ﰡ
نزولها: مكية.. إلا آيات منها فمدنية عدد آياتها: مائة وثمان وعشرون آية عدد كلماتها: ألفان وثمانمائة وأربعون كلمة عدد حروفها: سبعة آلاف، وسبعمائة، حرف، وسبعة أحرف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (١- ٩) [سورة النحل (١٦) : الآيات ١ الى ٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
بهذا البدء: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» تبدأ هذه السورة، فيلتقى بدؤها مع ختام السورة التي قبلها، وكأنه جواب على سؤال تلوّح به الآية التي كانت ختاما للسورة السابقة..
ففى ختام سورة الحجر، كان قوله تعالى: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» - كان هذا مثيرا لبعض الأسئلة: ما هو اليقين؟ ومتى هو؟ وهل يطول انتظاره؟
وقد جاء قوله تعالى: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» مجيبا على هذه الأسئلة.
فاليقين: هو أمر الله، وهو يوم القيامة.. وقد كان المشركون يسألون.. منكرين هذا اليوم، ومستعجلين وقوعه إن كان له وجود، وفى هذا يقول الله تعالى:
«فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً» (٥١: الإسراء).. ويقول سبحانه: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» (١٧- ١٨: الشورى).
أما موعد هذا اليوم، فعلمه عند الله.. ولكنه قريب.. وهل بعيد هو ذلك اليوم الذي ينتهى فيه عمر الإنسان، ويفارق هذه الدنيا؟ إن الموت قريب من كلّ إنسان، فقد ينتزع روحه وهو قائم، أو قاعد، أو سائر. فليس للموت نذر يقدمها بين يديه لمن انتهى أجله.. وإذن فالموت مصاحب لكل إنسان، دان منه، ممكّن من انتزاع روحه فى أي لحظة من لحظات حياته..
وإذا مات الإنسان، فقد قامت قيامته، بمعنى أنه رحل من الدنيا، دار الفناء، إلى الآخرة، دار البقاء..
وفى قوله تعالى: «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» تنزيه لله سبحانه وتعالى عن هذا الشرك الذي هم فيه، وعن هؤلاء الشركاء الذين يعبدونهم من دونه.. ثم هو إلفات لهم إلى أن يخرجوا من هذا المنكر الذي هم فيه، وقد أظلّهم يوم القيامة، ونزل بهم أمر الله.. فإنهم إن لم يسرعوا للفرار مما يعبدون من دون الله، أدركهم الموت، ووقعوا فى شباكه ولم يكن لهم ثمّة سبيل إلى النجاة..
وقوله تعالى: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ».
هو نذير بين يدى أمر الله الواقع، ينذر هؤلاء المشركين، أن يتخلصوا من شركهم، وأن يخلصوا عبادتهم لله وحده، وأن يتقوه، ويحذروا عقابه..
فهو سبحانه- رحمة بعباده- قد بعث فيهم رسله، وأمرهم أن ينذروا الناس بما أوحى إليهم من أمره، الذي هو دعوة إلى الإيمان به، والولاء له، والبراءة من كل شريك..
والرّوح، هو أمر الله الذي تحمله الملائكة إلى رسل الله، وهو كلماته المنزلة على الرسل، وسميت روحا لأن فيها الحياة للناس، فمن لم يأخذ حظّه منها، فهو ميت، وإن كان فى عالم الأحياء.. وفى هذا يقول الحق جلّ وعلا:
«أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها» (١٢٢: الأنعام).
هو استعراض لقدرة الإله الواحد، الذي يدعو رسل الله إلى عبادته وحده.. فهو سبحانه الذي خلق السموات والأرض بالحقّ.. فحقّ على هذه المخلوقات جميعها أن تعبده، وأن توجه وجوهها إليه..
- وفى قوله تعالى: «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ» - إشارة إلى أن الإنسان، وهو مما خلق لله، قد خرج عن الولاء لله، وكفر به، ووقف خصما لله، ويحاربه.. وهو- أي الإنسان- مخلوق ضعيف خلق من ماء مهين، وجاء من نطفة أمشاج، ولكنّ قدرة الله، قد صورت من هذا الماء المهين، ومن تلك النطفة القذرة كائنا، له عقل، وله إرادة، وقد كان جديرا به أن يرتفع بعقله وإرادته عن عالم الطين، وأن يسمو إلى مشارف العالم العلوي، إلا أنه قد استبد به الغرور، واستولى عليه الهوى، فكان أن كفر بخالقه، وجحد الرّبّ لذى أنشأه وربّاه «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (٣٤: إبراهيم) وقوله تعالى: «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ»..
هذا عرض لبعض مظاهر قدرة الله، وفضله على عباده، الذين كفروا بنعمته، وضلوا عن سبيله. فهو- سبحانه- الذي خلق الأنعام كلها، ينتفع الإنسان منها فى وجوه كثيرة.. فمنها كساؤه وغطاؤه، الذي يدفع عنه عادية البرد والحر، ومنها طعامه الذي يغتدى به، فيأكل من لحمها، ولبنها.. ومنها يجد الرّوح لنفسه، والبهجة لعينيه، إذ يراها، غادية رائحة بين يديه، وعليها
وقوله تعالى: «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ».
هو تفصيل لهذا الإجمال الذي جاء فى قوله تعالى: «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ». فمن هذه الأنعام: الخيل والبغال، والحمير.. وهى دواب الركوب والحمل، ومراكب البهجة والمتعة، حيث يستوى الإنسان على ظهرها، فيجد لذلك ما ببهجة، ويشرح صدره، ويعلى فى الناس منزلته وقدره.
- وفى قوله تعالى: «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» إشارة إلى ما خلق الله من مخلوقات لا يعلمها إلا هو، ولا يملك تسخيرها إلا هو، إذ لا تخضع لسلطان الإنسان، ولا تستجيب لعلمه.
- وفى قوله تعالى: «وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ» إشارة إلى أن من هذه الحيوانات ما هو مستجيب لحاجة الإنسان، قد يسر الله سبحانه وتعالى طبيعته حتى توافق طبيعة الإنسان وتألفه، ومنها ما هو جائر، أي منحرف عن وجهة الإنسان، غير متلاق معه، أو آلف له.
- وفى قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» دفع لهذا الاعتراض الذي يندفع فى بعض الصدور، حين يرى أصحابها هذه المخلوقات الكثيرة التي لا تفيد الإنسان. بل ربما كانت أعداء تتربص الشر به، وتتحين الفرصة للقضاء عليه، فينكر خلق مثل هذه الحيوانات، ولا يعترف لها بحق الوجود على الأرض، إذ لا حكمة من خلقها، ولا فائدة من وجودها، فى تقدير الإنسان وحسابه.
فأولا- ليس الإنسان وحده هو المالك لهذه الأرض، المستقل بها..
بل إنه كائن من كائناتها، ومخلوق من مخلوقات الله فيها. وكونه خليفة الله على الأرض ليس بالذي يمنع من أن يكون معه غيره.. بل أن خلافته لا تتم إلا إذا كانت له رعايا يسوسها، ويقوم على تدبيرها. وأنه كلما تعددت هذه الرعايا، واختلفت صورها وأشكالها، كان ضبط الإنسان لها، وسيادته عليها، دليلا على أهليته لهذه الخلافة، واستحقاقه لها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» (٣٨: الأنعام) وثانيا- ليس ما لا ينتفع به الإنسان دليلا على أنه غير ذى نفع له، فقد يكون فيه نفع كثير للإنسان ذاته، وإن خفى ذلك عنه.. وأنه إذا لم يكن فى مقدور الإنسان الآن أن يسخر كثيرا من المخلوقات، وينتفع بها، فقد يستطيع يوما أن يجد الوسيلة التي تمكّن له من الانتفاع بها فى وجوه كثيرة.. فقد كان الإنسان الأول يخاف جميع هذه الحيوانات التي استأنسها اليوم وسخرها، بل إنه كان ليعبد بعضها اتقاء لشرّه، فأصبح الآن يتخذها مركبا له!! وثالثا: أن هذه الحيوانات، هى من قوى الطبيعة، التي استطاع الإنسان بذكائه، أن يدلل كثيرا من تلك القوى التي كانت فى وقت ما قوى مخيفة، تهدّد أمن الإنسان وسلامته، فما زال بها حتى انقادت له، وأصبحت قوة مسخرة بين يديه، سواء أكانت تلك القوى من عالم الحيوان أو عالم الجماد..
ومطلوب من الإنسان أن يوجّه مدركاته كلها، إلى كل حرون شارد من هذه القوى، ويتعرف إلى مواطن الخير فيها.. وبهذا تظل مدركات الإنسان معاملة غير معطلة، تزداد مع الأيام قوة وتمكينا..
«وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ»
الآيات: (١٠- ١٩) [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠ الى ١٩]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩)
ومن عالم الحيوان، وما فيه من نافع وضار، ومسالم ومشاكس، إلى النبات الذي يتغذى من ضرع السماء، فتتزين الأرض بأشجاره وأزهاره، ويطعم الإنسان من حبّه وفاكهته.. ومن عالم الأرض وما فيها من حيوان ونبات، إلى عالم السماء، وما فيها من شمس وأقمار ونجوم- ففى كل عالم، وعلى كل موقع منه، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر.
وفى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ» - مظهر من مظاهر قدرة الله.. فهو سبحانه الذي أنزل من السماء ماء، فيه حياة كل حىّ، فيه حياة الإنسان، وحياة الحيوان، طعاما وشرابا.
- وقوله تعالى: «فِيهِ تُسِيمُونَ» أي فيه ترعون أنعامكم.. وسمّيت الأنعام سائمة، لأنها تسم الأرض بأرجلها، أي تترك فيها أثرا، أو تسم المراعى بما تأكل منها، فتترك آثارها عليها..
وفى قوله تعالى: «يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ».. بيان لما تخرجه الأرض من نبات يطعم منه الإنسان، بعد أن أشارت الآية السابقة إلى ما تخرج الأرض من نبات ترعاه الأنعام..
قوله تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» - إشارة إلى مظهر من مظاهر القدرة الإلهية، وما تفيض على الناس من نعم. فبقدرته- سبحانه- سخّر لنا الليل والنهار، وجعلهما يتعاقبان، على هذا النظام، الذي قاما عليه، وانتظم وجودنا به..
- وفى قوله تعالى: «وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ».. يمكن أن تكون
ويمكن أن تكون الواو للاستئناف، لا للعطف، على اعتبار أن للنجوم- فى ظاهر الأمر- وضعا غير وضع الليل والنهار والشمس والقمر.. إذ أن حركة الليل والنهار، والشمس والقمر، حركة تظهر آثارها، وتنطبع صورتها على الوجود الأرضى، بحيث يتأثر بها كل كائن. فى هذا الوجود، وينظم وجوده عليها.. وليس كذلك شأن النجوم.. إذ يمكن أن يهمل الإنسان شأن النجوم، فلا يلتفت إليها، ولا يقيم وزنا لوجودها، دون أن تتأثر حياته كثيرا بذلك، أو يشعر بأن شيئا ذا بال قد افتقده.. ومع هذا، فإن للنجوم شأنا كشأن الشمس والقمر، وأنها مسخرة بيد القدرة، كالشمس والقمر، وإن كان الإنسان فى غفلة عنها، ولهذا جاءت فاصلة الآية: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» لتلفت العقل إلى هذه الظاهرة، ظاهرة النجوم وحركاتها فى السماء، وتسخيرها فى مداراتها، وأن أصحاب العقول وحدهم هم الذين يرون هذه الظاهرة، ويتعرفون إلى آثار رحمة الله وقدرته.. وأنه إذا التفت العقل إلى هذه النجوم التفاتا جادّا متفحّصا، وجد عالما رحيبا لا حدود له، وأكوانا عجيبة تذهل لجلالها العقول، وتخشع لروعتها القلوب.. إذ ليست هذه النجوم التي تبدو وكأنها حبّات من اللؤلؤ المنثور فى السماء، إلا أجراما أكبر من الشمس، وأن أصغر نجم فيها يعدل جرم الشمس آلاف المرات، وأن صغر حجمها، وقلة ضوئها بالنسبة للشمس إنما مرجعهما إلى بعدها البعيد عنّا، حتى ليبلغ مدى هذا البعد مئات الألوف، وألوف الألوف من السنين الضوئية، كما كشف عن ذلك علم الفلك.. ؟
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ..»
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ..»
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ..»
(فاختصّت آية الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، بأصحاب العقول، كما اختصت بأن فيها «آيات» لقوم يعقلون، لا آية واحدة!.. ففى كل نجم آيات وآيات) (على حين اختصت آية الماء والزروع، بمن يتفكرون، فيرون فيما وراء هذا الظاهر الذي يجابه حواسّهم، دلائل تدل على قدرة الله وعلمه وحكمته).. (ثم كان الإلفات إلى عالم النبات، وإلى اختلاف ألوانه وطعومه آية بعد آية لقوم يذّكرون، فيربطون بين هذه الوجوه المختلفة للنبات، ويصلون بعضها ببعض)..
قوله تعالى: «وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ»..
ذرأ: خلق، وأوجد.. والذرء: إظهار الشيء..
والآية معطوفة على الآية التي قبلها، والتقدير، وسخر لكم الشمس والقمر، وسخر لكم ما ذرأ.. و «مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ» حال..
والمعنى، أن الله سبحانه قد سخّر لكم ما أنبت فى الأرض من نبات، مختلف الألوان، فجعله مستجيبا لكم، جاريا على ما ألفتموه منه، تغرسون الحب، فينمو، ويزهو، ويثمر.. هكذا على نظام لا يتخلّف أبدا.. إنه آلة مسخرة، لا يملك من أمره شيئا.. إذ ليس له إرادة يمكن أن تخرج به عن السّنن المعهود له، والنظام الذي أقامه الله سبحانه وتعالى عليه.
تتحدث الآية هنا عن مقطع من العالم الأرضى، وهو مقطع البحار، وما سخّر الله سبحانه وتعالى فيها من منافع للناس.. حيث يؤكل منها السمك، ويستخرج منها اللؤلؤ والمرجان للزينة، وتجرى فيها السفن، تحمل الناس والمتاع من بلد إلى بلد..
وفى هذه الآية أمور..
فأولا: إفراد كلمة «البحر».. وهذا يشير إلى أن عالم الماء كائن واحد، وأن أجزاءه الداخلة فى اليابسة متصلة به، بحيث ينبض كله بحياة واحدة، ويأخذ جميعه مستوى واحدا..
وثانيا: لم تذكر الأنهار، مع أنها مصدر الماء العذب الذي يحيا عليه الإنسان والحيوان والنبات، كما أنها كالبحر.. يؤكل منها السمك الذي يعيش فيها، وتجرى عليها السفن- وذلك لأن الأنهار وليدة البحار، فهى فرع من أصل، وذكر الأصل يغنى عن ذكر الفرع.. إنه أي البحر عالم وحده، وسيجيئ للأنهار ذكر فى مكانها، حين يجىء ذكر الأرض..
وثالثا: وصف لحم السمك بأنه لحم طرىّ، إشارة إلى أنه يختلف عن لحم الحيوان، من ضأن، وبقر، وجمل، وغيرها.. لأن لحم السمك هشّ، طرى، غير متماسك تماسك لحم هذه الحيوانات.. وهو لهذا هيّن المضغ، سهل الهضم..
ورابعا: فى قوله تعالى: «وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ» - عدول عن خطاب الجمع إلى المفرد، وفى هذا مزيد عناية إلى هذه الظاهرة، وتوجيه نظر
قوله تعالى: «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلاماتٍ، وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ»..
وفى مقابل هذا البحر، وما فيه من نعم، هذه الأرض اليابسة وما فيها لله من آيات، وما تحدّث به تلك الآيات من قدرة الله، وحكمته..
- وفى قوله تعالى: «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» وفى التعبير عن إرساء الجبال على الأرض بقوله تعالى: «أَلْقى فِي الْأَرْضِ» إشارة إلى أنها جاءت من عل، وذلك لعلوّها وإشرافها على الأرض. وفى تعدية الفعل «ألقى» بحرف الجر «فى» بدلا من «على» إشارة أخرى إلى أن هذه الجبال لم تطرح على الأرض طرحا، بل غرست فيها غرسا، كما تغرس الأوتاد فى الأرض.. كما يقول جل شأنه: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً» ؟
(٦- ٧: النبأ).
- وقوله تعالى: «أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» علة كاشفة عن بعض الحكمة فى غرس هذه الجبال فى الأرض، وذلك لأن وجودها على الأرض يعطى الأرض تماسكا وصلابة، فلا تضطرب أو تهتزّ أو تذوب فى مياه البحار، كما يذوب الملح فى الماء.
- وقوله تعالى: «وَأَنْهاراً وَسُبُلًا» معطوف على قوله تعالى: «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ» أي وشق فيها أنهارا وسبلا أي طرقا.. وهذه الأنهار
- وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» إشارة إلى ما لهذه الأنهار، والسبل من آثار فى هداية الناس، واتخاذها معالم يتعرفون بها وجوه الأرض ومكانهم منها، ومتّجههم فيها، ولولا ذلك لكانت الأرض أشبه بصفحة بيضاء، ليس فيها شىء يقرأ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَعَلاماتٍ» أي أن هذه الأنهار والسبل كما أنها طرق للسالكين يهتدون بها إلى وجهاتهم التي يقصدونها، هى كذلك معالم، وسمات لبقاع الأرض المختلفة، تميز بعضها من بعض.
ويجوز أن تكون «علامات» معطوفة على «أنهارا وسبلا» أي وجعلنا فى الأرض أنهارا وسبلا تهتدون بها، وجعلنا فيها كذلك «علامات» تميز بعض الجهات عن بعض، فبعض الأرض صحارى، وبعضها غابات، وبعضها أحراش، وبعضها سهل، وبعضها وعر.. وهكذا..
- وقوله تعالى: «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» هو معطوف على قوله تعالى:
«لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» بهذه الأنهار والسبل، وتهتدون كذلك بالنجوم..
وفى العدول عن الخطاب إلى الغيبة حيث جاء النظم القرآنى «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» بضمير الغائب، على حين أن سياق النظم يقتضى أن يجىء بضمير المخاطب هكذا: - وبالنجم أنتم تهتدون- فى هذا العدول إشارة إلى أمور.. منها:
أولا: أن النجوم فى السماء مشرفة على الناس جميعا، بحيث لا يراها أحد دون أحد، على خلاف الأنهار والسبل، فإنها تختلف فى مكان عنها فى مكان آخر.. وتوجد فى أمكنة ولا توجد فى أخرى.. ومن هنا كان الخطاب
وكانت الغيبة فى حال النجم، ليكون ذلك حديثا عاما للناس جميعا غائبهم وحاضرهم.. ذلك أنه إذا كان الغائبون يهتدون بها، فأولى أن يهتدى بها المخاطبون.. ومن ثمّ فلا داعى لذكرهم، إذ هم مذكورون من باب أولى..
وثانيا: الأنهار والسبل، لا يهتدى بها إلا كلّ من أعمل عقله، وأجهد تفكيره، وأحسن التدبير، وإلا ضلّ الطريق.. فركوب الأنهار، والطرق يحتاج إلى فطنة وذكاء، وإلى جمع خاطر، وحضور فكر.. ومن هنا كان مقتضى الحال أن ينبه إلى ذلك بهذا الخطاب.. أما النجم فهو علامة ظاهرة ثابتة، لا تتبدّل ولا تتحول.. وما هى إلا نظرة يلقيها الناظر إليه، حتى يكون على علم بوجهته التي يريد أخذها.. ومن ثمّ لم يكن ما يدعو إلى استحضار من يهتدون به..
هذا وقد أفرد «النجم» هنا، لأن النجم الذي يهتدى به فى التعرف إلى الجهات هو نجم واحد، وهو النجم القطبي.. وهذا لا يمنع من أن يكون هناك نجوم أخرى يهتدى بها السائرون فى الليل، ولكنها ليست نجوما ثوابت، كالنجم القطبي.. فبعض النجوم تظهر صيفا، وبعضها شتاء.
أما النجم القطبي فهو ظاهر أبدا، وفى مكان ثابت دائما.. ومن أجل هذا اختص «النجم» بالذكر هنا، حيث كان فى سياق تعداد نعم الله، فيما هيأ سبحانه للناس من معالم للتعرف بها على مسالك الجهات والبلاد.. ولم يكن للنجم هذا الاختصاص، حين كانت الإشارة إلى هذه النعمة إشارة عامة فى سياق نعم أخرى، فذكر مع غيره من النجوم فى قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» (٩٧: الأنعام).
قوله تعالى: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» هو خطاب لأولئك الذين نظروا فى آيات الله، وفى النعم التي أفاضها عليهم، وجعلوا يقرءون فى صحف الوجود هذه الآيات وتلك النعم، وإنهم لن ينتهوا أبدا من القراءة، ولن يطووا هذه الصحف، إذ كلما نظروا إلى آيات الله، جاءهم منها جديد، لا يحصيه عدّ، ولا يحصره عدد..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى أن هذه النعم التي أفاضها الله على عباده، والتي لا تحصى عددا، لا يقوم بشكرها الشاكرون، ولو أفنوا أعمارهم يسبحون بحمد الله ويشكرون له، ومع هذا فإن الله يقبل منهم القليل من الشكر، ويتجاوز لهم عن كثير.. «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ»..
قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ».. أي أن شكر الشاكرين وحمدهم، سواء أكان سرّا أو جهرا، هو معلوم لله، وأنه مقبول عنده السرّ والجهر، كما يقول سبحانه. «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» (٢٧١: البقرة)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤)
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)
التفسير:
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ» - هو جواب لمن أعماه الضلال، فلم يجد الجواب لقوله تعالى: «أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ»
قوله تعالى: «أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» هو حكم على هؤلاء المشركين الذين امتهنوا عقولهم هذا الامتهان الذليل، فعبدوا هذه المخلوقات، ولم يفرقوا بينها وبين خالقها- فهؤلاء الضالون هم أموات غير أحياء، إذ لا حساب لهم فى عالم البشر، وإنهم لا يشعرون- أىّ شعور- أن لهم حياة أخرى بعد هذه الحياة، وأن لهم يوما يبعثون فيه.. «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» أي متى يبعثون.. والمؤمن وإن كان لا يعلم متى يبعث، فهو على يقين بأنه سيبعث بعد الموت، ويعود إلى الحياة مرة أخرى..
- وفى قوله تعالى: «غَيْرُ أَحْياءٍ» توكيد لموت هؤلاء المشركين، موتا أدبيّا، انسلخوا به عن عالم الإنسانية.. وهذا هو السرّ فى الإشارة إليهم بضمير الغائب فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ».. ولم تجىء الإشارة إليهم بضمير المخاطب «تدعون».. وذلك لأنهم ليسوا أهلا لأن يخاطبوا..
وقوله تعالى: «إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ».. هو خطاب للمؤمنين، وإلفات لهم إلى إلههم الذي يعبدونه، وأنه إله واحد، لا شريك له.. أما المشركون، الذين لا يشعرون-
قوله تعالى: «لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ» أي لا شك أن الله يعلم من هؤلاء المشركين ما تنطوى عليه قلوبهم المنكرة، وما يظهر على ألسنتهم وأيديهم من أفعال السوء، ومنكر القول، وأنهم سيلقون جزاء هذا المنكر الذي هم فيه.. «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ» فلا ينزلهم الله سبحانه منازل رضوانه، بل يلقى بهم فى عذاب السعير..
وقوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ، قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» هو عرض لبعض ما يعلمه الله سبحانه وتعالى من أمر هؤلاء المشركين، وأنهم إذا تليت عليهم آيات الله أعرضوا عنها، وقالوا، «إن هى إلا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» والأساطير: جمع أسطورة، وهى ما كتب، وسطّر.. و «الأولين» الماضيين.. و «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» أخبارهم التي يتناقلها الناس عنهم، فيكثر فيها- بحكم التداول- التحريف، والتبديل، ويدخل عليها من الغرائب ما يجعلها من قبيل الخرافات! وهنا سؤال: كيف يقال لهم: «ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ» وهم ينكرون هذا، ولا يعترفون بأن الله أنزل شيئا؟
والجواب: هو أن هذا تقرير للواقع، وإلزام لهم به، رضوا أو لم يرضوا..
إنه الحقّ.. فليقولوا فيه ما شاءوا..
ويجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين، وفى هذا التفات إليهم، واحتفاء بهم، بإضافتهم إلى ربّهم، على حين يحرم المشركون من هذا الالتفات الكريم، من ربّ العالمين.. والمعنى: إذا قيل لهؤلاء المشركين ماذا أنزل ربكم أيها المؤمنون
يجمع المفسرون على أن اللّام فى قوله تعالى «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ» هى لام التعليل.. وعلى هذا يكون الفعل بعدها مسبّبا عن قول المشركين الذي قالوه فيما أنزل الله إنه «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ».. ويكون المعنى أنهم إنما يحملون أوزارهم، أي آثامهم وذنوبهم بسبب هذا القول المنكر، الذي قالوه فيما أنزل الله، فكان ذلك سببا فى كفرهم الذي أثمر هذا الثمر الخبيث، الذي يحملونه على ظهورهم، ليحاسبوا عليه يوم القيامة..
هذا، وإنى أستريح إلى مفهوم آخر، لهذه الآية، وهى أن اللام هنا للأمر، وأن هذا الأمر موجّه إلى هؤلاء المشركين، وفيه استدعاء لهم أن يحملوا هذه الأوزار وتلك الآثام التي جرّهم عليها هذا الموقف اللئيم الذي وقفوه من كتاب الله.. وأنّهم وإن كانوا سيحملونها يوم القيامة، فإنها محمولة عليهم منذ الآن.. وفى هذا ما يلفتهم إلى ما فوق ظهورهم من أحمال ثقال، تدفع بهم إلى النار.. فإن كان فيهم بقية من عقل ونظر، راجعوا أنفسهم، وتخففوا من هذه الأوزار، ورجعوا إلى ربّهم..
- وفى قوله تعالى: «وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ».. «من» هنا للتبعيض، أي أن هؤلاء السّادة والرؤساء من المشركين يحملون ذنوبهم كاملة، مضافا إليها بعض الذنوب التي تضاف إليهم من ذنوب أولئك الأتباع الذين
- وفى قوله تعالى: «بِغَيْرِ عِلْمٍ» إشارة إلى هؤلاء الأتباع، وأنهم إنما باعوا عقولهم لرؤسائهم، وأعطوهم مقاودهم من غير تفكير، أو مراجعة..
وفى هذا توبيخ لهؤلاء الأتباع، ووصم لهم بالغفلة والسّفه، كما أنه تهديد لهؤلاء السادة والرؤساء، إذ غرّروا بأتباعهم وزينوا لهم الضلال.
- وقوله تعالى: «أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» تقبيح لهذه الأحمال التي يحملها أولئك الضّالون، وتأثيم لحامليها، وأنهم يحملون ما يسوؤهم، ويجلب البلاء عليهم... والعاقل إنما يحمل ما يحمل، ابتغاء ما يؤمّل فيه من خير، وما يرجو من نفع.. أما أن يحمل ما يؤذيه ويرديه، فذلك هو السّفه، الذي ينزل بالإنسان إلى أخسّ مراتب الحيوان! قوله تعالى: «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» - هو إلفات لهؤلاء المشركين إلى عبر وعظات، يرونها ماثلة بين أيديهم، إن عميت أبصارهم عن أخذ العبرة من أنفسهم.. ففى الأمم الغابرة، كعاد وثمود، التي لا تزال آثار العذاب الذي أخذها الله به- باقية، يمر عليها هؤلاء المشركون، وهم عنها غافلون- فى هذه الأمم مثلات وعبر، إذ كان فيهم ما فى هؤلاء المشركين من مكر بآيات، وكفر بها، وتكذيب برسل الله، وإعنات لهم، فأخذهم الله من حيث لم يحتسبوا، ودمدم عليهم بذنوبهم، فأصبحوا كهشيم تذروه الرياح.. فهل يعجز الله أن يأخذ هؤلاء المشركين كما أخذ أسلافهم؟ أم أنّهم
- وفى قوله تعالى: «فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ» تأكيد لهذا البلاء الشامل الذي أخذهم الله به، من الأرض والسماء، وأن السماء- وقد كانت سقفا محفوظا فوقهم- قد أطبقت عليهم، ترميهم بحجارة من سجّيل، وأن الأرض، وقد كانت بساطا ممدودا تحتهم، قد فغرت فاها لهم، وألقت بهم فى بطنها..
فالمراد بالسقف هنا، السماء.. كما يقول سبحانه: «وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً» وفى قوله تعالى: «مِنْ فَوْقِهِمْ» مع أن السقف لا يكون إلا من فوق توكيد لهذه الفوقية، وإلفات إليها، وإلى ما ينزل منها من بلاء، وقد كانت تنزل بالرحمة والغيث المدرار.
قوله تعالى: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ».
الضمير فى «يخزيهم» بعود إلى المذكورين فى قوله تعالى: «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ، مِنْ قَبْلِهِمْ» فهؤلاء الذين أخذهم الله بالبلاء فى الدنيا من الذين كذبوا الرسل- لم يوفّوا حسابهم بعد، وأنهم إذا كانوا قد رموا بهذا العذاب فى الدنيا فإن لهم فى الآخرة عذابا أنكى وأشدّ.. وإن من صور هذا العذاب الذي ينتظرهم يوم القيامة، هو هذا الخزي الذي يلبسهم، حين يعرضون هذا العرض الفاضح على الملأ، ويسألون هذا السؤال الذي يكشف لهم جريمتهم، حين يسألهم الحق
والمشاقّة: الشقاق والخلاف.. وفى تعدية الفعل «تشاقّون» بحرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية، إشارة إلى أن خلافهم وشقاقهم كان منحصرا فى هؤلاء الشركاء. فلم تتسع مداركهم للبحث عن شىء وراء هذا، بل جمدوا عليه، ولصقوا به كما يلصق المرض الخبيث بأهله.
- وقوله تعالى: «قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ».. هذا القول من شهود المحشر يوم القيامة، من الملائكة، والرسل، وأتباع الرسل، حيث وجم المجرمون فلم ينطقوا.
قوله تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»..
هو صفة لأولئك الذين قال فيهم أهل العلم: «إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ».. فهؤلاء الكافرون، تتوفاهم الملائكة وقد ظلموا أنفسهم بإغراقها فى الضلال، والتنكّب بها عن طريق الحق.. فإذا سيقوا إلى موقف الحساب فى ذلّة وصعار «ألقوا السّلم» - أي أعطوا أيديهم مستسلمين لمن يقودهم إلى هذا المصير المشئوم، الذي هم صائرون إليه، وعلى ألسنتهم- التي مرنت على الكذب ولافتراء- هذا القول الكاذب، يرددونه فى غير وعى: «ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ» ! هكذا المجرم يردّد كلمات البراءة من ذنبه، ويداه ملطّختان بدم قتيله- إنها كلمات عزاء ومواساة، يتعلّق بها المجرمون، كما يتعلّق الغريق بمتلاطم الأمواج!.
- وقوله تعالى: «بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».. هو تكذيب لهم، وقطع لهذا الأمل الكاذب الذي تعلقوا به- بلى- لقد
قوله تعالى: «فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» هذا هو جزاؤهم، وذلك هو مصير المتكبرين..
- وفى قوله تعالى: «فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ» - إشارة إلى تعجيل عقابهم، وأنهم لا ينظرون، فما هو إلا سؤال.. يكون جوابه إلقاؤهم فى جهنم..
وأبواب جهنّم، هى منازلها التي ينزلون فيها، فلكل طائفة من الضالين باب يلجون منه، إلى مثواهم من النار.. والمثوى: المنزل..
الآيات: (٣٠- ٣٢) [سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)
التفسير:
والصورة التي تقابل الكافرين فى موقف الجزاء يوم القيامة، هى صورة المؤمنين المتقين.. هكذا يواجه بعضهم بعضا، فيكون فى هذا إيلام فوق إيلام للكافرين، ونعيم فوق نعيم للمؤمنين، إذ يتضاعف عندهم فضل الله عليهم،
فالذين اتقوا ربّهم، عرفوا طريقهم إلى الله، واهتدوا إلى مواقع الهدى مما أنزل الله على رسوله، فحين سئلوا ماذا أنزل ربكم قالوا: «خيرا» أي أنزل ربنا خيرا كثيرا، نتزود منه زادا طيبا لدنيانا وآخرتنا: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ».. فما يتزوده المؤمن من الإيمان والتقوى، كلّه طيب، والجزاء عليه حسن فى الدنيا، ولكن ما يجده المؤمن فى الآخرة من ثواب الله، ونعيمه، هو الذي يعتدّ به، إذ كان خالدا باقيا، لا يقاس بالقليل منه، ما فى الدنيا كلّها من متاع وقوله تعالى: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ.. كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ».. هو عطف بيان على قوله تعالى:
«وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ».. فدار المتقين هذه، هى تلك الجنات، التي تجرى من تحتها الأنهار، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين.. خالدين فيها.
- وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ» تنويه بهذا الجزاء العظيم، الذي لقيه المتقون، من ربّهم، وهو جزاء لا ينال إلّا من الله الكريم الوهاب، لأن ما فى أيدى الناس جميعا، وما فى هذه الدنيا كلّها، يحفّ ميزانه، مع أدنى جزاء جوزى به من نالهم الله برحمته، وأنزلهم منازل رضوانه..
قوله تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ
.. هو عطف بيان على قوله تعالى: «كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ».. فالمتقون، هم الذين تتوفاهم الملائكة «طيبين».. قد طابت نفوسهم، وزكت أرواحهم، بما مسّها من تقوى، وما عبق عليها من إيمان.. فإذا جاء الملائكة لقبض أرواحهم، أقبلوا عليهم فى بشر، يحملون إليهم بشريات مسعدة، حيث يلقونهم بالسّلام، الذي لا خوف معه..
«يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ..» ثم لا تكاد أرواحهم تفارق أبدانهم حتى يروا منازلهم فى الجنة، وبين أيديهم مناد يناديهم: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»..
فتلك هى الجنة التي وعد المتقون.. لهم فيها دار الخلد، جزاء بما كانوا يعملون..
والسؤال هنا: كيف يقال لهم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون.. والمعروف أن دخول الجنة، إنما هو فضل من فضل الله على عباده، وليس ذلك من كسب العبد، ولا بسبب ما قدم من صالح الأعمال، إذ أن الجنّة لا يستطيع أحد أن يقدّم الثمن الذي تنال به، مهما بلغ من إيمان وتقوى. وقد قال النبي- صلوات الله وسلامه عليه- «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله» قالوا: «ولا أنت يا رسول الله؟» قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته».. فما تأويل هذا؟
الجواب- والله أعلم- أن الإيمان والعمل الصالح، هما المطلوبان من الإنسان، ليحتفظ بإنسانيته على الصحة والسلامة من الرجس والدنس.. وإذ كان الناس فريقين: مؤمنا وكافرا، وشفيّا وسعيدا، وأصحاب الجنة وأصحاب النار.. هكذا أرادهم الله، ولهذا خلقهم- إذ كان الناس على هذا، فإن المؤمنين الذين عملوا الصالحات هم أهل الجنّة، والذين كفروا وضلّوا هم أهل النّار.. وفى إضافة المؤمنين إلى الجنة، وإنزالهم منازل الرضوان فيها، وحسبان ذلك بسبب إيمانهم وتقواهم- فى هذا تكريم من الله سبحانه وتعالى لهم، وفضل من فضله
الآيات: (٣٣- ٤٠) [سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٣ الى ٤٠]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
قوله تعالى: َلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».
الخطاب هنا لهؤلاء المشركين من أهل مكة، الذين قالوا فيما أنزل الله:
هذا «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ».. فكفروا بالله، وكذبوا رسوله..
والاستفهام إنكارى، ينكر الله سبحانه وتعالى عليهم هذا الموقف المنادي الضّال، الذي يقفونه من الرسول الكريم، ومن آيات الله التي بين يديه.. فماذا ينتظرون بعد هذا البيان المبين، وتلك الحجة الدامغة! َلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ»
أي هل ينظرون فى هذا الموقف الضالّ إلّا أن تأتيهم الملائكة، تشهد لهم أن محمدا رسول الله، وأن الكتاب الذي بين يديه هو كلمات الله؟ لقد طلبوا ذلك فعلا فيما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى:
«وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (٦- ٧: الحجر).. أم هل ينظرون أن يأتى أمر الله، وهو العذاب الذي أخذ به الظالمين قبلهم، فيهلكهم بعذاب من عنده كما
«وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (٣٢: الأنفال) - وفى قوله تعالى: َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
إشارة إلى أن هؤلاء الذين أهلكهم الله من القرون السابقة، إنما أخذهم الله بذنوبهم، وما ظلمهم الله بهذا العذاب، بل هم أوجبوه على أنفسهم، بكفرهم وضلالهم..
فكانوا بذلك ظالمين لأنفسهم، إذ عدلوا بها عن طريق الأمن والسلامة، ومالوا بها إلى طرق البلاء والهلاك..
قوله تعالى: «فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ».. هو بيان كاشف لما حلّ بهؤلاء الظالمين من بلاء، وأن هذا الذي نزل بهم هو من آثار ما عملوا من سوء، ومن معقبات مكرهم بآيات الله، واستهزائهم برسله.. وفى هذا تهديد للمشركين الذين يحادّون رسول الله، ويهزءون بآيات الله..
قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.. فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» هو عرض فاضح، لمقولة من تلك المقولات الآثمة، التي يرمى بها المشركون بين يدى شركهم، ليتخذوا منها حجة يحاجّون بها رسول الله، ويلزمونه التسليم بها، إذ يجيئون إليه بهذا المكر السيّء، حين يقولون: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ!» وتلك كلمة حق أريد بها باطل.. فلو أنهم آمنوا بمشيئة الله، واعترفوا بسلطانه المطلق، القائم على كل شىء، لآمنوا بالله، ولعبدوه، واتبعوا رسوله، الذي
هو وصل لهؤلاء المشركين بمن سبقهم من أهل الضلال، من القرون الغابرة.. إنهم ليسوا وحدهم هم الذين قالوا هذا القول.. فهم حلقة فى تلك السلسلة الآثمة، التي تنتظم الظالمين، وتجمعهم فى قرن واحد! - وفى قوله تعالى: «فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» - هو قطع لتلك الحجة الكاذبة التي يحتجّ بها المشركون من كلّ أمة، ومن كل جيل..
وأنهم إذ تنكبوا الطريق المستقيم، وركبوا طرق الضلال، وجعلوا القول بمشيئة الله دليلهم على هذه الطرق- فليتركوا وما هم عليه من شرك، وما هم فيه من ضلال، حتى يلقوا ما يلقى المشركون الضالون من عذاب الله.. فلقد أعذر الله إليهم، وقطع حجتهم، بما أرسل إليهم من رسل.. «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ».. وليس على الرسل إلا البلاغ المبين.. وقد أدّى رسل الله رسالة الله، وبلغوها إلى أقوامهم بلاغا مبينا واضحا.. «فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها»..
قوله تعالى: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» - هو بيان لهذا البلاغ المبين الذي بلّغه رسل الله إلى أقوامهم.. ففى كل أمة بعث الله سبحانه وتعالى رسولا يدعوهم
وعلى الإنسان أن يسعى إلى الخير جهده، وأن يقيم وجهه على هدى الله..
فإن اهتدى، حمد الله وشكر له، وإن ضلّ وغوى، فليبك نفسه، ويؤثّم موقفه، ويسأل الله العافية من هذا البلاء الذي هو فيه..!
- وفى قوله تعالى: «فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» - دعوة إلى إيقاظ تلك العقول النائمة، لتنظر عبر القرون الماضية، ولترى ما فى مصارع المكذبين برسل الله، من عبر وعظات..
قوله تعالى: «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ».. هو عزاء للنبى الكريم، ومواساة له فى مصابه فى الضّالين المقيمين على ضلالهم من قومه.. ذلك أنه مهما حرص النبي على هداية هؤلاء الشاردين، فلن يبلغ به حرصه شيئا، فيما يريد لهم من هدى وإيمان.. إذ حقت عليهم الضلالة، وغلبت عليهم شقوتهم.. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً.. أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ».. «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ينصرونهم من دون الله، الذي ابتلاهم بما هم فيه..
قوله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ.. بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» هكذا يلجّ أهل الضلال فى ضلالهم، فيحلفون جهد أيمانهم، أي أقصى
وأن هذا البعث واقع لا شك فيه، وقد جعله الله وعدا. أوجبه على نفسه، ولن يخلف الله وعده.. «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» حكمة الله فى هذا البعث، ولا ما لله من قدرة لا يعجزها شىء..
قوله تعالى: «لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ» - هو كشف عن بعض الحكمة فى البعث، الذي جعله الله وعدا عليه حقا.. ففى هذا البعث تتبين للناس مواقفهم من الحق، ويمتاز الخبيث من الطيب.. وهناك يستيقن الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فيما يدّعون لأنفسهم ولآلهتهم من مدّعيات باطلة، وفيما يقولون عن البعث وإنكاره.. وفى هذا تهديد للكافرين، ووعيد لهم بما يلقون فى هذا اليوم من فضيحة، وخزى، وهوان..
قوله تعالى: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» هو توكيد للبعث، الذي جعله الله وعدا عليه حقا.. وأن أمر البعث هيّن أمام
فما هو إلا أن يصدر الأمر الإلهى لأى شىء حتى يصدع هذا الشيء بما يؤمر به.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».
الآيات (٤١- ٥٠) [سورة النحل (١٦) : الآيات ٤١ الى ٥٠]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠)
التفسير:
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ».
فهم فى الدنيا سينصرون على عدوّهم، وسوف تمتلئ أيديهم بالخير، بما يمكّن الله لهم فى الأرض.. أما فى الآخرة، فلهم جنات النعيم، ورضوان من الله أكبر.. وذلك هو الفوز العظيم..
وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ» إشارة إلى أن الهجرة جهاد فى سبيل الله، ولهذا ضمّن الفعل «هاجر» معنى الفعل «جاهد»، فعدّى بحرف الجر «فى».. ويجوز أن يكون حرف الجر «فى» بمعنى الباء، التي تفيد السببية.. ويكون المعنى: والذين هاجروا بسبب الله، أي بسبب الإيمان بالله.. وفى الحديث: «عذبت امرأة فى هرة» أي بسبب هرة..
وقوله تعالى: «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» أي لننزلنهم منزلة حسنة فى الدنيا.. يقال: باء يبوء: أي رجع.. وسمّى المنزل مباءة، لأنه المرجع الذي يأوى إليه الإنسان بعد طوافه وسعيه فى الحياة..
ولقد صدق الله وعده، فأيد المؤمنين بنصره، ومكّن لهم فى الأرض، وأذلّ الكافرين والمشركين.. والمنافقين، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس فى دين الله أفواجا..
قوله تعالى: «الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» هو عطف بيان على قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ».. فهؤلاء هم الذين صبروا على أذى المشركين، واحتملوا فى سبيل الله ما احتملوا من مفارقة الأهل والوطن..
مخلفين كل شىء وراءهم، فما كان لهم فى هجرتهم من مال ومتاع.. بل هاجروا متوكلين على الله، معتصمين به، مستغنين بما عنده.
قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» - هو ردّ مفحم للمشركين الذين أبوا أن يستجيبوا للرسول، لأنه بشر مثلهم، وقالوا: «أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ» (٢٤: القمر).. وقالوا ما حكاه القرآن عنهم: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا؟» (٢١: الفرقان).
- فجاء قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ» : ليرى المشركين أمرا واقعا، لا سبيل إلى إنكاره، أو الجدل فيه، وهو أن كلّ رسل الله الذين بعثوا فى الأمم التي سبقتهم كانوا «رجالا» أوحى الله إليهم بما شاء أن يوحيه إليهم من آياته وكلماته.. فإذا لم يكن عند هؤلاء المشركين علم بهذا، «فليسألوا أهل الذكر، أي أصحاب العلم، وهم أهل الكتاب، من اليهود والنصارى: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ».. فإن من واجب من لا يعلم أمرا أن يسأل عنه أهل العلم، قبل أن يتعامل به، ويجادل فيه.
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا رِجالًا» إشارة إلى أن رسل الله جميعا كانوا من
قوله تعالى: «بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» هو متعلق بقوله تعالى: «نُوحِي إِلَيْهِمْ».. أي نوحى إلى هؤلاء الرجال الذين اخترناهم لرسالتنا «بالبينات» أي بالآيات البينات، وهى المعجزات المادية المحسوسة، كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزات عيسى. «والزبر» أي الكتب، والصحف.. كصحف إبراهيم، وصحف موسى، وكالتوراة والإنجيل..
- وفى قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» التفات إلى النبي الكريم، بهذا الخطاب الكريم من رب العالمين.. وأن الله سبحانه وتعالى قد نزّل إليه الذّكر أي القرآن الكريم، وسمّى ذكرا، لأن فيه من آيات الله ما يذكر الناس بالله سبحانه وتعالى، ويلفت قلوبهم وعقولهم إليه..
كما أن فيه ذكرا باقيا للنبىّ الكريم وقومه، كما يقول سبحانه: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ».. فهذا الحديث الطيب المتصل مع الزمن، المردّد على أفواه الأمم، من سيرة النبي الكريم، وسيرة أصحابه الكرام، والهداة المصلحين من أئمة المسلمين وعلمائهم- هذا الحديث، هو أثر من آثار هذا الكتاب الكريم، الذي أنزل على النبي الكريم..
وفى تعدية الفعل «أنزلنا» بحرف الجر «إلى» بدل الحرف المطلوب له وهو «على» إشارة أن إنزال الكتاب لم يكن محمولا إلى النبي حملا، جملة واحدة، وإنما أوحى إليه وحيا، آية آية، أو آيات آيات..
وقد جاء قوله تعالى: «طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» كما جاء
- وفى قوله تعالى: «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» إشارة إلى أن هذا الكتاب الذي أنزل إلى النبىّ، هو كذلك نزّل إلى الناس.. فهم شركاء للنبىّ فى هذا الكتاب، ومطلوب من كل إنسان أن يحسب أن هذا الكتاب هو كتابه المنزل عليه.. يفقهه، ويعمل به، ويدعو الناس إلى العمل به، مقتفيا فى هذا أثر النبىّ، مشاركا فى حمل الرسالة معه، فى حال حياته، أو من بعد وفاته..!
وفى مخاطبة النبىّ بقوله تعالى: «أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» ومخاطبة الناس بقوله سبحانه: «نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» تفرقة من وجهين:
الأول: أن النبىّ الكريم خوطب خطابا مباشرا من الحقّ سبحانه وتعالى: «أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» على حين أن الناس خوطبوا بفعل لم يذكر فاعله هكذا «نزّل إليهم»، لأن التنزيل لم يكن مباشرا لهم، بل كان بوساطة النبىّ، الذي تلقّاه بدوره عن طريق الملك.
الثاني: أن الفعل «أنزل» يفيد الجمع، على حين أن الفعل نزّل، يفيد «التفرّق»، وهذا هو ما يشير إليه الحال من أمر القرآن بين النبىّ والذين تلقوه منه.. فالنبى بالنسبة لهم هو المصدر الأول الذي تجيئهم منه آيات الله وكلماته.. وهم يتلقونها منه آية آية، أو آيات آيات، فناسب أن يخاطب النبي فى مواجهتهم بقوله تعالى: «أَنْزَلْنا إِلَيْكَ».. وأن يخاطبوا هم بقوله تعالى:
«نُزِّلَ إِلَيْهِمْ».
قوله تعالى: «أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ».. هو تهديد لهؤلاء الذين يكذّبون رسول الله من المشركين، ويمكرون السيئات، أي يدبّرون الأعمال السيئة، ويرسمون خططها.. فالمكر هو إعمال الرأى والحيلة فى الأمور.. ومنه ما هو
وقوله تعالى: «أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ.. فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» هو بيان لبعض الأحوال التي يقع فيها عذاب الله بأهل السوء والشقاق.. فهم إمّا أن يؤخذوا على حين غفلة.. وإما أن يلقاهم العذاب وهم فى يقظة، حيث يتقلبون فى وجوه الأرض.. أو يحلّ بهم البلاء وهم «على تخوف» أي على توقع للبلاء، بين يدى إرهاصات، تهدّد به وتنذر بوقوعه.. إن عذاب الله يقع حيث يشاء الله، ومتى يشاء.. وما هو من الظالمين ببعيد..
وفى قوله تعالى: «فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى الله سبحانه وتعالى من فضل على هذه الأمة، إذ عافاها مما ابتلى به الأمم السابقة، حين عجّل لها العذاب.. أما هذه الأمة، فقد أفسح لله سبحانه وتعالى للفجّار من أهلها فى الأجل، حتى تكون لهم إلى الله رجعة، حين يطول وقوفهم مع رسوله الكريم، وبين يدى ما معه من كلمات ربّه.. وفى هذا مزيد فصل من الله سبحانه على نبيّه، إذ لم يفجعه فى قومه، ولم يهلكهم بسبب خلافهم عليه، ومكرهم السيّء به.. «فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ».. فهل يلقى هؤلاء المشركون المعاندون رأفة ربّهم بهم ورحمته لهم، بالإقبال عليه، ومصافاة رسوله وموادّته؟
ذلك ما كان يجب أن يكون!
تفيأ الظلّ: تنقل من جهة إلى أخرى.. والداخر: الصاغر، المستكين..
وفى الآية الكريمة وعيد للمشركين، واتهام لعقولهم الضالّة المظلمة، التي أخرجتهم عن نظام الموجود كلّه، فكانوا نغما نشازا، لا يتناغم مع لحن الموجودات، المسبّحة بحمد الله ربّ العالمين..
وقد أراهم الله سبحانه فى هذه الآية الكريمة صورة محسوسة لهذا الوجود وقد سجد فيه كل موجود، ولاء الله، وخشوعا لجلاله وعظمته..
فما خلق الله من شىء يرونه، فى عالم الجماد، أو النبات، أو الحيوان، إلّا كان له ظل، يتبعه، ساجدا على الأرض، سجود العابدين الخاشعين.. فى ذلة وانكسار لله الواحد القهار..
- وفى قوله تعالى: «ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ» إشارة إلى تلك الأشياء المحسوسة، التي يحدّث جسمها عنها، وينبىء عن وجودها، فهى ليست من عالم المعقولات، ولهذا كان لها ظلّ، لما فيها من كثافة..
- وفى قوله تعالى: «يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ» خروج على مألوف النظم، وهو إما أن يجىء هكذا: «يتفيّأ ظلّه» أو هكذا: «تتفيأ ظلاله» بمعنى أنه إذا أفرد الفاعل جاء الفعل مذكرا، وإذا جمع الفاعل، جاء الفعل مؤنثا.. ولكنه فى النظم القرآنى، جمع بين الأمرين.. فجاء بالفعل مذكرا وبالفاعل جمعا.. وهذا إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، إذ دلّ بهذا على أن الفاعل، وهو «الظل» هو مفرد فى أصله.. هو شىء واحد، ولكنه فى أفعاله، وحركاته، بين القبض والبسط، والتحرك من يمين إلى شمال، يكون ظلالا، لا ظلا واحدا.. فهو جمع فى واحد، وواحد فى جمع!! وهذا بيان لا يكون إلا فى كلمات الله، وفى كتابه المبين..
وخصّت الدوابّ بالذّكر، لأنّها من مخلوقات الأرض، ذات الحسّ والحركة، وهى دون الإنسان منزلة.. وخصّت الملائكة بالذكر كذلك، لأنها من عالم السموات، وهى أشرف مخلوقاتها..
وفى هذا قطع لكل حجة للإنسان ألا يكون فى الساجدين لله.. فإذا عدّ نفسه من عالم الأرض، فهذه دوابّ الله كلّها تسجد لله.. فليسجد معها.. وإذا كان يرى أنّه فوق هذه الدواب، فهذه مخلوقات السماء، وهذه الملائكة أشرف مخلوقاتها وأكرمها عند الله، قد سجدت لله فى ولاء وخشوع.. فليسجد لله كما سجدت الملائكة، أو كما سجدت الدوابّ! وقوله تعالى: «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» - هو وصف للملائكة الذين دأبهم العبادة، وشأنهم السجود لله.. فهم- مع منزلتهم عند الله- يخافون ربّهم الذي علا بسلطانه على كل سلطان «وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» به، من الله، فى غير تردد أو تكرّه.. إذ هم أعرف بما لله فى خلقه، وما على الخلق من واجب الطاعة والولاء للخالق..
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)
التفسير:
قوله تعالى: «وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ»..
القول من الله سبحانه وتعالى، هو أمر.. بمعنى أمر الله..
وهو هنا أمر باجتناب منكر.. فالأمر واقع على نهى.. وهو قوله تعالى:
«لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ».. فهو توكيد للنهى.. بترك المنهي عنه، والإتيان بما يقابله وهو المأمور به..
وفى وصف الإلهين بأنهما اثنان، تجسيد لتلك الصورة التي تجمع بين إلهين، وتقابل بينهما مقابلة الشيء للشىء..
وهذه صورة لا تتحقق أبدا، إذ ليس لله سبحانه وتعالى نظير يناظره، أو شبيه يقابله.. إذ هكذا يكون الإله الذي يعبد.. إلها متفردا بالكمال والجلال.. لا يشاركه أحد فى كماله وجلاله، وإلا كان ناقصا، لا يستحق أن يأخذ مكان التفرد، وعلى العقل أن يبحث عن الإله الذي لا مثيل له، ولا نظير، وإن البحث سينتهى به إلى الله الواحد الأحد.. الفرد الصمد.. «إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ».
- وفى قوله تعالى: «فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» هو دعوة إلى الله الواحد الأحد، الذي يستحق العبودية، وهو الذي يخافه الملائكة، وهم أقرب الخلق إليه، فكيف لا يخاف ولا يرهب من هم دون الملائكة من خلقه؟
قوله تعالى: «وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ» ؟
الواصب: الخالص، المصفّى من كل شائبة.. ومنه قوله تعالى: «وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ» (٩: الصافات) أي خالص، لا يختلط به شىء غريب عنه، يخفف من آثاره وأفعاله فى أهله، الواقع بهم.
فلله سبحانه وتعالى ملك السموات والأرض، لا شريك له، وله سبحانه الدّين الخالص، غير المشوب بشرك أو إلحاد، فهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيّبا.. كما يقول جل شأنه: «وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ». (٢٩:
الأعراف) ويقول سبحانه: «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ» (٣: الزمر).
فإن عبادة غيره كفر، وعبادته على غير دينه الذي ارتضاه وأمر به، ضلال.
قوله تعالى: «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ»..
الجأر، والجؤار: رفع الصوت عاليا..
والآية الكريمة، تحدّث عما لله سبحانه وتعالى فى عباده من فضل وإحسان.. فكل ما هم فيه من نعم، هو من عند الله.. حياتهم التي يحيونها..
وحواسّهم، وجوارحهم، ونومهم ويقظتهم، وطعامهم وشرابهم، وما بين أيديهم من مال وبنين.. كل هذا، وأضعاف هذا مما يتقلبون فيه، ويقيمون وجودهم عليه، هو من عطاء الله، ومن فضل الله، ومن رحمة الله.. كذلك ما يبتلى به الإنسان من ضرّ هو من عند الله، وهو سبحانه الذي يدعى لكشف الضر، ويرجى لدفع الشدّة، كما يقول سبحانه: «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ» (٤٠- ٤١: الأنعام).
وقوله تعالى: «ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ.. فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ».
- هو بيان لجحود الإنسان وكفرانه بفضل الله عليه، ومكره بنعمه..
فهو إذا أصابته نعمة، بطر، وكفر، وأعرض عن الله، وإذا مسّه ضرّ جأر إلى الله، ورفع صوته شاكيا متوجعا، وعاهد الله لئن كشف الضّرّ عنه، ليؤمننّ بالله، وليستقيمن على صراطه المستقيم، فإذا كشف الله الضرّ عنه، نسى ما كان يدعو إليه من قبل، ولم يزده هذا الإحسان إلا ضلالا وكفرانا.. وقليل هم أولئك الذين يذكرون فى هذا الموقف ربّهم، ويشكرون له ما آتاهم من فضله..
- وفى قوله تعالى: «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ» تهديد ووعيد، لهؤلاء الذين يمكرون بنعم الله، وينكثون عهدهم مع الله.. فليكفروا بما آتاهم الله من فضله، وليتمتعوا بما هم فيه من نعمة، فإن الله- سبحانه- لن يعجّل لهم العقاب، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمّى، وسوف يعلمون عاقبة ما هم فيه من كفر وضلال..
وفى الانتقال من الغيبة إلى الخطاب فى قوله تعالى: «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» مواجهة لهؤلاء الكافرين الضالين، بالبلاء الذي ينتظرهم، وبالعذاب المعدّ لهم.. وفى تلك المواجهة التي يجدون فيها ريح العذاب- ما يدعوهم إلى النظر إلى أنفسهم، ومراجعة موقفهم الذي يشرف بهم على شفير جهنم..
وقوله تعالى: «وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ»..
- هو كشف عن وجه من وجوه الضلال، التي يعيش فيها المشركون بالله، وهو أنهم لا يقفون بكفرهم بنعم الله عند حدّ جحدها، وجحد المنعم بها، بل يتجاوزون ذلك إلى أن يضيفوا هذه النعم إلى غير الله، وأن يقدّموها قربانا إلى ما يعبدون من دون الله، من أصنام! وهذا فوق أنه كفر بالله، هو عدوان على الله، وحرب له..
- وفى قوله تعالى: «لِما لا يَعْلَمُونَ» حذف المفعول به، لإطلاق نفى العلم من هؤلاء المعبودين.. وأنهم لا يعلمون شيئا.. وفى هذا تشنيع على المشركين، وتسفيه لأحلامهم.. إذ عدلوا عن التعامل مع ربّ العالمين، الذي يعلم كل شىء، إلى التعامل مع ما لا يعلم شيئا..
- وفى قوله تعالى: «تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ» وعيد لهؤلاء المشركين، وأنهم مسئولون عن هذا الضلال، وذلك الافتراء، ومحاسبون على هذا المنكر حسابا عسيرا، يلقون جزاءه عذابا أليما فى نار جهنم..
وقوله تعالى: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ.. وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ».. هو بيان لوجه آخر من وجوه الضلال، التي يلبسها المشركون حالا بعد حال..
فمن ضلالاتهم أنهم يجعلون الملائكة بنات لله.. فلم يكتفوا بأن جعلوا لله- سبحانه- ولدا، بل جعلوه لا يلد إلا البنات، تلك المواليد التي لفظها مجتمعهم وزهد فيها، واستقبلها فى تكرّه وضيق.. وفى هذا ما يكشف عن مدى جهلهم بما لله من كمال، وما ينبغى أن يكون له من توقير.. فلقد أساءوا القسمة مع الله، حين سوّوه بهم- ضلالا وسفها- فجعلوا له البنات، وجعلوا لأنفسهم «ما يشتهون» من الذكور.. وقد سفّه الله أحلامهم، وكشف عوار منطقهم بقوله تعالى «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ.»
(١٩- ٢٣: النجم).. وذلك حين أطلقوا على تلك الأصنام هذه الأسماء المؤنثة، وادعوا أنها بنات الله..
وقوله تعالى: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ
- هو بيان لتلك الحال من الانزعاج، والكرب، والبلاء، التي تستولى على هؤلاء المشركين من العرب، حين يبشر أحدهم بأنه قد ولدت له أنثى.. هنالك ينزل عليه هذا الخبر نزول الصاعقة، فيضطرب كيانه، وتغلى دماء الكمد فى عروقه، ويضيق صدره، حتى لتختنق أنفاسه ويسودّ وجهه..
فإذا ظهر فى الناس جعل يتوارى منهم، ذلّة وانكسارا، حتى لكأنه لبس عارا، أو جنى جناية..! وهذا جهل فاضح، وضلال غليظ.. ولو كان معه شىء من النظر والتعقل، لعرف أن هذا الأمر ليس له، وأن ليس لأحد أن يخلق ذكرا أو أنثى، وإنما ذلك إلى الله وحده.. فلم يخجل من أن تولد له أنثى؟
ولم يمشى فى الناس مطأطىء الرأس، ذليل النفس؟ أيستطيع عاقل أن يتهمه بأنه جنى هذه الجناية المنكرة عندهم، وأنه ولد بنتا ولم يلد ولدا؟ ذلك قول لا يقال إلا فى مجتمع السفهاء والحمقى! - وفى قوله تعالى: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى» - إشارة إلى أن الولد نعمة من النعم التي يبشر بها، سواء أكان ذكرا أم أنثى، وأن من شأن هذه البشرى أن تملأ قلب الوالد بالفرحة والبشر.. تلك طبيعة الكائن الحىّ، حين يولد له مولود.. يهشّ له ويسعد به، بمجرد أن يرى وجهه، من قبل أن يتعرف عليه، ويعلم أذكر هو أم أنثى!.. فما يتوقف الحيوان عن فرحته حين يستقبل ولده، حتى يتبين الذكر من الأنثى.. بل إن مواليده كلّها سواء عنده.. هى قطعة منه، وثمرة شجرة الحياة المغروسة فى كيانه، والإنسان الذي يفرّق بين مواليده، هو خارج على الفطرة، منحرف عن سنة الحياة فى الأحياء..
- وقوله تعالى: «كَظِيمٌ» أي مكظوم، ممتلىء غيظا، وألما. ومنه الكظّة: وهى الامتلاء من الطعام..
- وقوله تعالى: «أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» - هو تعقيب على هذا الموقف
وقوله تعالى: «لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»..
المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى لموقف المشركين من إضافتهم الإناث إلى الله، وإضافة الذكور إليهم، هو هذا الموقف الذي يقفونه هم أنفسهم مع ما يولد لهم من ذكور وإناث، وأنهم حين يبشر أحدهم بالأنثى ينزل به ما ينزل من حسرة، وحزن وبلاء.. فكيف ينسبون لله تعالى، ما لا يرضون نسبته إليهم؟ ذلك ما يعطيه المثل المضروب.. وتعالى الله سبحانه وتعالى عن أن يسوّى بينه وبينهم، فلله سبحانه المثل الأعلى، الذي لا يقابل بمثل..
أما المشركون فلهم كل خبيث، وكل خسيس، يضرب مثلا لهم، تصوّر به أحوالهم، ويكشف به ضلالهم..
- وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى هو «العزيز» الذي يعلو بعزته فوق كل مثل.. «الحكيم» الذي يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجّهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما.. حسب ما تقضى حكمته..
الآيات: (٦١- ٦٧) [سورة النحل (١٦) : الآيات ٦١ الى ٦٧]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
قوله تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ.»
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الآيات السابقة كشفت عن وجوه كثيرة، من وجوه الضلال، التي يعيش فيها المشركون حين كفروا بالله، ومكروا بآياته، وجحدوا أفضاله وأنعامه، فناسب ذلك أن يذكّرهم- سبحانه- بمزيد من فضله عليهم، وهو أن هذه المنكرات التي اقترفوها جديرة بأن تسوق إليهم المهلكات، وأن ينزل بهم ما نزل بالظالمين قبلهم من نقم الله، بل ويشمل البلاء كل ما بين أيديهم من أنعام سخرها الله لهم..
وفى التعميم الذي شمل الناس جميعا، وما على الأرض من دابّة، إشارة إلى أن رحمة الله لم تتخلّ عن الناس، حتى فى مواقع البلاء، والهلاك.. فلم يهلك الله الناس جميعا بسبب ما يقع منهم من ظلم، وشرك، وكفر، ولو أخذهم بظلمهم لما أبقى منهم باقية، ولأخذ غير الظالمين بالظالمين، بل ولما أقام حياة على هذه
قوله تعالى: «وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» - أي ولكن شاءت رحمة الله بالناس ألا يعجّل لهم العقاب، وأن يقيمهم فى الحياة إلى أجل مسمّى، حتى تتاح لهم الفرصة لإصلاح ما أفسدوا، والرجوع إلى ربّهم.. إذ لا شك أن فى امتداد العمر للظالم رحمة به، حتى يراجع نفسه، ويرجع إلى ربّه.. فإن لم يرجع إلى الله، ويؤمن به فإن مطاولة الزمن له لم تضرّه، فقد كان بكفره غير متقبل لجديد من الضرر.. إذ ليس بعد الكفر ذنب.
وإلى هذا المعنى يشير الإمام على كرم الله وجهه بقوله: «موت الإنسان بعد أن كبر وعرف ربّه، خير من موته طفلا، ولو دخل الجنة بغير حساب» ! قوله تعالى: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى» - هو تنديد بالمشركين، واستنكار لأفعالهم وأقوالهم جميعا، فهم يجعلون لله ما يكرهون، أي ينسبون إليه الإناث، فيجعلون الملائكة بناته، ويسمّون آلهتهم بأسماء مؤنثة، ويقولون عنها إنها بنات الله! وفى هذا يقول الله تعالى فيهم: «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» (٢٧- ٢٨: النجم).. هذا، على حين يجعلون لأنفسهم الذكور، ثم لا يقف بهم الضلال عند هذا، بل يمنّون أنفسهم الأمانى المسعدة، ويقولون إن لهم العاقبة الحسنى عند الله.. كما يقول الله تبارك وتعالى فاضحا هذه الأمانى الخادعة:
«أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ»
- وفى قوله تعالى: «وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى» - إشارة إلى أنهم يصفون الكذب بغير صفته، فهو قبيح، خبيث، لا يثمر إلا القبيح الخبيث، ولكنهم يعطونه صفة الشيء الحسن، ويرجون من ورائه ما يرجو المحسنون من إحسانهم..
ولهذا ضمّن الفعل تصف معنى القول: أي يقولون الكذب الذي يقولونه وهو قولهم «أن لهم الحسنى».. فهو بدل من الكذب.
قوله تعالى: «لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ». أي لا شك أن لهم النّار، وليست لهم الحسنى كما يزعمون.. وأنهم مفرطون.. أي سابقون إلى النّار.. فهذا هو المجال الذي يسبقون فيه، ويأخذون المكان الأول منه..
أما فى مقام الخير والإحسان فهم فى أنزل منزلة.
وقوله تعالى: «تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».
فى القسم من الله سبحانه وتعالى باسمه الكريم تشريف للنبىّ، ومداناة له، وتلطف من الحقّ جل وعلا معه.. أي وحقّ ربّك، لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا مبشرين ومنذرين، فوسوس لهم الشيطان، وزين لهم ما هم فيه من عمى وضلال، فلم يستجيبوا، لدعوة الحق، ولم يردّوا على رسل الله إليهم ردّا جميلا، بل أعنتوهم، ومدّوا إليهم ألسنتهم وأيديهم بالسوء والأذى.. فلا تأس على ما يصيبك من قومك، وما ترى من عنادهم، وتأبّيهم على الحق الذي تدعوهم إليه، فالشيطان يتولاهم اليوم، ويقودهم كما تولّى الظالمين قبلهم، وقادهم إلى موارد الوبال والهلاك.. «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» أي لأولياء الشيطان جميعا عذاب أليم فى الآخرة.
هو بيان لمحامل الرسالة التي أرسل بها النبىّ الكريم، فالكتاب الذي أنزل إليه، ليس فيه ما يدخل منه الضيم على أحد ممن يستجيب له.. إنه لا ينزع من أحد سلطانا، ولا يعتدى على حرمة من حرماته، بل إن كل ما يحمله هو الخير، والرحمة، والأمن، والسلام.. فهو نور يكشف معالم الطريق إلى الحق والخير، ويقيم لمن يهتدى به فهما صحيحا للعقيدة التي يعتقدها..
فالقرآن الكريم ميزان عدل وحق، وفيصل ما بين الحق والباطل وحكم ما بين الخير والشر.. فما استقام على ميزانه، فهو الحق والخير، وما انحرف عنه، فهو الباطل والضلال.. فعلى هديه يجتمع أهل الكتاب على كلمة سواء منه، فيما اختلفوا فيه، وإليه يحتكم أهل الهدى، فيقضى بينهم بما يرفع الخصام والشقاق فيما كان سببا فى خصامهم وشقاقهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» (٥٩: النساء).. وقوله سبحانه: «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ» (١٠: الشورى).. وفى هذا يقول الرسول الكريم فى صفة القرآن الكريم: «القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته» ففى مأدبة الله هذه الشفاء والرحمة، والهدى والمعرفة.. إنه مأدبة علم وحكمة، وخلق، وليس مأدبة معدة، ولا طعام بطون..
- وقوله تعالى: «وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».. هو بيان لما فى القرآن الكريم من معطيات الخير التي لا تنفد.. فهو إذا كان ميزان الحق والعدل الذي تردّ إليه الأمور، وتنزل على حكمه الأحكام، فإنه كذلك هدى ورحمة، لمن آمن به واهتدى بهديه، واستظل بظلّه.. فهو الشفاء من كل داء،
«وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» (٨٢: الإسراء) وكما يقول سبحانه: «وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ «آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» (٤٤: فصلت).
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنه لمّا ذكر فى الآية السابقة، أن القرآن الذي نزل على النبىّ، هو شفاء لما فى الصدور وروح للأرواح، وحياة للنفوس، فناسب أن يذكر ما ينزّل من السماء من ماء هو روح الحياة، وحياة الأحياء..
وبهذا تتم نعمة الله، حيث ينزل على عباده من رحمته، ما تحيا به حياتهم، المادية والروحية، جميعا..
وفى قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» إشارة إلى أن الآية المبصرة هى التي يتلقّاها الناس من كلمات الله، حين تتلى عليهم، لا من تلك الآيات الكونية التي يرونها بأبصارهم.. فهذه الآيات الكونية وإن كانت موطنا للعبرة، ومرادا للتبصرة، إلا أن كلمات الله التي تعيها آذان واعية، وتتلقاها قلوب متفتحة- هذه الكلمات هى أوضح بيانا، وأفصح لسانا، وأفعل أثرا، إذ هى النور الذي تنكشف على أضوائه الآيات الكونية المبثوثة فى الأرض والسماء.. وهذا هو السر فى أن جاءت فاصلة الآية الكريمة: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ولم تجىء هكذا: «لقوم يبصرون» حيث كان ذلك هو التعقيب المناسب للآية التي تحدّث عن الماء الذي ينزل من السماء، وأثره فى إحياء الأرض.. وكل هذه صور ترى ولا تسمع».
اختلف المفسرون، وتعددت آراؤهم فى تأويل الضمير فى قوله تعالى:
«مِمَّا فِي بُطُونِهِ» فهذا الضمير مفرد مذكر، يعود إلى «الأنعام» والأنعام جمع، فكان مقتضى هذا أن يعود الضمير إلى الأنعام مؤنثا هكذا: «بطونها»..
إذ أن كل جمع غير عاقل، يعود عليه الضمير مفردا مؤنثا.. وقد جاء على تلك الصفة فى قوله تعالى فى سورة «المؤمنون» :«وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» (الآيتان: ٢١- ٢٢) فما تأويل هذا؟ ولم اختلف النظم فى الآيتين، فجاء فى آية النحل هكذا:
«مِمَّا فِي بُطُونِهِ» على حين جاء فى آية «المؤمنون» :«مِمَّا فِي بُطُونِها».
يقول المفسرون: إن الأنعام، تجىء فى اللغة بمعنى المفرد، كما تستعمل جمعا.. وقد استعملت فى آية النحل بمعنى المفرد، واستعملت فى آية «المؤمنون» الاستعمال الآخر الذي لها، وهو الجمع!! ويأتون لهذا بكثير من الشواهد اللغوية للاستعمالين..
والقول بأن «الأنعام» لفظ مفرد، مثل ثوب «أخلاق» ونطفة (أمشاج) قول متهافت لا يراد منه إلا الخروج من هذا الموقف بين يدى الآية الكريمة، وتسوية نظمها على أية صورة!! فالقرآن الكريم لم يستعمل لفظ «الأنعام» مرة واحدة بمعنى المفرد، على كثرة ما ورد فيه من ذكر هذا اللفظ فى مواضع شتى.. فمن ذلك:
«وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ».. (٣٠: الحج)
(١٢: محمد) «فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ».. (١١٨: النساء) «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ» (٥: النحل) «كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ».. (٥٤: طه) «مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ».. (٣٣: النازعات) هذا هو بعض ما ورد فى القرآن الكريم من ذكر الأنعام.. وقد استعملت استعمال الجمع غير العاقل، فعاد إليها الضمير مفردا مؤنثا.. كما أضيفت إليها «الآذان» جمعا.. وكما أضيفت هى إلى الناس هكذا «أنعامكم» وليس بمعقول أن يرعى الناس جميعا بهيمة واحدة!! والذي نراه فى مجىء الضمير فى آية النحل مفردا مذكرا، على غير ما يقتضيه الاستعمال اللغوي، هو أن الحيوان الذي يشرب لبنه، ويؤكل لحمه، هو الحيوان المجترّ، بخلاف الحيوان الذي له لبن، ولكن لا يحل شرب لبنه، ولا أكل لحمه، وهو غير مجترّ، كالكلب، والخنزير.
والحيوان المجترّ، له خاصية فى جهازه الهضمى.. فله معدة، وله معى، وله كرش، يختزن فيه الطعام، وبعيد مضغة مجترا.. بخلاف الحيوان غير المجتر فإنه ليس له هذا «الكرش» الذي يختزن فيه الطعام..
ومن هنا يبدو الحيوان المجتر وكأنه لا يحمل بطنا واحدا كسائر الحيوانات، بل يحمل بطونا.. المعدة، والمعى، والكرش، الذي هو أشبه بمجموعة من البطون..
ومن هنا أيضا جاء النظم القرآنى: «نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ» مشيرا إلى
ومن هنا- مرة ثالثة- كان على الإنسان أن ينظر فى الحيوان الذي يشرب من لبنه ويأكل من لحمه، فإذا كان على تلك الصفة أكل من لحمه وشرب من لبنه، وإلا أمسك عنه..
فالآية الكريمة إذ تنبه الإنسان إلى ما فى بطون الأنعام من عبرة فى خروج اللبن من بين الفرث والدم تنبّهه كذلك إلى ما أحلّ له من الحيوان ذى اللبن، ولهذا جاء وصف اللبن بهذين الوصفين: «لَبَناً خالِصاً.. سائِغاً لِلشَّارِبِينَ».
وعلى هذا يكون الضمير فى «بطونه» عائدا إلى الحيوان المجترّ ذى البطون، وذى اللبن الخالص، السائغ للشاربين.. هذا الحيوان المنتقى من بين مجموعة الأنعام كلها، فهو حيوانها الذي ينبغى أن يتجه النظر إليه فى هذا المقام! مقام أخذ اللبن الخالص السائغ منه.
أما آية «المؤمنون» فلم يكن المراد منها التنبيه إلى هذه الخاصية من الحيوان، ذى اللبن الخالص السائغ، حيث جاءت الآية هكذا: «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ».. فهى تحدّث عن الأنعام فى جملتها، وعما يجنيه الناس منها من ثمرات، ليس اللبن إلا بعضا منها، وليس فى الآية ما فى آية النحل من إلفات خاص إلى اللبن الصافي السائغ، الذي يخرج بقدرة القدير، وتدبير الحكيم العليم.. من بين الفرث والدم..
فآية النحل تلفت الأبصار والبصائر فى قوة، إلى هذه الظاهرة العجيبة، التي تحدّث عن قدرة الله، وإلى ما تملك القدرة من قوى التصريف والإبداع..
وفى تقديم قوله تعالى: «مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ» على قوله سبحانه «لَبَناً» الذي هو مطلوب للفعل «نسقيكم» - فى هذا إلفات إلى الفرث والدم وما يخرج من بينهما، وهو اللبن الخالص السائغ للشاربين.. فإنه قبل أن يقع لنظر الناظر هذا اللبن، يلتقى نظره أولا بالفرث والدم، الذي لا يتصور أن يخرج منهما إلا ما يشاكلهما.. فإذا رأى بعد هذا أن ذلك اللبن الخالص السائغ يخرج من بين هذين الشيئين: الفرث والدم، عجب لذلك كلّ العجب، وحمله ذلك على أن يقف عند هذه الظاهرة وقوفا طويلا، يشهد فيها لمحات من قدرة الله، وعلمه، وحكمته.
قوله تعالى: «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».. «ومن» من هنا للتبعيض.. أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب تتخذون سكرا ورزقا حسنا.. وهو ما يؤخذ من التمر.. من خلّ، وما يتخذ من العنب.. من زبيب مثلا.. فليس كل ثمرات النخيل والأعناب، يتخذ، أي يصنع منها السكر، وغير السكر، وإنما يؤكل أكثره من غير صنعة، وقليله هو الذي يصنع من السّكر وغيره.. ولهذا عاد
والسّكر: ما يسكر، وهو الخمر.. والرزق الحسن ما يصنع من التمر والعنب فى أغراض أخرى غير السّكر..
وفى هذا إشارة إلى أن السكر- وهو الخمر- رزق غير حسن.. وإن سمّى رزقا، لأن كثيرا من الناس يصنعه، ويبيعه، ويعيش من العمل فيه..
وهذه أول آية تنزل فى الخمر، وتومئ إليه هذه الإماءة التي تحقره، وتسمه بتلك السمة التي تعزله عن الحسن من الرزق.
الآيات: (٦٨- ٧٣) [سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٨ الى ٧٣]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣)
قوله تعالى: «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ».
الوحى هنا: الإلهام، المركوز فى الفطرة التي فطر الله النحل عليها..
فهكذا خلق الله النحل، تتخذ لها بيوتا فى الجبال، وفى جذوع الأشجار، وفى سقوف المنازل والحيطان، ونحو هذا..
وسميت أعشاش النحل بيوتا، لأنها قائمة على نظام دقيق بديع، تحكمه هندسة دقيقة بارعة، يحار فيها عقل الإنسان.
وقوله تعالى: «ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».
هو معطوف على ما قبله.. أي مما ألهمه الله سبحانه وتعالى النحل وجعله طبيعة قائمة فيها، أن يكون طعامها من زهر الزروع وثمارها.. والتقدير: وأوحى ربك إلى جماعة النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا.. ثم كلى من كل الثمرات..
- وفى توجيه الأمر إلى النحل فى قوله تعالى: «أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً».. وقوله سبحانه: «ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» ثم قوله تعالى: «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا» - فى هذا الأمر إشارة إلى أن الوحى الصادر إلى النحل ليس أمرا تكليفيا، وإنما هو أمر تقديرى، ليس للنحل معه تفكير
- وفى قوله تعالى: «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا» المراد بالسبل هنا ما فى كيان النحل من غرائز فطرية، هى التي تحكم حياته، وتضبط سلوكه.
والأمر الموجه إلى النحل بأن يسلك سبل ربه ذللا، هو إذن من الخالق جلّ وعلا، للنحل أن ينطلق على طبيعته، وأن يسير على ما توجهه إليه غريزته، حيث لا تتصادم هذه الغريزة، بشىء غريب يدخل عليها من إرادة أو تفكير..
فالسبل التي تسلكها النحل فى بناء بيوتها، وفى تناول طعامها، وفى الشراب الذي تخرجه من بطونها.. كل ذلك يجرى على سنن مستقيم لا ينحرف أبدا، ويسير فى طريق مذلل معبّد.. هو طريق الله، وهو فطرة الله.
وقد عاد الضمير على النحل بلفظ المفرد المؤنث: «اتَّخِذِي.. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ.. فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ.. يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» مع أن «النحل» اسم جمع مذكر، وذلك أن المراد بالنحل هو «جماعة النحل» أو النحل فى جماعته، من حيث كان النحل من الكائنات الحية التي لا تعيش إلا فى نظام جماعى، تتألف منه وحدة منتظمة، أشبه بالوحدات الإنسانية، فى أرقى المجتمعات، حيث تتوزع أعمال الجماعة على أفرادها، وحيث يؤدى كل فرد ما هو مطلوب منه فى غير فتور أو تمرد..
ومن حصيلة العمل الذي تعمله هذه الجماعة، ويشارك فيه ذكورها وإناثها، وجنودها وعمالها، والملكة ورعيتها- من هذه الحصيلة يتكون الشراب المختلف الألوان، الذي فيه شفاء للناس.
- وقوله تعالى: «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» -
«يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» - تلك هى رسالة النحل، يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، يتلوّن بلون الغذاء الذي يتناوله.. أما ثمرة هذه الرسالة.. وأثرها فى الحياة، فذلك ما كشف عنه قوله تعالى: «فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» ففى هذا الشراب الذي يخرج من بطون النحل شفاء للناس.. أي إن فى تناول الناس له شفاء لكثير من أمراضهم وعللهم، وليس لكل الأمراض والعلل.. ولهذا جاء التعبير القرآنى «فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» بالتنكير، ولم يجىء: «فيه الشفاء للناس»، الذي يدل بتعريفه على العموم والشمول، وهذا من حكمة الحكيم العليم.. فلو كان شراب النحل شفاء من كل داء لأدخل الخلل على نظام الحياة الإنسانية، التي لا تستقيم إلا مع الصحة والمرض معا.
روى أن رسول الله ﷺ جاءه من يشكو إليه مرض أخيه، بداء فى بطنه، فقال صلى الله عليه وسلم: «اسقه عسلا.. فسقاه فلم يشف ما به، فجاء إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- شاكيا، فقال: اسقه عسلا..
فسقاه.. فلم يذهب بدائه.. فجاء إلى النبي ﷺ شاكيا، فقال:
«صدق الله وكذب بطن أخيك» اسقه عسلا.. فسقاه، فشفى! هذا ويجوز أن يكون الضمير فى قوله تعالى: «مِنْ بُطُونِها» عائدا إلى السبل، أي يخرج من بطون هذه السبل شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس..
وهذا يعنى أن رسالة النحل فى هذه الحياة، هى أن تسعى هذا السعى فى الحياة،
وهذا يعنى مرة أخرى أن النحل ليس إلا أداة من الأدوات العاملة فى هذا الجهاز العظيم الذي يخرج من بطونه هذا الشراب.. وهذا يعنى مرة ثالثة ألا يقف نظر الإنسان عند النحل وما يخرج منه من شراب عجيب، بل يجب أن يمتد النظر إلى آفاق فسيحة وراء أفق النحل.. فهناك الأزهار المختلفة التي يتغذى عليها النحل ويمتص رحيقها، وهى ألوان وطعوم.. كل لون منها، وكل طعم، فيه نظر لناظر، وعبرة لمعتبر.. فليس هذا الشراب المختلف الألوان الذي يخرج من بطون النحل- بأعجب من هذا الزهر المختلف الأصباغ الذي يخرج من بطون الأرض.. ثم هناك أيضا هذا التجاذب، والتوافق بين الزهر والنحل، فإنه لولا هذا التوافق والتجاذب لما جاء هذا الشراب، على صورته تلك..
فلو أنه كان من طبيعة النحل أن يتغذى بالحبّ، أو اللحم، أو ما شابه ذلك لما كان هذا الشراب.. فبطون النحل التي أخرجت الشراب، وبطون الأرض التي أخرجت الزهر، هى جميعا جهاز واحد فى صنعة هذا الشراب المختلف الألوان، الذي فيه شفاء للناس.
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ».. هو آية من آيات الله فى خلقه.. وهى الحياة والموت.. فقد قضت حكمة الله أن يقرن الموت بالحياة، وأن يصله بها، ويسلطه عليها، مع اختلاف مدة الحياة التي يحياها الكائن الحىّ..
ففى الناس مثلا من يموت جنينا، ومنهم من يموت شابّا، ومنهم من يموت شيخا، ومنهم من يمتدّ به الأجل حتى يبلغ من العمر أرذله..! على أن النهاية هى الموت..!
- وفى قوله تعالى: «يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» إشارة إلى أن امتداد العمر بالإنسان، ينتهى به عند نقطة معينة يبدأ بعدها الرجوع إلى الوراء، من حيث بدأ رحلة الحياة، وهو رجوع على وضع مقلوب، منتكس، يجرى على عكس الاتجاه الذي كان يأخذه فى أول حياته، التي كان طريقه فيها يمشى به صعدا، على حين أنه فى رحلة العودة إلى الوراء يهبط منحدرا، حتى ليكاد يقع على مستوى نقطة البدء التي بدأ منها.. وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى «أَرْذَلِ الْعُمُرِ..» فالرذل هو الخسيس من كل شىء.. وتلك المرحلة المتقدمة من العمر هى أسوأ مراحل العمر وأرذله.. وقد أحسن المعرى فى قوله:
وكالنّار الحياة فمن رماد | أواخرها، وأولها دخان |
تسرى فيه بعض حرارة النار، ثم يبرد شيئا فشيئا حتى يكون ترابا.. وذلك هو آخر مطاف الإنسان فى هذه الحياة..!
- وفى قوله تعالى: «لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً» إشارة إلى أن هذا الإنسان الذي امتدّ به الأجل إلى هذا المدى، قد عاد من رحلته الطويلة فى الحياة، إلى النقطة التي بدأ منها.. فمن ولد لا يعلم شيئا، انتهى إلى حيث لا يعلم شيئا، كما يقول الله تعالى: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً»..
قوله تعالى: «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ.. فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ».. ؟
هذا التفاوت بين الناس، فيما فضّل الله به بعضهم على بعض، فى الرزق، يشير إشارة صريحة إلى أنه ينبغى أن يكون هناك تفاوت بين الخالق والمخلوق..
ذلك أنه إذا كان الناس وهم من صنعة الخالق، لم يطبعهم الله سبحانه وتعالى على صورة واحدة، ولم يقمهم فى الحياة على درجة واحدة، بل خالف بينهم فى الصورة، واللون، ففيهم الوسيم والدميم، والطويل والقصير، والأبيض والأسود- كذلك قسم الله معيشتهم فى الدنيا، فجعل فيهم الغنىّ والفقير، والمالك والمملوك- فكيف يسوغ بعد هذا أن يسوّى بين الخالق وما خلق؟
فهؤلاء الذين وسع الله لهم فى الرزق، وملأ أيديهم من الجاه والمال والسلطان- أيكون منهم من يردّ ما بين يديه من مال ومتاع على من تحت يده من عبيد وإماء، حتى يسوّى بينه وبينهم فى المأكل والمشرب، والملبس، وفى كل مظاهر الحياة؟ ذلك ما لا يكون، وإن كان شىء منه، فهو واقع- فى صورة لا تزيل الفارق بينه وبين من تحت يده، وإن ارتفع بهم شيئا قليلا!
- وفى قوله تعالى: «أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» إنكار لموقف هؤلاء المشركين، من نعم الله، التي أفاضها عليهم.. وتذكير لهؤلاء السادة من المشركين بما وسّع لهم من رزق، ولو شاء لجعلهم فى المكان الذي فيه عبيدهم ومواليهم.. فإنهم بهذا الرزق الذي رزقهم الله إياه كانوا سادة فى الناس، وكانت لهم الكلمة المسموعة فيهم.. ثم هم- مع ذلك- أئمة يدعون الناس إلى غير طريق الله، ويدفعون بهم إلى مهاوى الهلاك.. وكان الأولى بهم أن يقيموا وجوههم إلى الله، وأن يقدموا له ولاءهم وحمدهم، فإذا لم يكن شىء من هذا، فلا أقلّ من أن يدعوا عباد الله يعبدون الله، لا أن يضلّوهم ويصدّوهم عن سبيله! قوله تعالى: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.. أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ».
هذا رزق من رزق الله، الذي جعله حظّا مشاعا فى عباده جميعا، وهو أنه سبحانه، جعل بين الذكر والأنثى فى عالم الإنسان- كما هو فى عالم الحيوان- إلفا ومودة، بما بينهما من مشاكلة وتوافق فى الطباع، الأمر الذي به يتم اجتماعهما، وتآلفهما، ثم ما يكون من هذا الاجتماع والتآلف من ثمرات طيبة، يقتسمان متعتهما منها، هى البنون والحفدة، وهم أبناء الأبناء، أو هم الكبار من الأبناء، الذين يكونون عضدا لآبائهم، يسعون معهم، ويحملون عبء الحياة عنهم..
فالحفد: السعى فى سرعة، ومنه ما ورد فى القنوت: «وإليك نسعى ونحفد».. ثم إلى هذا الذي رزقه الله سبحانه وتعالى، الناس من بنين وحفدة،
وهذا كلّه من عطاء الله، وهو جدير بأن يحمد ويشكر.. ولكن كثيرا من النّاس يكفرون بالله، ويجحدون فضله ويجعلون ولاءهم لغيره، مما هو باطل وضلال.. «أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ» ؟.. إن ذلك وضع مقلوب للأمور.. حيث يكون الباطل متعلّق الإنسان وموطن رجائه، بدلا من الحق الذي ينبغى أن يكون متعلّقه ومناط ولائه ورجائه.. وحيث يستقبل النعمة بالكفران والجحود، بدلا من أن تستقبل بالحمد والشكران..
وفى العدول من الخطاب إلى الغيبة فى قوله تعالى: «أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ».. إبعاد لهؤلاء المنحرفين عن طريق الحق، من أن ينالوا شرف الخطاب من رب العالمين، وأن يأخذوا مكانهم بين من هم أهل لهذا الشرف العظيم..
وقوله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ».. هو تسفيه لهؤلاء المنحرفين الضالين، ووعيد لهم، إذ تعلقوا بهذه الأوهام، وخدعوا أنفسهم بهذا السراب، فعبدوا من دون الله، ما لا يملك شيئا من هذا الرزق الذي ينزل عليهم من السماء، ويخرج لهم من الأرض، ولا يستطيع- هذا المعبود- إن هو حاول- أن ينال شيئا، وهو كله فى ملك الله، وفى سلطان الله..
الآيات: (٧٤- ٧٧) [سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٤ الى ٧٧]
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧)
قوله تعالى: «فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» الأمثال: جمع مثل، وهو شبيه الشيء ونظيره..
وضرب المثل: مقابلته بمثله، حين يجمع بين النظير ونظيره، أو الشيء وضده، كما يقول سبحانه: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ» والأمر هنا موجه إلى المشركين، الذين يضربون أمثالا، يقيمون منها حججا لضلالهم، وهى أمثال باطلة فاسدة، تولدت من عقول مريضة، وقلوب سقيمة.. كما يحكى القرآن بعض أمثالهم فى قوله تعالى: «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ».. (٧٨: يس) أما الأمثال التي يضربها الله، فهى التي تكشف الطريق إلى الحق والخير، لأنها أمثال مستندة إلى علم الله المحيط بكل شىء.. «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ».
وقوله تعالى: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ
هذا مثل من الأمثال التي يضربها الله.. وفيه الحجة البالغة، والبيان المبين، لما بين الحق والباطل، من بعد بعيد! فهذا عبد مملوك.. هو فى يد مالكه، لا يملك من أمر نفسه شيئا..
وهذا إنسان رزقه الله رزقا حسنا، ليس لأحد عليه سلطان، فهو ينفق من هذا الرزق الحسن كيف يشاء، سرا وجهرا.. يعطى من يشاء مما فى يده، ويحرم من يشاء! فهل يستوى هذا، وذاك؟ هل يستوى العبد والسيد؟ هل يستوى المملوك والمالك؟ ثم هل يستوى المخلوق والخالق؟ هل يستوى من لا يملك ومن يملك؟
هل يستوى من لا يرزق ومن يرزق؟
العقلاء يحكمون بداهة أن لا مساواة بين هذين النقيضين.. ثم يخرجون من هذا إلى الاتجاه إلى الله بالحمد على أن كشف لهم الطريق إليه، وعرّفهم به..
أما أهل الزيغ والضلال، فإنهم لا يجدون فى هذا المثل شعاعة من أضوائه، بل يظلون على ما هم عليه من عمى وضلال..
- وفى قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» إشارة إلى أن هذا هو منطق الذين يستمعون إلى هذا المثل ويعقلون، فيؤمنون بالله ويحمدونه..
قوله تعالى: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».. وهذا مثل آخر، لما بين الحق والباطل من تفاوت كبير، وبعد بعيد..
هذان رجلان: أما أحدهما فأبكم، مغلق الحواس، والمشاعر، والمدارك.
لا يفهم شيئا، ولا يحسن شيئا.. إنه حيوان، يمسك به من مقوده إلى حيث
ذلك هو ما يؤدّى إليه النظر فى هذين المثلين.. وهو أن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد وحده بجلاله، وقيّومته على هذا الوجود.. لا يماثله شىء من خلقه، ولا يوازن به كائن من مخلوقاته.. فله- سبحانه- غيب السموات والأرض.. يعلم ما تكسب كل نفس، وسيوفّى كل إنسان جزاء ما عمل..
وذلك فى يوم الحساب والجزاء، يوم يقوم الناس لرب العالمين..
وهذا اليوم، ليس ببعيد.. لا يحتاج مع قدرة الله إلى معاناة وجهد..
فما هو إلا أن يأذن الله به، فإذا هو واقع فى لمحة كلمحة البصر، أو أقرب..
«إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
الآيات: (٧٨- ٨٣) [سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٨ الى ٨٣]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣)
قوله تعالى: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».. هو إلفات إلى قدرة الله، وإلى ما لهده القدرة من سلطان حكيم، وتصريف محكم.. ففى خلق الإنسان، وفى أطواره التي مرّ بها، ما يفتح للعقل كتابا مبينا، يرى فى صحفه من مظاهر قدرة الله، وعلمه، وحكمته، ما يأخذ بالألباب، ويأسر المشاعر..
من أبن جاء الإنسان؟ وكيف كان هذا الكائن السميع، البصير، العاقل، العالم؟ ألم يكن نطفة، ثم كان علقة، ثم كان مضغة، ثم جنينا.. ثم طفلا؟
ثم كيف بهذا الطفل، الذي استقبلته الحياة أشبه بقطعة من اللحم المتحرك، ثم هو يصبح هذا الإنسان الذي يقود سفينة الكوكب الأرضى، ويقوم عليها خليفة لله فيها؟
- وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» توجيه للقوى العاقلة المدركة فى الإنسان أن تؤدى وظيفتها فيه، وأن يفتح الإنسان منها طاقة على هذا
قوله تعالى: «أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».. هو إشارة إلى آية من آيات الله، خارج كيان الإنسان، وعالمه الداخلى.. فإذا لم يكن فى الإنسان نظر يرى به ما بداخل كيانه، كما يقول الله تعالى: «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» (٢١: الذاريات) - فليقم نظره على هذا العالم الخارجي..
وليوجه مدار نظره على هذا الطير السابح فى السماء، الصّافّ بأجنحته على هذا العالم الأثيرى، وليسأل نفسه: من يمسك هذا الطير أن يقع على الأرض؟
ومن أعطاه تلك القدرة التي يقهر بها جاذبية الأرض، ويخرج بها عن سلطان هذه الجاذبية، فلا يسقط كما يسقط لإنسان القوى العاقل إذا هوى من فوق شجرة، أو دابة مثلا؟ إن القدرة القادرة- قدرة الحكيم العليم- هى التي تمسك بهذا الطير السابح، أو الصاف على موج الأثير.. فى جو السماء! «ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ».
أليس فى هذا آية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؟ بلى إنها لآية لقوم لا يمكرون بآيات الله، ولا يخونون أنفسهم بما تحدثهم به من الحق، فينكرونه فى عناد ومكابرة.
قوله تعالى: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ»..
وإذا قصرت بعض الأنظار أن ترى ما فى جوّ السّماء من طيور سابحة، أو زاغت عن أن ترى وجودها الإنسانى، وما بداخلها من آيات الله فيها، فهذه آيات مبثوثة على الأرض.. لا تحتاج إلى نظر، وإنما هى مما يمسك باليد..
أفبعد هذا يجد العاقل متجها إلى غير الله، يلوذ به، ويعطى ولاءه له؟
قوله تعالى: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ».. أي ومن فضل الله على عباده أن جعل لهم- من غير صنعة منهم- ظلالا يستظلون بها من وقدة الشمس، حيث يجدون هذه الظلال الفسيحة فيما أنبت الله من شجر، كما جعل لهم- من غير عمل ولا جهد- أكنانا من الجبال، يأوون إليها من البرد.. وذلك رحمة من رحمة الله بكثير من الناس الذين لا يتسع حولهم أو حيلتهم، لبناء البيوت، وصنعة المساكن..
كذلك من فضله سبحانه على عباده، أن هيأ لهم أسباب العلم والمعرفة فنسجوا من الحرير، والصوف، والشعر، والوبر.. وغيرها «سرابيل» أي ملابس يتسربلون بها، ويغطون أجسادهم، يتقون بها لفح الهجير، ولذعة السموم..
ثم مكن لهم سبحانه، من أن يتخذوا من الحديد سرابيل، أي دروعا يتقون بها عدوان بعضهم على بعض بالحراب والسيوف..
وفى قصر منفعة السرابيل، التي تتخذ لوقاية الجسم من عادية الحرّ، على هذه المنفعة وحدها، دون ما يتخذ من الملابس لانقاء البرد، أو التجملّ والتزين- فى هذا إشارة إلى تلك المنفعة الخفية التي ربّما غفل عنها كثير من الناس، حيث يحسبون أن اتقاء البرد، هو الدافع الأول للإنسان على اتخاذ الملابس والأغطية
- وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ» الإشارة هنا، إلى تلك النعم السابغة الشاملة، التي تلقى الإنسان حيث كان، وتستقبله أنّى دعت حاجته إليها، وذلك ما لا يخلى إنسانا من واجب الشكر لله ذى الطول والإنعام..
قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ»..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تعقب على تلك النعم التي أفاضها الله على عباده، ولم يحرم أحدا حظه منها.. وفى هذه النعم تتجلّى قدرة الله، وحكمته- فكان لقاء النبىّ قومه بعد هذا العرض العظيم لآيات الله، وتذكيرهم بالله سبحانه، أنسب الدواعي التي تدعو الإنسان إلى لله، وإلى الإيمان به.. فإن تولّى بعد هذا، فليس على الرسول إلا البلاغ المبين، وقد بلّغ الرسول أبين بلاغ وأوضحه..
قوله تعالى: «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ» هو كشف عن هؤلاء المشركين، وما انطوت عليه نفوسهم من ضلال وظلام..
«يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ» ويشهدون آثارها فيهم وفيمن حولهم «ثم ينكرونها» ظلما وبغيا.. ومن نعم الله التي أنعم عليهم بها، هذا القرآن الكريم، الذي يعرفونه ويعرفون ما فى آياته من حق وصدق.. ولكنهم يكابرون ويعاندون، فينكرونه، ويصمّون آذانهم عنه، ويغلقون قلوبهم دونه.
- وفى قوله تعالى: «وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ» إشارة إلى ما استولى على قلوب الكثرة فيهم، من كفر صريح غليظ، كما يدل على ذلك تعريف الخبر
الآيات: (٨٤- ٨٩) [سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٤ الى ٨٩]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
التفسير:
قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ».. هو وعيد للكافرين، وما يلقون يوم القيامة من ذلّة وهوان، وما ينزل بهم من بلاء وعذاب.. ففى هذا اليوم تجىء كل أمة، ومعها رسولها الذي بعث فيها، ليؤدّى فيهم الشهادة بين يدى الله، كما يقول سبحانه:
«فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» (٦: الأعراف) وكما يقول تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» (٧١: الإسراء).
قوله تعالى: «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ».. أي حين يشهد الظالمون، العذاب، ويستيقنون أنهم صائرون إليه، يفزعون منه، ويشتد بهم البلاء، ويحيط بهم الكرب.. ولكن لا مفزع لهم..
فذلك هو العذاب لذى أعدّ لهم، ولن ينظروا ويمهلوا، بل يلقى بهم فيه قبل أن يردّوا أبصارهم عنه.
قوله تعالى: «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ».
هذا مشهد من مشاهد القيامة. وفيه، يرى المشركون وقد دارت أعينهم تبحث عن طريق للنجاة، من هذا البلاء المحيط بهم، حتى إذا رأوا شركاءهم الذين عبدوهم من دون الله تعلقوا بهم قائلين: «رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ».. إنهم هم الذين أضلونا، ووقفوا فى طريقنا إليك..
«فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ» أي رموهم بهذه الكلمات القاتلة التي قطعت هذا الحبل الذي تعلقوا به، وظنوا أنهم ناجون.. «إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ» أي إننا لم ندعكم إلى عبادتنا، بل عقولكم الفاسدة، هى التي أضلتكم، وأرتكم منّا ما رأيتم، حتى جعلتمونا آلهة تعبد من دون الله..
قوله تعالى: «وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ..»
قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ» - وأولئك هم الذين كفروا بالله ثم لم يقفوا عند هذا الجرم الغليظ، بل حالوا بين الناس وبين الهدى والإيمان، فقعدوا لهم بكل سبيل، وتسلطوا عليهم بكل سلطان ليردّوهم عن مورد الحق.. فهؤلاء لهم عذاب فوق العذاب الذي استحقوه بكفرهم.. وفى هذا يقول الله تعالى.
«وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» (١٣: العنكبوت).
- وفى قوله تعالى: «بِما كانُوا يُفْسِدُونَ» بيان للسبب الذي من أجله ضوعف لهم العذاب، وهو أنهم مع كفرهم بالله، كانوا يفسدون فى الأرض، ويفتنون الناس فى دينهم.
قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ»..
هو خطاب للنبىّ الكريم، وبيان لموقفه من قومه يوم القيامة، فهو الشهيد عليهم، كما أن كل نبى سيكون شهيدا على قومه..
- وفى قوله تعالى: «وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ» الإشارة هنا بهؤلاء، تتجه أولا إلى أولئك المشركين، الذين يتولّون كبر الوقوف فى وجه الدعوة الإسلامية، ويحادّون الله ورسوله.. ثم إلى من بلغته الدعوة.
- وقوله تعالى: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ»..
وخصّ المسلمون بالذكر، لأنهم هم أهل هذا الكتاب، وهم المسمّون بالمسلمين، كما يقول الله تعالى: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» (٧٨: الحج) فهم مؤمنون ومسلمون.. أما غيرهم من أتباع الرسل فهم مؤمنون أصلا، مسلمون تبعا.
[القرآن الكريم.. والحقائق الكونية]
هذا، وقد أخذ بعض المفسرين من قوله تعالى: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» أن القرآن الكريم يحوى فى آياته وكلماته علوم الأولين والآخرين، ، وأنه خزانة المعارف كلها، ما عرفت الإنسانية منها وما لم تعرف، وجاءوا على هذا بشاهد آخر من القرآن الكريم وهو قوله تعالى: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» (٣٨: الأنعام).. وهذا ماحدا بكثير من علماء المسلمين إلى أن ينظروا فى كتاب الله على أنه كتاب علمىّ، يقرر حقائق علمية، تكشف عن أسرار هذا الوجود، وتحدّث عن القوانين المتحكمة فيه، وخرّجوا على هذا كثيرا من الآيات الكريمة، يقابلون بينها وبين ما كشف عنه العلم من أسرار الكون، وقوانينه.
إن داء التحكك بالقرآن الكريم، ومحاولة استخلاص علوم كونية، وأسرار دفينة- داء قديم، أصيب به كثير من الناس، فانحرفت نظرتهم إلى كتاب الله
يقول الإمام الشاطبي: «إن كثيرا من الناس، تجاوزوا فى الدعوى على القرآن الحدّ، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين والمتأخرين.. من علوم الطبيعيات، والتعاليم- أي العلوم الرياضية- والمنطق، وعلم الحروف- اليازرجة- وجميع ما نظر فيه الناظرون، من هذه الفنون وأشباهها..
ثم يقول: «وربما استدلّوا على دعواهم بقوله تعالى: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ».. وقوله: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ»..
ونحو ذلك.. وبفواتح السور- وهى ما لم يعهد عند العرب- وبما نقل عن الناس فيها، وربّما حكى ذلك عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وغيره- أشياء..!
«فأما الآيات.. فالمراد بها عند المفسّرين، ما يتعلق بحال التكاليف والتعبّد، أو المراد بالكتاب فى قوله تعالى: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» :
اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها- أي التفاسير- ما يقتضى تضمنه- أي القرآن- لجميع العلوم النقلية والعقلية.
هذا ما يقرره الإمام الشاطبي فى جلاء لا يحتاج إلى تعقيب! والذي يمكن أن نقوله، هو أن القرآن الكريم هو مادة العلم، ومائدة العلماء، وأنه مادة لا تنفد أبدا بالأخذ منها، بل تزداد على الأخذ وتعظم، وأنه مائدة تسع الناس جميعا، وتعذّى عقولهم، ومشاعرهم، غداء طيّبا مشبعا، على اختلاف مداركهم، وتباين مشاعرهم..
وإن العلم هو الذي يجعل لنا نظرا كاشفا لبعض ما فى آيات القرآن الكريم من روائع وعجائب، وإن العلم هو الذي يعين على فهم المستور من أسرار الكتاب الكريم، وما أودع فيه من علم وحكمة..
إن العلم ليلتقى مع القرآن الكريم لقاء الماء يدفع به السيل فى صدر المحيط، فيذوب فيه، ويصبح بعض مائه، إذ ليس العلم كله- ما عرف الناس منه وما سيعرفون- إلا قطرة أو قطرات من محيط هذا البحر الزخار..
«قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» (١٠٩: الكهف).
فإذا انكشف للناس فى الحياة ضوءة من أضواء العلم، فهى بعض ما فى القرآن الكريم من علم، إذ كان مجتمع آيات الله ومكنون علمه.
هذا، ومع قولنا بأن القرآن الكريم، قد حملت آياته المطهرة، أسرارا
تلك هى المهمة الأولى للقرآن الكريم، وقد انكشفت هذه الغاية من القرآن الكريم للمسلمين، فى الصدر الأول للإسلام، انكشافا تامّا، فأحذوا حظهم كاملا منها، على نحو لم يكن للخلف من بعدهم أن يبلغوا منه بعض ما بلغوا، على وجه لم تشهد الحياة مثيلا له فى سموّ الإنسان وعظمته، واستعلائه على كل ضعف بشرى..
مهمة القرآن الكريم الأولى إذن، هى أن يصنع هذا الإنسان المتكامل السوىّ فى مداركه، وعواطفه، ومشاعره.. أو بمعنى آخر هى أن يحفظ على الإنسان فطرته السليمة، وأن يغذيها بهذا الغذاء السماوىّ، الذي يقيمها على طريق الحق، والعدل، والإحسان. ثم يدع لهذا الإنسان وجوده هذا، يتعامل به مع الوجود كله، فينظر فيه بعينه، ويفكر فيه بعقله، ويقطف من ثماره ما تطول يده، ويبلغ عزمه، وصبره، وجهده..
هذا هو الإنسان الذي يتربّى فى حجر القرآن، ويغتذى من أنواره.. هو الإنسان الذي يتقدم ركب الإنسانية فى عصره الذي يعيش فيه.. فإذا تخلف عن مكان القيادة والصدارة، لم يكن هو الابن الذي ينتسب إلى القرآن، ويحسب على الإسلام.
ولو كان هذا من تدبير القرآن، ومن غاياته، لما جاء على هذا الأسلوب ذى الرنين النفاذ والإشعاع اللماح من النظم، بل لجرى على ذلك الأسلوب العلمىّ، الذي تبرز فيه الحقائق العلمية مضغوطة فى قوالب من اللفظ، أشبه بالأرقام الحسابية، التي لا يختلف عليها أحد، ولا تكتم عن أحد شيئا وراءها..
ولو كان ذلك من شأن القرآن، لما كان معجزة الدهر الخالدة، ولأخذ الناس منه كل ما فيه، لأول عهدهم به، ثم لم يطلعوا إلى جديد غيره، شأن الكتب العلمية، التي تعيش فى الناس زمنا، ثم لا يكادون يلتفتون إليها بعد هذا.
ولو كان ذلك من شأن القرآن أيضا لكان ذلك داعية من دواعى التخدير العقلي للإنسان، والتحريض له على الاستنامة فى ظل هذا الغذاء الممدود له على مائدة مهيأة، لم يعمل لها، ولم يسع إليها.. الأمر الذي يقطع الصلة التي أراد القرآن أن يقيمها بين أتباعه وبين هذا الوجود أبد الدهر، ينظرون فيه نظرا مجددا، ويطالعون فى صحفه آيات الله وكلماته التي لا تنفد أبدا..
إنه ليس هذا من شأن القرآن أبدا، ولا من تدبيره بحال.. فإن دعوة القرآن، هى إيقاظ مشاعر الإنسان، وتنبيه ملكاته، وتوجيه نوازعه وسلوكه إلى العمل فى طريق مستنير، واضح، مستقيم..
ومن هنا كانت آيات القرآن الكريم متجهة إلى القلب أولا.. إلى المشاعر، والوجدانات، والأحاسيس المائجة فيه، المتقلبة بين صفو وكدر، وبين نور وظلام، فإذا أصابها قبس من نور الحق الذي نزل به القرآن، سكن مائجها، وصفا
إن القرآن الكريم، هو شريعة ووازع معا، هو قانون، وهو فى الوقت نفسه السلطان الذي يقيم أحكام هذا القانون.. أو هو بلغة العصر هو سلطات:
تشريعية، وقضائية، وتنفيذية.. جميعا..
وبالكلمة، وبالكلمة وحدها، جاء القرآن، ليقيم فى كيان المسلم قانونا يدركه بعقله، ويحتكم إليه بقلبه، ويمضيه بوجدانه، وينفّذه بجوارحه.. ولن يكون ذلك للكلمة إلا إذا كانت كلمة الله، كلمة القرآن، التي تملك بسلطانها الإنسان كله: عقله، وقلبه، وضميره..!
وينتهى من هذا إلى القول بأن القرآن الكريم، هو تبيان لكلّ شىء، كما وصفه تبارك وتعالى، وأنه كما يقول الحق جلّ وعلا فيه: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ».. ولكن لا بما تحمل آياته وكلماته من حقائق علمية، يجدها الناظرون فى منطوق تلك الآيات وهذه الكلمات، أو فى مفهومها- وإنما بما تنير هذه الآيات وتلك الكلمات من بصائر، وبما تكشف من عمى، وبما تمكّن للإنسان من قوى روحية وعقلية يستطيع بها أن يثبّت قدمه على طريق الحقّ، ويتهدّى بها إلى مواقع الخير..
فالإنسان الذي يعرف ربّه مهتديا بهدى القرآن، مستضيئا بنوره، هو إنسان قد عرف كلّ شىء يستطيع أن يبلغه العقل الإنسانى فى أعلى مستوياته، وأرفع منازله.. فإذا بلغ الإنسان هذه المنزلة، وارتفع إلى هذا المستوي كانت آيات الله وكلماته فى كتابه الكريم، هى الوجود كله، وكان الوجود بين يديه صفحات يقرأ فيها ما يفتح الله له من أبواب العلم والمعرفة..!
فهذا القصور العلمي الذي نحن فيه، وهذا التخلف الاجتماعى الذي يضع
ففى كتاب الله مفاتح العلم كلّها، بما يفتح من بصائر، وما يشرح من صدور، وما يعمر من قلوب، وما يشيع فى النفوس من سلام، ورضى وطمأنينة، وبهذا يقف الإنسان من هذا الكون وقفة خبير بصير، وينظر إليه نظرة متوسّم دارس، يربط المسببات بالأسباب، ويصل المعلولات بالعلل، فإذا هذا الوجود وحدة متماسكة متناعمة، يجتمع قريبها إلى بعيدها، ويلتقى علوها مع سفلها، بيد القدرة القدرة، وتدبير الحكمة العالية.. «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ» ! والنظر الذي يدعو إليه القرآن الكريم، ويوجهه إلى هذا الوجود، ليس نظرا حالما مستسلما لتلك المشاعر الغافية، التي تهدهدها نغمات الجمال والانسجام التي تنجلى فى صفحة الكون، فذلك نظر سلبى لا يغنى من الحقّ شيئا.. إنه أشبه بأحلام اليقظة، وخيالات الشعراء.. وإنما الذي يدعو إليه القرآن الكريم، هو النظر اليقظ الجادّ، الباحث عن الحقيقة، فى أعماق الأشياء، وإن صحبه فى ذلك ما يصحبه من مشاعر الجمال والجلال، فذلك هو الذي يشوقه إلى الحقيقة، ويغريه بالبحث عنها والتعامل معها، فيكون له من تلك المشاعر قوىّ تعينه على البحث والدرس، وتخفف عنه معاناة التأمل والتخيل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
.. فمن ثمرة هذا النظر الذي ينظر به أولوا الألباب فى خلق السموات والأرض، هى تلك الحقيقة التي إليها يؤدى هذا النظر، وهو التعرف على الله سبحانه وتعالى، والاستدلال على وحدانيته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وأن هذا الوجود ما خلق إلا بالحق، وما قام إلا على سنن وقوانين تمسك به، وتحفظ عليه وجوده ونظامه..
الآيات: (٩٠- ٩٧) [سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٠ الى ٩٧]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤)
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)
قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنه وقد ذكر الله سبحانه وتعالى فى الآية السابقة: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» ناسب أن يجىء بعدها بيان لما فى القرآن الكريم من تبيان لكل شىء، وهدى، ورحمة، وبشرى للمسلمين.. وهذا ما ضمت عليه هذه الآية:
«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ..»
فما فى القرآن الكريم كله، هو دعوة إلى العدل والإحسان وإيتاء ذى القربى، ونهى عن الفحشاء، والمنكر والبغي..
فالعدل هو القيام على طريق الحق فى كل أمر.. فمن أقام وجوده على العدل استقام على طريق مستقيم، فلم ينحرف عنه أبدا، ولم تتفرق به السبل إلى غايات الخير..
ومن أتبع العدل بالإحسان، انما الخير فى يده، وطابت مغارسه التي يغرسها فى منابت العدل..
وقد جاء الأمر بالعدل والإحسان مطلقا، ليحتوى العدل كله، ويشمل الإحسان جميعه.. فهو عدل عام شامل.. حيث يعدل الإنسان مع نفسه، فلا يجوز عليها بإلقائها فى التهلكة، وسوقها فى مواقع الإثم والضلال.. ويعدل
كذلك الإحسان، هو إحسان مطلق، يتناول كل قول يقوله الإنسان، وكل عمل يعمله.. وإحسان القول أن يقوم على سنن العدل، والحق والخير..
وإحسان العمل ينضبط على موازين الكمال والإتقان.. كما بقول سبحانه:
«وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (١٩٥: البقرة).
بل إن الإحسان، هو الإيمان بالله على أتم صورة وأكملها، بحيث لا يبلغ درجة الإحسان، إلا من عبد الله على هذا الوجه الذي بينه الرسول الكريم، فى قوله حين سأله جبريل، وقد جاء على صورة أعرابى، فقال: «ما الإحسان؟
فقال صلوات الله وسلامه عليه: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك..»
- وقوله تعالى: «وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى» هو عدل وإحسان معا.. والإيتاء هو الإعطاء، وفعله آتى، بمعنى أعطى.. ولا يستعمل الإيتاء إلا فى مقام البرّ والإحسان.. والبر بذي القربى هو عدل، لأنه وفاء لحق القرابة، وهو إحسان إذا قدمته النفس فى سماحة ورضى.
- وقوله تعالى: «وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ» هو نهى عن محظورات، فى مقابل ما أمر الله به من عدل وإحسان، وبرّ بالأقارب.. وفى توارد الأمر والنهى على أمر من الأمور، توكيد للإتيان بالمأمور به..
فالفحشاء، ما قبح من الأمور، وعلى رأسها «الزنا».. وإتيان الفاحشة ظلم للنفس، وعدوان على حرمات الناس.. وفى هذا مجافاة للعدل..
والمنكر، كل ما تنكره العقول السليمة على من يفعله.. سواء أكان
والبغي: الجور، والظلم، وهضم الحقوق. وهو مجف للعدل والإحسان معا..
- وقوله تعالى: «يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» هو تنبيه لما تحمل آيات الله للناس من آداب. وأحكام، تدعو إلى الحق، والخير، وتذكّر بهما، وتفتح للعقول الراشدة والقلوب السليمة طريقا إليهما..
وهذه الآية الكريمة، تجمع أصول الشريعة الإسلامية كلها.. فهى أقرب شىء إلى أن تكون عنوانا للرسالة لإسلامية، ولكتابها الكريم، إذ لا تخرج أحكام الشريعة وآدابها عن هذا المحتوى الذي ضمت عليه تلك الآية: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ». وما فى كتاب لله كله هو شرح لما أمر الله سبحانه به من العدل والإحسان، وإيتاء ذى القربى، وما نهى عنه من الفحشاء والمنكر والبغي.
قوله تعالى: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ».
العهد: الميثاق، يكون بين الناس والناس، أو بين الناس ورب الناس..
وعهد الله.. هو العهد الذي يوثق باسمه، ويقام تحت ظل سلطانه..
ونقص العهد: نكثه، وعدم الوفاء به..
والكفيل: هو الضامن لما كفل من عهد.
ومعنى الآية الكريمة، هو أمر ملزم للمؤمنين بالله بالوفاء بعهد الله، الذي وثقوه باسمه، وجعلوه كفيلا وضامنا لما عاهدوا عليه.. إذ كان باسمه تعالى
وتلك جرأة على الله، واستخفاف بقدره، وليس لمن يتعرض لهذا، إلا أن ينتظر ما يحلّ به من غضب الله ونقمته.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» تحذير من نكث العهد، ومن التلاعب باسم الحق جل وعلا.. فهو- سبحانه- يعلم من بفي بعهده، ويعرف لاسمه الكريم جلاله، ومن لا يوقّر الله، ولا يحفل بالعهد الذي قطعه، وأشهد الله عليه.. والله- سبحانه- غيور على حماء أن يستباح.. فمن استباحه، فقد أورد نفسه موارد الهالكين..
قوله تعالى: «وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».
الغزل: ما يغزل من صوف، وغيره.. ونقض الغزل: حلّه بعد فتله وغزله، فيتقطع، ويتفتت، ولا يعود إلى مثل حالته الأولى لو أعيد غزله، كشأن من بينى ثم يهدم ما بنى.. فلو أراد أن يبنى بما هدم، لا يستقيم له بناء..
والأنكاث: جمع نكث، وهو ما يكون من خيوط النسيج بعد نقضها، لإعادة غزلها ونسجها، بعد أن تصبح قطعا مهلهلة.
الدّخل: الفساد. والأمة: الجماعة. وأربى: أكبر قوة، وأكثر عددا.
- وقوله تعالى: «تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ» جملة حالية.. فهم إذ يتخذون أيمانهم التي يوثّقون بها العهود بينهم. ثم ينقضونها- هم أشبه بتلك المرأة التي تغزل غزلا، ثم تعود فتنقضه، قبل أن تنسجه، وينتفع به! وقوله تعالى: «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ» هو تعليل لنقص العهد، واتخاذ الأيمان ذريعة للإفساد، وتلبيس الأمور على الناس، وذلك أن هذا النكث بالعهد كان ممالأة لجماعة قوية على حساب جماعة ضعيفة. أي أنكم تتخذون أيمانكم التي لا تبرّون بها، للإفساد لا للإصلاح، حين تميلون عن الحق، وتنحازون إلى جانب الأقوياء، فتنقضون العهد الذي كان بينكم وبين الجانب الضعيف، لتتحولوا بذلك إلى الجانب القوىّ.
وهذه الآية خاصة بحال من أحوال نقض العهد، وهى تلك الحال التي يكون الداعي فيها إلى نقض العهد هو الميل إلى جانب الأقوياء، والتخلّي عن جانب الضعفاء، وذلك بأن يكون الناقض للعهد، بينه وبين جماعة عهد موثق، فإذا رأى جماعة أخرى ذات شوكة وقوة انضمّ إليها، ونقض عهده الذي كان بينه وبين الجماعة الضعيفة، غير ملتفت إلى هذا العهد الذي بينه وبينها.
أما ما يتصل بنقض العهود عامة، فقد جاء فى قوله تعالى بعد هذه الآية:
«وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها... الآية».
فمن وفّى بالعهد فقد أبرأ ذمته، واستحق الجزاء الحسن من ربه، ومن نكث، فهو غريم لله سبحانه وتعالى، وسيقتصّ الله منه.
قوله تعالى: «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».. هو معطوف على محذوف تقديره: «ليعلم». ومعنى الآية مرتبط بالآية قبلها، والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى، إنما ابتلاكم بهذا التكليف، وهو الوفاء بالعهود، ليعلم المفسد من المصلح، والناكث للعهد والموفى به، وليبين لكم يوم القيامة هذا الذي أنتم مختلفون فيه، بين مفسد ومصلح، وعاص ومطيع، وناقص للعهد، وموف به.
قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».
هو تعقيب على قوله تعالى: «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» - أي هذا الخلاف الواقع بين الناس، هو مما قضت به حكمه لله فيهم.. فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، تجرى أمورهم جميعا فيها على نمط واحد، كما هو شأن الأمم الأخرى من عالم الحيوان، لا اختلاف بين أفراد الأمة الواحدة منها، فى سلوكها، وفى منازع حياتها، وأسلوب معيشتها، حيث تسير جميعا فى طريق واحد، وعلى اتجاه واحد، لا يشذّ عنه فرد من أفرادها.. وليس كذلك شأن الناس، فكل فرد، هو أمة فى ذاته. له مدركاته، ومشاعره، وأنماط سلوكه.. بحيث لا يكاد يتشابه إنسان بإنسان، أو يلتقى
على أن اختلاف الناس هذا الاختلاف الذي لا يتشابه فيه إنسان مع إنسان، ليس بالذي يفرّق بينهم، أو يقطع علائق الإنسانية التي تشدّ بعضهم إلى بعض، وتجمع بعضهم إلى بعض، فهم وإن تفرقوا مدركات، وطبائع، ومنازع، واختلفوا مشارب ومسالك وسبلا- هم مجتمعون على مورد الإنسانية، حيث يجتمعون شعوبا، وقبائل، وأمما.. ثم تضيق شقّة الخلاف بينهم شيئا فشيئا، حتى تكون خطا واحدا يفصل بين المجتمع الإنسانىّ كله، ويجعله فريقين: مؤمنين وكافرين.. مهتدين وضالين. حتى لكأن ذلك فى أصل خلقتهم، كما يقول الله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ.. فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (٢: التغابن).
- وقوله تعالى: «وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ».. هو بيان لمشيئة الله الشاملة، التي إليها إضلال الضالين، وهداية المهتدين..
- وفى قوله تعالى: «وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» تحريك لمشيئة الإنسان وإرادته، مع إرادة الله سبحانه ومشيئته.. وذلك حتى لا يعطل الإنسان وجوده كإنسان له إرادة، وله مشيئة.
فمطلوب من الإنسان أن يعمل إرادته ومشيئته، وأن يحركهما فى الاتجاه الصحيح الذي يقضى به العقل، وتدعو إليه الشرائع السماوية، وتحدده القوانين الوضعية..
وكما لا يعفى الإنسان نفسه من التحلل من القوانين الوضعية، بل يعمل على حراسة نفسه من الخروج عليها، ويحذر الوقوع تحت طائلة العقاب المرصود له
إن الإنسان مسئول عن تصرفاته كإنسان رشيد، وليس من شأنه أن يسأل الله سبحانه وتعالى عن مشيئته فيه، وما يريده به.. فذلك إلى الله وحده..
يقضى فيه بما يشاء ويريد.!
قوله تعالى: «وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ»..
هو توكيد للوفاء بالعهود والمواثيق التي أعطيت باسم الله، وتحذير من الاستخفاف بجلال الله الذي أشهد على هذه العهود والمواثيق.. فإنّه لا يجرؤ على النكث بعهد الله إلا من استخفّ بالله، واتخذ من اسمه الكريم وسيلة يتوسّل بها إلى الغدر بالناس، وأكل أموالهم بالباطل.. وذلك إن لم يكن كفرا صريحا، فإنه مدخل واسع إلى الكفر! - وفى قوله تعالى: «فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها» إشارة إلى أن الاستخفاف باسم الله، ونقض العهد الموثّق باسمه، هو مزلق إلى الكفر، حيث ينزلق الإنسان شيئا فشيئا إليه، فتزل قدمه عن طريق الحق، فإذا لم ينتزع نفسه، مما وقع فيه، مضى به الطريق إلى حيث يضع قدميه جميعا على طريق الضلال.. ثم يمضى فيه إلى غايته.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف: «وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار.. وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا»..
- وقوله تعالى: «وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» هو بيان للنهاية التي تنتهى إليها حال من يستخفّ باسم الله، حتى
وليس لمثل هذا الإنسان إلّا أن يذوق السوء والهوان فى الدنيا، والعذاب العظيم فى الآخرة..
قوله تعالى: «وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».
هو تحذير، بعد تحذير، بعد تحذير، من الاستخفاف بعهد الله، وبالأيمان التي يحلف بها الحالفون باسمه.. إذ أن ما يبتغيه الناكثون لعهد الله، والحانثون بيمينه، هو التوسل إلى الحصول على متاع من متاع هذه الحياة الدنيا بغير حق.. وهذا المتاع وإن كثر، هو إلى زوال، وهو قليل إلى ما يعقب من خسران وحسرة وندامة فى الدنيا والآخرة.. فلو أن الإنسان الذي أعطى عهدا باسم الله، حفظ هذا العهد، ووقّر الله فلم يحنث بيمينه، ووطن نفسه على الصبر إزاء هذا المتاع الزائل الذي يلوح له من وراء الحنث بيمينه- لو أنه فعل هذا لوجد عاقبة ذلك خيرا كثيرا، وجزاءا حسنا جزيلا عند الله، ولتقبّل الله تعالى منه هذا العمل الطيب، وجعله له عدّة فى الدنيا، وزادا كريما طيبا فى الآخرة، لا يخالطه خبث مما عمل من سيئات، كما يقول الحق جلّ وعلا: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» (١٦ الأحقاف).
قوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».
فالأعمال الحسنة جميعها مقبولة عند الله، سواء ما كان منها من قول أو عمل، وسواء أكانت صادرة من ذكر أو أنثى من عباد الله.. فالناس جميعا على اختلاف أجناسهم، وتباين صورهم وأشكالهم، سواء عند الله، يخضعون لقانون سماوى عام، لا محاباة فيه، ولا تفرقة بين إنسان وإنسان.. إلا بالعمل..
وقد خصّ الذكر والأنثى بالذّكر هنا، لأنهما يمثلان جانبى الإنسانية كلها، إذ كانا مصدر المجتمعات الإنسانية كلها.. كما يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى» (١٣: الحجرات).. ومن جهة أخرى، فإنه إذا كان الاختلاف النوعىّ بين الذكر والأنثى أمام القانون السّماوى على منزلة سواء- كانت التسوية بين الناس جميعا أمام هذا القانون أحق وأولى..
وقوله تعالى: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» جملة حالية، وهذه الحالة قيد واقع على الشرط الذي لا يتحقق جوابه إلا وهو مقترن بهذا القيد.. فالإيمان شرط لازم لقبول العمل الطيب، والجزاء عليه.. وكل عمل لا يسبقه إيمان بالله، هو عمل ضالّ، مردود على صاحبه.. لأنه قدّمه غير ناظر إلى الله سبحانه وتعالى، ولا محتسب له أجرا عنده، إذ كان غير معترف بوجوده.. فالعمل الصالح الذي لا يزكيه الإيمان بالله، أشبه بالميتة التي لم تدركها زكاة بالذبح، ويذكر اسم الله عليها..
وقوله تعالى: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً».. المراد بالحياة، هى الحياة الدّنيا، وطيب هذه الحياة يجىء من نفحات الإيمان بالله، تلك النفحات التي تثلج الصدر بالطمأنينة، والرضا، وتدفىء النفس بالرجاء والأمل، بتلك القوة التي لا حدود لها، والتي منها مصادر الأمور، وإليها مصائرها.. وذلك كلّه من
«مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ..» (١٣٤: النساء) - فى قوله تعالى: «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» اختلف النظم هنا بعودة الضمير جمعا على أداة الشرط «من» بعد عودته عليها مفردا فى قوله تعالى: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً»، وذلك ليتحقق أولا لكل من جنسى الذكر والأنثى هذا الحكم، فإذا تقرر ذلك، وعرف كل منهما أنه مجزىّ عن عمله، بلا تفرقة من حيث النوع- عاد الضمير إلى من يشملهم الجنسين ممن يعملون الأعمال الصالحة.. من الناس جميعا.
الآيات: (٩٨- ١٠٢) [سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٨ الى ١٠٢]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)
التفسير:
قوله تعالى: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة جاءت بوعد كريم من رب كريم، لعباده الذين يؤمنون بالله ويعملون الصالحات، بأن لهم حياة طيبة فى الدنيا، وأجرا عظيما فى الآخرة- فناسب ذلك أن يقدّم للمؤمنين دستور
ومن آداب تلاوة القرآن، أن يستفتح التالي تلاوته بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.. وذلك أن قارئ القرآن إنما يلتقى بالله عن طريق كلمات الله التي يتلوها.. وإذ كان هذا شأنه، فقد كان من المناسب فى هذا اللقاء الكريم أن يخلى نفسه من وساوس الشيطان، ومن كل داعية إليه، وأن يرجم الشيطان بمشاعر الإيمان التي يستحضرها وهو يتهيأ للقاء الله مع كلمات الله.. ثم يستعين على ذلك بالله، فيدعوه متعوّذا به من هذا الشيطان الرجيم، الذي رحمه الله سبحانه بلعنته، وطرده من مواقع رحمته..
فالدعوة إلى الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فى هذا الموقف الذي يقف فيه الإنسان بين يدى كلمات الله، هى فى الواقع دعوة إلى إعلان الحرب من داخل الإنسان على هذا الشيطان، الذي يتربص بالإنسان، ويقعد له بكل سبيل.. وبهذا يقبل قارئ القرآن على آيات الله بقلب قد أخلاه لها من كل وسواس.. وبهذا أيضا تؤثّر كلمات الله أثرها الطيب فيه، فينال ما شاء الله أن ينال من ثمرها المبارك.
قوله تعالى: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» - هو تعليل لتلك الدعوة إلى الاستعاذة من الشيطان الرجيم عند الاستفتاح بتلاوة القرآن الكريم.. وذلك أن الإنسان إذا ذكر الله، واستشعر جلاله وعظمته، ولجأ إليه، مستعيذا به من وساوس الشيطان، وكيده، ومكره- إنه إذا فعل الإنسان ذلك فرّ الشيطان من بين يديه، ونكص على عقبيه مستخزيا ذليلا، ولم يكن له ثمّة سلطان عليه حينئذ، لأنه أصبح بذلك من عباد الله الذين يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
(٦٥: الإسراء).. وعباد الله، هم الذين يتعاملون مع الله، ويعادون عدوّ الله.
قوله تعالى: «إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ»..
الذين يتولون الشيطان هم الذين يوالونه، ويسلمون إليه زمام أمرهم، فلا ينظرون إليه نظر العدوّ المتربص بهم، ولا يلقون كيده، ومكره بأى شعور محاذر منه..
فهؤلاء هم أولياء الشيطان.. وهؤلاء هم الذين أصبحوا رعيّة للشيطان، يتسلط عليهم كيف يشاء، ويسوقهم إلى المرعى الذي يريد.. وهو مرعى وبيل..
لا ينبت فى أرضه إلا الخطايا والآثام..
- وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ» - الباء فى «به» للسببية، والضمير يعود إلى الشيطان.. والمعنى أن الشيطان إنما يتسلط بسلطانه على من يستسلمون له، ويتخذون وليّا من دون الله، ويصبحون بسبب هذا الولاء له، من المشركين بالله. لأنهم عبدوا الشيطان من دون الله.
قوله تعالى: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ».
[مع النسخ.. مرة أخرى] أكثر المفسرين على أن الآية الكريمة نصّ فى تقرير النسخ فى القرآن، وتبديل آية بآية.. ولهم على ذلك كلمة «بدّلنا» التي تدل على التبديل، وإحلال آية مكان آية.. ثم قوله «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ» فيه قرينة دالة على أن التبديل واقع فى المنزّل من عند الله، وهو القرآن.. ثم ما يظاهر هذا من قوله تعالى: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها».. فهذه
ثم إنهم- بعد هذا، أو قبل هذا- يأتون شاهدا على ذلك بأكثر من رواية تحدّث عن سبب نزول هذه الآية.. وأنها كانت ردّا على المشركين، الذين كانوا كلما ورد نسخ لحكم من الأحكام التي كانت شريعة للمسلمين زمنا- قالوا: إن محمدا يقول ما يشاء، حسبما يرى.. ولو أن هذا القرآن كان من عند الله، لما وقع فيه هذا التناقض فى الأحكام، ولجاء الحكم قولا واحدا، لا نقض له، ولا تبديل فيه!! هذه بعض مقولات القائلين بالنسخ، وتلك بعض حججهم عليه..
ونحن على رأينا الذي اطمأن إليه قلبنا، من أنه لا نسخ فى القرآن.. وأن هذه الآية الكريمة- مع شىء من النظر والتأمل، ومع إخلاء النفس من ذلك الشعور المتسلط على جمهور المسلمين من أن النسخ فى القرآن حقيقة مقررة، تكاد تكون شريعة يدين بها المسلم، ومعتقدا يعتقده- نقول إن هذه الآية الكريمة لا تفيد بمنطوقها أو مفهومها دلالة على النسخ.. وذلك:
أولا: منطوق الآية هو: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ».. فلو كان معنى التبديل المحو والإزالة، لما جاء النظم القرآنى على تلك الصورة، ولكان منطق بلاغته أن يجىء النظم هكذا: «وإذا بدّلنا آية بآية».. ولما كان لكلمة «مكان» موضع هنا..
فما هو السر فى اختيار القرآن الكريم لكلمة «مكان» بدلا من حرف الجر وهو الباء؟ نرجئ الجواب على هذا الآن، إلى أن نفرغ من عرض القضية.
وثانيا: مفهوم كلمة «التبديل» بأنه محو وإزالة، أو تعطيل ونقض- يتعارض مع ما تنزهت عنه كلمات الله، من أي عارض يعرض لها، فيغيّر وجهها،
وإذن فما تأويل هذه الآية؟ وما المراد بالتبديل لآية مكان آية؟
الجواب- والله أعلم- أن المراد بتبديل آية مكان آية هنا، هو ما كان يحدث فى ترتيب الآيات، فى السور، ووضع الآية بمكانها من السورة، كما أمر الله سبحانه وتعالى.. وذلك أن آيات كثيرة كانت مما نزل بالمدينة، قد وضعت فى سور مكية، كما أن آيات مما كان قد نزل بمكة، ألحقت بالقرآن المدنىّ..
وهذا الذي حدث بين القرآن المكي والمدنىّ من تبادل الأمكنة للآيات بينهما، قد حدث فى القرآن المكىّ، والمدني- كلّ على حدة- فكانت السورة المكية مثلا تنزل على فترات متباعدة، فتنزل فاتحتها، ثم تنزل بعد ذلك آيات آيات، حتى يتم بناؤها..
وعلى هذا، فإن تبديل آية مكان آية، هو وضع آية نزلت حديثا بمكانها الذي يأمر الله سبحانه وتعالى أن توضع فيه بين آيات سبقتها بزمن.. قد يكون عدة سنين..!
فقد اتفق علماء القرآن على أن آيات نزلت بمكة، ثم حين نزل من القرآن
ومن أمثلة هذا، قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ».. فهذه الآية مكية باتفاق، وقد وضعت فى سورة الأنفال، وهى مدنية باتفاق أيضا..
وهذا يعنى أن الآية من هذه الآيات كانت تأخذ مكانها مؤقتا فى السورة المكية، حتى إذا نزلت سورتها المدنية أخذت مكانها الذي لها فى تلك السورة..
ومن هذا أيضا قوله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ..» إلى آخر سورة التوبة.. وهاتان الآيتان مكيتان، وقد وضعتا بمكانهما من آخر التوبة، وهى مدنية..
وهكذا كان الشأن فى السّور المكية، فإنها كانت تستقبل جديدا من الآيات المدنية، تأخذ مكانها المناسب لها بين آيات السورة، حيث يأمر الله..
وذلك كثير فى القرآن الكريم، وقلّ أن تخلو سورة مكية من دخول آية أو آيات مدنية على بنائها..
فهذا التدبير السماوي لبناء القرآن الكريم، وترتيب الآيات فى السور- اقتضى أن تأخذ بعض الآيات أمكنة ثابتة دائمة، بدلا من أمكنتها الموقوتة التي كانت تأخذها بين آيات أخرى غير تلك الآيات التي استقرت آخر الأمر معها..
ولا شك أن كثيرا من المشركين والمنافقين، ومرضى القلوب، كانوا ينظرون إلى هذا التبديل والتغيير، الذي كان يؤذن النبي أصحابه وكتاب الوحى
وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على هؤلاء السفهاء بقوله: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ».
وروح القدس، هو جبريل، عليه السلام، وهو السفير بين الله سبحانه وتعالى، وبين النبىّ الكريم، بهذا القرآن الكريم..
- وقوله تعالى: «لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا» أي ليربط على قلوبهم، ويقوّى عزائمهم، ويثبت أقدامهم على طريق الإيمان، بما ينزل عليهم من آيات تؤنس وحشتهم، وتكشف لهم عن العاقبة المسعدة التي ينتهى إليها صراعهم، مع قوى البغي والعدوان..
فهذه الآيات التي سبقت سورها، إنما كانت للتعجيل ببشريات للنبىّ وللمؤمنين.. معه..
فسورة الأنفال مثلا، وهى مدنيّة باتفاق.. قد ضمّ إليها سبع آيات كانت قد نزلت بمكة.. وهى قوله تعالى:
«وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» [٣٠- ٣٦: الأنفال]..
ففى ظلّ هذه الآيات استروح النبىّ والمؤمنون- وهم فى مكة- أرواح الأمل والرجاء، ومن تلقاه هذه الآيات استقبل النبىّ والمؤمنون بشائر النّصر لهذا الدّين، الذي تلقّى على يد المشركين ألوانا من الكيد والمكر، وضروبا من السفاهة والجهل..
لقد كانت تلك الآيات، وكثير عيرها، هى الزاد الذي يتزود به النبي والمؤمنون، أثناء تلك الرحلة القاسية التي قطعها النبي والمؤمنون معه فى شعاب
وبهذا الزّاد تقوّى النبي والمؤمنون معه على حمل هذا العبء الثقيل خلال تلك الرحلة المضنية القاسية.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا». وقد اختصّ الذين آمنوا بالذّكر هنا، لأنهم كانوا فى حاجة ماسّة إلى هذا الزّاد، ليثبتوا فى مواقفهم، وليصبروا على هذا البلاء الذي كانوا فيه، انتظارا لهذا الوعد الكريم الذي وعدهم الله سبحانه وتعالى به، فيما سيأخذ به المشركين من خزى وخذلان، كما يقول سبحانه:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَيُنْفِقُونَها.. ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً.. ثُمَّ يُغْلَبُونَ.. وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ»..
ولم يذكر النبىّ الكريم هنا لأنه- صلوات الله وسلامه عليه- محفوف دائما بألطاف ربّه، وعلى يقين راسخ من نصر الله.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه، - يحمل فى كيانه من قوى الحقّ والإيمان ما لا تنال منه الدنيا كلها لو اجتمع أهلها على حربه والكيد له. وفى هذا يقول صلوات الله وسلامه عليه لعمه أبى طالب: «والله يا عمّ لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه.. ما تركته» ! وهذه الظاهرة فى القرآن الكريم، من تبادل الآيات أماكنها خلال الفترة التي نزل فيها، تقابلها ظاهرة أخرى، وهى نزول القرآن منجّما، خلال ثلاث وعشرين سنة، حيث لم ينزل جملة واحدة، وإنما نزل آية آية، وآيات آيات، حتى كمل، وتمّ بناؤه على الصّورة التي أراده عليها سبحانه وتعالى كما تلقاه النبي الكريم من جبريل، فى العرضة الأخيرة التي كانت بينهما، بعد أن تم نزول القرآن، قبيل وفاة النبي بزمن قليل..
فهناك إذن عمليتان، قام عليهما بناء القرآن الكريم، وهما:
وثانيا: نزوله غير مرتب الآيات فى السور..
وقد كشف الله سبحانه وتعالى عن السبب الذي من أجله كان بناء القرآن على هذا الأسلوب.
أما عن نزول القرآن مفرقا، فالله سبحانه وتعالى يقول ردّا على المشركين الذين أنكروا أن يحىء القرآن على هذا الأسلوب: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» (٣٢- ٣٣: الفرقان).
فتثبيت فؤاد النبي هو من بعض ما فى نزول القرآن على تلك الصورة، من حكمة..
وأمّا عن نزول القرآن غير مرتب الآي، فقد رأينا أن من حكمته تثبيت قلوب المؤمنين، بما تحمل إليهم الآيات التي تسبق سورها، من بشريات، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ».
ففى هذا التدبير، من نزول القرآن الكريم غير مرتب الآي، - فى هذا ما يسمح بنزول بعض الآيات متقدمة زمنا على سورها التي ستلتقى بها، وتأخذ مكانها فيها، بعد أن يتم نزول القرآن كله..
وفى هذه الآيات التي كانت تنزل متقدمة زمنا على سورها، تثبيت لقلوب المؤمنين، وهدى لهم، وبشرى بالمستقبل المسعد الذي ينتظر الإسلام، وينتظرهم معه..
ثم- قبل هذا كله- إن هذه الآية: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ».. هى مكية النزول، بل من أوائل القرآن المكىّ، حيث لم تكن قد شرعت الأحكام بعد، فى العبادات، والمعاملات، وفى القتال، وما يتصل به من غنائم، وأسرى، وغير ذلك مما يمكن أن يرد عليه النسخ، إن كان هناك نسخ.. إذ أن النسخ، إنما تناول الأحكام الشرعية وحدها.
هذا، وقد استدل القائلون بالنسخ فى القرآن بآية أخرى، هى قوله تعالى:
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» (٥٢- ٥٣: الحج).. وسنعرض لهذه الآية فى موضعها إن شاء الله.. وحسبنا أن نقول هنا: إن النسخ وارد على ما يلقى الشيطان، لا على آيات الله، وأن الله سبحانه وتعالى يحكم آياته ولا ينسخها.. وإذن فلا نسخ فى آيات الله..
ويؤنسنا فى هذا الفهم لتلك الآية الكريمة، ما نجده فى قوله تعالى:
«لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ»
(١٦- ١٩: القيامة).. ففى هذه الآيات ما يكشف عن مشاعر النبي نحو تلك الآيات التي كانت تتنزل مفردة غير منسوبة إلى سورة من السور، وإشفاقه من أن تفلت منه حيث لم ترتبط بغيرها من آيات القرآن وسوره.
وفى قوله تعالى: «إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ»
تطمين للنبى بهذا الوعد الكريم من الله سبحانه، بأنه جل شأنه، هو الذي سيتولى جمع هذا القرآن المفرّق، وبناءه على الصورة التي أراده الله سبحانه أن يقرأ عليها.. وذلك ما كان بعد أن تمّ نزول القرآن، وانقطع الوحى، فكان القرآن على تلك الصورة، التي تلقاها
الآيات: (١٠٣- ١٠٥) [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٥]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)
التفسير:
قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ.. لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ».. هو رد على المشركين الذين أشار إليهم قوله تعالى: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ».. فهم- أي المشركون من قريش- يتهمون النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بهذه التهمة، وأنه يفترى على الله الكذب، إذ يقول إن هذا القرآن منزل عليه من الله.. ثم إنهم لا يقفون عند هذا، بل يرمون النبىّ بأنه لا يفترى هذا الافتراء من ذاته هو، بل يستعين على ذلك بأهل العلم، الذين يتصل بهم، ويتلقى عنهم ما يجىء به من مفتريات.. وذلك أنهم إذ يرون هذا العلم الذي تحمله آيات الله وكلماته، لا يرون أن مثل محمد- وهو واحد منهم- يستطيع أن يكون عنده شىء من هذا، ولكنه باتصاله بأهل الكتاب،
- وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» بالتعبير بفعل المستقبل- إشارة إلى أن علم الله محيط بهم، وأنه سبحانه وتعالى يعلم ما قالوا، وما سيقولون من تلك المقولات المنكرة، التي يقولونها فى النبي الكريم، وفى كتاب الله الذي بين يديه..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» - إلفات لهم إلى كلمة «بشر» وإلى أنه يجب أن يقفوا عندها، وأن ينظروا فى هذا القول الذي يقولونه من غير رويّة، ولا تدبر.. وهل فى استطاعة بشر- أيّا كان- أن يأتى بمثل هذا القرآن؟ أليسوا هم بشرا؟ فما لهم إذن لا يأتون بسورة من مثله؟.. ثم ما لهذا البشر الذي يعلم محمدا ألّا يأخذ مكان محمد، ويدّعى لنفسه هذا الذي يدّعيه محمد من أنه نبىّ، وأنه متصل بالسّماء، يتلقى منها هذا القرآن؟
- وقوله تعالى: «لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ.. وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ».. هو فضح لهذا المنطق السقيم، الذي أقام عليه المشركون اتهامهم للنبى.!
فالبشر الذي «يلحدون إليه».. أي يشيرون إليه، ويتخذونه تكأة يتكئون عليها فى هذا الاتهام- هذا البشر، هو رجل أعجمىّ، لا يحسن العربية، ولا يستقيم لسانه عليها.. وهذا القرآن الذي بين يدى محمد، هو بلسان عربىّ مبين، قد تحدّى ببيانه وفصاحته بلغاءهم، وفصحاءهم، وأهل اللّسن فيهم، من خطباء وشعراء.. فما لهم وهم أصحاب هذا اللسان، ألا يقفوا لمحمد، ويتحدّوه يقول كقوله، وحديث كحديثه؟.. ثم ما لهم لا يتلقون أخبار الأولين من هؤلاء
قوله تعالى: «إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ» - هو اتهام لهؤلاء المشركين، بأنهم هم الذين يفترون الكذب ويتعاملون به، ولا يجدون حرجا فى أن يكذبوا، ويكذبوا، فى غير حياء! إنهم لا يؤمنون بآيات الله، ومن ثمّ فهم لا يؤمنون بالله، ولا يخشون عقابه..
ولا يجدون فى أنفسهم وازعا يزعهم عن الكذب والافتراء على الله..
أما الذين يؤمنون بآيات الله، فإنهم يؤمنون بالله، ويوقّرونه، ويخشون عذابه.. فلا يخرجون عن الجادّة، ولا يقبلون أن تكون كلمة الكذب من بضاعتهم! وفى هذا دفاع عن النبىّ، ودفع لهذا الاتهام المفترى، الذي يتهمه المشركون به.. كما أنه دمغ للمشركين بالكذب والافتراء حيث حكم الله سبحانه وتعالى عليهم هذا الحكم الأبدى بقوله: «وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ».. حتى لكأن
الآيات: (١٠٦- ١١١) [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٦ الى ١١١]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١)
التفسير:
قوله تعالى: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ»..
فى هذه الآية أمور:
أولا: مناسبتها لما قبلها.. فقد ذكرت الآيات السابقة، موقفا من تلك
وقد هاجر كثير من القادرين على الهجرة.. الذين يملكون أمر أنفسهم..
وتخلف كثيرون، لم يكن أمرهم إلى أيديهم، إذ كانوا فى جملة العبيد والإماء..
أو تحت حكم العجز والمرض.. ونحو هذا..
وفى المتخلفين من صبر حتى مات تحت وطأة البلاء، مثل سميّة أم عمار بن ياسر، ومنهم من رأى أن يرى المشركين منه، أنّه قد استجاب لهم، ورجع عن الدين الذي آمن به على يد محمد- فأعطاهم بلسانه ما لم يسمح به قلبه، الذي ظلّ على إيمانه بالله، وولائه للدّين الذي دخل فيه.. ومنهم من أعطى المشركين بقلبه ما أعطاهم بلسانه.. فعاد كافرا.. ودخل فى الكفر فى غير تحرّج أو تأثّم، بل اطمأن إليه، وشرح صدره له! ولا شك أن هذه حال أثارت البلبلة والاضطراب فى نفوس المسلمين، وخاصة أولئك الذين انعقدت قلوبهم على الإيمان، وإن صرحت ألسنتهم بالشرك، تقيّة، تحت حكم القهر والاضطرار.. فهم- والحال كذلك-
- فقال تعالى: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ».. فهذا الاستثناء يخرج من أكره، فقال كلمة الكفر بلسانه، واحتفظ فى قلبه بالإيمان الذي انعقد عليه.. ويلاحظ هنا أنه لم يتقرر فى الآية حكم لأولئك المستثنين من الكفر، بل تركوا هكذا، بمعزل من الكافرين، الذين عادوا إلى الكفر بأفواههم وبقلوبهم جميعا.. وهذا يعنى أن «التقيّة» وإن كانت بابا من أبواب التيسير والرحمة بالمؤمنين، إلا أنها باب محفوف بالمخاطر، لا يدخله الإنسان إلا على حذر وإشفاق، وإلا ريثما يمسك نفسه من التّلف.. فإن هذه حال لا ينبغى أن يركن إليها المؤمن، أو يطمئن إلى مقامه فيها.. إذ هو يلبس فيها ثوب النفاق ظاهرا.. ولا يجتمع إيمان ونفاق أبدا..
روى أن المشركين من قريش أرادوا عمار بن ياسر، وأباه ياسرا وأمّه سميّة، على الكفر بعد أن أسلموا، وأخذوهم بالبأساء والضراء، فأبوا، فربطوا سميّة، بين بعيرين ثم وجئت بحربة فى قبلها، وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال، فماتت، ومات ياسر قتيلا كذلك، فكانا أول قتيلين فى الإسلام، أما عمار فأعطى المشركين بلسانه ما أكرهوه عليه، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن عمارا كفر!! فقال- صلى الله عليه وسلم- «كلا. إن عمّارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه!!» وروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين، فقال لأحدهما ما تقول فى محمد؟
قال: «رسول الله» فما تقول فىّ؟ قال: وأنت أيضا..! فخلّى سبيله.. ثم قال للآخر: ما تقول فى محمد؟ قال: «رسول الله» قال: فما تقول فىّ؟ قال: أنا
وثانيا: هذا النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة..
فقد جاء نظم الآية على غير مألوف اللغة، حيث جاء الشرط: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ» ولم يذكر له جواب.. ثم دخل على هذا الشرط الاستثناء:
«إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» ثم لم يذكر لهذا الشرط والاستثناء الوارد عليه جواب.. ثم ورد هذا الاستدراك: «وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» - محمّلا بشرط، وجواب..
أما الشرط، فهو الشرط السابق موصوفا بمفهوم المخالفة للاستثناء الوارد على هذا الشرط، وأما الجواب، فهو الجواب الذي يصلح للشرطين معا.. ولكنه اتجه إلى الشرط الثاني، بعد أن وقع الاستثناء على الشرط الأول.. والتقدير: من كفر بالله من بعد إيمانه شارحا بالكفر صدره فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم.. إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان..
هذا ما يدل عليه مفهوم الآية الكريمة، وإن جاء نظمها على هذا الأسلوب الذي تراه!! والسؤال هنا هو: ماذا وراء هذا النظم الذي جاء على غير مألوف اللغة؟
والجواب- والله أعلم- هو أن تلك الحال التي تعرضها الآية الكريمة من أحوال المؤمنين، حين يمتحنون فى دينهم، ويتعرضون للفتنة فى عقيدتهم- هذه الحال ليست من الأحوال المألوفة للإنسان، بحيث يروض نفسه عليها، ويوطنها على احتمال مكروهها.. وإنما هى تجربة قاسية يلقاها الإنسان مرة واحدة فى حياته، حين تحمله البلوى على أن يتبدّل دينا بدين، وعقيدة بعقيدة، ولو كان ذلك فى ظاهر أمره، وعلى ما يرى الناس منه.. فليس الدين ثوبا يلبسه الإنسان زمنا حتى إذا يلى خلعه، واستبدل به غيره.. وإنما هو أشبه بجلد
ومن هنا جاء النظم القرآنى فى الآية الكريمة على هذا الأسلوب، الذي يمسك بتلك المشاعر المضطربة، ويصور تلك النفوس القلقة المذعورة، التي انعقدت فى سمائها سحب متراكمة، ترمى برعودها، وبروقها، وصواعقها، فى غير مهل أو انقطاع..
وهكذا يحكى النظم القرآنى بموسيقى ألفاظه، ما تحدّث عنه الألفاظ بدلالة معانيها، فيقع المعنى فى النفس موقعا متمكنا، حيث يدخل عليها مصوّرا، مجسدا..
قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ».
الإشارة هنا إلى هذا الوعيد الذي توعد الله به سبحانه، أولئك الذين كفروا بعد إيمانهم، وعادوا إلى الكفر الذي كانوا فيه، وأنسوا إليه كما يأنس الغريب بلقاء أهله، بعد غيبة وفراق، فلم يقع فى نفوسهم وحشة للكفر، ولا تكرّه له.
فهذا الغضب الذي صبّه الله عليهم، وهذا العذاب العظيم الذي أعده لهم، إنما هو بسبب أنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، وآثروا العافية مع
والإيمان- فى حقيقته- هو ابتلاء، وأقلّ ما يبتلى به المؤمن، هو التكاليف الشرعية التي تحملها أوامر الدين ونواهيه.. ثم فوق هذا ضروب من الابتلاء، فى هذا الصراع الذي يكون بين الإيمان والكفر، وبين الحق والباطل، قد ينتهى آخر الأمر إلى الاستشهاد فى سبيل الله! وفى هذا يقول الحق جل وعلا: «الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» (١- ٣: العنكبوت).
- وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» إشارة إلى سبب آخر من أسباب وقوع الكافرين تحت طائلة هذا الوعيد، وهو أنهم من جبلّة مظلمة، لا تقبل النور، ولا تتهدّى إليه.. فكان أن أضلهم الله، وتركهم فى ظلمات يعمهون.
قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ».
الإشارة «بأولئك» واردة على هؤلاء الكافرين الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى فى الآية السابقة، بأنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، وبأنهم حرموا من هداية الله وتوفيقه، لما انعقدت عليه قلوبهم من ظلام وضلال.. إذ قد طبع الله على قلوبهم، وختم عليها بخاتم الكفر، فلا تقبل إيمانا، ولا تطمئن إليه.. كما ختم الله على سمعهم، فلا يسمعون كلمة الحق، ولا يستجيبون لها، وختم على أبصارهم، فلا يبصرون مواقع الهدى، ولا يتجهون إليها.. فكانوا فى غفلة مطبقة، عن كل ما يصلهم بالحق، أو يلفتهم إليه.
فهؤلاء لا شك فى أنهم هم الخاسرون، إذ يجيئون إلى هذا اليوم العظيم، وليس معهم غير الكفر، وحسبه جرما، أن يكون صاحبه حصب جهنم خالدا فيها أبدا.
قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ».
العطف «بثم» هنا، هو عطف حدث على حدث، وموقف على موقف..
فهناك موقف للكافرين الذين لبسوا الكفر بعد أن دخلوا فى دين الله، ونكصوا على أعقابهم لأول مسّة مستهم من أذى فى سبيل الله.. وهنا موقف لأولئك الذين لبسوا الكفر ظاهرا، واستبطنوا الإيمان.. تقية من تلف النفس، وفرارا من وطأة البلاء.
وفرق كبير بين هؤلاء، وأولئك.. ولهذا جاء العطف بالحرف «ثمّ»، الذي يشير إلى هذا الفاصل المعنوي الشاسع، الذي يفصل بين الفريقين..
فأولئك كافرون.. وهؤلاء مؤمنون.. وما أبعد ما بين الكافرين والمؤمنين:
«لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ».
وفى قوله تعالى: «رَبَّكَ» بإضافة النبي الكريم إلى ربه الكريم، مزيد من الفضل والإحسان إلى رسول الله من ربه، الذي يضيفه إليه، ويدعوه إلى ساحة كرمه وإحسانه، وقد كررت هذه الدعوة، فكانت إحسانا إلى إحسان، ولطفا إلى لطف، وحقّ للنبى الكريم بهذا الإحسان أن ينزل من ربه هذه المنزلة التي لا تعلوها منزلة لبشر.. وكيف والله سبحانه وتعالى يقول له:
(١١٣: النساء). ويقول له: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى».
- وقوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا».. هو تطمين لقلوب أولئك الذين فتنوا فى دينهم، وأعطوا كلمة الكفر بألسنتهم، ولم يعطوا من الإيمان الذي انعقدت عليه قلوبهم شيئا..
فهؤلاء قد كشفوا عن حقيقة إيمانهم بهذا السلوك الطيب، الذي أخذوا فيه طريقهم مع المؤمنين.. فهاجروا مع المهاجرين، وجاهدوا مع المجاهدين، وصبروا على ما لقيهم من بلاء وشدة فى مواقف الجهاد. فوطّنوا أنفسهم على الموت فى سبيل الله، دون أن تحدثهم أنفسهم بالفرار من وجه العدو.. فهؤلاء يغفر الله لهم ما كان منهم، ويقبلهم فى عباده المؤمنين، المهاجرين، المجاهدين..
وفى العطف «بثم» فوق أنه عزل للذين أعطوا كلمة الكفر بألسنتهم وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، عن أولئك الذين شرحوا بالكفر صدرا- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- فيه إشارة إلى أن مغفرة الله لم تجئهم إلا بعد تراخ، وإبطاء، حتى لقد كادت لا تلحقهم، وفى هذا ما يلقى ظلالا معتمة على التقية، وأنه لا يلجأ إليها المؤمن إلا عند الضرورة القصوى.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى المغفرة التي عاد الله سبحانه وتعالى بها على أولئك المفتونين، بعد أن هاجروا، وجاهدوا وصبروا.. فقد رحمهم الله، وغفر لهم، وأدخلهم فى عباده المؤمنين..
والضمير فى قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِها» يعود إلى تلك الحال التي تلبّس بها المفتونون حين فتنوا فى دينهم، وأعطوا كلمة الكفر بأفواههم..
وفى عودة الضمير إلى تلك الحالة دون ذكرها، إشارة إلى أنها شىء بغيض لا يذكر فى هذا المقام، الذي لبس فيه أولئك المفتونون ثوب الإيمان ظاهرا
قوله تعالى: «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ».
هو تذكير بهذا اليوم العظيم، يوم القيامة، حيث يحاول كل إنسان جهده أن يدفع عن نفسه شرّ هذا اليوم، فيتعلّق بكلّ ما يظن أنه مغن عنه شيئا فى هذا الكرب العظيم، وحيث يكون الإنسان أكثر ما يكون حاجة إلى مغفرة الله ورحمته.. فإذا ذكر الإنسان هذا اليوم فى دنياه، وذكر ما يستقبل الناس فيه من أهوال، ثم ذكر رحمة الله، ومغفرته، اللتين ينالهما المتقون من عباده، ويستظل بظلمها المؤمنون الذين يخشون ربّهم بالغيب- إذا ذكر الإنسان ذلك كلّه، كان فى ذلك ما يشدّ عزمه ويقوّى يقينه، ويمسك به على طريق الإيمان، وإن مسّه الضرّ، وأصابه المكروه..
- فقوله تعالى: «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ» متعلق بقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ».. أي إن مغفرة الله ورحمته يتجليان فى هذا اليوم، يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها.. وليس هذا بالذي يقصر تجلّى رحمة الله ومغفرته على هذا اليوم، إذ رحمة الله ومغفرته لا يحدهما زمان، ولا يحصرهما مكان.. ولكنّ الإشارة إليهما فى هذا الظرف، إشارة إلى شدة الحاجة إليهما فيه، وأنه إذا كان الإنسان فى حاجة دائمة إلى مغفرة الله ورحمته، فإنه فى هذا اليوم أكثر ما يكون طلبا لهما، واحتياجا إليهما..
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦)
مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)
التفسير:
قوله تعالى: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ»..
«الواو» هنا للاستئناف، ووصل حدث بحدث..
والمثل المضروب هنا، هو تلك القرية التي كانت آمنة مطمئنة، بما يسوق الله إليها من نعم.. فبطرت معيشتها، وكفرت بأنعم الله.
وقد اختلف المفسّرون فى هذه القرية.. أهي قرية من قرى الأولين التي أهلكها الله ودمدم على أهلها؟ أم هى مكة..
والذي نميل إليه هو أن هذه القرية هى واحدة من تلك القرى التي أهلكها الله، والتي أشار إليها الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ» (١١: الأنبياء).. وبقوله سبحانه: «وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً» (٥٩: الكهف) وبقوله تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» (٤٨: الحج).
فأية قرية من تلك القرى الظالمة التي أهلكها الله بظلمها، والتي عرف المشركون أخبارها وما حلّ بأهلها- أية قرية من تلك القرى صالحة لأن تكون المثل المضروب لأهل مكة.. يرون فى مخلّفاتها العبرة والعظة، إن كانوا يعتبرون ويتعظون.. فلقد عرف مشركو قريش ما حلّ بالقرى التي حولهم من عذاب الله.. فيما قصّ عليهم سبحانه وتعالى من أخبار «سبأ» فى قوله تعالى: «لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» (١٥- ١٧: سبأ).
- وفى قوله تعالى: «فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ» إشارة إلى ما حلّ بهذه القرية الظالمة من بلاء، وما وقع عليها من بأس الله إذ جاءها، فقد بدل الله أمنها وطمأنينتها، جوعا دائما وخوفا متصلا، حتى لقد اشتمل عليها الجوع والخوف، كما يشتمل الثوب على الجسد ويحتويه، وحتى أنه كلما بلى هذا الثوب، ألبسهم الله ثوبا غيره.. وهكذا، لا يخلعون ثوبا إلا لبسوا غيره، ليذوقوا العذاب، بما كانوا يصنعون..
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ» - هو إشارة إلى أن هذه القرية الظالمة، التي حلّ بها هذا البلاء، لم تؤخذ هكذا على غير حجّة قامت عليها، بل لقد بعث الله سبحانه وتعالى إلى أهلها رسولا منهم، فبلغهم رسالة ربّه إليهم، ودعاهم إلى الإيمان بالله، وإلى الاستقامة على طريق الحقّ والخير، فأبوا إلا عنادا وكفرا.. فكان أن أوقع الله بهم البلاء، كما يقول سبحانه: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (١٥: الإسراء).
وقوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» هو إلفات إلى أهل مكة خاصة، وإلى كل ذى عقل ونظر، أن يأخذوا العبرة من هذا المثل، وأن يجدوا فى النعم التي أنعمها لله عليهم،
- وفى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» تحريض المؤمنين على التمسك بالإيمان بالله، وإخلاص العبادة له وحده، وأن يقطعوا كل صلة كانت تصلهم بمعبوداتهم التي عبدوها من دون الله، وذلك أنهم كانوا فى جاهليتهم يدّعون أنهم مؤمنون بالله، وأنهم إنما يعبدون هذه الأوثان التي يعبدونها ليتقربوا بها إلى الله، كما يقول الله سبحانه على لسانهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (٣: الزمر).. وهذا ضلال مبين، وشرك صراح بالله، فهو سبحانه الذي تفرّد بالخلق والرزق، فواجب أن يفرد بالولاء والعبودية.
قوله تعالى: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - هو بيان لتلك المآكل الخبيثة التي يجب على المؤمن بالله أن يتجنّبها، حتى يكون مأكله حلالا طيبا. وتلك المآكل الخبيثة، هى: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما ذكر اسم غير اسم الله عليه.. فمن اضطر إلى أخذ شىء من تلك المآكل، «غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ» أي غير محلّ لها، وغير متجاوز حدود الحاجة التي يدفع بها الهلاك الذي يتعرض له- «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» أي يتجاوز للمضطر عن هذا المنكر الذي ألمّ به، وعليه أن يخلّص نفسه منه فى أقرب فرصة تسنح له.
إنه أشبه بالتقيّة، التي يتقى فيها المؤمن بلسانه، الأذى الذي يعرض له، إذا هو وقع ليد عدوّ من أعداء الله..
قوله تعالى: «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ قَلِيلٌ «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ»..
- وفى قوله تعالى: «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ» إشارة إلى أن هذه المقولات التي يقولونها فى حلّ الأشياء وحرمتها، إنما هى مما أملته عليهم أهواؤهم، وأنهم لم يحتكموا فيها إلى شرع أو عقل..
- وقوله تعالى: «الْكَذِبَ» بدل من ضمير النصب المحذوف، وهو العائد على الاسم الموصول من الفعل «تصف» - أي ولا تقولوا لما تصفه ألسنتكم، الذي هو الكذب، فما تصف ألسنتهم إلا كذبا، ولا تقول إلا زورا وبهتانا..
- وقوله تعالى: «هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ» هو مقول قولهم، أي إن قولهم عن مطعوماتهم، هذا حلال، وهذا حرام، هو قول كذب، قالوه لينتهى بهم إلى الافتراء على الله.. فاللام فى قوله تعالى: «لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» هى لام العاقبة..
- وقوله تعالى: «مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» - هو تعليل لنفى الفلاح عن الذين يفترون على الله الكذب، فإنهم بافترائهم الكذب قد خسروا خسرانا مبينا.. ذلك أن هذا الذي عاد عليهم من كذبهم وافترائهم، هو شىء تافه، استرضوا به أهواءهم فى هذه الحياة الدنيا، فأوقعهم فى هذا الذي هم فيه،
قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».
هو ردّ على الذين هادوا، أي اليهود، الذين كانوا من وراء المشركين، يزكّون أفعالهم المنكرة، ويقولون لهم: إن هذا الذي أنتم عليه فيما تحلّون وتحرّمون من مطاعمكم، هو الحق، وأنه من شريعة إبراهيم، وأن ما يحدثكم به محمد، هو مما يفتريه على الله.. فاثبتوا على ما أنتم عليه، ولا تستمعوا له..!
وقد رد الله عليهم سبحانه وتعالى بقوله: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ.. فَإِنَّهُ رِجْسٌ.. أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ..» (١٤٥: الأنعام).. ثم كشف سبحانه وتعالى عما أخذ به اليهود من عقاب، فحرّم عليهم طيبات كانت أحلّت لهم، نكالا لهم، بسبب عدوانهم على حرمات الله، وافترائهم عليه.. فقال تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ.. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» (١٤٦: الأنعام).
ففى قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ» إلفات إلى هذا الموقف الذي وقفه اليهود من النبي، حين دعا المشركين بكلمات ربه، إلى أن يدعوا الزور الذي أدخلوه على مطاعمهم، كما ذكر الله لهم ذلك فى قوله تعالى: «وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ
(١٣٨- ١٣٩: الأنعام).. فجاء اليهود إلى المشركين يكذبون النبي فيما يقول لهم عن ربه فى هذه المطاعم، فرمى الله اليهود بهذا الخزي الذي حملته إليهم الآية الكريمة: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ... ».. فهذا الذي حرمه الله سبحانه وتعالى على اليهود فى تلك الآية هو، ما أشارت إليه الآية:
«وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ».. وهذا يقطع بأن آية الأنعام قد سبقت آية النحل نزولا..
قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ».. هو دعوة كريمة من رب كريم، إلى الضالين عن سبيله، والشاردين عن الحق الذي يدعو إليه رسوله، أن يرجعوا إلى الله من قريب، وأن يتوبوا إليه، ويصلحوا من أنفسهم ما أفسدوا.. فإن فعلوا، وجدوا ربّا غفورا رحيما، يغفر لهم ما كان منهم، ويدخلهم فى عباده المؤمنين..
- والجهالة فى قوله تعالى: «عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ» ليس المراد بها الجهل بالشيء، والوقوع فى الإثم عن جهل بأنه إثم.. فهذا من المعفوّ عنه ابتداء، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (١١٥: التوبة).
وإنما المراد بالجهالة هنا، ما يركب المرء من نوازع الحمية والعصبية، وما يستولى عليه من حماقات الكبر والعناد.. وهذا هو أكثر ما يحمل الناس على معاندة الحق، ومعاداته، ويدعوهم إلى إتيان المنكرات، وركوب الضلالات وإلى هذا المعنى للجهالة، يشير الشاعر الجاهلى، عمرو بن كلثوم بقوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا | فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
وفى العطف «بثم» فى الموضعين هنا، إشارة إلى هذا البعد البعيد، الذي ينتقل به الإنسان من حال إلى حال..
فالذين عملوا السوء بجهالة، ثم كانت لهم إلى أنفسهم عودة، وكان لهم معها حساب.. هم على حال مباينة بونا شاسعا، لأولئك الذين يعملون السوء، ثم لا يقع فى أنفسهم ما بسوؤهم منه، ولا تمس ضمائرهم نخسة من آثاره..
فالأولون لا بد أن تكون لهم إلى الله رجعة، وقليل منهم من يمضى على طريق السوء الذي هو فيه إلى آخره.. والآخرون هيهات أن يراجعوا أنفسهم، ويرجعوا إلى ربهم.. وقليل منهم من يفعل. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» (١٧: النساء).. وقوله تعالى:
«وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (١٣٥: آل عمران) والذين انتقلوا من حال المراجعة مع أنفسهم إلى حال التوبة وإصلاح ما أفسدوا، هم فى حالهم الثانية على بعد بعيد من حالهم الأولى.. ولهذا جاء العطف «بثم» فى قوله تعالى: «ثُمَّ تابُوا».
والضمير فى قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِها» يعود إلى التوبة، المفهومة من قوله تعالى «تابُوا».. وهذا يعنى أن المغفرة والرحمة من الله تجىء بعد التوبة من الذنب، لا قبلها..
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
التفسير:
مناسبة ذكر إبراهيم- عليه السلام- هنا فى قوله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً».. هو ما ذكر فى الآيات السابقة من موقف المشركين واليهود، من أحكام الله، فى حلّ المطاعم وحرمتها..
ولما كان كلّ من المشركين واليهود ينتسب إلى إبراهيم- عليه السلام- ويدّعى كل منهم أنه على دينه- فناسب هذا أن يذكر إبراهيم- عليه السلام- ويذكر دينه الذي كان عليه، وإيمانه بربه، وشكره لنعمائه، الأمر الذي لم يستقم عليه أىّ من الفريقين من أبنائه.
فإبراهيم- عليه السلام- كان أمة، أي كان مجتمعا وحده، يؤمن بالله، بين مجتمعات كلها على الشرك والكفر.. فهو بهذه الصفة يمثل أمة مميزة عن غيرها، بالإيمان، تقابل تلك الأمم التي تمثل الكفر.. فهو الإنسان المؤمن، الذي يقابل بإيمانه الكفر والكافرين جميعا.
وفى وصف إبراهيم- عليه السلام- بأنه كان «حنيفا» - إشارة إلى أن المجتمع الذي كان يعيش فيه إبراهيم كان مجتمعا يسير على طرق الكفر والشرك، حتى لكأن ذلك هو وجهة الحياة فى زمنه، وحتى لكأن الخروج على هذه الوجهة، يعدّ ميلا وانحرافا.. وهذا مما يعظم من شأن إبراهيم، ويرفع قدره فى العالمين، بين أتباع الحق، وأهل الإيمان.. فقد خرج إبراهيم بإيمانه عن هذا الإجماع المطلق، وشق لنفسه ثقبا فى هذا الحائط الصفيق، المضروب حوله من الكفر، ونفذ إلى عالم النور! ولهذا استحق إبراهيم بأن يوصف هذا الوصف الكريم من ربه، بأن كان حنيفا.. والحنيف هو المائل.. ولكنه هنا ميل إلى الحق والهدى والإيمان.. ولهذا أيضا اختصّ إبراهيم- عليه السلام- بهذا الوصف دون سائر الأنبياء.. إذ كان أمة وحده.
- وفى قوله تعالى: «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» تعريض بالمشركين من أهل مكة، إذ كانوا يدّعون أنهم على شريعة أبيهم إبراهيم.. فكيف يكونون على شريعته، وهم مشركون، وهو الحنيف، الذي لم يكن فى يوم من أيامه من المشركين؟
وقوله تعالى: «شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»..
هو معطوف على خبر كان فى قوله تعالى: «كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً..» أي وكان شاكرا لأنعم ربه، إذ اجتباه ربه، أي اصطفاه لرسالته، وأخرجه من عالم الكفر المتكاثف حوله، وهداه إلى الحق، والخير، والإيمان..
قوله تعالى: «وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ»..
هو عطف على قوله تعالى: «اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» :
وفى الحديث عن الله سبحانه وتعالى بضمير الغيبة فى قوله تعالى: «اجْتَباهُ وَهَداهُ».. ثم الحديث عنه تعالى بضمير الحضور «وآتيناه».. إشارة إلى تلك المنزلة التي بلغها إبراهيم عند ربه، بعد أن اصطفاه لرسالته، وهداه إلى دينه.. فقد استقام إبراهيم على هذا الطريق المستقيم، مجتهدا فى الطاعة، مخلصا فى العبادة، حتى اتخذه الله سبحانه وتعالى خليلا له، وأقبل عليه بعطاياه ومننه:
«وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً».. فهو عطاء كريم تناوله من ربه من غير واسطة.
والحسنة التي آتاها الله سبحانه وتعالى إبراهيم، هى على إفرادها وتنكيرها، تسع ببركتها وخيرها، الناس جميعا.. ومن ثمرات هذه الحسنة هذا الذّكر الطيب الذي لإبراهيم فى هذه الدنيا، حيث كان من ذريته الأنبياء، ومنهم:
موسى، وعيسى، ومحمد، أصحاب الرسالات السماوية التي يدين بها المؤمنون بالله!.
وفى قوله تعالى: «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» إشارة إلى ما لإبراهيم عند الله فى الآخرة.. فهو عند الله من الصالحين، الذين سلموا من كل سوء، فاستحقوا منازل الرحمة والرضوان..
قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».
قوله تعالى: «إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»..
السبت هو اليوم الذي جعله الله لبنى إسرائيل، يوم طاعة وعبادة، يتخففون فيه من شئون الحياة الدنيا، ويراجعون أنفسهم فيما وقع منهم من سيئات، خلال أيام الأسبوع الستة.. وبذلك يمكن أن يجد الواحد منهم فرصته فى إصلاح نفسه، وتصحيح أخطائه، قبل أن يمضى بها الزمن فينساها، أو تكثر ويزحم بعضها بعضا، فيعجز عن معالجتها، وتفتر عزيمته عن لقائها..
هكذا كان يوم السبت، لبنى إسرائيل، يوما خالصا لله، وفرصة مهيأة للتطهر من الآثام، والتخفف من الذنوب.. شأنهم فى هذا شأن النصارى فى يوم الأحد، والمسلمين فى يوم الجمعة.. فهذا اليوم من كل أسبوع، هو أشبه بالمنازل التي ينزلها المسافر خلال رحلة طويلة شاقة، حيث تتهيّأ له فى هذا المنزل فرصة للراحة والاستجمام، والتزود بالماء والطعام، وإصلاح أدوات السفر ومعدّاته، إلى غير ذلك مما يعين المسافر على قطع المرحلة القادمة، من رحلته.. وهكذا..
حتى تنتهى الرحلة، ويلقى عصا التسيار!..
ولو أحسن بنو إسرائيل استقبال هذا اليوم، واستقاموا على ما أمرهم الله به فيه- لكان لهم من ذلك خير كثير فى دينهم ودنياهم جميعا.. ولكنهم مكروا بنعمة الله وكفروا بها، شأنهم فى هذا هو شأنهم مع كل نعمة أنعم الله بها
.. (١٦٣: الأعراف) ولم يحتمل القوم هذا البلاء.. فاعتدوا فى السبت، وصادوا فيه ما حرم الله عليهم صيده.. فأخذهم الله بعذابه، وأوقع بهم نقمته.. فمسخهم الله، وألبسهم طبائع القردة، كما يقول الله سبحانه: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ، فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ».. (٦٥: البقرة).
وأكثر من هذا.. فإن الله قد حرم عليهم أن يعملوا فى هذا اليوم عملا، وأن يتحولوا إلى جمادات لا حس لها ولا شعور.. وفى هذا تقول التوراة:
«اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك لا تصنع عملا ما، أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك..
«لأن فى ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح فى اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه».
هكذا تقول التوراة فى الأصحاح العشرين من سفر الخروج، ولكن بنى إسرائيل لم يستقيموا على هذا الأمر ولم يحتملوا الصبر على هذا التكليف، الذي لا حرج فيه.. ولا إعنات، فكثرت حوله تأويلاتهم الفاسدة، حتى أبطلوا
«ستة أيام يعمل كل عمل وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدس للرب كل من يعمل فيه عملا يقتل.. لا تشعلوا نارا فى جميع مساكنكم يوم السبت» هكذا تقول التوراة فى «الإصحاح الخامس والثلاثين من سفر الخروج»..
فالعمل فى يوم السبت، يوجب على اليهودي القتل، وهذا ابتلاء عظيم من الله سبحانه، لهذا القطيع المعربد، حتى يكونوا من هذا الابتلاء بين أمرين، أحلاهما مر.. فإن عملوا أي عمل فى يوم السبت، ولو فى دفع عدوّ مغير عليهم وقعوا تحت حكم الله، وهو استحقاقهم للقتل، وإن لم يعملوا كانوا صيدا دانيا لكل من يريد اقتناصه..
وفى قوله تعالى: «إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ».. هو بيان لما حل ببني إسرائيل بافترائهم على الله فى يوم السبت، وخروجهم على حكم الشريعة فيه، بما تأوّلوا من تأويلات فاسدة، أملتها عليهم أهواؤهم، فكان لكل جماعة منهم رأى فيه، وكلها آراء فاسدة قائمة على الهوى..
- وفى تعدية الفعل «جعل» بحرف الجر «على» إشارة إلى أن هذا اليوم جعل لعنة على بنى إسرائيل، بعد أن كان رحمة لهم.. فما كان للإنسان، فهو خير، وما كان عليه فهو شر، كما يقول الله تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.. لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» (٢٨٦: البقرة) - وقوله تعالى: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» تهديد لليهود، وأنهم سيؤخذون بآثامهم التي حملوها معهم، من تلك الخلافات التي وقعت بينهم فى شريعة الله الواضحة الصريحة، التي لا تحتمل
الآيات: (١٢٥- ١٢٨) [سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٨]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
التفسير:
بهذه الآيات تختّم سورة النّحل.. وهى السورة التي تدعو إلى الإيمان بالله، بما تكشف من آيات قدرته، المبثوثة فى هذا الوجود، والتي تحدّث كل آية منها عن قدرة الصانع، وعلمه وحكمته، كما تحدّث عن النعم التي أفاضها الخالق جلّ وعلا على الإنسان، حيث أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا، وجعل له السّمع والبصر، والفؤاد، ثم سخّر له ما فى السموات وما فى الأرض، وهيأ له أسباب الانتفاع بما فى الأرض والسماء.. من عوالم وموجودات..
ودعوة الرسول إلى الله سبحانه وتعالى، إذ تحمل هذه الدلائل البيّنة على قدرة الله، لا تحتاج إلى قوة قاهرة، توجه إليها الأبصار، وتفتح لها العقول والقلوب.. فإن القوة هنا تضرّ ولا تنفع، حيث أن العقل هو المدعوّ إلى
فالإيمان الذي يكون تحت أىّ مؤثر خارجى، يختل العقل، أو يقهره، هو إيمان مدخول، لا يطمئن إليه القلب، ولا تتأثر به المشاعر، ولا يجنى منه صاحبه ما يجنى المؤمنون من إيمانهم من ثمرات طيبة مباركة..
ولهذا كان أمر الله سبحانه وتعالى إلى نبيه الكريم بأن تكون دعوته قائمة على هذا المنهج الذي يمثّل الكمال كلّه فى غرس المعارف، وتربية النفوس:
«ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ».. ومن الدعوة بالحكمة مراعاة مقتضى الحال، ومخاطبة كل قوم بما يعرفون، وأخذهم بالرفق والتلطّف، واختيار الوقت المناسب للموعظة التي يراد وعظهم بها، حتى تتقبلها النفوس، وتنتفع بما فيها من خير..
إن الرسول طبيب يحمل الدواء إلى العقول، والقلوب، والأرواح..
ومن هنا كانت مهمته عسيرة شاقة، يحتاج معها إلى بصيرة نافذة، تتدسس إلى خفايا النفس الإنسانية، وتضع يدها على موطن الداء. ثم تختار من الدواء ما يشفى العلة، ويذهب بالداء..
وقوله تعالى: «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» هو بيان لمرحلة من مراحل الدعوة، وهى المرحلة التالية، للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.. فالرسول مطالب بأن يعرض دعوته فى أسلوب من الحكمة والموعظة الحسنة، فإذا تقبّل المدعوّون دعوة الرسول فى هذا الأسلوب، من غير عناد أو جدال، فذاك، وإن كان من المدعوين عناد وجدال، فلا يلقى النبىّ المعاندين المجادلين، معاندا
وقد أرى الله سبحانه وتعالى النبىّ المثل الأمثل فيما يلقى به المجادلين، حين أجاب سبحانه وتعالى عن سؤال إلى المشركين عن الأهلة، فقال تعالى:
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ.. قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» (١٨٩: البقرة) ففى هذا الجواب الحكيم، دعوة للمشركين أن ينصرفوا عن هذا الجدل العقيم حول الأهلة، وكيف تبدو صغيرة، ثم تكبر، ثم تعود صغيرة- إلى ما فى هذه الأهلة، ودورتها، من آثار يتعرفون بها المواقيت لأمور الدين والدنيا جميعا..
ذلك هو الجدل بالتي هى أحسن وأقوم.. وعلى هذا المنهج ينبغى أن يكون جدل النبىّ، فى كل موقف يكون بينه وبين المشركين أو الكافرين، جدال..
وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» - هو تهديد لأولئك الذين يجادلون بغير علم، ولغير غاية، إلا المراء والإعنات.. فالله أعلم بهؤلاء الضالين عن سبيله، لا يجتمعون مع المهتدين، ولا ينزلون منازلهم، بل يعزلون عنهم، ويلقى بهم فى عذاب السعير.
قوله تعالى: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ».. قيل إن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها نزلت بالمدينة، بعد غزوة أحد، ولهذا حسبت الآيات الثلاث من القرآن المدني، على حين أن السورة كلها- فيما عدا هذه الآيات الثلاث- مكية..
فنزل قوله تعالى: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ..».. فأخذ النبىّ بما هو خير، ولم يعاقب المشركين بمثل ما عوقب به، وكفّر عن يمينه.. واقتدى المسلمون به.
ومما يؤيد القول بأن هذه الآيات مدنية، ما تضمنته من دعوة المسلمين إلى أن يعاقبوا بمثل ما عوقبوا به، أو يصبروا على ما أصابهم، فذلك خير لهم، وأولى بهم.. وتلك حال لم تكن للمسلمين فى مكة، إذ كانوا ولا قدرة لهم على ردّ العدوان بالعدوان، وإنما كان الصبر على المكروه، هو كل عدّتهم فى هذا الدور من الصراع الذي كان بينهم وبين المشركين..
قوله تعالى: «وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» - هو دعوة النبىّ الكريم إلى الأخذ بما هو خير له من الأمرين اللذين خيّره الله سبحانه وتعالى بالأخذ بأيّ منهما، فى قوله تعالى:
«وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ»..
وقد اختص النبىّ الكريم بالدعوة إلى الأخذ بالصبر وحده، دون أن يعاقب بمثل ما عوقب به- لأن ذلك مقام لا يحتمله إلا قلة قليلة من الناس، على رأسهم أنبياء الله ورسله.. ولهذا جاء أمر الله خاصة إلى النبىّ الكريم:
«وَاصْبِرْ».. ولم يجىء هكذا: «واصبروا» وإن كان هذا لا يمنع من أن يتأسّى المسلمون بالنبيّ فى هذا.. فهو قدوة المسلمين فى كل ما هو كمال، وخير، وإحسان..
- وفى قوله تعالى: «وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ».. هو تطمين للنبىّ الكريم، وتثبيت لفؤاده على التزام الصبر، وإيناس له من وحشة هذا العبء الثقيل الملقى عليه، إذ أنه سيتلقى المدد والعون من الله، وأن هذا الصبر الذي يدعى إليه، إنما هو صبر عظيم، لا تحتمله النفوس إلا بالاستعانة عليه بالله.. والله سبحانه وتعالى معينه وممدّه بألطافه.
وفى إضافة الصبر إلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه-: «وما صبرك إلا بالله» - إشارة إلى أنه صبر من طبقة عالية، لا ينالها إلا النبىّ الكريم، المؤيد من الله، والمزوّد منه سبحانه بالقوة والعزم على احتمال هذا النموذج الفريد من الصبر.. فهو صبر ذو صفة خاصة.. هو صبر النبىّ صلوات الله وسلامه عليه..
وقوله تعالى: «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» - هو عزء للنبىّ الكريم، فيما كان يجد فى نفسه من حزن وأسّى على قومه الذين غلبت عليهم شقوتهم فماتوا على الكفر، حتف أنوفهم، أو فى ميدان القتال بأيدى المسلمين..
- وقوله تعالى: «وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ».. هو مواساة للنبىّ، وتخفيف لما يقع فى نفسه من ألم، إذ يرميه قومه بالضرّ والأذى، ويبيّتون له
قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ».. هو حكم عام لله سبحانه وتعالى فى عباده، وهو أنه سبحانه وتعالى، يتولّى المتقين المحسنين منهم، ويحوطهم برعايته، ويمدهم بأمداد عونه ونصره.. وفى هذا الحكم يرى النبىّ الكريم أن هذه الأمداد التي يمدّه بها ربّه، إنما هى مما قضى الله به فى حلقه، وأن هذا العطاء الكريم هو من نصيب المحسنين المتقين، وأنه بقدر ما يبلغ الإنسان من إحسان وتقوى، يكون قربه أو بعده من معيّة الله.. والنبىّ الكريم- لا شك- أوفر عباد الله حظّا من التقوى والإحسان، فهو لهذا أكثر عباد الله قربا من ربّه..
والمعيّة فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» هى معيّة القرب من ألطاف الله، والتعرض لنفحات رحمته وإحسانه.. كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» (٥٦: الأعراف).
والتقوى: أساسها الإيمان بالله.. لا تنبت مغارسها، ولا يثمر زرعها، إلا إذا غرس فى تربته، وارتوى من مائه..
وملاك أمر التقوى، هو امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، أو كما يقول بعض العارفين: «هى ألّا يراك الله حيث نهاك، وألا يفتقدك حيث أمرك».
أما الإحسان.. فهو التقوى فى كمالها وتمامها.. حيث يستقيم المؤمن على شريعة الله، ويلتزم حدوده، فيصطبغ بصبغة التقوى، التي يصبح بها من عباد
وقد كشف الله سبحانه عن حقيقة الإحسان فى قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (٩٣:
المائدة).. ففى هذه الآية ما يكشف عن قيمة الإحسان، ومكانة المحسنين. إذ هو الغاية التي يبلغها المؤمنون بإيمانهم، وينالها المتقون بتقواهم..
وعلى هذا، يكون المتقون، والمحسنون، فى منزلتين من منازل الإيمان..
وأن كلّا من المتقين والمحسنين له شرف «المعيّة» مع الله.. وإن كان المحسنون أقرب قربا، وأكثر عطاء ورفدا..
جعلنا الله سبحانه وتعالى من عباده الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأنزلنا منازلهم، وحشرنا فى زمرتهم، ونفعنا بهم فى الدنيا والآخرة..
إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.
تم بعون الله الجزء الرابع عشر ويليه الجزء الخامس عشر إذا شاء الله.
[الجزء الثامن]
١٧- سورة الإسراءنزولها: نزلت قبل الهجرة بنحو عام، فهى مكية.. وقيل إن فيها بضع آيات نزلت بالمدينة، منها قوله تعالى: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ»..
إلى قوله تعالى: «وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ».. ومنها آية:
«أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ».. وآية: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» ويقول «الفيروزآبادي» فى كتابه «بصائر ذوى التمييز» : إن السورة مكية باتفاق!! عدد آياتها: مائة وإحدى عشرة آية..
عدد كلماتها: ألف وخمسمائة وثلاث وستون كلمة..
عدد حروفها: ستة آلاف وأربعمائة وستون حرفا..
[ما يقال فى تسمية السورة]
الرأى على أنها سميت الإسراء.. لأنها بدأت بالإسراء، ولأن الإسراء أعظم حدث فى حياة النبىّ، بل وفى حياة البشرية كلها.. فلم يقع هذا الحدث فى الحياة البشرية، إلا تلك المرّة.. فكان بذلك أعظم معلم من معالم تلك السورة، وحقّ له أن يكون وحده دون غيره، عنوانا لها.
هذا، و «البيضاوي» فى تفسيره، يسمّى هذه السورة سورة: «أسرى» جاعلا فعل الإسراء «أسرى»، هو العنوان للسورة، دون تغيير فيه..
ومن أعجب الأعاجيب هنا، أن نجد لهذه السورة اسما، يجعله المفسّرون من بعض أسمائها، على ما جرت به عادتهم من تكثير الآراء وحشدها،
وواضح أن هذا الاسم دخيل منتحل، تسلّل إلى المفسّرين وأصحاب السّير، فيما تسلّل من الإسرائيليات، التي دسّها اليهود على هؤلاء العلماء، فقبلوها منهم بحسن نيّة..
ولو كان لبنى إسرائيل أن تكون لهم سورة باسمهم فى القرآن الكريم، لكانت سورة البقرة- مثلا- أولى من الإسراء فى هذا المقام، إذ كانت البقرة تحوى من أخبار بنى إسرائيل، أكثر مما تحويه سورة الإسراء، ومع هذا فقد أخذت السورة اسم البقرة، وهى بقرة بنى إسرائيل، ولم تأخذ اسمهم! الأمر الذي يحمل على القول بأنه مستبعد أصلا أن يكون لبنى إسرائيل سورة باسمهم فى كتاب الله، وإن كان لأبى لهب سورة باسمه! ومن جهة أخرى، فإنا نرى سورا فى القرآن، فيها حديث مستفيض عن بنى إسرائيل، كسورة الأعراف، وسورة طه، مثلا، ومع هذا فلم تسمّ أىّ منهما سورة بنى إسرائيل!! فلماذا كانت سورة «الإسراء» بالذات، هى التي يدخل عليها هذا الاسم، وينازعها شرف هذه التسمية التي سميت بها تلك السورة؟
إننا نشمّ هنا ريح «اليهود» ونجد بصمات أصابعهم المتلصصة، التي تريد أن يكون حديث «الإسراء» حديثا خافتا، لا بذكر إلا عند تلاوة الآية، دون أن يجرى له ذكر عند الحديث عن سور القرآن الكريم، كلما ذكرت آية من آيات هذه السورة، ونسبت إليها الآية.. وذكر السورة فى القرآن الكريم يحرى عادة أكثر من ذكر أي آية من آياتها.
هذه واحدة، من فعلات اليهود فى حديث الإسراء!
[مناسبتها للسورة التي قبلها]
ختمت سورة النحل، التي قبل هذه السورة بقوله تعالى: «وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ».
وهذا الختام يحدّث عما كان يعانيه الرسول الكريم من ضيق، وما يجده فى نفسه من مشاعر الحزن والألم، لما يلقى من قومه وأهله من كيد، وما يرى فيهم من عناد وإصرار على الكفر والضلال.. فناسب ذلك أن يذكر معه، ما كان من فضل الله على النبي الكريم، بهذه الرحلة المباركة التي رأى فيها النبىّ