِنْ صَنَمٍ وَوَثَنٍ وَآدَمِيٍّ وَشَيْطَانٍ وَمَلَكٍ، فَيُكَذِّبُهُمْ مَنْ لَهُ مِنْهُمْ عَقْلٌ، فَيَكُونُ: فَأَلْقَوْا عَائِدًا عَلَى مَنْ لَهُ الْكَلَامُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا يُنْطِقُ اللَّهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ. وَإِضَافَةُ الشُّرَكَاءِ إِلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِكَوْنِهِمْ هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
شُرَكَاؤُهُمْ الشَّيَاطِينُ، شَرَكُوهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ «٣»، وَقِيلَ: شُرَكَاؤُهُمْ فِي الْكُفْرِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ شُرَكَاؤُهُمْ فِي أَنِ اتَّخَذُوهُمْ آلِهَةً مَعَ اللَّهِ وَعَبَدُوهُمْ، أَوْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي أَنْ جَعَلُوا لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً. وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى جَوَارِحِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا الْإِشْرَاكَ بِقَوْلِهِمْ: إِلَّا أَنْ قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «٤» أَصْمَتَ اللَّهُ أَلْسِنَتَهُمْ وَأَنْطَقَ جَوَارِحَهُمْ. ومعنى: تدعو، ونعبد قَالُوا ذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يُشْرَكُوا مَعَهُمْ فِي الْعَذَابِ، إِذْ يَحْصُلُ التَّأَسِّي، أَوِ اعْتِذَارًا عَنْ كُفْرِهِمْ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ الشُّرَكَاءُ هُمُ الشَّيَاطِينَ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ. قَالُوا: ذَلِكَ إِحَالَةُ هَذَا الذَّنْبِ عَلَى تِلْكَ الْأَصْنَامِ، وَظَنًّا أَنَّ ذَلِكَ يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ مِنْ عذابهم، فعند ذلك تكذيبهم تِلْكَ الْأَصْنَامَ. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَعْلَمُونَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا فِي الْآخِرَةِ أَنَّ الْعَذَابَ سَيَنْزِلُ بِهِمْ، وَلَا نُصْرَةَ، وَلَا فِدْيَةَ، وَلَا شَفَاعَةَ. وَتَقَدَّمُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ، وَالْإِخْبَارُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَهُمْ: أَيْ يَعْبُدُونَهُمْ، فَاحْتَمَلَ التَّكْذِيبُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا
لِلْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ أي: لسنا شركاء
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٧٢.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٤٠. [.....]
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ٦٤.
(٤) سورة الأنعام: ٦/ ٢٣.
580
لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَلَا آلِهَةً نَزَّهُوا اللَّهَ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ لَهُ.
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الْإِخْبَارِ الثَّانِي وَهُوَ الْعِبَادَةُ، لَمَّا لَمْ يَكُونُوا رَاضِينَ بِالْعِبَادَةِ جَعَلُوا عِبَادَتَهُمْ كَلَا عِبَادَةٍ، أَوْ لَمَّا لَمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْعِبَادَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ لَا شُعُورَ لَهَا بِالْعِبَادَةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَدْعُوَ وَإِنَّ مَنْ عُبِدَ مِنْ صَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةِ، لَمْ يَدْعُ إِلَى عِبَادَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الشُّرَكَاءُ الشَّيَاطِينَ جَازَ أَنْ يَكُونُوا كَاذِبِينَ فِي إِخْبَارِهِمْ بِكَذِبِ مَنْ عَبَدَهُمْ، كَمَا كَذَبَ إِبْلِيسُ فِي قَوْلِهِ:
إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ «١» وَالضَّمِيرُ فِي فَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا، قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ. وَالسَّلَمُ: الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ لِحُكْمِ اللَّهِ بَعْدَ الْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ فِي الدُّنْيَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِذْ ذَاكَ حِيلَةٌ وَلَا دَفْعٌ. وَرَوَى يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: السَّلْمَ بِإِسْكَانِ اللَّامِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: بِضَمِّ السِّينِ وَاللَّامِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الذين أَشْرَكُوا، وَشُرَكَائِهِمْ كُلِّهِمْ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: اسْتَسْلَمُوا مُنْقَادِينَ لِحُكْمِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي وَضَلُّوا عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا خَاصَّةً أَيْ: وَبَطَلَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ وَأَنَّهُمْ يَنْصُرُونَهُمْ وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ حِينَ كَذَّبُوهُمْ وَتَبَرَّأُوا مِنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الذين مبتدأ وزدناهم الْخَبَرُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ، بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يفترون. وزدناهم فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ إِخْبَارُهُ. وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: غَيْرَهُمْ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا بِسَبَبِ الصَّدِّ فَوْقَ الْعَذَابِ، أَيِ:
الَّذِي تَرَتَّبَ لَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ ضَاعَفُوا كُفْرَهُمْ، فَضَاعَفَ اللَّهُ عِقَابَهُمْ. وَهَذَا الْمَزِيدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَقَارِبُ كَأَمْثَالِ النَّخْلِ الطِّوَالِ، وَعَنْهُ: حَيَّاتٌ كَأَمْثَالِ الْفِيَلَةِ، وَعَقَارِبُ كَأَمْثَالِ الْبِغَالِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا مِنْ صُفْرٍ مُذَابٍ تَسِيلُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ يُعَذَّبُونَ بِهَا، وَعَنِ الزَّجَّاجِ:
يَخْرُجُونَ مِنْ حَرِّ النَّارِ إِلَى الزَّمْهَرِيرِ، فَيُبَادِرُونَ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهِ إِلَى النَّارِ، وَعَلَّلَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِكَوْنِهِمْ مُفْسِدِينَ غَيْرَهُمْ، وَحَامِلِينَ عَلَى الْكُفْرِ. وَفِي كُلِّ أُمَّةٍ فِيهَا مِنْهَا حَذْفٌ فِي السَّابِقِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَثْبَتَهُ هُنَا وَحَذَفَ هُنَاكَ فِي وَأَثْبَتَهُ هُنَا، وَالْمَعْنَى فِي كِلَيْهِمَا: أَنَّهُ يَبْعَثُ اللَّهُ أَنْبِيَاءَ الْأُمَمِ فِيهِمْ مِنْهُمْ، وَالْخِطَابُ فِي ذَلِكَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى أُمَّتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ شُهَدَاءَ مِنَ الصَّالِحِينَ مَعَ الرُّسُلِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: إِذَا رَأَيْتَ أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ فَانْهَهُ، فَإِنْ أَطَاعَكَ وَإِلَّا كُنْتَ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ انْتَهَى. وَكَانَ الشَّهِيدُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ حِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ الْأَصَمُّ أَبُو بَكْرٍ الْمُرَادُ الشَّهِيدُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُنْطِقُ عَشَرَةً مِنْ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ حَتَّى تَشْهَدَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قال
(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ٢٢.
581
فِي صِفَةِ الشَّهِيدِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِمُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ، فَيَقْتَضِي الْمُقَابَلَةَ أَنَّ الشُّهَدَاءَ عَلَى الْأُمَمِ أَنْبِيَاؤُهُمْ كَرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَزَّلَنَا اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ، وَلَيْسَ دَاخِلًا مَعَ مَا قَبْلَهُ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ. لَمَّا ذَكَرَ مَا شَرَّفَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى أُمَّتِهِ، ذَكَرَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِمَّا فِيهِ بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، لِيُزِيحَ بِذَلِكَ عِلَّتَهُمْ فِيمَا كُلِّفُوا، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ وَلَا مَعْذِرَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تِبْيَانًا مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى تِفْعَالٍ، وَإِنْ كَانَ بَابُ الْمَصَادِرِ أَنْ يَجِيءَ عَلَى تَفْعَالٍ بِالْفَتْحِ كَالتَّرْدَادِ وَالتَّطْوَافِ، وَنَظِيرُ تِبْيَانٍ فِي كَسْرِ تَائِهِ تِلْقَاءَ. وَقَدْ جَوَّزَ الزَّجَّاجُ فَتْحَهُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تِبْيَانًا اسْمٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ النُّحَاةِ. وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ الْكُوفِيِّينَ، وَالْمُبَرِّدُ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ ولم يجىء عَلَى تِفْعَالٍ مِنَ الْمَصَادِرِ إِلَّا ضَرْبَانِ: تِبْيَانٌ وَتِلْقَاءٌ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ كَانَ الْقُرْآنُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ؟ (قُلْتُ) : الْمَعْنَى أَنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ حَيْثُ كَانَ نَصًّا عَلَى بَعْضِهَا وَإِحَالَةً عَلَى السُّنَّةِ، حَيْثُ أُمِرَ فِيهِ بِاتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَاعَتِهِ. وَقِيلَ: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «١» وَحَثًّا عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي قَوْلُهُ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ رَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ اتِّبَاعَ أَصْحَابِهِ، وَالِاقْتِدَاءَ بِآثَارِهِمْ
فِي قَوْلِهِ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ»
وَقَدِ اجْتَهَدُوا، وَقَاسَوْا، وَوَطَّئُوا طُرُقَ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ، فَكَانَتِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ مُسْتَنِدَةً إِلَى تَبْيِينِ الْكِتَابِ، فَمِنْ ثَمَّ كَانَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ. وَقَوْلُهُ: وَقَدْ رَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْلِهِ:
اهْتَدَيْتُمْ، لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَزْمٍ فِي رِسَالَتِهِ فِي إِبْطَالِ الرَّأْيِ، وَالْقِيَاسِ، وَالِاسْتِحْسَانِ، وَالتَّعْلِيلِ، وَالتَّقْلِيدِ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا خَبَرٌ مَكْذُوبٌ مَوْضُوعٌ باطل لم يصح قَطُّ،
وَذَكَرَ إِسْنَادَهُ إِلَى البزار صَاحِبِ الْمُسْنَدِ قَالَ: سَأَلْتُمْ عَمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا فِي أَيْدِي الْعَامَّةِ تَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا مَثَلُ أَصْحَابِي كَمَثَلِ النُّجُومِ أَوْ كَالنُّجُومِ، بِأَيِّهَا اقْتَدَوُا اهْتَدَوْا.
وَهَذَا كَلَامٌ لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنَّمَا أَتَى ضَعْفُ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ سَكَتُوا عَنِ الرِّوَايَةِ لِحَدِيثِهِ. وَالْكَلَامُ أَيْضًا مُنْكَرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُثْبِتْ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُبِيحُ الِاخْتِلَافَ بَعْدَهُ مِنْ أصحابه، هذا نص
(١) سورة النجم: ٥٣/ ٣.
582
ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﱿ
كَلَامِ الْبَزَّارِ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ كَذَّابٌ خَبِيثٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:
هُوَ مَتْرُوكٌ، رَوَاهُ أَيْضًا حَمْزَةُ الْجَزَرِيُّ، وَحَمْزَةُ هَذَا سَاقِطٌ مَتْرُوكٌ. وَنَصَبُوا تِبْيَانًا عَلَى الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أجله. وللمسلمين متعلق ببشرى وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى هُوَ متعلق بهدى ورحمة.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٠ الى ١٢٨]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤)
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩)
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١١١) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤)
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
583
النَّقْضُ ضِدُّ الْإِبْرَامِ، وَفِي الْجِرْمِ فَكُّ أَجْزَائِهِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ. التَّوْكِيدُ: التَّثْبِيتُ وَيُقَالُ: تَوْكِيدٌ، وَتَأْكِيدٌ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَزَعَمَ الزَّجَّاجُ أَنَّ الْهَمْزَةَ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ. لِأَنَّ التَّصْرِيفَ جَاءَ فِي التَّرْكِيبَيْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا أَصْلَانِ. الْغَزْلُ: مَعْرُوفٌ، وَفِعْلُهُ غَزَلَ يَغْزِلُ بِكَسْرِ الزَّايِ غَزْلًا، وَأُطْلِقَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَغْزُولِ. نَفِدَ الشَّيْءُ يَنْفَدُ فَنِيَ. الْأَعْجَمِيُّ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ بِالْعَرَبِيَّةِ.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ
585
فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ مِنْهُ: إِنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ كَانَ جَلِيسَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَقْتًا فَقَالَ لَهُ: عُثْمَانُ مَا رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ فِعْلَتَكَ الْغَدَاةَ؟ قَالَ: «وَمَا رَأَيْتَنِي فَعَلْتُ؟» قَالَ: شَخَصَ بَصَرُكَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ وَضَعْتَهُ عَلَى يَمِينِك فَتَحَرَّفْتَ عَنِّي إِلَيْهِ وَتَرَكْتَنِي، فَأَخَذْتَ تَنْغُضُ رَأْسَكَ كَأَنَّكَ تَسْتَفِقْهُ شَيْئًا يُقَالُ لَكَ قَالَ: أو فطنت لِذَلِكَ؟ أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ آنِفًا وَأَنْتَ جَالِسٌ قَالَ: فَمَاذَا قَالَ لَكَ: قَالَ لِي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الْآيَةَ.
قَالَ عُثْمَانُ: فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي، فَأَحْبَبْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ذكر الله تعالى.
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَصَلَ بِهِ مَا يَقْتَضِي التَّكَالِيفَ فَرْضًا وَنَفْلًا وَأَخْلَاقًا وَآدَابًا. وَالْعَدْلُ فِعْلُ كُلِّ مَفْرُوضٍ مِنْ عَقَائِدَ، وَشَرَائِعَ، وَسَيْرٍ مَعَ النَّاسِ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَتَرْكِ الظُّلْمِ وَالْإِنْصَافُ، وَإِعْطَاءُ الْحَقِّ وَالْإِحْسَانُ فِعْلُ كُلِّ مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَدْلُ هُوَ الْوَاجِبُ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَدَلَ فِيهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَجَعَلَ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ وَاقِعًا تَحْتَ طَاقَتِهِمْ. وَالْإِحْسَانُ النَّدْبُ، وَإِنَّمَا عُلِّقَ أَمْرُهُ بِهِمْ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِيهِ تَفْرِيطٌ فَيَجْبُرُهُ النَّدْبُ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: تَحْتَ طَاقَتِهِمْ، نَزْغَةُ الِاعْتِزَالِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَدْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِحْسَانُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْحَقُّ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: أَنَّهُ أسوأ السَّرِيرَةِ وَالْعَلَانِيَةِ فِي الْعَمَلِ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «١» وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ:
الْعَدْلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْإِنْصَافُ. وَقِيلَ: خَلْعُ الْأَنْدَادِ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْإِحْسَانُ فِي الْأَقْوَالِ. وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى: هُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ، وَهُوَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْإِحْسَانِ، لَكِنَّهُ نُبِّهَ عَلَيْهِ اهْتِمَامًا بِهِ وَحَضًّا عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ. وَالْفَحْشَاءُ: الزِّنَا، أَوْ مَا شُنْعَتُهُ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْمَعَاصِي.
وَفَاعِلُهَا أَبَدًا مُسْتَتِرٌ بِهَا، أَوِ الْقَبِيحُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، أَوِ الْبُخْلُ، أَوْ مُوجَبُ الْحَدِّ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ مُجَاوَزَةُ حُدُودِ اللَّهِ أَقْوَالٌ، أَوَّلُهَا لِابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمُنْكَرُ: الشِّرْكُ عَنْ مُقَاتِلٍ، أَوْ مَا وُعِدَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ عَنِ ابْنِ السَّائِبِ، أَوْ مُخَالَفَةُ السَّرِيرَةِ لِلْعَلَانِيَةِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، أَوْ مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ. أَوْ مَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ أَقْوَالٌ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ الْفَحْشَاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِل وَالْبَغْيِ: التَّطَاوُلُ بِالظُّلْمِ وَالسِّعَايَةِ فِيهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمُنْكَرِ، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ اهْتِمَامًا بِاجْتِنَابِهِ. وَجَمَعَ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ بَيْنَ مَا يَجِبُ وَيُنْدَبُ، وَمَا يَحْرُمُ وَيُكْرَهُ، لِاشْتِرَاكِ ذَلِكَ فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ وَهُوَ الطَّلَبُ فِي الْأَمْرِ، وَالتَّرْكُ فِي النهي.
(١) سورة النساء: ٤/ ٥٨.
586
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَمَرَ بِثَلَاثَةٍ، وَنَهَى عَنْ ثَلَاثَةٍ. فَالْعَدْلُ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَذَلِكَ فِي الْعَقَائِدِ وَأَعْمَالِ الرُّعَاةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَدْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ، فَلَيْسَ تَعْطِيلًا مَحْضًا وَلَا إِثْبَاتَ أَكْثَرَ مِنْ إِلَهٍ. وَإِثْبَاتُ كَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا وَاجِبَ الصِّفَاتِ فَلَيْسَ نَفْيًا لِلصِّفَاتِ، وَلَا إِثْبَاتَ صِفَةٍ حَادِثَةٍ مُتَغَيِّرَةٍ. وَكَوْنُ فِعْلِ الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وَالدَّاعِيَةُ الَّتِي جَعَلَهَا فِيهِ فَلَيْسَ جَبْرًا مَحْضًا، وَلَا اسْتِقْلَالًا بِالْفِعْلِ.
وَكَوْنُهُ تَعَالَى يخرج من النار من دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، فَلَيْسَ إِرْجَاءً وَلَا تَخْلِيدًا بِالْمَعْصِيَةِ.
وَأَمَّا أَعْمَالُ الرُّعَاةِ فَالتَّكَالِيفُ اللَّازِمَةُ لَهُمْ، فَلَيْسَ قَوْلًا بِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ، وَلَا قَوْلًا بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَاجْتِنَابِ مَا يَمِيلُ الطَّبْعُ إِلَيْهِ مِنْ: أَكْلِ الطَّيِّبِ، وَالتَّزَوُّجِ، وَرَمْيِ نَفْسِهِ مِنْ شَاهِقٍ، وَالْقِصَاصِ، أَوِ الدِّيَةِ، أَوِ الْعَفْوِ، فَلَيْسَ تَشْدِيدًا فِي تَعْيِينِ الْقِصَاصِ كَشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا عَفْوًا حَتْمًا كَشَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَجَنُّبِ الْحَائِضِ فِي اجْتِنَابِ وَطْئِهَا فَقَطْ فَلَيْسَ اجْتِنَابًا مُطْلَقًا كَشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا حَلَّ وَطْئِهَا حَالَةَ الْحَيْضِ كَشَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالِاخْتِتَانِ فَلَيْسَ إِبْقَاءً لِلْقُلْفَةِ وَلَا قَطْعًا لِلْآلَةِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَانَوِيَّةُ.
وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «١» وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا «٢» وَلَا تَجْعَلِ الْآيَتَيْنِ.
وَمِنَ الْمَشْهُورِ قَوْلُهُمْ بِالْعَدْلِ: قَامَتِ السموات وَالْأَرْضُ، وَمَعْنَاهُ: إِنَّ مَقَادِيرَ الْعَنَاصِرِ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَعَادِلَةً، وَكَانَ بَعْضُهَا أَزْيَدَ، لَغَلَبَ الِازْدِيَادُ وَانْقَلَبَتِ الطَّبَائِعُ. فَالشَّمْسُ لَوْ قَرُبَتْ مِنَ الْعَالَمِ لَعَظُمَتِ السُّخُونَةُ وَاحْتَرَقَ مَا فِيهِ، وَلَوْ زَادَ بَعْدَهَا لَاسْتَوَى الْحَرُّ وَالْبَرْدُ. وَكَذَا مَقَادِيرُ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ، وَمَرَاتِبُ سُرْعَتِهَا، وَبُطْئِهَا. وَالْإِحْسَانُ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ الطَّاعَاتِ بِحَسْبِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، وَالدَّوَاعِي، وَالصَّوَارِفِ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي شُهُودِ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ. وَمِنَ الْإِحْسَانِ الشَّفَقَةُ عَلَى الْخَلْقِ، وَأَصْلُهَا صِلَةُ الرَّحِمِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ ثَلَاثَةٌ. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوْدَعَ فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ قُوًى أَرْبَعَةً: الشَّهْوَانِيَّةَ وَهِيَ تَحْصِيلُ اللَّذَّاتِ، وَالْغَضَبِيَّةَ وَهِيَ: إِيصَالُ الشَّرِّ، وَوَهْمِيَّةً: وَهِيَ شَيْطَانِيَّةٌ تَسْعَى فِي التَّرَفُّعِ وَالتَّرَاوُسِ عَلَى النَّاسِ. فَالْفَحْشَاءُ مَا نَشَأَ عَنِ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ أَدَبِ الشَّرِيعَةِ، وَالْمُنْكَرُ مَا نَشَأَ عَنِ الْغَضَبِيَّةِ، وَالْبَغْيُ مَا نَشَأَ عَنِ الْوَهْمِيَّةِ انْتَهَى مَا تَخَلَّصَ مِنْ كَلَامِهِ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِتِلْكَ الثَّلَاثِ، وَنَهَى عَنْ تِلْكَ الثَّلَاثِ قَالَ: يَعِظُكُمْ بِهِ، أَيْ بِمَا ذُكِرَ تَعَالَى مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَالْمَعْنَى: يُنَبِّهُكُمْ أَحْسَنَ تَنْبِيهٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَيْ: تَتَنَبَّهُونَ لِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَنُهِيتُمْ عَنْهُ،
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٤٣.
(٢) سورة الفرقان: ٢٥/ ٦٧.
587
وَعَقْدُ اللَّهِ عِلْمٌ لِمَا عَقَدَهُ الْإِنْسَانُ وَالْتَزَمَهُ مِمَّا يُوَافِقُ الشَّرِيعَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ الْبَيْعَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «١» وَكَأَنَّهُ لَحَظَ مَا قِيلَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَايَعُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ، رَوَاهُ عَنْ بُرَيْدَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: فِيمَا كَانَ مِنْ تَحَالُفِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: الْوَفَاءُ لِمَنْ عَاهَدْتَهُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، فَإِنَّمَا الْعَهْدُ لِلَّهِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: الْجِهَادُ وَمَا فُرِضَ فِي الْأَمْوَالِ مِنْ حَقٍّ. وَقِيلَ: الْيَمِينُ بِاللَّهِ، وَلَا تَنْقُضُوا الْعُهُودَ الْمُوَثَّقَةَ بِالْأَيْمَانِ، نَهَى عَنْ نَقْضِهَا تَهَمُّمًا بِهَا بَعْدَ تَوْكِيدِهَا أَيْ: تَوْثِيقِهَا بِاسْمِ اللَّهِ وَكَفَالَةِ اللَّهِ وَشَهَادَتِهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ، لِأَنَّ الْكَفِيلَ مُرَاعٍ لِحَالِ الْمَكْفُول بِهِ. وَلَا تَكُونُوا أَيْ: فِي نَقْضِ الْعَهْدِ بَعْدَ تَوْكِيدِهِ بِاللَّهِ كَالْمَرْأَةِ الْوَرْهَاءِ تُبْرِمُ فَتْلَ غَزْلِهَا ثُمَّ تَنْقُضُهُ نَكْثًا، وَهُوَ مَا يُحَلُّ فَتْلُهُ. وَالتَّشْبِيهُ لَا يَقْتَضِي تَعْيِينَ الْمُشَبَّهِ بِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: هِيَ امْرَأَةٌ حَمْقَاءُ كَانَتْ بِمَكَّةَ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ: هِيَ مِنْ قُرَيْشٍ خَرْقَاءُ اسْمُهَا رَيْطَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ، تُلَقَّبُ بِجَفْرَاءَ، اتَّخَذَتْ مِغْزَلًا قَدْرَ ذِرَاعٍ، وَصِنَّارَةً مِثْلَ أُصْبُعٍ، وَفَلْكَةً عَظِيمَةً عَلَى قَدْرِهَا، فَكَانَتْ تَغْزِلُ هِيَ وَجَوَارِيهَا مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى الظُّهْرِ، ثُمَّ تَأْمُرُهُنَّ فَيَنْقُضْنَ مَا غَزَلْنَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: هَذَا فِعْلُ نِسَاءِ أَهْلِ نَجْدٍ، تَنْقُضُ إِحْدَاهُنَّ غَزْلَهَا ثُمَّ تَنْفُشُهُ، وَتَخْلِطُهُ بِالصُّوفِ فَتَغْزِلُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: رَيْطَةُ بِنْتُ عَمْرٍو الْمُرِّيَّةُ، وَلَقَبُهَا الْجَفْرَاءُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَيْ: شِدَّةٍ حَدَثَتْ مِنْ تَرْكِيبِ قُوَى الْغَزْلِ. وَلَوْ قَدَّرْنَاهَا وَاحِدَةَ الْقُوَى لَمْ تَكُنْ تَنْتَقِضُ أَنْكَاثًا. وَالنِّكْثُ فِي اللُّغَةِ الْحَبْلُ إِذَا انْتَقَضَتْ قُوَاهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى مَنْ بَعْدِ إِمْرَارِ قُوَّةً. وَالدَّخَلُ: الْفَسَادُ وَالدَّغَلُ، جَعَلُوا الْإِيمَانَ ذَرِيعَةً إِلَى الْخِدَعِ وَالْغَدْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ لَهُ مُطَمْئِنٌّ، فَيُمْكِنُ الْحَالِفَ ضَرُّهُ بِمَا يُرِيدُهُ. قَالُوا: نَزَلَتْ فِي الْعَرَبِ كَانُوا إِذَا حَالَفُوا قَبِيلَةً فَجَاءَ أَكْثَرُ مِنْهَا عَدَدًا حَالَفُوهُ وَغَدَرُوا بِالَّتِي كَانَتْ أَقَلَّ. وَقِيلَ: أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ أَزْيَدَ خَبَرًا، فَأُسْنِدَ إِلَى أُمَّةٍ، وَالْمُرَادُ الْمُخَاطَبُونَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الدَّخَلُ وَالدَّاخِلُ فِي الشَّيْءِ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ، وَدَخَلًا مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَقِيلَ: مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَأَنْ تَكُونَ أَيْ: بِسَبَبِ أَنْ تَكُونَ وَهِيَ أَرْبَى مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ تَكُونَ هِيَ عِمَادًا يَعْنُونَ فَضْلًا، فَيَكُونُ أَرْبَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِتَنْكِيرِ أُمَّةٍ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنَ أَنْ تَكُونَ أَيْ: بِسَبَبِ كَوْنِ أُمَّةٍ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ يَخْتَبِرُكُمْ بِذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَنْظُرَ أَتَتَمَسَّكُونَ بِحَبْلِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، وَمَا عَقَّدْتُمْ عَلَى أنفسكم ووكدتم من
(١) سورة الفتح: ٤٨/ ١٠.
588
أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْ تَغْتَرُّونَ بِكَثْرَةِ قُرَيْشٍ وَثَرْوَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَفَقْرِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ: إِنْذَارٌ وَتَحْذِيرٌ مِنْ مُخَالَفَةِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ انْتَهَى. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ السَّائِبِ، وَمُقَاتِلٌ: يَعُودُ عَلَى الْكَثْرَةِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَمَّا كَانَ تَأْنِيثُهَا غَيْرَ حَقِيقِيٍّ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى التَّذْكِيرِ، كَمَا حُمِلَتِ الصَّيْحَةُ عَلَى الصياح.
لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ
: هَذِهِ الْمَشِيئَةُ مَشِيئَةُ اخْتِيَارٍ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، ابْتَلَى النَّاسَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِيَذْهَبَ كُلٌّ إِلَى مَا يُسِّرَ لَهُ، وَذَلِكَ لِحَقِّ الْمَلِكِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. وَلَوْ شَاءَ لَكَانُوا كُلُّهُمْ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ، إِمَّا هُدًى، وَإِمَّا ضَلَالَةٌ، وَلَكِنَّهُ فَرَّقَ، فَنَاسٌ لِلسَّعَادَةِ، وَنَاسٌ لِلشَّقَاوَةِ. فَخَلَقَ الْهُدَى وَالضَّلَالَ، وَتَوَعَّدَ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْعَمَلِ، وَهُوَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ لَا سُؤَالُ تَفَهُّمٍ، وَسُؤَالُ التَّفَهُّمِ هُوَ الْمَنْفِيُّ فِي آيَاتٍ. وَمَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ مَشِيئَةُ قَهْرٍ. قَالَ الْعَسْكَرِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْمَعَكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ قَهْرًا، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَخَلَقَكُمْ لِيُعَذِّبَ مَنْ يَشَاءُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَيُثِيبَ مَنْ يَشَاءُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَلَا يَشَاءُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَسْتَحِقَّهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ شَاءَ خَلَقَكُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لِيُثِيبَ الْمُطِيعِينَ مِنْكُمْ، وَيُعَذِّبَ الْعُصَاةَ.
ثُمَّ قَالَ: وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَعْنِي: سُؤَالَ الْمُحَاسَبَةِ وَالْمُجَازَاةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِضْلَالَ فِي الْآيَةِ الْعِقَابُ، وَلَوْ كَانَ الْإِضْلَالُ عَنِ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ لِسُؤَالِهِ إِيَّاهُمْ مَعْنًى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ حَنِيفَةٌ مُسْلِمَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْإِلْجَاءِ وَالِاضْطِرَارِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ أَنْ يُضِلَّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ أَنْ يَخْذُلَ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَخْتَارُ الْكُفْرَ وَيُصَمِّمَ عَلَيْهِ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَنْ يَلْطُفَ بِمَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَخْتَارُ الْإِيمَانَ، يَعْنِي: أَنَّهُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَعَلَى مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ اللُّطْفَ وَالْخِذْلَانَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَلَمْ يُنَبَّهْ عَلَى الْإِجْبَارِ الَّذِي لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَحَقَّقَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَتُسْأَلُنَّ
589
عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُضْطَرَّ إِلَى الضَّلَالِ وَالِاهْتِدَاءِ، لَمَا أَثْبَتَ لَهُمْ عَمَلًا يُسْأَلُونَ عَنْهُ انْتَهَى. قَالُوا: كَرَّرَ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَيْمَانِ دَخَلًا تَهَمُّمًا بِذَلِكَ، وَمُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنْهُ لِعِظَمِ مَوْقِعِهِ فِي الدِّينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَرَدُّدِهِ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَأْكِيدًا عليهم، وإظهار العظم مَا يَرْتَكِبُ مِنْهُ انْتَهَى. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَرَّرَ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ نَهَى فِيهِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْحَلِفِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَهُنَا نُهِيَ عَنِ الدَّخَلِ فِي الْأَيْمَانِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا اقْتِطَاعُ حُقُوقٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: دَخَلًا بَيْنَكُمْ لِتَتَوَصَّلُوا بِهَا إِلَى قَطْعِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقُولُ: لَمْ يَتَكَرَّرِ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَيْمَانِ دَخَلًا، وَإِنَّمَا سَبَقَ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ دَخَلًا مُعَلَّلًا بِشَيْءٍ خَاصٍّ وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ.
وَجَاءَ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَتَّخِذُوا، اسْتِئْنَافُ إِنْشَاءٍ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَيْمَانِ دَخَلًا عَلَى الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ جَمِيعَ الصُّوَرِ مِنَ الْحِلْفِ فِي الْمُبَايَعَةِ، وَقَطْعِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَانْتَصَبَ فَتَزِلَّ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِمَنْ كَانَ مُسْتَقِيمًا وَوَقَعَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ وَسَقَطَ، لِأَنَّ الْقَدَمَ إِذَا زَلَّتْ تَقَلَّبَ الْإِنْسَانُ مِنْ حَالِ خَيْرٍ إِلَى حَالِ شَرٍّ. وَقَالَ كُثَيِّرٌ: فَلَمَّا تَوَافَيْنَا ثَبَتُّ وَزَلَّتِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فنزل أَقْدَامُكُمْ عَنْ مَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا عَلَيْهَا. (فَإِنْ قلت) : لم وجدت الْقَدَمَ وَنَكَّرْتَ؟ (قُلْتُ) : لِاسْتِعْظَامِ أَنْ تَزِلَّ قَدَمٌ وَاحِدَةٌ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِأَقْدَامٍ كَثِيرَةٍ انْتَهَى؟ وَنَقُولُ: الْجَمْعُ تَارَةً يُلْحَظُ فِيهِ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، وَتَارَةً يُلْحَظُ فِيهِ اعْتِبَارُ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَإِذَا لُوحِظَ فِيهِ الْمَجْمُوعُ كَانَ الْإِسْنَادُ مُعْتَبَرًا فِيهِ الْجَمْعِيَّةُ، وَإِذَا لُوحِظَ كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ كَانَ الْإِسْنَادُ مُطَابِقًا لِلَفْظِ الْجَمْعِ كَثِيرًا، فَيَجْمَعُ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ، وَمُطَابِقًا لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ فَيُفْرَدُ كَقَوْلِهِ: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً «١» أفرد متكأ لِمَا كَانَ لُوحِظَ فِي قَوْلِهِ لَهُنَّ مَعْنًى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ جَاءَ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعِيَّةُ أَوْ عَلَى الْكَثِيرِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي لِجَمْعِ الْمُتَّكَأِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَإِنِّي وَجَدْتُ الضَّامِرَيْنِ مَتَاعُهُمْ يَمُوتُ وَيَفْنَى فَارْضَخِي مِنْ وَعَائِيَا
أَيْ: رَأَيْتُ كُلَّ ضَامِرٍ. وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي يَمُوتُ وَيَفْنَى. وَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى هُنَا: لَا يَتَّخِذُ كُلُّ واحد منكم، جاء فنزل قَدَمٌ مُرَاعَاةً لِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ قَالَ: وَتَذُوقُوا، مُرَاعَاةً لِلْمَجْمُوعِ، أَوْ لِلَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَجْهِ الْكَثِيرِ. إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِسْنَادَ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَتَكُونُ الْآيَةُ قَدْ تَعَرَّضَتْ لِلنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَيْمَانِ دَخَلًا بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ وَبِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بإفراد
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٣١.
590
قَدَمٍ وَبِجَمْعِ الضَّمِيرِ فِي: وتذوقوا. وما مَصْدَرِيَّةٌ فِي بِمَا صَدَدْتُمْ، أَيْ: بِصُدُودِكُمْ أَوْ بِصَدِّكُمْ غَيْرَكُمْ، لِأَنَّهُمْ لَوْ نَقَضُوا الْأَيْمَانَ وَارْتَدُّوا لَاتُّخِذَ نَقْضُهَا سُنَّةً لِغَيْرِهِمْ فَيُسَبُّونَ بِهَا، وَذَوْقُ السُّوءِ فِي الدُّنْيَا. وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ أَيْ: فِي الْآخِرَةِ. وَالسُّوءُ: مَا يَسُوءُهُمْ مِنْ قَتْلٍ، وَنَهْبٍ، وَأَسْرٍ، وَجَلَاءٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَسُوءُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِيمَنْ بَايَعَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: لِأَنَّهُمْ قَدْ نَقَضُوا أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ. وَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِخُصُوصِهِ، بَلْ نَقْضُ الْأَيْمَانِ فِي الْبَيْعَةِ مُنْدَرِجٌ فِي الْعُمُومِ. وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، هَذَا نَهْيٌ عَنْ نَقْضِ مَا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعَبْدِ لِأَخْذِ حُطَامٍ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ قَوْمٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ لِجَزَعِهِمْ مِمَّا رَأَوْا مِنْ غَلَبَةِ قُرَيْشٍ وَاسْتِضْعَافِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَإِيذَائِهِمْ لَهُمْ، وَلَمَّا كَانُوا يَعِدُونَهُمْ إِنْ رَجَعُوا مِنَ الْمَوَاعِيدِ أَنْ يَنْقُضُوا مَا بَايَعُوا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَبَّتَهُمُ اللَّهُ. وَلَا تَشْتَرُوا: وَلَا تَسْتَبْدِلُوا بِعَهْدِ اللَّهِ وَبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا يَسِيرًا، وَهُوَ مَا كَانَتْ قُرَيْشُ يَعِدُونَهُمْ وَيُمَنُّونَهُمْ إِنْ رَجَعُوا أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ إِظْهَارِكُمْ وَتَغْنِيمِكُمْ وَمِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
هَذِهِ آيَةُ نَهْيٍ عَنِ الرِّشَا وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ عَلَى تَرْكِ مَا يَجِبُ عَلَى الْآخِذِ فِعْلُهُ، أَوْ فِعْلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ، فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ الَّتِي عَهِدَ اللَّهُ إِلَى عِبَادِهِ فِيهَا وَبَيَّنَ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ حَالِ الدُّنْيَا وَحَالِ الْآخِرَةِ، بِأَنَّ هَذِهِ تَنْفَدُ وَتَنْقَضِي عَنِ الْإِنْسَانِ، وَيَنْقَضِي عَنْهَا، وَالَّتِي فِي الْآخِرَةِ بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ، عَلَى أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ لَا يَنْقَطِعُ، وَفِي ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ إِذْ زَعَمَ أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ مُنْقَطِعٌ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ: وَلَنَجْزِيَّنَ بِالنُّونِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ. وَصَبَرُوا: أَيْ جَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مِيثَاقِ الْإِسْلَامِ وَأَذَى الْكُفَّارِ، وَتَرْكِ الْمَعَاصِي، وَكَسْبِ الْمَالِ بِالْوَجْهِ الَّذِي لَا يَحِلُّ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. قِيلَ: مِنَ التَّنَفُّلِ بِالطَّاعَاتِ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ لِأَنَّهَا لَمْ يُحَتَّمْ فِعْلُهَا، فَكَانَ الْإِنْسَانُ يَأْتِي بِالتَّنَفُّلَاتِ مُخْتَارًا غَيْرَ مَلْزُومٍ بِهَا. وَقِيلَ: ذَكَرَ الْأَحْسَنَ تَرْغِيبًا فِي عَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُجَازَاةُ عَلَى الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ. وَقِيلَ: الْأَحْسَنُ هُنَا بِمَعْنَى الْحَسَنِ، فَلَيْسَ أَفْعَلُ الَّتِي لِلتَّفْضِيلِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْسَنِ هُنَا الصَّبْرُ أَيْ: وَلَيَجْزِيَّنَ الَّذِينَ صَبَرُوا بِصَبْرِهِمْ أَيْ: بِجَزَاءِ صَبْرِهِمْ، وَجَعَلَ الصَّبْرَ أَحْسَنَ الْأَعْمَالِ لِاحْتِيَاجِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ إِلَيْهِ، فَالصَّبْرُ هُوَ رَأْسُهَا، فَكَانَ الْأَحْسَنُ لِذَلِكَ. ومن صَالِحَةٌ لِلْمُفْرَدِ وَالْمُذَكَّرِ وَفُرُوعِهِمَا. لَكِنْ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ، فَبَيَّنَ بِالنَّوْعَيْنِ لِيَعُمَّ الْوَعْدُ كِلَيْهِمَا. وَهُوَ مُؤْمِنٌ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْإِيمَانُ شَرْطٌ فِي الْعَمَلِ
591
الصَّالِحِ مُخَصَّصٌ لِقَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ «١» أَوْ يُرَادُ بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، كَمَا جَاءَ فِي مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فلنحيينه حياة طيبة، أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ شَرِيكٌ: فِي الْقَبْرِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا هِيَ: الْقَنَاعَةُ
، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: الرِّزْقُ الْحَلَالُ، وَعَنْهُ أَيْضًا: السَّعَادَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الطَّاعَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الرِّزْقُ فِي يَوْمٍ بِيَوْمٍ، وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: الرِّزْقُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ، وَقِيلَ: الْعَافِيَةُ وَالْكِفَايَةُ، وَقِيلَ: الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، ذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُؤْمِنُ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا فَلَا مَقَالَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَمَعَهُ مَا يَطِيبُ عَيْشُهُ، وَهُوَ الْقَنَاعَةُ وَالرِّضَا بِقِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْفَاجِرُ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا إِشْكَالَ فِي أَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَالْحِرْصُ لَا يَدَعُهُ أَنْ يَتَهَنَّأَ بِعَيْشِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: طَيَّبَ الْحَيَاةَ لِلصَّالِحِينَ بِانْبِسَاطِ نُفُوسِهِمْ وَنَيْلِهَا وَقُوَّةِ رَجَائِهِمْ، وَالرَّجَاءُ لِلنَّفْسِ أَمْرٌ مُلِذٌّ، وَبِأَنَّهُمُ احْتَقَرُوا الدُّنْيَا فَزَالَتْ هُمُومُهَا عَنْهُمْ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى هَذَا مَالٌ حَلَالٌ وَصِحَّةٌ وَقَنَاعَةٌ فَذَاكَ كَمَالٌ، وَإِلَّا فَالطَّيِّبُ فِيمَا ذَكَرْنَا رَاتِبٌ. وَعَادَ الضَّمِيرُ في فلنحيينه على لفظه مَنْ مْفُرَدًا، وَفِي وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ عَلَى مَعْنَاهَا مِنَ الْجَمْعِ، فَجَمَعَ. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ: وَلَيَجْزِينَّهُمْ بِالْيَاءِ بَدَلَ النُّونِ، الْتَفَتَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ قَسَمٍ ثَانٍ لَا مَعْطُوفًا عَلَى فَلْنُحْيِيَنَّهُ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ جُمْلَةٍ قَسَمِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ قَسَمِيَّةٍ، وَكِلْتَاهُمَا مَحْذُوفَتَانِ. وَلَا يَكُونُ مِنْ عَطْفِ جَوَابٍ عَلَى جَوَابٍ، لِتَغَايُرِ الْإِسْنَادِ وَإِفْضَاءِ الثَّانِي إِلَى إِخْبَارِ الْمُتَكَلِّمِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِخْبَارِ الْغَائِبِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ: زَيْدٌ قُلْتُ وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ هِنْدًا وَلِيَنْفِيَنَّهَا، يُرِيدُ وَلَيَنْفِيهَا زَيْدٌ. فَإِنْ جَعَلْتَهُ عَلَى إِضْمَارِ قَسَمٍ ثَانٍ جَازَ أَيْ: وَقَالَ زَيْدٌ لَيَنْفِيَنَّهَا لِأَنَّ، لَكَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ تَحْكِيَ لَفْظَهُ، وَأَنْ تَحْكِيَ عَلَى الْمَعْنَى. فَمِنَ الْأَوَّلِ: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى «٢» وَمِنَ الثَّانِي:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا «٣» وَلَوْ جَاءَ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ مَا قُلْنَا.
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ
(١) سورة الزلزلة: ٩٩/ ٧.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ١٠٧.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٧٤.
592
آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ «١» وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِمَّا بَيَّنَ فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً «٢» ذَكَرَ مَا يَصُونُ بِهِ الْقَارِئُ قِرَاءَتَهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَنَزْغِهِ، فَخَاطَبَ السَّامِعَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ إِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ. فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظًا فَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، إِذْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ أَجَلِّ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ ثَوَابَ قِرَاءَةِ كُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَالظَّاهِرُ بِعَقِبِ الِاسْتِعَاذَةِ. وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْ حَمْزَةَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: كُلَّمَا قَرَأْتَ الْفَاتِحَةَ حِينَ تَقُولُ: آمِينَ، فَاسْتَعِذْ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَالِكٍ، وَدَاوُدَ. تَعْقُبُهَا الْقِرَاءَةُ كَمَا رُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ وَالْجُمْهُورِ: عَلَى تَرْكِ هَذَا الظَّاهِرِ وَتَأْوِيلِهِ بِمَعْنَى: فَإِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الْفِعْلَ يُوجَدُ عِنْدَ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ بِغَيْرِ فَاصِلٍ وَعَلَى حَسْبِهِ، فَكَانَ بِسَبَبٍ قَوِيٍّ وَمُلَابَسَةٍ ظَاهِرَةٍ كَقَوْلِهِ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ «٣»
وَكَقَوْلِهِ: «إِذَا أَكَلْتَ فَسَمِّ اللَّهِ»
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
فَإِذَا وَصْلَةٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُهَا فِي مِثْلِ هَذَا، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِذَا أَخَذْتَ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَاسْتَعِذْ، أَمْرٌ بِالِاسْتِعَاذَةِ. فَالْجُمْهُورُ عَلَى النَّدْبِ، وَعَنْ عَطَاءٍ الْوُجُوبُ. وَالظَّاهِرُ:
طَلَبُ الِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ الْمُرَادُ بِهِ إِبْلِيسُ وَأَعْوَانُهُ. وَقِيلَ:
عَامٌّ فِي كُلِّ مُتَمَرِّدٍ عَاتٍ مِنْ جِنٍّ وَإِنْسٍ، كَمَا قَالَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِعَاذَةِ، وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ وَاخْتَارُوهُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، لِمَا
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ اسْتَعَاذَ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ»
وَنَفَى تَعَالَى سُلْطَانَ الشَّيْطَانِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالسُّلْطَانُ هُنَا التَّسْلِيطُ وَالْوِلَايَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ وَلَا يُطِيعُونَهُ فِيمَا يُرِيدُ مِنْهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «٤» وَكَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ فِي قِصَّةِ أَوْلِيَائِهِ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «٥» وقيل:
(١) سورة النحل: ١٦/ ٨٩.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ٩٧. [.....]
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٦.
(٤) سورة الحجر: ١٥/ ٤٢.
(٥) سورة ابراهيم: ١٤/ ٢٢.
593
الْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ الْحُجَّةُ، وَظَاهِرُ الْإِخْبَارِ انْتِفَاءُ سَلْطَنَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ لِاسْتِعَاذَتِهِمْ مِنْهُ. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى ذَنْبٍ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى بِهِمْ، وَقِيلَ: عَلَى الشَّيْطَانِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِاتِّفَاقِ الضَّمَائِرِ وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ هُمْ بِإِشْرَاكِهِمْ إِبْلِيسَ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا تَصْرِفُ كَيْدَ الشَّيْطَانِ، كَأَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَالِانْقِطَاعَ إِلَيْهِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِنْزَالَ الْكِتَابِ تَبْيِينًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ، ذَكَرَ تَعَالَى نَتِيجَةَ وِلَايَةِ الشَّيْطَانِ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَبَاطِيلِ، فَأَلْقَى إِلَيْهِمْ إِنْكَارَ النَّسْخِ لَمَّا رَأَوْا تَبْدِيلَ آيَةٍ مَكَانَ آيَةٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي النَّسْخِ فِي الْبَقَرَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّبْدِيلَ رَفَعَ آيَةً لَفْظًا وَمَعْنًى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّبْدِيلُ لِحُكْمِ الْمَعْنَى وَإِبْقَاءِ اللَّفْظِ.
وَوَجَدَ الْكُفَّارُ بِذَلِكَ طَعْنًا فِي الدِّينِ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ الْمَصَالِحَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَشْخَاصِ، وَكَمَا وَقَعَ نَسْخُ شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ يَقَعُ فِي شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ الْعَالِمُ بِمَا يُنَزِّلُ لَا أَنْتُمْ، وَمَا يُنَزِّلُ مِمَّا يُقِرُّهُ وَمَا يَرْفَعُهُ، فَمَرْجِعُ عِلْمِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى حَسْبِ الْحَوَادِثِ وَالْمَصَالِحِ، وَهَذِهِ حِكْمَةُ إِنْزَالِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا. وَبَالَغُوا فِي نِسْبَةِ الِافْتِرَاءِ لِلرَّسُولِ بِلَفْظِ إِنَّمَا، وَبِمُوَاجِهَةِ الْخِطَابِ، وَبَاسِمِ الْفَاعِلِ الدَّالِّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَقَالَ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَعْلَمُ وَيَكْفُرُ عِنَادًا. وَمَفْعُولُ لَا يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَيْ: لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الشَّرَائِعَ حِكَمٌ وَمَصَالِحُ. هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى وُقُوعِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ. وَرُوحُ الْقُدُسِ:
هُنَا هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلَا خِلَافٍ، وَتَقَدَّمَ لِمَ سُمِّيَ رُوحَ الْقُدُسِ. وَأَضَافَ الرَّبِّ إِلَى كَافِ الْخِطَابِ تَشْرِيفًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاخْتِصَاصِ الْإِضَافَةِ، وَإِعْرَاضًا عَنْهُمْ، إِذْ لَمْ يُضِفْ إِلَيْهِمْ. وَبِالْحَقِّ حَالٌ أَيْ: مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ نَاسِخًا أَوْ مَنْسُوخًا، فَكُلُّهُ مَصْحُوبٌ بِالْحَقِّ لَا يَعْتَرِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْبَاطِلِ. وَلِيُثْبِتَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَضْطَرِبُونَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ لِكَوْنِهِ نُسِخَ، بَلِ النَّسْخُ مُثَبِّتٌ لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ جَمِيعُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِصِحَّةِ إِيمَانِهِمْ وَاطْمِئْنَانِ قُلُوبِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَكِيمٌ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ حِكْمَةٍ، فَهِيَ صَوَابُ كُلُّهَا.
وَدَلَّ اخْتِصَاصُ التَّعْلِيلِ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى اتِّصَافِ الْكُفَّارِ بِضِدِّهِ مِنْ لَحَاقِ الِاضْطِرَابِ لَهُمْ وَتَزَلْزُلِ عَقَائِدِهِمْ وضلالهم. وقرىء: لِيُثْبِتَ مُخَفَّفًا مِنْ أَثْبَتَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُدًى وَبُشْرَى مَفْعُولٌ لَهُمَا مَعْطُوفَانِ عَلَى مَحَلٍّ لِيُثْبِتَ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِ فِي نَحْوِ هَذَا، وَهُوَ
594
قَوْلُهُ: لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ «١» وَهُدًى وَرَحْمَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَلَا يَمْتَنِعُ عَطْفُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنَ أَنْ وَالْفِعْلِ، لِأَنَّهُ مَجْرُورٌ، فَيَكُونُ وَهُدًى وَبُشْرَى مَجْرُورَيْنِ كَمَا تَقُولُ: جِئْتُ لِأُحْسِنَ إِلَى زَيْدٍ وَإِكْرَامٍ لِخَالِدٍ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لِإِحْسَانٍ إِلَى زَيْدٍ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ ارْتِفَاعُ هُدًى وَبُشْرَى عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ: وَهُوَ هُدًى وَبُشْرَى. وَلَمَّا نَسَبُوهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلِافْتِرَاءِ وَهُوَ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ، لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتَّى جَعَلُوا ذَلِكَ الِافْتِرَاءَ الَّذِي نَسَبُوهُ هُوَ مِنْ تَعْلِيمِ بَشَرٍ إِيَّاهُ، فَلَيْسَ هُوَ الْمُخْتَلِقُ بَلِ الْمُخْتَلِقُ غَيْرُهُ، وَهُوَ نَاقِلٌ عَنْهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ. إِنَّ مَعْنَاهُ: مُخْتَلِقُ الْكَذِبِ، وَهُوَ يُنَافِي التَّعَلُّمَ مِنَ الْبَشَرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مُفْتَرٍ، فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا فِيهِ طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةً ذَهَبَتْ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُفْتَرِي، وَطَائِفَةً أَنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنَ الْبَشَرِ. وَيُعَلِّمُ مُضَارِعُ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ: الْمُضِيُّ أَيْ: وَلَقَدْ عَلِمْنَا، وَجَاءَ إِسْنَادُ التَّعْلِيمِ إِلَى مُبْهَمٍ لَمْ يُعَيَّنْ. فَقِيلَ: هُوَ حَبْرٌ غلام ورمى كَانَ لِعَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَقِيلَ: عَائِشٌ أَوْ يَعِيشُ، وَكَانَ صَاحِبَ كُتُبِ مَوْلَى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ قَالَهُ: الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: أَبُو فَكِيهَةَ أَعْجَمِيٌّ مولى لمرأة بِمَكَّةَ. قِيلَ: وَاسْمُهُ يَسَارٌ وَكَانَ يَهُودِيًّا قَالَهُ: مُقَاتِلٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَانَ يَهُودِيًّا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ رَجُلًا حَدَّادًا نَصْرَانِيًّا اسْمُهُ عَنَسٌ.
وَقَالَ حُصَيْنُ بْنُ عبد الله بن مسلم: كَانَ لَنَا غُلَامَانِ نَصْرَانِيَّانِ مِنْ أَهْلِ عَيْنِ التَّمْرِ، يَسَارٌ وَحَبْرٌ، كَانَا يَقْرَآنِ كُتُبًا لَهُمَا بِلِسَانِهِمْ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِهِمَا فَيَسْمَعُ قِرَاءَتَهُمَا.
قِيلَ: وَكَانَا حَدَّادَيْنِ يَصْنَعَانِ السُّيُوفَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا فَقِيلَ لِأَحَدِهِمَا ذَلِكَ فَقَالَ: بَلْ هُوَ يُعَلِّمُنِي
، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي مَكَّةَ غُلَامٌ أَعْجَمِيٌّ لِبَعْضِ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: بَلْعَامُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُ الْإِسْلَامَ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا مِنْ جِهَةِ الْأَعَاجِمِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْإِشَارَةُ إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَضُعِّفَ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ سَلْمَانَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بعد الهجرة، وهذا السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ إِلَّا مَا نُبِّهَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَدَنِيٌّ. وَاللِّسَانُ: هُنَا اللُّغَةُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: اللِّسَانُ الَّذِي بِتَعْرِيفِ اللِّسَانِ بِالْ، وَالَّذِي صِفَتُهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَلْحَدُونَ مَنْ لَحَدَ ثُلَاثِيًّا، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَلْحَةَ، وَالسُّلَمِيِّ، وَالْأَعْمَشِ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ، وَابْنُ الْقَعْقَاعِ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مَنْ أَلْحَدَ رُبَاعِيًّا وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ أَلْحَدَ الْقَبْرَ ولحده، فهو ملحد وملحودا ذا أَمَالَ حَفْرَهُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فَحَفَرَ فِي شِقٍّ مِنْهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ إِمَالَةٍ عَنِ اسْتِقَامَةٍ فَقَالُوا: أَلْحَدَ فُلَانٌ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْحَدَ فِي دِينِهِ لِأَنَّهُ أَمَالَ دِينَهُ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، لم
(١) سورة النحل: ١٦/ ٦٤.
595
يُمِلْهُ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ. وَالْمَعْنَى: لِسَانُ الرَّجُلِ الَّذِي يُمِيلُونَ قَوْلَهُمْ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ إِلَيْهِ لِسَانٌ أَعْجَمِيٌّ غَيْرُ بَيِّنٍ، وَهَذَا الْقُرْآنُ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذُو بَيَانٍ وَفَصَاحَةٍ، رَدًّا لِقَوْلِهِمْ وَإِبْطَالًا لِطَعْنِهِمْ انْتَهَى. وَظَاهِرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّ اللِّسَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اللُّغَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا عَلَى أَنْ يُجْعَلَ اللِّسَانُ هُنَا الْجَارِحَةَ. وَاللِّسَانُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اللُّغَةُ، ويحتمل أن يراد وَهَذَا عَلَى أَنْ يُجْعَلَ اللِّسَانُ هُنَا الْجَارِحَةَ. وَاللِّسَانُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اللُّغَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمَعْنَى أَنْتُمْ أَفْصَحُ وَأَبْلَغُهُمْ وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى الْكَلَامِ نَظْمًا وَنَثْرًا، وَقَدْ عَجَزْتُمْ وَعَجَزَ جَمِيعُ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ تَنْسُبُونَهُ إِلَى أَعْجَمِيٍّ أَلْكَنَ؟
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ لبيان الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، مَا مَحَلُّهَا؟ (قُلْتُ) : لَا مَحَلَّ لَهَا، لِأَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ اللَّهُ:
أَعْلَمُ، حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته بَعْدَ قَوْلِهِ: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ «١» انْتَهَى. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً فَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَيْ: يَقُولُونَ ذَلِكَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَيْ: عِلْمُهُمْ بِأَعْجَمِيَّةِ هَذَا الْبَشَرِ وَإِبَانَةِ عَرَبِيَّةِ هَذَا الْقُرْآنَ كَانَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، كَمَا تَقُولُ: تَشْتُمُ فُلَانًا وَهُوَ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ أَيْ: عِلْمُكَ بِإِحْسَانِهِ لَكَ كَانَ يَقْتَضِي مَنْعَكَ مِنْ شَتْمِهِ. وَإِنَّمَا ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى الِاسْتِئْنَافِ وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى الْحَالِ، لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَجِيءَ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ الِاسْمِيَّةِ بِغَيْرِ وَاوٍ شَاذٌّ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ جِدًّا، وَمَجِيءُ ذَلِكَ بِغَيْرِ وَاوٍ لَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ كَثْرَةً فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ تَبِعَ فِيهِ الفراء، وأما الله أَعْلَمُ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِيهَا، لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ خَالِيَةٌ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى ذِي الْحَالِ، لِأَنَّ ذَا الْحَالِ هُوَ ضَمِيرُ قَالُوا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذُو الْحَالِ ضَمِيرُ يَقُولُونَ، وَالضَّمِيرُ الَّذِي فِي جُمْلَةِ الْحَالِ هُوَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي يُلْحِدُونَ، فَالْجُمْلَةُ وَإِنْ عُرِّيَتْ عَنِ الْوَاوِ فَفِيهَا ضَمِيرُ ذِي الْحَالِ.
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٢٤.
596
الْكافِرِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى نِسْبَتَهُمْ إِلَى الِافْتِرَاءِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَأَنَّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ إِيَّاهُ بَشَرٌ، كَانَ ذَلِكَ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ أَبَدًا إِذْ كَانُوا جَاحِدِينَ آيَاتِ اللَّهِ، وَهُوَ مَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَخُصُوصًا الْقُرْآنُ، فَمَنْ بَالَغَ فِي جَحْدِ آيَاتِ اللَّهِ سَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ الْهِدَايَةِ. وَذَكَرَ تَعَالَى وَعِيدَهُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ لَهُمْ، وَمَعْنَى لَا يَهْدِيهِمْ: لَا يَخْلُقُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَهَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ، فَقَدِ اهْتَدَى قَوْمٌ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لَا يَلْطُفُ بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخِذْلَان فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الآخرة، لَا مِنْ أَهْلِ اللُّطْفِ وَالثَّوَابِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَفْهُومُ مِنَ الْوُجُودِ أَنَّ الَّذِينَ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ فِي هَذَا الترتيب وأخبرتهما بِتَقْبِيحِ فِعْلِهِمْ وَالتَّشْنِيعِ بِخَطَئِهِمْ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «١» وَالْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي: أَقْوَى مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إِلَى الْجَنَّةِ بَلْ يَسُوقُهُمْ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ يَهْتَدُوا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ أَيْ لَا يَهْتَدُونَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: هَدَى اللَّهُ فُلَانًا عَلَى الْإِطْلَاقِ إِذَا اهْتَدَى هُوَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْهُدَى فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ هَدَاهُ فَلَمْ يَهْتَدِ، كَمَا قَالَ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «٢» ثُمَّ رَدَّ تَعَالَى قَوْلَهُمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ «٣» بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ، أَيْ إِنَّمَا يَلِيقُ افْتِرَاءُ الْكَذِبِ بِمَنْ لَا يُؤْمِنُ، لِأَنَّهُ يَتَرَقَّبُ عِقَابًا عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ فِي كَلَامِهِمْ إِنَّمَا وَهُوَ يَقْتَضِي الْحَصْرَ عِنْد بَعْضِهِمْ، جَاءَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِإِنَّمَا أَيْضًا، وَجَاءَ بِلَفْظِ يَفْتَرِي الَّذِي يَقْتَضِي التَّجَدُّدَ، ثُمَّ عَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِلِافْتِرَاءِ وَهُوَ: انْتِفَاءُ الْإِيمَانِ، وَخَتَمَ بِقَوْلِهِ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ. فَاقْتَضَى التَّوْكِيدَ الْبَالِغَ وَالْحَصْرَ بِلَفْظِ الْإِشَارَةِ، وَالتَّأْكِيدَ بِلَفْظِ هُمُ، وَإِدْخَالِ الْ عَلَى الْكَاذِبُونَ، وَبِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ يَقْتَضِي الثُّبُوتَ وَالدَّوَامَ، فَجَاءَ يَفْتَرِي يَقْتَضِي التَّجَدُّدَ، وَجَاءَ الْكَاذِبُونَ يَقْتَضِي الثُّبُوتَ وَالدَّوَامَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأُولَئِكَ إشارة
(١) سورة الصف: ٦١/ ٥.
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ١٧.
(٣) سورة النحل: ١٦/ ١٠١.
597
إِلَى قُرَيْشٍ هُمُ الْكَاذِبُونَ، هُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَهُمُ الْكَاذِبُونَ. أَوْ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ:
وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْكَامِلُونَ فِي الْكَذِبِ، لِأَنَّ تَكْذِيبَ آيَاتِ اللَّهِ أَعْظَمُ الْكَذِبِ. أَوْ أُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ عَادَتْهُمُ الْكَذِبُ لَا يُبَالُونَ بِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَا يَحْجُبُهُمْ عَنْهُ مُرُوءَةٌ وَلَا دِينٌ. أَوْ أُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ انْتَهَى. وَالْوَجْهُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ بَعِيدٌ، وَهُوَ أَنَّ وَأُولَئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قُرَيْشٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ. وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ يَكُونُ بِاللَّفْظِ وَبِالِاعْتِقَادِ، اسْتَثْنَى مِنَ الْكَافِرِينَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّفْظِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَرَخَّصَ لَهُ فِي النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إِذْ كَانَ قَلْبُهُ مُؤْمِنًا، وَذَلِكَ مَعَ الْإِكْرَاهِ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ، تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ: الْكَافِرُونَ بَعْدَ الْإِيمَانِ غَيْرُ الْمُكْرَهِينَ، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مَا تَضَمَّنَهُ جَوَابُ الشَّرْطِ الْمَحْذُوفِ أَيْ: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ فَلَا غَضَبَ عَلَيْهِ وَلَا عَذَابَ، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ وَكَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَعْنِي الْجَوَابَ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلُ مَنْ جَعَلَ مِنْ شَرْطًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مَنْ فِي قَوْلِهِ مَنْ كَفَرَ ابْتِدَاءٌ، وَقَوْلُهُ: مَنْ شَرَحَ تَخْصِيصٌ مِنْهُ، وَدَخَلَ الِاسْتِثْنَاءُ لِإِخْرَاجِ عَمَّارٍ وَشَبَهِهِ. وَدَنَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ الِاسْتِدْرَاكُ بَلَكِنْ وَقَوْلُهُ: فَعَلَيْهِمْ، خَبَرٌ عَنْ مَنِ الْأَوْلَى وَالثَّانِيَةِ، إِذْ هُوَ وَاحِدٌ بِالْمَعْنَى لِأَنَّ الْإِخْبَارَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كَفَرَ، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ الصِّنْفُ الشَّارِحُ بِالْكُفْرِ انْتَهَى. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ فَهَاتَانِ جُمْلَتَانِ شَرْطِيَّتَانِ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِأَدَاةِ الِاسْتِدْرَاكِ، فَلَا بُدَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ جَوَابٍ عَلَى انْفِرَادِهِ لَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ، فَتَقْدِيرُ الْحَذْفِ أَحْرَى عَلَى صِنَاعَةِ الْإِعْرَابِ.
وَقَدْ ضَعَّفُوا مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ فِي ادِّعَائِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ «١» وَقَوْلَهُ: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ «٢» جَوَابٌ لِأَمَّا، وَلِأَنَّ هَذَا وَهُمَا أَدَاتَا شَرْطٍ، إِحْدَاهُمَا تَلِي الْأُخْرَى، وَعَلَى كَوْنِ مَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً كَمَا ذَكَرْنَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَمَا بَعْدَهَا صِلَتُهَا، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي حَذْفِ جَوَابِ الشَّرْطِ. إِلَّا أَنَّ مَنِ الثَّانِيَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطًا حَتَّى يُقَدَّرَ قَبْلَهَا مُبْتَدَأٌ لِأَنَّ مَنْ وَلِيَتْ لَكِنْ فَيَتَعَيَّنُ إِذْ ذَاكَ أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً، فَإِنْ قُدِّرَ مُبْتَدَأٌ بَعْد لَكِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً فِي مَوْضِعِ خَبَرِ ذَلِكَ المبتدأ المقدر كقوله:
(١) سورة الواقعة: ٥٦/ ٩١.
(٢) سورة الواقعة: ٥٦/ ٣٩.
598
وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدُ الْقَوْمُ أَرْفِدِ أَيْ: وَلَكِنْ أَنَا مَتَى يَسْتَرْفِدُ الْقَوْمُ أَرْفِدُ. وَكَذَلِكَ تُقَدَّرُ هُنَا، وَلَكِنْ هُمْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا أَيْ: مِنْهُمْ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَمِنَ الْكَاذِبُونَ. وَلَمْ يُجِزِ الزَّجَّاجُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْكَاذِبُونَ، لِأَنَّهُ رَأَى الْكَلَامَ إِلَى آخِرِ الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرَ تَامٍّ، فَعَلَّقَهُ بِمَا قَبْلَهُ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ أُولَئِكَ، فَإِذَا كَانَ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ، جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمُ الْمُكْرَهَ فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ حُكْمِ الِافْتِرَاءِ. وَإِذَا كَانَ بَدَلًا مِنِ الْكَاذِبُونَ فَالتَّقْدِيرُ: وَأُولَئِكَ هُمْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَإِذَا كَانَ بَدَلًا مِنِ أُولَئِكَ فَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ.
وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ عِنْدِي ضَعِيفَةٌ. لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ إِلَّا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَالْوُجُودُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ يَفْتَرِي الْكَذِبَ هُوَ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ كَفَرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ قَطُّ، بَلْ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ قَطُّ هُمُ الْأَكْثَرُونَ الْمُفْتَرُونَ الْكَذِبَ. وأما الثاني فيؤول الْمَعْنَى إِلَى ذَلِكَ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَأُولَئِكَ أَيِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ هُمْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ هُمُ الْمُفْتَرُونَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَكَذَلِكَ. إِذِ التَّقْدِيرُ: أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ هُمْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، مُخْبِرٌ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمُ الْكَاذِبُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الذَّمِّ انْتَهَى. وَهَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ، وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ فَصَاحَةُ الْكَلَامِ جَعْلُ الْجُمَلِ كُلِّهَا مُسْتَقِلَّةً لَا تَرْتَبِطُ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَالْمُنَاسَبَةُ وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمُكْرَهَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ قَدْ سُومِحَ لِكَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوْ فِعْلِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، فَالْمُسَامَحَةُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي أَوْلَى. وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْإِكْرَاهِ الْمُبِيحِ لِذَلِكَ، وَفِي تَفْصِيلِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَقَعُ الْإِكْرَاهُ فِيهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَالْمُكْرَهُونَ عَلَى الْكُفْرِ الْمُعَذَّبُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ: خَبَّابٌ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَعَمَّارٌ، وَأَبَوَاهُ يَاسِرٌ وَسُمَيَّةُ، وَسَالِمٌ، وَحَبْرٌ، عُذِّبُوا فَأَجَابَهُمْ عَمَّارٌ وَحَبْرٌ بِاللَّفْظِ فَخُلِّيَ سَبِيلُهُمَا، وَتَمَادَى الْبَاقُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقُتِلَ يَاسِرٌ وَسُمَيَّةُ، وَهُمَا أَوَّلُ قَتِيلٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَعُذِّبَ بِلَالٌ وَهُوَ يَقُولُ: (أَحَدٌ أَحَدٌ) وَعُذِّبَ خَبَّابٌ بِالنَّارِ فَمَا أَطْفَأَهَا إِلَّا وَدَكُ ظَهْرِهِ. وَجَمَعَ الضَّمِيرَ فِي فَعَلَيْهِمْ عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَأَفْرَدَ فِي شَرْحٍ
599
عَلَى لَفْظِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا اسْتَحَقُّوهُ مِنَ الْغَضَبِ وَالْعَذَابِ أَيْ: كَائِنٌ لَهُمْ بِسَبَبِ اسْتِحْبَابِهِمُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاسْتِحْقَاقُهُمْ خِذْلَانَ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ انْتَهَى. وَهِيَ نَزْغَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ. وَالضَّمِيرُ فِي بِأَنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ فِي مَنْ شَرَحَ: وَلَمَّا فَعَلُوا فِعْلَ مَنِ اسْتَحَبَّ، أُلْزِمُوا ذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا غيره مُصَدِّقِينَ بِآخِرِهِ، لَكِنَّ مِنْ حَيْثُ أَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِيهِ كَانُوا كَمَنِ اسْتَحَبَّ غَيْرَهُ. وَقَوْلُهُ: اسْتَحَبُّوا، هُوَ تَكَسُّبٌ مِنْهُمْ عُلِّقَ بِهِ الْعِقَابُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِرَاعِ اللَّهِ الْكُفْرَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَجَمَعَتِ الْآيَةُ بَيْنَ الْكَسْبِ وَالِاخْتِرَاعِ، وَهَذَا عَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الِارْتِدَادِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْكُفْرِ، لِأَجْلِ أَنَّهُمْ رَجَّحُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى مَا هَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الطَّبْعِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْخَتْمِ عَلَيْهَا. وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ مَا يُرَادُ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْكَامِلُونَ فِي الْغَفْلَةِ الَّذِينَ لَا أَحَدَ أَغْفَلُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ تَدَبُّرِ الْعَوَاقِبِ هِيَ غَايَةُ الْغَفْلَةِ وَمُنْتَهَاهَا. وَلَمَّا كَانَ الْإِسْنَادُ لِيَكْتَسِبَ بِالطَّاعَاتِ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ، فَعَمِلَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ عَظُمَ خُسْرَانُهُ فَقِيلَ فِيهِمْ:
هُمُ الْخَاسِرُونَ لَا غَيْرُهُمْ. وَمَنْ أَخْسَرُ مِمَّنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ مِنْ كَيْنُونَةِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَاسْتِحْبَابِ الدُّنْيَا، وَانْتِفَاءِ هِدَايَتِهِمْ، وَالْإِخْبَارِ بِالطَّبْعِ وَبِغَفْلَتِهِمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَحَالَ مَنْ أُكْرِهَ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ هاجر بعد ما فُتِنَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ، وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
نَزَلَتْ فَكَتَبَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَنْ كَانَ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا، فَخَرَجُوا، فَأَدْرَكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى نَجَا مَنْ نَجَا وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، فَعَلَى هَذَا السَّبَبِ يَكُونُ جِهَادُهُمْ مَعَ الرَّسُولِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا وَاتَّبَعُوا وَجَاهَدُوا مُتَّبِعِيهِمْ، فَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَنَجَا مَنْ نَجَا، فَنَزَلَتْ حِينَئِذٍ، فَعَنَى بِالْجِهَادِ جِهَادَهُمْ لِمُتَّبِعِيهِمْ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
نَزَلَتْ فِي عَمَّارٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذِكْرُ عَمَّارٍ فِي هَذَا غَيْرُ قَوِيمٍ، فَإِنَّهُ أَرْفَعُ مِنْ طَبَقَةِ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ مِنْ بَابِ مِمَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا أَفَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ فِي آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَأَشْبَاهِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: مِنْ بَعْدِ مَا فَتَنَهُمُ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ دَلَالَةٌ عَلَى تَبَاعُدِ حَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ حَالِ أُولَئِكَ، وَهُمْ عمار وأصحابه. وللذين عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي مَوْضِعِ خبران قَالَ: وَمَعْنَى إِنَّ رَبَّكَ لَهُمْ أَنَّهُ لَهُمْ لَا عَلَيْهِمْ، بِمَعْنَى أَنَّهُ وَلِيُّهُمْ وَنَاصِرُهُمْ،
600
لَا عَدُوُّهُمْ وَخَاذِلُهُمْ كَمَا يَكُونُ الْمَلِكُ لِلرَّجُلِ: لَا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مَحْمِيًّا مَنْفُوعًا غَيْرَ مَضْرُورٍ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: مَنْفُوعًا اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ نَفَعَ، وَهُوَ قِيَاسُهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ ثُلَاثِيٌّ. وَزَعَمَ الْأَهْوَازِيُّ النَّحْوِيُّ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ نَفَعَ اسْمُ مَفْعُولٍ، فَلَا يُقَالُ مَنْفُوعٌ وَقَفْتُ لَهُ عَلَيْهِ فِي شَرْحِهِ مُوجَزِ الرُّمَّانِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: خَبَرُ إِنَّ الْأُولَى قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَغَفُورٌ، وَإِنَّ الثَّانِيَةُ وَاسْمُهَا تَكْرِيرٌ لِلتَّوْكِيدِ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَتْ إِنَّ الثَّانِيَةُ وَاسْمُهَا تَكْرِيرًا لِلتَّوْكِيدِ كَمَا ذُكِرَ، فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ صِنَاعَةُ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ إِنَّ الْأَوْلَى هُوَ قَوْلَهُ: لَغَفُورٌ، وَيَكُونُ لِلَّذِينَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: لَغَفُورٌ، أَوْ بِرَحِيمٍ عَلَى الْإِعْمَالِ، لِأَنَّ إِنَّ رَبَّكَ الثَّانِيَةَ لَا يَكُونُ لَهَا طَلَبٌ لِمَا بَعْدَهَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ.
كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قَامَ قَامَ زَيْدٌ، فَزَيْدٌ إِنَّمَا هُوَ مَرْفُوعٌ بِقَامَ الْأُولَى، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ ذُكِرَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لِلْأُولَى. وَقِيلَ: لَا خَبَرَ لِأَنَّ الْأُولَى فِي اللَّفْظِ لِأَنَّ خَبَرَ الثَّانِيَةِ أَغْنَى عَنْهُ انْتَهَى.
وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ أَلْغَى حُكْمَ الْأُولَى وَجَعَلَ الْحُكْمَ لِلثَّانِيَةِ، وَهُوَ عَكْسُ مَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَجُوزُ. وَقِيلَ: لِلَّذِينَ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَعْنِي لِلَّذِينِ، أَيِ الْغُفْرَانَ لِلَّذِينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فُتِنُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ: بِالْعَذَابِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: فَتَنُوا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ هَاجَرُوا، فَالْمَعْنَى: فَتَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا أَعْطَوُا الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْقَوْلِ كَمَا فَعَلَ عَمَّارٌ. أَوْ لَمَّا كَانُوا صَابِرِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعُذِّبُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ صَارُوا كَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُعَذِّبُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَا عَذَّبُوا الْمُؤْمِنِينَ كَالْحَضْرَمِيِّ وَأَشْبَاهِهِ. وَالضَّمِيرُ في من بعدها عائد عَلَى الْمَصَادِرِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْأَفْعَالِ السَّابِقَةِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ الْفِتْنَةِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالضَّمِيرُ فِي بَعْدِهَا عَائِدٌ عَلَى الْفِتْنَةِ، أَوِ الْهِجْرَةِ، أَوِ التَّوْبَةِ، وَالْكَلَامُ يُعْطِيهَا وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ صَرِيحٌ.
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: يَوْمَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَنَاصِبُهُ رَحِيمٌ، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَنَاصِبُهُ اذْكُرْ. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ كُلِّ نَفْسٍ، فَيُجَادِلُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَجِدَالُهُ بِالْكَذِبِ وَالْجَحَدِ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِمُ الرُّسُلُ وَالْجَوَارِحُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَنْطِقُونَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:
601
الْجِدَالُ قَوْلُ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ: نَفْسِي نَفْسِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا لَيْسَ بِجِدَالٍ وَلَا احْتِجَاجٍ، إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ رَغْبَةٍ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَرَكَّبَ مَعَهُ مَا قَبْلَهُ فَقَالَ:
كَأَنَّهُ قِيلَ يَوْمَ يَأْتِي كُلُّ إِنْسَانٍ يُجَادِلُ عَنْ ذَاتِهِ لَا يُهِمُّهُ شَأْنُ غَيْرِهِ، كُلٌّ يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي.
وَمَعْنَى الْمُجَادَلَةِ الِاعْتِذَارُ عَنْهَا كَقَوْلِهِمْ: هؤُلاءِ أَضَلُّونا «١» وما كُنَّا مُشْرِكِينَ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَالَ: يُقَالُ لَعِينِ الشَّيْءِ وَذَاتِهِ نَفْسُهُ، وَفِي نَقِيضِهِ غَيْرُهُ، وَالنَّفْسُ الْجُمْلَةُ كَمَا هِيَ، فَالنَّفْسُ الْأُولَى هِيَ الْجُمْلَةُ، وَالثَّانِيَةُ عَيْنُهَا وَذَاتُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ كُلُّ ذِي نَفْسٍ، ثُمَّ أُجْرِيَ الْفِعْلُ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَذْكُورِ، فَأَثْبَتَ الْعَلَامَةَ. وَنَفْسٌ الْأُولَى هِيَ النَّفْسُ الْمَعْرُوفَةُ، وَالثَّانِيَةُ هِيَ بِمَعْنَى الْبَدَنِ كَمَا تَقُولُ: نَفْسُ الشَّيْءِ وَعَيْنُهُ أَيْ ذَاتُهُ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: الْإِنْسَانُ يُسَمَّى نَفْسًا تَقُولُ الْعَرَبُ: مَا جَاءَنِي إِلَّا نَفْسٌ وَاحِدَةٌ أَيْ: إِنْسَانٌ وَاحِدٌ. وَالنَّفْسُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَأْتِي، لِأَنَّهَا هِيَ الشَّيْءُ الَّذِي يَعِيشُ بِهِ الْإِنْسَانُ انْتَهَى.
(فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ لَمْ يَتَعَدَّ الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ، لَا إِلَى لَفْظِ النَّفْسِ؟ (قُلْتُ) : مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ ظَنَّ، وَفَقَدَ لَا يَتَعَدَّى فِعْلُ ظَاهِرِ فَاعِلِهِ، وَلَا مُضْمَرِهِ إِلَى مُضْمَرِهِ الْمُتَّصِلِ، فَلِذَلِكَ لم يجىء التَّرْكِيبُ تُجَادِلُ عَنْهَا، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ: ضَرَبَتْهَا هِنْدٌ وَلَا هِنْدٌ ضَرَبَتْهَا، وَإِنَّمَا تَقُولُ: ضَرَبَتْ نَفْسَهَا هِنْدٌ، وَضَرَبَتْ هِنْدٌ نَفْسَهَا، مَا عَمِلَتْ أَيْ: جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ مِنْ إِحْسَانٍ أَوْ إِسَاءَةٍ، وَأَنَّثَ الْفِعْلَ فِي تَأْتِي، وَالضَّمِيرَ فِي تُجَادِلُ وفي عن نفسها، وَفِي تُوُفَّى، وَفِي عَمِلَتْ، حَمْلًا عَلَى مَعْنَى كُلُّ، وَلَوْ رُوعِيَ اللَّفْظُ لَذُكِّرَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
جَادَتْ عَلَيْهَا كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدِّرْهَمِ
فَأَنَّثَ عَلَى الْمَعْنَى. وَمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْجِدَالَ هُنَا هُوَ جِدَالُ الْجَسَدِ لِلرُّوحِ، وَالرُّوحِ لِلْجَسَدِ لَا يَظْهَرُ قَالَ: يَقُولُ الْجَسَدُ: رَبِّ جَاءَ الرُّوحُ بِأَمْرِكَ بِهِ نَطَقَ لِسَانِي وَأَبْصَرَتْ عَيْنِي وَمَشَتْ رِجْلِي، فَتَقُولُ الرُّوحُ: أَنْتَ كَسَبْتَ وَعَصَيْتَ لَا أَنَا، وَأَنْتَ كُنْتَ الْحَامِلَ وَأَنَا الْمَحْمُولُ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَضْرِبُ لَكُمَا مَثَلَ أَعْمَى حَمَلَ مُقْعَدًا إِلَى بُسْتَانٍ فَأَصَابَا مِنْ ثِمَارِهِ، فَالْعَذَابُ عَلَيْكُمَا. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْقَرْيَةَ الْمَضْرُوبَ بِهَا الْمَثَلُ مَكَّةُ، كَانَتْ لَا تُغْزَى وَلَا يُغَارُ عَلَيْهَا، وَالْأَرْزَاقُ تُجْلَبُ إِلَيْهَا، وَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَفَرَتْ، فَأَصَابَهَا السُّنُونَ وَالْخَوْفُ. وَسَرَايَا الرَّسُولِ وَغَزَوَاتُهُ ضُرِبَتْ مَثَلًا لِغَيْرِهَا مِمَّا يَأْتِي بَعْدَهَا. وهذا وإن كَانَتِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةً، وَإِنْ كَانَتْ مَكِّيَّةً فَجُوعُ السِّنِينَ وخوف
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٣٨.
602
الْعَذَابِ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ. وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهَا مَكِّيَّةً قَوْلُهُ: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْأَوَّلِينَ. وَعَنْ حَفْصَةَ: أَنَّهَا الْمَدِينَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَتَوَجَّهُ عِنْدِي أَنَّهَا قُصِدَ بِهَا قَرْيَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، جُعِلَتْ مَثَلًا لِمَكَّةَ عَلَى مَعْنَى التَّحْذِيرِ لِأَهْلِهَا وَلِغَيْرِهَا مِنَ الْقُرَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ قرية مقدرة على هذه الصِّفَةِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي قُرَى الْأَوَّلِينَ قَرْيَةٌ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهَا، فَضَرَبَهَا اللَّهُ مَثَلًا لِمَكَّةَ إِنْذَارًا مِنْ مِثْلِ عَاقِبَتِهَا انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ قرية مقدرة على هذه الصفة، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ. كَانَتْ آمِنَةً ابْتَدَأَ بِصِفَةِ الْأَمْنِ، لِأَنَّهُ لَا يُقِيمُ لِخَائِفٍ. وَالِاطْمِئْنَانُ زِيَادَةٌ فِي الْأَمْنِ، فَلَا يُزْعِجُهَا خَوْفٌ. يَأْتِيهَا رِزْقُهَا أَقْوَاتُهَا وَاسِعَةٌ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهَا، لَا يَتَعَذَّرُ مِنْهَا جِهَةٌ. وَأَنْعُمٌ جَمْعُ نَعْمَةٍ، كَشَدَّةٍ وَأَشُدٍّ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: جَمْعُ نِعَمٍ بِمَعْنَى النَّعِيمِ، يُقَالُ: هَذِهِ أَيَّامُ طُعْمٍ وَنَعْمٍ انْتَهَى. فَيَكُونُ كَبُؤْسٍ وَأَبْؤُسٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمَعَ نِعْمَةً عَلَى تَرْكِ التَّاءِ، وَالِاعْتِدَادِ بِالتَّاءِ كَدِرْعٍ وَأَدْرُعٍ. وَقَالَ الْعُقَلَاءُ:
ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ: الْأَمْنُ، وَالصِّحَّةُ وَالْكِفَايَةُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: آمِنَةً إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْنِ، مُطَمْئِنَّةً إِشَارَةٌ إِلَى الصِّحَّةِ، لِأَنَّ هَوَاءَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مُلَازِمًا لِأَمْزِجَتِهِمُ اطْمَأَنُّوا إِلَيْهَا وَاسْتَقَرُّوا، يَأْتِيهَا رِزْقُهَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ «١» وَقَالَ: الْأَنْعُمُ جَمْعُ نِعْمَةٍ وَجَمْعُ قِلَّةٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِنِعَمِ اللَّهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى بِمَعْنَى أَنَّ كُفْرَانَ النِّعَمِ الْقَلِيلَةِ أَوْجَبَ الْعَذَابَ، فَكُفْرَانُ الْكَثِيرَةِ أَوْلَى بِإِيجَابِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَا بَاشَرَهُمْ ذَلِكَ صَارَ كَاللِّبَاسِ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسًا
وَنَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ «٢» وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَقَدْ لَبِسَتْ بَعْدَ الزُّبَيْرِ مُجَاشِعُ ثِيَابَ الَّتِي حَاضَتْ وَلَمْ تَغْسِلِ الدَّمَا
كَأَنَّ الْعَارَ لَمَّا بَاشَرَهُمْ وَلَصِقَ بِهِمْ جَعَلَهُمْ لَبِسُوهُ. وَقَوْلُهُ: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ، نَظِيرُ قَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «٣» ونظير قول الشاعر:
(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ٣٧.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٨٧.
(٣) سورة الدخان: ٤٤/ ٤٩. [.....]
603
دُونَكَ ما جَنَيْتَهُ فَاحْسُ وَذُقْ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْإِذَاقَةُ وَاللِّبَاسُ اسْتِعَارَتَانِ، فَمَا وَجْهُ صِحَّتِهِمَا؟ وَالْإِذَاقَةُ الْمُسْتَعَارَةُ مُوقَعَةٌ عَلَى اللِّبَاسِ فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ إِيقَاعِهَا؟ (قُلْتُ) : أَمَّا الْإِذَاقَةُ فَقَدْ جَرَتْ عِنْدَهُمْ مَجْرَى الْحَقِيقَةِ لِشُيُوعِهَا فِي الْبَلَايَا وَالشَّدَائِدِ وَمَا يَمَسُّ النَّاسَ مِنْهَا فَيَقُولُونَ: ذَاقَ فُلَانٌ الْبُؤْسَ وَالضُّرَّ، وَإِذَاقَةُ الْعَذَابِ شَبَّهَ مَا يُدْرَكُ مِنْ أَثَرِ الضَّرَرِ وَالْأَلَمِ بِمَا يُدْرَكُ مِنْ طَعْمِ الْمُرِّ وَالْبَشِعِ.
وَأَمَّا اللِّبَاسُ فَقَدْ شُبِّهَ بِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى اللَّابِسِ مَا غَشِيَ الْإِنْسَانَ وَالْتَبَسَ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْحَوَادِثِ. وَأَمَّا إِيقَاعُ الْإِذَاقَةِ عَلَى لِبَاسِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ عِبَارَةُ: عَمَّا يُغْشَى مِنْهُمَا وبلابس، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَذَاقَهُمْ مَا غَشِيَهُمْ مِنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وَلَهُمْ فِي نَحْوِ هَذَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْظُرُوا فِيهِ إِلَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ، كما نظر إليه هاهنا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ كُثَيِّرٍ:
غَمْرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا غُلِقَتْ لِضُحْكَتِهِ رِقَابُ الْمَالِ
اسْتَعَارَ الرِّدَاءَ لِلْمَعْرُوفِ، لِأَنَّهُ يَصُونُ عِرْضَ صَاحِبِهِ، صَوْنَ الرِّدَاءِ لِمَا يُلْقَى عَلَيْهِ. وَوَصَفَهُ بِالْغَمْرِ الَّذِي هُوَ وَصْفُ الْمَعْرُوفِ وَالنَّوَالِ، لَا صِفَةُ الرِّدَاءِ، نَظَرًا إِلَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ. وَالثَّانِي:
أَنْ يَنْظُرُوا فِيهِ إِلَى الْمُسْتَعَارِ كَقَوْلِهِ:
يُنَازِعُنِي رِدَائِي عَبْدُ عَمْرٍو رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرِو بْنِ بَكْرِ
لِيَ الشَّطْرُ الَّذِي مَلَكَتْ يَمِينِي وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرِ
أَرَادَ بِرِدَائِهِ سَيْفَهُ ثُمَّ قَالَ: فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرٍ، فَنُظِرَ إِلَى الْمُسْتَعَارِ فِي لَفْظِ: الِاعْتِجَارِ، وَلَوْ نُظِرَ إِلَيْهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لقيل: فكساهم لبس الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وَلَقَالَ كُثَيِّرٌ: ضَافِي الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَمْنِ وَإِتْيَانِ الرِّزْقِ، قَابَلَهُمَا بِالْجُوعِ النَّاشِئِ عَنِ انْقِطَاعِ الرِّزْقِ وَبِالْخَوْفِ. وَقَدَّمَ الْجُوعَ لَيَلِيَ الْمُتَأَخِّرَ وَهُوَ إِتْيَانُ الرِّزْقِ كَقَوْلِهِ:
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ «١» وَأَمَّا قوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ «٢» فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النار فقدم ما بدىء بِهِ وَهُمَا طَرِيقَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَالْخَوْفِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْجُوعِ. وَرَوَى الْعَبَّاسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَالْخَوْفَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى لِبَاسٍ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، أَصْلُهُ وَلِبَاسَ
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٠٦.
(٢) سورة هود: ١١/ ١٠٥.
604
الْخَوْفِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ الْخَوْفَ وَالْجُوعَ، وَلَا يُذْكَرُ لِبَاسَ. وَالَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّ هَذَا تَفْسِيرُ الْمَعْنَى لَا قِرَاءَةٌ، لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُ مُسْتَفِيضًا مِثْلُ مَا فِي سَوَادِ الْمُصْحَفِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لِبَاسَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ، بَدَأَ بِمُقَابِلِ مَا بَدَأَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: كَانَتْ آمِنَةً، وَهَذَا عِنْدِي إِنَّمَا كَانَ فِي مُصْحَفِهِ قَبْلَ أَنْ يَجْمَعُوا مَا فِي سَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمَوْجُودِ الْآنَ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَلِذَلِكَ الْمُسْتَفِيضِ عَنْ أُبَيٍّ فِي الْقِرَاءَةِ إِنَّمَا هُوَ كَقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ مِنْ كُفْرَانِ نِعَمِ اللَّهِ، وَمِنْهَا تَكْذِيبُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي جَاءَهُمْ. وَالضَّمِيرُ فِي بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ عَائِدٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِهِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً، أَيْ: قِصَّةَ أَهْلِ قَرْيَةٍ، أَعَادَ الضَّمِيرَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ قَرْيَةٍ، ثُمَّ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِهِ: فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً «١» أَوْ هُمْ قائِلُونَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَلَقَدْ جَاءَهُمْ، عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي جَاءَهُمْ لِأَهْلِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، يَكُونُ هَذَا بِمَا جَرَى فِيهَا كَمَدِينَةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ مَكَّةَ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَمَّا ذَكَرَ الْمَثَلَ قَالَ: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ- يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ- رَسُولٌ مِنْهُمْ يَعْنِي- مِنْ أَنْفُسِهِمْ- يَعْرِفُونَهُ بِأَصْلِهِ وَنَسَبِهِ، وَلَمَّا وَعَظَ تَعَالَى بِضَرْبِ ذَلِكَ الْمَثَلِ وَصَلَ هَذَا الْأَمْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْفَاءِ، فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَكْلِ مَا رَزَقَهُمْ وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ لِيُبَايِنُوا تِلْكَ الْقَرْيَةَ الَّتِي كَفَرَتْ بِنِعَمِ اللَّهِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ جَاءَ هُنَا: وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ. وَفِي البقرة جاء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ «٢» لَمْ يَذْكُرْ مَنْ كَفَرَ نِعْمَتَهُ فَقَالَ: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ «٣» وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِمَّا رَزَقَهُمْ، عَدَّدَ عَلَيْهِمْ مُحَرَّمَاتِهِ تَعَالَى وَنَهَاهُمْ عَنْ تَحْرِيمِهِمْ وَتَحْلِيلِهِمْ بِأَهْوَائِهِمْ دُونَ اتِّبَاعِ مَا شَرَعَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِ. وَكَذَا جَاءَ فِي الْبَقَرَةِ ذِكْرُ مَا حَرَّمَ إِثْرَ قَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ. وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا حَرَّمَ الْآيَةَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِهَا فِي الْبَقَرَةِ «٤».
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى مَا حَرَّمَ، بَالَغَ فِي تَأْكِيدِ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ الزيادة فيما حرم
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٤.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٧٢.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٧٢.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ١٧٣.
605
كَالْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَفِيمَا أَحَلَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَذَكَرَ تَعَالَى تَحْرِيمَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَهَذِهِ السُّورَةِ وَهُمَا مَكِّيَّتَانِ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ:
أُحِلَّتْ لَكُمْ «١» الْآيَةَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: مَنْ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ «٢» هُوَ قَوْلُهُ:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ «٣» الْآيَةَ وَهُمَا مَدَنِيَّتَانِ فَكَانَ هَذَا التَّحْرِيمُ لِهَذِهِ الْأَرْبَعِ مُشَرَّعًا ثَانِيًا فِي أَوَّلِ مَكَّةَ وَآخِرِهَا، وَأَوَّلِ الْمَدِينَةِ وَآخِرِهَا. فَنَهَى تَعَالَى أَنْ يُحَرِّمُوا وَيُحِلُّوا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَيَفْتَرُونَ بِذَلِكَ عَلَى اللَّهِ حَيْثُ يَنْسُبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْكَذِبَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْبَاءِ وَكَسْرِ الذَّالِ، وَجَوَّزُوا فِي مَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لِلَّذِي تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ. وَانْتَصَبَ الْكَذِبَ عَلَى أَنَّهُ مَعْمُولٌ لِتَقُولُوا أَيْ: وَلَا تَقُولُوا الْكَذِبَ لِلَّذِي تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ مِنَ الْبَهَائِمِ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادِ ذَلِكَ الْوَصْفِ إِلَى الْوَحْيِ. وَهَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: فَتَقُولُوا هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُ الْكَذِبِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ عَلَى مَا، كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي الَّذِي ضَرَبْتُ أَخَاكَ، أَي ضَرَبْتَهُ أَخَاكَ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَانْتَصَبَ الْكَذِبُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَيْ: لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمُ الْكَذِبَ. وَمَعْمُولُ: وَلَا تَقُولُوا، الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَالْمَعْنَى: وَلَا تُحَلِّلُوا وَلَا تُحَرِّمُوا لِأَجْلِ قَوْلٍ تَنْطِقُ بِهِ أَلْسِنَتُكُمْ كَذِبًا، لَا بِحُجَّةٍ وَبَيِّنَةٍ. وَهَذَا مَعْنًى بَدِيعٌ، جَعَلَ قَوْلَهُمْ: كَأَنَّهُ عَيْنُ الْكَذِبِ وَمَحْضُهُ، فَإِذَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ فَقَدْ جلت الْكَذِبَ بِحِلْيَتِهِ وَصُورَتَهُ بِصُورَتِهِ كَقَوْلِهِمْ: وَجْهُهُ يَصِفُ الْجَمَالَ، وَعَيْنُهَا تَصِفُ السِّحْرَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ عُبَيْدٍ، وَنُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَخُرِّجَ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَا، وَالْمَعْنَى الَّذِي: تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ الكذب بالجر صفة لما الْمَصْدَرِيَّةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَأَنَّهُ قِيلَ: لِوَصْفِهَا الْكَذِبَ بِمَعْنَى الْكَاذِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِدَمٍ كَذِبٍ «٤» وَالْمُرَادُ بِالْوَصْفِ وَصْفُهَا الْبَهَائِمَ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ انْتَهَى. وَهَذَا عِنْدِي لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ لَا يُنْعَتُ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكِ مِنْهَا وَمِنَ الْفِعْلِ، وَلَا يُوجَدُ مِنْ كَلَامِهِمْ: يُعْجِبُنِي أَنْ قُمْتَ السَّرِيعَ، يُرِيدُ قِيَامَكَ السَّرِيعَ، وَلَا عَجِبْتُ مِنْ أَنْ تَخْرُجَ السَّرِيعَ أَيْ: مِنْ خُرُوجِكَ السَّرِيعِ. وَحُكْمُ باقي
(١) سورة المائدة: ٥/ ١.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ١.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٣.
(٤) سورة يوسف: ١٢/ ١٨.
606
الْحُرُوفِ الْمَصْدَرِيَّةِ حُكْمُ أَنْ فَلَا يُوجَدُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَصْفُ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ أَنِ وَلَا، مِنْ مَا وَلَا، مِنْ كَيْ، بِخِلَافٍ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنْعَتَ، وَلَيْسَ لِكُلِّ مُقَدَّرٍ حُكْمُ الْمَنْطُوقِ بِهِ وَإِنَّمَا يُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ الْعَرَبُ.
وَقَرَأَ مُعَاذٌ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَبَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ: الْكُذُبُ بِضَمِّ الثَّلَاثَةِ صِفَةً لِلْأَلْسِنَةِ، جَمْعُ كَذُوبٍ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: أَوْ جَمْعُ كَاذِبٍ أَوْ كَذَّابٍ انْتَهَى. فَيَكُونُ كَشَارِفٍ وَشُرُفٍ، أَوْ مِثْلُ كِتَابٍ وَكُتُبٍ، وَنَسَبَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ لِمَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ الْكُذُبَ بِفَتْحِ الياء عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ كَذَّابٍ، كَكُتُبٍ فِي جَمْعِ كِتَابٍ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَجَاءَ عَنْ يَعْقُوبَ الْكُذُبَ بِضَمَّتَيْنِ وَالنَّصْبِ، فَأَمَّا الضَّمَّتَانِ فَلِأَنَّهُ جَمْعُ كَذَّابٍ وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَمِثْلُهُ كِتَابٌ وَكُتُبٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِالنَّصْبِ عَلَى الشَّتْمِ، أَوْ بِمَعْنَى الْكَلِمِ الْكَوَاذِبِ، أَوْ هُوَ جَمْعُ الْكِذَابِ مِنْ قَوْلِكَ: كَذَبَ كِذَابًا ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّي انْتَهَى. وَالْخِطَابُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَقُولُوا، لِلْكُفَّارِ فِي شَأْنِ مَا أَحَلُّوا وَمَا حَرَّمُوا مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ:
الْخِطَابُ لِلْمُكَلَّفِينَ كُلِّهِمْ أَيْ: لَا تُسَمُّوا مَا لَمْ يَأْتِكُمْ حَظْرُهُ وَلَا إِبَاحَتُهُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَلَالًا وَلَا حَرَامًا، فَتَكُونُوا كَاذِبِينَ عَلَى اللَّهِ فِي إِخْبَارِكُمْ بِأَنَّهُ حَلَّلَهُ وَحَرَّمَهُ انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّهُ خِطَابٌ مَعْطُوفٌ عَلَى خِطَابٍ وَهُوَ: فَكُلُوا إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، فَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ. وَاللَّامُ فِي لِتَفْتَرُوا لَامُ التَّعْلِيلِ الَّذِي لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْغَرَضِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ وَلَامَ الصَّيْرُورَةِ. قِيلَ: ذَلِكَ الِافْتِرَاءُ مَا كَانَ غَرَضًا لَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَامُ التَّعْلِيلِ وَأَنَّهُمْ قَصَدُوا الِافْتِرَاءَ كَمَا قَالُوا: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا «١» وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لِمَا تَقَدَّمَ لِتَضَمُّنِهِ الْكَذِبَ، لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَنِ افْتَرَوْهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: لِتَفْتَرُوا عَلَى الله الكذب يدل مِنْ قَوْلِهِ: لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ، لِأَنَّ وَصْفَهُمُ الْكَذِبَ هُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ، فَفَسَّرَ وَصْفَهُمْ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الَّذِي فَاللَّامُ فِي لِمَا لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ، فَيُبْدَلُ مِنْهَا مَا يَقْتَضِي التَّعْلِيلَ، بَلِ اللام متعلقة بلا تَقُولُوا عَلَى حَدِّ تَعَلُّقِهَا فِي قَوْلِكَ: لَا تَقُولُوا، لِمَا أَحَلَّ اللَّهُ هَذَا حَرَامٌ أَيْ: لَا تُسَمُّوا الْحَلَالَ حَرَامًا، وَكَمَا تَقُولُ لِزَيْدٍ عَمْرٌو أَيْ لَا تُطْلِقُ عَلَى زَيْدٍ هَذَا الِاسْمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمُ افْتَرَوْا على الله حقيقة،
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٢٨.
607
وَهُوَ ظَاهِرُ الِافْتِرَاءِ الْوَارِدِ فِي آيِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يُرِيدَ أَنَّهُ كَانَ شَرْعُهُمْ لِأَتْبَاعِهِمْ سُنَنًا لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ شَرَعَ أَمْرًا فَكَأَنَّهُ قَالَ لِتَابِعِهِ: هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهَذَا مُرَادُ اللَّهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بِانْتِفَاءِ الْفَلَاحِ.
وَالْفَلَاحُ: الظَّفَرُ بِمَا يُؤَمَّلُ، فَتَارَةً يَكُونُ فِي الْبَقَاءِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالْمِسَى وَالصُّبْحُ لَا فَلَاحَ مَعَهُ وَتَارَةً فِي نُجْحِ الْمَسَاعِي كَمَا قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ:
أَفْلِحْ بِمَا شِئْتَ فَقَدَ يُبْ لَغُ بِالضَّعْفِ وَقَدْ يُخْدَعُ الْأَرِيبُ
وَارْتِفَاعُ مَتَاعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَقَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَنْفَعَتَهُمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ مَنْفَعَةً قَلِيلَةً وَعِقَابُهَا عَظِيمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَيْشُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَتَاعُ هُنَا مَا حَلَّلُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِمَّا حَرَّمَهُ الله تعالى. وقال أبو الْبَقَاءِ: بَقَاؤُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مَتَاعٌ قَلِيلٌ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِتَقْدِيرِ الْإِضَافَةِ أَيْ:
مَتَاعُهُمْ قَلِيلٌ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَتْبَعَهُ بِمَا كَانَ خَصَّ بِهِ الْيَهُودَ مُحَالًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ، إِذْ لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ إِلَّا بِذَلِكَ. وَيَتَعَلَّقُ مِنْ قَبْلُ بِقَصَصْنَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ:
بِحَرَمِنَا، وَالْمَحْذُوفُ الَّذِي فِي مِنْ قَبْلُ تَقْدِيرُهُ مِنْ قَبْلِ تَحْرِيمِنَا عَلَى أَهْلِ مِلَّتِكَ. وَالسُّوءُ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشِّرْكُ قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ انْتَهَى. مَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ مِنْ كُفْرٍ وَمَعْصِيَةٍ غَيْرِهِ.
وَالْكَلَامُ فِي لِلَّذِينَ عَمِلُوا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا «١» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: بِجَهَالَةٍ تَعَمُّدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَيْسَتْ هُنَا ضِدَّ الْعِلْمِ، بَلْ تَعَدَّى الطَّوْرَ وَرُكُوبَ الرَّأْسِ مِنْهُ: أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
وَالَّتِي هِيَ ضِدُّ الْعِلْمِ، تَصْحَبُ هَذِهِ كَثِيرًا، وَلَكِنْ يَخْرُجُ مِنْهَا الْمُتَعَمِّدُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَقَلَّ مَا يُوجَدُ فِي الْعُصَاةِ مَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ عِلْمٌ بِخَطَرِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي يُوَاقِعُ انْتَهَى. مُلَخَّصًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِجَهَالَةٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: عَمِلُوا السُّوءَ جَاهِلِينَ غَيْرَ عَارِفِينَ بِاللَّهِ وَبِعِقَابِهِ، أَوْ غَيْرَ مُتَدَبِّرِينَ لِلْعَاقِبَةِ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ: جَهَالَتُهُ أَنْ يَلْتَذَّ بِهَوَاهُ، وَلَا يبالي
(١) سورة النحل: ١٦/ ١١٠.
608
بِمَعْصِيَةِ مَوْلَاهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِاغْتِرَارِ الْحَالِ عَنِ الْمَآلِ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، وَلَا يَغْفِرُ لِمَنْ عَمِلَهُ بِغَيْرِ جَهَالَةٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ تَابَ فَهَذَا سَبِيلُهُ، وَإِنَّمَا خَصَّ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَأْتِي الذُّنُوبَ يَأْتِيهَا بِقِلَّةِ فِكْرٍ فِي عَاقِبَةٍ، أَوْ عِنْدَ غَلَبَةِ شَهْوَةٍ، أَوْ فِي جَهَالَةِ شَبَابٍ، فذكر الأكثر عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي مِثْلَ ذَلِكَ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى عَمَلِ السُّوءِ، وَأَصْلَحُوا: اسْتَمَرُّوا عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: أَصْلَحُوا آمَنُوا وَأَطَاعُوا، وَالضَّمِيرُ فِي من بعدها عائد على الْمَصَادِرِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْأَفْعَالِ السَّابِقَةِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ عَمَلِ السُّوءِ وَالتَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْجَهَالَةِ. وَقِيلَ: عَلَى السُّوءِ عَلَى مَعْنَى الْمَعْصِيَةِ.
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: لَمَّا أَبْطَلَ تَعَالَى مَذَاهِبَ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ، وَالطَّعْنِ فِي نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ، وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ، وَكَانُوا مُفْتَخِرِينَ بِجَدِّهِمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُقِرِّينَ بِحُسْنِ طَرِيقَتِهِ وَوُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، ذَكَرَهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ وَأَوْضَحَ مِنْهَاجَهُ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَفْضِ الْأَصْنَامِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ حَامِلًا لَهُمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ. وَأَيْضًا فَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْيَهُودِ بَيْنَ طَرِيقَةِ إِبْرَاهِيمَ لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِهِ وَحَالِهِمْ، وَحَالِ قُرَيْشٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَ أُمَّةً لِانْفِرَادِهِ بِالْإِيمَانِ فِي وَقْتِهِ مُدَّةً مَا.
وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِسَارَّةَ: لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ الْيَوْمَ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ.
وَالْأُمَّةُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ مِنْهَا: الْجَمْعُ الْكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ يُشَبَّهُ بِهِ الرَّجُلُ الصَّائِمُ، أَوْ الْمَلِكُ، أَوِ الْمُنْفَرِدُ بِطَرِيقَةٍ وَحْدَهُ عَنِ النَّاسِ فَسُمِّيَ أُمَّةً، وَقَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ مَا كَانَ عنده أُمَّةٍ، وَمِنْ هُنَا أَخَذَ الحسن بن هانىء قَوْلَهُ:
وَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدِ
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهُ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ، وَأَطْلَقَ هُوَ وَعُمَرُ ذَلِكَ عَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ: كَانَ أُمَّةً قَانِتًا. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِ الْعَرَبِ: فُلَانٌ رُحَمَةٌ، وَعَلَّامَةٌ، وَنَسَّابَةٌ، يَقْصِدُونَ بِالتَّأْنِيثِ التَّنَاهِيَ فِي الْمَعْنَى الْمَوْصُوفِ بِهِ. وَقِيلَ: الْأُمَّةُ الْإِمَامُ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ مِنْ أَمَّ يَؤُمُّ،
609
وَالْمَفْعُولُ قَدْ يُبْنَى لِلْكَثْرَةِ عَلَى فُعَلَةٍ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقَانِتِ، وَالْحَنِيفِ: شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ. رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَغَدَّى إِلَّا مَعَ ضَيْفٍ، فَلَمْ يَجِدْ ذَاتَ يَوْمٍ ضَيْفًا فَأَخَّرَ غَدَاهُ، فَإِذَا هُوَ بِفَوْجٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّعَامِ، فَخُيِّلُوا أَنَّ بِهِمْ جُذَامًا فَقَالَ: الْآنَ وجبت مؤاكلتكم، شكر الله عَلَى أَنَّهُ عَافَانِي وَابْتَلَاكُمْ. ورتيناه فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، قَالَ قَتَادَةُ: حَبَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى كُلِّ الْخَلْقِ، فَكُلُّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يَتَوَلَّوْنَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمُونَ، وَخُصُوصًا كُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ فَخْرَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِهِ، وَذَلِكَ بِإِجَابَةِ دعوته: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «١» وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ قَوْلُ الْمُصَلِّي مِنَّا: كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الذِّكْرُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: النُّبُوَّةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِسَانُ صِدْقٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
الْقَبُولُ، وَعَنْهُ تَنْوِيهُ اللَّهِ بِذِكْرِهِ. وَقِيلَ: الْأَوْلَادُ الْأَبْرَارُ عَلَى الْكِبَرِ. وَقِيلَ: الْمَالُ يَصْرِفُهُ فِي الْخَيْرِ وَالْبِرِّ. وَإِنَّهُ لَمِنَ المصلحين، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْبَقَرَةِ، وَلَمَّا وُصِفَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّتَهُ، وَهَذَا الْأَمْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي آتَاهَا اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ فِي الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: وَأَمَرَ الْفَاضِلَ بِاتِّبَاعِ الْمَفْضُولِ، لَمَّا كَانَ سَابِقًا إِلَى قَوْلِ الصَّوَابِ وَالْعَمَلِ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا فِي ثُمَّ هَذِهِ مَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِجْلَالِ مَحَلِّهِ، وَالْإِيذَانِ بِأَنَّ أَشْرَفَ مَا أُوتِيَ خَلِيلُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ الْكَرَامَةِ، وَأَجَلَّ مَا أُوتِيَ مِنَ النِّعْمَةِ اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِلَّتَهُ، مِنْ قَبْلِ أَنَّهَا عَلَى تَبَاعُدِ هَذَا النَّعْتِ فِي الْمَرْتَبَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النُّعُوتِ الَّتِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهَا بِهَا انْتَهَى. وَأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ. وَاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ قَالَ قَتَادَةُ: فِي الْإِسْلَامِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: جَمِيعَ مِلَّتِهِ إِلَّا مَا أُمِرَ بِتَرْكِهِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الصَّحِيحُ عَقَائِدُ الشَّرْعِ دُونَ الْفُرُوعِ لِقَوْلِهِ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «٢» وَقِيلَ: فِي التَّبَرِّي مِنَ الْأَوْثَانِ. وَقَالَ قَوْمٌ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَيْسَ لَهُ شَرْعٌ يَنْفَرِدُ بِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثَتِهِ إِحْيَاءُ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا قَالَ: اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا نَفَى الشِّرْكَ وَأَثْبَتَ التَّوْحِيدَ بِنَاءً عَلَى الدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَابِعًا لَهُ، فَيَمْتَنِعُ حَمْلُ قَوْلِهِ:
أَنِ اتَّبِعْ، عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي يَصِحُّ حُصُولُ الْمُتَابَعَةِ فيها.
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ٨٤.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٤٨. [.....]
610
(قُلْتُ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُتَابَعَتَهُ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَهِيَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الرِّفْقِ وَالسُّهُولَةِ، وَإِيرَادِ الدَّلَائِلِ مَرَّةً بَعْد أُخْرَى بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ عَلَى مَا هُوَ الطَّرِيقَةُ الْمَأْلُوفَةُ فِي الْقُرْآنِ انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا، لِأَنَّ الْمُعْتَقَدَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ دَلَائِلُ الْعُقُولِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوحَى لِتَظَافُرِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ عَلَى اعْتِقَادِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «١» فَلَيْسَ اعْتِقَادَ الْوَحْدَانِيَّةِ بِمُجَرَّدِ الْوَحْيِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا تَظَافُرُ الْمَنْقُولِ عَنِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ مَعَ دَلِيلِ الْعَقْلِ. وَكَذَلِكَ هُنَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا، وَأَمَرَ الرَّسُولَ بِاتِّبَاعِهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ انْتِفَاءُ الشِّرْكِ لَيْسَ مُسْتَنَدُهُ مُجَرَّدَ الْوَحْيِ، بَلِ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ وَالدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ تَظَافَرَا عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ مَكِّيٌّ: وَلَا يَكُونُ- يَعْنِي حَنِيفًا- حَالًا مِنْ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ الْحَالَ قَدْ تَعْمَلُ فِيهَا حُرُوفُ الْخَفْضِ إِذَا عَمِلَتْ فِي ذِي الْحَالِ كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ قَائِمًا انْتَهَى. أَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ مَكِّيٍّ وَتَعْلِيلِهِ امْتِنَاعَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ مُضَافًا إِلَيْهِ، فَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِ هَذَا التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ، جَازَتِ الْحَالُ مِنْهُ نَحْوَ: يُعْجِبُنِي قِيَامُ زَيْدٍ مُسْرِعًا، وَشُرْبُ السَّوِيقِ مَلْتُوتًا. وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: وَيَجُوزُ أَيْضًا ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ جُزْءًا مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ «٢» إِخْوَانًا أَوْ كَالْجُزْءِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «٣» وَقَدْ بَيَّنَّا الصَّحِيحَ فِي ذَلِكَ فِيمَا كَتَبْنَاهُ عَلَى التَّسْهِيلِ، وَعَلَى الْأَلْفِيَّةِ لِابْنِ مَالِكٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي رَدِّهِ عَلَى مَكِّيٍّ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، لِأَنَّ الْحَالَ إِلَى آخِرِهِ فَقَوْلٌ بَعِيدٌ عَنْ قَوْلِ أَهْلِ الصَّنْعَةِ، لِأَنَّ الْبَاءَ فِي بِزَيْدٍ لَيْسَتْ هِيَ الْعَامِلَةَ فِي قَائِمًا، وَإِنَّمَا الْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَرَرْتُ، وَالْبَاءُ وَإِنْ عَمِلَتِ الْجَرَّ فِي زَيْدٍ فَإِنَّ زَيْدًا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَرَرْتُ، وَكَذَلِكَ إِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ حَيْثُ يَجُوزُ حَذْفُهُ نَصَبَ الْفِعْلُ ذَلِكَ الِاسْمَ الَّذِي كَانَ مَجْرُورًا بِالْحَرْفِ. وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ الرَّسُولُ قَدِ اخْتَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ، بَيَّنَ أَنَّ يَوْمَ السَّبْتِ لَمْ يَكُنْ تَعْظِيمُهُ، وَاتِّخَاذُهُ لِلْعِبَادَةِ مِنْ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا دِينِهِ، وَالسَّبْتُ مَصْدَرٌ، وَبِهِ سُمِّي الْيَوْمُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا اللَّفْظِ فِي الْأَعْرَافِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَبَتَتِ الْيَهُودُ إِذَا عَظَّمَتْ سَبْتَهَا وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا جُعِلَ وَبَالُ السَّبْتِ وَهُوَ الْمَسْخُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَاخْتِلَافُهُمْ
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٠٨.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٤٣.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٣٥.
611
فِيهِ: أَنَّهُمْ أَحَلُّوا الصَّيْدَ فِيهِ تَارَةً وَحَرَّمُوهُ تَارَةً، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّفِقُوا فِي تَحْرِيمِهِ عَلَى كلمة واحدة بعد ما حَتَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ عَنِ الصَّيْدِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى فِي ذِكْرِ ذَلِكَ نَحْوَ الْمَعْنَى فِي ضَرْبِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ مَثَلًا، وَغَيْرِ مَا ذُكِرَ وَهُوَ الْإِنْذَارُ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ عَلَى الْعُصَاةِ وَالْمُخَالِفِينَ لِأَوَامِرِهِ وَالْخَالِعِينَ رِبْقَةَ طَاعَتِهِ.
(فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ إِذَا كَانُوا جَمِيعًا مُحِلِّينَ أَوْ مُحَرِّمِينَ؟ (قُلْتُ) :
مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ اخْتِلَافِ فِعْلِهِمْ فِي كَوْنِهِمْ مُحَلِّينَ تَارَةً وَمُحْرِمِينَ أُخْرَى، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا فِي الْأُسْبُوعِ يَوْمًا لِلْعِبَادَةِ، وَأَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا: نُرِيدُ الْيَوْمَ الَّذِي فَرَغَ اللَّهُ فِيهِ من خلق السموات وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّبْتُ، إِلَّا شِرْذِمَةً مِنْهُمْ قَدْ رَضُوا بِالْجُمُعَةِ، فَهَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي السَّبْتِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمُ اخْتَارَهُ، وَبَعْضَهُمُ اخْتَارَ عَلَيْهِ الْجُمُعَةَ، فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي السَّبْتِ، وَابْتَلَاهُمْ بِتَحْرِيمِ الصَّيْدِ فِيهِ، فَأَطَاعَ أَمْرَ اللَّهِ الرَّاضُونَ بِالْجُمُعَةِ فَكَانُوا لَا يَصِيدُونَ، وَأَعْقَابُهُمْ لَمْ يَصْبِرُوا عَنِ الصَّيْدِ فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ دُونَ أُولَئِكَ. وَهُوَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِمَا يَسْتَوْجِبُهُ. وَمَعْنَى جَعَلَ السَّبْتَ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمَهُ، وَتَرْكَ الِاصْطِيَادِ فِيهِ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ مُلَفَّقٌ مِنْ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ قَبْلَهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: عُدِّيَّ جَعَلَ بِعَلَى، لِأَنَّ الْيَوْمَ صَارَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، لِارْتِكَابِهِمُ الْمَعَاصِيَ فِيهِ انْتَهَى. وَلِهَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا جُعِلَ وَبَالُ السَّبْتِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: جُعِلَ السَّبْتُ لَعْنَةً عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: ذَرُوا الْأَعْمَالَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَتَفَرَّغُوا فِيهِ لِعِبَادَتِي، فَقَالُوا: نُرِيدُ السَّبْتَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَغَ فِيهِ مِنْ خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالرَّاحَةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: جَعَلَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْعَيْنِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ والأعمش: أنهما قرآ إِنَّمَا أَنْزَلْنَا السَّبْتَ، وَهِيَ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا قِرَاءَةٍ، لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَلِمَا اسْتَفَاضَ عَنِ الْأَعْمَشِ وَابْنِ مَسْعُودٍ أنهما قرآ كَالْجَمَاعَةِ.
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ: أَمَرَ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ بِتَلَطُّفٍ، وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ الْمَدْعُوُّ حُكْمَهُ، وَهُوَ الْكَلَامُ الصَّوَابُ
612
الْقَرِيبُ الْوَاقِعُ مِنَ النَّفْسِ أَجْمَلَ مَوْقِعٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحِكْمَةَ الْقُرْآنُ، وَعَنْهُ: الْفِقْهُ.
وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: مَا يَمْنَعُ مِنَ الْفَسَادِ مِنْ آيَاتِ رَبِّكَ الْمُرَغِّبَةِ وَالْمُرَهِّبَةِ. وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا: الْأَدَبُ الْجَمِيلُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هِيَ الْعِبَرُ الْمَعْدُودَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الْحِكْمَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِمَرَاتِبِ الْأَفْعَالِ وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ أَنْ تَخْتَلِطَ الرَّغْبَةُ بِالرَّهْبَةِ، وَالْإِنْذَارُ بِالْبِشَارَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ الْإِسْلَامِ، بِالْحِكْمَةِ بِالْمَقَالَةِ الْمُحْكَمَةِ الصَّحِيحَةِ، وَهِيَ الدَّلِيلُ الْمُوَضِّحُ لِلْحَقِّ الْمُزِيلِ لِلشُّبْهَةِ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَهِيَ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ إِنَّكَ تُنَاصِحُهُمْ بِهَا وَتَقْصِدُ مَا يَنْفَعُهُمْ فِيهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْقُرْآنَ أَيِ: ادْعُهُمْ بِالْكِتَابِ الَّذِي هُوَ حِكْمَةٌ وَمَوْعِظَةٌ حَسَنَةٌ، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ طُرُقِ الْمُجَادَلَةِ مِنَ الرِّفْقِ وَاللِّينِ مِنْ غَيْرِ فَظَاظَةٍ وَلَا تَعْنِيفٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ التَّخْوِيفُ وَالتَّرْجِئَةُ وَالتَّلَطُّفُ بِالْإِنْسَانِ بِأَنْ تُجِلَّهُ وَتُنَشِّطَهُ، وَتَجْعَلَهُ بصورة من قبل الْفَضَائِلَ وَنَحْوَ هَذَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مُحْكَمَةٌ.
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ أَطْبَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ التَّمْثِيلِ بِحَمْزَةَ وَغَيْرِهِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي كِتَابِ السِّيَرِ. وَذَهَبَ النَّحَّاسُ إِلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَالْمَعْنَى مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهَا اتِّصَالًا حَسَنًا، لِأَنَّهَا تَتَدَرَّجُ الذَّنْبَ مِنَ الَّذِي يَدَّعِي، وَتُوعَظُ إِلَى الَّذِي يُجَادِلُ، إِلَى الَّذِي يُجَازَى عَلَى فِعْلِهِ، وَلَكِنْ مَا رَوَى الْجُمْهُورُ أَثْبَتُ انْتَهَى.
وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ: إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ أُصِيبَ بِظُلَامَةٍ أَنْ لَا يَنَالَ مِنْ ظَالِمِهِ إِذَا تَمَكَّنَ الْأَمْثَلُ ظُلَامَتَهُ لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَسَمَّى الْمُجَازَاةَ عَلَى الذَّنْبِ مُعَاقَبَةً لِأَجْلِ الْمُقَابَلَةِ، وَالْمَعْنَى: قَابِلُوا مَنْ صَنَعَ بِكُمْ صَنِيعَ سُوءٍ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ عَكْسُ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ «١». الْمَجَازُ فِي الثَّانِي وَفِي: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فِي الْأَوَّلِ. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ: وَإِنْ عَقَّبْتُمْ فَعَقِّبُوا بِتَشْدِيدِ الْقَافَيْنِ أَيْ: وَإِنْ قَفَّيْتُمْ بِالِانْتِصَارِ فَقَفُّوا بِمِثْلِ مَا فُعِلَ بِكُمْ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مُبْتَدَأً بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِمْ أَيْ: لِصَبْرِكُمْ وَلِلصَّابِرِينَ أَيْ: لَكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ، فَوَضَعَ الصَّابِرِينَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ ثَنَاءً مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِصَبْرِهِمْ عَلَى الشَّدَائِدِ، وَبِصَبْرِهِمْ عَلَى الْمُعَاقَبَةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى جِنْسِ الصَّبْرِ، وَيُرَادُ بِالصَّابِرِينَ جِنْسُهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَالصَّبْرُ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، فَيَنْدَرِجُ صَبْرُ الْمُخَاطَبِينَ فِي الصَّبْرِ،
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٥٤.
613
وَيَنْدَرِجُونَ هُمْ فِي الصَّابِرِينَ. وَنَحْوُهُ: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ «١» وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «٢» وَلَمَّا خُيِّرَ الْمُخَاطَبُونَ فِي الْمُعَاقَبَةِ وَالصَّبْرِ عَنْهَا عَزَمَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَهُوَ الصَّبْرُ، فَأُمِرَ هُوَ وَحْدَهُ بِالصَّبْرِ. وَمَعْنَى بِاللَّهِ: بِتَوْفِيقِهِ وَتَيْسِيرِهِ وَإِرَادَتِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ يَعُودُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَكَذَلِكَ فِي يَمْكُرُونَ كَمَا قَالَ: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «٣» وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْقَتْلَى الْمُمَثَّلِ بِهِمْ حَمْزَةَ، وَمَنْ مُثِّلَ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي ضَيْقٍ بِفَتْحِ الضَّادِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: بِكَسْرِهَا، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ، وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ كَالْقِيلِ وَالْقَوْلِ عِنْدَ بَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: بِفَتْحِ الضَّادِ مُخَفَّفٌ مِنْ ضَيِّقٍ أَيْ: وَلَا تَكُ فِي أَمْرٍ ضَيِّقٍ كَلَيْنٍ فِي لَيِّنٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ الضَّيْقُ لُغَةً فِي الْمَصْدَرِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُخَفَّفًا مِنْ ضَيِّقٍ لَزِمَ أَنْ تُقَامَ الصِّفَةُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ إِذَا تَخَصَّصَ الْمَوْصُوفُ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذَلِكَ، وَالصِّفَةُ إِنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ إِذَا تَخَصَّصَ الْمَوْصُوفُ مِنْ نَفْسِ الصِّفَةِ كَمَا تَقُولُ: رَأَيْتُ ضَاحِكًا، فَإِنَّمَا تُخَصِّصُ الْإِنْسَانَ. وَلَوْ قُلْتَ: رَأَيْتُ بَارِدًا لَمْ يَحْسُنْ، وَبِبَارِدٍ مِثْلَ سِيبَوَيْهِ وَضَيِّقٌ لَا يُخَصِّصُ الْمَوْصُوفَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ مَنْسُوخٌ، وَمَعْنَى الْمَعِيَّةِ هُنَا بِالنُّصْرَةِ وَالتَّأْيِيدِ والإعانة.
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ٤٠.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٧.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٦٨.
614
Icon