تفسير سورة النحل

تفسير سورة النحل
تفسير سورة سورة النحل من كتاب التفسير البياني لما في سورة النحل من دقائق المعاني المعروف بـتفسير سورة النحل .
لمؤلفه سامي القدومي .

بسم الله الرحمن الرحيم

(أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون) (١)
المفردات:
- تعالى: أي هو علي بذاته وصفاته، ولفظ التفاعل للمبالغة في علوه سبحانه وتعالى.
المعنى الإجمالي:
كان الكفار في زمن النبي - ﷺ - يستعجلون العذاب قال تعالى (ويستعجلونك بالعذاب) (الحج: ٤٧) فكانت هذه الآية تهديدا لهم.
وما هذا الاستعجال إلا لعدم إيمانهم، ولاستخفافهم بالله العظيم، قال تعالى:... (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق) (الشورى: ١٨)
وفي هذه الآية تنزيه لله عن أن يكون له شريك (سبحانه وتعالى عما يشركون).
المعنى التفصيلي:
- أتى الإخبار عن وقوع العذاب للكفار وبعده نهيهم عن الاستعجال (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) ولم يأت النهي عن الاستعجال وبعده الإخبار بأن العذاب أتى " لا تستعجلوا أمر الله فقد أتى "؛ لأن الآية في الأساس تهديد للكفار وليس نهي لهم عن الاستعجال.
- جاء التعبير بالماضي (أتى) في قوله تعالى (أتى أمر الله) وذلك لأن وضع الماضي موضع المستقبل دلالة على قرب الوقوع وعلى تأكده، كقوله تعالى: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة) وقوله (ونفخ في الصور) فالفعل " نادى " و" ونفخ " فعلان ماضيان يتحدثان عن أمور مستقبلية؛ للدلالة على تحقق الفعل المستقبلي كأنه وقع.
- جاء التعبير بـ (أمر الله) وليس " عذاب الله "؛ لأن موضوع الآية وما بعدها هو إثبات التوحيد، بأن الله هو سبحانه الخالق لا إله غيره، فناسب ذلك بيان أن العذاب لا يكون إلا بأمر الله؛ لأن الانفراد بالأمر يدل على الوحدانية، فذكر أمر الله فيه تهديد للكفار، وفيه أيضا إثبات أن الله هو المتصرف في هذا الكون؛ لأنه لا إله غيره، وهذا أبلغ من التعبير بـ "عذاب الله ".
- قيل: أمر الله هو عذاب الآخرة، وهذا هو الراجح؛ لأن الكفار كانوا يستعجلون عذاب الآخرة، قال تعالى: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق) (الشورى: ١٨)
- قيل أمر الله هو عذاب الدنيا، وهذا ليس واردا، رغم أن الكفار كانوا يستعجلون العذاب في الدنيا قال تعالى (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون (٥٣) يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (٥٤)) (العنكبوت)؛ لأنه لو كان العذاب في الدنيا هو المقصود بأمر الله لوقع عذاب الله العام على الكفار وهذا لم يقع بنص قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب)
- إذن العذاب الذي سأله الكفار لم يقع في الدنيا، وإنما أجل إلى الآخرة، فكيف يكون عذاب الدنيا هو الذي أتى؟! بل أمر الله الذي أتى هو عذاب الكفار في الآخرة.
- قيل: أمر الله هو أحكامه وفرائضه، وهذا ضعيف؛ لأن الصحابة لم يستعجلوا أحكام الله حتى يهددهم الله بهذا التهديد، وأيضا ختم الآية بتنزيه الله عن الشرك يدل على أن الاستعجال والشرك مترابطان؛ لأن المستعجلين هم المشركون، وهذا لا يكون في الأحكام والفرائض.
- وقيل: أمر الله هو النصر على الكافرين، وهذا ضعيف لما سبق في النقطة السابقة؛ لأن الآية تهديد للمشركين؛ بدلالة آخر الآية.
- قد يقول قائل: ما العلاقة بين (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) وبين... (سبحانه وتعالى عما يشركون) فالقسم الأول من الآية فيه إخبار بقدوم عذاب الله، وفيه النهي عن استعجال العذاب، أما القسم الثاني ففيه تنزيه الله عن الشركاء، وفيه التعظيم له سبحانه، فما العلاقة بينهما؟
والعلاقة بينهما أن استعجال الكفار بالعذاب منشأه الشرك الذي هم فيه، ولأن سبب الاستعجال هو الشرك، أصبح استعجال العذاب معنى من معاني الشرك، فناسب أن ينزه الله ويعظم بعد ذكر الشرك.
- و" سبحان " مصدر نحو غفران، أي تنزيه الله عما لا يليق به من الصاحبة والشركاء وجميع النقائص، أي تبعيده عنها سبحانه وتعالى.
وأصل السبح هو المر السريع، ومنه يستعار الابتعاد؛ لأن الابتعاد قد يكون نتيجة للمر السريع، لأن معنى تسبيح الله في المعاجم اللغوية هو تنزيه الله، والتنزيه التبعيد، نقول نزه نفسه عن السوء. أي: أبعدها.
- و" تعالى " من العلو، وجاء على وزن تفاعل، لأن علوه سبحانه وتعالى عظيم أيما عظمة.
- ولكن لماذا قدمت كلمة " سبحانه " على " تعالى " وليس العكس؟
يقدم نفي النقائص على إثبات العظمة؛ لأن إثبات العظمة لا يعني نفي النقائص؛ فنفي النقائص يكون أولا ثم إثبات العظمة، فقد أرشدنا النبي ﷺ - كما في أحاديث كثيرة ومنها ما هو في الصحيحين - أن نقول " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " وفي هذا الذكر تقديم لتنزيه الله عن الشريك، ثم ذكر عظمة الله سبحانه وتعالى بأن له الملك وله الحمد وأنه على كل شيء قدير.
- جاء التعبير بالفعل المضارع في قوله تعالى (عما يشركون) لأن إشراك الكفار متجدد، فهم في كل وقت يعبدون الأصنام ويذبحون لها ويقدمون لها القربات، وما زال هذا مستمرا حتى زمننا هذا، ففي هذا الزمن - زمن العلم - تعبد الأصنام في بلاد الصناعات والعلوم المادية، ويشرك بالله فيها صبح مساء، فالهندوس والطاويون والبوذيون وغيرهم من أهل الصين والهند وكوريا واليابان كلهم وغيرهم مازال عامتهم على الشرك الذي يتجدد في كل يوم.
(ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) (٢)
المفردات:
- الروح: هي الوحي: أي الدين الموحى به من عند الله.
المعنى الإجمالي:
بعد أن نزه الله سبحانه وتعالى ذاته عن الشريك في الآية السابقة، بين أن كل دعوة الأنبياء كانت إلى التوحيد.
وأن الله هو الذي أنزل الملائكة بالدين الذي هو حياة القلوب كما أن الطعام هو حياة الأبدان، ولهذا سمى الدين المنزل بالروح.
وبينت الآية أن هدف الدعوة إلى دين الله هو التزام العباد بالتقوى.
المعنى التفصيلي:
- جاء التعبير بـ (ينزل) بالتشديد، وليس " ينزل "؛ لأن السياق سياق إثبات للتوحيد، وإن من الأمور المثبتة لذلك هو تنزيل الملائكة بالوحي، فناسب التشديد أهمية ذكر الوحي في سياق إثبات الوحدانية لله.
أو لأن المقصود بإنزال الملائكة هو نزولها من بداية البشرية إلى وفاة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو تنزيل عظيم على مدى هذه السنين الطويلة، فناسبه التشديد.
- جاء التعبير بالفعل المضارع (ينزل الملائكة)؛ لأن نزول الملائكة بالرسالات كان مستمرا حتى زمن نزول الآيات.
- قد يقال: إن الملك الذي ينزل بالوحي هو جبريل، فلماذا قيل (الملائكة) بالجمع علما أن جبريل عليه السلام مفرد؟
جاء ذكر (الملائكة) بالجمع؛ لأن الوحي قد يكون عن طريق جمع من الملائكة كما حصل لإبراهيم عليه السلام لما جاءه ضيفه من الملائكة (وبشروه بغلام عليم) (الذاريات: ٢٨).
- الروح تأتي بعدة معان، منها ما تكون الحياة به: (ويسألونك عن الروح) (الإسراء: ٨٥)، ومنها جبريل: (نزل به الروح الأمين) (الشعراء: ١٩٣)، ومنها الوحي: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) (الشورى: ٥٢)
والمقصود بالروح في هذه الآية هو: الوحي.
والوحي قد يرد بعدة معان، فقد يراد به الإلهام (وأوحى ربك إلى النحل) (النحل: ٦٨)، أو تكليم الملك للنبي، ومنه يطلق الوحي على الموحى به، وقد يراد به الإشارة (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) (مريم: ١١).
و المقصود به هنا هو الموحى به من الدين؛ لأنه حياة القلوب كما أن الطعام حياة الأبدان.
- قيل (بالروح) وليس " بالأرواح "؛ لأن الدين من الله واحد، رغم تعدد الأنبياء، فهو دين إلهي واحد، ولا يصح أن يقال: الأديان السماوية، ومن هنا ناسب التعبير عن الدين الواحد بالمفرد (الروح).
- قيل: إن (من) في الآية تبعيضية أو لبيان الجنس، وقيل: هي بمعنى الباء، أي بأمره.
فالمعنى إذا كانت تبعيضية: ينزل الملائكة بالروح ببعض أمره.
وإذا كانت لبيان الجنس: ينزل الملائكة بالروح من جنس أمره.
وإذا كانت بمعنى الباء أي سببية: ينزل الملائكة بالروح بأمره.
ولكن هذه الآية جاءت في سياق إظهار أمر الله في إنزال رسالة التوحيد عبر ملائكته على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وفي أمره باختيار من يبلغ التوحيد، وفي أمر الأنبياء والرسل أن يبلغوا التوحيد.
ولهذا قال تعالى (من يشاء من عباده) فأظهر المشيئة، ولو قال: على أنبيائه أو رسله، لدل على ذلك دون ذكر المشيئة، ولكن ذكر المشيئة مقصود في الآية؛ لإظهار مشيئة الله في إيصال عقيدة التوحيد لعباده.
وقال تعالى (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا) ليدل على أن إنذار الناس بالتوحيد كان أيضا بأمره.
ولهذا ناسب ذلك أن يكون معنى (من أمره) أي بسبب أمره، أي بأمره نزل الملائكة وبأمره اختير الأنبياء، وبأمره بلغ الناس، فأمره ظاهر في إرادة التوحيد من البداية إلى النهاية. والأمر هنا هو مفرد الأوامر، لا مفرد الأمور.
- (أن) من قوله (أن أنذروا) هي (أن) المفسرة، فحقيقة ما أنزل الله على عباده التوحيد، فما من نبي ولا رسول إلا وقد دعا إلى التوحيد، قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) (الأنبياء: ٢٥).
- غاية معرفة رسالات الله هي: تقوى الله (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون)
- في الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب، تدبر معي قوله تعالى (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا) حيث جاء النص بأسلوب الغيبة ثم جاء النص بالأمر بالتقوى ولكن بأسلوب الخطاب (فاتقون).
ودلالة هذا الالتفات من الغيبة إلى الخطاب هو إبراز أهمية التقوى؛ لأن إنزال الملائكة وبعث الرسل كله لأجل أن نتقي ربنا، فلا نشرك به شيئا ولا نعصيه، ولذا تغير الأسلوب؛ فإن من دلالات أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب إعلاء شأن موضوع الخطاب.
(خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون) (٣)
المفردات:
- خلق: أوجد الأشياء بعد أن لم تكن موجودة.
المعنى الإجمالي:
- لما بينت الآية السابقة أن على الخلق أن لا يعبدوا إلا الله وحده، وأن الله أنزل الرسالات بتوحيده، بدأت الآيات تبين الدلائل على أن الله - سبحانه وتعالى - مستحق بأن يفرد بالعبادة، وأنه ليس في الوجود إله حق سواه.
فالله هو الذي خلق السموات والأرض بالحق، وهو أعلى من أصنام الحجر وأصنام البشر، وأعلى من كل شيء.
المعنى التفصيلي:
- وخص الله سبحانه وتعالى السموات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات أمام أعين الناظرين، ولأنهما مشتملتان على أصناف شتى من الخلق، ولأن العباد يعيشون فوق الأرض وتحت السماء فلا غنى لهم عنهما.
- ومعنى الحق في قوله تعالى: (خلق السموات والأرض بالحق) هو العدل والحكمة وهذا ضد العبث واللهو والباطل قال تعالى: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين (٣٨) ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون (٣٩)) (سورة الأنبياء: ١٦) وقوله تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا) (سورة ص: ٢٧)
- وتقدم ذكر السموات على الأرض لأن خلق السموات تم قبل تمام خلق الأرض، فالله سبحانه وتعالى خلق الأرض وقدر فيها أقواتها ثم سوى سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فخلق السموات تم قبل تمام خلق الأرض.
قال تعالى: (ءأنتم أشد خلقا أم السماء بناها (٢٧) رفع سمكها فسواها (٢٨) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (٢٩) والأرض بعد ذلك دحاها (٣٠) أخرج منها ماءها ومرعاها (٣١) والجبال أرساها (٣٢)) (النازعات)
(خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) (٤)
المفردات:
- نطفة: المقصود بها هنا: ماء الرجل. وهو: المني.
- خصيم: شديد الخصومة.
المعنى الإجمالي:
من دلائل قدرة الله الموجبة لاستحقاقه العبادة وحده أنه خلق من ماء الرجل، ذلك الماء الضعيف الذي إن ترك لم يكن منه فائدة غير أنه مسبب لكلفة التنظيف، خلق الله منه إنسانا قادرا على الخصام، بل إنه مبين في خصامه يقول ويعبر ما يريد.
المعنى التفصيلي:
- المقصود بالإنسان هو جنس الإنسان، أما آدم عليه السلام فقد خلق من طين.
- النطفة هي: الماء الصافي قل أو كثر، وهي هنا ماء الرجل، أي: منيه، و"نطفة" على وزن فعلة بمعنى مفعول، أي: منطوف.
- هل المقصود بالخصيم هنا هو الذي ينازع الله سبحانه وتعالى؟ هما وجهان:
الأول: أنه المخاصم لأجل نفسه.
الثاني: الذي يخاصم دين الله.
وعلى الوجه الثاني فهو في الكفار فقط.
ولكن ليس في الآية تخصيص، فحملها على العموم فيمن يخاصم عن نفسه أو يخاصم في ربه أولى من التخصيص، فهذه النطفة تتحول لتصبح إنسانا قادرا على الخصام والنزاع، بل والاحتراف في النزاع والخصام، بغض النظر عن طبيعة الخصام أهو في حق أو باطل، لأن العبرة في الآية هي قدرة الله على الخلق.
- (مبين) اسم فاعل من أبان، فهو فصيح يستطيع إظهار عداوته وخصامه بالبيان.
- ذكرت الآية صورة تلك النطفة الضعيفة وانتقلت مباشرة إلى صورة الإنسان الخصيم المبين في خصامه وعداوته، ولم تذكر الآية مراحل خلق الإنسان التفصيلية كما في الآيات التي ذكرت مراحل خلق الإنسان في بطن أمه وما بعد ذلك من المراحل؛ لأن المقصود في هذه الآية هو بيان الفرق الشاسع بين صورة النطفة وصورة المخاصم، لأن الفروق تظهر جليا كلما تباعدت الصورتان، فهما صورتان: نطفة وخصيم، وبينهما فرق عظيم، ويفهم هذا أيضا من (إذا) الفجائية في قوله تعالى (فإذا هو خصيم مبين)
(والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) (٥)
المفردات:
- الأنعام: الإبل والبقر والغنم والمعز.
المعنى الإجمالي:
- هذه الأنعام من جملة خلق الله الدالة على أنه الإله الحق، و هذه الأنعام يصنع من أشعارها وأصوافها وجلودها ما يحقق الدفء للإنسان، وفيها من المنافع ما فيها، من التجارة والوجاهة وما يباع من ألبانها وسمنها وأصوافها، وكذلك فهي من مصادر الطعام المهمة للإنسان.
المعنى التفصيلي:
- جاء تقديم (الأنعام) على (خلقها) في قوله تعالى (والأنعام خلقها) علما بأنه لم يقدم ذكر (الإنسان) في قوله تعالى (خلق الإنسان) فما الفرق بين الآيتين، ولماذا جاء التقديم؟
جاء تقديم (الأنعام) على (خلقها)؛ لأن الموضوع الرئيسي في الآية وما بعدها هو فوائد الأنعام، ولذا قدم ذكرها، بينما الموضوع الرئيسي في قوله تعالى (خلق الإنسان) هو الحديث عن انتقال الإنسان من نطفة إلى رجل خصيم مبين، وليس محور الكلام هو عن الإنسان ومزاياه وصفاته، بل الكلام عن خلقه، ولذا جاء الترتيب على الأصل، فعل وبعده فاعل.
- ذكرت نعمة الأنعام بعد ذكر خلق السموات والأرض والإنسان؛ لأن الأنعام هي قوام حياة العرب سابقا، إذ لم يكن قوام حياتهم الأرز أو السمك كما عند بعض الشعوب، بل طعامهم من لحومها ولبنها، وكان لباسهم من صوفها وأشعارها، وأوعية سقائهم من جلودها، وركوبهم وتنقلهم على بعضها، وهي مالهم، وكذلك رمز وجاهتهم، ورغم مرور السنين بقيت الإنعام مصدرا مهما للإنسان.
- ذكر الأكل بعد ذكر المنافع - رغم أنه من جملتها - لما للأكل من المكانة عند الإنسان، وهذا من باب ذكر الخاص بعد العام للأهمية.
- جاء التعبير بالاسم في (دفء) و (منافع)، ولكن جاء التعبير بالمضارع في... (تأكلون)؛ لأن الأكل متكرر في كل يوم عدة مرات، بينما الدفء موسمي، والمنافع الأخرى قد لا تتكرر في الأسبوع مرة، إن لم يكن أكثر، وقد تكون المنافع يومية ولكن ليس لكل الناس.
(ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) (٦)
المفردات:
- الجمال: الحسن.
- تريحون: ترجعون آخر النهار، أي ترجعون بأنعامكم إلى مأواها، والرواح ضد الصباح.
- تسرحون: تخرجون أول النهار، أي بأنعامكم إلى مرعاها.
المعنى الإجمالي:
جعل الله لنا في الأنعام نعمة غير الدفء والمنافع والأكل، وهذه النعمة هي نعمة السرور الذي يدخل القلب عند النظر إليها، فهي جمال يتمتع به عند رجوعها إلى مأواها عشيا وعند خروجها إلى مرعاها صباحا، والذين يعملون في تربية الأنعام هم من يشعر بهذا السرور عند رؤية الأنعام، وكما ذكرت سابقا أن العرب كانوا من أقرب الناس معرفة بالأنعام وبما يتعلق حولها من المشاعر، فتربيتها جزء من حياتهم اليومية.
المعنى التفصيلي:
- لماذا قدم ذكر الرجوع في آخر النهار على الخروج في أوله في معرض بيان الجمال قال تعالى: (حين تريحون وحين تسرحون)؟
وذلك لأن الأنعام عند رجوعها تكون قد أكلت وشبعت وسمنت وامتلأت ضروعها باللبن، فيفرح صاحبها بهذا الخير، وهو أشبه ما يكون بالمزارع وقت القطاف، وأما عند خروجها صباحا فيشعر صاحبها بالسرور لرؤيتها ولكن ليس كما لو كانت على حال رجوعها آخر النهار.
(تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف... رحيم) (٧)
المفردات:
- أثقالكم: أشياءكم الثقيلة.
- بالغيه: واصلين إليه.
- شق الأنفس: بذل الأنفس للمشقة العظيمة.
المعنى الإجمالي:
ومن جملة فوائد هذه الأنعام أنها راحة لنا بحملها أشياءنا الثقيلة ونقلها إلى أماكن بعيدة، ولولا هذا التيسير من الله لتعبنا تعبا عظيما في السفر بهذه الأحمال، ولكن الله رؤوف بنا، ورحيم بنا، ولذلك خلق لنا هذه الأنعام التي تريحنا من المرارة والمكابدة العظيمة.
المعنى التفصيلي:
- قد يقول قائل: نحن الآن لا نستخدم هذه الأنعام في الحمل والتنقل؛ لأن عندنا السيارات والطائرات وغيرها، فكيف نستنبط عبرة من هذه الآية تناسب وقتنا؟
أقول له: نزل القرآن على العرب وخاطبهم بما هم أهله، حيث كانت الأنعام هي وسيلة الحمل والتنقل.
والراحة وسهولة التنقل من مظاهر رحمة الله ورأفته بنا، حيث ختمت الآية بـ (إن ربكم لرءوف رحيم) أي رؤوف و رحيم بكم إذ أراحكم من حمل الأمتعة والسفر بها، ويظهر هذا جليا في زمننا بما يسر الله للإنسان من المركبات والطائرات التي تحمل أثقاله وتنقله أنى شاء على وجه هذه الأرض، فعلينا أن نشكر الله على نعمة التيسير والراحة فهي من مظاهر رأفة ورحمته.
- قال تعالى (إن ربكم لرءوف رحيم) وفي هذا الآية تأكيد بـ (إن) وباللام (لرءوف) وفي هذا دلالة على عظيم هذه النعمة، فلو تصورنا أننا نسافر من بلد إلى بلد حاملين أثقالنا على ظهورنا لعلمنا عظيم رأفة الله ورحمته بنا، ولهذا جاء التأكيد هنا.
- جاء التعبير بـ (إن ربكم) بدل " إن الله " أو ما في معناه؛ لأن من معاني الرب المدبر لأمر عباده والراعي لشؤونهم، وفي جعل الأنعام تحمل أثقالنا وتسافر بها منتهى التدبير لمصلحة المخلوقين. فسبحان ربنا ما أرأفه وأرحمه!
- قال تعالى: (إن ربكم لرءوف رحيم) ما الفرق بين الرأفة والرحمة؟
الرأفة أرق من الرحمة، فقد يكون الأمر المكروه للمصلحة رحمة، كأن تقطع يد المريض لعلاجه، ويسمى هذا رحمة لا رأفة.
ولكن الرأفة لا تكون في المكروه ولو كان مصلحة، قال تعالى (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) (النور: ٢) فجلد الزاني فيه مصلحة، ولكن الرأفة تمنع من جلده رغم المصلحة، فنهانا الله عن ترك الجلد لأجل الرأفة، لأن هذا الجلد - ولو كان شديدا - فيه مصلحة.
- ولكن لماذا قدم ذكر الرأفة على الرحمة في الآية (لرءوف رحيم)؟
قدم ذكر الرأفة على الرحمة؛ لأن الرأفة تكون في دفع المكروه، والرحمة تكون في إيصال الخير، فقدمت الرأفة على الرحمة؛ لأن السلامة أولا ثم الغنيمة.
(والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون) (٨)
المعنى الإجمالي:
- ومن نعم الله علينا الخيل والبغال والحمير، التي خلقها الله سبحانه وتعالى لنا لأجل ركوبها، ولأجل أنها زينة لنا إذا ركبناها وإذا امتلكناها، وليس هذا فقط بل هناك خلق آخر غير الذي نعلمه يخلقه متى شاء وكيف شاء.
المعنى التفصيلي:
- جاء الترتيب من الأعلى إلى الأدنى في قوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير) فالخيل خير من البغال، والبغال خير من الحمير، وجاء هذا الترتيب لأن المقام مقام امتنان فناسب أن يذكر الأعلى ثم الأدنى، ألا ترى أن فرعون لما أراد يمن على موسى عليه السلام قال له: (قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين) (الشعراء: ١٨) فقدم التربية على المكث، لأن التربية أعظم من مجرد المكث؛ لأنها تشتمل على المكث علاوة على التربية فناسب أن يقدمها.
- بينت الآية أشهر منافع الخيل والبغال والحمير عند العرب، وهي الركوب والزينة، ولا يعني هذا أن الركوب والزينة هي كل المنافع؛ لأنه لا ينكر أحد أن الحمل من منافع هذه الحيوانات، وكذلك الحرث، ولكن ذكرت الآية أشهر ما كان يستفيده العرب من هذه الحيوانات.
- استدل أبو حنيفة بالآية على حرمة لحوم الخيل؛ لأنها لو كانت حلالا لذكرت في باب الامتنان، ولكن سبق ذكر أن الآية لم تبين كل أنواع الفوائد والمنافع بل بينت المشهور منها.
- ويجوز كما ورد في الحديث الصحيح أكل لحوم الخيل، ولكن هذا لم يكن من عادتهم السائرة، ويحرم أكل لحوم الحمير الأهلية، وكذلك البغل المتولد من الخيل والحمير الأهلية، فإنه يحرم لأنه متولد من محرم وحلال.
فقد روى البخاري ومسلم ما يدل على جواز أكل لحوم الخيل، فعن جابر بن عبد الله قال نهى النبي - ﷺ - يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في لحوم الخيل (صحيح البخاري ج٥/ص٢١٠٢) (صحيح مسلم ج٣/ص١٥٤١)
- جاء التعبير في هذه الآية بـ (زينة) عن الخيل والبغال والحمير، وجاء التعبير بـ (جمال) عن الأنعام في قوله تعالى (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون).
فلماذا عبر عن الأنعام بالجمال وعن الخيل والبغال والحمير بالزينة؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من بيان الفرق بين الزينة والجمال، والفرق هو أن كل زينة جمال، ولكن ليس كل جمال زينة، فالزينة أخص.
ومن هنا فمنظر الأنعام جمال يبعث السرور في نفوس العرب زمن الوحي ومن شابههم في الأطباع، وركوب الخيل عند العرب جمال أيضا ولكنه نوع من الجمال يسمى زينة؛ لأن الراكب يتزين بركوب الخيل.
- لماذا قدم ذكر الركوب على الزينة (لتركبوها وزينة)؟
قدم ذكر الركوب على الزينة؛ لأن الفائدة الحقيقية الأصلية تكمن في الركوب، وأما الزينة فهي زيادة.
- وجاء التعبير بالمضارع في قوله تعالى (ويخلق ما لا تعلمون) للدلالة على أن الخلق مستمر ومتجدد.
- (ويخلق ما لا تعلمون) أي من وسائل الركوب والانتقال كالسيارات والطائرات وغيرها، فهي من صنعنا ولكنها من خلق الله سبحانه وتعالى، قال تعالى (والله خلقكم وما تعملون) (الصافات: ٩٦) فكل قول أو فعل أو كائن في هذا الوجود فهو مخلوق، قال تعالى (لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه) (الأنعام: ١٠٢)
ولكن قد يقول قائل: (ويخلق ما لا تعلمون) أي من صنوف المخلوقات المتنوعة والأطعمة وليس من وسائل الركوب والانتقال فقط.
ولكن الظاهر في تفسير (ويخلق ما لا تعلمون) في هذه الآية، أي من وسائل الركوب والانتقال؛ لأن ذكر (ويخلق ما لا تعلمون) في ختم الآية التي تتحدث عن الخيل والبغال والحمير دون غيرها من الآيات الكثيرة التي تتحدث عن مخلوقات الأرض والسماء في هذه السورة، للدلالة على الارتباط بين الخيل والبغال والحمير وبين هذا الخلق.
ولكن قد يراد بها المعنى العام في آية أخرى، كما في قوله تعالى (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) (يس: ٣٦)
(وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين ((٩)
المفردات:
- القصد: استقامة الطريق.
- السبيل: الطريق الذي فيه سهولة، يذكر ويؤنث.
- جائر: مائل عن الحق.
المعنى الإجمالي:
لما ذكرت نعمة سلوك السبيل المادي بالخيل والبغال والحمير ناسب أن تذكر النعمة العظمى وهي نعمة سلوك سبيل الإيمان.
فمن نعم الله - سبحانه وتعالى - علينا أيضا بيان الطريق المستقيم حتى يكون واضحا بينا ليسير عليه من يريد الحق، وحتى لا ينحرف عنه إلى الضلال.
والله لا يجبرنا على الهداية إجبارا، بل بينها لنا فقط ونحن من نختار، وعدم إجباره لنا ليس عن عجز تعالى الله عن ذلك، بل لو شاء الله لهدى الخلق أجمعين، ولكنه الاختبار والامتحان.
المعنى التفصيلي:
- قصد السبيل: أي الطريق القاصد، أي: المستقيم، ووصف السبيل بالقصد وهو المصدر من باب التأكيد القوي على الاستقامة، نقول: رجل عادل. فإذا أردنا المبالغة في وصف عدله، قلنا: رجل عدل.
- (وعلى الله قصد السبيل) أي على الله بيان طريق الحق، ويدل على هذا حرف (على) الدال على التعهد، وهذا كقوله تعالى (إن علينا للهدى) (الليل: ١٢) أي تعهد من الله ببيان طريق الهدى.
- (ومنها جائر) أي: ومن الطرق ما هو مائل عن الحق، وقد بينها الله -سبحانه وتعالى - ببيانه طريق الحق، فكل من سلك طريقا غير طريق الحق فهو مائل عن الحق.
- (ولو شاء لهداكم أجمعين) أي إن الله قادر على أن يجعل الناس كلهم مؤمنين جبرا عنهم، ولكنه سبحانه أبان الحق من الضلال، وترك لنا حرية الاختيار؛ لنتحمل نتيجة أفعالنا.
(هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ((١٠)
المفردات:
- تسيمون: ترعون فيه أنعامكم.
المعنى الإجمالي:
وما زالت الآيات تبين نعم الله - سبحانه وتعالى - علينا. فالله هو الذي أنعم علينا بنعمة المطر الذي فيه حياتنا، فهو شرابنا الذي لا نعيش بدونه، وهو سبب إنبات الشجر الذي نرعى فيه أنعامنا.
المعنى التفصيلي:
- جاء النص الشريف بـ (هو الذي أنزل) بالضمير المنفصل (هو) والاسم الموصول (الذي)، ولم يأت بـ: " وأنزل " فقط، وهذا للتأكيد على أن المنزل للغيث هو الله - سبحانه وتعالى - وحده لا أحد غيره.
- قدم الجار والمجرور (من السماء) في قوله تعالى (أنزل من السماء ماء) للاختصاص؛ لأن السماء هي مكان نزول الماء.
- ومن البدهي أن الماء ينزل من السماء، فلماذا ذكرت (السماء)؟
لقد ذكرت السماء في سياق نزول المطر لاستحضار صورة الماء النازل من السماء، استحضارا يتلازم عند المؤمنين واستحضار النعمة.
- "من " في قوله تعالى (منه شراب) تبعيضية؛ لأننا لا نشرب كل الماء بل بعضه، و"من" في قوله تعالى (ومنه شجر) سببية؛ لأن الماء سبب في حياة الشجر، ولأجل هذا أعيد ذكر حرف الجر "من" في قوله تعالى (منه شراب ومنه شجر) ولم تأت الآية بـ "منه شراب وشجر"؛ لاختلاف دلالة الحرف في كل موقع.
- (شجر فيه تسيمون) وليس " منه تسيمون"؛ لأن الرعي يكون بين الأشجار، سواء أكلت الأنعام من الشجر أو ضرب الراعي الشجر لتسقط أوراقها لتأكله الأنعام، وكذلك ترعى الأنعام من الأعشاب التي تكون بين الشجر، ولذلك جاء التعبير بحرف الجر "في".
(ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ((١١)
المفردات:
- الزيتون: جمع زيتونة.
- النخيل: جمع نخلة.
- أعناب: جمع عنب، والعنب جمع عنبة.
- الآية: العلامة الظاهرة (دلالة).
المعنى الإجمالي:
ومن نعم الله علينا - أيضا - أن أنزل علينا الماء من السماء، وأخرج لنا به الحب والبقول والنخيل والزيتون والأعناب وكل الثمار، وكل هذه الثمار التي يختلف مذاقها ويتنوع لونها تسقى من هذا الماء الواحد، وفي هذا علامة ظاهرة دالة على وحدانية الله وقدرته ونعمه، ولا يعرف هذه النعم إلا من يتفكر فيها.
المعنى التفصيلي:
- لم تعطف هذه الآية على الآية السابقة (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون)؛ لأن هذا الشجر النابت البري الذي ترعى به الأنعام لا يحتاج إلى رعاية، وأما الزرع والزيتون والأعناب وغيرها فهي تحتاج إلى رعاية، فبين الموضوعين فرق.
- ولكن لماذا لم يسند سبحانه وتعالى إنبات الشجر البري إلى نفسه، وإنما أسند إلى نفسه إنبات الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من الثمرات؟
والجواب عن ذلك: أن الشجر البري ينبت من غير رعاية، فيتبادر للذهن فورا أن هذه رعاية الله سبحانه هي التي أنبتته.
ولكن عندما ينظر الإنسان إلى المزروعات والثمار التي تنمو برعاية الإنسان فإنه قد يغفل عن أن الرعاية الحقيقية لإنبات هذه الزروع والثمار هي لله الواحد سبحانه، وسبب الغفلة أن رعاية البشر موهمة بأنها هي السبب في الإنبات، فأسند الله الإنبات لنفسه، كأن المعنى هو:
إن الله أنزل الماء الذي هو شرابكم والذي بسببه يخرج الشجر البري الذي ترعون فيه أنعامكم، وأما ما تعتنون به من الزروع والثمار فلا تظنوا أنكم تنبتونه بل الله هو منبته.
- وجاء التعبير بالمضارع (ينبت) لأن الإنبات سنة لله متجددة في كل حين على هذه الأرض.
- وصرحت الآية بالزروع والزيتون والنخيل والأعناب ثم جاء التعميم (ومن كل الثمرات) لأن هذه الثمار المصرح بها هي من أشهر ما يعرفه العرب، ولأن لها مكانتها الخاصة عندهم.
- قدم ذكر الزروع على الأشجار؛ لأن الزروع من القمح و الأرز و الورقيات والحبوب بأنواعها و البقول وغيرها هي قوام حياة البشر.
- ورتبت أنواع الأشجار من الأعلى إلى الأدنى من جهة العمر؛ لأن طول تعمير الشجرة نوع من أنواع النعمة، فشجر الزيتون يعيش مئات السنين، وشجر النخيل يعيش أقل من شجر الزيتون بكثير، وأما الأعناب فأقلهن عمرا.
- (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) جاء التعبير بـ"يتفكرون" وليس بـ"يتذكرون"؛ لأن الأمر ليس ظاهرا ظهور ما يحتاج إلى تذكر فقط، وليس بـ"يعقلون" لأن الأمر لا يحتاج إلى المبالغة في إعمال العقل، بل العبرة بأمر الزرع والثمار تحصل بتفكر وتأمل في حال البذرة ونموها وإثمارها، وكيف أن هذه البذرة انتقلت من بذرة يابسة إلى زرع يانع وثمار ناضجة، وهذا يقدر عليه عامة الناس.
- وجاء التعبير بـ "قوم" في قوله تعالى (لقوم يتفكرون) للإشارة إلى أن المقصودين هم من أصبح التفكر صفتهم التي عليها يجتمعون، ولأجل هذه الصفة المشتركة استحقوا إطلاق "قوم" عليهم، وليسوا ممن تفكر مرة واحدة أو عدة مرات متفرقة، وفي غير ذلك لا يتفكرون، وهذا ما يفيده الفعل المضارع، فإن تفكرهم متجدد متكرر، وليس تفكر واقعة واحدة.
(وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ((١٢)
المفردات:
سخر: ساقه قهرا إلى الغرض المراد.
آيات: علامات ظاهرة (دلالات).
المعنى الإجمالي:
جعل الله لنا الليل لننام فيه ونرتاح، وجعل لنا النهار لنعمل فيه ونكد، وجعل لنا من الشمس الضياء والدفء، ومن القمر النور، وكذلك فالنجوم العظيمة تسير وفق أمر الله سبحانه وتعالى، وبها نهتدي إلى معرفة الاتجاهات، وهي زينة في السماء، وهذه الفوائد المذكورة لليل والنهار والشمس والقمر والنجوم هي من سبيل البيان لا الحصر، وفي هذه الأمور التي سخرها الله علامات ظاهرة دالة على وحدانيته وقدرته ونعمته، فسبحان من خلق السموات وسخر ما فيها لنا، ما أعظمه وأكرمه!
المعنى التفصيلي:
- جاء التعبير (سخر) بالفعل الماضي لا المضارع مع أن آيات الليل والنهار والشمس والقمر مازالت مسخرة إلى غاية الآن؛ وذلك لأن التسخير سنة ربانية تم قضاؤها، فناسب التعبير بالماضي؛ وما نراه من التسخير هو من آثار القضاء الإلهي السابق، أي أنه قانون إلهي تم قضاؤه على الليل والنهار والشمس والقمر فهي تسير بناء على ما قضي.
- لماذا قدم ذكر الليل على النهار في هذه الآية وغيرها؟ وذلك لأن خلق الليل كان قبل خلق النهار قال تعالى (أنتم أشد خلقا أم السماء بناها (٢٧) رفع سمكها فسواها (٢٨) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (٢٩)) (النازعات)
(وأغطش ليلها): جعله مظلما.
(وأخرج ضحاها): أنار نهارها.
- وقدم ذكر الشمس على القمر؛ لأنها الأصل في الإضاءة والقمر تبع لها.
- وقدم ذكر الشمس والقمر على ذكر النجوم؛ لأن الشمس والقمر ألصق بالأرض من النجوم البعيدة، ولأن آثارهما على الأرض أوضح من أثر النجوم، فالليل والنهار من أثر الشمس، والنور في الليل من أثر القمر، وغير ذلك من الآثار الأخرى.
- أفرد ذكر تسخير النجوم في جملة أخرى مستقلة عن التي قبلها (والنجوم مسخرات بأمره)؛ لأن شأن النجوم في الخلق أعظم مما ذكر من الليل والنهار والشمس والقمر، ولأن النجوم ليست تبعا للشمس أو للقمر، ولأن الشمس نجم من النجوم، وفي النجوم ما يفوق الشمس في الحجم والقوة.
- وعبر عن الليل والنهار والشمس والقمر بالفعل (سخر)، وعبر عن النجوم بالاسم (مسخرات)؛ لأن الاسم أقوى في التأكيد على المعنى من الفعل، فنقول: صدق فلان، فإذا استمر على صدقه صار صادقا، أي أصبح وصف الصدق مستمرا وملازما.
جاء التعبير عن النجوم بالاسم لا الفعل؛ لأن النجوم أعظم من الشمس والقمر، فعددها بالمليارات، وأحجامها مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
(والنجوم مسخرات بأمره) جاء (بأمره) مع ذكر التسخير تأكيدا على أن هذه النجوم العظيمة هي ملك لله، ورغم عظمتها فهي بأمره.
- (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) جاءت الجملة مؤكدة بـ (إن) و (اللام)؛ لضرورة استخدام العقل في استنباط العبر من تسخير الأمور المذكورة.
- جاء في الآية السابقة إفراد لفظ (آية): (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) وفي الآية التالية لفظ الآية مفرد أيضا (إن في ذلك لآية لقوم يذكرون)، ولكن في هذه الآية جمع لفظ الآية (لآيات) (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون).
- وجاء التعبير بـ "قوم" في قوله تعالى (لقوم يعقلون) للإشارة إلى أن المقصودين هم من أصبح استعمال العقل صفتهم التي عليها يجتمعون، ولأجل هذه الصفة المشتركة استحقوا إطلاق "قوم" عليهم، وليسوا ممن استعمل عقله مرة واحدة أو عدة مرات متفرقة، وفي غير ذلك لا يعقلون، وهذا ما يفيده الفعل المضارع، فإن استعمالهم لعقولهم متجدد متكرر، وليس في واقعة واحدة.
وسبب الجمع في هذه الآية هو أن عالم الفضاء فيه من العبر ما يفوق ما على الأرض من العبر، ومن طالع ما يكتبه المختصون في عالم الفضاء لعلم أن في كل أمر آية.
- جاء التعبير في هذه الآية بـ (يعقلون) لأن آيات عالم الفضاء لا يستقل بمعرفتها العامة من الناس، بل لا بد من استخدام العقل لمعرفتها.
(وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون) (١٣)
المفردات:
- ذرأ: خلق.
- يذكرون: يتعظون.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة عظيم خلق الله في السماء، بينت هذه الآية عظيم خلق الله في الأرض، فالله خلق لنا في هذه الأرض أشياء كثيرة من الحيوانات والأشجار والأتربة والثمار، متنوعة في ألوانها وأشكالها وأحجامها وغير ذلك من الصفات، ولا يعتبر بهذا الخلق إلا أصحاب الإيمان الذين يتعظون.
المعنى التفصيلي:
- معنى (ذرأ): خلق.
وقيل: الذرء: الخلق بالتناسل والتولد بالحمل والتفريخ، فليس الإنبات ذرءا.
وهذا القول ليس صحيحا لقوله تعالى (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا) (الأنعام: ١٣٦) فكما في الآية، فإن الذرء يطلق على النسل وعلى الإنبات؛ لأن الحرث هو الزرع والثمار.
- ما الفرق بين "الخلق" و "الذرء"؟
الفرق بين "الخلق" و "الذرء" أن "الذرء" خلق عن طريق التكاثر، قال تعالى (فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى: ١١).
- عرف بعض المفسرين الألوان بالأصناف، ولكن الظاهر أن الألوان هي الألوان؛ لأن (مختلفا ألوانه) أشمل من " مختلفا أصنافه "؛ لأن الصنف الواحد من الثمر قد يحوي ألوانا شتى، وكذلك الصنف الواحد من الحيوان قد يحوي ألوانا شتى.
وبناء على هذا، فتعريف الألوان بالألوان أبلغ من تعريفها بالأصناف.
- إن اختلاف اللون من الآيات الدالة على الله سبحانه كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) (الروم: ٢٢)
- والاعتبار باللون يدل بالأولى على الاعتبار بحقائق الأشياء، لأن ما كان ظاهره عبرة فحقيقته أولى بالاعتبار.
- إن الاعتبار بظواهر الأشياء مفتوح أمام كل الناس؛ لأنه لا يحتاج إلى درجات عالية من إعمال العقل، ولذا جاء التعبير بـ (يذكرون) في قوله تعالى (إن في ذلك لآية لقوم يذكرون) فالأمر لا يحتاج إلا إلى مجرد التذكر لما غفل عنه الإنسان.
- وجاء التعبير بـ "قوم" في قوله تعالى (لقوم يذكرون) للإشارة إلى أن المقصودين هم من أصبح التذكر صفتهم التي عليها يجتمعون، ولأجل هذه الصفة المشتركة استحقوا إطلاق "قوم" عليهم، وليسوا ممن تذكر مرة واحدة أو عدة مرات متفرقة، وفي غير ذلك لا يتذكرون، وهذا ما يفيده الفعل المضارع، فإن تذكرهم متجدد متكرر، وليس في واقعة واحدة.
(وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ((١٤)
المفردات:
- سخر: ساقه قهرا إلى الغرض المراد.
- لحما: المقصود به لحم الكائنات البحرية من الأسماك وغيرها.
- حلية: ما يلبس من الزينة، والمقصود هنا اللؤلؤ والمرجان وما يستخرج من البحر من زينة تلبس.
- الفلك: السفينة، ويطلق على المفرد والجمع، ويذكر ويؤنث.
- مواخر: جمع ماخرة، وهي السفينة تشق الماء مع صوت.
- تبتغوا: تطلبوا.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة نعم الله - سبحانه وتعالى - في البر، تبين لنا هذه الآية نعم الله في البحر.
ومن نعم الله - جل في علاه - أنه ذلل البحر لنا حتى استطعنا أن نصطاد منه الأسماك وغيرها مما يؤكل من هذه اللحوم الطرية، وذلل لنا البحر لنغوص فيه فنجمع اللؤلؤ والمرجان وما يتخذ زينة.
ومن نعمه أنه سبحانه وتعالى ذلل البحر لنا فنحن نركبه بالسفن العظيمة الجارية، والتي نسافر على ظهورها لتحصيل المنافع والربح، لعلنا بعد هذا كله نشكر الله سبحانه وتعالى.
فسبحان من جعل مما في البحر لنا طعاما وزينة، وأجرى السفن العظيمة فوق الماء دون أن تغرق.
المعنى التفصيلي:
- جاءت بداية الآية بـ (وهو الذي سخر البحر) بالضمير (هو) والاسم الموصول (الذي)، ولم يأت: " وسخر " فقط، وهذا للتأكيد على أن المسخر للبحر هو الله وحده لا أحد غيره.
- جاء التعبير (سخر) بالفعل الماضي لا المضارع مع أن البحر مازال مسخرا إلى غاية الآن؛ وذلك لأن التسخير سنة ربانية تم قضاؤها، فناسب التعبير بالماضي؛ وما نراه من التسخير هو من آثار القضاء الإلهي السابق، أي أنه قانون إلهي تم قضاؤه على البحر، فهو يسير بناء على ما قضي.
- (لتأكلوا منه لحما طريا) سمي السمك لحما؛ لأنه حيوان من جملة الحيوانات، وكونه بحري لا ينفي كونه لحما، ووصف بالطري؛ لأن لحم السمك أطرى من لحم حيوانات البر.
وقد ذكر بعض المفسرين أن " وصفه بالطراوة؛ لأن الفساد يسارع إليه ". ولكن هذا القول مما لا يناسب مقام الامتنان بنعم الله، لأن المعنى يكون حينئذ: وسخر لكم البحر لتأكلوا لحم السمك الذي يسارع إليه الفساد فتأكلونه طريا لئلا يفسد.
وهذا لا يناسب مقام الامتنان، وإنما الذي يناسب مقام الامتنان هو وصف لحم السمك بالطراوة الذي هو عنوان للذة لحوم السمك.
- جاء التعبير (تستخرجوا) وليس " تخرجوا "؛ لأن الاستخراج يدل على الطلب، فالذي يغوص في البحر يطلب اللؤلؤ والمرجان، فهو يستخرجهما، أي يطلبهما.
- قال بعض المفسرين: جاء التعبير (تلبسونها) مع أن لبس اللؤلؤ للنساء فقط، تغليبا للتعبير بالمذكر، أو لكون لبسهن لأجلهم.
ولكن جاء في (الفروع ج٢/ص٣٦٠) " فصل: وللرجل والمرأة التحلي بالجوهر ونحوه.
وذكر أبو المعالي: يكره للرجل التشبه، ولعل مراده غير تختمه بذلك "
أي أن التختم باللؤلؤ للرجال ليس من جملة التشبه بالنساء عند الحنابلة.
وهناك من العلماء من رأى الحرمة.
ومحل النزاع في لبس اللؤلؤ للرجال هو: هل لبسه من باب تشبه الرجال بالنساء أو لا؟
فمن قال هو من باب التشبه، قال بالحرمة أو الكراهة.
ومن لم يقل هو من باب التشبه، قال بالإباحة.
والقول بالإباحة موافق لظاهر الآية، ولكن فيما يجوز للرجل لبسه من الخواتم، لا الأساور في اليد، والقرطة في الأذن ونحو ذلك؛ لأنه من لباس النساء.
ولهذا قال القرطبي: " امتن الله سبحانه على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنما حرم الله تعالى على الرجال الذهب والحرير " (تفسير القرطبي ج١٠/ص٨٧)
- جملة (وترى الفلك مواخر فيه) معترضة، وجاءت هكذا من باب التعجيب، لأن من نعم الله - سبحانه وتعالى - في تسخير البحر صيد السمك واستخراج اللؤلؤ والمرجان واستخدام البحر للتجارة، ولكن لا بد من الانتباه إلى نعمة سير السفن العظيمة الثقيلة فوق الماء السائل، فأنت ترى السفن تسير فوق الماء فهل تفكر الناظر في نعمة الله وقدرته بسير السفن فوق الماء.
- (مواخر فيه) فيه إشارة إلى واقع السفن، حيث إن جزءا منها فوق الماء وجزءا تحته، وهي بهذه الكيفية تشق الماء شقا، ورغم شقها للماء فإنها لا تغرق.
- (ولتبتغوا من فضله) أي لتطلبوا التجارة والربح.
- (ولتبتغوا من فضله) جاءت الواو عطفا على (وتستخرجوا)، ولم تأت الآية بحذف حرف الواو: وترى الفلك مواخر فيه لتبتغوا من فضله؛ لأن عدم العطف لا يناسب سياق الامتنان بتسخير البحر، لأن المعنى يصبح حينئذ:
"وترى الفلك تشق ماء البحر لأجل تجارتكم ".
فأبرزت نعمة تسخير السفن لأجل التجارة، مع أن ما يناسب السياق هو إبراز نعمة سير السفن فوق الماء بصفتها صورة من صور تسخير البحر.
- (ولعلكم تشكرون) جاءت واو العطف (ولعلكم) لأن الجملة معطوفة على ما سبق من الحكم التي سخر الله - سبحانه وتعالى - البحر لأجلها.
(وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون) (١٥)
المفردات:
- رواسي: جبال ثابتات، ومفردها راسية، ورسا الشيء، أي: ثبت.
- تميد: تتحرك.
- سبلا: ومفردها سبيل، وهو: الطريق.
المعنى الإجمالي:
جعل الله سبحانه وتعالى الجبال سببا لثبات الأرض حتى لا تتحرك بنا فنهلك، أو لا يصلح لنا زرع أو حرث أو عمل.
وجعل لنا سبحانه الأنهار لنقل الماء إلينا، وجعل لنا الطرق التي نسير فيها، والحكمة من جعل هذه الطرق هو اهتداء الإنسان إلى مكان مصالحه وحاجاته.
المعنى التفصيلي:
- (ألقى) فيه معنى " جعل " كقوله تعالى (وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم) (الأنبياء: ٣١).
ولكن معنى الإلقاء الدقيق هنا هو: إلقاء أمر الله بجعل الجبال رواسيا، لأنه يعبر عن القول بالإلقاء قال تعالى (فألقوا إليهم القول) (النحل: ٨٦) وكقوله تعالى (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) (المزمل: ٥) وقوله (ءألقي الذكر عليه من بيننا) (سورة القمر: ٢٥).
وهو كقوله تعالى (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) (الزمر: ٦) أي أنزل الأمر بخلقها.
- تقدم ذكر الجار والمجرور (في الأرض) على المفعول به (رواسي) للأهمية؛ لأن محور الامتنان في الآية الأرض المهيأة للحياة، لا ما جعل في الأرض من الأشياء؛ لأن قوله تعالى (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) امتنان بالأرض المثبتة بالجبال، أما لو جاء النص بتأخير الجار والمجرور: " وألقى رواسي في الأرض أن تميد بكم " لكان الامتنان بالجبال التي تثبت الأرض، وسياق الآية إنما هو الامتنان بالأرض المثبتة بالجبال والمهيأة للحياة بالأنهار والسبل، فناسب تقديم الجار والمجرور.
- جاء النص (في الأرض) ولم يأت على الأرض كما يرى الناظر أن الجبال على الأرض وليست فيها؛ لأن (في) تدل على التمكين والثبات، وثانيا: فإن الجزء الظاهر من الجبل للناظر مقابله جزء عظيم مغروس في الأرض.
- (أن تميد بكم) أي: لئلا تضطرب بكم، كقوله تعالى (يبين الله لكم أن تضلوا) (النساء: ١٧٦) أي: لئلا تضلوا.
- إذا كان معنى (الأرض) أي ما يطلق على سطحها، فيكون المعنى: جعلنا الجبال لئلا يضطرب بكم سطح الأرض.
وإذا كان معنى (الأرض) هو ما يطلق على الكوكب، فيكون المعنى: جعلنا الجبال لئلا يضطرب بكم كوكب الأرض في دورانه أو حركته.
- ذكرت الأنهار والسبل بعد ذكر الجبال؛ لأن الجبال الرواسي تشكل حاجزا أمام الماء وأمام البشر، فناسب الامتنان هنا ببيان أنه رغم وجود الجبال التي تثبت الأرض إلا أن وجودها لم يقطع طريق الماء من الوصول إلى الإنسان لتقوم حياته، وأيضا فهذه الجبال رغم عظمتها لم تقطع طريق الإنسان؛ لأن الله سبحانه جعل - رغم تشابك هذه الجبال بعضها ببعض - طرقا يسلكها الإنسان لكي يقوم بشؤون حياته.
- (لعلكم تهتدون) أي إلى مقاصدكم عن طريق سلوك السبل، كقوله تعالى (وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون) (الأنبياء: ٣١)
(وعلامات وبالنجم هم يهتدون) (١٦)
المفردات:
- علامات: جمع علامة، وهي ما يستدل به السائر من جبل أو سهل أو غيرهما.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة نعمة الله سبحانه بجعل السبل لهدايتنا إلى مقاصدنا، ذكرت هذه الآية نعمة العلامات المميزة في الأرض حيث لم يجعل الله سبحانه الأرض جميعها بنفس المعالم؛ وذلك حتى يستطيع السائر أن يهتدي إلى مقصده.
وبعد بيان أن السبل والعلامات من الأمور الهادية للسائر إلى مقاصده نهارا، بينت الآية نعمة الاهتداء ليلا بنجوم السماء.
المعنى التفصيلي:
- (وعلامات) معطوف على الأنهار والسبل، والمعنى على ذلك: وجعل علامات.
- جاءت (علامات) نكرة في سياق الإثبات، ومعنى الإثبات هو عدم النفي، والنكرة في سياق الإثبات تدل على الإطلاق؛ لأن لكل أهل طريق علامات خاصة يعرفونها، فللمسافر في البر علامات خاصة، وللمسافر في البحر علامات خاصة أيضا، فالعلامات متعددة، ولذا نكرت (علامات) لتدل على الإطلاق.
- إن مفهوم النجوم عند العرب غير مفهوم النجوم في العصر الحديث، فالنجوم عند العرب هي الكواكب الطالعة التي يظهر لمعانها كما في كتب اللغة.
ولكن النجوم في العصر الحديث ليست الكواكب التي يظهر لمعانها؛ لأن الكوكب عند المعاصرين جرم سماوي لا يصدر الضوء وإنما يعكسه، والنجم هو ما يصدر الضوء بذاته لا بالانعكاس.
والعرب لم يفرقوا بينهما، ولذا قال تعالى (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) (الصافات: ٦) والمقصود بالكواكب هي الأجرام السماوية المضيئة بذاتها أو بغيرها، وليست كما في الاصطلاح الحديث. فاقتضى التنبيه، لئلا يفسر القرآن على اصطلاح المعاصرين، بل لا بد من تفسيره على اصطلاح من أنزل عليهم القرآن.
- النجم هو جنس النجوم، وليس نجما واحدا، كما تقول: فلان يملك الدينار والدرهم، أي جنس الدينار وجنس الدرهم.
- قدم الجار والمجرور (بالنجم) في (وبالنجم هم يهتدون) للدلالة على اختصاص النجم بالاهتداء ليلا عند العرب.
- أتي بالضمير " هم " في (وبالنجم هم يهتدون) لتخصيص العرب بالذكر في شأن الاهتداء بالنجوم، كأن الاهتداء بالنجوم ليلا خاص بهم، وهذا مناسب للامتنان على العرب بنعمة الاهتداء بالنجم؛ لأنها مصدر الاهتداء الأهم ليلا عندهم، وهذه الأهمية يعرفها العرب، فهم أولى بأن يشعروا بهذه النعمة من غيرهم.
- (يهتدون) أي إلى سبلهم ومقاصدهم وغاياتهم.
(أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) (١٧)
المفردات:
- خلق: أوجد الأشياء بعد أن لم تكن موجودة.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة عظيم قدرة الله سبحانه في الخلق، وقدرته على الخلق، تنكر هذه الآية على المشركين اتخاذهم آلهة غير الله؛ لأن الله سبحانه هو الخالق فكيف يجعلون المخلوق كالخالق؟ إن هذا أمر لا يستقيم ولا يكون.
وتدعو الآية أهل العقول إلى الاتعاظ بخلق الله - سبحانه وتعالى - حتى لا يعبد معه شيء.
المعنى التفصيلي:
- الاستفهام في الآية (أفمن) استفهام استنكاري، وصيغة الاستفهام الاستنكاري تصلح في الأمور الواضحة التي لا لبس فيها؛ لأنه لو كان في الأمر شيء يسير جدا من الغموض لأصبحت الصيغة تدل على الاستعلام لا الاستنكار، وهذا يدل على أن ما جعله العرب من الشرك أمر ظاهر السوء والخطأ إلى درجة لا يلتبس على السامع أن هذا الاستفهام استنكاري لا استعلامي، وأن العرب الذين كانوا يمارسون هذا الشرك يعملون هذه الحقيقة علما لا لبس فيه ولا غبش.
الذي يخلق هو الله، والذي لا يخلق هو كل شيء غير الله، والمقصود به ما يعبده العرب من الأصنام، ويندرج تحت الدلالة كل ما يعبد من دون الله في أي زمان أو أي مكان.
- عبر عن الأصنام غير العاقلة بصيغة التعبير عن العاقل (من لا يخلق) وليس: "ما لا يخلق "؛ لأن المشركين أجروها مجرى العقلاء بعبادتها.
ولكن قد يقال: إن المقصود في الآية نفي أن يكون العقلاء شركاء لله، وبالأولى فالجمادات أبعد من أن يكونوا شركاء لله.
وهذا المعنى صحيح ولكنه لا يصح تفسيرا للآية؛ لأن الآية تخاطب العرب في شأن الأصنام خاصة بدليل ما بعد هذه الآية (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (٢٠) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون (٢١)) (النحل).
حيث جاء الكلام عن الآلهة بصيغة العقلاء (الذين) وبعدها وصفت الآلهة بأنها ميتة غير قابلة للحياة، وهذا الوصف ينطبق على الأصنام عند العرب، والخطاب ابتداء للعرب، وإنما قلت ما قلت لبيان سبب الكلام عن الجمادات بأسلوب العقلاء، وإلا فلا أحد غير الله سبحانه شريك مع الله.
- جاءت الصيغة (أفمن يخلق كمن لا يخلق) وليس: " أفمن لا يخلق كمن يخلق " لأن الاستنكار في هذه الآية متجه إلى الحط من منزلة الربوبية، وإلى كل ما فعله المشركون في هذا الشرك، وليس الاستنكار متجه إلى سوء الفعلة لأنها مخالفة للحق فقط.
وكما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إن قيل يوما إن السيف أمضى من العصا.
فإذا جعلت العصا كالسيف، فإن الذي حط من منزلته هو السيف لا العصا، فإذا أردنا استنكار الفعلة لأنها مخالفة للحق، واستنكار حط منزلة السيف، قلنا: أتجعل السيف كالعصا؟! أما إذا أردنا استنكار الفعلة لأنها مخالفة للحق فقط، قلنا: أتجعل العصا كالسيف؟!
لأن الاستنكار في هذه الآية متجه إلى الحط من منزلة الربوبية، وإلى كل ما فعله المشركون في هذا الشرك، وليس الاستنكار متجه إلى سوء الفعلة لأنها مخالفة للحق فقط، جاءت الصيغة (أفمن يخلق كمن لا يخلق) وليس: " أفمن لا يخلق كمن يخلق ".
- جاء التعبير بـ (تذكرون) وليس " تفكرون " أو " تعقلون " لأن الأمر ظاهر واضح لا يحتاج إلا إلى إزاحة الغفلة عن هذه القلوب وهذه العقول.
(وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) (١٨)
المفردات:
- تحصوها: تحيطوا بعددها.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة نعم الله سبحانه، وأنه لا يجوز أن نجعل لله شريكا، تبين هذه الآية أن نعم الله أكثر مما ذكر، فهي كثيرة جدا إلى درجة أنها لا تحصر بالعد، ولأن الله هو الخالق وهو المنعم فهو المعبود بحق وحده سبحانه وتعالى عما يشركون.
وتبين الآية - أيضا - أن الله غفور لذنوب عباده، ورحيم بهم.
المعنى التفصيلي:
- لماذا لا يستطيع الإنسان أن يحيط بنعم الله؟ إنه لا يستطيع لأنها كثيرة، فأهل الفلك يمضون العمر في استكشاف نعم الله علينا، وكذا أهل الجيولوجيا وأهل الطب وأهل التربية، وغيرهم كثير، وما يفهمه كل في تخصصه لا يحيط به الآخرون، وإنما يعرف الناس طرفا منه، وهذا فيما نعلم، فكيف بما لا نعلم، وما لا نعلمه أعظم، لأن علمنا في علم الله لا شيء، سبحانه وتعالى!
- نحن لا نستطيع أن نحيط بنعم الله بالعد والذكر، فكيف نستطيع أن نؤدي شكر ما لا نستطيع عده؟! ومن المسلم به أننا لا نستطيع، ولذا جاء ختم الآية بقوله تعالى (إن الله لغفور رحيم)
- جاءت جملة (إن الله لغفور رحيم) مؤكدة بتأكيدين، الأول (إن) والثاني " اللام " في (لغفور) وما هذا إلا لأن أمر النعم عظيم، وأن التقصير في شكرها بحاجة إلى غفران ورحمة مؤكدتان، ولولا هذه المغفرة وهذه الرحمة لهلك الناس.
- الغفور: اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، بمعنى المتجاوز عن ذنوب عباده، وأصله في اللغة من الستر؛ والتجاوز عن الذنوب ستر لها فلا يحاسب عليها صاحبها.
- والرحيم: اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى مشتق من الرحمة.
- ولكن لماذا قدم ذكر "الغفور" على "الرحيم" وليس العكس؟
قدم ذكر "الغفور" على "الرحيم"؛ لأن المغفرة سلامة، والرحمة غنيمة، والسلامة أولا ثم الغنيمة.
بينما جاء تقديم "الرحيم" على "الغفور" في قوله تعالى (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور) (سبأ: ٢) وسبب هذا التقديم أن الآية تعرض عظمة الله سبحانه، فناسب أن يقدم "الرحيم" على "الغفور"؛ لأن الرحمة أعظم من المغفرة، وذلك بأن الرحمة تكون بإيصال الخير بكل صوره، وتكون المغفرة بالمسامحة والتجاوز، ومن هنا فإن المغفرة صورة من صور الرحمة، فالرحمة أعظم.
ولذا فإن تقديم الرحمة على المغفرة أولى في سياق بيان عظمة الله سبحانه وتعالى، وتقديم المغفرة على الرحمة في سياق ما يتعلق بالعباد أولى؛ لأن المغفرة سلامة، والرحمة غنيمة، والسلامة بالنسبة للعباد أولى من الغنيمة.
(والله يعلم ما تسرون وما تعلنون) (١٩)
المفردات:
- تسرون: تخفون، والسر ضد العلانية.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة أن الله سبحانه هو المعبود بحق لأنه هو الخالق، تبين هذه الآية أن العلم صفة لله سبحانه وتعالى؛ لأنه الإله الحق.
فالله خلق الخلق ولم يغفل عنهم، بل هو يراقبهم ويعلم ما يسرون وما يعلنون علما يستوي به السر والعلن.
المعنى التفصيلي:
- ذكر لفظ الجلالة (الله) في قوله تعالى (والله يعلم) وليس: " ويعلم ما تسرون " زيادة في تقرير أن الذي يعلم السر والعلانية هو الله وحده لا أحد غيره.
- قدم (تسرون) على (تعلنون) لأنه قد يظن ظان أن الله يعلم السر والعلانية ولكن علم العلانية أسهل عليه، فقدم علم السر تنبيها على أن الأمرين يستويان.
(والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) (٢٠)
المفردات والتراكيب:
- يدعون: يعبدون.
- دون الله: غير الله.
- خلق: أوجد من العدم.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة أن الله سبحانه هو الخالق، تبين هذه الآية أن الأصنام ليست آلهة؛ لأنها لا تخلق شيئا بل هي مخلوقة.
المعنى التفصيلي:
- جاء التعبير بذكر (شيئا) في قوله تعالى (لا يخلقون شيئا) زيادة في النفي، فهم لا يخلقون أي شيء وإن كان تافها.
- ولإكمال التفصيل في نفي أن يكونوا آلهة، جاء النص ببيان أنهم يخلقون، وأدخل الضمير (هم) في قوله (وهم يخلقون) للتنصيص عليهم بالذات زيادة في توكيد أنهم مخلوقون، ولم يأت النص " لا يخلقون شيئا ويخلقون ".
- وجملة (هم يخلقون) اسمية للدلالة على الثبات والدوام.
(أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) (٢١)
المفردات:
- يبعثون: يحيون يوم القيامة.
- أيان: وقت.
المعنى الإجمالي:
تتابع هذه الآية بيان أن الأصنام ليسوا آلهة، وأن الله سبحانه وتعالى وحده هو المعبود بحق.
فالأصنام جمادات لا تسمع ولا تتكلم ولا تمارس أي فعل من أفعال الأحياء، وهي ميتة غير قابلة للحياة، وهي أيضا لا تعلم متى يبعث عبدتها يوم القيامة.
المعنى التفصيلي:
- أموات: أي غير أحياء، فلماذا جمع بين (أموات) و (غير أحياء) في قوله تعالى (أموات غير أحياء) ما دام المعنى واحدا.
وسبب الجمع الزيادة في البيان والتوكيد بأن هذه الأصنام ميتة ليس فيها حياة ولا سمع ولا بصر ولا قدرة ولا غير ذلك.
والتأكيد على أنهم أموات يدل على أن موتهم هذا آكد من الموت الذي نعرفه، فما نعرفه من الموت يسبقه حياة - كالبشر الذين يموتون - أو يلحقه حياة، كالنطفة وغيرها، أما موت الأصنام فهو موت آكد، لأن الأصنام لم تكن حية ولن تكون، فهي ليست محلا للحياة أصلا.
- (وما يشعرون أيان يبعثون) الضمير في (يشعرون) للأصنام، وفي (يبعثون) للمشركين، أي لا تعلم الأصنام متى يبعث عبدتها يوم القيامة، وهذا تهكم بالمشركين الذين اتخذوا هذه الآلهة التي لا تعلم متى يبعث عبدتها، فكيف ستجزي هذه الآلهة عبدتها؟!
- وقيل: إن الضمير في (يشعرون) للمشركين وفي (يبعثون) للمشركين، أي لا يعلم المشركون متى يبعثون.
والظاهر أن الضمير في (يشعرون) للأصنام؛ لأن سياق الكلام هو في إبطال ألوهية الأصنام، فقد بين الله سبحانه فيما سبق من الآيات أنه خالق وعالم ثم بين أن الأصنام مخلوقة ولا تعلم:
(أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (١٧) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم (١٨) والله يعلم ما تسرون وما تعلنون (١٩) والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (٢٠) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون (٢١))
فمراعاة للسياق الذي ينقض دعوى ألوهية الأصنام فإن الضمير في (يشعرون) للأصنام، نقضا لعلمهم.
- معنى (يشعرون): يعلمون، وعبر بـ (يشعرون) وليس " يعلمون "؛ لأن الشعور هو العلم عن طريق الحس، وفي الآية نفي لعلم الأصنام متى وقت الساعة عن طريق الحس، فكيف يعلمون عن طريق الغيب؟!
(إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون)... (٢٢)
المفردات:
- منكرة: جاحدة.
- مستكبرون: متعالون ومتعاظمون.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة بطلان دعوى ألوهية الأصنام، جاءت هذه الآية لتقرر حقيقة الحقائق أن الله - سبحانه وتعالى - هو الإله الواحد الذي لا شريك له، وأن الكفار يجحدون هذه الحقيقة وهم يستكبرون عن الإيمان.
المعنى التفصيلي:
إن كل الأدلة على اختلاف أنواعها، عقلية أو نقلية عن طريق الوحي، قاضية بأن الله سبحانه وتعالى هو الإله الواحد، وأنه لا شريك له، وأنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولكن رغم هذا كله فإن فريقا من الناس ما زالوا يكفرون بالله سبحانه، وهذا أمر مخالف لما تدل عليه كل المقدمات، وهذا معنى الفاء في قوله (فالذين) أي من عجيب الأمر أن تكون النتيجة هكذا بعد كل الأدلة والبراهين.
- ولكن لماذا وصف الكفار بأنهم لا يؤمنون بالآخرة دون باقي أركان الإيمان، كالإيمان بالرسل والكتب والملائكة وغيرها؟
قد خص وصف الكفار بأنهم لا يؤمنون بالآخرة؛ لأن من لا يؤمن بالآخرة وثوابها وعقابها فإنه لا بد وأن يتعلق قلبه بالدنيا العاجلة، وهذا التعلق يجعله يرفض أي شيء يخالف هواه، فيتعامى عن الحق تعاميا، ويغفل عن الصواب استغفالا.
ولذا لا يرتجى ممن لا يؤمن باليوم الآخر الإقبال على الحق إلا بعد أن يهتدي إلى أن هنالك ثواب وعقاب، فينخلع التعلق بالعاجلة من قلبه مما يفسح المجال لقلبه أن يرى الدلائل والبراهين والآيات.
- (قلوبهم منكرة) أي قلوبهم جاحدة، وجاء التعبير بالجملة الاسمية للدلالة على الثبات.
- وجاء الإخبار عن قلوب الكفار بالاسم (منكرة) ليدل على رسوخها في الإنكار ودوامها عليه، ولو جاء الإخبار بالفعل (تنكر) لاحتمل أنها تؤمن بأشياء وتنكر أشياء، ولكن الإخبار بالاسم (منكرة) ينفي هذا الاحتمال، فهي منكرة على الدوام ولكل شيء.
- وفي كون (منكرة) اسم فاعل، رد على من يدعي أن كفر الكفار جبر من الله، وأن إيمان المؤمنين جبر من الله، وهذا القول قاله طائفة ضالة يقال لهم الجبرية، قالوا: إن الكفر والإيمان جبر على العباد، وهذا القول مردود بنصوص كثيرة وهذا واحد منها.
- (وهم مستكبرون) حالهم أنهم يتعالون عن الإذعان للحق، وجاء التعبير بالجملة الاسمية لبيان عظيم استكبارهم؛ لأن الجملة الاسمية تدل على الثبات.
- وجاء الإخبار عنهم بالاسم (مستكبرون) وليس:" يستكبرون " لأن الفعل قد يدل على الاستكبار في حين دون حين، ولكن الاسم يدل على الدوام.
- إن التعبير باسم الفاعل (مستكبرون) يدل على أن الاستكبار صفة ملازمة لهم، وأنها باختيارهم لا جبرا عليهم.
- وتدل كلمة (مستكبرون) على أن الكفار ليسوا حقيقة كبارا، بل هم مستكبرون، أي يطلبون العظمة والكبرياء طلبا، ويتكلفون العظمة تكلفا، ولكنهم لم يبلغوها ولن يبلغوها، فهم يتصرفون على غير ما يجوز لهم.
- جمعت الآية حقيقة الكفار الداخلية بكفر قلوبهم (قلوبهم منكرة)، وحالهم الخارجية البادية للعيان (وهم مستكبرون)؛ لأن الاستكبار لا بد وأن يظهر عيانا أمام الناظرين.
(لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين) (٢٣)
المفردات:
- لا جرم: حقا.
- تسرون: تخفون، والسر ضد العلانية.
- المستكبرون: المتعالون والمتعاظمون.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة أن الله سبحانه هو الإله الحق وأن الكفار ينكرون هذه الحقيقة في قلوبهم، وأن حالهم الظاهرة هي الاستكبار على دين الله، تبين هذه الآية أن حال الكفار الباطنة والظاهرة معلومة عند الله تعالى، و أن الله سيجزي هؤلاء المنكرين المستهزئين عاقبة فعلهم ولن ينعم عليهم بأي فضل لأنه لا يحب المستكبرين.
المعنى التفصيلي:
- الجرم هو الذنب، والذنب هو الباطل، ونفي الجرم نفي للباطل، ونفي الباطل هو إثبات الحق؛ لأن الأمر إما أن يكون حقا أو باطلا، فإذا نفي الباطل وقع الحق، ولذا فإن معنى لا جرم هو حقا.
- جاءت هذه الآية مؤكدة بأكثر من تأكيد الأول (لا جرم) والثاني (أن) والثالث: ذكر لفظ الجلالة "الله" ذكرا ظاهرا دون الضمير، ولم يأت النص: " لا جرم أنه يعلم ما يسرون " زيادة في تقرير علم الله للسر والعلن وأنه لا يغيب عنه شيء.
- لم تأت هذه التأكيدات في الآية (١٩) من هذه السورة (والله يعلم ما تسرون وما تعلنون) لأن الآية (١٩) جاءت في سياق تقرير أن الله يعلم كل شيء، ولكن هذه الآية (لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين) جاءت في سياق تهديد الكفار على ما يسرونه من الكفر بالله، وعلى ما يظهرونه من الاستكبار بالطعن والشتم والاستهزاء، فكان التأكيد زيادة في التهديد.
- قدم (تسرون) على (تعلنون) لأنه قد يظن ظان أن الله يعلم السر والعلانية، ولكن علم العلانية أسهل عليه، فقدم علم السر تنبيها على أن الأمرين يستويان.
- قد يسأل سائل ما علاقة ختم الآية بقوله تعالى (إنه لا يحب المستكبرين) مع أن الآية تتحدث عن علم الله للسر والعلن؟
وسبب ختم الآية هو أن جملة (إنه لا يحب المستكبرين) تسمى في البلاغة تذييل، أي تعقيب الجملة بجملة أخرى موافقة لها في المعنى لتأكيد الجملة الأولى.
فالجملة الأولى (لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) تهديد للكفار على ما أخفوه في صدورهم وعلى ما يظهرونه من صور الاستبكار من الشتم والطعن، والجملة الثانية (إنه لا يحب المستكبرين) تهديد للكفار بأن لهم العذاب لأن الله لا يحبهم بسبب استكبارهم على دينه، فجاءت الجملة الثانية مؤكدة للأولى، وهذا ما يسميه أهل البلاغة بالتذييل، وهذا يبين العلاقة بين الجملة الأولى والثانية في الآية.
- جملة (إنه لا يحب المستكبرين) مؤكدة بـ (إن) زيادة في الوعيد.
- قال تعالى (إنه لا يحب المستكبرين) وليس " المنكرين " لأنه ليس كل منكر مستكبر، فكم من منكر لما تبين له الحق أذعن له؟! ولكن كل مستكبر على دين الله هو منكر له، فذكر المستكبرين أغنى عن ذكر المنكرين.
- وجاء في تفسير الآية السابقة دلالة كلمة (مستكبرون) من ناحية أنها تدل على الطلب، فانظر إليه إن شئت.
- قد يستدل بعض المفسرين بهذه الآية على أن الله لا يحب من يتكبر على الناس؛ لأنها تتحدث عن المستكبرين، ومن المعلوم أن الله لا يحب المستكبرين، وأن هنالك أدلة كثيرة على هذا من القرآن والسنة، ولكن لا بد من العلم أن المقصود بالمستكبرين في هذه الآية هم المستكبرون على دين الله وعلى التوحيد، وليس المقصود به جنس المستكبرين، بل هو نوع خاص منهم وهم الكفار.
وقد يقول قائل: ولماذا لا يكون المقصود بهم جنس المستكبرين، فيكون الكلام أبلغ، أي أن الله لا يحب جنس المستكبرين، وبالأولى هو أشد بغضا للمستكبرين على التوحيد.
فأقول له: السياق لا يدل على ذلك، فالآية السابقة تبين أن المستكبرين هم من لا يؤمن بالآخرة (إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون) (٢٢) والآيات التي بعدها تبين أن المستكبرين هم من لا يؤمن بما أنزل الله (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين) (٢٤)
فالأبلغ حمل المعنى على السياق، فالآية تهدد الكفار المستكبرين على التوحيد، فالأبلغ هو تخصيص التهديد للكفار المستكبرين على التوحيد، وأما تهديد المستكبرين على الناس بسلوكهم فليس الموضوع موضوعهم، لأن التخصيص في التهديد فيه زيادة في الوعيد.
(وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين) (٢٤)
المفردات:
- أساطير: أباطيل، ومفردها: أسطورة.
- الأولين: السابقين.
المعنى الإجمالي:
بعد أن هددت الآية السابقة الكفار على إنكارهم التوحيد وعلى استكبارهم على دين الله، تفصل هذه الآية مشهدا من مشاهد إنكارهم واستكبارهم.
وهذا المشهد هو سؤال موجه إلى الكفار من المسلمين أو بعض من يقدم عليهم إلى مكة عن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فيرد الكفار بأنه أباطيل السابقين (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) (الفرقان: ٥).
المعنى التفصيلي:
- التعبير بـ (إذا) في قوله تعالى (وإذا قيل لهم) يدل على تكرار وقوع هذا الحدث، وليس هو حادثة ما وقعت فسجلها القرآن، ولو كان التعبير بـ " إن " لدل على ندرة الوقوع أو قلته.
- الآية تتحدث عن رد المنكرين المستكبرين، فأين يظهر إنكارهم وأين يظهر استكبارهم؟
يظهر إنكارهم بقولهم: أساطير الأولين، أي أن القرآن هو الأباطيل والخرافات المنقولة عن الأمم السابقة.
ويظهر استكبارهم بعلمهم أن هذا القرآن هو كلام الله؛ لأنه معجزة، ويدرك الكفار بعلمهم في اللغة أنه ليس من عند البشر، ويدرك الكفار بما حواه القرآن من خير و تشريع حكيم أنه ليس بالخرافات والأباطيل، وأن النبي ﷺ لم يكن يعلم غير العربية ولم يتعلم عند أحد خارج مكة، ورغم كل هذه الدلائل وغيرها مما لا يتسع المجال لبسطها كفر أهل مكة، فكفرهم هذا هو عين الاستكبار.
- التعبير (ربكم) له دلالة على رعاية الله لعباده، لأن الرب هو الخالق الرازق المحيي المميت الراعي لعباده، فناسب هذا المعنى مقام إنزال الوحي؛ لأن في إنزال الوحي معاني العناية والرعاية.
- وجاء التعبير (ربكم) وليس: " ربنا " من باب تذكير المسؤول بأن له ربا، وإضافته إلى المخاطب - في هذا السياق - هو من باب الوعظ.
- لم يقل الكفار في جواب (ماذا أنزل ربكم) إنه لم ينزل شيئا؛ لأن السؤال الذي سيتجه إليهم، وماذا عن القرآن الذي يقرأه محمد؟ ومن أين جاء به؟
ولكنهم طعنوا في ذات المسؤول عنه بغض النظر عن مناقشة المصدر، فقالوا هو الأباطيل المنقولة عن الأمم السابقة؛ لأن الطعن في ذات المحتوى هو إنكار لإنزال الله شيئا، وهو طعن في محتوى القرآن الذي يقرأه النبي - ﷺ - بأنه أباطيل، وبما أنه أباطيل فلا يسأل عن صدقه ومن أين جاء.
- جاءت كلمة (أساطير) مرفوعة، لأن التقدير: "هو أساطير الأولين " فأساطير خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، ولا يتم التقدير بـ " أنزل " لأن هذا يلزم منه نصب كلمة " أساطير "
فالكفار لم يعترفوا أن القرآن منزل؛ لأنهم لم يقولوا " أنزل أساطير الأولين " لأنه كيف يجمع بين أنه منزل من الله سبحانه وتعالى وأنه أباطيل الأولين، فالأمران متناقضان، ولذا طعنوا في القرآن دون أن يذكروا المصدر أنه من الله سبحانه وتعالى.
- لم ينكر الكفار أن لهم ربا؛ لأنهم كانوا يؤمنون أن الله هو الخالق، ولكنهم لم يكونوا يفردونه بالعبادة، حيث كانوا يعبدون معه الأصنام (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون) (الزخرف: ٨٧).
(ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون) (٢٥)
المفردات:
- أوزار: جمع وزر، والوزر: الثقل، ويعبر به عن الإثم.
المعنى الإجمالي:
لما قال الكفار عن كلام الله - سبحانه وتعالى - أساطير الأولين إنكارا واستكبارا، وجب عليهم أن يحملوا آثامهم وآثام من اتبعهم يوم القيامة، ليكونوا من أهل الجحيم، فساء ما كسبوه من الآثام.
المعنى التفصيلي:
- اللام في قوله تعالى (ليحملوا) هي لام العاقبة، وليست لام التعليل، فبسبب كفرهم ستكون عاقبتهم العذاب، وليس كفروا كي يعذبوا، ومن أمثلة لام العاقبة في القرآن (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) (القصص: ٨) فآل فرعون ما التقطوا موسى عليه السلام كي يكون لهم عدوا، وإنما كان عاقبة التقاطهم أنه أصبح لهم عدوا، فلام العاقبة هي لام النتيجة.
- الوزر هو الثقل، وعبر به - هنا - عن الإثم؛ لأنه ثقيل على صاحبه.
- لو جاء التعبير بـ " ليحملوا وزرهم " لدل على جنس الوزر، ولكن جاء مجموعا (أوزارهم) ليدل على تكثير آثامهم، وعلى عظمها، قال تعالى (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) (العنكبوت: ١٣).
- التعبير (ليحملوا أوزارهم) يدل على أنهم سيحملون أوزارهم كاملة غير منقوصة، فلماذا ذكرت (كاملة) في قوله تعالى (ليحملوا أوزارهم كاملة)؟
ذكرت لأن السياق سياق تهديد، والتأكيد باللفظ تأكيد على المعنى، والتأكيد في سياق التهديد زيادة في الوعيد.
وأيضا في ذكر (كاملة) إشارة إلى أنه لا يغفر من ذنوب الكفار شيء، لا بسبب مرض ولا هم ولا غم ولا مصيبة، فآثامهم التي اكتسبوها ستبقى كما هي كاملة غير منقوصة، وهذا أيضا من باب زيادة الوعيد.
- وجاء التعبير بـ (من) في قوله تعالى (ومن أوزار الذين يضلونهم) ليدل على التبعيض، أي أن الكفار يحملون آثامهم كاملة، بينما يحملون بعض آثام من يضلونهم؛ لأن آثام الذين أضلوا ليست كلها بسبب هؤلاء الكفار؛ فبعضها بسبب هذا الإضلال المذكور وبعضها بسبب اكتسابهم المستقل.
- جاء التعبير بالفعل المضارع (يضلونهم) وليس " أضلوهم " إشارة إلى أن إضلال الكفار لغيرهم متجدد، لأن الفعل المضارع يدل على التجدد.
- قال بعض المفسرين: معنى (بغير علم) أي أنهم لا يعلمون أن هذه الطريق طريق ضلال.
ولكن المعنى غير ذلك؛ لأنه لو كان معنى (بغير علم) أي أنهم لا يعلمون أن هذه الطريق طريق ضلال؛ فلماذا يعاقب الله قوما لم يبلغهم العلم؟!
ولكن المقصود في العلم هنا هو علم الحق، فهؤلاء المضلون أضلوا غيرهم بناء على الكفر والجحود، وليس بناء على اجتهاد مبني على علم الحق.
وذكر بعض المفسرين أن (بغير علم) حال من الفاعل، وذكر بعضهم أنه حال من المفعول، وذكر بعضهم الأمرين.
والظاهر أن (بغير علم) حال من الفاعل، أي حال المضلين أنهم يضلون غيرهم (بغير علم)، وليس حالا من المفعول، أي ليس من أضلوا أضلوا (بغير علم)، وإن كان الضالين والمضلين ليس عندهم العلم، ولكن المقصود به في هذا السياق هم المضلون؛ لأن السياق يتحدث عنهم وهذا أولا، فالحديث عنهم لأنهم هم من يحملون أوزارهم وأوزار غيرهم، وهو أولى بأن يوصف بـ (بغير علم) ممن جاء تبعا في الذكر.
وثانيا لو قلنا في الصالحين "لهم حسناتهم وحسنات من يرشدونهم بعلم " فهنا "بعلم" حال للمرشدين لا المرشدين؛ لأن سياق الحديث عن المرشدين.
- جاء التعبير بـ (ألا) في قوله تعالى (ألا ساء ما يزرون) للتأكيد؛ لأن (ألا) حرف تنبيه يفيد تحقق ما بعده، فهو توكيد على بشاعة ما يحملونه من الأثقال.
(قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) (٢٦)
المفردات:
- المكر: صرف الآخر عما يقصده بحيلة.
- خر: سقط.
المعنى الإجمالي:
لما ذكرت الآية السابقة عاقبة الضلال في الآخرة، ذكرت هذه الآية عاقبة الضلال في الدنيا، فبينت الآية ما فعل الله سبحانه وتعالى بالسابقين من الكفار الماكرين؛ حيث إن الله أرسل عليهم العذاب فجأة، فدمر عليهم بيوتهم من قواعدها، وأهلكهم فلم يبق لهم عزة ولا قوة ولا منعة، بل لم يبق أحد منهم.
المعنى التفصيلي:
- (قد) في قوله تعالى (قد مكر) للتحقيق، وهو يفيد التأكيد، وجاء تأكيد مكر الأمم السابقة المهلكة؛ لأجل إبلاغ قريش بأن فعل السابقين المهلكين هو المكر الذي تمارسونه، فاحذروا فإن فعلكم يا قريش هو ذات فعلهم الذي استحقوا بسببه العذاب.
- أتى التعبير بـ (مكر) ولم يأت بـ " كفر "؛ لأن السياق يقتضي ذلك، حيث حاول الكفار خداع من يسألهم عن القرآن بأنه أساطير الأولين، وبأنهم على علم بهذا الأمر من جهة أنهم أعرف بالنبي ﷺ وبالقرآن الكريم، وكل هذا من باب الخداع، والمكر في اللغة هو: صرف الآخر عما يقصده بحيلة.
والحيلة متحققة في قول الكفار للسائلين " أساطير الأولين "، وأيضا فالوصف بالمكر - في هذا السياق - وصف بالكفر وزيادة، فالمكر متضمن للكفر في هذه الآية، أما الوصف بالكفر فلا يتضمن المكر، فكان الوصف بالمكر أعم وأدق وأحكم.
- (الذين من قبلهم) هم من كفر من الأمم السابقة، وجاء التعبير عاما (الذين من قبلهم) دون تخصيص قوم بالذكر؛ ليدل على أن عقوبة الماكرين سنة إلهية، والتعميم في بيان السنة الإلهية أبلغ من ذكر أمة معينة.
- (أتى الله) أي "أتى أمر الله " وفي هذه الجملة إيجاز بالحذف، أي حذف المضاف "أمر" وأقيم المضاف إليه، لفظ الجلالة " الله " مقامه.
وفائدة الحذف هنا بيان شدة العذاب - ولله المثل الأعلى - فالقول: جاءك الموت، مخيف أكثر من: جاءك سبب الموت، لأن حذف المضاف هنا كان أبلغ في التهديد.
ولله المثل الأعلى، (أتى الله بنيانهم) فيه تهديد أعظم من " أتى أمر الله بنيانهم "
- ذكر (القواعد) فيه دلالة على استئصال ما بنوه؛ لأن تدمير القواعد تدمير لكل البناء.
وأيضا، فإن القواعد هي أمتن شيء في البناء، والقوة التي تدمر الأمتن في البناء ستدمر باقيه بالأولى.
- جاء التعبير عن السقوط بـ (خر) للدلالة على سرعة السقوط؛ لأن معنى (خر) سقط، ولكن لا بد في هذا السقوط أن يسمع منه خرير، والخرير صوت الماء أو الريح، أو أي صوت شيء يسقط من علو.
- ولكن كيف يدل التعبير (خر) على سرعة السقوط؟
يدل هذا التعبير على سرعة السقوط بصدور صوت الخرير في أثناء السقوط، أي أن السقف أصدر صوتا في أثناء سقوطه بسبب سرعة السقوط.
وهذا التعبير يدل على شدة العذاب، الذي ينتج عنه سرعة تدمير القواعد، والذي ينتج عنه السرعة في سقوط السقف، والذي يتسبب في خروج صوت الخرير.
وهذا المنظر رأيته في عملية إزالة بناء، حيث وضعت المتفجرات في القواعد، وعندما تم التفجير، رأيت السقف يسقط بسرعة، فاستحضرت هذه الآية.
- جاء ذكر (عليهم) في قوله تعالى (فخر عليهم السقف) دلالة على أنهم دمروا مع بيوتهم؛ لأن السقف سقط وهم تحته.
- قد يسأل سائل لماذا جاء التعبير بـ (فوقهم) في قوله (السقف من فوقهم) علما بأن السقف لا يكون إلا فوقهم؟
لو قرأنا الآية دون كلمة (فوقهم) وقرأناها بكلمة (فوقهم) لحصل لنا عند قراءتها بكلمة (فوقهم) زيادة في تصور العذاب، ولحصل لنا استحضار صورة ذهنية لذلك السقف الذي يسقط من فوق.
وهذا كقوله تعالى: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير) (الملك: ١٩)
فذكر (فوقهم) زيادة في تصور الأمر، وليحصل لنا استحضار صورة ذهنية لتلك الطيور التي تسبح في السماء دون أن تقع.
- هلاك الكفار بسبب السقف يبين عجيب صنع الله بهم، حيث بنى الكفار السقف ليحفظهم من المطر والشمس وغير ذلك، فصار ما صنعوه لحفظهم سببا لعذابهم وهلاكهم.
- (وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) أي أتاهم العذاب بغتة.
(ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) (٢٧)
المفردات:
- يخزيهم: يذلهم، والخزي: الذل والهوان.
- تشاقون: تخاصمون.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة عقوبة الذين مكروا في الدنيا، تبين هذه الآية عقوبتهم وعقوبة أمثالهم في الآخرة.
فإن للمشركين في الآخرة الذل والهوان، وسيوبخهم الله على ما اتخذوا من شركاء يعبدونهم مع الله، ويقول لهم: أين الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء لي، بل وكنتم تعادون لأجلهم؟
إن هؤلاء الشركاء ليس لهم قيمة، فالله هو الإله الحق.
وعندما يسكت المشركون عاجزين عن الإجابة، يقول الأنبياء والمؤمنون: إن الخزي اليوم والعذاب على الكافرين.
المعنى التفصيلي:
- (ثم) في قوله تعالى (ثم يوم القيامة) قد تفيد التراخي الزمني بين جزاء الدنيا وجزاء الآخرة، أو قد تفيد التفاوت العظيم بين الجزاءين، لأن جزاء الآخرة أعظم من جزاء الدنيا.
- جاء تقديم ذكر (يوم القيامة) على (يخزيهم) في قوله تعالى (ثم يوم القيامة يخزيهم) لأهمية يوم القيامة؛ لأن ذكر يوم القيامة بحد ذاته يعتبر تهديدا للمشركين، وفي هذا إبراز ليوم الجزاء عند قوم لا يقيمون له وزنا، كأنه يقال للمشركين " احذروا يوم القيامة الذي يخزيكم الله فيه "
- (أين) للسؤال عن المكان؟ ولا يدل السؤال عن مكانهم أنهم غير موجودين، فإن من المعبودين في الدنيا من هو موجود في الآخرة، ولكن هذا السؤال للتوبيخ والتهكم والسخرية، كأنه يقال لهم أين هم لينصروكم؟ كما يقال في حق العاجزين رغم وجودهم: أين هم لينصروا غيرهم؟
- قال تعالى (شركائي) فأضاف الشركاء إلى نفسه، وهذا فيه عظيم التهكم بهم، أي: جعلتم هؤلاء العاجزين شركاء لي! أين عقولكم ما أسخفكم؟!
- أصل (تشاقون) من الشق، والتعبير بالشق فيه إشارة إلى عدة أمور:
الأول: الصعوبة؛ حيث بذل الكفار الجهد والطاقة لمفارقة المسلمين، ولم يفارقوهم بيسر بل بذلوا الكثير لأجل هذه المفارقة.
الثاني: تدل على أن الأصل في المشركين أن يكونوا من الموحدين لله، لأن الانشقاق يكون في الشيء الواحد، فهم قد انشقوا عن المؤمنين، ولو لم ينشقوا عنهم لكانوا منهم، ففطرة البشر على التوحيد إلا من انشق عنهم وخرج.
- قرأ نافع (تشاقون) بكسر النون على حذف ياء المتكلم، أي تخاصمونني وتعادونني، فالمفعول على هذا هو ضمير المتكلم وهو الله عز وجل.
وأما من قرأ بفتح النون، فالمفعول محذوف تقديره: تعادون الحق لأجلهم، وتظهر معاداتهم للحق بمعاداة دين الله والرسول والمؤمنين.
- جواب أهل العلم يدل على أن المؤمنين والكفار يسمعون بعضهم في هذا الموقف العظيم يوم القيامة، وجواب أهل العلم على مسمع الكفار مخز لهم أيما خزي، كيف لا؟! وقد كان الكفار في الدنيا يستهزئون من المؤمنين ويستحقرونهم؟! فقد جاء اليوم الحق الذي تظهر فيه الموازين الحق، إن الخزي اليوم والعذاب على الكافرين.
- جاء التعبير بالماضي (قال) في قوله تعالى (قال الذين أوتوا العلم) وذلك لأن وضع الماضي موضع المستقبل دلالة على قرب الوقوع وعلى تأكده، كقوله تعالى: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة) (الأعراف: ٤٤) وقوله (ونفخ في الصور) (الكهف: ٩٩) فالفعل " نادى " و" ونفخ " فعلان ماضيان يتحدثان عن أمور مستقبلية؛ للدلالة على تحقق الفعل المستقبلي كأنه وقع.
- من هم الذين أوتوا العلم؟ إنهم الأنبياء والمؤمنون.
- وجاء التعبير بـ (أوتوا العلم) ولم يعبر بـ " أخذوا العلم " لأن علم الدين عطية من الله سبحانه، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) (البخاري: ٦٩) (مسلم: ١٧١٩). فجاء التعبير " يفقهه " وليس " يتفقه " والفرق بينهما واضح.
- العلماء هم أصحاب الجهر بالحق في الدنيا والآخرة، فلا بد ممن يريد أن يحمل راية الحق، أن يكون من أهل العلم بهذا الحق، اللهم اجعلنا في زمرة أهل الحق الذين أوتوا العلم!
- جاءت جملة (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) مؤكدة؛ زيادة في بيان سوء عاقبة المشركين.
- ما الفرق بين الخزي والسوء؟
الخزي هو: الانكسار وهو الذل.
والسوء هو: كل ما يغم الإنسان من الأمور، سواء كانت هذه الأمور دنيوية أو أخروية، وسواء كانت نفسية أو بدنية، وسواء كانت في أبداننا أو خارجة عنا كضياع مال أو منصب.
فالسوء أعم من الخزي؛ لأن الخزي نوع من أنواع السوء، ولكنه قدم بالذكر لأهميته في هذا السياق؛ لأن المشركين كانوا في عزة بشركهم، فجاء التقديم ليقول لهم: ليس في شرككم عز، بل لكم بسببه الخزي.
ولذا جاء التعبير بـ (يخزيهم) وليس " يسوؤهم " في قوله تعالى (ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم).
ولأن الموقف في البداية كان موقف خزي للمشركين، ثم بعد ذلك يتحول المشركون إلى العذاب في نار جهنم.
- وفائدة ذكر (اليوم) في قوله تعالى (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) إشارة إلى ما كان عليه الكفار في الدنيا من العزة والشقاق، فإن لهم في الآخرة الخزي.
- جاء التعبير بـ (على) في قوله تعالى (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) ولم يأت " والسوء للكافرين " لأن (على) تدل على تمكن الخزي والسوء من الكافرين.
(الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون) (٢٨)
المفردات:
- تتوفاهم: تقبض أرواحهم.
- السلم: الاستسلام.
المعنى الإجمالي:
لما بينت الآية السابقة أن الخزي والعذاب على الكافرين، تبين هذه الآية أن الكفار المرادين في الآية السابقة هم الذين استمروا على الكفر وماتوا عليه، وليس الذين آمنوا ورجعوا عن الذي هم فيه من الشرك.
وتبين الآية أن الكفار يكذبون حتى اللحظة الأخيرة، فهم متمرسون على الكذب، ولكن كذبهم هذا مكشوف عند الله تعالى.
المعنى التفصيلي:
- جملة (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) ليست من قول الذين أوتوا العلم المذكور في الآية السابقة؛ إذ لا فائدة في ذكر الذين أوتوا العلم عند وقت الحساب لحال موت الكفار؛ لأنه أمر مضى ولا يؤثر ذكره أو تركه؛ لأن المقام يوم القيامة أعظم وأكبر.
فما دام الخزي والعذاب على الكفار، فما هو الفائدة في بيان الذين أوتوا العلم لحال الكفار عند الموت؟! وإنما ذكر الله سبحانه حال الكفار وقت الموت؛ لبيان أن الكفار الذين كتب عليهم الخزي هم الذين ماتوا على كفرهم.
- قال كثير من المفسرين: هذه الآية وصف لحال الكافرين وقت موتهم، فهم يستسلمون للملائكة، وينكرون أن يكونوا قد عملوا من سوء، فترد عليهم الملائكة أنكم عملتم السوء، وأن الله بكل ما كنتم تعملونه عليم.
- وقال بعض المفسرين: إن الآية وصف لحال المشركين في الآخرة، فجملة (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) اعتراضية لبيان أن الكفار الذين كتب عليهم الخزي هم الذين ماتوا على كفرهم، وجملة (فألقوا السلم) معطوفة على جملة (أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم) التي في الآية السابقة.
أي لما يسألهم الله يوم القيامة (أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم) لا يجيب الكفار وإنما يستسلمون لله، ويقولون (ما كنا نعمل من سوء) فيرد عليهم أهل العلم من البشر أو الملائكة (بلى) وهي كلمة تقال ردا للنفي، أي نفيكم السوء عن أنفسكم غير صحيح، بل كنتم تعملون السوء.
- والقول بأن الاستسلام من الكفار كان في موقف يوم القيامة أظهر؛ لأن الآية التي بعدها (فادخلوا أبواب جهنم خالدين) تشير إلى أنه بعد كذب الكفار، وبعد أن يرد عليهم، يدخلون في نار جهنم، وهذا أقرب إلى يوم القيامة منه إلى ساعة قبض الأرواح.
وانظر معي إلى هاتين الآيتين (ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين (٢٧) الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون (٢٨)) (النحل)
فهما كقوله تعالى (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون (٢٢) ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين (٢٣) انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (٢٤)) (الأنعام)
فهم سئلوا في المحشر يوم القيامة، وأجابوا في المحشر يوم القيامة.
- وقرئ (يتوفاهم) بدل (تتوفاهم)، و (تتوفاهم) أي جماعة الملائكة، و (يتوفاهم) على الأصل.
- وجاء التعبير بالمضارع (تتوفاهم) لاستحضار هول توفي الملائكة للذين ظلموا، فقول أهل العلم عبر عنه بالماضي (قال)، وإلقاء الكفار للسلم عبر عنه بالماضي (فألقوا) وجاء التعبير بينهما بالمضارع (تتوفاهم)؛ لأن الفعل الماضي لا يجلب استحضار عظم الموقف كما يستحضره الفعل المضارع.
- (ظالمي أنفسهم) حال الكفار وقت وفاتهم أنهم ما زالوا على الكفر.
- جاء التعبير (من سوء) وليس " سوءا " من دون (من) لأنهم أرادوا أن ينفوا عن أنفسهم أي شيء من السوء، فـ (من) هنا تسمى عند البلاغيين بـ (من) الاستغراقية.
- جاء الرد على الكفار بأن الله عليم؛ لأن الكفار كذبوا بنفيهم السوء عن أنفسهم، ومما يناسب بيان كذبهم، بيان أن الله عليم بما كانوا يعملون؛ وفي هذا كمال البلاغة؛ لأن إثبات علم الله في هذا السياق فاضح لكذبهم، وهو أيضا منذر بأن عذابهم قادم بسبب ما وقعوا فيه من الشرك المعلوم عند الله سبحانه.
(فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) (٢٩)
المفردات:
- بئس: كلمة تقال للذم، وهي ضد كلمة: نعم.
- مثوى: المنزل والمقام، وثوى: أقام مع الاستقرار.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيتان السابقتان مشهدا من مشاهد الحشر للكفار يوم القيامة، تبين هذه الآية أن مصير هؤلاء الكفار هو نار جهنم خالدين فيها.
وهذا المصير هو أسوأ مصير في الحياة، والله سبحانه جعله للكفار الذين تكبروا على التوحيد، وأشركوا مع الله غيره.
ولما كانت الآية السابقة بيانا لكذب الكفار، ورد عليهم بأن الله بالذي كانوا يعملونه عليم، جاءت هذه الآية لتؤكد هذه الحقيقة بأن الكفار كاذبون والله بهم عليم ولذلك يقال لهم ادخلوا أبواب جهنم.
وهذه الآية كقوله تعالى (قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) (الزمر: ٧٢)
المعنى التفصيلي:
- من الذي يقول للكفار (فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها)؟
إنهم خزنة جهنم يهددون الكفار قبل الدخول، وكذلك فإن خزنة الجنة يرحبون بالمؤمنين قبل الدخول.
قال تعالى (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين (٧١) قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (٧٢) وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (٧٣)) (الزمر)
- جملة (فلبئس مثوى المتكبرين) تكملة لحكاية قول الملائكة، أم أنها تقرير من الله لحقيقة مثوى المتكبرين؟
يحتمل الأمران.
وجملة (فلبئس مثوى المتكبرين) تسمى في البلاغة تذييل، أي تعقيب الجملة بجملة أخرى موافقة لها في المعنى لتأكيد الجملة الأولى.
- لماذا جاء ذكر الأبواب في قوله تعالى (فادخلوا أبواب جهنم خالدين)، ولم يأت النص بـ " فادخلوا جهنم " بدون ذكر الأبواب؟
جاء ذكر الأبواب دالا على أمور:
١ - ذكر الأبواب يستحضر في الذهن صورة أوضح لدخول جهنم.
حاول أخي القارئ أن تتذوق الفرق بين قوله تعالى (فادخلوا أبواب جهنم) وبين "فادخلوا جهنم " بدون ذكر الأبواب.
فأنت تلاحظ فرقا عند تذوق النصين.
فذكر الباب في سياق العذاب فيه استحضار أوضح لصورة العذاب، وذكره في سياق النعيم فيه استحضار أوضح لصورة النعيم.
تدبر هذه الآيات لترى أثر ذكر الأبواب في دلالتها.
قال تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين (٧١) قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (٧٢) وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (٧٣)) (الزمر)
٢ - وأيضا في الآية إشارة إلى أنه ليس كل الكفار المتكبرين بمنزلة واحدة، لأنهم سيدخلون من عدة أبواب لجهنم وليس من باب واحد.
ويبين هذا قوله تعالى (وإن جهنم لموعدهم أجمعين (٤٣) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) (الحجر: ٤٤) أي: لكل باب من أبواب جهنم صنف من الكفار.
- اللام في قوله تعالى " فلبئس " هي لام التأكيد؛ أو لام القسم؛ واللامان يدخلان على " بئس ".
وسواء كانت اللام للتأكيد أو القسم، فهما في نهاية الأمر لتأكيد أن جهنم هي بئس المستقر والمنزل والمقام.
والمخصوص بالذم محذوف تقديره: جهنم.
- المثوى، هو: المنزل والمقام، وثوى: أقام مع الاستقرار، لأن المسافر قد يقيم في مكان ما مدة قصيرة، فلا يسمى هذا المقيم ثاويا؛ لأنه لا بد من الاستقرار حتى يسمى ثاويا، وحتى يسمى المكان مثوى.
فالثواء هو: طول المقام، وأثويت بالمكان: أطلت الإقامة به.
- تدل كلمة (متكبرين) على أن الكفار ليسوا حقيقة كبارا، بل هم يتكلفون، وذلك ما تدل عليه صيغة التفعل، فتكبر هي على وزن تفعل، أي يطلبون الكبرياء طلبا، ويتكلفون العظمة تكلفا، ولكنهم لم يبلغوها ولن يبلغوها، لأنهم ليسوا أهلا للكبرياء؛ فالكبرياء لله العظيم سبحانه.
- والمتكبرون في هذه الآية هم الكفار المتكبرون على توحيد الله وعبادته وحده.
(وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين) (٣٠)
المفردات:
- حسنة: ضد سيئة، والمقصود بها - هنا - الحياة الطيبة.
- نعم: كلمة تقال للمدح، وهي ضد كلمة: بئس.
المعنى الإجمالي:
جاء في الآيات السابقة سؤال الكفار عن القرآن (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين) (النحل: ٢٤) فأنكروا أنه منزل من عند الله سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك بينت الآيات سوء عاقبتهم.
وجاءت هذه الآية مبينة أن المؤمنين لما سئلوا عن القرآن، وصفوه بالخير، لأنه يدل على خير الحياة الدنيا وخير الحياة الآخرة، ولأنه رحمة وبركة وهدى لمن اتبعه.
وبينت الآية بأن الله سيجزي المتقين في الدنيا الحياة الطيبة الخيرة، وأن الآخرة خير لهم من الدنيا، وأن الجنة هي جزاءهم.
المعنى التفصيلي:
- جاء النص بـ (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم) بدون حرف الشرط، بينما جاء النص في سياق سؤال الكفار بحرف الشرط " إذا " (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين)؛ وذلك لأن حرف الشرط "إذا" يفيد التكرار، أي كلما سئل الكفار أصروا على كفرهم، ولكن من المعروف أن المؤمنين حقا إذا خالط الإيمان شغاف قلوبهم أنهم يستمرون عليه، ولذا لا داعي لبيان أن المؤمنين مصرون على إيمانهم، أما الكفار فرجوعهم عن الكفر من الأمور الواردة، ولذا جاء التعبير بحرف الشرط "إذا".
- جاء التعبير بـ (وقيل للذين اتقوا) وليس " للمتقين "؛ لأن للاسم الموصول دلالات، ودلالته هنا هي تعظيم أمر المتقين، ففي التعبير (للذين اتقوا) من التعظيم ما ليس بالتعبير بـ " للمتقين ".
- أجاب المؤمنون عن سؤال (ماذا أنزل ربكم) بـ (خيرا) والتقدير: أنزل خيرا، فـ (خيرا) مفعول به لفعل أنزل.
ولكن أجاب الكفار عن سؤال (ماذا أنزل ربكم) بقولهم (أساطير الأولين) حيث جاءت كلمة (أساطير) مرفوعة، لأن التقدير: "هو أساطير الأولين " فأساطير خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، ولا يتم التقدير بـ " أنزل " لأن هذا يلزم منه نصب كلمة "أساطير".
فالكفار لم يعترفوا بأن القرآن منزل؛ لأنهم لم يقولوا "أنزل أساطير الأولين" لأنه كيف يجمع بين أنه منزل من الله وأنه أباطيل الأولين، فالأمران متناقضان، ولذا طعنوا في القرآن دون أن يذكروا المصدر أنه من الله.
- التعبير (ربكم) له دلالة على رعاية الله لعباده، لأن الرب هو الخالق الرازق المحيي المميت الراعي لعباده، فناسب هذا المعنى مقام إنزال الوحي؛ لأن في إنزال الوحي معاني العناية والرعاية.
- (خيرا) نكرة جاءت في سياق الإثبات، أي في سياق غير منفي، والنكرة في سياق الإثبات تدل على الإطلاق، أي أن خيرية القرآن مطلقة وغير مقيدة، فهو خير للفرد، وخير للمجتمع، وخير لشؤون التجارة والاقتصاد، وخير لتنظيم العلاقات الاجتماعية، وخير... وخير، فهو خير مطلق كثير.
- (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) إلى هنا انتهى جواب المؤمنين، ثم بين الله سبحانه أن (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين)
وقال بعض المفسرين: (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة... ) تكملة لجواب المؤمنين.
والظاهر أن قوله تعالى (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة... ) ليس تكملة لجواب المؤمنين، بل بيان من الله لعاقبة المؤمنين؛ لأن هذه الآية مقابلة لقوله تعالى السابق في هذه السورة (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين (٢٤) ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون (٢٥)).
فقوله تعالى السابق بين جواب الكافرين، وبعدها بين عاقبة هذا الجواب، وفي هذه الآية بيان لجواب المؤمنين، وبيان لعاقبة هذا الجواب.
وهذا أبلغ من القول بأن قوله تعالى (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة... ) تكملة لجواب المؤمنين، ولذا فهو الأرجح.
- جاء التعبير بالاسم الموصول "الذين" في قوله تعالى (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) ولم يأت " للمحسنين، لما ذكرنا آنفا أن دلالة الاسم الموصول في هذا السياق تدل على التعظيم.
- تقدم ذكر (في هذه الدنيا) على (حسنة) في قوله تعالى (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة)؛ لأن المقصود من السياق بيان حالهم في الحياة الدنيا؛ لأنه قد يظن ظان أن أجر المؤمنين منحصر في الآخرة، فجاء تقديم ذكر الحياة الدنيا لإبراز أن لهم الأجر في الدنيا أيضا وليس في الآخرة فقط، ولكن جاء التنبيه على أن أجرهم في الآخرة هو أعظم من أجر الدنيا (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين).
- تأخر ذكر (حسنة) لأنها نكرة، والخبر هو الجار والمجرور (للذين). قال ابن مالك في "ألفيته ":
ونحو عندي درهم ولي وطر... ملتزم فيه تقدم الخبر
- (في هذه) يحتمل أن يكون متعلقا بـ (أحسنوا) أو متعلقا بـ (حسنة). وفي نهاية الأمر فإن الإحسان يقع من المحسنين في الدنيا، والحسنة - كذلك - تقع في الدنيا للمحسنين.
- ولكن قد يسأل سائل: إننا نرى كثيرا من المؤمنين يعيشون حياة خشنة، يملؤها الفقر والحاجة، فكيف وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالحياة الطيبة وحالهم هذه؟
وقبل الإجابة عن هذا التساؤل لا بد من العلم أن الحياة الطيبة لا تعني الغنى ورغد العيش، وإلا فقد ذاق النبي - ﷺ - وذاق معه الصحابة - رضوان الله عليهم - خشونة العيش، وإنما المقصود بالحياة الطيبة، تلك الحياة التي يحياها المؤمنون، حياة ليس فيها فسق ولا انحلال ولا مجون ولا زنا، فالكفار في هذا الزمن ورغم كل ما يملكون من المال ورغد العيش يعيشون حياة خبيثة؛ لأن الحياة الطيبة هي للمؤمنين، فالزنا بينهم أشهر من أن يذكر، فهم لا يفرقون بين امرأة وأخرى، حتى أن الزنا امتد إلى نساء إخوانهم وأصحابهم، بل إلى محارمهم، وأما طعامهم، فهم لا يفرقون بين طيب وخبيث، فهم يأكلون أي شيء يخطر ببالهم، وعلى هذا فقس كل جوانب حياتهم.
ولذا فرغم الرغد الذي يعيش به الكفار، فهم المقبلون على الانتحار، علاوة على ما يعانون من اضطرابات نفسية تحرق أي فرحة في حياتهم.
ولذا فالمؤمنون أهل التوكل على الله وأهل الصبر يعيشون حياة طيبة نظيفة طاهرة.
- جاء التعبير في الآية بـ (للذين اتقوا) و (للذين أحسنوا) فلماذا أتى كل تعبير في مكان مختلف؟
جاء التعبير بـ (للذين اتقوا) في قوله تعالى (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا)؛ لأن قول المؤمنين عن القرآن بأنه خير ناشئ عن التقوى، فناسب التعبير السياق.
أما التعبير بـ (للذين أحسنوا) في قوله تعالى (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة)؛ لأن في هذا التعبير جمال لفظي، (أحسنوا) و (حسنة)، وهذا يسمى في البلاغة بالجناس.
وهذا التعبير من ناحية اللفظ أجمل إيقاعا، وهو من ناحية المعنى أقوى إشعارا بأن الجزاء من جنس العمل (للذين أحسنوا... حسنة).
- جاء قوله تعالى (ولدار الآخرة خير) مؤكد بلام الابتداء (لدار) وكذلك لام (لنعم) في قوله تعالى (ولنعم دار المتقين)، للتأكيد على أن الأجر الأعظم للمؤمنين هو في الآخرة، وأن أجر الدنيا ليس هو الأجر الأعظم.
- والمؤمنون يعرفون هذه الحقيقة، فلماذا هذه التأكيد؟
هذا التأكيد للمؤمنين مفيد في سياق التذكير، لأن التأكيد في التذكير، فيه زيادة في التأثير، وهذا أولا، وكذلك التأكيد مفيد للظانين بأن حال المؤمنين في الآخرة مثل حالهم في الدنيا.
- جاء التعبير - في هذه الآية - بـ "الدار" عن الجنة، بينما جاء التعبير - في الآية السابقة - عن النار بـ "المثوى" في قوله تعالى (فلبئس مثوى المتكبرين)؛ لأن صاحب الدار يتصرف بإرادته، وهذا متحقق في الجنة لا في النار، وأما النار فهي سجن يعذب أصحابه فيه، ولا يتصرفون وفق إرادتهم، ولذا عبر عنه بالمثوى، وارجع - إن شئت - إلى معنى "المثوى" في تفسير الآية السابقة.
(جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين) (٣١)
المفردات:
- عدن: استقرار وثبات.
المعنى الإجمالي:
لما بشرت الآية السابقة المتقين بالجنة، جاءت هذه الآية لتبين حقيقة الجنة بيانا عاما، فهي دار إقامة واستقرار وخلود، ولمن يدخلها الفرح الدائم؛ لأن له فيها ما يشاء، وكل هذه النعم جعلها الله للمتقين.
المعنى التفصيلي:
- الجنة التي بشر الله - سبحانه وتعالى - بها المؤمنين حق، وهي مخلوقة الآن، لا تفنى ولا تزول.
فالنبي ﷺ رأى جبريل مرة أخرى في السموات عند شجرة السدر التي عندها جنة الخلد، قال تعالى:
(ولقد رآه نزلة أخرى (١٣) عند سدرة المنتهى (١٤) عندها جنة المأوى (١٥) إذ يغشى السدرة ما يغشى (١٦) (النجم)
فهي جنة موجودة وقت معراج النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضا فإن الجنة هي مأوى الشهداء، وهم يرزقون فيها، ولو لم تكن مخلوقة لما كانت مأواهم، قال تعالى:
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (١٦٩) فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (١٧٠)) (آل عمران).
وعن مسروق قال سألنا عبد الله عن هذه الآية (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)
قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال (أي النبي صلى الله عليه وسلم): أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا (مسلم: ٣٥٠٠)
- جاء التعبير بـ (جنات) وليس "جنة"؛ لأنها جنان وليست جنة واحدة.
قال أنس رضي الله عنه أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تك الأخرى ترى ما أصنع، فقال: (ويحك أو هبلت أو جنة واحدة هي؟! إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس) (البخاري: ٣٦٨٣)
- (عدن) أي: إقامة، يقال: عدنت بالبلد: توطنته وأقمت به، فهي جنات إقامة واستقرار، لا خروج منها، ولا زوال عنها، فاز من كانت الجنة داره، وخاب من دخل النار وكان فرعون جاره، نسأل الله السلامة من النار!
- الضمير في (يدخلونها) يعود على المتقين المذكورين في الآية السابقة.
- بينت الآية السابقة أن الجنة هي دار المتقين، فما فائدة ذكر دخول المتقين إليها؟
جاء ذكر الدخول في الآية (جنات عدن يدخلونها)؛ لأنها مقابلة لقوله تعالى السابق في السورة (فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) (النحل: ٢٩)، فكما أن الكفار يدخلون النار فأهل الجنة يدخلون الجنة، وشتان شتان بين الأمرين!
- ولكن لماذا جاء التعبير في هذه الآية بصيغة المضارع (يدخلونها)؟
جاء التعبير بصيغة المضارع على الأصل؛ لأن الفعل المضارع دال على الحال والاستقبال، ولكن للفعل المضارع - أيضا - أثر في استحضار الصورة في الذهن.
أما الكفار فجاء التعبير في حقهم بصيغة الأمر (فادخلوا)؛ لأن الكفار لا يدخلون النار بإرادتهم بل جبرا عنهم.
ولكن إذا استخدمت صيغة الأمر في حق المؤمنين لدخول الجنة، فإنما تكون للإكرام لا للإجبار، لأن دخول الجنة أمر مرغوب، ودخول النار أمر مرهوب، وشتان بين الأمرين، ولذا يفهم فعل الأمر (ادخلوا) بناء على المرغوب والمرهوب.
- لماذا ذكرت الأبواب في سياق دخول الكفار النار، ولم تذكر الأبواب في سياق دخول المؤمنين الجنة، قال تعالى (جنات عدن يدخلونها) وقال أيضا (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) (الزمر: ٧٣).
بينما قال تعالى في شأن دخول الكفار النار (فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) (النحل: ٢٩) وقال أيضا (قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) (الزمر: ٧٢)؟
الجواب عن هذا أن الكفار لا يدخلون أبواب النار وفق إرادتهم وهواهم، بل يرغمون على دخول باب معين، ويبين هذا قوله تعالى (وإن جهنم لموعدهم أجمعين (٤٣) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم (٤٤)) (الحجر) أي: لكل باب من أبواب جهنم صنف من الكفار خاص به.
بينما المؤمنون لهم الحرية في دخول أبواب الجنة الثمانية، قال رسول الله ﷺ من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق وأن النار حق أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء (البخاري: ٣١٨٠) (مسلم: ٤١).
فالمؤمنون يدخلون الجنة كيف شاؤوا؛ أما الكفار فذكرت الأبواب في شأن دخولهم (فادخلوا أبواب جهنم) من باب الإشارة إلى أن (لكل باب منهم جزء مقسوم) (الحجر: ٤٤).
- (تجري من تحتها الأنهار) وهذه الأنهار ليست فقط من ماء، فمنها ما هو من ماء، ومنها ما هو من خمر، وكذلك منها ما هو من لبن "حليب "، ومنها ما هو من عسل، قال تعالى:
(فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى) (محمد: ١٥)
- قدم ذكر الجار والمجرور (من تحتها) على الفاعل (الأنهار) في قوله تعالى (تجري من تحتها الأنهار)؛ لأن سياق الحديث هو عن الجنة، والضمير في (تحتها) يعود على الجنة، فناسب تقديم الجار والمجرور؛ ليكون السياق ألصق بالتركيز على الحديث عن الجنة.
- قدم ذكر الجار والمجرور (فيها) في قوله تعالى (لهم فيها ما يشاءون)؛ لأن الكلام منصب على وصف الجنة، والضمير في (فيها) يعود على الجنة، فناسب تقديم الجار والمجرور؛ ليكون السياق ألصق بالتركيز على وصف حال الجنة.
بينما قال تعالى في سورة (ق: ٣٥) (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) فأخر ذكر الجار والمجرور (فيها)، فلماذا هذا الاختلاف؟
للجواب عن هذا التساؤل تدبر معي - رعاك الله! - سياق الآيات:
(وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد (٣١) هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ (٣٢) من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب (٣٣) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود (٣٤) لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد (٣٥)) (ق)
فأنت ترى أن موضوع السياق منصب على ما أعطى الله المؤمنين الأوابين الحافظين، الخائفين من الله بالغيب، الراجعين إلى الله بقلب سليم، حيث تقرب لهم الجنة، ويرحب بهم ليدخلوها، ولهم ما يشاؤون في الجنة، بل ومزيد على ما يشاؤون مما لم يخطر ببالهم، فناسب أن يقدم ذكر مشيئتهم، لأنها مزية وأي مزية.
ففي الآية التي قدم فيها الجار والمجرور على ذكر المشيئة (لهم فيها ما يشاءون)، كان الكلام منصبا على وصف الجنة فناسب التقديم لإبراز موضوع وصف الجنة في السياق (لهم فيها) أي الجنة، وبعد إبراز ذكر الجنة جاء النص (ما يشاءون).
وفي الآية التي أخر فيها الجار والمجرور عن ذكر المشيئة (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد)، كان الكلام فيها منصبا على ذكر ما للمؤمنين من الخير، فناسب تقديم ذكر المشيئة (لهم ما يشاءون) أي المؤمنون، وبعدها جاء ذكر الجنة (فيها).
- (كذلك يجزي الله المتقين) أي كهذا الجزاء يكون جزاء المتقين.
ولكن السؤال الذي لابد منه هو أنه جاء في الآية السابقة (ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين) ثم جاءت هذه الآية (جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون) أي أن دار المتقين هي الجنة، فلماذا ختمت هذه الآية بـ (كذلك يجزي الله المتقين) ما دام أنه ذكر في الآية السابقة أنها دار المتقين؟
الجواب عن هذا أن الألف واللام في (المتقين) - في الآية السابقة - للعهد، وفي (المتقين) - في هذه الآية - للجنس، أي أن (المتقين) الذين ذكرتهم الآية السابقة هم من سئل عن الذي أنزله الله فقالوا: خيرا، وأن هذه الجنات الموصوفة هي لهم، و (كذلك يجزي الله) باقي (المتقين) جنات تجري من تحتها الأنهار.
(الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) (٣٢)
المفردات:
- تتوفاهم: تقبض أرواحهم.
- طيبين: طاهرين عن الشرك وقبائح الأعمال.
المعنى الإجمالي:
المتقون الذين لهم الجنة، هم أولئك الذين تقبض الملائكة أرواحهم وهم على حال الصلاح والخير، وتسلم عليهم الملائكة عند قبض الروح تطمينا لهم، وتبشرهم بدخول الجنة، بسبب عملهم الصالح.
المعنى التفصيلي:
- وهذه الآية مقابلة لقوله تعالى (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون (٢٨) فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين (٢٩)) (النحل)
- الاسم الموصول (الذين) صفة للمتقين، أي صفة المتقين هي (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين).
- الاسم الموصول (الذين) في هذا السياق يدل على التعظيم.
- وقرئ (يتوفاهم) بدل (تتوفاهم)، و (تتوفاهم) أي جماعة الملائكة، و (يتوفاهم) على الأصل.
- كلمة (طيبين) فيها إخبار وحث، أما الإخبار فهو أن المتقين الذين لهم الجنة هم الذين يموتون على ما هم عليه من التوحيد، وأما من انحرف وغير فله النار، والعياذ بالله!
وأما الحث، فهو: حث المؤمنين على أن يستمروا على طاعة الله حتى تتوفاهم الملائكة طائعين طاهرين.
- معنى قوله تعالى (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) أي ادخلوا الجنة بسبب أعمالكم، ولكن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لن يدخل أحدا عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: لا ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة) (البخاري: ٥٢٤١) (مسلم: ٥٠٤٠) فما وجه الجمع بين الآية والحديث؟
لا تعارض بين الآية والحديث، فالحديث مبين للآية، حيث إن الأعمال سبب لدخول الجنة (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون)، ولكن كونها سبب لدخول الجنة متوقف على رحمة الله وفضله (لن يدخل أحدا عمله الجنة.... إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة)؛ لأنه لا قيمة للأعمال دون قبول الله تعالى لها، فالسبب الحقيقي لدخول الجنة هو رحمة الله وفضله بقبول هذه الأعمال. وقيل غير ذلك، ولكن هذا ما اطمأنت إليه نفسي.
(هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (٣٣)
المفردات:
- ينظرون: ينتظرون.
المعنى الإجمالي:
وبعد مقارنة الآيات السابقة بين عاقبة الكفار وعاقبة المؤمنين تعود لتتابع سياق تهديد الكفار بسبب ما هم فيه من الشرك.
وتنكر الآية على الكفار تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وتبين أن حالهم كحال من ينتظر الملائكة لقبض روحه، أو حال من ينتظر عذاب الله سبحانه وتعالى أن يحل به.
وتحذر الآية أهل مكة بأن السابقين قد فعلوا مثلهم، كفروا بدين الله وبرسله، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى بسبب ظلمهم لأنفسهم بأن ألقوها في الكفر والضلال.
المعنى التفصيلي:
- (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) الاستفهام في الآية استفهام إنكاري.
- (ينظرون) أسند الانتظار إلى الكفار علما بأن ظاهرهم أنهم لا ينتظرون العذاب لأنهم ينكرونه، فلماذا وقع إسناد الانتظار إليهم؟
وقع إسناد الانتظار إليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى أنزلهم منزلة المنتظرين العارفين لا المنكرين الجاهلين؛ لأن حقيقتهم أنهم يعرفون أن هذا الدين من الله سبحانه وتعالى، وأن محمدا - ﷺ - رسول كريم، فحالهم مع هذه المعرفة حال من ينتظر.
- (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك) جاء ترتيب الوعيد بالموت وبعده العذاب، من باب الترتيب التصاعدي، من الأدنى إلى الأعلى، وهذا من بلاغة القرآن؛ لأن فيه زيادة في الوعيد، ولو جاء النص من الأعلى إلى الأدنى لما كان التهديد قويا، وتأمل معي، لو قيل لشخص من باب التهديد: "هل تنتظر جراء فعلك هذا أن أقتلك أو أضربك " فإن هذا التهديد ليس بقوة: "هل تنتظر جراء فعلك هذا أن أضربك أو أقتلك " لأن التهديد من الأدنى إلى الأعلى فيه تعظيم، ومن الأعلى إلى الأدنى فيه تهوين.
- (تأتيهم الملائكة) أي لقبض أرواحهم.
- (يأتي أمر ربك) قيل المقصود بأمر الله: التهديد بعذاب الدنيا، وقيل: التهديد بعذاب الآخرة.
والظاهر أن المقصود به هنا هو: التهديد بعذاب الدنيا؛ لدلالة ما بعده على هذا (كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي كفر السابقون فأتاهم عذاب الله في الدنيا.
قد يقول قائل: لماذا قلت: إن المقصود بـ (أمر الله) في قوله تعالى (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) (النحل: ١) هو عذاب الآخرة لا الدنيا؟
قلت ما قلت؛ لأن الإخبار بأن عذاب الله قد أتى يدل على أنه واقع لا محالة (أتى أمر الله فلا تستعجلوه)، وعذاب الاستئصال في الدنيا لم يقع بكفار مكة؛ قال تعالى (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون (٥٣) يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (٥٤)) (العنكبوت)؛ لأنه لو كان العذاب في الدنيا هو المقصود بأمر الله لوقع عذاب الله العام على الكفار، وهذا لم يقع بنص قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب)
إذن؛ فالعذاب الذي سأله الكفار لم يقع في الدنيا، وإنما أجل إلى الآخرة، فكيف يكون عذاب الدنيا هو الذي أتى؟! بل أمر الله الذي أتى هو عذاب الكفار في الآخرة.
أما هذه الآية (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) فهي من باب التهديد بالعذاب لا الإخبار بأنه قد تم قضاؤه كما تم قضاؤه على السابقين، على ما فيها من الدلالة على أن هذا التهديد هو بعذاب الدنيا (كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي كفر السابقون فأتاهم عذاب الله في الدنيا.
- إضافة الضمير في كلمة (ربك) إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ للدلالة على النصرة والتأنيس، فالنصرة ببيان أن صاحب الأمر بتعذيب الكفار هو ربك يا محمد.
وأما التأنيس فهو ببيان أن الله الشديد العظيم القوي هو ربك الذي يحبك يا محمد، فذكر القرب في مقام التهديد والشدة، يدل على كمال القرب.
وكذلك الوصف بالربوبية (ربك) يدل على رعاية الله ولطفه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه زيادة في بيان القرب.
- لم تعين الآية اسم قوم من السابقين، وإنما جاء التعبير عاما (الذين من قبلهم) دون تخصيص قوم بالذكر؛ ليدل على أن عقوبة الكافرين سنة إلهية، والتعميم في بيان السنة الإلهية أبلغ من ذكر أمة معينة.
- (وما ظلمهم الله) عندما أوقع عليهم العذاب؛ فإنه سبحانه وتعالى لم يجبرهم على الكفر بل هم من اختاره، وكذلك لم يعذبهم وهم جهلاء لا يعلمون عن دين الله، بل أرسل إليهم الرسل، وأقام لهم البينات حتى ظهر لهم الحق وبان بلا غبش.
- (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) وهذا ظلم بشع غبي أن يظلم المرء نفسه، ولذا قدم ذكر (أنفسهم) على (يظلمون) ولم يأت النص " ولكن كانوا يظلمون أنفسهم "؛ لأن المستنكر في هذه الآية هو ظلمهم لأنفسهم وليس مطلق الظلم، ولذا قدم ذكر (أنفسهم) لبيان استبشاع أن يقع ظلم المرء على نفسه.
- وجملة (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) اعتراضية بين قوله تعالى (كذلك فعل الذين من قبلهم) والآية التي بعدها (فأصابهم سيئات ما عملوا).
(فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) (٣٤)
المفردات:
- حاق: أحاط ونزل.
- يستهزئون: يستخفون ويسخرون.
المعنى الإجمالي:
بينت الآية السابقة تكذيب الكفار لرسل الله ودينه، وأن السابقين كذبوا الرسل كذلك، فبينت هذه الآية عاقبة المكذبين، وأن لهم العذاب في الدنيا والآخرة، وسيحيط بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون.
المعنى التفصيلي:
- الفاء في قوله تعالى (فأصابهم) عطف على قوله تعالى (كذلك فعل الذين من قبلهم)، وجملة (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) اعتراضية بين قوله تعالى (كذلك فعل الذين من قبلهم) والآية التي بعدها (فأصابهم سيئات ما عملوا).
- (سيئات ما عملوا) أي: "جزاء سيئات ما عملوا" فحذف المضاف "جزاء" مبالغة في الجزاء، كأن أعمالهم السيئة هي التي تعذبهم بذاتها، وفيه زيادة في الدلالة على أثر الأعمال السيئة في استحقاق العذب.
- ما الفرق بين التعبير بـ (سيئات ما عملوا) وبين قولنا "سيئات عملهم"؟
الفرق بينهما أن قولنا "سيئات عملهم" فيه بيان أن الجزاء بسبب العمل، بينما قوله تعالى (سيئات ما عملوا) فيه زيادة في بيان أن ما أصابهم هو بسبب ما كسبوه بجوارحهم، أيديهم وألسنتهم وأرجلهم، وهذا واضح من التعبير بالفعل والفاعل (عملوا) ما ليس في المضاف والمضاف إليه (عملهم).
- حاق: أحاط ونزل، ويستعمل في التعبير عن العذاب.
- قدم ذكر الجار والمجرور (بهم) في قوله تعالى (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) ولم يأت "وحاق ما كانوا به يستهزئون بهم"؛ لأن تهديد الكفار هو موضوع الآية، فناسب تقديم (بهم) زيادة في التهديد، للإخبار أن العذاب واقع بهم (وحاق بهم) قبل بيان نوع العذاب (ما كانوا به يستهزئون).
- قدم ذكر الجار والمجرور (به) في قوله تعالى (ما كانوا به يستهزئون) ولم يأت "ما كانوا يستهزئون به"؛ لأن هذا تهديد بالعذاب المستهزأ به، فناسب تقديم ذكره من باب إبرازه في سياق التهديد زيادة في التهديد.
- ذكر عذاب الكفر عموما في البداية (فأصابهم سيئات ما عملوا) ثم ذكر عذاب الاستهزاء (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون)، علما بأن الاستهزاء بعذاب الله كفر، فلماذا ذكر عذاب الاستهزاء بعد العذاب العام؟
ذكر عذاب الاستهزاء بعد العذاب العام من باب ذكر الخاص بعد العام للأهمية، ووجه الأهمية أن الاستهزاء كفر وزيادة، لأن معنى الاستهزاء الاستخفاف، فهو جحود واستخفاف.
وفي كتابي (الآيات القرآنية الواردة في المستهزئين بالإسلام ودعاته: دراسة موضوعية) مبحث بعنوان: كفر المستهزئين بالإسلام ودعاته، وهذا هو المبحث الخامس، فراجعه إن أردت الاستزادة.
- جاء التعبير عن العذاب العام بـ (أصابهم) والتعبير عن عذاب الاستهزاء بـ (حاق)، لأن الاستهزاء كفر وزيادة، فناسب الزيادة في الكفر الزيادة في العذاب؛ لأن التعبير بـ (حاق) أفظع من التعبير بـ (أصاب) لأن حاق تعني نزول العذاب وإحاطته بالمعذبين، وليس مجرد الإصابة فقط.
(وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) (٣٥)
المفردات:
- البلاغ: تبليغ الخبر.
- المبين: الواضح.
المعنى الإجمالي:
بعدما بينت الآية السابقة عاقبة الكافرين، تبين هذه الآية صورة جديدة من صور الكفر والتكذيب، ولكن هذه الصورة تلبس ثوب الجدل والعلم، وما هي إلا الكفر بذاته.
فقال الكفار: إن الله لو شاء أن لا نشرك وأن لا نحرم الحلال لمنعنا، وإذ لم يمنعنا فإنه راض عن فعلنا.
فرد الله عليهم بأن الأمم السابقة فعلت فعلهم، فكانت عاقبتهم العذاب، وبينت الآية أن الرسل غير مكلفين بمتابعة الجدل العقيم مع الكفار، وإنما عليهم توضيح حقائق الدين وترك الكفار وجدلهم، إذ لا فائدة في مجادلة قوم لا يريدون الحق.
المعنى التفصيلي:
- جاء النص (وقال الذين أشركوا) وليس "وقالوا" لأن للتعبير بالاسم الموصول في هذا السياق دلالته في ازدراء المشركين، فإذا ما كنت تتحدث عن سارقين، وأردت ازدراءهم أكثر، فلا تقول "وقالوا" قاصدا السارقين، بل تقول "وقال الذين سرقوا".
- الكفار جبريون في عقيدتهم حيث إنهم قالوا: نحن مشركون؛ لأن الله أراد أن نكون مشركين (لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء)
ولقد قال مقالتهم هذه فرقة ضالة من فرق المسلمين وتسمى الجبرية، قالوا: إن الإيمان والكفر جبر من الله على البشر، فشابه الضالون الضالين، فبعدا للقوم المكذبين!
ومن الغريب أن هذه العقيدة الفاسدة تدخل إلى قلوب بعض من يعتنقون الإسلام، وتدخل إليهم وهم لا يشعرون، حيث نقول لبعضهم: صل. فيقول لك: حتى يشاء الله. أي أن الله يشاء لي المعصية ولو شاء لي الإيمان لآمنت، وعلى هذا فقس جميع أنواع العبادات التي فرضها الله سبحانه وتعالى.
- الكفار أكدوا باطلهم، حيث إن إصرار الكفار على باطلهم سنة ماضية حاضرة مستمرة، فقد أكد الكفار باطلهم بعدة تأكيدات؛ حيث جاء الضمير (نحن) تأكيدا للضمير المتصل (عبدنا) في قوله تعالى (لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا).
ومن التأكيد أيضا (من) الاستغراقية في قوله تعالى (من شيء) أي لو شاء الله ما أشركنا من دونه أي شيء، ولا حرمنا من دونه أي شيء.
ومن التأكيد إعادة النفي في قوله تعالى (نحن ولا آباؤنا) تأكيدا لما النافية (ما عبدنا) ولولا التأكيد لجاء النص "وآباؤنا".
- الكفار وقحون، ومن وقاحتهم أنهم يتبجحون بأنهم مشركون، وأنهم يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله.
وهذا شأن أعداء الإسلام - وإن تسموا بأسماء المسلمين - حيث يتبجحون بأنهم لا يقبلون قول الله إلا إذا وافق عقولهم، فانظر إلى الوقاحة كيف يتهمون الله بالجهل، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
- (ولا حرمنا من دونه من شيء) إن طاعة أئمة الكفر في تحريم ما أحل الله، وجعل هذا التحريم شريعة تتبع هو عبادة لغير الله، قال تعالى (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) (الأنعام: ١٢١) والشاهد في الآية: أنكم إن أطعتم المشركين في أكل الميتة بناء على حلها، فإنكم مشركون حيث اتبعتم تشريعا غير تشريع الله، وهذا الاتباع عبادة لغير الله، ولذا سمي هذا المتبع مشركا.
- ولكن لماذا ذكر قوله تعالى (ولا حرمنا من دونه من شيء) بعد قوله تعالى (لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا) علما بأن التشريع من دون الله بالتحليل والتحريم وغيرهما هو كفر، فلماذا ذكر التحريم من دون الله بعد عبادة غير الله إن كان الأمران شيئا واحدا؟
ذكر التشريع من دون الله بعد ذكر الكفر وهما شيء واحد من باب ذكر الخاص بعد العام، وسبب هذا الذكر هو أهمية الخاص؛ لأن التشريع من دون الله كفر وزيادة، قال تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين) (التوبة: ٣٧).
فقد كان الكفار يتلاعبون في تحديد الأشهر الحرم، ويتخذون هذا التلاعب قانونا يسيرون عليه، فالنسيء هو تأخير العرب لشهر حرام وجعله مكان شهر حلال وجعل شهر حلال مكانه، وهذا الأمر كفر بشرع الله؛ لأنهم شرعوا دونه شريعة تتبع، ولكن التشريع من دون الله ليس كفرا فقط، بل هو كفر وزيادة (إنما النسيء زيادة في الكفر)، فهو كفر برفض أمر الله، وزيادة بتشريع شرع وقانون غير شرع الله.
ولأن التشريع من دون الله كفر وزيادة، ذكر أمره بعد ذكر الكفر من باب الأهمية.
- كيف يسمح الله للكفار أن يكفروا مع أنه يقول (ولا يرضى لعباده الكفر)... (الزمر: ٧)؟
أعطى الله سبحانه وتعالى الخيار لعباده أن يختاروا ما يشاؤون، ولكنه يحب لهم الإيمان ويكره لهم الكفر، ولا تعارض بين حبه لهم أن يؤمنوا، وبين عدله بهم أن يختاروا ما يشاؤون.
وتأمل معي قوله تعالى (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) (الزمر: ٧) فهو سمح لهم بأن يختاوا الكفر (إن تكفروا فإن الله غني عنكم) ولكنه لرحمته بعباده (ولا يرضى لعباده الكفر).
وتأمل قوله تعالى في حرية العباد في الاختيار (ونفس وما سواها (٧) فألهمها فجورها وتقواها (٨) قد أفلح من زكاها (٩) وقد خاب من دساها) (الشمس)
- مجادلة الكفار للمؤمنين ليست لمعرفة الحق بل للتكذيب؛ قال تعالى (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا) (الأنعام: ١٤٨) فسمى سبحانه وتعالى قولهم هذا تكذيبا كتكذيب من سبقهم من الأمم؛ لأن المقصود من جدل الكفار وشبههم هو التكذيب لا طلب الحق.
ولكن ماذا علينا أن نفعل؟ لقد بين لنا القرآن أنه ليس علينا متابعة شبهات الكفار وجدلهم العقيم، بل علينا ما كان على الرسل وهو البلاغ الواضح، وبعدها للكفار أن يختاروا ما يشاؤون (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) أي ليس على الرسل إلا البلاغ الواضح، وليس عليهم مجادلة كل ناعق، ولا إجبار الناس على الهداية.
ولو اتبع كثير من الدعاة هذا المنهج لما اشتغلوا في مجادلة منافقة تقول: ليس على المرأة لباس محدد بل تختار ما تشاء. وأشباهها كثير.
فيا دعاة الإسلام بينوا دين الله واتركوا الناعقين، فإنهم باعتنائكم بهم يصعد نجمهم ويعرفون، دعوهم فإن الحق ليس مطلبهم بل هم المكذبون.
(ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (٣٦)
المفردات:
- اجتنبوا: ابتعدوا.
- الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، ولم يرفض هذه العبادة، ويستعمل في المفرد والجمع.
- حقت: وجبت ولزمت.
- عاقبة: آخر كل شيء.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة ضلال الكفار وتكذيبهم لدين الله، وبينت أن الرسل غير مكلفين إلا بالبلاغ المبين، تبين هذه الآية أن الله أرسل الرسل فبلغوا الرسالة وأدوا الأمانة، وكان من نتيجة تبليغهم أن آمن من آمن وكفر من كفر، فأهلك الله الكافرين، وهذه مساكنهم يراها الناظرون حتى تكون عبرة.
المعنى التفصيلي:
- الآية تفصيل للآية السابقة؛ لأن الكفار قالوا: إن الله أراد لنا الكفر. فبينت هذه الآية أن من الناس من يهتدي، ومنهم من يضل، وأن الأمر اختيار من المدعوين، ولأن الله لا يرضى عن الضلال، عذب الضالين وأهلكهم.
وتفصل الآية أن الرسل الذين عليهم البلاغ، قاموا بما أمروا به، ولكن الضالين لا ينفعهم الإرشاد والهداية بل لا بد من وقوع العذاب بهم.
- (ولقد بعثنا) جاء الإخبار عن مبعث الرسل مؤكدا بـ"اللام" و"قد" لأن الآية في سياق تهديد للمشركين الرافضين لدعوة الرسل، والقائلين بأن الله يريدهم أن يكفروا.
- جاء في الآية التفات من أسلوب الغيبة إلى أسلوب المتكلم، وتأمل معي الأسلوب في الآية السابقة تجده أسلوب الغيبة (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين).
ولكن الأسلوب في أول هذه الآية هو أسلوب المتكلم (بعثنا)، وهذا التحول في الأسلوب يدل على عظيم أمر بعث الرسل في كل أمة، فاختيار الرسل والعناية بهم وإمدادهم بالرسالات وبالتأييد، ومعاقبة مكذبيهم، كلها أمور عظيمة.
وكذلك يدل على عظيم فضل الله علينا؛ لأننا لولا بعث الرسل ما عرفنا الحق من الضلال، فسبحان من بعث الرسل إلينا رحمة بنا!
- قدم الجار والمجرور في قوله تعالى (في كل أمة رسولا) لأن المعنى المقصود أصالة أنه ما خلت أمة عن رسول يبلغها رسالة الله. ولو قلنا في غير التنزيل "رسولا في كل أمة" لصار المعنى المقصود أصالة هو: أن عدد الرسل متعدد بتعدد الأمم.
- جاء النص (في كل أمة) ولم يأت " لكل أمة " لأن حرف "اللام" يدل على أن بعث الرسول كان لأجل الأمة المبعوث لها، ولكن حرف "في" يدل على الظرفية، والتي يفهم منها دخول الرسول في الأمة؛ كل الأمة، وكل طبقاتها وأفرادها، كي لا تبقى جماعة منها إلا ووصلها البلاغ، فالرسول مرسل للأمة، وزيادة على ذلك هو مرسل في الأمة.
- ورسالة الرسل هي (أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) فـ"أن" مفسرة لدعوة الرسل.
- (اعبدوا الله) أي وحده، وتأكيدا على توحيد الله جاء الأمر باجتناب الطاغوت (واجتنبوا الطاغوت) ولم يأت النص "اتركوا" بل (اجتنبوا)؛ لأن الاجتناب ليس تركا فقط، بل هو ترك وزيادة، لأن معناه الابتعاد.
- الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، ولم يرفض هذه العبادة، لأن عيسى عليه السلام عبد من دون الله ولكنه لا يرضى عن هذه العبادة، فلا بد من قيد "ولم يرفض هذه العبادة".
- (فمنهم) من للتبعيض، أي بعضهم، وذلك في قوله تعالى (فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة)
- (من هدى الله) في الآية التفات من أسلوب المتكلم (بعثنا) إلى أسلوب الغيبة (هدى الله) ليتم إسناد الهداية إلى الله؛ لبيان فضله ومنه، وللرد على الكفار أن الله يهدي عباده، وأن الضلال الذي هم فيه ليس جبرا من الله بل باختيارهم.
ولكن من هذا الذي يهديه الله؟ إنه من يقبل على الله سبحانه وتعالى، قال تعالى (ويهدي إليه من ينيب) (الشورى: ١٣) أي أن الله يهدي من يعود إليه ويتوب.
وفي هذا رد على من تقول له: اتق الله، أو تأمره بالصلاة، فيقول لك: إذا أراد الله هدايتي فسيهديني.
فنقول له: أقبل على الله وتب إليه فسيهديك، واسمع قوله تعالى (ويهدي إليه من ينيب) (الشورى: ١٣)
- الهداية باب من يطرقه يفيض الله عليه الهداية دون تحصيل بالأسباب، بل برحمته سبحانه وتعالى؛ قال تعالى (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) (مريم: ٧٦) ويقول تعالى (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) (الكهف: ١٣) فالفتية آمنوا واهتدوا، ولأجل هذا جاءهم فيض الهداية الرباني.
- (ومنهم من حقت عليه الضلالة) جاء التعبير بـ (حقت عليه الضلالة) وليس "أضله الله"؛ لأن الذي ضل إنما ضل بنفسه فاستحق الضلالة ووجبت عليه ولزمته، أما الله فإنه لا يرضى لعباده أن يكفروا (ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) (الزمر: ٧).
- جاء النص بـ (الضلالة) وليس "الضلال"؛ لأن من الضلال ما لا يكون مذموما؛ لأنه قد يكون بسبب عدم وصول العلم إلى صاحبه، قال تعالى (ووجدك ضالا فهدى) (الضحى: ٧) فليس المراد بالضلال هنا اتباع الباطل، بل عدم وصول علم الدين للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضا، فقد قال أخوة يوسف في حق أبيهم يعقوب عليه السلام (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين) (قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم) (يوسف: ٨، ٩٥) ولم يقصدوا بالضلال الكفر، وإنما قصدوا في الآية الأولى - بزعمهم - خطأ أبيهم في تفضيل يوسف وأخيه، وفي الآية الثانية حب أبيهم ليوسف عليه وعلى أبيه السلام.
وقد يدل (الضلال) على الكفر (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين) (الأنعام: ٧٤)، أما (الضلالة) في القرآن فهي بمعنى الكفر، وجاءت بالقرآن بلفظ (الضلالة) (وضلالة) (وضلالتهم) وكل معانيها في القرآن تشير إلى الكفر.
- قدم الجار والمجرور (عليه) في قوله تعالى (ومنهم من حقت عليه الضلالة)؛ لأن سياق الكلام عن الضالين وليس عن الضلالة، ولذا ناسب تقديم (عليه) لإبراز موضوع السياق.
- (فسيروا في الأرض فانظروا) الذهاب إلى آثار الأمم المهلكة لغاية الاعتبار ينمي الخوف من الله سبحانه في قلوب المعتبرين.
- وفي قوله تعالى (فسيروا في الأرض فانظروا) التفات من الغيبة إلى الخطاب، لأنه أمر، وقوة الأمر بالمواجهة، وتأمل معي الالتفات في الآية (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)
- (كيف كان عاقبة المكذبين) جاء النص بـ (كان) مع أن العاقبة مؤنثة، وذلك لأن العاقبة ضمنت معنى العذاب، وبهذا صار المعنى " كيف كان عذاب المكذبين".
(إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين) (٣٧)
المفردات:
- الحرص: الشدة في إرادة الشيء.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة أن عاقبة المكذبين هي الهلاك في الدنيا قبل الآخرة، وخوفا من أن يمس العذاب الأليم من بقي على ضلاله حرص النبي - ﷺ - على هداية الناس.
فأخبره الله سبحانه وتعالى أن الذين يختارون الضلالة لهم الضلالة، ولن يجبرهم الله سبحانه على الهدى، ولهم عذاب أليم لا يدفعه عنهم أحد.
المعنى التفصيلي:
- في الآية بيان لعظيم رحمته صلى الله عليه وسلم، وثناء على كمال خلقه الشريف، فهو حريص على هداية من آذوه ومن يؤذونه؛ وكل هذا الحرص لينقذهم من العذاب، ولتكون عاقبتهم جنة الخلد.
فما أحوجني وأحوج الدعاة لأن نتفكر في تنمية الرحمة في قلوبنا، حتى تكون زادا لمسير دعوتنا للمكذبين، وأن نتمنى لهم الهداية في الوقت الذي يتمنون لنا فيه الهلاك، لأن أجر هذا العمل سيكون عظيما، لأن من كلفنا فيه كريم يزيد العطاء، وقدير يقدر على الوفاء.
فمن كانت معاملته مع الخلق لأجل الخلق، سلمه الله إلى الخلق، ومن كانت معاملته لأجل الله، فإنه لا ينظر إلى ما لاقاه.
- حرص النبي - ﷺ - على أمته ليس أمرا قد انتهى في أول حياته، ولذا لم يأت النص " إن حرصت "، وإنما هو أمر متجدد على طول حياته صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يفيده الفعل المضارع (تحرص).
وفي هذا بيان لعظيم صبره صلى الله عليه وسلم، وعظيم رحمته.
- في الآية شرط وجوابه (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين)، وجواب الشرط - في الغالب - يحصل لحصول الشرط، نقول: إن تدرس تنجح، ولكن جواب الشرط في هذه الآية لم يحصل لأجل الشرط، بل هو حاصل من دون الشرط، وجواب الشرط هنا لإفادة العلم.
إذن؛ سنة الله في إضلال من اختار الضلال سنة ماضية حاضرة مستمرة (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) (مريم: ٧٥)
- قد يقول قائل: إن الله سبحانه وتعالى يقول (فإن الله لا يهدي من يضل) فهل ضلال الكفار جبر وقهر من الله سبحانه؛ لأن الإضلال أسند في الآية إلى الله (يضل) أي يضل الله؟
فنقول له: لا بد من فهم قوله تعالى (فإن الله لا يهدي من يضل) في ضوء الآيات التي وضحت كيف ومتى يقضي الله على الكفار بالضلالة.
قال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) (الصف: ٥) فالله سبحانه وتعالى (لا يهدي القوم الفاسقين) ولكن أي نوع من الفاسقين هؤلاء؟ هؤلاء هم من قضى الله عليهم بالكفر، ولكن لماذا قضى الله عليهم بالكفر؟ قضى عليهم بالكفر؛ لأنهم هم من اختار الضلال ورفض الهدى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) فهم من زاغ ورفض الحق، فكان عاقبة زيغانهم أن أزاغ الله قلوبهم عقابا لهم.
وتبين الآية السابقة - أيضا - أن من يصر على الضلالة فإن الضلالة تحق عليه وتجب (من حقت عليه الضلالة) أي اختارها حتى لزمته.
- ولكن لماذا أسند الإضلال في الآية إلى اسم الجلالة، ولم يسند إلى الكفار، أي لماذا لم يأت النص "يضل" وليس (يضل)؟
ينبغي أن نعلم قبل الإجابة أن الهداية والضلال يسيران وفق سنن قضاها الله سبحانه وتعالى، وهي أن من اختار الهداية فله ذلك، ومن اختار الكفر فله ذلك، وأن أمر الهداية والضلال بأجمعه بيد الله؛ لأنه من قضى هذه السنن، وبقضاء هذه السنن فإنه لا يضل ضال ولا يهتدي مهتد إلا بمشيئة الله سبحانه، وفي خلاصة الأمر فإن الله هو الذي أضل وهو الذي هدى (من يضلل الله فلا هادي له) (الأعراف: ١٨٦) وكذلك (ومن يهد الله فهو المهتد) (الإسراء: ٩٧)
أسند الإضلال في الآية إلى اسم الجلالة، ولم يسند إلى الكفار؛ من باب ذكر المشيئة العامة؛ لأن السياق هو بيان للنبي ﷺ - بداية - بأن الحرص على هداية الكفار ليس موجبا لهدايتهم، فأسند الفعل إلى الله لتهويل أمر الإضلال بأنه منه سبحانه، ولذا فإن إسناد الفعل إليه سبحانه قاض بحزم البيان في مسألة أن الهداية ليست بالحرص.
وهذا كقوله تعالى (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) (القصص: ٥٦)
- قرئ قوله تعالى (يهدي) بضم الياء وفتح الدال (يهدى)، وعلى هذه القراءة يكون المعنى: إن الذي أضله الله لا يهدى.
والتعبير بالبناء للمجهول ينفي وقوع الهداية لمن أضله الله من أي جهة كانت الهداية.
- ولكن لماذا لم يأت نص الآية (إن تحرص على هداهم فإن الله) "يهدي من يشاء" كقوله تعالى (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) (القصص: ٥٦) ولكن جاء النص (فإن الله لا يهدي من يضل)؟
وذلك لأن السياق سياق تهديد، فتدبر معي - حفظك الله - هذه الآيات (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (٣٣) فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (٣٤) وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين (٣٥) ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (٣٦) إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين (٣٧) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (٣٨) ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين (٣٩)) (النحل)
أما قوله تعالى (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) (القصص: ٥٦) فسياقه مختلف عن هذا السياق؛ لأن الآيات السابقة فيها ثناء على من آمن من أهل الكتاب، فكان في إيمان أهل الكتاب فرحة للنبي ﷺ ولكنه يترك حسرة في قلبه سببها إيمان البعيدين عنه وكفر أهله وخاصته، فجاءت الآية تأنيسا له، فناسب ذكر الهداية مقام التأنيس (ولكن الله يهدي من يشاء)، أما في مقام الوعيد والتهديد فجاء قوله تعالى (فإن الله لا يهدي من يضل)
وختمت آية الوعيد والتهديد بـ (وما لهم من ناصرين)، وختمت آية التأنيس بـ (وهو أعلم بالمهتدين)، والفرق بينهما واضح، ويزداد تذوقه مع الزيادة في التدبر.
- (وما لهم من ناصرين)، فالمسألة ليست مسألة ضلال فقط وينتهي الموضوع، بل هناك عذاب عظيم مترتب على هذا الضلال، ولا يستطيع أحد في الوجود - إلا أن يشاء الله - أن يرفع العذاب عن الذين يريد الله أن يعذبهم.
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (٣٨)
المفردات:
- الجهد: المشقة.
- يبعث: يحيي بعد الموت.
- الأيمان: جمع يمين وهو القسم.
المعنى الإجمالي:
وتتابع الآيات بيان ألوان الكفر والجحود، وهذا اللون من الكفر لون فاقع جدا، وهو إنكار بعث الله للموتى.
وتبين الآية أن بعث الناس بعد الموت حق لا بد منه، ولكن الكفار ضالون بإنكارهم البعث بعد الموت.
المعنى التفصيلي:
- لم يأت النص "وأقسموا جهد أيمانهم" وإنما جاء نص الآية بذكر لفظ الجلالة "الله" (وأقسموا بالله جهد أيمانهم)، لأمور، منها:
الأول: ذكر لفظ الجلالة في سياق الإخبار عن القسم يدل على تغليظ القسم، وأن الكفار لم يكونوا يقسمون قسما عابرا، بل كانوا يغلظون القسم.
الثاني: فيه بيان التناقض في عقلية أهل الجاهلية ومن سار على دربهم، فهم يعظمون الله بالقسم به، ويكفرون به، بل ويشركون معه.
- (جهد أيمانهم) أي جاهدين في القسم، فهي أقسام مغلظة، يبذلون لها المشقة.
- لماذا جاء النص بـ (جهد) بفتح الجيم، وليس "جهد" بضم الجيم؟
" الجهد" بضم الجيم، هو: الطاقة والوسع، بينما "الجهد" بفتح الجيم، هو: الطاقة والوسع وزيادة على ذلك المشقة.
ولذا جاء التعبير عن الوسع والطاقة في قوله تعالى بـ (جهدهم) بالضم وليس الفتح في قوله تعالى (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) (التوبة: ٧٩)
بينما عبر عن الأيمان بـ "الجهد" بالفتح في قوله تعالى (أقسموا بالله جهد أيمانهم) (المائدة: ٥٣) (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) (الأنعام: ١٠٩) (النور: ٥٣) (فاطر: ٤٢)
والتعبير بالفتح له دلالة على أنهم لم يبذلوا الوسع فقط، بل بذلوا فوق ذلك المشقة.
فسبحان الله! كم يبذل الكفار المشقة في محاولة تشويش حقائق هذه الدين، وكم يترك كثير من المسلمين بذل الوسع - وليس المشقة - في الدفاع عن هذا الدين!
- اليمين في اللغة: اليد، وهو مستعار في الحلف والقسم من اليد؛ لما يفعله المتعاهدون من القبض على أيدي بعضهم، دلالة على توثيق العهد.
- ولكن ما هو موضوع القسم الذي اجتهد الكفار فيه؟ يبينه قوله تعالى (لا يبعث الله من يموت)، أي أقسم الكفار بالله العظيم مجتهدين في قسمهم غاية الاجتهاد حتى أصابتهم المشقة من شدة أيمانهم أن الله لن يبعث الموتى.
- و البعث في اللغة: الإرسال، وعبر به عن إحياء الموتى؛ لأنهم محبوسون بالموت عن الحياة، فإذا ما أرسلوا من موتهم دبت بهم الحياة.
- جاء النص بـ (لا يبعث الله من يموت) بذكر لفظ الجلالة، وليس "لا يبعث من يموت"؛ وذلك مبالغة من الكفار في نفي البعث بعد الموت، كأنهم يقولون: نعني بنفي البعث بعد الموت نفي بعث الله.
ونفي بعث الله للموتى نفي لأي بعث؛ لأنه إذا لم يبعث الله الموتى فمن غيره يبعثهم!
والغريب في الأمر أن هذا التنصيص على نفي بعث الله للموتى - أي بذكر لفظ الجلالة - يشعر السامع بأن الكفار يقسمون عن ثقة، كأن عندهم وحي من الله ينص على نفي البعث، ولذا نصوا بذكر لفظ الجلالة، وهذا من منهج أهل الجحود عند نفيهم حقيقة من حقائق هذا الدين، يحاولون إيهام السامع أنهم يتكلمون بثقة، وكذلك أنهم يعتمدون على مستند صحيح، ولكن أنى لهم ذلك، والحق نور لا يطفأ بأفواه هؤلاء الحاقدين!
- جاء التعبير بالمضارع (يموت) لاستحضار حالة الموت في الذهن، كأن الكفار يبينون بعد الإحياء لما يستحضرونه من صورة الموت في أذهانهم، فإن حالة الموت توقف النفس والنبض والحياة، فكيف يبعث من تعطلت أجزاء جسمه ومات؟!
- وترد عليهم الآية بأن الله سيحيي الموتى (بلى) أي سيبعث الله من يموت؛ لأن (بلى) تنفي النفي الذي قبلها، ونفي النفي إثبات، ولو كان الجواب هنا بـ "نعم" لكان المعنى: نعم لا يبعث الله من يموت؛ لأن " نعم" إثبات لما قبلها.
قال تعالى (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد) (ق: ١٥) فابتداء الخلق لم يعجز الله فكيف يعجزه الإعادة؟! والإعادة عند الناس أسهل من الابتداء، ولكن الابتداء والإعادة عند الله أمران يستويان تحت قدرة الله سبحانه وتعالى.
- (وعدا عليه حقا) أي وعد الله وعدا حق حقا، وهذا الوعد حق لا بد أن يقع.
- ضمن "وعد" معنى أوجب بقرينة حرف الجر "على" في قوله تعالى (عليه)، فصار المعنى: أوجب الله البعث على نفسه.
- ولكن لماذا هذا التضمين؟
جاء هذا التضمين لتكون الجملة بقوة جملتين، فهو وعد، وزيادة على ذلك هو أكيد لا يتخلف.
ومن أمثلة التضمين قوله تعالى (عينا يشرب بها عباد الله) (الإنسان: ٦) فالفعل يشرب يتعدى بـ "من" أي: يشرب منها عباد الله، ولكنه تعدى هنا بالباء؛ لأن الفعل "يشرب" ضمن معنى يرتوي أو يتلذذ، ودل على هذا التضمين حرف الباء، فصارت الجملة بهذا التضمين بقوة جملتين، حيث دلت الجملة على الشرب بصريح النص، ودلت على الارتواء والتلذذ بالتضمين.
- (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي لا يعلمون أن الله قادر على إحياء الموتى.
وقد يسأل سائل: إن كان الكفار لا يعلمون فلماذا يحاسبهم الله سبحانه وتعالى، مع أن الجهل عذر من الأعذار التي ترفع العذاب، قال تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (الإسراء: ١٥)؟
ولكن لا بد من العلم أن جهلهم هنا لا يعذرون به؛ لأنه ليس جهلا ناتجا عن عدم وصول الخبر إليهم، بل هو جهل ناتج عن جحودهم وإغلاقهم قلوبهم عن الإيمان، وعقولهم عن التفكير، ولذا فهذا الجهل من كسب أيديهم.
- (أكثر الناس لا يعلمون) أي أن الأكثر من الناس على الضلال، وأن المهتدين في هذه الأرض هم القلة، قال تعالى (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (يوسف: ١٠٣)
(ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين) (٣٩)
المفردات:
- يبين: يكشف ويظهر.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة أن بعث الموتى حق، تبين هذه الآية الحكمة من هذا البعث، وهذه الحكمة هي بيان الحق وبيان الباطل بأوضح بيان وأوضح عاقبة، إما جنة وإما نار، وليعلم الكفار أنهم كذبوا بإنكارهم البعث.
المعنى التفصيلي:
- (ليبين) اللام هي لام التعليل، أي سيبعث الله من يموت لأجل أن يبين لهم.
- (لهم) أي لكل الخلق.
- قد يسأل سائل: ألم يبين الله الحق من الباطل للخلق في الدنيا، فلماذا جعل البيان علة للبعث؟
والجواب عن هذا: أن بيان الدنيا غير بيان الآخرة؛ لأن بيان الدنيا سماع وخبر، وبيان الآخرة معاينة ونظر، فهو بيان حسي زيادة على البيان النظري، فإن البيان القاطع للحق والباطل يكون بخلود المؤمنين في الجنة، وبخلود الكفار في النار.
- وجاء التعبير عن المختلف فيه بالموصول (الذي) في قوله تعالى (الذي يختلفون فيه) لعظمه وارتفاع مكانته.
وقال بعض المفسرين: إن المختلف فيه هو الحق، وقال بعضهم: إن المختلف فيه هو كل شيء اختلف فيه. ولا فرق بين القولين؛ لأن المقصود من بيان المختلف فيه ما كان من جنس الحق، ويدخل ضمنه حقوق الله المترتبة على عباده من عبادته وتوحيده وغير ذلك، وكذلك من ضمنه حقوق العباد المتنازع فيها، أما الأمور التي ليس فيها حق وباطل فلا تدخل ضمن المختلف فيه، ومثاله: اختلاف اثنين في مسألة كيميائية أو حرفية أو غير ذلك من المباحات التي لا تتعلق بها حقوق. وهذا القول بناء على ما قيل آنفا: إن المختلف فيه هو الحق، أو: إن المختلف فيه هو كل شيء اختلف فيه. ولكن الراجح أن ما اختلف فيه هو أمر بعث الله الموتى، وسيأتي الدليل على هذا.
- جاء التعبير بالمضارع (يختلفون) في قوله تعالى (الذي يختلفون فيه) ولم يأت بالماضي (اختلفوا)، لأن في ذكر المضارع إشارة إلى إبراز أمر معين من الأمور المختلف فيها، وهذا الأمر واقع زمن نزول الآيات، ويتبين من السياق.
وتأمل معي الآية السابقة لتعلم ما الأمر الذي يشير إليه الفعل المضارع (يختلفون) قال تعالى (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (٣٨).
أعرفت - بارك الله فيك - ما هو الأمر؟ إنه أمر حاضر وقت نزول الآيات، وهو ما يدل عليه السياق، أعرفته؟ إنه أمر بعث الله الموتى يوم القيامة.
- الجزاء هو غاية البعث، فلماذا لم يذكر في الآية؟
لم يذكر الجزاء في الآية؛ لأن الآية تبين أن الله يبعث الخلق ليبين لهم الذي يختلفون فيه، وذروة البيان في الآخرة تكون بالجزاء، فالجزاء نوع من أنواع البيان، ولذا أغنى ذكر البيان عن ذكره.
- (وليعلم) أي ليعلم الكفار، والواو للعطف، واللام للتعليل، أي ويبعث الله الخلق لأجل أن يعلم الكفار أنهم كانوا كاذبين بقسمهم على أن الله لا يبعث الموتى.
- (الذين كفروا) ذكر الموصول (الذين) ازدراء للكفار؛ لأن للاسم الموصول دلالته حسب السياق، وهذا معلوم لمن مارس علم المعاني واللغة.
- ذكرت الآية تعليلين لبعث الله سبحانه وتعالى الخلق يوم القيامة:
التعليل الأول هو: بيان الذي اختلف فيه.
والتعليل الثاني: ليعلم الكفار أنهم كانوا كاذبين بقسمهم على أن الله لا يبعث الموتى
فلماذا خص الكفار بالذكر بعد البيان العام للخلق أجمعين؟
خص الكفار بالذكر بعد البيان العام للخلق أجمعين، من باب ذكر الخاص بعد العام للأهمية، حيث إن السياق سياق إنكار على الكفار، وهو سياق تهديد أيضا، فناسب ذلك إفراد الكفار بالذكر زيادة في الإنكار وزيادة في التهديد.
- أسند العلم للكفار (وليعلم الذين كفروا) ولم يأت "وليعلموا أن الذين كفروا"، لأن في هذا الإسناد قوة في التهديد، لأن الكفار هم من سيعلم ما سيحل من العذاب بهم.
- جاء التعبير بالبيان أولا (ليبين لهم الذي يختلفون فيه) ثم جاء التعبير بالعلم ثانيا (وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين)، فلماذا هذا الاختلاف في التعبير؟
جاء هذا الاختلاف لأن ذكر البيان أولا ثم العلم؛ لأن العلم يأتي بعد البيان، ففي بداية الأمر تكشف الحقائق ثم يكون العلم نتيجة لهذا الكشف.
- أتى النص (وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين) وليس " وليعلم المؤمنون أنهم كانوا صادقين"؛ لأن السياق سياق تهديد للكفار وليس سياق مدح للمؤمنين.
- جاء التعبير باسم الفاعل (كاذبين) وليس بالفعل (كذبوا) لأن الكفار لم يكذبوا في الدنيا كذبة ما، بل كان الكذب حرفتهم، فلما استمروا على الكذب استحقوا أن يطلق عليهم اسم الفاعل (كاذبين).
ووصفهم باسم الفاعل فيه تهديد لهم، لأن عقوبة من تمرس على الكذب ستكون عظيمة، لأن شدة العذاب تزداد مع عظم الذنب.
- التعبير بـ (كان) في قوله تعالى (كانوا كاذبين)) أقوى في الدلالة؛ لما تعنيه "كان" من الوجود، للتنبيه على أنه قد وقع حقا.
- وجاء تأكيد تهديد الكفار بأمور، منها:
- إسناد العلم إلى الكفار.
- وحرف التأكيد (أن)
- والفعل (كان)
- ووصفهم باسم الفاعل (كاذبين)
(إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) (٤٠)
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة إنكار الكفار لبعث الله الموتى، وبينت الحكمة من البعث، تبين هذه الآية أن الله قادر على بعث الموتى، وأن هذا الخلق لا يتطلب منه سبحانه و تعالى إلا أمرا.
المعنى التفصيلي:
- في الآية التفات من الغيبة إلى المتكلم، ثم رجوع في الآية التالية إلى الغيبة، وسبب هذا الالتفات إلى المتكلم هو التعظيم لأمر الخلق، والتهديد للكفار.
وتأمل معي سياق الآية (ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين (٣٩) إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (٤٠) والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (٤١))
- هل القول في (إنما قولنا) من التمثيل أم من باب الخطاب الحقيقي؟
ذهب المفسرون إلى قولين حول ذلك:
فقول بأن هذه الآية تمثيل لسرعة قدرة الله سبحانه على الخلق.
وقول بأن هذه الآية دليل على سرعة خلق الله لما يريد، ولكن هذه الآية ليست من باب التمثيل، بل خلق الأشياء يكون بخطاب حقيقي من الله، خطاب يليق بجلاله سبحانه.
وظاهر الآية أنه سبحانه وتعالى يخلق الأشياء بخطاب، لأن الخلق يكون بالإرادة أولا وبعدها يكون بالخطاب، قال تعالى (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) (يس: ٨٢) فالإرادة أولا ثم الخطاب.
- الآية دليل على أن كلام الله صفة من صفاته، وأنه ليس مخلوقا، لأن كلامه سبحانه لو كان مخلوقا، للزم القول قولا آخر حتى يخلقه، مما يلزم منه التسلسل، أي يلزم كل قول قولا آخر إلى ما لا نهاية، وهذا ممتنع، فدل على أن كلامه سبحانه وتعالى صفة من صفاته غير مخلوق.
- في الآية دليل على أن الإرادة صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، ودليل على أن أمر الخلق يكون إذا كانت الإرادة (إنما قولنا لشيء إذا أردناه).
- قد يقول قائل: إذا كان الشيء المخاطب معدوما فيستحيل مخاطبة المعدوم، وإذا كان الشيء مخلوقا فلماذا الأمر بخلق المخلوق؟
قال المفسرون: أطلق الشيء على المعدوم؛ لأنه معلوم في علم الله، وهو حتمي الوقوع، فأصبح كالموجود.
وقالوا: هو من باب إطلاق الشيء على ما سيكون، كقوله تعالى حاكيا قول نوح عليه السلام (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) (نوح: ٢٧) علما بأن المولود لا يكون فاجرا كفارا إلا بعد أن يكبر، فأطلق اسم الفجور والكفر على من سيولد باعتبار ما سيكون.
ولكن لا يستقيم هذان القولان مع إخبار الآية بأن الله يوجه الخطاب للمعدوم (أن نقول له كن)، فـ (له) تدل على أنه خطاب حقيقي للمعدوم.
وقال الزجاج: إن اللام في قوله تعالى (لشيء) هي لام سببية، فالمعنى على ذلك: لأجل شيء، وكذلك في (له) أي: لأجله، حيث يكون معنى الآية، إنما قولنا لأجل شيء أردنا إيجاده أن نقول لأجله كن فيكون.
وعلق بعض المفسرين على قول الزجاج بأنه غير واضح، وأنت كما تراه فإنه واضح، والقول بأن اللام سببية أوضح من تكلف تعليل إطلاق الشيء على المعدوم.
ومثله اللام الواردة في قوله تعالى (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا) (الكهف: ٢٣) فاللام في كلمة (لشيء) لام سببية، أي: لأجل شيء.
- وقرئ (فيكون) أيضا بالنصب عطفا على (نقول).
- والعطف بالفاء في قوله تعالى (فيكون) يدل على سرعة الخلق إذا أراده الله سبحانه وتعالى.
- جاء نص الآية بـ (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) مسوقا لبيان أن خلق الله سبحانه للأشياء لا يزيد على (كن) ولذا أتى ذكر الإرادة (إذا أردناه) من باب الاحتراس، وهو ما يعرفه عامة المثقفين بالجملة المعترضة، وإن كان بين الاحتراس والاعتراض فرق، ولكن ذكرت هذا من باب التقريب إلى الأفهام، بينما جاءت النصوص الأخرى بذكر شرط الإرادة أولا؛ لأنها جاءت في سياق بيان الحقائق وليس في سياق الرد المباشر على منكري قدرة الله على الخلق.
فلقد جاء قوله تعالى (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) ردا مباشرا على قسم الكفار بأن الله لا يبعث الذين يموتون (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت).
وكذلك قوله تعالى (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) (يس: ٨٢) ذكرت فيه الإرادة على سبيل الاحتراس (إذا أراد)؛ لأن الآية مسوقة لبيان أن خلق الله للأشياء لا يزيد على (كن)؛ لأن الآية رد على الكفار حينما أنكروا البعث (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) (يس: ٧٨)
بينما تأمل معي الآيات التي ذكر فيها شرط الإرادة أولا وليس على سبيل الاحتراس؛ لأن المقصود من سياق الآيات تقرير الحقائق لا الرد المباشر.
(ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم (١١٥) وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون (١١٦) بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (١١٧)) (البقرة)
فسياق الآيات - كما ترى - ليس ردا على إنكار قدرة الله على الخلق.
(قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) (آل عمران: ٤٧)
الآية بيان لمريم وليس ردا على إنكارها قدرة الله على الخلق؛ لأنها مؤمنة قانتة، قد تحتاج للبيان، والتبيين لها لا يعني إنكارها.
(ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) (مريم: ٣٥)
الآية بيان بأن الله لا يحتاج لأحد ولا لولد لأنه قادر على أن يخلق ما يشاء، وليست ردا على منكري قدرة الله على الخلق.
(هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون (٦٧) هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (٦٨)) (غافر)
الآيات ليست في سياق الرد على منكري قدرة الله على الخلق، ولكنها في سياق بيان قدرة الله على الخلق.
والفرق بين أسلوب ذكر شرط الإرادة على سبيل الاحتراس، وأسلوب تصدير الكلام بذكره، أن ذكره على سبيل الاحتراس يدل على أنه لم يكن المقصود في الدرجة الأولى، بل المقصود في الدرجة الأولى بيان سهولة خلق الله للأشياء، وأن الأمر كله لا يتعدى (كن).
وإن كنت لا أريد أن استطرد، ولكني استطردت رغما عني؛ لأنني لو لم أستطرد، لكان بيان ذكر شرط الإرادة على سبيل الاحتراس في الآية غامضا لا يفهمه إلا قلة من الناس؛ ولذا آثرت الاستطراد رجاء التسهيل، سائلا الله أن أكون قد وفقت إلى ذلك!
(والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) (٤١)
المفردات:
- هاجر: انتقل من مكان إلى مكان.
- لنبوئنهم: لنسكننهم، وبوأه منزلا هيأه ومكن له فيه.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة حال الكفار، تبشر هذه الآية المؤمنين المهاجرين بما أعده الله لهم من الجزاء الكبير في الدنيا، ومن الجزاء الأكبر في الآخرة.
المعنى التفصيلي:
- (والذين هاجروا) هم قوم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يندرج في المعنى كل من هاجر في الله؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
- وجاء التعبير بـ (هاجروا) وليس "هجروا"؛ لأن صيغة (هاجروا) تدل على المفاعلة، ولتقريب المعنى، فإن صيغة المفاعلة تدل على أن الفعل من طرفين، فالكفار هم من هجر المؤمنين في مكة، وذلك بظلمهم وأذاهم للمؤمنين، مما اضطر المؤمنين إلى الهجرة، فكانت مهاجرة من طرفين، وهذا هو الفرق بين (هاجروا) و"هجروا".
ومثله الفرق بين "صبر" و"صابر" في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا) (آل عمران: ٢٠٠) فالصبر معلوم المعنى، ولكن المصابرة هي الصبر أمام صابر آخر، فهو صبر من جهتين، ولذا فالمصابرة أشق من الصبر.
- (هاجروا في الله) أي: لأجل الله؛ لأن معنى "في" هنا التعليل، كقول النبي -صلى الله عليه وسلم: دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض. (صحيح البخاري ج٣/ص١٢٠٥/باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم)
- أسند الفعل (ظلموا) إلى المجهول، علما أن الظالمين هم كفار قريش، ولكن أسند للمجهول؛ لأن المهم في هذا السياق هو الإخبار عن وقوع الظلم على المؤمنين، وليس تعيين من أوقعه؛ وليندرج تحت النص كل من ظلم في الله، سواء على يد قريش أو على يد غيرهم على مر العصور والدهور.
- الظلم الذي يوقعه الكفار على المؤمنين لا ينحصر في الإيذاء البدني، بل يلجأ الكفار إلى الإيذاء النفسي للمؤمنين، باتباع أسلوب السخرية والاستهزاء، وما زال الكفار يدأبون على ظلم المؤمنين وعلى قتلهم وسجنهم ونفيهم وحصارهم وتشويه سمعتهم، بل ويوظف الكفار صفات الفضل والطهارة التي يمتاز بها المؤمنون ضدهم، ألا ترى أن قوم لوط اتخذوا من طهارة نبيهم سببا لطرده (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) (الأعراف: ٨٢)
بل ويحاول الكفار في كل زمن أن يبتكروا من الطرق ما لم يكن مستعملا عند من سبقهم، وما مليارات الدولارات التي ينفقها الكفار في هذا الزمن إلا في سبيل ظلم الذين آمنوا.
- (لنبوئنهم) اللام للقسم، والقسم مؤكد، وكل هذا توكيد على التبوئة الحسنة للمؤمنين في الدنيا.
- في قوله تعالى (لنبوئنهم) التفات من الغيبة إلى المتكلم.
وتأمل معي سياق الآية بارك الله فيك
(والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون)
وهذا الالتفات لتأكيد وعد المؤمنين بخيري الدنيا والآخرة ولتعظيم أمره.
- ولما كانت الهجرة بترك الأوطان والسكن، جاء أجر المهاجرين بتهيئة السكن لهم (والذين هاجروا في الله... لنبوئنهم)، وهذا ما يسمى في المحسنات اللفظية بالطباق.
- (حسنة) صفة لمصدر محذوف، أي: لنبوئنهم تبوئة حسنة، والتبوئة الحسنة تلك التبوئة التي لا شر فيها، بل فيها الخير زيادة على خلوها من الشر.
ولكن ما المقصود بالتبوئة الحسنة؟
التبوئة الحسنة، هي الإسكان الحسن، بما في ذلك الرزق والأمان وغير ذلك من الأمور التي يصبح السكن بها حسنا.
- قيل: إن هذا الإسكان الحسن هو مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ولا ينكر أن المدينة كانت سكنا طيبا للنبي - ﷺ - والصحابة رضوان الله عليهم، ولكن الآية مكية، أي كانت قبل الهجرة، وتتحدث عن مهاجرين خرجوا من مكة مهاجرين بدينهم قبل هجرة المدينة، وهم مهاجرو الحبشة؛ فقد كان لهم في الحبشة مسكن آمن طيب.
ولا بد من التنبيه على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أي أن الإسكان الحسن جزاء كل المهاجرين بدينهم، على مر العصور، سواء في الحبشة أو المدينة أو غيرهما من أرض الله.
- قدم الجار والمجرور (في الدنيا) في قوله تعالى (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) لإبراز أن جزاء هؤلاء المهاجرين المستضعفين، ليس في الآخرة فقط، بل لهم جزاء الخير في هذه الدنيا، والتي يظن الناظر إليهم أنهم فقدوا حظهم في الدنيا؛ لفقدهم أسباب السعادة، من مفارقة الأوطان والأهل والخلان، والتجارة والأملاك.
- (ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) جاء الأجر مؤكدا بلام التأكيد (لأجر)، ووصف الأجر بالأكبر؛ ليدل على أن أجر المؤمنين في الدنيا كبير، ولو وصف أجر الآخرة في هذا السياق بالكبير، لدل على أن أجر المؤمنين في الدنيا قليل.
- (لو كانوا يعلمون) قيل: المقصود هم المؤمنون، أي لو كان المؤمنون يعلمون أجرهم علم مشاهدة وعيان، لازدادوا في الخير، أو لما حزنوا على ترك أوطانهم أو نحو ذلك.
وقيل: المقصود هم الكفار، أي لو كان يعلم الكفار أجر المؤمنين في الدنيا والآخرة لاتبعوا الحق.
والظاهر أن المقصود بـ (يعلمون) هو العلم النظري لا البصري، وظاهر السياق لا يناسبه إعادة الضمير إلى المؤمنين، ولا يناسبه تقدير العلم بعلم المشاهدة، لماذا؟ لأن المعنى على تقدير أن الضمير في (يعلمون) يعود على المؤمنين هو:
"إن الله سيجزي الطائعين المهاجرين الذين تركوا أهلهم وديارهم وأموالهم، سيجزيهم في الدنيا جزاء عظيما وفي الآخرة جزاء أعظم؛ لأنهم هاجروا في الله من بعدما أصابهم الظلم، ولم ينقادوا لهذا الظلم ويتبعوا الكفر، ولو علم المهاجرون أجرهم علم مشاهدة لازدادوا في الخير أكثر مما فعلوا، أو لما حزنوا على ما أصابهم".
وكما ترى معي فإن المقام مقام مدح للمؤمنين المهاجرين، ولا يناسبه ذكر الإشارة إلى أنهم قصروا في الطاعة، أو حزنوا على أوطانهم، لأن هذا لا يناسب مقام المدح.
بل (لو كانوا يعلمون) جملة معترضة تجيب عن سبب عداء الكفار للإيمان رغم الأجر العظيم عليه، فيصبح معنى هذه الآية والتي بعدها في ضوء هذه الجملة المعترضة:
(والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) فيصير المعنى: إن الله سيجزي المهاجرين الأجر الكبير في الدنيا والأجر الأكبر في الآخرة وهؤلاء هم الصابرون المتوكلون على الله ولو كان يعلم الكفار أجر المؤمنين في الدنيا والآخرة لاتبعوا الحق.
(الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) (٤٢)
المفردات:
- صبروا: تحملوا الشدائد.
- يتوكلون: يعتمدون.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة الأجر العظيم للمهاجرين في الله سبحانه، تبين هذه الآية صفة هؤلاء المهاجرين، فهم صابرون على العذاب والأذى، لم ينقادوا لما يطلبه الكفار، بل تركوا أوطانهم ومالهم وأهلهم، وما ذلك إلا لصبرهم ولتوكلهم على الله بأنه لن يضيعهم.
المعنى التفصيلي:
- (الذين صبروا) صفة للمهاجرين، ودلالة الاسم الموصول في سياق المدح هو علو الشأن.
- (الذين صبروا) جاءت في مقابل (من بعد ما ظلموا)؛ لأنهم ظلموا فما كان منهم إلا أن صبروا.
- (وعلى ربهم يتوكلون) جاءت في مقابل (والذين هاجروا في الله)؛ لأن ترك الأوطان والأعمال والأموال والعشيرة بحاجة إلى التوكل؛ لأن المهاجر يخاف الضياع والفقر والعوز، ولولا التوكل لأحجم المسلمون عن الهجرة.
- قدم الجار والمجرور (على ربهم) في قوله تعالى (وعلى ربهم يتوكلون) لقصر التوكل على الله، فهم لا يتوكلون إلا على الله سبحانه وتعالى.
- وجاء التعبير بـ (ربهم)؛ لأن الرب هو الراعي والخالق والرازق فناسب الأمر سياق التوكل.
- واعلم - بارك الله فيك - أنه لا إيمان بلا توكل، قال تعالى (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) (المائدة: ٢٣).
واعلم - بارك الله فيك - أن التوكل على الله سبحانه وتعالى مؤثر في أحداث هذه الحياة، وليس كما يظن بعض الناس أن التوكل على الله يجلب الراحة النفسية للمتوكل فقط، بل زيادة على الراحة النفسية، فإن التوكل عمل قلبي له أثر في أحداث الحياة؛ قال تعالى (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا) (الطلاق: ٣).
فالله حسب المتوكل، أي كافيه؛ كافيه لأن الله بالغ أمره، يفعل ما يريد، وليس في الوجود من شيء يريده الله ولا يكون، بل أمره نافذ واقع.
- قد يقول قائل: لماذا جاء الفعل (صبروا) ماضيا، بينما الفعل (يتوكلون) مضارعا؟
جاء الفعل (صبروا) ماضيا من باب البشارة للمؤمنين، كأن العذاب والشدة أمر مر ومضى، وأن المستقبل القادم هو مستقبل مشرق آمن.
وجاء الفعل (يتوكلون) مضارعا؛ لأن التوكل في حياة المسلم أمر متجدد في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة، فلا يعمل المسلم عملا مهما دق أو عظم إلا متوكلا على الله سبحانه وتعالى.
- ولكن لماذا قدم (صبروا) على (يتوكلون)؟
قدم (صبروا) على (يتوكلون)؛ لأن تقديم الفعل الماضي على المضارع أنسب في السياق، فلو قلنا " الذين على ربهم يتوكلون وصبروا " لفقد النص جمال سياقه.
وأيضا فإن الصبر أعظم من التوكل المجرد، لأن تحمل الشدائد والمشاق لأجل الله لا يكون إلا باطمئنان القلب بعون الله، وهذا هو التوكل، فالصبر يحتوي على التوكل زيادة على ما فيه من تحمل الشدائد.
ولعظم الصبر قدم، لأن من الأنسب في سياق المدح أن يذكر الأمر الأعظم أولا، ألا ترى أننا إذا أردنا أن نمدح أحدا ذكرنا أعظم أموره أولا، وفي بعض الأوقات يكون الأمر الأعظم ماضيا، فنعرض عن ذكر الحاضر، ونعرج على الماضي لأنه أعظم، فتراهم يقولون في مدح أحدهم: فلان هو الرئيس السابق لكذا وكذا، ويشغل حاليا منصب كذا.
- ولا بد أن نعلم أن التوكل لا يصلح دون الأخذ بالأسباب؛ لأن النبي ﷺ كان خير من توكل على الله - سبحانه وتعالى - ولكنه لما هاجر أخذ بالأسباب، وكان في غزواته يأخذ بالأسباب، فهو من أمر الرماة أن يبقوا على الجبل في أحد، وهو من أمر بحفر الخندق، وهو من كان يخفي خبر وجهة غزوته، وهو من حاصر بني قريظة، فهو أخذ بالأسباب، ولكن مع اعتماد على الله سبحانه وتعالى، لأن الاعتماد على الله هو الأمر المؤثر بشرط أخذ ما تقدر عليه من الأسباب.
- قد يقول قائل: إذا كان الأخذ بالأسباب لازما فما فائدة التوكل؟
وللجواب عن هذا لا بد أن نعلم أننا عاجزون من دون الله سبحانه، وأن نعلم أن الأسباب لا تحقق لنا ما نريد، بل ما يحقق لنا ما نريد هو توفيق الله لهذا الأخذ بالأسباب، وكذلك قد يأخذ المتوكل بالأسباب التي لا تكفي لحدوث أمر ما، فيهيئ الله له أسبابا لم تكن في الحسبان.
ولا بد أن نعلم أن الأسباب أمر ظاهر مطلوب، ولكن الأمر النافذ الفاعل هو أمر الله، فكم ممن تعالج من مرض وما شفي، وكم ممن أنشأ تجارة وهو آخذ بالأسباب وما ربح، فلا بد من التوكل.
وإن قال قائل: توكلت على الله فلم أستفد. فعليه اتهام نفسه بأن توكله لم يكن صادقا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا) (الطلاق: ٣)
ولا بد أن نعلم - أيضا - أن أمورا قضي أمرها ولن تتغير، ولو دعونا الله أو توكلنا عليه، ومن هذا ما قضاه الله سبحانه من الأعمار، فلو أن مريضا قد قضى الله موته بهذا المرض، فإن دعاءنا لن يغير أمرا لا يريد الله تغييره، ولكننا ندعو الله ونتوكل عليه من باب العبادة.
وكذلك قد ندعو بما يخالف سنة الله في البشر، ونتوكل عليه ليحقق لنا ما يخالف هذه السنة، فليس لنا بعد هذا أن نقول إنه لم يستجب لنا.
وأضرب مثلا على ذلك، إذ خاضت جيوش العرب معارك تحت راية غير راية الإسلام، بل إن قيادات هذه الجيوش معادية للإسلام، بل إن هذه الجيوش لا تدري عن الإسلام إلا اسمه، ورغم هذا البعد عن الدين فإن سلاحهم ضعيف وتدريبهم قليل، ونبغي بعد هذا أن ينصر الله هؤلاء رغم أن سنة الله في النصر هي (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) (محمد: ٧) أي من لم ينصر دين الله فإن الله لا ينصره، ولذا سلم الله هؤلاء المعادين لدينه للأسباب المادية، فكانوا أقل قوة فهزموا.
- وقال قوم: إن ترك الأسباب من كمال التوكل، واستدلوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون (صحيح البخاري ج٥/ص٢٣٧٥) وفي رواية (صحيح البخاري ج٥/ص٢٣٩٦): لا يكتوون.
وقالوا: إن الذين يدخلون الجنة بلا حساب هم أهل التوكل الكامل، وهم من تركوا العلاج.
ولبيان معنى الحديث لا بد أن نعرف أن العلاج بالكي مكروه فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي (صحيح البخاري ج٥/ص٢١٥١).
ولذا فإن من كمال التوكل ترك العلاج بما هو مكروه، ولو لم يكن حراما؛ لأن ترك المكروه هو الأكمل في التوكل وغيره.
وأما التطير وهو التشاؤم، فهو من الأمور المحرمة في دين الله، ولذا فإن المتوكلين على الله لا يتشاءمون.
وأما قوله: (لا يسترقون) فلا بد أن نفهمه في ضوء سياق الحديث، حيث لا بد لأول الحديث أن يوافق آخره، وآخره أن يوافق أوله، فآخره (وعلى ربهم يتوكلون)، فكيف ينافي التوكل الرقية الشرعية، فإنه لا معارضة بينهما، ولا بد أن نعلم أن الرقية تنقسم إلى نوعين:
رقية شرعية، ورقية محرمة، فعن عوف بن مالك الأشجعي قال كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا يا رسول الله: كيف ترى في ذلك؟
فقال: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك. (صحيح مسلم ج٤/ص١٧٢٧).
فإذا لم تناف الرقية الشرعية التوكل، فإن الرقية المقصودة في الحديث هي الرقية التي تنافي التوكل وهي الرقية المحرمة.
ولذا فليس في الحديث دليل على أن التوكل يكون بترك الأسباب.
(وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (٤٣)
المفردات:
- الذكر: المقصود به هنا: التوراة والإنجيل.
المعنى الإجمالي:
تأتي هذه الآية في سياق رد مزاعم الكفار الباطلة، كما هو شأن هذه السورة المباركة، فترد هذه الآية على إنكار الكفار رسالة محمد - ﷺ - لأنه بشر، والرسل - في زعم الكفار- لا يكونون من البشر، قال تعالى (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم) (يونس: ٢).
فبينت الآية أن كل الرسل الذين أرسلهم الله سبحانه هم من البشر، وأرشدت الآية الكفار أن يسألوا علماء أهل الكتاب إن كانوا لا يعلمون؛ ليعلموا أن كل رسل الله هم من البشر.
المعنى التفصيلي:
- جاء التعبير بأسلوب القصر (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا) وذلك لإبراز قوة الرد على الكفار؛ لنسف مزاعمهم، فلو قيل: "إن الله لم يرسل رسولا من البشر"، فرددنا بقولنا: " أرسل الله الرسل رجالا "، لما كان بقوة القصر حين نقول: "ما أرسل الله الرسل إلا رجالا".
- لاحظ - بارك الله فيك - الالتفات من الغيبة إلى المتكلم (وعلى ربهم يتوكلون (٤٢) وما أرسلنا) وذلك لعلو شأن إرسال الرسل.
- (من قبلك) الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، وجاء التعبير بأسلوب الخطاب (من قبلك) لا الغيبة " من قبل محمد" تأنيسا للنبي - ﷺ - ورفعا لقدره.
- (إلا رجالا) يعني بشرا، وفي هذا رد على الكفار الذين استنكروا أن يكون الرسول بشرا (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) (الفرقان: ٧).
- جعل الله الرسول إلى البشر بشرا لا ملكا؛ حتى يكون الرسول قدوة لأتباعه، فلو كان نبينا - عليه الصلاة والسلام - ملكا؛ لقال الناس: لا نستطيع أن نفعل مثله؛ لأنه ملك ونحن بشر، قال تعالى (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (٩٤) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (٩٥)) (الإسراء).
- يستفاد من قوله تعالى (إلا رجالا) بأن الله سبحانه لم يبعث من النساء رسولا؛ وذلك لأن الأحوال التي يكابدها الرسول من الدعوة والهجرة وخطاب الناس وتحمل الأذى، لا تتناسب وحال النساء.
- (نوحي إليهم) حتى لا يظن ظان أن الرسل رجال مثلنا، بل لا بد من العلم أن لهم ميزة ليست لنا، وهي أن الله سبحانه يوحي إليهم بالرسالات.
- (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) كان الخطاب بداية للنبي ﷺ (من قبلك)، ثم اتجه الخطاب إلى الكفار (فاسألوا)؛ لأن إقامة الحجة على الكفار مقصد من مقاصد الآية.
- (أهل الذكر) هم أهل علم الدين، والذكر هو ما أنزله الله سبحانه على رسله من الهداية.
- (أهل الذكر) هنا هم علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ووجه الكفار إلى سؤالهم؛ لأنهم أهل علم بأحوال الرسالات، وهم على علم بأن الرسل كانوا بشرا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
- وكما وجه الله سبحانه وتعالى الكفار لسؤال علماء أهل الكتاب عن الذي يجهلون، فنحن المسلمين أولى بنا أن نسأل علماءنا عما نجهل.
- (إن كنتم لا تعلمون) أي الحق والصواب، وجواب الشرط دل عليه السياق، أي إن كنتم لا تعلمون فاسألوا.
- جاء التعبير في الشرط بحرف (إن) إشارة إلى أنهم يعلمون الحق ولكن يكابرون ويعاندون، لأن (إن) تدل على ندرة وجود الأمر.
(بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) (٤٤)
المفردات:
- البينات: جمع بينة، وهي: الدلالة الواضحة، عقلية كانت أو محسوسة.
- الزبر: جمع زبور، وهو الكتاب، وهو فعول بمعنى مفعول، والزبر: الكتابة.
- الذكر: المقصود به هنا القرآن.
- لتبين: لتوضح.
المعنى الإجمالي:
هذه الآية تكملة للآية السابقة؛ فإن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله بالبينات والكتب، وأنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليبين للناس ما نزل إليهم من الهداية والأحكام، ولعل الناس يتفكرون بما أنزل الله إليهم ليهتدوا.
المعنى التفصيلي:
- (بالبينات والزبر)
قيل: متعلق بمحذوف تقديره، رجالا متلبسين بالبينات، أي مصاحبين لها، والباء للمصاحبة.
وقيل: متعلق بمحذوف، وهو سؤال مقدر؛ كأنه قيل: بم أرسلوا؟ فقيل: أرسلوا بالبينات والزبر.
والأصل عدم التقدير، ولا يلجأ إلى التقدير مع استقامة المعنى بالظاهر.
وقيل: متعلق بـ (أرسلنا) في الآية السابقة، على تقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا، أو: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا بالبينات والزبر.
وهذا القول محل خلاف عند النحويين، ولا متسع لبسطه هنا.
وقيل: متعلقة بـ (تعلمون): أي: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر.
والصحيح أن الفعل "علم" يتعدى بنفسه، أي نقول: يعلمون البينات، وليس بالبينات.
ويتعدى الفعل "علم" بـ "الباء" إذا ضمن الفعل علم معنى شعر وأحس، ولا وجه لهذا التضمين هنا.
والذي أراه - والله أعلم - أنه متعلق بـ (نوحي)، أي: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم بالبينات والزبر، وجملة (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) جملة معترضة.
- البينات: جمع بينة، وهي: الدلالة الواضحة، عقلية كانت أو محسوسة، ويندرج تحتها المعجزات وكل الدلائل الواضحة على صدق الرسالة.
- جاء التعبير (وأنزلنا إليك الذكر) ولم يأت بـ:" وأنزلنا الذكر إليك"؛ اعتناء بالنبي - ﷺ - وإظهارا لشرفه، وتأنيسا له.
- سمي القرآن ذكرا؛ لأنه تذكرة للغافلين، وذكرى للذاكرين.
- (لتبين للناس) اللام في (لتبين) للتعليل، أي: أنزل الله القرآن على سيدنا محمد - ﷺ - حتى يبينه للناس.
- رسالة الإسلام عالمية، مخاطب بها أهل مكة ابتداء، ومخاطب بها كل البشر على مر العصور، ولذا جاء التعبير (للناس).
- (ما نزل إليهم) ليس فقط من القرآن بل كل ما شرع الله لعباده وأخبرهم به، وإنزال القرآن سبب في بيان كل الدين؛ لأنه أساس الدين وعماد التشريع.
- لو قلنا في غير التنزيل: "أنزل الله إلى محمد الذكر ليبين للناس ما نزل"، ووقفنا عند هذا لاتضح الكلام، ولكن ذكر الجار والمجرور (إليهم) في الآية؛ للدلالة على عناية الله بالناس.
- (ولعلهم يتفكرون) جاء حرف العطف "و" لأن تفكر الناس بدين الله - سبحانه وتعالى - مقصد مستقل.
فالنبي - ﷺ - مكلف بتبيين دين الله للناس، وهذا هو المقصد الأول لإنزال الذكر - كما في الآية - والمقصد الثاني لإنزال الذكر هو تفكر الناس بهذا المنزل.
- التفكر لأجل الله عبادة، فإذا تفكر المسلم بكتاب الله المسطور، وبعجائب الكون المنظور؛ ليصل إلى حقيقة الإيمان، وسكينة اليقين، حتى يرتقي في درجات العبودية، كتب هذا التفكر في زمرة العبادات؛ لأنه مقصد مستقل من مقاصد إنزال الذكر على محمد صلى الله عليه وسلم.
(أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون) (٤٥)
المفردات:
- المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة.
- يخسف: من الخسف، وخسف المكان تغييبه في الأرض.
المعنى الإجمالي:
ردت الآيتان السابقتان ما زعمه الكفار من أن الرسول لا يكون من البشر، وتهدد هذه الآية المشركين بعذاب الله في الدنيا لما هم فيه من كفر وتكذيب لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
المعنى التفصيلي:
- (أفأمن) الاستفهام هو استفهام تعجبي لأجل الإنكار على الكفار والاستخفاف بهم وبعقولهم، إذ كيف يأمنون عقاب الله وعذابه، وقد علموا ما فعل الله بالذين من قبلهم ممن يمرون على مساكنهم المهدمة من العذاب، كأهل الحجر - وهم قوم صالح عليه السلام - وقرى قوم لوط وغيرهم؟
-الفاء في (أفأمن) فاء العطف، والهمزة للاستفهام، والتقدير: أجهلوا عقاب الله للأمم السابقة، فأمنوا عذابه.
وهذا يدل على أن مكرهم بدين الله - رغم ما علموا من عذاب الله للأمم السابقة - هو مكر عناد وجحود وكبر.
- (الذين مكروا السيئات) هم أهل قريش ابتداء ثم من سار على دربهم واقتدى بنهجهم؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
- (مكروا السيئات) صفة لمصدر محذوف تقديره: مكروا المكرات السيئات، وإنما حذف المصدر " المكرات" ليدل حذفه على أنهم ما مكروا مجرد مكر سيء، بل مكروا السوء ذاته.
- (أن يخسف الله بهم الأرض) وخسف المكان تغييبه في الأرض، أي أن الأرض تنشق وتبتلع ما عليها، وخسوف القمر ضمن هذا المعنى، لأن ضوءه يغيب، فكأن القمر ابتلع ضوءه.
وممن عذبه الله بالخسف وقال فيه (فخسفنا به وبداره الأرض) (القصص: ٨١) قارون عليه من الله ما يستحق.
وذكر الجار والمجرور (بهم) قبل المفعول به (الأرض) زيادة في تهديد الكفار؛ لأن القصد من الخسف هم لا الأرض، وكذا في قوله تعالى (فخسفنا به وبداره الأرض) (القصص: ٨١) فقدم ذكر الجار والمجرور (به وبداره) قبل المفعول به (الأرض)؛ لأن القصد من الخسف إهلاك قارون وماله، وقدم الجار والمجرور (به) على (وبداره) لأن المقصد الرئيسي هو إهلاك قارون وماله تبع له.
- (أو يأتيهم العذاب) أي كل أصناف العذاب كالمرض والفقر والهم والغم والألم، ولذا فإن العذاب قد يستمر زمنا، بينما الخسف لا يستمر، ولذا ذكر الخسف مستقلا، ثم عطف عليه العذاب.
- والتنصيص على نوع من أنواع العذاب - وهو الخسف - وذكره في البداية، يدل على شدته.
- (من حيث لا يشعرون) أي يجهلون من أين يأتيهم، وكيف يأتيهم، وقد يأتيهم من مأمنهم، وأفزع العذاب والضر ما يأتي من حيث لا يحتسب الإنسان، أما إذا كان من حيث يحتسب فإنه يهيئ نفسه لاستقبال العذاب، ألا ترى أن الناس يستقبلون أنباء القتل في الحروب استقبالا لو كان في السلم لكان أعظم.
(أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين) (٤٦)
المفردات:
- تقلبهم: حركتهم وتصرفهم في معيشتهم الدنيا.
- معجزين: فائتين من عذاب الله، ومعجز: اسم فاعل من أعجز، وأعجز غيره جعله عاجزا.
المعنى الإجمالي:
وتتابع هذه الآية سلسلة تهديد الكفار، حيث تنكر عليهم أن يأمنوا أن يأخذهم الله بالعذاب وهم يعملون وينتجون في كمال يقظتهم وانتباههم واجتماعهم.
ورغم كل هذه اليقظة والحركة والقوة والاجتماع، فإن الكفار لن يفلتوا من عذاب الله سبحانه وتعالى.
المعنى التفصيلي:
- (يأخذهم) أي بالعذاب، وجاء التعبير عن الإهلاك بالأخذ؛ ليدل على أن هذا الإهلاك شامل لهم، ومتمكن منهم، فلن يفلت منهم أحد.
نقول - ولله المثل الأعلى -: أخذت الشيء إذ حزته ولم يفلت منه شيء، وأخذ الكفار بالعذاب معناه: إحاطة العذاب بهم وتمكنه منهم، وعدم إفلاتهم منه.
وانظر في قوله تعالى كيف عبر به عن الإهلاك بالأخذ: (فأخذهم أخذة رابية) (الحاقة: ١٠) (أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) (الأنعام: ٤٤).
وانظر في قوله صلى الله عليه وسلم:
(إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) (هود: ١٠٢) (صحيح البخاري ج٤/ص١٧٢٦)
فانظر كيف فسر النبي ﷺ الأخذ بشدة العذاب وتمكنه من الكفار، وعدم إفلاتهم منه.
- (في تقلبهم) التقلب هو الانصراف والحركة؛ ولذا سمي القلب قلبا لكثرة تقلبه، أي حركته.
والمقصود بالتقلب في هذه الآية هو: حركة الكفار في الدنيا من تجارة وسفر وعمل وغير ذلك.
وتخصيص التقلب بالذكر؛ لأنه مظهر من مظاهر القوة والانتباه.
- (فما هم بمعجزين) فهم برغم هذا التقلب والانتباه والقوة، فلن يعجزوا الله، بل سيحيط بهم العذاب.
والجملة مأكدة بالباء الواقعة في خبر "ما" المشبهة بـ "ليس"، أي: لم يأت النص "معجزين" بل (بمعجزين).
(أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم) (٤٧)
المفردات:
- تخوف: خوف، أو تنقص (وللتوضيح انظر المعنى التفصيلي)
المعنى الإجمالي:
وتكمل الآية سياق تهديد الكفار بالعذاب، وتهددهم بنوع جديد من العذاب، وهو العذاب مع الرعب.
ولكن الله سبحانه وتعالى لم يوقع العذاب الشامل بكفار قريش ومن عاصرهم؛ لأنه رؤوف رحيم.
المعنى التفصيلي:
- (يأخذهم) تقدم الكلام في الآية السابقة على دلالة هذا التعبير القرآني.
- (على تخوف) التعبير بحرف الجر (على) يدل على تمكن عذاب الله من الكفار، فإذا وقع بهم فإنهم لن يفلتوا منه، بل هو محيط بهم أيما إحاطة!
- (تخوف) له معنيان:
المعنى الأول من الخوف، أي: يصيب الكفار الرعب قبل إيقاع العذاب بهم عن طريق إهلاك قوم قبلهم، أو عن طريق مشاهدتهم للصواعق والزلازل قبل وقوع العذاب، وهذا التخوف فيه عذاب وزيادة؛ لأن فيه زيادة رعب وخوف.
والمعنى الثاني: وهو التنقص، أي: أن يأخذهم العذاب بشكل تدريجي، بأن يصيبهم المرض المهلك، فيموتوا بشكل تدريجي، أو يصيبهم القحط فيهلكوا بشكل تدريجي، وهذا الهلاك التدريجي فيه العذاب وزيادة، لأنه فيه زيادة رعب وخوف.
والمعنيان واردان في تفسير كلمة (تخوف).
- ولكن لماذا لم يوقع الله على من كفر بالنبي - ﷺ - من قريش ومن عاصرهم، لماذا لم يوقع الله سبحانه عليهم العذاب الشامل على اختلاف أنواعه المذكورة في هذه الآيات؟
والجواب عن هذا بقوله تعالى (فإن ربكم لرءوف رحيم)؛ أي؛ لأن الله رؤوف رحيم لم يوقع العذاب الشامل بكفار هذه الأمة.
- (فإن ربكم لرءوف رحيم) وفي هذا الآية تأكيد بـ (إن) وباللام (لرؤوف) وفي هذا دلالة على عظيم هذه النعمة، فلو تصورنا أن الله سبحانه وتعالى آخذ الناس بظلمهم وكفرهم، لعلمنا عظم فضل الله سبحانه!
- جاء التعبير بـ (فإن ربكم) بدل " إن الله " أو ما في معناه؛ لأن من معاني الرب المدبر لأمر عباده والراعي لشؤونهم، وفي إمهال الكفار وتأخير إيقاع العذاب بهم منتهى التدبير لمصلحتهم. فسبحان ربنا ما أرأفه وأرحمه!
- قال تعالى: (فإن ربكم لرءوف رحيم) فما الفرق بين الرأفة والرحمة؟
الرأفة أرق من الرحمة، فقد يكون الأمر المكروه للمصلحة رحمة، كأن تقطع يد المريض لعلاجه، ويسمى هذا رحمة لا رأفة.
ولكن الرأفة لا تكون في المكروه ولو كان مصلحة، قال تعالى (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) (النور: ٢) فجلد الزاني فيه مصلحة، ولكن الرأفة تمنع من جلده رغم المصلحة، فنهانا الله عن ترك الجلد لأجل الرأفة، لأن هذا الجلد - ولو كان شديدا - فيه مصلحة.
- ولكن لماذا قدم ذكر الرأفة على الرحمة في الآية (لرءوف رحيم)؟
قدم ذكر الرأفة على الرحمة؛ لأن الرأفة تكون في دفع المكروه، والرحمة تكون في إيصال الخير، فقدمت الرأفة على الرحمة؛ لأن السلامة أولا ثم الغنيمة.
(أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون) (٤٨)
المفردات:
- يتفيأ: يرجع.
- ظلال: جمع ظل.
- والشمائل: جمع شمال، والمقصود به الجهة التي تقابل اليمين.
- داخرون: خاضعون.
المعنى الإجمالي:
بعد تهديد الكفار بالعذاب، تنكر هذه الآية على الكفار تعاميهم عن قدرة الله سبحانه، فهو الذي خلق لكل شيء ظلا يرجع من جهة إلى جهة، وكل هذه المخلوقات وظلالها منقادة وفق أمر الله سبحانه وتعالى.
المعنى التفصيلي:
- (أولم) الهمزة للاستفهام، ولكنه استفهام إنكاري، أي: كيف يرون هذا ولا يتعظون، ولا يعتبرون.
- (يروا) المقصود بالرؤية هنا هي الرؤية البصرية، أي إن الكفار رأوا هذه القدرة الإلهية بعيون رؤوسهم، وعقلوا حقيقة ما رأوا، ولكنهم لم يتعظوا، ومن هنا يأتي الإنكار عليهم، فهم رأوا ولكن كأنهم لم يروا.
- (من شيء) أي من أي شيء كان ولو تافها، و (من) هذه تسمى "من الاستغراقية" وهي من حروف التوكيد، تأكيدا على أن كل شيء خاضع لله سبحانه وتعالى.
- (يتفيأ) أي يرجع، من "فاء" أي: رجع، فإن الشمس إذا طلعت كان الظل في جهة المغرب، ثم يبدأ ينتقل حتى يكون في جهة المشرق آخر النهار، فيكون هنا معنى (يتفيأ) هو: يرجع الظل من جانب إلى جانب.
- الضمير في (ظلاله) يعود إلى (ما خلق الله من شيء)، وجمع "الظل" هنا؛ لأن الظلال متعددة بتعدد المخلوقات، لأن (ما خلق الله) جمع من جهة المعنى، وأفرد الضمير في (ظلاله)؛ لأن (ما خلق الله) مفرد من جهة اللفظ.
- (عن اليمين والشمائل) أي: عن جانبي الأشياء.
ولكن لماذا قدم ذكر اليمين على الشمال؟
يحتمل أن التقديم لليمين إنما هو لشرفه، وقد استقرأت الآيات القرآنية التي ذكرت فيها جهة اليمين مع الشمال، فوجدت أن تقديم ذكر اليمين على الشمال كان في كل الآيات، ولولا الإطالة لسردت الآيات، ولكن في هذه الإشارة غنية عن الإطالة.
ولكن يحتمل أنه لشيء آخر؛ لأن الكلام عن ظاهرة كونية خلقها الله، فيحتمل أن يكون تقديم اليمين فيها مرتبط بشيء كوني، والله أعلم.
ولماذا أفرد اليمين وجمع الشمال؟
للجواب عن هذا السؤال قرأت ما كتبه السابقون في هذا، وفكرت فيه مليا، ولكنني لم أجد الجواب الشافي الذي تطمئن إليه نفسي، ولذا فالله أعلم في الأولى والآخرة.
- (سجدا لله) أي الظلال ساجدة لله سبحانه وتعالى، وسجودها هو سجود تسخير وانقياد.
وقيل: إن (سجدا) حال من الضمير في (ظلاله)، وهذا ضعيف؛ لأن الجمهور - كما ذكر أبو حيان - لا يجيزون مجيء الحال من المضاف إليه، وهذا مثل: جاءني غلام هند ضاحكة، بل الصحيح: جاءني غلام هند ضاحكا، فجاء الحال من المضاف لا المضاف إليه.
والصحيح أن (سجدا) حال من الظلال لا الضمير، والمراد بسجودها هو خضوعها لله، وسيرها وفق مشيئته سبحانه وتعالى.
- ما فائدة ذكر سجود الظلال لله سبحانه في هذا السياق مع أن خضوعها لله في حركتها ظاهر للعيان؟
الفائدة هي التعريض بالكفار الذين لا يسجدون لله، والإخبار بأن هذه الظلال خير منهم، فهي تعبد الله سبحانه، وهم لا يعبدون.
- (وهم داخرون) أي خاضعون، والجملة حال من الضمير (ظلاله)، لأن الضمير في معنى الجمع، وجاء التعبير عنهم بجمع العقلاء؛ لأن العقلاء داخلون ضمن المعنى، وهم الجنس المقصود في الخطاب فغلبوا لأجل ذلك.
(ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون) (٤٩)
المفردات:
- يسجد: يتذلل ويعبد.
- دابة: كل ماش على الأرض.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة خضوع المخلوقات التي تتطلع عليها الشمس على هذه الأرض، وسجود ظلالها لله سبحانه وتعالى، تبين هذه الآية أن المخلوقات التي تسجد لله ليست هذه المخلوقات الأرضية المذكورة فقط، بل كل ما في السموات والأرض، بما في ذلك الدواب والملائكة.
المعنى التفصيلي:
- (ولله يسجد) قدم الجار والمجرور لقصر السجود على الله وحده، أي يسجدون لله وحده بلا شريك معه، وهذا فيه تعريض بالمشركين الذين يشركون مع الله سبحانه وتعالى، وأن المخلوقات الساجدة لله في السموات والأرض هي خير من المشركين، فهم دون كل هذه الأشياء.
- (يسجد) أصل السجود الانحناء والتذلل، وهو للإنسان والحيوان والنبات والجمادات.
والسجود نوعان: سجود تسخير وسجود اختيار.
فسجود التسخير، وهو سجود كل ما خلقه الله، وهذا نحو قوله تعالى (والنجم والشجر يسجدان) (الرحمن: ٦)
وسجود اختيار نحو سجود المسلمين لله - سبحانه وتعالى - باختيارهم وإرادتهم.
والمقصود بالسجود في هذه الآية (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون) هو سجود اختيار وسجود تسخير؛ لأن البشر يدخلون ضمن معنى "دابة"، ولذا فمنهم من يسجد لله اختيارا، وسيأتي في تفسير هذه الآية بيان أن البشر داخلون ضمن معنى "دابة".
- لماذا جاء التعبير بـ (ما) التي تستخدم لغير العاقل في قوله تعالى (ما في السموات وما في الأرض)؟
جاء التعبير بـ (ما)؛ لأنها تستخدم للعاقل أيضا، كما في قوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) (النساء: ٣)، وكما في قوله تعالى (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) (يوسف: ٥٣)
وتكون (ما) للعاقل، إذا اشترك العاقل وغير العاقل في حكم واحد، كما في هذه الآية (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض) فقد اشترك العاقل وغير العاقل في حكم السجود لله.
- وتقدم ذكر السموات على الأرض لأن السموات أعظم من الأرض، وما في السموات أكثر مما في الأرض، فقدم ذكر السموات وما فيهن، من باب التدرج من الأعلى للأدنى.
- (من دابة) أي كل دابة في الأرض فإنها تسجد لله، و (من) هذه هي الاستغراقية، وهي من أحرف التوكيد.
- وجاء التعبير بالمفرد (دابة) مع أن المراد الجمع؛ ليكون أدل على أن كل فرد من الدواب مقصود بالحكم.
- (من دابة) جاء في المعاجم اللغوية أن كل ما مشى على الأرض دابة، وارجع إلى " دبب" في (تاج العروس من جواهر القاموس) لمرتضى الزبيدي؛ لترى أن الدابة تطلق على العقلاء أيضا، ولكن في السياق القرآني قد يقصد بالدابة كل ما دب على الأرض ومن ضمنه الإنسان، وهذا كقوله تعالى (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا) (فاطر: ٤٥)، وقد يقصد كل ما دب على الأرض دون الإنسان، كقوله تعالى (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) (الأنعام: ٣٨) فالدابة هنا غير الإنسان بقرينة (إلا أمم أمثالكم).
- قدم ذكر (من دابة) على (والملائكة) حتى لا يقع الفصل بين ذكر "الأرض" وذكر "الدابة" لاتصالهما في المعنى، أي ليكون السياق (وما في الأرض من دابة).
وأيضا لأن ذكر "الملائكة" بعد ذكر (من دابة) مناسب للسياق؛ لأن الكلام الذي بعد ذكر الملائكة جاء متصلا بموضوع الملائكة (والملائكة وهم لا يستكبرون (٤٩) يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون (٥٠))
فجاء ذكر (من دابة) متصلا بما قبله، وذكر (والملائكة) متصلا بما بعده، ولو عكسنا الأمر في - غير السياق القرآني - بأن ذكرنا (والملائكة) أولا و (من دابة) ثانيا لانقطع السياق، وذهب جمال النص، بل لأصبح نصا ركيكا.
- (وهم لا يستكبرون) وخص ذكر عدم الاستكبار بالملائكة تعريضا بالكفار؛ لأن الملائكة العلويين النورانيين أصحاب القدرات الخارقة بالنسبة لكم أيها المشركون لا يستكبرون عن عبادة الله، وأنتم البشر الضعفاء تستكبرون!
(يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) (٥٠)
المعنى الإجمالي:
هذه الآية تكملة لمعنى الآية السابقة، والتي انتهت بقوله تعالى (والملائكة وهم لا يستكبرون).
وتبين هذه الآية أن الملائكة الكرام يخافون ربهم، وأنهم لا يعصون الله سبحانه وتعالى في شيء، بل يقومون بكل ما يأمرهم الله به.
المعنى التفصيلي:
- لم تعطف هذه الآية على الآية السابقة رغم الارتباط الوثيق بينهما، وذلك لأن بينهما كما يقوم علماء البلاغة: كمال اتصال، حيث إن هذه الآية بيان لما كان في الآية السابقة، وتأمل معي - حفظك الله - الارتباط الوثيق بين الآيتين (والملائكة وهم لا يستكبرون (٤٩) يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون).
ولأجل كمال الاتصال بين الآيتين لم يقع العطف، وهذا ما يسمى في علم البلاغة بـ "الفصل".
- (يخافون ربهم) لماذا تخاف الملائكة وهم لا يعصون الله ما أمرهم؟
علينا أن نعرف أن الخوف أنواع، فهناك نوع من الخوف منشأه فعل الخطأ، وهناك نوع من الخوف منشأه توقع عمل الخطأ، وهناك نوع من الخوف منشأه الإجلال والتعظيم، وخوف الملائكة إنما هو خوف إجلال وتعظيم لله سبحانه وتعالى.
والخوف من الله سبحانه وتعالى نعمة عظيمة، ألا ترى أن الخوف من الله عد نعمة على الرجلين اللذين كانا من قوم موسى عليه السلام (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) (المائدة: ٢٣)
ومعنى (يخافون أنعم الله عليهما) أي أنعم الله عليهما بالخوف منه سبحانه وتعالى؛ لأن الخوف من الله - لنا البشر - صمام أمان وضابط خير يحجزنا عن الوقوع في المعاصي؛ ولذا فعلى المسلم أن يحرص على استشعار مراقبة ربه؛ لأن هذا الاستشعار يورث الخوف منه سبحانه، ومن الحكمة أن نعلم أن من خاف فاز.
- جاء التعبير بـ (ربهم) مع أن السياق سياق إخبار عن خوف الملائكة من الله سبحانه؛ وذلك لأن من معاني الرب الراعي لخلقه، ولذا فهم يخافون ربهم الذي خلقهم وأنعم عليهم ورعاهم.
- (من فوقهم) هل هي فوقية مكانة أم فوقية علو بذاته سبحانه عن خلقه؟
فوقية المكانة له سبحانه لا ينازع فيها أحد، وهي ظاهرة معلومة حتى لكفار مكة ومن كان مثلهم، ولكن يستنبط من الآية أيضا أن الله له الفوقية العليا، أي العلو المطلق فوق الخلق، بلا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل.
قال تعالى: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور (١٦) أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير (١٧)) (الملك)
وقال تعالى (ثم استوى على العرش) (الأعراف: ٥٤) والاستواء إذا اقترن بحرف "على " دل على العلو، وذلك كقوله تعالى (لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) (الزخرف: ١٣)
(وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين) (القصص: ٣٨)
فمن أين علم فرعون أن الله سبحانه وتعالى في السماء؟!
إنه علم ذلك من إخبار موسى عليه السلام بذلك؛ والدليل على هذا قوله تعالى حاكيا قول فرعون (وإني لأظنه من الكاذبين) أي فيما أخبر أن الله في السماء، وتأمل السياق جيدا، فسيتضح لك الأمر أكثر.
وكانت زينب تفخر على أزواج النبي ﷺ تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات (البخاري: ٦٨٧٠)
وقال النبي ﷺ للجارية: أين الله؟
قالت: في السماء.
قال: من أنا؟
قالت: أنت رسول الله.
قال: أعتقها فإنها مؤمنة (مسلم: ٨٣٦)
والأدلة على هذا كثيرة، بل قد صنف العلماء في هذا كتبا مستقلة علاوة على بحث المسألة في كتب العقيدة، أذكر من هذه الكتب:
- إثبات صفة العلو لابن قدامة المقدسي.
- العلو للعلي الغفار للذهبي
والكتب القديمة والحديثة من الكثرة بمكان، ويكفي ما ذكرت على سبيل المثال.
- حرف (من) في قوله تعالى (من فوقهم) يدل على فوقية الذات، وهذه الفوقية فوقية ليس كمثلها شيء، وهذا كقوله تعالى (فخر عليهم السقف من فوقهم) (النحل: ٢٦)، وكقوله تعالى (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين) (الأعراف: ٤١)، وكقوله تعالى (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون) (العنكبوت: ٥٥) وغير ذلك من الآيات.
- (ويفعلون ما يؤمرون) أي ما يأمرهم الله به، ولم يأت النص كما في قوله تعالى (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (التحريم: ٦)؛ لأن قوله تعالى (يخافون ربهم من فوقهم) مقابل لقوله تعالى (لا يعصون الله ما أمرهم)؛ لأن خوف الملائكة من الله خوف عصمة، فهم لا يخطئون، وكذلك فإنه يلزم من فعلهم ما يؤمرون به أنهم لا يعصون الله.
ولكن ما هو الأبلغ في الطاعة (لا يعصون الله ما أمرهم) أم (ويفعلون ما يؤمرون)؟
الأبلغ في الطاعة هو (ويفعلون ما يؤمرون)؛ لأن العبد قد يؤمر بعمل معين، وقد لا يفعله ولا يكون من عاصيا؛ لأن تركه للفعل قد يكون بعذر، ولكن الملائكة يفعلون كل ما يأمرهم الله به ولا يقعون في العجز، وهذا أبلغ في الطاعة.
- وعند نهاية الآية هناك سجود تلاوة؛ ليكون المؤمن في زمرة الساجدين لله وحده.
(وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون) (٥١)
المفردات:
- إله: معبود.
- ارهبون: خافوني، والرهب هو: الخوف مع الاضطراب والحذر.
المعنى الإجمالي:
وتتابع الآية رد عقائد الكفار الباطلة، وتقرير قواعد التوحيد الخالص الصافي.
فقد نهانا الله - سبحانه وتعالى - عن أن نشرك به شيئا؛ لأنه لا إله في الوجود إلا هو، وعلى الناس أن يخافوا الله وحده؛ لأنه الواحد الأحد.
المعنى التفصيلي:
- وجاء النص (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين) ولم يأت النهي وحده "لا تتخذوا إلهين اثنين " دون جملة (وقال الله)؛ لأن جملة (وقال الله) تأكيد على عظيم خطر الشرك، وأن الله سبحانه وتعالى هو صاحب الشأن، وصاحب الحق في التوحيد، فانظروا عظيم العقاب عند مخالفته سبحانه وتعالى.
- أكدت صيغة التثنية (إلهين) بلفظ (اثنين)؛ لأن النهي ليس لتعدد الآلهة فقط، وإنما هو نهي يقصد به صورة معينة من الشرك، وهو شرك التثنية الذي اعتنقه المجوس وانتقل إلى بعض العرب.
- (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين) وإذا نهى الله عن اتخاذ إلهين اثنين، فإنما ينهى عن اتخاذ ما زاد على ذلك بالأولى.
- (إنما هو إله واحد) لا اثنين، وهذا الإله الواحد هو الله سبحانه وتعالى لا شريك، وجاء الإخبار عن توحيد الله مؤكدا بـ (إنما)؛ لأن المشركين منكرين لتوحيد الله، فأكد لهم التوحيد ليقرع آذانهم، لعله يقرع قلوبهم.
- (إنما هو إله واحد) قصر فيه الموصوف على الصفة، والموصوف هو: الله سبحانه وتعالى، والصفة هي توحد الإلهية، أي: الله مختص بصفة توحد الإلهية.
ولو جاء القصر في غير التنزيل "إنما الإله الواحد هو الله " لكان ردا على من ظن أن الإله الواحد هو غير الله، أي "إنما الإله الواحد هو الله " لا غيره، ولكن جاء النص بـ (إنما هو إله واحد)؛ لأنه رد على من ظن أنه اثنين، أي (إنما هو إله واحد) لا اثنين.
- وقد حصر الله سبحانه وتعالى الرهبة منه على نفسه بقوله: (فإياي فارهبون)، أي: ارهبوني وحدي ولا ترهبوا معي أحدا، وفهم هذا الحصر من تقديم المفعول به (إياي).
- وهناك آيات أخرى أمرت بخشية الله وحده، أذكر منها:
قال تعالى (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله) (التوبة: ١٨).
وقوله تعالى (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله) (الأحزاب: ٣٩)
فعلى المسلم أن لا يخشى إلا الله؛ لأن الضر والنفع بيد الله وحده لا بيد أحد غيره.
- وفي الآية التفات من الغيبة (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد) إلى المتكلم (فإياي)، ولم يأت النص "فإياه فارهبوا"؛ لأن الالتفات من الغيبة إلى التكلم يدل على كمال الاعتناء بالأمر، كيف لا، والأمر هو أمر توحيد الله؟! وكأن الله يقول لهم: أنا ذلك الإله الواحد فارهبوني.
- والفاء في قوله تعالى (فإياي) هي فاء العطف، وتحمل معنى السببية، أي ارهبوا الله؛ لأنكم علمتم أن الله هو الإله الواحد.
- واقترن حرف الفاء بـ (فارهبون)؛ لأن المفعول به، وهو الضمير المنفصل "إياي" معمول لفعل مقدر بعده، أي: إياي ارهبوا، أي ارهبوني وحدي، وعلى هذا يكون التقدير: إياي ارهبوا فارهبوني، أي: أمرتكم أن ترهبوني وحدي فارهبوني كما أمرتكم.
- وقع تأكيد النهي عن الشرك في الآية بعدة أنواع من التأكيد:
١ - عن طريق التصريح بلفظ الجلالة (وقال الله).
٢ - وعن طريق النهي الصريح (لا تتخذوا إلهين اثنين).
٣ - وبـ "إنما" التي تفيد التأكيد والقصر (إنما هو إله واحد).
٤ - والقصر عن طريق تقديم المفعول به (فإياي فارهبون).
(وله ما في السموات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون) (٥٢)
المفردات:
- الدين: أصل الدين الطاعة والجزاء.
- واصبا: واجبا دائما.
المعنى الإجمالي:
بينت الآية السابقة أن الله واحد، وأن الواجب على الخلق أن يخافوا الله سبحانه وتعالى وحده ولا يشركوا به شيئا.
وتبين هذه الآية الأمور الموجبة لتوحيد الله بالعبادة، وتوحيده بالرهبة، وذلك لأن الله سبحانه يملك السموات والأرض وما فيهن، وأن الطاعة والانقياد والجزاء على الدوام له وحده، ولذا فعلى الخلق أن يوحدوا الله ولا يشركوا به شيئا.
المعنى التفصيلي:
- (وله ما في السموات والأرض) تقدم ذكر الجار والمجرور (له) ليدل على اختصاص ملك السموات والأرض به سبحانه وتعالى، وأنه لا ينازعه في ملكها منازع.
- ولكن ما علاقة ذكر ملك الله للسموات والأرض بالنهي عن الشرك؟
العلاقة هي أن الله سبحانه يملك الوجود، ولذا فله الحق بتوحيده بالعبادة والرهبة، وأن الذين يشركون بالله إنما يشركون معه من لا يملك حتى ذاته؛ لأنه ضمن ملك الله سبحانه، فهل يعقل أن يشرك مع الله من يملكه!!
- (وله ما في السموات والأرض) لماذا جاء التعبير بـ (ما) التي تستخدم لغير العاقل في قوله تعالى (ما في السموات والأرض)؟
جاء التعبير بـ (ما)؛ لأنها تستخدم للعاقل أيضا، كما في قوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) (النساء: ٣)، وكما في قوله تعالى (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) (يوسف: ٥٣)
ومن الحالات التي تكون فيها (ما) للعاقل، إذا اشترك العاقل وغير العاقل في حكم واحد، كما في قوله تعالى (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض) (النحل: ٤٩) فقد اشترك العاقل وغير العاقل في حكم السجود لله.
وفي هذه الآية يشترك العقلاء وغير العقلاء في حكم أنهم كلهم ملك لله وحده.
- وتقدم ذكر السموات على الأرض؛ لأن السموات أعظم من الأرض، وما في السموات أكثر مما في الأرض، فقدم ذكر السموات وما فيهن، من باب التدرج من الأعلى للأدنى.
- (وله الدين واصبا) قدم الجار والمجرور (له) ليدل التقديم على اختصاص الطاعة والجزاء بالله، وأن الطاعة والجزاء لا يكونان إلا لله وحده.
- ومعنى (الدين) الطاعة كقوله تعالى (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا) (النساء ١٢٥) أي: ومن أحسن طاعة.
ويأتي (الدين) بمعنى الجزاء، كقوله تعالى (مالك يوم الدين) (الفاتحة: ٤) أي: يوم الجزاء.
وقد استعير (الدين) للشريعة؛ لأن الشريعة طاعة وجزاء.
- (واصبا) دائما لازما لا يزول، ولذا يقال عن الصحراء التي لا تنتهي: صحراء واصبة، أي دائمة لا تنتهي، والوجع في البدن إن كان مؤقتا فإنه يسمى "ألما"، ولكنه إن دام واستمر فإنه يسمى "وصبا".
فلله وحده الدين الدائم، ولا يشاركه فيه أحد، فكيف يتخذ مع الله شريك؟!
- (أفغير الله تتقون) الهمزة للاستفهام، وهذا الاستفهام استفهام إنكاري، وذلك لأن الطاعة لا تكون إلا لله وحده، وأن الجزاء لا يكون إلا لله وحده، وأن السموات والأرض وما فيهن لله وحده، فكيف يعبد ويتقى أحد مع الله سبحانه وتعالى؟!
ومعنى (تتقون) أي تخافون؛ لأن الخوف منشأ التقوى.
- جاء التعبير بأسلوب الخطاب (تتقون) ولم يأت بأسلوب الغيبة "يتقون"؛ لأن التأثير والمواجهة في أسلوب الخطاب أوضح منها في أسلوب الغيبة، فجملة (أفغير الله تتقون) تهديد للكفار المشركين، فناسب أسلوب الخطاب سياق التهديد.
(وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون) (٥٣)
المفردات:
- مس: لمس.
- تجأرون: ترفعون أصواتكم بالاستغاثة.
المعنى الإجمالي:
وتتابع الآية بيان الأمور الموجبة لتوحيد الله سبحانه وتعالى؛ واربط الآية بسياق الآية السابقة لتعلم الرابط بين هذه الآية وما سبقها، يقول تعالى (أفغير الله تتقون (٥٢) وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون).
أي كيف تتقون غير الله وكل نعمة بكم هي من الله، ورفع البلاء بيد الله، فكيف تعبدون معه غيره؟!
المعنى التفصيلي:
- (وما بكم) يحتمل أن تكون الواو للحال، أي: فكيف تتقون غير الله وحالكم أنه ما بكم من نعمة إلا من الله وحده.
- و (ما) في قوله تعالى (وما بكم) شرطية، وفعل الشرط محذوف، ويكون التقدير "وما يكن بكم"، ويحتمل أن تكون (ما) اسما موصولا، والشرط أقرب؛ لأنه يفيد الجزم.
- والباء في (بكم) للملابسة، أي: كل ما يلابسكم ويصاحبكم من النعم.
- (من نعمة) أي: أي نعمة كانت ولو صغيرة جدا، وهذا مستفاد من (من) والتي تفيد التوكيد في هذا السياق، و (من) هذه تسمى في البلاغة بـ (من) الاستغراقية.
وإذا قلنا: إن (ما) شرطية فإن (نعمة) تدل على العموم؛ لأن النكرة في سياق الشرط عموم، وإذا قلنا: إن (ما) اسم موصول، فإن الاسم الموصول يدل على العموم أيضا، و (من نعمة) لبيان إبهام الاسم الموصول (ما).
- (فمن الله) الفاء واقعة في جواب الشرط، و (من) ابتدائية، أي أن هذه النعم وصلت إليكم من الله.
- (ثم إذا مسكم الضر) (ثم) ليست للتراخي الزمني بل للتراخي الرتبي، لأن بين الحالين بعد، فالحال الأولى هي حال إنزال النعم، والحال الثانية هي حال مس الضر، وما بينهما من البعد واضح.
- (إذا) في قوله تعالى (إذا مسكم الضر) شرطية، و (مسكم) بمعنى "لمسكم" والمس هو الإصابة اليسيرة، أي أن الإنسان لا يتحمل - رغم كل هذه النعم - أن يصيبه الضر ولو شيئا يسيرا.
- (الضر) هو الأسقام والأوجاع والقحط والزلازل والحاجة والفقر، وغير ذلك من الأمور التي يعلم نظيرها القاصي والداني.
- (فإليه تجأرون) الفاء واقعة في جواب (إذا)، و (تجأرون) ترفعون أصواتكم بالدعاء، والجؤار: الصراخ.
- قدم الجار والمجرور (إليه) في قوله تعالى (فإليه تجأرون)؛ للدلالة على اختصاص التوجه بالاستغاثة إلى الله وحده دون شركائهم.
والتوجه إلى الله عند الشدائد، فطرة في النفس الإنسانية التي خلقها الله سبحانه وتعالى، لأننا نعلم في قرارة أنفسنا أننا ضعفاء وأن الله هو القوي، ولأجل هذا فإننا نلتجئ إلى الله في الشدائد.
(ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون) (٥٤)
المعنى الإجمالي:
بينت الآية السابقة أن المضطرين لا يتجهون بالدعاء إلا إلى الله سبحانه وتعالى، وهم من شدة تعلقهم بالله يجأرون بالدعاء إليه، أي يرفعون أصواتهم، ولكن العجيب في الأمر أنه وبعد أن يكشف الله عنهم الضر، يشرك فريق منهم بالله.
المعنى التفصيلي:
- (ثم) في قوله تعالى (ثم إذا كشف الضر عنكم) للترتيب الرتبي، وليس للتراخي؛ لأن كشف الضر قد يكون فوريا دون تراخ، وجيء بـ (ثم)؛ لأن الفرق عظيم بين الجملة الأولى (ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون) والجملة المعطوفة (ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون)، والفرق العظيم يتضح بالمقارنة بين صورة من يجأر إلى الله بالدعاء ليكشف عنه الضر، وصورة من يشرك بالله بعد أن يكشف الله عنه الضر.
- (إذا كشف الضر عنكم) (إذا) هنا هي (إذا) الشرطية، وذكر الجار والمجرور (عنكم)، علما بأن السياق يدل على الجار والمجرور ولو لم يذكر؛ وذلك زيادة في بيان أن كشف الضر كان لأجلكم أنتم، ولم يكن كشفا عن أحد غيركم.
- (إذا فريق منكم) (إذا) هنا هي (إذا) الفجائية، والتي لها دلالة على عجيب رد فعل المنعم عليهم، حيث قابلوا الإنعام بالجحود.
- التعبير بـ (فريق) يدل على أن من الداعين لله من يشكر الله على نعمه.
- وذكر الجار والمجرور (منكم) في قوله تعالى (إذا فريق منكم)، رغم دلالة السياق عليه، زيادة في بيان بشاعة فعلتهم أن أشركوا بالمنعم عليهم بدل أن يشكروه.
- (بربهم يشركون) قدم الجار والمجرور (بربهم)؛ لإبراز بشاعة هذا الشرك، وأنه ليس أي شرك، بل هو شرك مع الله سبحانه وتعالى.
- وزيادة في بيان بشاعة هذا الشرك جاء التعبير بـ (بربهم) ولم يأت بـ" الله" أو غير ذلك من أسماء الله سبحانه وتعالى؛ لأن من معاني الرب الراعي لعباده، وانظر بشاعة أن يشرك العبد بمن خلقه ويرعاه ويرزقه.
- بل وأضيف الضمير "هم" إلى لفظ "الرب" زيادة في بيان أن هذه الرعاية من الله مختصة بهم؛ لأنه ربهم هم، فهو راعيهم هم، وخالقهم هم، ومحييهم هم، ورغم ذلك هم بذاتهم يشركون بمن نعمه عليهم، فسبحان الله ما أحلمه وأعظمه!
(ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون) (٥٥)
المفردات:
- آتيناهم: أعطيناهم.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة أن الكفار يشركون بالله بعد أن أنعم عليهم وكشف عنهم الضر، تهدد هذه الآية الكفار بسبب إشراكهم بالله، وبأنهم سوف يعلمون سوء عذابهم، وهذا العذاب سوف يأتيهم رغم تمتعهم في الدنيا، وعدم شعورهم بالعذاب القادم.
المعنى التفصيلي:
- أذكر بعض الآيات القريبة من معنى هذه الآية وما قبلها:
١ - (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون (٦٥) ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون) (٦٦)) (العنكبوت)
٢ - (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون (٣٣) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (٣٤)) (الروم)
- اللام في (ليكفروا) هي لام الأمر، وهذا الأمر للتهديد، أي اكفروا بما آتيناكم فإنكم ستجزون على هذا الكفر أشد الجزاء.
وقيل اللام هي لام العاقبة، أي لام النتيجة، أي عاقبة شركهم أنهم يجحدون نعمة الله عليهم، أي نتيجة هذا الإشراك هي كفران نعمة الله وجحودها.
والقول بأن اللام لام العاقبة بعيد؛ لأن الشرك بحد ذاته كفر بالنعمة، فكيف يكون كفر النعمة عاقبة للشرك.
- (بما آتيناهم) (ما) اسم موصول، يتضمن تعظيم النعمة، ويلزم عن تعظيم النعمة في هذا السياق تعظيم كفرانها، ولذا فالتعبير بالاسم الموصول - هنا - يدل على فظاعة جحود الكفار لنعمة ربهم.
- (آتيناهم) أي أعطيناهم من النعم والإكرام، ورفعنا عنهم الضر والبلاء.
- أسند الفعل (آتيناهم) إلى الله سبحانه وتعالى بضمير الجمع "نا"، الذي يدل على التعظيم، ولم يأت النص بـ " أوتوا" أو " آتيتهم" بل جاء مسندا إلى الله بصيغة التعظيم؛ لأن تعظيم الإعطاء يدل على تعظيم المعطى، فإذا كان الإعطاء عظيما، كان المعطى من النعم عظيما أيضا.
- (فتمتعوا) أي بهذه الدنيا، وهذه الصيغة هي صيغة أمر (فتمتعوا)، ولكن يقصد بها تهديد الكفار، بأن قيل: لهم تمتعوا في الدنيا كما تشاؤون فالعذاب قادم وسوف تعلمون.
- وقع في الآية التفات من الغيبة (ليكفروا بما آتيناهم) إلى الخطاب (فتمتعوا فسوف تعلمون)؛ زيادة في التهديد؛ لأن أسلوب الخطاب أبلغ في التهديد.
- (فسوف تعلمون) أي: سوء عاقبتكم، ولم يأت التعبير بـ "ستعملون"؛ لأن السين - كما يقول بعض النحويون - تدل على الوقوع في الزمن القريب، بينما " سوف" تدل على الوقوع في الزمن البعيد، وتدل الـ"السين" و"سوف" على التأكيد، إذا دخلتا على مضارع يدل على وعد بالخير، أو وعيد بالعذاب وأمثاله.
(ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون)... (٥٦)
المفردات:
- تفترون: تدعون الكذب.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة فظائع أعمال الكفار ومخازيهم، وآخرها دعاء الكفار ربهم في الشدة والإشراك به في الرخاء، تبين هذه الآية نوعا آخر من أنواع هذه الفظائع وهذه المخازي، وهو تقديم نعم الله قرابين للأصنام التي لا تنفع ولا تضر.
ويتوعد الله هؤلاء المشركين بالعذاب على ما يدعونه من الكذب بأن لله شريكا، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
المعنى التفصيلي:
- ومعنى هذه الآية قريب من معنى قوله تعالى (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون) (الأنعام: ١٣٦).
- وذكرت الآية أنهم يجعلون للشركاء نصيبا، ولم تذكر أنهم أيضا يجعلون لله نصيبا آخر، مع أن هذا هو الواقع؛ لأن المعنى المراد هو إنكار ما عليه الكفار من الشرك، وليس وصف الواقع لأجل المعرفة التاريخية فقط.
- وجاء التعبير بالمضارع (يجعلون) للدلالة على تجدد صورة الشرك هذه على مر العصور والدهور، وما زال الشرك في الأرض إلى يومنا هذا، وما زال المشركون يقدمون القرابين لأصنامهم، وما البوذيون وغيرهم من المشركين في الأرض من ملايين البشر إلا مثال على تجدد هذه الصورة من الشرك.
- (لما لا يعلمون) أي الأصنام، ومفعول (يعلمون) محذوف، ويفهم من الاسم الموصول "ما"، والتقدير: لما لا يعلمونه.
وجاء التعبير عن الأصنام بهذا التعبير (لما لا يعلمون)؛ تسخيفا لعقول الكفار بأنهم يعبدون ما لا يعلمون أن له حقا في العبادة، بل يفترون هذا الحق من عند أنفسهم، وهذا كقوله تعالى (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) (النجم: ٢٣) فهم يتبعون الظن الفاسد، ولا يتبعون العلم، ولذا يعبدون ما لا يعلمون حقيقته.
- (نصيبا) أي حظا، وأصل كلمة "نصيب" من الفعل "نصب"، ونصب الشيء جعله ناتئا، ولذا فإن "النصيب" حظ منصوب ظاهر معين.
وبيان هذا النصيب في قوله تعالى (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون) (الأنعام: ١٣٦).
- (مما رزقناهم) أي: "من ما رزقناهم"، و "من" هنا تبعيضية؛ لأنهم لا يجعلون كل ما رزقهم الله لشركائهم، بل يجعلون بعضه.
- وفي قوله تعالى (مما رزقناهم) بيان لعظيم كفران المشركين لنعم الله، فالله يرزقهم، وهم يقدمون هذا الرزق لما لا يرضى، وإنها لمفارقة كبيرة، وإنهم لجاحدون كافرون، يقابلون الإحسان بالكفران، فحسبهم جهنم وبئس المصير.
- جاء التعبير بإسناد الفعل "رزق" إلى الله على سبيل التعظيم (رزقناهم) وليس "رزقتهم"، وبأسلوب المتكلم (رزقناهم) وليس بأسلوب الغيبة "رزقهم الله"؛ لبيان أن هذا الرزق من العظيم المنعم المتفضل، ولكنهم لم يعرفوا له حقه؛ لسفاهة عقولهم، وقحة أخلاقهم.
- (تالله لتسألن عما كنتم تفترون) هذا تهديد للكفار، وجاء الالتفات من أسلوب المتكلم (رزقناهم) إلى أسلوب الخطاب (لتسألن عما كنتم تفترون)؛ لما مر غير مرة بأن أسلوب الخطاب أعظم في التهديد؛ لما يحمل في معناه من المواجهة وتقصير المسافة المشعرة - في مثل هذا المقام - بالخوف لمن كان له قلب.
- صدر التهديد بالقسم (تالله) من باب تعظيم التهديد وتشديد الوعيد، وجاء الفعل (لتسألن) مؤكدا أيضا من باب التشديد في التهديد والوعيد.
- (تفترون) أي تدعون الكذب، وهذا الادعاء متعمد، لأن أصل الافتراء "القطع"، فهم يفترون على الله الكذب، أي يقطعون به، وليس مجرد تكذيب في سياق التفكير والبحث عن الحق.
والافتراء يستعمل في التعبير عن الكذب، ولكنه ليس هو الكذب، بل استعمل فيه، وانظر إلى قوله تعالى (انظر كيف يفترون على الله الكذب) (النساء: ٥٠) (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) (المائدة: ١٠٣) وغير ذلك من الآيات.
ووجه الشاهد أن الافتراء استعمل في الكذب، ولكنه ليس الكذب؛ لأنهم يفترون الكذب، والافتراء في أصله هو القطع.
وافتراء الكفار الذي سيسألون عنه، هو قولهم: إن لله شركاء، ساء ما يقولون.
(ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) (٥٧)
المعنى الإجمالي:
عرضت الآيات السابقة أنواعا من جرائم الكفار ومخازيهم، وتعرض هذه الآية نوعا آخر من هذه الأنواع، وهو زعم الكفار أن لله بنات، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وزيادة على ذلك فإنهم يريدون لأنفسهم ما يشتهون من الأبناء الذكور؛ لأنهم لا يحبون البنات.
والله سبحانه وتعالى ليس له ولد لا من الإناث ولا من الذكور.
المعنى التفصيلي:
- (ويجعلون) الواو للعطف، والجملة معطوفة على قوله تعالى (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا).
ومعنى (يجعلون) هو النسبة بالقول، أي وينسبون البنات لله.
- (ويجعلون لله البنات) قدم الجار والمجرور (لله) زيادة في إنكار ما يزعمه الكفار، لأن بشاعة نسبة الذرية لله تكمن في مجرد النسبة له سبحانه، ولا تكمن في كونها بنات، لأن الله ليس له بنات كما ليس له أبناء.
فلو قلنا في غير التنزيل " ويجعلون البنات لله" لاتجه الإنكار إلى كون المنسوب إلى الله هو البنات، وأما عند تقديم الجار والمجرور (لله) كما في الآية (ويجعلون لله البنات) فإن الإنكار يتجه إلى مجرد نسبة الذرية لله بغض النظر عن كونها بنات أو أبناء، لأن الله منزه عن الذرية.
- وهذه البنات المزعومات هي الملائكة، قال تعالى (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما) (الإسراء: ٤٠).
- (سبحانه) جملة معترضة، جاءت مباشرة لتنزيه الله عن هذا الجعل الكفري، بأن جعلوا لله البنات سبحانه.
و" سبحان " مصدر نحو غفران، أي تنزيه الله عما لا يليق به من الصاحبة والشركاء وجميع النقائص، أي تبعيده عنها سبحانه وتعالى.
وأصل السبح هو: المر السريع، ومنه يستعار الابتعاد؛ لأن الابتعاد قد يكون نتيجة للمر السريع، لأن معنى تسبيح الله في المعاجم اللغوية، هو تنزيه الله، والتنزيه هو: التبعيد، نقول نزه نفسه عن السوء أي: أبعدها.
- (ولهم ما يشتهون) أي: ولكنهم يريدون لأنفسهم غير ما يريدونه لله، حيث يريدون لأنفسهم ما يشتهون من الأبناء الذكور، لأنهم يكرهون البنات، فجعلوا لله ما يكرهون ولهم ما يريدون، قال الله تعالى (ويجعلون لله ما يكرهون) (النحل: ٦٢).
وتأتي الآية التالية لتبين حال الكفار عندما يرزقهم الله بما لا يشتهون من البنات (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم) (٥٨)
- قدم الجار والمجرور وهو (لهم) في قوله تعالى (ولهم ما يشتهون) من باب التهكم بهم والاستخفاف بقدرهم، فهم غثاء لا قيمة لهم، يتصدرون لهذا المقام البغيض بأن جاهروا الله العداء، ونسبوا له ما يكرهون من البنات.
(وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم) (٥٨)
المفردات:
- كظيم: حابس للغيظ.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة ما زعمه الكفار من أن الله سبحانه وتعالى اصطفى الإناث وجعلهن بنات له، تبين هذه الآية والتي بعدها المفارقة العظيمة التي وقع فيها الكفار، وهي أنهم ينسبون البنات لله، وفي الوقت نفسه لا يرضون البنات لأنفسهم، فتصف هذه الآية حال الكفار عندما يخبرون بولادة أنثى لهم.
وهذه الحال هي أنه المبشر من الكفار بالأنثى يسود وجهه ويمتلئ غيظا.
المعنى التفصيلي:
- (وإذا) الواو حالية، أي حال هؤلاء الكفار الذين ينسبون لله البنات أنه إذا بشر أحدهم بالأنثى اسود وجهه وتشقق قلبه.
- وجاء التعبير في الآية (وإذا بشر أحدهم) - علما بأن المشركين لا يعتبرون الإخبار بولادة الأنثى تبشيرا - لأن هذا هو الأصل في ولادة الأنثى، فهذه الأنثى أنس لأهلها، تحبهم وترعاهم، وتخدمهم وتدعو لأبويها بالخير، ولكن العجيب أن هذا الخير الذي يستحق البشارة يصبح وجه صاحبه أسود، أتعرفون متى يسود الوجه؟ إنه لا يسود لأي انفعال أو غضب، بل يسود الوجه لنزول مصيبة تقصم الظهر، وتفسد العمر، ولكن يسود هذه الوجوه عند أهل الجاهلية بسبب التبشير بالأنثى.
وأما قوله تعالى (فبشرهم بعذاب أليم) (التوبة: ٣٤) فهذا من باب التهكم بالكفار، والاستهزاء بهم.
- بني الفعل (بشر) لما لم يسم فاعله؛ لأن تعيين الفاعل غير مهم، بل المهم هو بيان رد فعل المبشر على البشارة بالأنثى، وليس تعيين من يقوم بالتبشير.
- (أحدهم) أي أحد الكفار المخاطبين بالآيات ابتداء، وجاء التعبير بـ (أحدهم) ليدل على أن حال الكفار واحدة، لأن التبشير بالأنثى لأي أحد من الكفار بدون استثناء يوقعه في هذه الحال السيئة.
إذن، فالتعبير بـ (أحدهم) تنصيص على كل أفراد الكفار، للدلالة على عدم تخلف أحد منهم عن كره التبشير بالأنثى.
- (بالأنثى) أي بولادتها.
- الفعل (ظل) يفيد اتصاف الاسم بالخبر طوال النهار (ظل وجهه مسودا) أي يبقى الوجه مسودا طوال النهار.
ولو قلنا في غير التنزيل "بات وجهه مسودا" فإنه يفيد اتصاف الوجه بالاسوداد طوال البيات.
وقيل (ظل) بمعنى "صار" أي تحول وجهه من حال إلى حال.
وإذا كان معنى (ظل) اتصاف الاسم بالخبر طوال النهار، فهذا يدل على عظيم التأثر والحزن بولادة الأنثى لطول زمن التأثر.
وإذا كان معنى (ظل) هو: صار، فهذا يدل - أيضا - على عظيم الحزن الذي أورثه التبشير بالأنثى؛ لأن تحول الوجه من حال إلى حال لا يكون إلا بالتأثر العظيم.
والذي أراه أن تفسير (ظل) على أصلها، وهو طول مدة الحزن أبلغ من التفسير بـ "صار"؛ لأن التفسير بطول الزمن يتضمن تحول الوجه إلى الاسوداد، ولكن تحول الوجه إلى الاسوداد لا يتضمن طول زمن الاسوداد؛ لأن الوجه قد يتحول عن حالته ويرجع سريعا إلى ما كان عليه، فـ "ظل" هنا تتضمن "صار"، و"صار" لا تتضمن "ظل".
- (مسودا): ومن المعلوم أن الوجه يتعكر بالحزن والاكتئاب ولا يصبح لونه أسود، ولكن عبر عن الوجه بأنه مسود؛ لأن الحالة الحاصلة ليست حالة حزن عادية، بل هي مصيبة قاصمة للظهر، عظيمة أيما عظمة، وفي مثل المصائب العظيمة ترى الوجوه من شدة احتقان الدم فيها سوداء، فالكفار إذن، لم يكونوا يحزنون حزنا عاديا عندما تولد لهم الأنثى، بل كانوا يحزنون أعلى درجات الحزن.
- (وهو كظيم) حال من صاحب الوجه، أي أن حال صاحب الوجه ظاهرا مسود، وفي باطنه شدة عظيمة من حبس الغيظ.
وقيل (وهو كظيم) حال من الوجه، وهذا بعيد؛ لأن المناسب أن يوصف الوجه بالاسوداد، وأن توصف النفس بالكظم؛ لأن معنى "كظم الغيظ": حبسه وقد امتلأ غيظا؛ يقال: كظم السقاء: شده بعد ملئه مانعا لنفسه، وها وصف للنفس الإنسانية وليس للوجه.
- وجاء التعبير بالآية ب (كظيم) بعد بيان اسوداد الوجه؛ ليظهر لنا سبب هذا السواد، إنه بركان يغلي في القلب من الغضب.
- لقد كان أهل الجاهلية يغضبون غضبا عظيما إذا رزق أحدهم بأنثى، كانوا يغضبون على زوجاتهم وعلى حالهم وعلى نصيبهم وقدرهم، إنهم كانوا جهلاء في جاهلية، ظلمة لا يعطون كل ذي حق حقه.
ومن عجيب ما حصل في زمننا أن بعض المسلمين إذا بشر بالأنثى صار وجهه مسودا من الحزن، وقلبه كظيما من الغيظ، وانقلب حزنه وغيظه على زوجته وأولاده ومن حوله، فسبحان الله! ما أشبه الليلة بالبارحة!
(يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون) (٥٩)
المفردات:
- يتوارى: يختفي.
- هون: ذل.
- يدسه: يدفنه، والدس إدخال شيء في شيء.
المعنى الإجمالي:
تكمل هذه الآية مشهد المشرك الذي يبشر بالأنثى، إنه يخزى أمام قومه، ولذا فهو يختفي منهم، ويبدأ صراعه النفسي بين إبقاء ابنته حية، رغم الذل الذي سيصيبه أمام قومه، وبين أن يدفنها في التراب ليتخلص منها.
وهذا الذي تواطأ عليه المشركون، وجعلوه شرعة متبعه، هو سوء عظيم، وجهل وخيم.
المعنى التفصيلي:
- (يتوارى) يستتر ويختفي، يقال: واريت كذا إذا سترته.
- وبعد نزول هذه المصيبة على الجاهلي يتوارى من القوم، أي يختبئ حياء؛ بسبب سوء ما بشر به.
ولكن لماذا يستحيي من الأنثى؟ يستحيي لأن كل واحد يرى الأمر من جهته، فالفاسق الماجن يرى الأنثى مجونا، والطائع لله يرى الأنثى زوجة صالحة، أو أما حانية، أو أختا مشفقة، أو بنتا صالحة حانية مشفقة راعية.
- وجاء التعبير بالفعل المضارع (يتوارى) لاستحضار الصورة، كأنها صورة حاضرة في الذهن الآن، رجل يبشر بالأنثى وهو يحاول الاختفاء والتستر.
- (من القوم) إنها سطوة النظرة المجتمعية، التي تجعله يسير وفق الخطأ، وإذا وقع له ما لا يرضاه قومه، توارى منهم، وإن لم يستطع حاول أن يتوارى منهم.
- (من سوء ما بشر به) (من) سببية، أي أنه يتوارى بسبب ما بشر به من ولادة الأنثى.
- ولكن كيف يكون سوءا ويبشر به (من سوء ما بشر به)؟
سمي التبشير بالأنثى سوءا بالنسبة لما يشعر به المشركون، وسمي تبشيرا بناء على حقيقته، أي هو يختفي من سوء ما استشعره من البشارة.
فالبشارة قائمة على حقيقتها، والسوء أقامه المشركون في نفوسهم بسبب البشارة.
- (أيمسكه على هون أم يدسه في التراب) إنها حيرة حارقة، يحتار هذا الجاهلي في أن يمسك هذه البنت رغم الهون، وهو الذل، أم يدسها في التراب، أي يدفنها و يئدها، خياران أحلاهما مر، إما الذل، وإما القتل، أي قتل هذا؟ إنه قتل طفلة بريئة، وأي طفلة هذه؟ إنها طفلة القاتل.....
ما كان يفعله أهل الجاهلية هو الجهل بعينه، هو الظلم والكفر والطغيان والغباء، سمه ما شئت، أيقتل الأب ابنته الرضيعة؟! إن هذا لجهل عظيم (وإذا الموءودة سئلت (٨) بأي ذنب قتلت (٩)) (التكوير)
فجاء الإسلام ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليخبرنا أن الأنثى خلق الله، وقد جاءت بإرادة الله، لأن الله يفعل ما يشاء ويخلق ما يشاء.
- ولكن لماذا جاء التذكير في (أيمسكه) و (يدسه) مع أن المولود أنثى؟
جاء التذكير باعتبار لفظ (ما) في قوله تعالى (ما بشر به).
- (ألا ساء ما يحكمون) (ألا) حرف تنبيه يفيد التأكيد على سوء حكمهم وبشاعته، و (ما) مصدرية، أي: معنى (ما يحكمون) حكمهم.
- وأسند الفعل إلى الجماعة (يحكمون)؛ لأن هذا الظلم تواطأ عليه المشركون، واعتبروه حقا للآباء، (ألا ساء ما يحكمون).
- وجاء الإسلام لبين لنا أن هذه السموات وما فيهن، وهذه الأرض وما عليها وما فيها، كل هذا ملك لله يخلق ما يشاء، كيف شاء، في أي وقت شاء؛ لأنه صاحب الملك، وصاحب الأمر (يهب لمن يشاء إناثا) والتعبير بالهبة يدل على أننا نعطى هذه الذرية من الله عطاء، فهذا الماء المهين لا يصير إنسانا باجتهادنا ولا بعملنا، إنه خلق الله يهبه لنا، فمن يرفض هبة الرب سبحانه يغضب عليه، فنحن البشر لا نرضى أن ترد هباتنا، فكيف بالعظيم الكريم، فكيف بصاحب الملك والأمر سبحانه وتعالى رب العرش العظيم.
الله يهب لمن يشاء إناثا فقط، ويهب لمن يشاء ذكورا فقط، ويهب لمن يشاء إناثا وذكورا، ويجعل من يشاء من عباده عقيما لا ولد له، سبحانه ما أعلمه، سبحانه ما أحكمه.
(لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور (٤٩) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير (٥٠))... (الشورى)
فرفض هبة الله ذنب عظيم، فنحن أهل الإسلام وأهل الحق، كيف نعمل عمل أهل الجاهلية؟!
كيف تكره أيها الزوج أن يولد لك بنت، بل وتغضب على زوجتك، كأنها أتت به من تلقاء نفسها؟!
بل والله إني لأعرف منهم من بلغ مبلغا في علم الطب، وصار على معرفة عظيمة في أمور الولادة، ويعلم أن زوجته لا تختار جنس المولود، لكنه عندما رزق أنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، أهذا هو الالتزام بدين الله؟!!
وماذا تفعل هذه الزوجة المسكينة في كثير من الحالات عند ولادتها أنثى، وهي تعلم كم سيغضب زوجها؟! ماذا تفعل؟! إنها تبكي، أو يصيبها الحزن الشديد.
ولا تسل عن أهل الزوج في كثير من الحالات، يلقون عبارات اللوم على الزوجة كأنها من اختار الأنثى.
بل ومن عجيب الجهل في عصر بينه وبين الجاهلية قرون، أنهم يهنئون التي تلد أنثى أو يولد له أنثى بقولهم: عوض الله عليك!
يسألون الله أن يعوض له خسارته. علما بأن أحاديث النبي ﷺ بينت فضل تربية الأنثى، وأذكر من هذه الأحاديث:
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئا غير تمرة، فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي ﷺ علينا، فأخبرته، فقال: من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار. (البخاري: ١٣٢٩) واللفظ له (مسلم: ٤٧٦٣)
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو، وضم أصابعه. (مسلم: ٤٧٦٥)
(للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم) (٦٠)
المفردات:
- المثل: الصفة.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة أن الكفار ينسبون البنات لله، وفي نفس الوقت يكرهون أن يرزق أحدهم ببنت، وهذه مفارقة عظيمة أن ينسبوا لله ما يكرهون، فجاءت هذه الآية لتحقر الكفار على ما افتروا على ربهم سبحانه وتعالى، ولتنزه الله عن كل هذه النقائص، وأيضا لتهدد الكفار بالعذاب الأليم؛ لأن الله عزيز لا يفلت معاديه من عقاب، حكيم يعاقب العقاب المحكم الأليم.
المعنى التفصيلي:
- (للذين لا يؤمنون بالآخرة) جاء التعبير بالاسم الموصول (للذين) استحقارا للكفار؛ لأن التعبير بالاسم الموصول في سياق التعظيم زيادة في التعظيم، وفي سياق التحقير زيادة في التحقير.
- ولكن لماذا وصف الكفار بأنهم لا يؤمنون بالآخرة دون باقي أركان الإيمان، كالإيمان بالرسل والكتب والملائكة وغيرها؟
قد خص وصف الكفار بأنهم لا يؤمنون بالآخرة؛ لأن من لا يؤمن بالآخرة وثوابها وعقابها فإنه لا بد وأن يتعلق قلبه بالدنيا العاجلة، وهذا التعلق يجعله يرفض أي شيء يخالف هواه، فيتعامى عن الحق تعاميا، ويغفل عن الصواب استغفالا.
ولذا لا يرتجى ممن لا يؤمن باليوم الآخر الإقبال على الحق إلا بعد أن يهتدي إلى أن هنالك ثواب وعقاب، فينخلع التعلق بالعاجلة من قلبه مما يفسح المجال لقلبه أن يرى الدلائل والبراهين والآيات.
- (مثل السوء) أي: صفة السوء، والفرق بين السوء والسوء، أن السوء "بفتح السين" هو: مصدر، والسوء "بضم السين" هو: اسم، والفرق بينهما أن السوء بالفتح يضاف إليه المنعوت، نقول: رجل السوء، ظن السوء.
والسوء بالضم المكروه، نقول: ساءني سوءا، إذا لقيت منه المكروه.
فهما من ناحية الأصل مشتركان، ولكن الاختلاف في طريقة الاستعمال.
- فالكفار لهم الصفة الحقيرة الدنيئة (مثل السوء)؛ لأنهم يسيئون إلى خالقهم ورازقهم وراحمهم، يسيئون إلى من لا يستطيعون أن يحصوا نعمه عليهم، وهذه الإساءة ليست على سبيل الخطأ الذي أتى هكذا وتراجعوا عنه، بل هي إساءة عناد واعتقاد، هم لم ينسبوا لله ما يحبون من الأبناء الذكور، بل نسبوا إليه ما يكرهون من البنات، كل هذا إمعانا منهم في الكفر والتجرؤ على الله سبحانه وتعالى.
- لماذا جاء التعبير بـ (مثل) وليس "صفة"؟
جاء التعبير بـ (مثل)؛ لأن سوء الكفار من فظاعته وبشاعته أصبح رمزا للسوء، فأصبح سوؤهم جاريا مجرى المثل في انتقاله، وبارزا بروز المثل بين الناس لشدة وضوحه.
- جملة (ولله المثل الأعلى) معطوفة على جملة (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء)، وقدم ذكر تحقير المشركين (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء) على ذكر تنزيه الله سبحانه وتعالى (ولله المثل الأعلى)؛ لأن سياق الآيات السابقة واللاحقة يركز على ذكر مخازي الكفار، فناسب ذلك أن يركز على تحقيرهم بسبب التركيز على ذكر مخازيهم، وليس السياق سياق بيان عظيم نعم الله، وعظيم خلقه سبحانه وتعالى.
وانظر في سياق الآيات - حفظك الله - ليظهر لك ذلك جليا:
(ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون (٥٦) ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون (٥٧) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم (٥٨) يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون (٥٩) للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم (٦٠) ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (٦١) ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون (٦٢) تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم (٦٣))
- جاء تقديم الجار والمجرور (للذين) في قوله تعالى (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء) لأن مثل السوء هو للذين كفروا فقط، فهم الأسوأ، ولا أحد أسوأ منهم.
وجاء تقديم (لله) في قوله تعالى (ولله المثل الأعلى)؛ لأن الصفة العليا، التي ليس هنالك صفة أعلى منها لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى، فهو الخالق الرازق الرحمن الرحيم، المستغني عن الصاحبة والولد، والمستغني عن كل شيء، وما إلى غير ذلك من صفات كماله سبحانه وتعالى.
- (وهو العزيز الحكيم) العزيز هو: صاحب العزة والجبروت، فهو الذي قهر كل شيء، وانقاد له كل شيء.
والحكيم، هو صاحب الحكم والحكمة، فالحكم لله وحده، وهذا الحكم هو حكم حكمة وصواب وحق.
- ولكن لماذا قدم ذكر (العزيز) على ذكر (الحكيم)؟
قدم ذكر (العزيز) على ذكر (الحكيم)؛ وفق الترتيب العقلي؛ لأن من عز حكم، أي من كان له القدرة والقهر، كان له الحكم والأمر، فالحكم ناشئ عن سبب امتلاك القدرة.
- ولكن لماذا ختمت الآية بقوله تعالى (وهو العزيز الحكيم)؟
ختمت الآية بقوله تعالى (وهو العزيز الحكيم) تهديدا للكفار؛ بأن الله سبحانه وتعالى عزيز لا يفلت منه أحد، وعقابه لاحق بهم لا محالة؛ وحكيم سيحكم عليهم حكم الحق.
- لماذا اقترن ذكر هذين الاسمين لله سبحانه وتعالى؟
اقترن ذكر هذين الاسمين لله سبحانه وتعالى؛ للدلالة على أن لله القدرة، ولكنها قدرة حكيمة.
فكم من البشر من يمتلك القدرة والسطوة، ولكنه لا يمتلك الحكمة، فتذهب قدرته هباء منثورا، ولا يستطيع أن يحقق بها شيئا.
ولله المثل الأعلى، نرى الأسد يمتلك القدرة على افتراس البشر، ولكنه لا يمتلك الحكمة التي يمتلكها البشر، فتلقي به قوته إلى قفص حديقة الحيوان، لينظر إليه الأطفال الصغار وهم يضحكون، وهو يزأر في قفصه، ولكن ما فائدة القدرة دون الحكمة.
(ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (٦١)
المفردات:
- يؤاخذ: يعاقب.
- دابة: كل ما يمشي على الأرض.
- أجل: المدة المحددة للشيء.
- مسمى: معين.
المعنى الإجمالي:
بينت الآيات السابقة أن الكفار يشركون مع الله فيما أنعم عليهم، وأنهم يزعمون أن لله بناتا، وفي نفس الوقت يكرهون أن يرزقهم الله البنات.
وبعد هذا البيان بينت الآية السابقة أن الصفة السوآى إنما هي للكفار، والصفة العليا أنها لله تعالى، وهددت الآية السابقة الكفار بالعقاب الأليم.
وجاءت هذه الآية لتبين أن الله لو أراد أن يعاقب الكفار على شركهم لأهلك كل ما على الأرض، ولكن الله جعل لهلاكهم وقتا محددا، ولأجل هذا التحديد أخر الله عقاب الكفار، وهددت الآية الكفار بأنهم لن يأخروا عن الوقت المحدد لهم.
المعنى التفصيلي:
- (ولو) الواو للاستئناف، و (لو) حرف امتناع لامتناع، أي امتنع وقوع جواب الشرط لامتناع وقوع الشرط، فنقول: لو جئت لأكرمتك. أي: أنا لم أكرمك لأنك لم تجئ.
- (يؤاخذ) أصل الأخذ هو تحصيل الشيء، وقد يكون الأخذ بالقهر، وذلك كقوله تعالى (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى) (النازعات: ٢٥) وكقوله تعالى: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) (هود: ١٠٢).
وجاء التعبير بالمفاعلة (يؤاخذ)؛ لأن فيه تنبيه على المجازاة والمقابلة، فهم قد أخذوا نعم الله ولم يأدوا شكرها، ولذا فالله سيأخذهم بالعذاب الأليم.
- (بظلمهم) أي: بشركهم؛ لأن الأفعال التي يهدد الله سبحانه وتعالى لأجلها الكفار - في هذا السياق - هي أفعال شرك، والظلم في سياق التهديد بالاسئصال الشامل العام، لا يكون لأجل الظلم الذي هو دون الشرك، ولذا ظن الصحابة رضوان الله عليهم أن الظلم فقط هو التعدي على حقوق العباد، فأرشدهم النبي ﷺ إلى أن من الظلم ما هو شرك؛ لأن الشرك تعد على حقوق الله سبحانه وتعالى.
فعن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) (الأنعام: ٨٢) شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟
قال: ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه؟ (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) (لقمان: ١٣). رواه (البخاري: ٣١٧٥) واللفظ له (مسلم: ١٧٨)
وأي ظلم ذاك الذي هو أعظم من التعدي على حقوق خالق السموات والأرض، سبحانه ما أحلمه وأعظمه وأشده!
- المقصود بـ (الناس) في الآية هم الكفار، لأن هذا عموم يراد به الخصوص، والقرينة سياق الآيات أولا، فهي في الكفار، والقرينة الثانية: قوله تعالى (بظلمهم) أي بشركهم.
وفي القرآن من العموم الذي يراد به الخصوص كثير، أذكر آية لبيان هذه الأمر، قال تعالى (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (آل عمران: ١٧٣)
ووجه الشاهد أن "الناس" في قوله تعالى (قال لهم الناس) هم غير " الناس " في (إن الناس قد جمعوا لكم).
- (ما ترك عليها) أي الأرض (من دابة) أي لأهلك سبحانه وتعالى كل ما يعيش على هذه الأرض.
- وقد يسأل سائل لماذا يهلك الله الحيوانات وهي لم تظلم؟
وللجواب عن هذا السؤال لا بد من معرفة أن الهلاك يعم حتى الصالحين من بني البشر، فما بالك بالحيوانات!!
قالت زينب بنت جحش: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟
قال: نعم، إذا كثر الخبث. (البخاري: ٣٠٩٧) (مسلم: ٥١٢٨)
وانظر أيضا كيف يهلك الله القوم الذين يريدون أن يغزو الكعبة، بالرغم من وجود من لا شأن له في الأمر معهم:
قالت عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله ﷺ يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم قالت قلت يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم قال يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم (البخاري: ١٩٧٥)
- (من دابة) (من) هذه هي الاستغراقية، والتي تعني أن الهلاك سيعم كل دابة، لا ينجو منها دابة واحدة.
و (من) الاستغراقية من أحرف التأكيد، فلو قلنا في غير التنزيل " ما ترك عليها دابة " بدون (من)، لم يكن قولنا بقوة (من دابة)؛ لأنها تفيد التأكيد.
- المراد بـ "الدابة" - هنا - كل ما يمشي على الأرض ومن ضمنه الإنسان، وقد جاء في المعاجم اللغوية أن الدابة هي كل ما مشى على الأرض، وارجع إلى " دبب" في (تاج العروس من جواهر القاموس) لمرتضى الزبيدي؛ لترى أن الدابة تطلق على العقلاء أيضا، ولكن في السياق القرآني قد يقصد بالدابة كل ما دب على الأرض، ومن ضمنه الإنسان، وهذا كقوله تعالى (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا) (فاطر: ٤٥)، وقد يقصد كل ما دب على الأرض دون الإنسان، كقوله تعالى (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) (الأنعام: ٣٨) فالدابة هنا غير الإنسان بقرينة (إلا أمم أمثالكم).
- وجاء التعبير بالمفرد (دابة) مع أن المراد الجمع؛ ليكون أدل على أن كل فرد من الدواب مقصود بالحكم.
- (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) أي: هذا هو سبب عدم إيقاع عذاب الاستئصال بالكفار، وهو أن الله سبحانه وتعالى قضى لخلقه آجالا، سيلبغونها، وبعد ذلك يحاسبون على ما عملوا.
- (فإذا جاء أجلهم) أي المدة المحددة لانتهاء حياتهم (لا يستأخرون) عن الوقت المحدد لهم (ساعة) وهي جزء من الوقت مهما قل (ولا يستقدمون) على الوقت المحدد لهلاكهم كذاك أي جزء من الوقت مهما قل.
- معنى (يستأخرون) يتأخرون، و (يستقدمون) يتقدمون، والسين والتاء في صيغة الاستفعال تدل على الطلب، فهم لن يؤخروا ولو طلبوا التأخر طلبا، ولن يقدموا ولو طلبوا التقدم طلبا، فصيغة الاستفعال الدالة على الطلب تفيد التأكيد على قصد الفعل.
ونفي المؤكد (لا يستأخرون) (ولا يستقدمون) تأكيد للنفي، لأن الإثبات الموكد إذا نفي، دل على قوة النفي.
- قيل: إن المقصود بالأجل هو الإهلاك بالعذاب، وقيل: المقصود بالأجل هو الموت، ولكن الأجل هو الوقت المضروب لمفارقة الحياة بغض النظر عن الكيفية، ولكن هذا الأجل على جميع الأحوال ليس هو عذاب الاستئصال؛ لأن الآية نفت وقوع عذاب الاستئصال بسبب أن الله جعل مفارقة الكفار للحياة بسبب الأجل المضروب لهم، وليس بسبب عذاب الاستئصال.
- وقد يسأل سائل لماذا قدم نفي التأخر (لا يستأخرون) على نفي التقدم (ولا يستقدمون)؟
قدم نفي التأخر (لا يستأخرون) على نفي التقدم (ولا يستقدمون)؛ لأن الكفار يطمعون أن يتأخروا عن آجالهم؛ ليطول عمرهم، ولا يطمعون أن يتقدموا على آجالهم، لأنهم يكرهون الموت.
- ولكن كيف يتصور أن يتقدم الإنسان على أجله إذا جاء؟
صحيح أنه لا يتصور أن يتقدم الإنسان على أجله إذا جاء، ولكن التهديد للكفار كان بقوله تعالى (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة)، وأما (ولا يستقدمون) فلا علاقة لها بالتهديد، بل جاءت للدلالة على أن كل الأمور بيد الله سبحانه وتعالى، وبمعنى أكثر وضوحا (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة) عن الأجل الذي جاء (ولا يستقدمون) ساعة عن الأجل قبل مجيئه.
وقد يقال: إن التقدم على الأجل إذا جاء مستحيل، ولذا ذكر التأخر مع التقدم سويا؛ ليكونا في المعنى سويا، أي: كما أن التقدم مستحيل فكذا التأخر.
ومثل ذلك قوله تعالى (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما) (النساء: ١٨)
ووجه الشاهد هو أن الذي يموت كافرا لا توبة له أساسا، ولكنه قرن مع من يتوب وقت موته؛ للدلالة على أنهما في عدم قبول توبتهما سواء.
- (ساعة) جزء من الوقت، ويطلق على أقله، وأما الساعة المعروفة في زمننا، وهي المكونة من ستين دقيقة، فاصطلاح حادث في هذا العصر، وليس هو المقصود في الآية.
(ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون) (٦٢)
المفردات:
- لا جرم: حقا.
- مفرطون: مقدمون.
المعنى الإجمالي:
وتكمل الآية بيان مخازي الكفار، وواقع جرائمهم بحق الله سبحانه وتعالى، فهم يجعلون لله ما يكرهون من البنات، ويفترون بألسنتهم الكذب بأن لهم في الآخرة العاقبة الحسنى، ولكن لا شك أنهم مقدمون إلى النار، وأنها مستقرهم، ألا ساء ما يفعلون.
المعنى التفصيلي:
- (ويجعلون لله ما يكرهون) حيث نسبوا لله الذرية، وهذا أمر بشع عظيم، ولكن الأعظم من ذلك أنهم ينسبون لله ما يعتبرونه أخس الذرية، حيث ينسبون البنات لله، تعالى الله عما يقولون.
- (ما يكرهون) أي: البنات، وقد سبق تفسير قوله تعالى في هذه السورة (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) (النحل: ٥٧)، فالكفار يريدون لهم ما يحبون من الأبناء الذكور، وأما لله فينسبون البنات.
- (ويجعلون لله ما يكرهون) قدم الجار والمجرور (لله) زيادة في إنكار ما يزعمه الكفار، لأن بشاعة نسبة الذرية لله تكمن في مجرد النسبة له سبحانه، ولا تكمن في كونها بنات، لأن الله ليس له بنات كما ليس له أبناء.
فلو قلنا في غير التنزيل " ويجعلون ما يكرهون لله" لاتجه الإنكار إلى كون المنسوب إلى الله هو البنات المكروهات من جهتهم، وأما عند تقديم الجار والمجرور (لله) كما في الآية (ويجعلون لله ما يكرهون) فإن الإنكار يتجه إلى مجرد نسبة الذرية لله بغض النظر عن كونها بنات أو أبناء، لأن الله منزه عن الذرية مطلقا.
- (وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى) والكفار أيضا يفترون على الله الكذب بأن العاقبة الحسنى لهم، ألا ساء ما يصفون.
- وجاء التعبير بإسناد الكذب إلى ألسنتهم (وتصف ألسنتهم) وليس "يصفون"، زيادة في بيان بشاعة فعلهم، فهؤلاء يفترون الكذب على الله بألسنتهم التي خلقها الله كي تذكره (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات: ٥٦).
فكل عضو في أجسادنا ما خلقه الله إلا ليكون في طاعته، ومن أعلى هذه الأعضاء - إن لم يكن أعلاها - اللسان، فبه يذكر الله، وبه يقال الحق، ومن هنا تظهر بشاعة استعمال الألسن في الافتراء على الله سبحانه وتعالى.
- (وتصف ألسنتهم الكذب) فألسنتهم تصف الكذب ذاته، لا شيئا قريبا منه، ولا شيئا مخلوطا بالحق، بل ما تصفه ألسنتهم هو عين الكذب، وذات الكذب.
فمن الناس من لا يتجرأ على قول الكذب خالصا، فيخلطه ببعض الصدق، ولكن كفار قريش ومن سار على نهجهم، بلغوا من القحة مبلغا عظيما، حيث يقولون الكذب خالصا، بلا حياء ولا خجل، ولا قلق ولا وجل.
- (أن لهم الحسنى) أي العاقبة الحسنى، وهكذا هو نهج الكفار الجاحدين، وتأمل قوله تعالى حاكيا قول صاحب الجنة في سورة الكهف (وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا) (الكهف: ٣٦).
- وجاء التعبير بـ (الحسنى) وليس "الحسنة"؛ لأن "الحسنة" مؤنث "الحسن"، و"الحسنى" مؤنث "الأحسن"، فهم - بزعمهم - ليس لهم العاقبة الحسنة فقط، بل لهم العاقبة الحسنى.
- وقدم الجار والمجرور (لهم) في قوله تعالى (أن لهم الحسنى)؛ لأنهم يزعمون أن الحسنى مختصة بهم، أما أتباع النبي - ﷺ - فلا حسنى لهم.
- (لا جرم) الجرم هو الذنب، والذنب هو الباطل، ونفي الجرم نفي للباطل، ونفي الباطل هو إثبات الحق؛ لأن الأمر إما أن يكون حقا أو باطلا، فإذا نفي الباطل وقع الحق، ولذا فإن معنى لا جرم هو حقا.
- (لا جرم أن لهم النار) هذا رد على افترائهم (أن لهم الحسنى) بـ (أن لهم النار).
- وجاء الرد (لا جرم أن لهم النار) مؤكدا بنفي الشك عن الخبر (لا جرم) وبحرف التوكيد (أن).
- قدم الجار والمجرور (لهم) في قوله تعالى (أن لهم النار) ليدل على اختصاص النار بهم، وهذا ليناسب تقديم الجار والمجرور (لهم) في دعواهم (أن لهم الحسنى).
- (وأنهم مفرطون) وهم ليسوا فقط من أهل النار، بل هم (مفرطون) إليها، أي: مقدمون إليها، يقال: فرط: إذا تقدم تقدما، والفارط إلى الماء: المتقدم إليه.
ولكن لماذا هم مقدمون إلى النار؟
هم مقدمون إلى النار؛ لأنهم أكثر من يستحق النار من أهل النار.
ولكن على من سيقدمون؟
إنهم سيقدمون على غيرهم من أهل النار؛ لأنهم أشد عذابا؛ لأن المقدم إلى الجنة أعلى منزلة ممن يأتي بعده، والمقدم إلى النار أشد عذابا ممن يأتي بعده.
وجاء هذا التهديد مؤكدا بحرف التأكيد (أن)، زيادة في الوعيد؛ وما شدة الانتقام إلا لشدة الإجرام (والله عزيز ذو انتقام) (آل عمران: ٤).
- قرأ نافع (مفرطون) بكسر الراء المخففة، وهذه صيغة اسم الفاعل، ومعناها: المتجاوزون للحد.
فالكفار قد تجاوزوا كل الحدود بإجرامهم وافترائهم الكذب على الله سبحانه تعالى.
- وقرأ أبو جعفر - وهو ليس من السبعة، ولكنه من العشرة - (مفرطون) بكسر الراء المشددة، وهذه صيغة اسم الفاعل، ومعناها: أنهم مقصرون ومضيعون لما كلفوا به من الدين والتوحيد، وهذا أيضا منطبق على الكفار.
(تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم) (٦٣)
المفردات:
- وليهم: ناصرهم.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة ما وقع فيه المشركون من الجرائم العظام، تتوعد هذه الآية الكفار بالعذاب الأليم يوم القيامة في حين أنها تسلي النبي - ﷺ - بأن تكذيب قومه له إنما هو سنة ماضية حاضرة للكفار، لأنهم هكذا قابلوا هداية الرسل باتباع الشيطان، الذي ظنه الكفار نصيرا لهم بما زين لهم، ولكنه لم يكن لينصر نفسه ولا غيره، وأن نهاية من اتبعه العذاب الأليم.
المعنى التفصيلي:
- (تالله) هذا قسم بالله سبحانه وتعالى، والقسم أسلوب من أساليب توكيد الكلام، بل هو من أعلى الأساليب، إن لم يكن أعلاها.
- (تالله) المقسم في الآية هو الله سبحانه وتعالى، وأي مقسم أعظم منه؟! وأي مقسم هو أصدق منه؟! والمقسم به هو لفظ الجلالة الذي لا شيء في الوجود أعظم منه ولا أكرم.
وعظم القسم يدل على عظم المقسم عليه، ألا ترى أنه لا يقبل من الواحد منا أن يقسم الأيمان على شيء تافه.
- (تالله) والتاء حرف من حروف القسم، ولا تدخل إلا على لفظ الجلالة، بينما تدخل الواو على الاسم الظاهر دون أن تختص بلفظ الجلالة، فنقول: والله، (والطور) (الطور: ١)، وكذلك الباء تدخل على الاسم الظاهر وعلى الضمير أيضا، نحو: بك لأكرمن الكريم.
- ودل ذكر (من قبلك) في السياق على أن المخاطب بداية بالقسم (تالله) هو النبي صلى الله عليه وسلم، وانظر - حفظك الله - في السياق متأملا حتى تعلم أن الخطاب تسلية للنبي ﷺ (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك)
وهذا القسم (تالله) الموجه إلى النبي ﷺ إنما هو لتسليته، وإلا فإن النبي ﷺ ليس شاكا حتى يحتاج إلى القسم، وإنما القسم في مقام التسلية للنبي زيادة في تسليته عليه الصلاة والسلام.
- ولكن هل يختص الخطاب بالنبي ﷺ إذا كان مخاطبا به لأجل تسليته؟
الجواب: لا؛ لأن القرآن كتاب هداية لكل الناس، فالنبي ﷺ مخاطب به بداية ثم كل المكلفين من الجن والإنس، فالآية تسلية لكل من دعا إلى دين الله وكذبه الناس.
- (لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك) هذه الجملة جواب للقسم (تالله)، وحرف اللام الواقع في جواب القسم (لقد) مؤكد من المؤكدات، و"قد" هنا للتحقيق، وهذا أيضا تأكيد للكلام.
- وليس المقصود بالقسم هو الإخبار بأن الله سبحانه وتعالى أرسل رسلا من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، بل المقصود أنه أرسل رسلا إلى الأمم السابقة (فزين لهم الشيطان أعمالهم)، أي يا محمد! ما يفعله قومك من اتباع الشيطان، هو ما فعله كل المكذبين في الأمم السابقة، فلا تحزن يا محمد، ولا تكن في ضيق مما يعمل هؤلاء المكذبون.
- وفي الكلام التفات من الغيبة إلى التكلم، (تالله) أسلوب الغيبة، و (أرسلنا) أسلوب التكلم، وإنما وقع هذا الالتفات لعلو شأن إرسال الرسل، وأسند الفعل "أرسل" إلى الضمير "نا" للتعظيم؛ ولم يأت النص بـ "أرسلت" بل (أرسلنا).
وما هذا الالتفات وهذا التعظيم إلا لأن شأن اعتناء الله بهؤلاء البشر الضعفاء أمر عظيم، فإرسال الرسل من الله سبحانه وتعالى ليس كإرسال رسل من البشر إلى البشر، لأن أمر إرسال الله رسله عظيم بكل جوانبه وتفاصيله: بالمرسل سبحانه وتعالى، وبالرسالة المنزلة من عنده جل وعلا، وبما يترتب على الرسالة من عذاب وعقاب، وبالذي يحمل الرسالة من البشر، إلى غير ذلك من جوانب العظمة في قضية الإرسال.
- (أرسلنا إلى أمم) كثيرة - (من قبلك) يا محمد - رسلا بما أرسلت به أنت من الهداية والخير، (فزين لهم الشيطان أعمالهم) الشركية بصورة جميلة يحبونها، فاتبع الكفار ما زين لهم الشيطان.
- (إلى أمم) مختلفة عن بعضها باللون واللغة والشكل والصفات والزمن وغير ذلك من الاختلافات، ولكن رغم كل هذه الاختلافات فأمة الكفر واحدة، وتفكر بأسلوب واحد، ولو كانت في القرن الواحد والعشرين، في قرن تطور الاختراعات والعلوم، فإنها تفكر بمنطق الأمة الكافرة في قرن الأخشاب والحجارة والتخلف العلمي، إنها أمم متعددة ولكن طريقة التفكير واحد (فزين لهم الشيطان أعمالهم) فاتبعوه.
- وقدم الجار والمجرور (لهم) في قوله تعالى (فزين لهم الشيطان أعمالهم)؛ لأن سياق الكلام ليس التفصيل في بيان عمل الشيطان، بل سياق الكلام عن الأمم التي اتبعت ما زين لها الشيطان من الضلال، فقدم الجار والمجرور لإبراز الموضوع الرئيسي في السياق.
- (فهو) أي الشيطان (وليهم) أي ناصرهم، وفي هذا كمال البلاغة، والبلاغة تكمن في الاستهزاء بالكفار، ولكن كيف هذا؟
لو قلنا في غير التنزيل "الشيطان ليس ناصرا للكفار" لدل الكلام على معناه المراد فقط، ولكن أن تخبر الآية بأن الشيطان هو ناصر الكفار، ويكون المعنى المقصود هو العكس، فهذا يدل على الاستهزاء، واضرب مثلا للتقريب - ولله المثل الأعلى -: عندما يلقي أحد القادة القبض على خصومه، ويصبحوا جميعا تحت قبضة يده، يقول لخصومه لقد اتبعتم هذا المسجون في القفص لمعاداتي، فهو من سينصركم اليوم، ولذا سأقتلكم واحدا واحدا.
فإن المقصود بالإخبار عن الضعيف الذليل الذي لا يستطيع أن ينصر نفسه بأنه ناصر لغيره، هو استهزاء بهذا الضعيف، واستهزاء بأتباعه كيف أنهم لم يفكروا حينما اتبعوه، وهذا مثل الشيطان الذليل الرجيم، لا ينصر نفسه، فإذا أخبر بأنه هو الولي، كان هذا استهزاء به وبمن تولاه.
- (فهو وليهم) الضمير في (وليهم) يعود على كفار مكة ويدخل فيه من في معناهم، والمقصود بـ (اليوم) هو وقت نزول الآيات، أي كما أن الشيطان زين للسابقين من الأمم أعمالهم واتبعوه ووالوه، فكذلك اليوم كفار مكة يوالون الشيطان بكفرهم، فهو وليهم، ولذا لا تحزن يا محمد، فإنها سنة الكافرين.
- قيل: المقصود بـ (اليوم) هو يوم القيامة، ولكن معنى (اليوم) هو الوقت الحاضر، وهو في الآية وقت نزول الآيات، لأن المتبادر إلى الذهن أن اليوم هو الزمن الحاضر لا المستقبل، إلا أن تدل قرينة واضحة على غير ذلك، ولقد تتبعت كلمة (اليوم) في القرآن، فوجدت أنها تدل على الوقت الحاضر، ولا تدل على يوم القيامة إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وليس هنا قرينة لفظية أو معنوية واضحة على أن المقصود بـ (اليوم) هو يوم القيامة، فيبقى معنى (اليوم) على أصله وهو الزمن الحاضر، والمقصود به وقت نزول الآيات.
- (ولهم عذاب أليم) على اتباعهم الشيطان، وليس لهم عذاب فقط، بل لهم عذاب أليم، أعاذنا الله منه، آمين!
(وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) (٦٤)
المفردات:
- لتبين: لتوضح.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة ضلال الكفار وجرائمهم البشعة، تبين هذه الآية فضل الله بإنزال القرآن على النبي - ﷺ - ليوضح للمكلفين الحق من الباطل، وليكون هداية ورحمة للمؤمنين.
المعنى التفصيلي:
- (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) معنى هذا الاستثناء هو: ما أنزلنا عليك يا محمد القرآن لعلة من العلل إلا لتبين للناس الذي اختلفوا فيه من أمور التوحيد والمعاد والقدر وغير ذلك من أمور الدين.
والتعبير بأسلوب القصر (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين) يبرز المقصد من إنزال القرآن على النبي ﷺ إبراز ظهور وحصر، ولو قلنا في غير التنزيل "وأنزلنا إليك الكتاب لتبين لهم" لم يكن له من القوة ما لأسلوب القصر.
- (أنزلنا) الضمير "نا" للتعظيم، وجاء الكلام بأسلوب التكلم، وليس بأسلوب الغيبة " أنزل الله"؛ لما في أسلوب التكلم من التعظيم أيضا، وذلك لعلو أمر إنزال القرآن.
- تقديم الجار والمجرور (عليك) إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه المعني بأمر تبليغ الرسالة، فناسب الأمر تقديم ذكره صلى الله عليه وسلم.
- ولكن لماذا جاء التعبير في هذه الآية (عليك)، وأما في قوله تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) جاء التعبير بـ (إليك)؟
وذلك لأن حرف "على" يشير إلى علو مصدر الإنزال، وحرف "إلى" يفيد الوصول دون الإشارة إلى العلو، وكلا المعنيين موجودان في الإنزال؛ لأن الوحي أولا: ينزل من فوق فعبر بـ"على"، ولأنه ثانيا: يصل في نهاية الأمر إلى النبي - ﷺ - فعبر بـ "إلى".
وقد قال بعض العلماء: إذا تعدى فعل الإنزال بـ"على" فإن النزول مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا تعدى بـ "إلى" فإن النزول يعم المؤمنين، وهذا غير صحيح؛ لأن من النزول المختص بالنبي - ﷺ - ما عدي بـ"إلى" كقوله تعالى (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) (المائدة: ٨٣).
ومن النزول المختص المؤمنين ما عدي بـ"على" (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) (النساء: ١٤٠).
- (لتبين لهم) اللام في (لتبين) للتعليل، وقوله تعالى (لتبين لهم) في موضع المفعول لأجله، والضمير (لهم) يعود إلى كل المكلفين أجمعين، ابتداء من قريش وانتهاء إلى غيرهم من الجن والإنس.
- (الذي اختلفوا فيه) من أمور التوحيد والعبادة والقدر والمعاد والنبوة وغير ذلك من أمور الدين، والاختلاف الذي وقع عند الكفار إنما وقع من عند أنفسهم، فهم الذين وقعوا في الاختلاف من جهة أنفسهم، ولذا أسند الفعل "اختلف" إلى الكفار (اختلفوا).
- لا يجوز الاقتصار في فهم القرآن على فهم كلام العرب فقط؛ لأنه لو كان لسان العرب وحده كافيا في فهم القرآن الكريم لما كان لبيان النبي - ﷺ - من حاجة، وذلك لأن كل عربي يستقل وحده بفهم القرآن، ولكن من القرآن ما لا يفهم إلا ببيان النبي صلى الله عليه وسلم، وأضرب مثلا واحدا على هذا وهو المقصود من كلمة "الصلاة" والتي تعني في اللغة الدعاء، ولكنها في القرآن الكريم ذات دلالة خاصة على أفعال تبتدئ بالتكبير وتنتهي بالتسليم، ولها شروط وأركان وكيفيات، وما كنا لنعلم هذا إلا عن طريق بيان النبي صلى الله عليه وسلم.
- ولكن هل بين النبي ﷺ كل كلمة في القرآن الكريم؟
بين النبي ﷺ ما لا يفهمه الناس في عصره، وبين لنا ما نحتاجه للاجتهاد في فهم القرآن في عصرنا وفي كل العصور، ومثاله، بينت السنة الأحكام الشرعية الواقعة في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا البيان هو أساس اجتهادنا لمعرفة الوقائع المستجدة في عصرنا وغيره من العصور.
- في قوله تعالى (لتبين لهم) دليل على حجية السنة، قال تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله... ) (النساء: ٨٠) وليس من داع للإطالة في بيان حجية السنة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وكلفه بتبليغ الرسالة وبيانها، ولذا فنحن مكلفون باتباع كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- (وهدى ورحمة) معطوفتان على موضع المفعول لأجله (لتبين لهم)؛ لأن المعنى هو: وأنزلنا عليك الكتاب لأجل البيان والهدى والرحمة.
- وللهدى عدة معان، ومعناها - هنا - هو الإنعام على العباد باتباع طريق الحق، وليس الهدى بالمعنى العام الذي هو إيضاح الحق؛ لأن إيضاح الحق عام للمؤمنين والكافرين، بينما الهداية الخاصة بالمؤمنين فإنما هي الإنعام والتوفيق لاتباع طريق الحق؛ ولذا خص الهدى في هذه الآية بالمؤمنين (وهدى ورحمة لقوم يؤمنون).
- (ورحمة) أي هذه القرآن أنزل لأجل الرحمة بالمؤمنين، فهو لهم رحمة في تشريعه، ولهم رحمة في اتباعه، لأن الله يرحم من يتبع دينه، ودين الله رحمة لمن يتبعه، وهي رحمة شاملة عامة في كل مناحي الحياة، منها الجلي البائن، الذي يراها القاصي و الداني، ومنها الخفي الذي لا يشعر بها إلا من رزقه الله الانتباه إلى لطائف رحمته سبحانه وتعالى.
- لماذا قدم ذكر الهدى على الرحمة (وهدى ورحمة) في الآية؟
قدم ذكر الهدى على الرحمة (وهدى ورحمة) في الآية؛ لأن الهدى سبب في نزول هذه الرحمة.
وقد يقول قائل: بل رحمة الله هي السبب في الهداية.
وللجواب عن هذا لا بد أن نعرف أن هذه الرحمة المذكورة في الآية هي الرحمة الخاصة بالمؤمنين (ورحمة لقوم يؤمنون)، وليست الرحمة العامة، والرحمة الخاصة بالمؤمنين لا تأتي إلا بعد أن يصبح الإنسان مؤمنا، وكيف يصبح الإنسان مؤمنا؟
يصبح الإنسان مؤمنا بالهداية أولا، ثم تنزل عليه الرحمة الخاصة بالمؤمنين، ولذا تقدم ذكر الهدى على هذه الرحمة الخاصة؛ لأن الهدى سبب للرحمة، فذكر السبب أولا ثم المسبب.
- وجاء التعبير بـ "قوم" في قوله تعالى (لقوم يؤمنون) للإشارة إلى أن الهدى والرحمة إلى من أصبح الإيمان صفتهم التي عليها يجتمعون، ولأجل هذه الصفة المشتركة استحقوا إطلاق "قوم" عليهم.
- وجاء التعبير بالفعل المضارع (يؤمنون) للإشارة إلى أن القرآن هدى ورحمة لقوم يتجدد الإيمان عندهم في الصباح والمساء، ففي صلاتهم تجدد للإيمان، وفي ذكرهم لله تجدد للإيمان، وفي قراءتهم القرآن وفي إطعامهم المساكين، وفي كل عمل بر وخير لهم تجدد لإيمانهم.
(والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون) (٦٥)
المفردات:
- آية: علامة ودلالة.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة عظيم جرائم الكفار، وكشفت زيغهم، وأقامت الحجة عليهم، عادت الآيات لتبين وحدانية الله سبحانه وتعالى عن طريق بيان عظيم خلقه، كما بينت الآيات عظيم خلقه سبحانه وتعالى في أول هذه السورة حتى قوله تعالى (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) (١٦).
فالله سبحانه وتعالى وحده هو الذي أنزل الماء من السحاب، وأخرج بهذا الماء النباتات بعد أن كانت الأرض جرداء ميتة، وفي إنزال الماء من السماء، وفي إحياء الأرض بعد موتها، لدلالة على وحدانية الله سبحانه وتعالى، ولكن هذه الدلالة عند من يسمع كلام الله سماع تدبر وليس سماع إنكار وكفران وإعراض.
المعنى التفصيلي:
- (والله أنزل من السماء) ابتدأت الآية بذكر لفظ الجلالة (الله) وليس بذكر الضمير "هو" بخلاف الآية العاشرة من هذه السورة (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون) حيث ابتدأت الآية بذكر الضمير "هو" الذي يعود على الله سبحانه وتعالى، وليس بذكر الاسم الصريح "الله"، وذلك لأن الآية العاشرة جاءت في سياق آيات بيان عظيم خلقه سبحانه، وقد ذكر لفظ الجلالة في الآية التاسعة، فكأنه أغنى عن إعادة ذكر الاسم الصريح لقرب الذكر، وانظر - بارك الله فيك - في سياق الآيات:
(وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين (٩) هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (١٠))
أما في هذه الآية (والله أنزل من السماء) فلم يذكر لفظ الجلالة صريحا قبلها، وهذا أولا، وأما ثانيا: فإن في التصريح بلفظ الجلالة تعظيم للخبر المذكور.
- (والله أنزل من السماء) أي هو وحده سبحانه وتعالى من أنزل الماء من السماء، ولم يشاركه أحد في إنزال الماء، فكيف تشركون بالله سبحانه وهو المنعم وحده؟!
ولو قلنا في غير التنزيل "وأنزل الله من السماء" لما أفادت ما أفادته الآية من التعظيم لقدرة الله، ومن تخصيص تفرده بالأمر، وأنه ليس له شريك سبحانه.
- قدم الجار والمجرور (من السماء) في قوله تعالى (أنزل من السماء ماء) للاختصاص، لأن السماء هي مكان نزول الماء.
- ومن البدهي أن الماء ينزل من السماء، فلماذا ذكرت (السماء)؟
لقد ذكرت السماء في سياق نزول المطر لاستحضار صورة الماء النازل من السماء، استحضارا يتلازم عند المؤمنين واستحضار النعمة.
- (فأحيا) إنه إحياء سريع، فما أن ينزل المطر إلا ويخرج النبات، وتدب الحياة في أوصال الأرض، وهذا ما أفاده العطف بحرف الفاء.
- (فأحيا به الأرض) ذكر الجار والمجرور (به) قبل (الأرض)؛ لأن سياق الكلام بداية عن إنزال الماء من السماء.
- (فأحيا به الأرض بعد موتها) أي أحيا به نبات الأرض وأشجار الأرض، وموتها هو عكس هذا، وذكرت الأرض دون ذكر هذه الأشياء؛ لأنها مكان هذه المخلوقات من النباتات والأشجار، فأغنى ذكر الأرض عن ذكر الأشياء.
- (إن في ذلك لآية) (إن) ولام الابتداء (لآية) حرفا تأكيد.
- (في ذلك) وليس "فيه"؛ للإشارة إلى كل المذكور من إنزال الماء إلى إحياء الأرض بعد إماتتها.
- (لقوم يسمعون) والمقصود بالسماع هو لازم السماع، وهو التدبر والوعي، وليس سماع إنكار وكفران وإعراض، أو سماع غفلة وتغافل.
- والتأكيد بـ (إن) ولام الابتداء (لآية)؛ للدلالة على أن أمر الاهتداء إلى وحدانية الله من خلال آية إنزال المطر وإحياء الأرض، هو أمر لا يحتاج إلى كبير عناء، فإنه يحتاج إلى سماع تدبر - فقط - حتى يعرف السامع الحق (لآية لقوم يسمعون)؛ لأن آية إنزال المطر وإحياء الأرض به، آية عظيمة ظاهرة باهرة يراها الصغير والكبير، ويدرك استحالة تحكم المخلوق فيها كل من له ذرة عقل.
- وجاء التعبير بـ "قوم" في قوله تعالى (لقوم يسمعون) للإشارة إلى أن المقصودين هم من أصبح سماع التدبر صفتهم التي عليها يجتمعون، ولأجل هذه الصفة المشتركة استحقوا إطلاق "قوم" عليهم، وليسوا ممن سمعوا سماع تدبر مرة واحدة أو عدة مرات متفرقة، وفي غير ذلك لا يسمعون إلا سماع إعراض وإنكار، وهذا ما يفيده الفعل المضارع، من أن سماعهم متجدد متكرر، وليس سماع واقعة واحدة.
- وفي قوله تعالى (إن في ذلك لآية لقوم يسمعون) تعريض بالكفار بأنهم لا يسمعون، وأن هذا هو سبب عدم اتعاظهم بآية إنزال الماء وإحياء الأرض بعد موتها.
- قد يقول قائل: إن آية إنزال الماء وإحياء الأرض آية منظورة بالعين، فلماذا لم يأت نص الآية بـ "لقوم يبصرون"؟!
لم يأت نص الآية بـ "لقوم يبصرون"؛ لأن آيات الكون المنظورة تحتاج إلى آيات القرآن المسموعة حتى تعتبر العقول العبرة الصحيحة الكاملة، وأضرب مثلا على ذلك: كلنا يرى آيات الله في الكون، من خلق الإنسان وخلق الحيوان والأشجار والأفلاك... ، ويعقل الإنسان من هذا الذي أبصره أن للكون خالقا، ولكن من هو الخالق؟ وما هي صفاته؟ وما هي حقوقه علينا؟ إلى غير ذلك من الاستفسارات.. كل هذا لا يجاب عنه ولا نعرف حقيقته إلا عن طريق الوحي، وهو طريق السماع، وكفار مكة كانوا يبصرون هذه المخلوقات، ويرون هذه الآيات الكونية، ويؤمنون أن لهذا الكون خالقا (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون) (العنكبوت: ٦١) ولكنهم برغم إيمانهم يشركون مع الله، وسبب هذا الشرك هو أنهم لا يسمعون كلام الله الذي يبين من هو الخالق؟ وما هي صفاته؟ وما هي حقوقه علينا؟ إنه الله الواحد الصمد الذي لا شريك له.
هذه الآية (والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون) (النحل: ٦٥) دليل على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وليس دليلا - فقط - على أن الله هو الخالق، وما يؤمن به المشركون هو أن الله خالق ولكنه ليس واحدا، ولكن عندما يسمعون آيات الله سماع تدبر يؤمنون بأن إنزال الماء وإحياء الأرض دليل على وحدانيته سبحانه وتعالى.
(وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين) (٦٦)
المفردات:
- الأنعام: اسم يطلق على الإبل والبقر والضأن والمعز.
- العبرة: ما يتعظ به.
- فرث: ما في البطن من الفضلات.
- اللبن: هو ما يخرج من ضروع الأنعام، وهو معروف، ولكنه يسمى في بعض البلاد كالأردن وفلسطين: حليبا، ويطلقون اللبن على غيره، فاقتضى التنبيه.
- خالصا: نقيا عن أي شائبة أو طعم سوى اللبن.
- سائغا: من ساغ يسوغ، أي: سهل دخوله في الحلق.
المعنى الإجمالي:
وتكمل الآية عرض الأدلة على وحدانية الله سبحانه وتعالى من خلال عرض عظيم مخلوقاته؛ لأنه لا يخلق العظيم إلا من هو أعظم منه.
ومن عظيم خلقه هذه الأنعام التي يشرب الإنسان لبنها، وهو لبن أبيض خالص عن الشوائب، سهل شربه.
ولكن من أين يتولد؟ إنه يتولد من بين ما في الكرش من الفضلات ومن بين الدم.
فسبحان من خلق اللبن الأبيض من غير لونه، وسبحان من خلق اللبن السائغ اللذيذ من الفضلات المقززة ومن الدم النجس!!
المعنى التفصيلي:
- جملة (وإن لكم في الأنعام لعبرة) معطوفة على جملة (إن في ذلك لآية لقوم يسمعون) (النحل: ٦٥) أي كما أن في إنزال المطر من السماء وإحياء الأرض عبرة، فإن لكم في الأنعام لعبرة أيضا.
- في الالتفات من الغيبة (إن في ذلك لآية لقوم يسمعون) إلى الخطاب (وإن لكم) كمال العناية الربانية بنا، ولو قلنا في غير التنزيل "وإن في الأنعام لعبرة " لدل على المراد، ولكنه لم يحمل معاني العناية الربانية بنا (لكم).
- في التأكيد بـ (إن) واللام في (لعبرة) مع ما سبق من الالتفات، دلالة على أن العبرة في الأنعام عبرة عظيمة، وأن الاعتبار بها هو حق لازم على هؤلاء العرب الذين يعيشون في بيئة رعوية، ويعتمدون اعتمادا شبه كلي على الأنعام.
- (لعبرة) أصل العبرة من العبور، حيث يعبر المعتبر بما علمه من الحالة المشاهدة إلى الحالة غير المشاهد.
فالحالة المشاهدة في هذه الآيات هي مخلوقات الله، والتي تعبر بعقولنا إلى الحالة غير المشاهدة أن الله عظيم مستحق للعبادة وحده.
- جملة (نسقيكم مما في بطونه) تفسير لجملة (وإن لكم في الأنعام لعبرة)، ولم تعطف جملة (نسقيكم مما في بطونه) على جملة (وإن لكم في الأنعام لعبرة)؛ وذلك لأن بينهما كما يقوم علماء البلاغة: كمال اتصال، ولأجل كمال الاتصال بين الآيتين لم يقع العطف، وهذا ما يسمى في علم البلاغة بـ "الفصل".
- (نسقيكم) قرأ ابن كثير، و أبو عمرو، وحفص عن عاصم، وحمزة والكسائي "نسقيكم " بضم النون، وقرأ الباقون بفتح النون.
- (نسقيكم) جاء إسناد السقيا إلى الله سبحانه وتعالى، رغم أن الظاهر في مشاهدة الناس أن الذي يحلب الأنعام ويعطي غيره ليشرب هو الساقي، و جاء إسناد السقيا إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن الساقي الحقيقي هو الله، وأما بني البشر فهم يسقون غيرهم على سبيل النقل والحمل، لا على سبيل الإيجاد والإنعام.
- جاء النص (نسقيكم مما في بطونه) وليس " تشربون مما في بطونه"؛ لأن في ذكر السقيا إظهار لمنة الله سبحانه علينا؛ لأن المتبادر إلى الذهن عند ذكر الشرب هو فعلنا، وعند ذكر سقيا الله لنا، فإن المتبادر هو نعمة الله علينا.
- (مما) في قوله تعالى (مما في بطونه) هي "من" و "ما"، أي: "من الذي"، والمقصود بـ (مما في بطونه) هو: اللبن، و "من" تبعيضية؛ لأن البطن يحتوي على أشياء غير اللبن.
- جاء الضمير في (بطونه) مفردا مذكرا نظرا لمعنى الجنس، أي: مما في بطون ما ذكرنا من جنس الأنعام.
- وأما ما قيل من أن الأنعام هنا بمعنى النعم، والنعم هي الإبل، والنعم تذكر وتؤنث، ولذلك قال الله عز وجل (مما في بطونه) وقال في موضع آخر (مما في بطونها) (المؤمنون: ٢١) فأقول: هذا الكلام لا يناسب السياق الذي هو امتنان على البشر بما يشربونه من حليب من الأنعام، وفي القول بأن المقصود بالأنعام هنا الإبل فقط تضييق لدائرة الامتنان، علما بأن توجيه الآية ممكن من غير هذا التضييق الذي ينافي سياق الامتنان، والتوجيه يكون بما ذكرنا آنفا من كون الضمير في (بطونه) عائد على الجنس، وبغير ذلك من الأقوال التي لا داعي للإطالة بذكرها.
ومثل هذا كثير، وأضرب مثلا واحدا، وهو قوله تعالى (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت) (الأنعام: ٦٨) فعبر عن الشمس التعبير عن المؤنث "أفلت" وعبر عنها التعبير عن المذكر"هذا"، وكان التعبير عن المذكر بمعنى هذا الشيء الطالع.
- ما معنى (من بين فرث ودم)؟
الفرث هو ما في البطن من الفضلات. والدم معروف، وقد فسر السابقون كيف يكون اللبن من بين الفرث والدم، وفسروا الآية بما علموا من العلوم، ولا أريد أن أعرج على ما قالوه، لأن المقصود هو بيان معنى الآية لا تتبع الأخطاء.
والمقصود من الآية - في ضوء ما توصل إليه العلم لغاية الآن، والله أعلم بالصواب - أن العلف يهضم في المعدة، ثم يصير فرثا، وبعدها ينزل إلى الأمعاء الدقيقة، وبعد ذلك تمتص الخملات المواد الغذائية من الفرث، وهذه هي الخطوة الأولى، ثم يسير الغذاء في الدم، ويمر على الغدد اللبنية، وهناك تمتص الغدد اللبنية المواد الغذائية من الدم، وبعدها يتكون اللبن، فيتكون اللبن من بين الفرث أولا، ثم من بين الدم.
وعلى ما تقدم يكون بيان قوله تعالى (من بين فرث ودم) هو: يتكون اللبن من بين فرث أولا ومن بين دم ثانيا.
- (من بين فرث ودم) قدم ذكر الفرث على الدم؛ لأن الاستفادة أولا من الفرث وبعدها من الدم، فهو ترتيب وفق الوجود الطبيعي.
- (لبنا خالصا سائغا للشاربين) وهذا الدم المستخلص من الفرث والدم خالص لا يشوبه صفات الفرث ولا الدم، وزيادة على ذلك فإن الله يسر شربه، فهو سهل الشرب ولا يتعسر على الإنسان شربه وبلعه.
- ولكن لماذا لم يذكر النص اللبن في البداية، أي لماذا جاء النص بالمبهم أولا (مما في بطونه من بين فرث ودم) ولماذا لم يأت بالمبين بداية، أي: " نسقيكم لبنا خالصا " وبعدها (من بين فرث ودم)؟
والسبب هو أن أسلوب التشويق أبلغ في البيان، فابتدأت الآية بالمبهم تعظيما للأمر وتشويقا، ثم بينت أن ذلك الأمر العظيم في خلقه هو اللبن الذي لا تلتفتون إلى بديع خلق الله فيه.
- لماذا قدم (خالص) على (سائغا)؟
قدم (خالص) على (سائغا)؛ لأن الخلوص عن الآفات والشوائب والمضرات، أهم من سهولة البلع، ألا ترى أن الدواء غال مع أنه غير سائغ، وما ذلك إلا لنفعه وخلوصه عن الآفات، وهذا مثل اللبن الخالص، فإنه نافع لما فيه من الفوائد، ولأنه خالص من الآفات.
وأيضا، فإن اللبن إن لم يكن خالصا فلا يكون سائغا، لأنه كيف يستسيغ الإنسان بلع اللبن وفيه طعم الفرث أو الدم؟!!
- هذه الآية دليل على أن الاستحالة مطهرة، ومعنى الاستحالة، هو: تحول الشيء من مادة إلى مادة، فمثلا: الكلب النجس إذا حرق وصار رمادا، فإن الرماد طاهر وإن كان أصله كلبا؛ لأن جسم الكلب استحال إلى رماد، والرماد مادة أخرى غير جسم الكلب.
ومثال هذا هنا أن الدم نجس، ولكنه استحال من دم إلى لبن، فأصبح اللبن طاهرا؛ لأن الدم استحال من مادة إلى مادة أخرى (من بين فرث ودم لبنا خالصا).
والاستحالة مطهرة عند الحنفية والمالكية، ويترتب على هذا الأمر أحكام كثيرة، منها استحالة المواد النجسة واستعمالها في شتى الصناعات الغذائية والدوائية، واستحالة المياه العادمة، واستحالة الخلطات العلفية، وكيفية تطهير النجاسات المائعة وغير المائعة، وغير ذلك من المباحث، والتي لا يتسع المقام إلى عرضها.
(ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون) (٦٧)
المفردات:
- النخيل: جمع نخلة.
- أعناب: جمع عنب، والعنب جمع عنبة.
- السكر: الشراب المسكر.
- آية: علامة ظاهرة (دلالة).
المعنى الإجمالي:
وتكمل الآية عرض نعم الله الدالة على وحدانيته سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى هو من يسقينا من ثمرات النخيل والأعناب الشراب وغير ذلك من الأغذية، وهذه السقيا دلالة على وحدانية الله سبحانه وتعالى لمن يعقلها.
والامتنان بالسكر - وهو الخمر - امتنان بشيء كان مباحا وقت نزول هذه الآيات؛ لأنها آيات مكية وتحريم الخمر كان في المدينة.
المعنى التفصيلي:
- (ومن ثمرات النخيل والأعناب) الجملة عطف على الجملة السابقة، وتقدير الكلام: "ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب".
وقوله تعالى (ومن ثمرات النخيل والأعناب) ليس متعلقا بـ (تتخذون منه سكرا) والمانع من هذا التعلق هو: "من" في قوله تعالى (تتخذون منه سكرا)، ولو كان النص "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون سكرا" لاحتمل تعلق الجملة بـ (تتخذون)، ولكن مع وجود "من" في قوله تعالى (تتخذون منه سكرا) فإن الظاهر أن الضمير في منه عائد على ما يسقينا الله من الثمرات.
قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية:
"ولكم أيضا أيها الناس عبرة فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا، مع ما نسقيكم من بطون الأنعام من اللبن الخارج من بين الفرث والدم".
- وقيل: إن " ومن ثمرات ": معطوف على الجار " في الأنعام "، وعلى هذا يكون التقدير: وإن لكم في الأنعام لعبرة، ومن ثمرات النخيل لعبرة. وجملة " تتخذون " تفسيرية للعبرة.
ولكن هذا ضعيف؛ ولو كان النص "وفي ثمرات النخيل " لكان الاحتمال قويا؛ لأن الاعتبار في السياق القرآني يكون في الشيء لا من الشيء، وانظر إلى قوله تعالى:
(إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) (آل عمران: ١٣)
(وإن لكم في الأنعام لعبرة) (النحل: ٦٦) (المؤمنون: ٢١)
(يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) (النور: ٤٤)
(إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) (النازعات: ٢٦)
- (النخيل والأعناب) ورتبت أنواع الأشجار من الأعلى إلى الأدنى من جهة العمر؛ لأن طول تعمير الشجرة نوع من أنواع النعمة، النخيل يعيش أكثر من الأعناب. وهذا كقوله تعالى في بداية هذه السورة (الآية: ١١) (والزيتون والنخيل والأعناب) حيث رتبت أنواع الأشجار من الأعلى إلى الأدنى من جهة العمر؛ لأن طول تعمير الشجرة نوع من أنواع النعمة، فشجر الزيتون يعيش مئات السنين، وشجر النخيل يعيش أقل من شجر الزيتون بكثير، وأما الأعناب فأقلهن عمرا.
- وجملة (تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) تفسير لجملة (ومن ثمرات النخيل والأعناب) ولم تعطف جملة (تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) على جملة (ومن ثمرات النخيل والأعناب)؛ وذلك لأن بينهما كما يقوم علماء البلاغة: كمال اتصال، ولأجل كمال الاتصال بين الآيتين لم يقع العطف، وهذا ما يسمى في علم البلاغة بـ "الفصل".
- (تتخذون منه) الاتخاذ بمعنى الجعل، أي: تجعلون منه، وهذا ما نسميه في عصرنا بالتصنيع الغذائي.
- (سكرا) جمهور العلماء أن السكر هو الخمر، من باب إطلاق المصدر على الاسم، نقول سكر سكرا وسكرا. والامتنان بالخمر على قريش كان قبل تحريمها، فإن هذه الآيات مكية، وإنما حرمت الخمر بالمدينة، فامتن الله سبحانه بما هو مباح وحلال في ذلك الوقت، ولذلك قال تعالى (تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) فوصف الله الرزق بالحسن، ولكنه لم يصف السكر بالحسن رغم إباحته في ذلك الوقت؛ لأنه خبيث، وإنما أباحه الله في ذلك الزمن من باب التيسير على الداخلين في الإسلام، لأن عليهم تبعات عظيمة لتغيير واقعهم الجاهلي، ولله الحكمة البالغة، (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) (الأنبياء: ٢٣)
وروي عن بعضهم أنه نبيذ التمر غير المسكر، أي الماء الذي يوضع فيه التمر ويترك حتى يصبح شرابا حلوا غير مسكر.
- (ورزقا حسنا) هو كل ما يتخذ من الحلال من هذه الأشجار، من الخل والدبس وغير ذلك.
- (إن في ذلك لآية لقوم يعقلون) (إن) حرف توكيد (في ذلك) اللبن الذي يخرج من بين الفرث والدم خالصا سائغا، وفيما تتخذونه من الشراب والرزق الحسن من النخيل والأعناب (لآية) لعلامة دالة على أن الله سبحانه وتعالى الخالق المستحق للعبادة، واللام في (لآية) للتوكيد.
- (لقوم يعقلون) وجاء التعبير بـ "قوم" في قوله تعالى (لقوم يعقلون) للإشارة إلى أن المقصودين هم من أصبح استخدام عقولهم صفتهم التي عليها يجتمعون، ولأجل هذه الصفة المشتركة استحقوا إطلاق "قوم" عليهم، وليسوا ممن استخدم عقله مرة واحدة أو عدة مرات متفرقة، وفي غير ذلك لا يستخدمه، وهذا ما يفيده الفعل المضارع، من أن استخدامهم لعقولهم متجدد متكرر، وليس بواقعة واحدة.
- جاء نص هذه الآية (لقوم يعقلون) بينما جاء في الآية (٦٥) من هذه السورة (لقوم يسمعون) فلماذا اختلاف التعبير؟
اختلف التعبير في الموضعين؛ لأن الموضوع الذي ختم بقوله تعالى (إن في ذلك لآية لقوم يسمعون) هو موضوع نزول الماء من السماء وإحياء الأرض الميتة، وهذا الموضوع يدركه القاصي والداني، والصغير والكبير، بل إن الراعي ليشاهد أحداثه وتفاصيله ويعلمه بدقة، ولذلك، فإن هذا الأمر بحاجة إلى توجيه الأذن إليه حتى تعلم ماهيته.
بينما خروج اللبن من بين الفرث والدم، لا يعلم حقيقته إلا من أعمل عقله وعلمه.
(وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) (٦٨)
المفردات:
- أوحى: ألهم.
- يعرشون: يبنون.
المعنى الإجمالي:
تتابع الآية عرض نعم الله سبحانه وتعالى علينا، وهذه النعمة هي نعمة العسل، حيث ألهم الله سبحانه وتعالى النحل أن تتخذ بيوتا لها، من الجبال أو الشجر أو ما يبنيه بنو البشر.
المعنى التفصيلي:
- (وأوحى) الواو للعطف على ما قبلها، حيث إن هذه الآية حلقة من سلسلة نعم الله المعروضة في هذه الآيات.
- والوحي قد يرد بعدة معان، فقد يراد به الإلهام (وأوحى ربك إلى النحل) (النحل: ٦٨)، أو تكليم الملك للنبي، ومنه يطلق الوحي على الموحى به، وقد يراد به الإشارة (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) (مريم: ١١).
وهنا يراد به الإلهام، وهذا الإلهام يظهر لنا بصورة غريزة أودعها الله سبحانه في هذه الحشرة الضعيفة، فهي تسير وفق نظام دقيق، وهذا النظام لا يأتي هكذا، إنما هو الإلهام والإرشاد الرباني، وهذا الإرشاد الرباني لهذه الحشرة الضعيفة كون مملكة تسمى "مملكة النحل"، والتي إن قرأ أحدنا عن النظام المتبع فيها، لعلم أنها آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وأنها بحاجة إلى تفكر وتدبر.
- (ربك) فيه تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث خاطب الله سبحانه وتعالى النبي ﷺ في سياق بيان النعم.
- وجاء التعبير بـ "الرب" وليس "الإله" لما في كلمة (رب) من معاني العناية والرعاية، وهي أنسب في سياق الإلهام والعناية لهذا المخلوق الضعيف " النحل".
- (النحل) لعله سمي نحلا؛ لأنه ينحل الناس العسل نحلة، أي عطية بلا قصد عوض، أي بدون مقابل، قال تعالى (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) (النساء: ٤) أي عطية بدون مقابل.
- والنحل يذكر ويؤنث، وقد أنث في قوله تعالى (أن اتخذي من الجبال بيوتا)، وأما من ذكر النحل، فكان بناء على لفظه، ومن أنثه، فبناء على أنه جمع نحلة.
- (أن) في قوله تعالى (أن اتخذي) تفسيرية، أي لما سبق من الإيحاء.
- (من) في قوله تعالى (من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) للتبعيض؛ لأن النحل تتخذ من بعض الجبال بيوتا، ومن بعض الشجر، ومن بعض الأماكن المبنية.
- (يعرشون) أي يبنون من أسوار وسقف وبيوت، سواء كانت معدة للنحل أوغير ذلك.
- وقرأ جمهور القراء (يعرشون) بكسر حرف الراء، وقرأه ابن عامر بضمها (يعرشون).
- ولكن لماذا قدم ذكر الجبال على الشجر وبعدها ما يعرشه البشر (من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون)؟
قدم ذكر الجبال على الشجر وبعدها ما يعرشه البشر؛ ربما لسهولة الاتخاذ وتوفره، فمجال الاتخاذ من الجبال أوسع منه في الأشجار، لأن من الجبال ما فيه شجر، وما ليس فيه شجر، أما الأشجار فإنها أقل انتشارا من الجبال، وأما ما يبنيه البشر من البنيان، فليس من السهولة بمكان أن يجد النحل له مكانا لبيته، فلا بد أن يبحث كثيرا فيما يعرشه بني البشر حتى يجد له موطئ قدم. والله أعلم.
(ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) (٦٩)
المفردات:
- اسلكي: فعل أمر، وهو من سلك، أي: ذهب في الطريق.
- سبل: جمع سبيل، وهو: الطريق.
- ذللا: جمع ذلول، أي مسخرة.
- آية: علامة ظاهرة (دلالة).
المعنى الإجمالي:
هذه الآية تكملة لبيان الآية السابقة حول موضوع إيحاء الله للنحل، وموضوع نعمة العسل.
فقد أوحى الله للنحل أن تأكل من كل الثمرات، وأن تسلك الطرق التي هيأها الله سبحانه منقادة لأمره؛ كي تجمع ما تحتاجه لإنتاج العسل.
وهذا العسل الذي يخرج من بطون النحل، بألوان متعددة، جعل الله سبحانه فيه للناس شفاء، وهذه آية دالة على عظيم خلق الله، ولكن لقوم يتفكرون في آيات الله.
المعنى التفصيلي:
- حرف (ثم) في قوله تعالى (ثم كلي) ليس للتراخي، وإنما هو للترتيب الرتبي، حيث إن الأكل من الثمرات، وإنتاج العسل أعلى وأرقى من مجرد اتخاذ البيوت؛ لأن كثيرا من الحشرات تتخذ بيوتا، ولكن هذا الترتيب بـ (ثم) يدل على علو منزلة إنتاج العسل؛ لعلو فائدته.
- (من كل الثمرات) إنه باب مفتوح أمام النحل لتأكل من كل الثمرات، ليكون العسل جامعا لكل الفوائد، والمقصود بالثمرات هو زهورها؛ وإطلاق الثمر على الزهور باعتبار ما كان، واعتبر الزهر ثمرا في حق النحل؛ لأنه يستخلص فوائد الثمرة عن طريق أكل ما في الزهرة، فكأن النحل جمع الثمرة.
- (فاسلكي سبل ربك ذللا) ألهم الله سبحانه وتعالى النحل أن يجمع الرحيق، وسهل له طرق السير، والسبل جمع سبيل، وهو: الطريق. والفاء في كلمة (فاسلكي) للتفريع؛ لأن سلوك النحل للسبل متفرع عن الإيحاء للنحل بأن تأكل من كل الثمرات.
- (سبل ربك) وإضافة السبل إلى ربنا سبحانه وتعالى، هي إضافة عناية ورعاية، لما في كلمة " الرب" من معاني العناية والرعاية، فالنحل يقطع المسافات البعيدة باحثا عن الأزهار؛ ولأن الله ذلل له طرق جمع الرحيق، فإنه لا يضل في بحثه عن الرحيق، ولا يضل في رجوعه إلى بيته، رغم المسافات الشاسعة، بل يرجع إلى بيته ذاته، ولا يضل بدخوله بيتا لخلية نحل أخرى.
- (ذللا) جمع ذلول، ومعناها المسهلة المسخرة، ويحتمل أن يكون حالا من السبل أنها مسهلة، أو حالا من النحل أي منقادة مطيعة.
- (يخرج من بطونها شراب) في الآية التفات من الخطاب (كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا) إلى الغيبة (يخرج من بطونها شراب)؛ لأن الأكل والسلوك وجمع الرحيق من عمل النحل وجهده، ولذا ألهم النحل فعله، بينما خروج العسل من بطون النحل إنما هو أمر آخر لا شأن للإيحاء به؛ لأنه أمر خلقي في جسم النحلة.
- (مختلف ألوانه) أي العسل، وذلك بناء على اختلاف الثمرات التي جمع منها الرحيق
- (فيه) أي العسل (شفاء للناس)، وكلمة (شفاء) نكرة في سياق الإثبات، فدلت على الإطلاق، ولذا فإن (شفاء) لا تحمل دلالة العموم، والفرق بين عموم المطلق وعموم العام، أن عموم المطلق بدلي، وعموم العام شمولي؛ ولذا فإن العسل شفاء، ولكنه ليس لكل مرض في الدنيا؛ لأنه مطلق وليس عاما.
ومعنى هذا الكلام أنه لو كانت دلالة (شفاء) عامة، لشمل العموم كل الأمراض، ولكن دلالة (شفاء) مطلقة، أي أن العسل يطلق عليه (شفاء) باعتبار شفائه بعض الأمراض لا كلها.
وأما حديث (البخاري: ٥٢٧٧) عن أبي سعيد قال جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال إن أخي استطلق بطنه فقال اسقه عسلا فسقاه فقال إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا فقال صدق الله وكذب بطن أخيك وفي رواية (البخاري: ٥٢٥٢) و (مسلم: ٤١٠٧): فسقاه فبرأ.
ومعنى استطلق: أي أصابه الإسهال.
وهذا الحديث دليل على أن العسل علاج لهذا النوع من المرض، وليس دليلا على أنه علاج لكل مرض.
إذن فالعسل شفاء للناس، أي لبعض أمراضهم.
- (إن في ذلك لآية) (إن) حرف توكيد (في ذلك) أي: الإيحاء بأن جعل الله سبحانه من هذه الحشرات الضعيفة مملكة منظمة، وأن أخرج من بطونها دواء يحتاج البشر لأن ينتجوا مثله إلى معامل ومختبرات ومصانع، كله يخلقه الله سبحانه في بطن هذه الحشرة.
- (لآية) لعلامة دالة على أن الله سبحانه وتعالى الخالق المستحق للعبادة، واللام في (لآية) للتوكيد.
- (لقوم يتفكرون) وجاء التعبير بـ "قوم" في قوله تعالى (لقوم يتفكرون) للإشارة إلى أن المقصودين هم من أصبح التفكر صفتهم التي عليها يجتمعون، ولأجل هذه الصفة المشتركة استحقوا إطلاق "قوم" عليهم، وليسوا ممن تفكر مرة واحدة أو عدة مرات متفرقة، وفي غير ذلك لا يتفكرون، وهذا ما يفيده الفعل المضارع، من أن تفكرهم متجدد متكرر، وليس بواقعة واحدة.
وقفة لابد منها:
- وقد يسأل سائل عن الرابط الذي يربط الآيات الخمسة الواردة في بيان نعم الله سبحانه وتعالى للتدليل على استحقاقه للعبادة وحده، وهذه الآيات هي:
(والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون (٦٥)
وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين (٦٦)
ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون (٦٧)
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون (٦٨)
ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (٦٩))
والرابط بين هذه الآيات هو أن الآية الأولى صورة لسماء تقطر ماء.
والآية الثانية: صورة لأنعام تقطر لبنا.
والآية الثالثة صورة لثمار تقطر شرابا.
والآية الرابعة والخامسة: صورة لنحل يقطر عسلا.
ويتكون من هذه الصور الأربعة صور رائعة لنعمة الأشربة، فهي أشربة يحتاجها الإنسان، وعن الطريق التفكر فيها يعلم العبد فينا أن الله سبحانه مستحق للعبادة وحده.
- وتأمل معي بارك الله فيك! فإن الآية التي تتحدث عن الأنعام ذكرت موضوع اللبن؛ لانتظام السياق عن الشراب في صوره الأربعة، بينما تتحدث آية أخرى عن الأنعام في نفس السورة ولكن في سياق آخر، إنه سياق اللباس والبيوت وأكنان الجبال، ولذا جاء الحديث فيها عن جلود الأنعام وأصوافها وأوبارها، لا عن ألبانها، وانظر - بارك الله فيك -إلى الآيات وتأمل:
(والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين (٨٠) والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون (٨١)) (النحل)
- ولكن لماذا جاء بيان الصور الأربعة في الآيات الخمسة (النحل: ٦٥ - ٦٩) على هذا الترتيب؟
جاء الحديث أولا عن نزول الماء من السماء؛ لأن نفعه عام ومهم ولا يستغني عنه بشر، ويدرك كلنا هذه النعمة حتى الراعي في الصحراء.
وجاء الحديث عن الأنعام ثانيا؛ لأنها الأهم بعد الماء للعرب الذين خاطبهم القرآن ابتداء.
وجاء الحديث عن الثمار بعدها؛ لأن العرب يعتمدون على الثمار ولكن بمرتبة تأتي بعد الأنعام.
وأما الحديث عن النحل، فجاء متأخرا؛ لأن حاجة العرب إلى العسل هي حاجة تكميلية، وليست أساسية كالماء واللبن وشراب الثمار.
- وقد جاء ختم الآية التي تتحدث عن إنزال الماء وإحياء الأرض بقوله تعالى (إن في ذلك لآية لقوم يسمعون)؛ لأن الاعتبار بهذه الآية متيسر للجميع، فالماء أساس الحياة، وهذا لا يجهله أحد، فيكفي السماع الواعي لينبهنا على آية نزول المطر وإحياء الأرض به.
وجاء ختم الآيتين اللتين تتحدثان عن كيفية تكوين اللبن، وعن تصنيع الثمار بقوله تعالى (إن في ذلك لآية لقوم يعقلون)؛ لأن البحث في كيفية تكوين اللبن من بين فرث ودم، هو بحث يحتاج إلى إعمال العقل في البحث العلمي، ولا يقدر عليه أي أحد.
وكذلك، فإن اتخاذ أشكال متنوعة من الرزق الحسن من الثمر؛ كالخل والدبس وغيرهما مما يكثر تعداده، يحتاج إلى إعمال العقل؛ لأن مجال العبرة عند من يباشر التصنيع أكبر منه عند من يأخذ المنتج جاهزا دون النظر إلى مراحل الاستفادة من الثمار.
- وجاء ختم الآيتين اللتين تتحدثان عن إيحاء الله للنحل وعن نعمة الشفاء في العسل بقوله تعالى (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون)؛ لأن إدراك أثر الإيحاء الرباني للنحل يحتاج إلى تفكر ولكن ليس بدرجة فهم كيفية خلق اللبن من بين فرث ودم؛ حيث يدرك كل من باشر تربية النحل أثر الإيحاء الرباني في حياة النحل، ويعرف شفائية العسل كل من جربه، فهي آية تحتاج إلى تفكر.
وأما التعبير بـ (لقوم يعقلون) فيحتاج إلى إعمال العقل أكثر، لأن آية الأنعام تتحدث عن كيفية تكوين اللبن لا عن أنه مفيد، وكيفية التكوين تحتاج إلى إعمال للعقل بدرجة عالية، ولم يعرف البشر - في حدود ما اطلعت عليه - كيفية هذا التكوين على الوجه التفصيلي العلمي إلا في هذا الزمن.
وكذلك الآية التي تتحدث عن الاتخاذ من الثمرات، يعني التصنيع، ختمت بقوله تعالى (لقوم يعقلون)؛ لأنها لا تتحدث عن أكلها فقط، حيث إن تصنيع الغذاء من الثمار ما زال متطورا بتطور العلم، ولم يقف تطوره من زمن نزول الآيات إلى الآن، فكلما زاد العلم زاد تطور التصنيع الغذائي، وكلما زاد تطور التصنيع الغذائي، كانت العبرة أكبر.
(والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير) (٧٠)
المفردات:
- أرذل العمر: أردأ العمر وأسوؤه.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة مظاهر قدرة الله الدالة على استحقاقه للعبادة وحده، تكمل هذه الآية بيان قدرة الله بتصرفه بحياتنا، لبيان أن تصرفه هو أوضح دليل على عبوديتنا، وأنه الرب المعبود وحده.
فالله سبحانه وتعالى وحده من خلقنا، وبعدها يميتنا، وقد يبقي بعض الناس ليعمروا حتى يصلوا أسوأ مراحل العمر من الهرم والضعف الخرف، حيث يأخذ الله سبحانه ما آتاهم من علم، وكل هذا بدون إرادتنا وبدون موافقتنا؛ والله عليم بما يفعل، قدير على إمضاء ما أراد.
المعنى التفصيلي:
- (والله خلقكم) أي هو وحده سبحانه وتعالى من خلقكم، ولم يشاركه أحد في الخلق، فكيف تشركون بالله سبحانه وهو المنعم وحده؟!
ولو قلنا في غير التنزيل " خلقكم الله" لما أفادت ما أفادته الآية من التعظيم لقدرة الله، ومن تخصيص تفرده بالخلق، وأنه ليس له شريك سبحانه.
- (ثم) في قوله تعالى (ثم يتوفاكم) للتراخي؛ لأن بين الخلق والتوفي أجل.
- جاء التعبير عن الخلق بصيغة الفعل الماضي (خلقكم)، بينما جاء التعبير عن التوفي بصيغة الفعل المضارع (يتوفاكم)؛ لأن خلق المخاطبين تم وانتهى الأمر، فناسب ذلك التعبير بالماضي، بينما موتهم سيأتي تبعا، فناسب ذلك التعبير بالمضارع، والذي يدل على الحاضر والمستقبل، ويدل على تجدد موتهم واقعة بعد واقعة حتى لا يبقى منهم أحد.
- (ومنكم من يرد) جاء إسناد الفعل (يرد) بصيغة البناء لما لم يسم فاعله، بينما لم يأت إسناد فعل الخلق والتوفي بصيغة الفعل الذي لم يسم فاعله؛ وذلك لأن الرد إلى أرذل العمر شيء غير مستحسن عند البشر، بل إنهم ليتمنون الموت ويعتبرونه نعمة إذا ما خيروا بينه وبين الرد إلى أرذل العمر، فكان الأنسب إسناد فعل الرد إلى الله سبحانه بهذه الصيغة.
ولكن قد يقول قائل لماذا جاء بناء التوفي بصيغة ما لم يسم فاعله (ومنكم من يتوفى) في سورتي (الحج: ٥) و (غافر: ٦٧)؟
وللرد على هذا لا بد أن نعرف أن السياق في سورتي (الحج: ٥) و (غافر: ٦٧) هو سياق إبراز مراحل حياة الإنسان من التراب والنطفة إلى العلقة إلى خلقه طفلا، وفي هذا السياق المشرق بالحياة تأتي صيغة التوفي بصيغة ما لم يسم فاعله؛ ليناسب سياق بيان نبض الحياة في الإنسان، بينما تأتي صيغة التوفي في هذه الآية (النحل: ٧٠) بصيغة صريحة بأن الله هو الخالق المتوفي؛ لأن سياق الآية هو بيان قدرة الله في التصرف بحياتنا، وإثبات وحدانيته واستحقاقه للعبادة عن طريق بيان عبوديتنا.
وانظر في سورة (الزمر: ٤٢) كيف جاءت صيغة التوفي (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (الزمر: ٤٢) لقد جاءت الصيغة بهذه القوة؛ لأن السياق سياق تقريع للمشركين.
- (أرذل العمر) أي أردؤه وأسوؤه، والعمر من جهة أنه زمن لا ينسب إليه أنه أحسن وأرذل، ولكنه ينسب إلى العمر الحسن والرداءة بالنسبة لحال صاحب العمر.
- ولكن كم هو مقدار السن التي يقال عنها (أرذل العمر)؟
قيل: خمس وسبعون، وقيل: غير ذلك، ولكن أرذل العمر لا يحد بمقدار معين، بل المقصود به بلوغ الإنسان الكبر والهرم، وإصابته بالخرف وضعف العقل مع ضعف البدن، وهذه الحال تختلف من شخص إلى شخص، ومن زمن إلى زمن، بل ومن بلاد إلى بلاد، وكل ذلك وفق مؤثرات نفسية أو جسمية أو وراثية أو غير ذلك.
- (لكي لا يعلم) قيل: اللام للتعليل، وقيل: للصيرورة.
ولام التعليل تعني أن الذي رد إلى أرذل العمر، رد لأجل أن لا يعلم شيئا مما كان علمه، ولا يقدر على أن يتعلم شيئا.
ولام الصيرورة، وهي لام العاقبة، تعني أن الذي رد إلى أرذل العمر، كانت نهايته أن لا يعلم شيئا مما كان علمه، ولا يقدر على أن يتعلم شيئا، وليس أنه رد لأجل أن لا يعلم شيئا.
ومن أمثلة لام العاقبة في القرآن قوله تعالى (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) (القصص: ٨) فآل فرعون ما التقطوا موسى عليه السلام لأجل أن يكون لهم عدوا، وإنما كان عاقبة التقاطهم هو أنه أصبح لهم عدوا، فلام العاقبة هي لام النتيجة.
ولكن كون (لكي) للتعليل أرجح؛ لأن الله سبحانه يعلم ما يفعل، وما هي نتيجة فعله، ولذا ما رد من رد إلا لأجل أن لا يعلم شيئا.
- ولكن لماذا رد من رد إلى أرذل العمر؟
تختلف الحكمة باختلاف الأشخاص، ففي حق بعض الناس هو كفارة ذنوب، وفي حق بعضها عقاب في الدنيا قبل الآخرة، وهذا الأمر شأنه شأن أي بلاء في الدنيا، فقد يصيب البلاء شخصا فيكون في حقه كفارة من الذنوب، وقد يصيب شخصا آخر فيكون عقابا له في الدنيا قبل الآخرة.
- (لا يعلم بعد علم شيئا) نكرت كلمة (علم)، لأن المقصود بالعلم هنا أي علم من العلوم التي يتعلمها البشر، بغض النظر عن تحديد ماهيته.
- في قوله تعالى (بعد علم) تأكيد لعجيب قدرته تعالى، وتنصيص على قدرة الله بنزع العلم الذي أعطاه للإنسان رغما عن أنفه، وانظر - بارك الله فيك - إلى قوله تعالى (لكي لا يعلم بعد علم شيئا) وبين قولنا في غير التنزيل " لكي لا يعلم شيئا"، وبهذه المقارنة يتضح الفرق.
- (لا يعلم بعد علم شيئا) كان هذا الإنسان المردود إلى أرذل العمر ذا علم، ولكنه أصبح عند أرذل العمر لا يعلم شيئا، وذلك بعد أن كان عالما، و (شيئا) نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تدل على العموم، أي أصبح هذا الذي فقد عقله لا يعلم أي شيء كان، وهذه الحالة أسوأ الحالات، وأرذل العمر يقصد به هذه الحالة التي يفقد فيها الإنسان عقله؛ لأن نص الآية (أرذل العمر) وليس "رذيل العمر"؛ لأن "أرذل" صيغة تفضيل، فهو أسوأ العمر، لا سيء العمر.
- ولأجل سوء أرذل العمر كان يتعوذ منه النبي ﷺ دبر الصلاة، فقد روى (البخاري: ٢٦١٠) أن رسول الله ﷺ كان يتعوذ منهن دبر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر.
- وكما أنه يوجد في حياة البشر مرحلة هي الأسوأ من العمر، فهناك مرحلة في حياة البشر هي الأحسن من العمر، فإذا اعتاد المسلم عمل الخير وهو حسن الصحة والحال، آتاه الله نفس الأجر إذا ساءت صحته وحاله، فقد قال رسول الله ﷺ إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا (البخاري: ٢٧٧٤).
- وقد يقول قائل: ما الفرق بين التعبير بـ"ينسى" و (لا يعلم بعد علم شيئا)؟
الفرق بينهما، أن الناسي قد يتذكر، ولكن من يرد إلى أرذل العمر لا سبيل ليعود إليه علمه.
- في الآية صورتان متقابلتان تبينان قدرة الله سبحانه وتعالى، خلق وإماتة، إيتاء العلم ونزعه، وهذه الصور المتقابلة - والتي بينها بون عظيم - تدل على عظيم كمال تصرفه سبحانه وتعالى فيما يشاء كيف شاء.
- (إن الله عليم) بهذا التصريف (قدير) على فعل ما يريد.
- لماذا ذكرت كلمة (عليم) قبل ذكر كلمة (قدير)؟
ذكرت كلمة (عليم) قبل ذكر كلمة (قدير)؛ لأنه لا بد أن يسبق العلم الفعل حتى يكون صوابا.
- لماذا ذكرت هذه الخاتمة في هذه الآية (عليم قدير) دون غيرها من الخاتمات؟
ذكرت هذه الخاتمة في هذه الآية (عليم قدير) دون غيرها من الخاتمات؛ لأن في الآية بيان كمال الله، وبيان نقص العباد، فالله عليم، ولكن الإنسان ليس عليما، بل أعطاه الله الله العلم بقدرته سبحانه، وهو سبحانه قادر على أن يسترد العلم من الإنسان كما أعطاه حتى (لا يعلم بعد علم شيئا).
وختمت الآية بـ (قدير)؛ لأن الله هو وحده القدير، وأما قدرة البشر فهي عطاء من الله سبحانه يعطيه متى شاء ويسترده متى شاء (والله خلقكم ثم يتوفاكم).
(والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون) (٧١)
المفردات:
- رادي رزقهم: معطي ما يملكون.
- ملكت أيمانهم: عبيدهم وإماؤهم.
- يجحدون: أي ينكرون ما يعرفون ثبوته.
المعنى الإجمالي:
وتتابع الآيات بيان وحدانيته سبحانه وتعالى عن طريق ضرب المثل؛ ليقيس عليه أصحاب العقول.
فالله سبحانه وتعالى فضل بعض البشر على بعض بالرزق، فمنهم الغني ومنهم الفقير، ومنهم السيد ومنهم العبد، وهذا التفضيل ليس خاضعا لإرادتهم، بل هو وفق إرادة الله سبحانه وتعالى وحده.
وبناء على أن الله سبحانه فضل بعضنا على بعض في الرزق، فإن الذين أغناهم الله لن يعطوا عبيدهم ما لديهم من ممتلكاتهم حتى يصبح عبيدهم أغنياء مثلهم.
فإذا كان المشركون لا يرضون أن يصبحوا وعبيدهم سواء، فكيف يرضون أن يجعلوا الخالق سبحانه وتعالى والمخلوقين سواء، فيشركوا مع الله جل جلاله؟!!
المعنى التفصيلي:
- (والله فضل بعضكم على بعض) الواو واو العطف، ومعنى العطف هنا، أن الله سبحانه هو المتصرف بالخلق والإماتة والرد إلى أرذل العمر، وكل هذا يقع قهرا عن البشر، وهو أيضا أعطى بعض البشر من الرزق أكثر من الآخرين، وهذا التفضيل - أيضا - ليس وفق هوى البشر وإرادتهم، بل هو قهر وجبر عليهم.
ومن مظاهر جبرية الرزق أنه قد يكون الجهول غنيا والعالم فقيرا.
قال ابن الوردي في لاميته المشهورة:
كم جهول بات فيها مكثرا وعليم بات منها في علل
كم شجاع لم ينل فيها المنى وجبان نال غايات الأمل
فاترك الحيلة فيها واتكل إنما الحيلة في ترك الحيل
فكم ممن اتخذ أسباب الرزق ولكن الله ضيق عليه، وكم ممن تخبط في طلب الرزق تخبطا دون أسباب منطقية، ولكن الله وسع عليه؛ لأن الله هو من قسم الرزق سبحانه، قال تعالى (أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون) (الزخرف: ٣٢)
- (والله فضل) أي هو وحده سبحانه وتعالى فضل بعضكم على بعض في الرزق، فكيف تشركون بالله سبحانه وهو المنعم وحده؟!
ولو قلنا في غير التنزيل "وفضل الله" لما أفادت ما أفادته الآية من التعظيم لقدرة الله سبحانه وتعالى، ومن تخصيص تفرده بالتصرف بالتفضيل، وأنه ليس له شريك سبحانه.
- (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) وهذا التفضيل ليس تفضيلا مطلقا، بل هو تفضيل في شيء خارجي، لا أثر له في قيمة المرء أو قدره عند الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء الكفار اعترضوا على بعث النبي - ﷺ - لأنه ليس من الأغنياء (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) (الزخرف: ٣١)، فأنكر الله عليهم اعتراضهم بقوله:
(أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون (٣٢) ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون (٣٣) ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون (٣٤) وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين (٣٥)) (الزخرف).
فالتفضيل ليس بناء على الرزق، وإنما التفضيل في الرزق، والتفضيل في الرزق لا يلزم منه تفضيل المرء؛ لأن الرزق ابتلاء، وأما من يظن أن الغنى إكرام وقلة الرزق إهانة، فليعلم أن الله أبطل هذا بقوله:
(فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن (١٥) وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن (١٦) كلا بل لا تكرمون اليتيم (١٧) (الفجر)
ومعنى (كلا) أي، ليس الأمر كما يظن الإنسان، فإن الإكرام بطاعة الله، والإهانة بمعصيته، وليس بالمال والغنى.
- (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم) هذه الجملة تفرعت عن قوله تعالى (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق)، أي أن الله سبحانه وتعالى فضل بعضكم على بعض في الرزق، فأنتم الآن متفاضلون فيه، وبناء على هذا التفضيل، فإن الذين فضلوا بالرزق لن يعطوا من لم يفضل بالرزق نصيبهم؛ ليصبح المفضل بالرزق وغير المفضل سواء، فكيف تسوون الله بعباده، وأنتم لا تحبون أن تستووا وعبيدكم؟! ولكن الأمر إنما هو جحود منكم بما أنعم الله عليكم من النعم (أفبنعمة الله يجحدون)؟!
- (فما الذين فضلوا برادي) فالفاء للتفريع، و"ما" نافية، والباء في (برادي) هي للتوكيد، وتأتي في خبر "ما" النافية وخبر "ليس".
- (فهم فيه سواء) هذه الجملة فرعت عن جملة (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم) أي: لن يعطي أصحاب الأرزاق أرزاقهم لعبيدهم فيصبحوا فيه سواء.
- (أفبنعمة الله يجحدون) الهمزة في (أفبنعمة) للاستفهام، وهذا الاستفهام إنكاري، ومعناه: إنهم بمساواتهم الله بالأصنام يجحدون نعمة الله عليهم، إذ كيف لا يرضون أن يستووا مع عبيدهم، وبالمقابل يساوون بين الله المنعم سبحانه ومخلوقاته؟! فما هذا الشرك إلا جحود بنعمة الله.
- (أفبنعمة الله يجحدون) قدم ذكر "نعمة الله" على "يجحدون"، ؛ وذلك لإبراز أن الإنكار متجه إلى كون الجحود متعلق بنعمة الله، وليس إلى مجرد الجحود فقط.
وانظر - بارك الله فيك - إلى الفرق بين قوله تعالى (أفبنعمة الله يجحدون) وبين قولنا في غير التنزيل "أفيجحدون بنعمة الله":
فقولنا في غير التنزيل "أفيجحدون بنعمة الله" يعني: إنكار الجحود بنعمة الله، بينما قوله تعالى (أفبنعمة الله يجحدون) يعني: إنكار الجحود بنعمة الله، ويعني شيئا آخر، وهو: أن نعمة الله دون غيرها من الأشياء ليست محل جحود بحال من الأحوال، ولا يتصور أن يكون الجحود بنعمة الله بشكل خاص، فكيف يجحد هؤلاء بنعمة الله، وذلك بإشراكهم مع الله سبحانه.
وهذا ما يعنيه تقديم "نعمة الله" على "يجحدون"، فالاستنكار منصب على كون الجحود متجها إلى نعمة الله التي لا يتصور إنكارها، لا إلى مجرد الجحود فقط.
- من المفسرين من قال: إن جملة (أفبنعمة الله يجحدون) متفرعة عن قوله تعالى (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق)، أي أن الله أنعم على الكفار بالرزق ولكنهم عبدوا غيره وكفروا بنعمته.
وعلى هذا يكون قوله تعالى (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء) معترضا بين قوله تعالى (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) وبين قوله تعالى (أفبنعمة الله يجحدون).
ولكن الراجح أن قوله تعالى (أفبنعمة الله يجحدون) متفرع عن قوله تعالى (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء)، أي أن الله سبحانه وتعالى فضل بعضكم على بعض في الرزق، فأنتم الآن متفاضلون فيه، فإن الذين فضلوا بالرزق لن يعطوا من لم يفضل بالرزق نصيبهم؛ ليصبح المفضل بالرزق وغير المفضل سواء، فكيف تسوون الله بعباده، وأنتم لا تحبون أن تستووا وعبيدكم؟! (أفبنعمة الله يجحدون) بأن أشركوا مع الله غيره وكفروا بنعمته سبحانه وتعالى.
ولكن ما الدليل على أن الراجح أن قوله تعالى (أفبنعمة الله يجحدون) متفرع عن قوله تعالى (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء) وليس أن جملة (أفبنعمة الله يجحدون) متفرعة عن قوله تعالى (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق)؟
الدليل هو أن سياق الآيات إنما هو سياق إنكار للشرك، ودعوة لتوحيد الله سبحانه وأنه المستحق للعبادة وحده - وارجع إن شئت لما سبق هذه الآية من الآيات ولما بعدها - والذي يناسب هذا السياق هو القول بأن موضوع هذه الآية (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون) (النحل: ٧١) إنما هو موضوع إنكار للشرك، ودعوة لتوحيد الله سبحانه وأنه المستحق للعبادة وحده.
والقول بأن موضوع الآية هو إنكار للشرك، ودعوة لتوحيد الله سبحانه وأنه المستحق للعبادة وحده يوجهنا إلى أن قوله تعالى (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) مسوق لأجل تقرير حقيقة وهي (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء) وبناء على هذه الحقيقة يأتي إنكار ما فيه الكفار من الشرك وأنه كفران بنعمة الله سبحانه (أفبنعمة الله يجحدون).
ولكن القول بأن جملة (أفبنعمة الله يجحدون) متفرعة عن قوله تعالى (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) تقتضي أن قوله تعالى (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) ليس مسوقا لأجل (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء)، مما يعني أن موضوع الآية هو التفضيل في الرزق، وأما موضوع إنكار الشرك فليس هو الموضوع الرئيسي في الآية، وهذا القول مخالف للسياق.
- (يجحدون) الجحود هو إنكار ما يعرف ثبوته، قال تعالى حاكيا حال فرعون وقومه في مقابلة معجزات موسى عليه السلام (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) (النمل: ١٤) فهم استيقنوا أن هذه الآيات من الله سبحانه وتعالى، ولكن رغم معرفتهم هذه جحدوا بها.
- وجاء التعبير بالفعل المضارع (يجحدون) وليس بالماضي؛ لأن جحود الكفار متجدد لا يتوقف منذ ذلك الوقت وقبله وإلى الآن وبعد الآن.
- أخرت الكلام عن معنى الرزق؛ لأن بيان المعنى محتاج لتفسير الآية كاملة، وذلك حتى يتضح المراد جليا.
ومعنى "الرزق" في اللغة هو: ما ينتفع به من المال والطعام والجاه والعلم، ويقال للعطاء، دنيويا كان أم أخرويا؛ ولأجل هذا المعنى اللغوي قال بعض المفسرين بأن الجاه والعلم داخل ضمن مفهوم الرزق في هذه الآية.
ولكن المقصود به في هذه الآية هو الممتلكات المنقولة وغير المنقولة، ولا يدخل في ذلك الجاه والعلم؛ لأن الآية تتكلم عن شيء يستطيع الكفار رده على ما ملكت أيمانهم ولكنهم لم يردوه، لا لأنه شيء ليس بمقدور البشر رده، وإلا لما قامت الحجة عليهم، بل هو شيء بمقدورهم رده ولكنهم لا يريدون رده كي لا يتساووا وعبيدهم، وهذا ينطبق على الأموال المنقولة كالذهب والفضة، وغير المنقولة من البنيان والمزارع والأراضي وغيرها.
(والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون) (٧٢)
المفردات:
- حفدة: ومفردها: حافد، والحافد هو المعين، ومعناه هنا: ذرية البنات والأبناء.
المعنى الإجمالي:
وتتابع الآيات عرض نعم الله سبحانه وتعالى الدالة على أنه المستحق للعبادة وحده سبحانه وتعالى.
فالله وحده جعل لنا أزواجا لنسكن إليها، وجعل لنا من الأزواج بنين، وجعل لنا منهن أيضا أولاد الأولاد.
ورزقنا سبحانه وتعالى - مع نعمة الأزواج والذرية - الطيبات، ورغم هذه النعم فإن المشركين لم يشكروا هذه النعم، بل آمنوا بالباطل، وكفروا بالله سبحانه، وإن هذا لمن عجيب الأمر أن يكفر المنعم ويعبد الباطل.
المعنى التفصيلي:
- (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) أي هو وحده سبحانه وتعالى الذي جعل لكم من أنفسكم أزواجا، ولم يشاركه أحد في الخلق، فكيف تشركون بالله سبحانه وهو المنعم وحده؟!
ولو قلنا في غير التنزيل "وجعل الله لكم" لما أفادت ما أفادته الآية من التعظيم لقدرة الله سبحانه، ومن تخصيص تفرده بالتصرف بالخلق، وأنه ليس له شريك سبحانه.
- (جعل) لها عدة معان، ومعناها هنا هو: إيجاد شيء من شيء وتكوينه منه كما في هذه الآية (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) فالأزواج لم تخلق ابتداء بل جعلت من أنفسنا.
وتأمل معي - بارك الله فيك - في قوله تعالى (والله جعل لكم مما خلق ظلالا) (النحل: ٨١) فالله سبحانه وتعالى خلق الأشياء وخلق الظلال، ولكن خص إيجاد الظلال بـ "جعل"؛ لأنه إيجاد شيء من شيء، حيث أوجد الظلال من إيجاد الأشياء، ويطلق الخلق على الجعل أيضا، قال تعالى (خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) (النساء: ١)
فالله سبحانه وتعالى خلق المرأة من الرجل، وبالأخص من ضلعه الأعوج، وأول امرأة في البشرية هي أمنا حواء، فهي من خلقت من ضلع أعوج، وضلع الرجل الأعوج وقتها هو آدم، فأزواجنا خلقت من ضلع أنفسنا باعتبار الأصل: آدم وحواء.
وعلى هذا فإن (من) في قوله تعالى (من أنفسكم) تبعيضية.
قال تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) (النساء: ١)
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء) (البخاري: ٣٠٨٤) (مسلم: ٢٦٧١)
- (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) ذكرت (لكم) من باب العناية والرعاية.
- الخطاب في الآية موجه إلى الرجال؛ لأنه - كما علمت بارك الله فيك - أن معنى (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) أن الله خلق حواء من آدم، فعلى هذا فالخطاب موجهة للرجال.
- لكن لما خص الرجال دون النساء في هذه الآية؟
خص الرجال دون النساء في هذه الآية؛ لأن هذه النعمة خاصة فيهم، وهذا أولا.
وثانيا - وهو الأهم - أن الجنس المؤثر في الناس المخاطبين ابتداء (العرب) هم الرجال، فهم من ينصبون الأصنام، وهم من يدعون الناس إلى عبادتها، ونساؤهم في نهاية الأمر تبع لهم، ولذا خاطبهم بما أنعم عليهم؛ لأنهم هم أصحاب القيادة والمسؤولية الكبرى، وهم من يلقى عليهم اللوم أولا.
- ومن عجيب الأمر أن أحدهم قال لي: إن زوجة كل واحد منا خلقت منه، ومن عجيب الأمر كذلك أنه استدل بالآية الكريمة (جعل لكم من أنفسكم أزواجا).
فقلت له: معنى هذه الآية أن الله خلق حواء من آدم، وذكرت له قوله تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) (النساء: ١) وبينت له معناه، ولكنه لم يقتنع.
فقلت له شيئا آخر حتى اقتنع بأن مقولته خطأ، قلت له: إذا تزوجت المرأة رجلا فهل خلقت منه؟
فقال: نعم، فقلت له: وطلقها هذا الرجل وتزوجت من بعده، فمن أي الرجلين خلقت؟ بل افترض أنها تزوجت خمس مرات، فمن أي الرجال خلقت؟
فاقتنع أن تفسيره لقوله تعالى (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) كان خطأ، ولم أذكر هذا الأمر لأجل نقاش جانبي مع أحد الناس، بل كان في المجلس أناس كثيرون ناصروا هذا الرجل، وأخبروا أن هذه المعلومة متوارثة عندهم.
- (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) قدم الجار والمجرور (من أزواجكم)؛ لأن النعمة التي امتن الله بها في الجملة الأولى هي الأزواج (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) وهذه الجملة (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) جاءت مبينة لنعمة الأزواج، فناسب تقديمها للاهتمام بها وإظهارها عليها.
وهناك فائدة أخرى لهذا التقديم وهي بيان عجيب هذه النعمة، وهو جعل الأزواج من أنفسنا، وجعل الأبناء والأحفاد من أزواجنا، ولو كان النص في غير التنزيل: "وجعل لكم أزواجا من أنفسكم" لكان الامتنان بالأزواج المجعولين من أنفسنا، بينما معنى قوله تعالى (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) فالامتنان بالأزواج مع بيان عجيب النعمة أنهم من أنفسنا.
- (وجعل لكم من أزواجكم بنين) ومعنى (بنين) أي: الأولاد الذكور، ومفردها: ابن، قال تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) (النساء: ١١) فالميراث يشمل الذكر والأنثى، ولذا أطلق القول (أولادكم) وفصل أن للذكر مثل حظ الأنثيين.
(فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون) (الصافات: ١٤٩) (أم له البنات ولكم البنون) (الطور: ٣٩) ونرى أن البنين هم الذكور، والبنات هن الإناث.
وبعض الناس يقولون: أولاد للذكر فقط، وأبناء للذكر والأنثى، علما بأن الأولاد يشملون الذكر والأنثى، وأما الأبناء فهم الذكور فقط؛ لأن مفرد أبناء "ابن"، وليس "ابنة".
- لكن لماذا وقع الامتنان بالذكور دون الإناث؟
وقع الامتنان بالذكور دون الإناث؛ لأن العرب لم يكونوا يقدرون الإناث، فلا يناسب ما هم فيه المنة عليهم بالبنات، وهذا أولا.
وثانيا: فرغم أن الله يأجر من يربي الإناث، إلا أن الذكور هم من يتخذون سندا في الحياة، ولأن الذكر هو من يفخر به في المجالس - لأمور يعرفها الجميع - فهم زينة الحياة بهذا المفهوم (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) (الكهف: ٤٦) و"البنون" - كما قلنا آنفا - هم جمع ابن، أي الولد الذكر.
- والله سبحانه وتعالى جعل لنا أيضا حفدة، والحفدة جمع، ومفردها: حافد، والحافد هو: المعين، وأصل الحفد: السعي بالخدمة.
وقيل في تفسير "الحفدة":
- من يقوم بالخدمة أقارب كانوا أم أجانب.
- وقيل: الأختان، وهم الأصهار.
- وقيل: الأسباط، وهم: أولاد الأولاد.
والجامع بين هذه الأقوال أنهم يقومون بالخدمة ويكونون أعوانا.
والذي يظهر مناسبا للنص هو أن الحفدة هم أولاد الأولاد، ذكورا أو إناثا - كما سبق في بيان معنى الأولاد - وذلك لأمرين، الأول: أنهم أحرص على خدمة أجدادهم من غيرهم.
والثاني - وهو الأهم - أن أولاد الأولاد هم بسبب الزوجات بصورة مباشرة، وهذا يتناسب مع قوله تعالى (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة)، أكثر مما يتناسب الأصهار، أو غيرهم؛ لأن (من) في قوله تعالى (من أزواجكم) ابتدائية، أي بنين متفرعين من أزواجكم، وحفدة متفرعين من أزواجكم، لأن سياق الآية يتحدث عن نعمة الزوجات وما ينتج عنهن، فناسب أن يكون الحفدة هم أولاد الأولاد بسبب هذا التفرع.
- (ورزقكم من الطيبات) والطيبات جمع طيب، والطيب ضد الخبيث، والرزق الطيب يكون في الطعام والشراب واللباس والمسكن وغيرها.
و"من" في قوله تعالى (ورزقكم من الطيبات) تبعيضية؛ لأن الإنسان يرزق بعض الطيبات لا كلها.
- ولكن لماذا أتبعت نعمة الأزواج والأبناء والأحفاد بنعمة الرزق الطيب؟
أتبعت نعمة الأزواج والأبناء والأحفاد بنعمة الرزق الطيب؛ لأنه لا يستقيم أمر العائلة دون المال، فالعائلة والمال مكملان لبعضهما.
- (أفبالباطل يؤمنون) الهمزة في (أفبالباطل) للاستفهام، وهذا الاستفهام إنكاري، ومعناه: الإنكار على الكفار إيمانهم بالباطل؛ لأن هذا الأمر عجيب غريب.
- وقدم ذكر "الباطل" (أفبالباطل يؤمنون)، وليس " أفيؤمنون بالباطل"، زيادة في الإنكار على الكفار ما هم فيه، إذ كيف يؤمنون بشيء لا يكون الإيمان به بحال من الأحوال، وهذا بالتعبير الدارج: ألم يجد شيئا ليؤمن به إلا الباطل!!
- والباطل ضد الحق، وهو ما يعبد من دون الله سبحانه وتعالى، ولذا وقع الإنكار، إذ كيف يعبد الباطل الزائل المكذوب، وتترك عبادة الله الحق مقلب القلوب.
- (وبنعمت الله هم يكفرون) وهذا إنكار آخر معطوف على الذي سبقه، حيث إنهم يكفرون بنعمة الله سبحانه، والكلام مفهوم بدون الضمير (هم)، ولكنه جاء للتوكيد، كأنهم هم دون غيرهم من يفعل هذا.
- وتقدم ذكر (بنعمت الله) على (يكفرون) زيادة في الإنكار على الكفار ما هم فيه، وذلك لإبراز أن الإنكار متجه إلى كون الكفر بنعمة الله، وليس إلى مجرد الكفر فقط.
وانظر - بارك الله فيك - إلى الفرق بين قوله تعالى (وبنعمت الله هم يكفرون) وبين قولنا في غير التنزيل "ويكفرون بنعمة الله ".
فقولنا في غير التنزيل "ويكفرون بنعمة الله " يعني: إنكار الكفر بنعمة الله، بينما قوله تعالى (وبنعمت الله هم يكفرون) يعني: إنكار الكفر بنعمة الله، ويعني شيئا آخر، وهو: أن نعمة الله دون غيرها من الأشياء ليست محل كفر بحال من الأحوال، ولا يتصور أن يكون الكفر بنعمة الله بشكل خاص، فكيف يكفر هؤلاء بنعمة الله، وذلك بإشراكهم مع الله سبحانه.
وهذا ما يعنيه تقديم "نعمة الله" على "يكفرون"، فالاستنكار منصب على كون الكفر متجها إلى نعمة الله التي لا يتصور إنكارها، لا إلى مجرد الكفر فقط.
- لماذا قدم إنكار الإيمان بالباطل على إنكار الكفر بنعمة الله (أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون)؟
قدم إنكار الإيمان بالباطل على إنكار الكفر بنعمة الله؛ لأن الكفر بنعمة الله ناتج عن الإيمان بالباطل، حيث إنهم آمنوا بالأصنام وعبدوها، فكان إيمانهم بها وعبادتها كفر بنعمة الله عليهم؛ لأنه سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة وحده.
- جاء الفعلان (يؤمنون) و (يكفرون) بصيغة الفعل المضارع لا الماضي؛ للدلالة على التجدد، فإن إيمان الكفار بالباطل، وكفرهم بنعمة الله، متجدد في كل العصور والدهور، والله المستعان!
- وفي الآية التفات من الخطاب (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات) إلى الغيبة (أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون)، وسبب هذا الالتفات هو الإعراض عن الكفار بسبب ما هم فيه من الضلال، ومختصر القول أن هذا الالتفات هو التفات إعراض.
(ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون) (٧٣)
المعنى الإجمالي:
بينت الآية السابقة نعم الله التي يراها الكفار ويجحدونها، فهم يؤمنون بالباطل، ويكفرون بالله سبحانه، وزيادة على ذلك بدلا من أن يشكروا الله على نعمه فإنهم يشكرون أصنامهم، أي يشكرون غير المنعم سبحانه وتعالى (أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون (٧٢) ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون (٧٣))
فهؤلاء الكفار يعبدون الأصنام التي لا ترزقهم شيئا، لا من السماء كالمطر، ولا من الأرض كالزرع وغيره، ولا تستطيع أن ترزقهم في المستقبل شيئا؛ لأن الرازق لمن في السموات والأرض هو الله وحده.
المعنى التفصيلي:
- (ويعبدون من دون الله) الواو للعطف، أي: هم يؤمنون بالباطل، ويكفرون بالله سبحانه، وزيادة على ذلك يشكرون غير الله وهو المنعم سبحانه وتعالى.
- (ما لا يملك لهم رزقا) ومعنى "ما لا يملك رزقا" هو الأصنام؛ وذلك وفقا للسياق، لأن الآية تتكلم عن حال كفار قريش، و لكن اللفظ يعم كل ما يعبد من دون الله سبحانه من عاقل وغير عاقل.
وقد يقول قائل: كيف يعم اللفظ كل ما يعبد من دون الله من عاقل وغير عاقل، و (ما) لا تستخدم إلا لغير العاقل؟
والجواب عن هذا أن اللفظ يعم كل ما يعبد من دون الله سبحانه من عاقل وغير عاقل؛ لأنهما في الحكم سواء؛ فهما لا يملكان رزقا لأحد؛ لأن الرازق هو الله وحده ولا أحد معه، وما نراه من صور إعطاء البشر الرزق للبشر، فإنما هم نقلة ينفذون مشيئة الله سبحانه فيما قسم من الأرزاق، أما هم فلا يملكون من أمر الرزق في الحقيقة شيئا.
وأيضا فإن (ما)؛ تستخدم للعاقل أيضا، كما في قوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) (النساء: ٣)، وكما في قوله تعالى (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) (يوسف: ٥٣)
وتكون (ما) للعاقل، إذا اشترك العاقل وغير العاقل في حكم واحد، كما في قوله تعالى (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض) (النحل: ٤٩) فقد اشترك العاقل وغير العاقل في حكم السجود لله سبحانه.
- (ما لا يملك لهم رزقا) ومعنى (يملك) أي يقدر؛ قال تعالى:
(قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا) (الفتح: ١١)
(قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا) (المائدة: ١٧)
(قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم) (المائدة: ٧٦)
- (ما لا يملك لهم رزقا) قد يقول قائل: لماذا التخصيص بالجار والمجرور (لهم)، ولو قلنا في غير التنزيل "ما لا يملك رزقا من السموات والأرض" بدون (لهم) لدل على أنهم لا يملكون أي رزق لأي أحد، فلماذا التخصيص؟
جاء التخصيص بالجار والمجرور (لهم)؛ لأن الآية رد على الكافرين الذين يعبدون دون الله؛ ولذا ناسب التخصيص زيادة في بيان خطئهم؛ وفي نفي ملك المعبودين من دون الله الرزق لمن يعبدونهم، نفي بالأولى أن يملكوا الرزق لأي أحد؛ لأنهم إذا كانوا لا يستطيعون أن يرزقوا من يعبدهم ويتذلل إليهم، فكيف يرزقون من لا يعبدهم؟!!
ولأجل هذا خصص نفي ملكهم الرزق بالجار والمجرور (لهم)، ولأجل هذا أيضا قدم ذكر الجار والمجرور (لهم) على المفعول (رزقا) في قوله تعالى (ما لا يملك لهم رزقا) وليس "رزقا لهم"؛ بمعنى أنهم لا يملكون الرزق لمن يعبدهم خاصة، فهم لا يملكون لغير من يعبدهم بالأولى.
- (من السموات والأرض) فإذا كانوا لا يملكون رزقا من السموات والأرض، فهم لا يملكون أي رزق في أي مكان.
- (من السموات والأرض) تقدم ذكر السموات على الأرض؛ لأن السموات أعظم من الأرض، ولأن ما في السموات أكثر مما في الأرض، فقدم ذكر السموات من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى.
- (شيئا) تأكيد بأنهم لا يملكون أي شيء كان مهما قل أو صغر.
- (شيئا) مفعول به، وذلك إذا قلنا: إن (رزقا) مصدر، وتعرب على أنها بدل، وذلك إذا قلنا: إن (رزقا) مفعول به، وعلى الإعرابين فإن (شيئا) تدل على التأكيد والمبالغة بعجز الكفار أن يرزقوا غيرهم حتى أحقر شيء وأقله.
- (ولا يستطيعون) أي: إنهم لا يملكون رزقا لأحد في هذا الزمن الحاضر، ولن يستطيعوا مستقبلا؛ لأنهم مخلوقون، وإنما الخالق والرازق هو الله وحده سبحانه وتعالى.
(فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) (٧٤)
المفردات:
- تضربوا: تجعلوا.
- الأمثال: جمع: مثل، وهو الصفة.
المعنى الإجمالي:
تبين هذه الآية بعد بيان الآيات السابقة أنه سبحانه وتعالى مستحق للعبادة وحده، وأنه المنعم والمتفضل وحده، فإنه لا يجوز لنا أن نجعل لله مماثلا أو شبيها، كما جعل المشركون الأصنام آلهة تعبد عندهم.
المعنى التفصيلي:
- الفاء في (فلا تضربوا) للتفريع، أي أن النهي عن ضرب الأمثال لله متفرع ومبني على ما قررته الآيات السابقة من أنه سبحانه الخالق وحده والمنعم وحده، وأنه الإله الحق، وبناء على هذا فلا يجوز أن نضرب لله الأمثال.
- (فلا تضربوا لله الأمثال) الأمثال، جمع: مثل، وهو الصفة، قال تعالى (ولله المثل الأعلى) (النحل: ٦٠) أي ولله الصفة العليا، أما الكفار فلهم صفة السوء (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء) (النحل: ٦٠).
ولكن ما معنى "ضرب له مثلا"؟
معنى "ضرب له مثلا" أي: وصفه بصفات معينة، وهذا معنى قوله تعالى (فلا تضربوا لله الأمثال) أي لا تصفوا الله بصفات من تلقاء أنفسكم، حيث وصف الكفار الله سبحانه وتعالى بأنه ليس واحدا بل له شركاء، وهؤلاء الشركاء هم الأصنام التي يعبدونها.
ومما ضربه الكفار من الصفات لله: أن الله يقرب العباد عن طريق الأصنام (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) ولكن هذا محض افتراء من كاذب كفار (إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) (الزمر: ٣)
- الخطاب بداية موجه للكفار الذين وصفوا الله بما لا يجوز من الأبوة والشريك وغير ذلك، وهو عام لكل مخاطب بالقرآن من الثقلين.
- في الآية التفات من الغيبة (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون) (٧٣) إلى الخطاب (فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) (٧٤) وسبب الالتفات أن أسلوب الخطاب أبلغ في مقام الأمر والنهي؛ لأنه يختصر المسافات الذهنية، ويكون مباشرا وقويا، بينما جاء سابقا الإخبار بأسلوب الغيبة؛ للإعراض عن الكفار بسبب ما هم فيه من الضلال.
- قدم الجار والمجرور (لله) في قوله تعالى (فلا تضربوا لله الأمثال)؛ للتركيز على أن ضرب الأمثال الذي يقع فيه الكفار ليس متعلقا بأي أحد، إنما هو متعلق بالله جل وعلا، فليأخذ الضاربون حذرهم مضاعفا مضاعفة تليق بما يخص الله سبحانه وتعالى.
- وبناء على قوله تعالى (فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، إما بما جاء في القرآن أو بما جاء على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
- لم يأت النص " الله يعلم ولا تعلمون" بل جاء مؤكدا بـ "إن" والضمير "أنتم" (إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون)، ولكن ما وجه التأكيد بالضمير "أنتم"؟
وجه التأكيد بالضمير "أنتم" هو: إن قولنا في غير التنزيل "لا تعلمون" يعني أن الكفار المشركين لا يعلمون، بينما (أنتم لا تعلمون) مشعر بأن الذين لا يعلمون "أنتم" فقط، أي: أنتم بالذات والتحديد من لا يعلم، فكيف تصفون الله وأنتم بالذات أبعد الناس عن العلم بالله.
(ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) (٧٥)
المفردات:
- ضرب: جعل.
- مثلا: وأصل المثل: الصفة، ومعناه هنا: وصف يقاس عليه.
المعنى الإجمالي:
زجرت الآية السابقة الكفار بسبب ما وقعوا به من الشرك، وجاءت هذه الآية لتقول للكفار: إنكم لا تسوون بين العبد المملوك الذي لا يقدر على التصرف بالمال، وبين الحر الذي يفعل بماله ما يشاء، فكيف تسوون بين الله الخالق الرازق وبين الأصنام التي لا تملك من أمرها شيئا، فضلا عن أن تملك لكم شيئا.
المعنى التفصيلي:
- (ضرب الله مثلا) وصف سبحانه وتعالى وصفا ليقيس عليه الكفار ما يفعلونه، فيعلموا أنهم مخطئون.
- أبهم المثل في قوله تعالى (ضرب الله مثلا)، ثم فسر بقوله تعالى (عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا)، وهذا الإبهام للمثل ثم تفسيره فيه ما فيه من تفخيم المثل وتعظيمه.
- (ضرب) جاء التعبير بـ "الضرب" لا "الجعل"؛ لما في الضرب من وقع يلفت النظر، وهذا يلفت النظر، وهذا يتناسب والمثل؛ لأن المثل يلتفت الأنظار، ويدق الأذهان فيوقظ النائم وينبه الغافل.
وقيل: إن ضرب المثل من ضرب الدراهم؛ لأن المثل هو ذكر شيء يظهر أثره في غيره.
ولكن لا بد من العلم أن فقه معنى الكلمة يكون بالرد إلى أصل المادة، وأصل المادة "ضرب" وهو إيقاع شيء على شيء، وهذه المادة تستعمل عدة استعمالات، وفي كل استعمال يشترك معنى الضرب مع معنى آخر لينتج له دلالته، فليس من الصواب ربط الكلمة بالاستعمالات، لأننا قد نربط الكلمة بأحد الاستعمالات، ولكن يكون الربط في القدر غير المشترك بين الكلمة وأصل المادة، فيخرج الباحث عن معنى الأصل إلى معنى آخر جديد، ظانا أنه قد رد الكلمة إلى أصلها، هذا فتأمله بارك الله فيك.
- (عبدا) بدل من (مثلا)، والعبد هو الإنسان الذي يملكه إنسان آخر، وهذا التملك يكون عن طريق أسره في الحرب، أو عن طريق شرائه من سيده، أو عن طريق الميراث.
- (مملوكا) وصف للعبد، ولكن لماذا هذا الوصف مع أن كلمة "عبد" تدل على أنه مملوك؟
جاء وصف العبد أنه مملوك؛ لئلا يظنن ظان أن المقصود فيه هو العبد بالمفهوم العام، فكل إنسان إنما هو عبد لله، لأنك لو قرأت الآية دون كلمة (مملوكا) لاحتمل أن تفسر بإنسان عاجز لا يملك شيئا، وبإنسان قادر ينفق ماله كيف يشاء.
- (عبدا مملوكا لا يقدر على شيء) إن العبد المملوك لا يملك مالا، ولا يستطيع التصرف بإرادته، فلا يذهب ولا يرجع إلا بأمر سيده، ولكن هذا العبد المملوك الذي ضرب مثلا ليس مملوكا عاديا، بل هذا العبد عاجز أيما عجز؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئا، أي شيء كان، ولذا قال تعالى (لا يقدر على شيء)، فهو أسوأ مثل للعبد المملوك، وأبلغ مثال على عجز البشر.
- (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) هو الحر القادر الذي رزقه الله الرزق الحسن، فهو ينفقه سرا وجهرا، وهو المقابل للمملوك الذي لا يقدر على فعل شيء.
- في قوله تعالى (رزقناه) التفات من الغيبة (ضرب الله مثلا) إلى المتكلم (رزقناه)، والـ"نا" في قوله تعالى (رزقناه) للتعظيم؛ وذلك تعظيما لأمر النعمة التي أنعمها الله على هذا المرزوق.
- الرزق من الله سبحانه وتعالى (رزقناه)، فلماذا ذكرت (منا) في قوله تعالى (رزقناه منا)؟
ذكرت (منا) في قوله تعالى (رزقناه منا)؛ توبيخا للكفار بأن الله هو الرازق وحده، وأن الأصنام لا ترزق أحدا، فكيف تعبدونها؟
وكذلك ذكرت (منا)؛ زيادة في البيان للمؤمنين أن أمر الرزق إنما هو لله وحده، وليس لأحد أن يشك للحظة أن في الكون من يتحكم في أرزاق العباد.
- (رزقا حسنا) فهو ليس أي رزق، بل هو رزق حسن، أتى عن طريق حسنة، فليس في اكتسابه ذل ولا ضنك، وليس مما يسرع إليه الفساد أو الكساد، وليس مما يصعب الاستفادة منه.
والرزق الحسن اكتسابا وامتلاكا إنما هو أطيب الرزق وأعلاه منزلة؛ لأنه صالح، طيب، حلال.
- (فهو ينفق منه سرا وجهرا) فاء (فهو) للتفريع، أي: بناء على أن هذا الحر قد رزق الرزق الحسن فهو ينفق ماله كيف يشاء، سرا أو جهرا، فالفاء رتبت الإنفاق على الرزق.
- (فهو ينفق منه) جملة اسمية؛ للدلالة على ثبات أمر الإنفاق، وأما الخبر فهو فعل مضارع (ينفق) للدلالة على تجدد الإنفاق.
وعبر عن الرزق بالفعل الماضي (رزقناه)، وأما الإنفاق فعبر عنه بالفعل المضارع (ينفق) دلالة على فعله الخير بما رزق من مال ولو لم يزدد هذا المال.
- جاء التعبير بـ (ينفق) للدلالة على أن أعلى تصرف يقوم به العبد بماله، هو الإنفاق في الخير.
ولقائل أن يقول: ما أدراك أن هذا الحر ينفق ماله بالخير؟
الدليل على أن هذا الحر ينفق ماله بالخير، أن مثل هذا الحر ضرب لأفضل مثل للأحرار، كما أن مثل العبد ضرب لأسوأ شيء في العبيد، وهذا لبيان الفرق الشاسع بين المثلين.
إذن؛ فالعبد المملوك لا يملك شيئا، وفي مقابله الحر الذي رزقه الله الرزق الحسن، والعبد المملوك لا يقدر على التصرف، بينما الحر ينفق ماله كما يشاء، فهما عجزان عند المملوك، الأول: عدم الملك، والثاني: عدم القدرة.
وبالمقابل، فهما قدرتان عند الحر، الأولى: الرزق الحسن، والثانية: القدرة على التصرف.
وأيضا فإن التعبير عن النفقة بالسر والعلن جاء في القرآن في سياق نفقة الخير، قال تعالى:
(الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة: ٢٧٤)
(والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار) (الرعد: ٢٢)
(قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال) (إبراهيم: ٣١)
(إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور) (فاطر: ٢٩)
- ولكن لماذا جاءت الآيات التي تتحدث عن الصدقة بصيغة (سرا وعلانية)، بينما جاءت هذه الآية بصيغة (سرا وجهرا)؟
اختلاف الصيغة لاختلاف السياق والمقصود، فالعلن ضد السر، بينما الجهر ليس ضد السر فقط، بل هو الظهور بإفراط ومبالغة.
وسياق آيات الصدقة سيق لبيان أن المتصدقين ينفقون المال سرا لا يعرف عنه أحد، وعلنا فيما يراهم فيه الناس، ولكن المقصود في سياق هذه الآية بيان كمال قدرة هذا الحر على التصرف بماله، فهو قادر على أن ينفقه سرا، وقادر على أن ينفقه جهرا، ويتضمن هذا أنه قادر على أن ينفقه علنا؛ لأن الجهر يتضمن العلن، ولكن العلن لا يتضمن الجهر، ولذا بينت الآية أبعد التصرفين عن بعضهما (سرا وجهرا) للدلالة على كمال القدرة في التصرف لا على مجرد القدرة فقط.
- (ينفق منه) وليس "ينفقه"؛ لأنه لو أنفق ماله كله لأصبح عاجزا عن التصرف؛ لأنه لا مال عنده حينئذ، وهذا لا يناسب هذا السياق؛ لأن الحر المالك المتصرف يصبح عندما ينفق ماله قريبا من العبد الذي لا يملك؛ لأنه حر فقد ماله، مما يترتب على ذلك تحديد دائرة تصرفاته.
- (فهو ينفق منه سرا وجهرا) ذكر السر والجهر هنا لبيان كمال تصرف الحر، أي ينفق كما يشاء، وقدم ذكر السر على الجهر؛ لأن المقام مقام بيان أفضل الأحرار في التصرف، فنفقة الحر في السر خير من الجهر (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) (البقرة: ٢٧١).
فعمل الخير بالسر خير من الجهر، حيث جاء في الحديث عن النبي ﷺ قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله... ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه... (البخاري: ١٣٣٤).
- قال سبحانه وتعالى في حق الحر (رزقناه منا رزقا حسنا) بينما قال في شأن العبد (لا يقدر على شيء)، فلماذا لم يقل في حق العبد "لم نرزقه" بدلا من (لا يقدر على شيء)؟
لم يقل سبحانه وتعالى في حق العبد "لم نرزقه" بدلا من (لا يقدر على شيء)؛ لأن العبد المملوك مرزوق أيضا، فله الطعام والشراب وغير ذلك من الأشياء، ولكنه لا يقدر على التصرف.
وأيضا فإن قوله تعالى (لا يقدر على شيء) لا يدل فقط على أن العبد المملوك لا يقدر على التصرف بالمال، بل لا يقدر على فعل شيء البتة.
- قدم مثل العبد المملوك على الحر؛ لأن سياق الآية منصب على إنكار رفع الأصنام عن الحضيض الذي هي فيه، ومنصب على بيان عجز الأصنام، وليس منصبا على بيان عظمة الله - سبحانه وتعالى - على وجه التفصيل، مع أن الآية تبين الأمرين، وللتوضيح أقول: المعنى الرئيسي في الآية هو إنكار تعظيم الأصنام ومساواتها بالله سبحانه وهي لا شيء، وليس المعنى الرئيسي تفصيل جوانب عظمة الله سبحانه وتعالى، ولذا قدم ذكر مثل العبد إمعانا في انتقاص الأصنام.
- (هل يستوون) هذا استفهام إنكاري، أي لا تستوي الأصنام والخالق سبحانه وتعالى، بناء على أنه لا يستوي العبد المملوك والحر.
- وجاء التعبير بصيغة الجمع (يستوون) وليس المثنى "يستويان"؛ لأن هذه نتيجة مثل العبد المملوك والحر، أي أن المقصود هو أن الأصنام لا تستوي والخالق سبحانه، والأصنام متعددة؛ ولذا جاء التعبير بصيغة الجمع (يستوون).
وقيل: أريد جنس العبد والحر، وقيل غير ذلك، والذي أراه أن المقصود هو أن الأصنام لا تستوي والخالق سبحانه؛ لأن هذه نتيجة مثل العبد المملوك والحر، ولذا أتبع الاستفهام بتقرير حقيقة أن الله هو المستحق للحمد وحده (هل يستوون الحمد لله).
- (الحمد لله) فيها رد على المشركين أن الله سبحانه وتعالى هو المستحق للحمد وحده، حيث إن الكفار كفروا بنعمة الله رغم أن الله هو من رزقهم من الطيبات (ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون) (النحل: ٧٢) وأنهم عبدوا وحمدوا من لم يرزقهم ولن يرزقهم (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون) (النحل: ٧٣) فجاء الرد على الكفار الذين أشركوا بحمد الله بأن حمدوا الأصنام معه، بأن الحمد إنما هو لله وحده.
- (بل أكثرهم لا يعلمون) و (بل) للإضراب، وهذا إضراب انتقالي، والإضراب الانتقالي هو: الانتقال من أمر إلى أمر أفظع منه مع بقاء الحكم الأول، والحكم الأول هو إشراكهم بالله سبحانه وتعالى، حيث سوى الكفار بين الأصنام وبينه سبحانه وتعالى.
- ولكن لماذا (أكثرهم لا يعلمون) لا كلهم؟
وذلك؛ لأن فيهم السادة والزعماء وأصحاب المصالح الذين يعلمون الحق ولكنهم ردوه عن علم لأجل مصالحم.
- ولكن قد يسأل سائل: إن كان الكفار لا يعلمون فلماذا يحاسبهم الله سبحانه وتعالى، مع أن الجهل عذر من الأعذار التي ترفع العذاب، قال تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (الإسراء: ١٥)؟
ولكن جهلهم هنا لا يعذرون به؛ لأنه ليس جهلا ناتجا عن عدم وصول الخبر إليهم، بل هو جهل ناتج عن جحودهم وإغلاقهم قلوبهم عن الإيمان، وعقولهم عن التفكير، ولذا فهذا الجهل من كسب أيديهم.
(وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) (٧٦)
المفردات:
- ضرب: جعل.
- مثلا: وأصل المثل: الصفة، ومعناه هنا: وصف يقاس عليه.
- أبكم: الذي يولد أخرس.
- كل: ثقيل.
- مولاه: المولى: من يتولى أمره.
المعنى الإجمالي:
بينت الآية السابقة أنه لا يعقل أن يسوى بين الله سبحانه وبين الأصنام، كما لا يعقل أن يسوى بين العبد العاجز عن التصرف وبين الحر الذي يفعل بماله ما يشاء من الخير.
ويضرب الله مثلا آخر على أنه لا يعقل أن يسوى بين الله سبحانه وبين الأصنام، كما لا يعقل أن يسوى بين الأبكم العاجز عن البيان، وزيادة على هذا العجز عن النطق فهو غبي لا يقدر على فعل شيء مفيد، لا يعقل أن يسوى بينه وبين الناطق الحكيم الذي يأمر بالعدل والخير، وهو أيضا ملتزم بهذا العدل والخير؛ لأنه على صراط مستقيم.
المعنى التفصيلي:
- (وضرب الله مثلا) الواو للعطف، أي وضرب الله مثلا آخر ليستدل به الكفار على أنهم مخطئون في مساواتهم بين الأصنام وبين الله سبحانه وتعالى.
- وجاء التعبير بـ "الضرب" وليس "الجعل"، وقد سبق بيان هذا في تفسير الآية السابقة.
- (وضرب الله مثلا) ذكر الاسم الظاهر (الله) رغم دلالة السياق عليه، ورغم أن الآية عطف على الآية السابقة (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا..... وضرب الله مثلا رجلين)، ولو جاءت الآية بالضمير المقدر لعلم المقصود، أي: "وضرب مثلا رجلين"، ولكن إقامة الاسم الظاهر مقام المضمر إنما جاء تفخيما للمثل المضروب بذكر ضارب المثل سبحانه وتعالى.
- (وضرب الله مثلا) وصف سبحانه وتعالى وصفا ليقيس عليه الكفار ما يفعلونه، فيعلموا أنهم مخطئون.
- أبهم المثل في قوله تعالى (ضرب الله مثلا)، ثم فسر بقوله تعالى (رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء) الآية، وهذا الإبهام للمثل ثم تفسيره، فيه ما فيه من تفخيم المثل وتعظيمه.
- (رجلين) بدل من (مثلا)، ولم يأت نص الآية السابقة بـ (رجلين)، وإنما جاء (عبدا)؛ لأن المثل المضروب في الآية السابقة إنما هو مثل عبد وحر، فهما مختلفين، بينما المثل في هذه الآية إنما هو مثل رجلين حرين.
- (أبكم) هو الذي لا يقدر على الكلام، ولكن هنالك فرق بين الأخرس والأبكم، فإن الأبكم هو من ولد وهو أخرس، ولذا فكل أبكم أخرس، وليس كل أخرس أبكم.
- (لا يقدر على شيء) حال هذا الأبكم ليست كحال أي أبكم، بل هو أبكم عاجز لا يقدر على تحقيق شيء، أي شيء؛ لأن (شيء) نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تدل على العموم، فهذا الأبكم لا يقدر على تحقيق شيء مما يرتجى من الرجال.
- وهذا الأبكم بسبب عجزه عن تحقيق أي شيء نافع، هو (كل على مولاه) أي عالة وثقيل على (مولاه) أي من يتولى شؤونه من أهله وقرابته.
- ومن الناس العاجزين من يكون عالة على أهله، ولكن أهله يوجهونه إلى تحقيق أشياء معينة تناسب وضعه، فقد يستخدمون هذا الأبكم في الرعي أو ما شابه ذلك من الأعمال اليدوية، ولكن هذا الأبكم الذي ضرب مثله عاجز أيما عجز؛ لأن مولاه (أينما يوجهه لا يأت بخير).
- (أينما يوجهه) أي هذا الأبكم لا يستطيع تحقيق المنفعة على اختلافها، لأنه عاجز عن الفهم والاستيعاب أيضا؛ لأنه غبي لا يفهم ما يراد منه - علما أن الأبكم الذكي يفهم ما يراد منه - والدليل على أنه لا يفهم ما يراد منه، هو كلمة (يوجهه)، أي: أن مولاه يعطيه المعلومات والتوجيهات لتحقيق أمر ما ولكنه لا يستفيد مما يعلم ويوجه إليه.
- (لا يأت بخير) أي لا يحقق منفعة، أي منفعة كانت؛ لأن (خير) نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تدل على العموم، فهذا الأبكم لا يقدر على تحقيق شيء مما يرتجى.
- ولكن ما الفرق بين (لا يقدر على شيء) وبين (أينما يوجهه لا يأت بخير)؟
الفرق بينهما أن قوله تعالى (لا يقدر على شيء) يدل على أن هذا الأبكم عاجز عن تحقيق أي شيء.
ولكن قوله تعالى (أينما يوجهه لا يأت بخير) يدل على أن هذا الأبكم عاجز عن تحقيق ما يبين له كيفية تحقيقه، أي أنه غبي لا يفهم، و (لا يأت بخير) مشعر بأن ضررا ما يقع بسببه.
- (هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) أي أن هذا الأبكم العاجز الغبي لا يستوي ومن ينطق بالحكمة والفهم والعدل، وهو أيضا يسير على طريق الحق والصواب.
- (هل يستوي) استفهام إنكاري، والمقصود به الإنكار على المشركين الذين يسوون بين الخالق الحق الذي يأمر بالعدل والحق، وبين الأصنام البكم التي لا تنطق بحرف، ولا تقدر على تحقيق أمر لأحد، وإنما هي عالة على من يصنعها، ومن ينصبها، فهي بلا سدنتها لا شيء، وإذا طلب منها أمر لا تأت بخير، بل الضرر في توجيهها إلى أمر ما؛ لأنه طلب إلى الأصنام، وهذا الشرك بعينه.
- (هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل) ذكر الضمير (هو) ولم يأت النص بدونه "هل يستوي ومن يأمر بالعدل"؛ تأكيدا على سوء حال الأبكم، وعلى بعد الفرق بين المنطيق الحكيم الصالح، وبين الأبكم العاجز الغبي، كأن الآية تقول: هل يستوي هذا الأبكم المنصوص على عجزه وغبائه (ومن يأمر بالعدل)، فإن الضمير (هو) تأكيد للضمير المستتر.
- (ومن يأمر بالعدل) الفعل المضارع (يأمر) يدل على تجدد قول الحق من هذا الناطق، والعدل إنما هو الحق والصواب، فهو ناطق، وزيادة على نطقه حكيم ينطق بالحكمة، وأيضا يمارس هذا الخير، وليس أمره بالعدل واقعة قد مضت، كما أن عجز الأبكم ليس واقعة قد مضت، بل إن عجزه متجدد (لا يقدر على شيء) (لا يأت بخير)، وذلك لدلالة الفعل المضارع (يقدر) و (يأت).
- بينت الآية أسوأ حالة للأبكم، وبينت في المقابل أحسن حالة للناطق، وأحسن حالة للناطق هي أن يأمر بالعدل، وهو الحق، ولذا فإن أعلى أعمال اللسان على الإطلاق هو النطق بالحق، ويندرج تحت النطق بالحق: الدعوة إلى التوحيد والذكر والخير والعدل والنصيحة، وغير ذلك من صور الحق.
- (وهو على صراط مستقيم) وهذا الآمر بالعدل يسير على صراط مستقيم في تحقيق الخير، لا كالأبكم يسير على طريق معوج؛ لأنه لا يفهم شيئا، ولا يملك حكمة.
- لماذا قدم ذكر مثل الأبكم على الناطق؟
قدم مثل الأبكم على الناطق؛ لأن سياق الآية منصب على إنكار رفع الأصنام عن الحضيض الذي هي فيه، ومنصب على بيان عجز الأصنام، وليس منصبا على بيان عظمة الله، مع أن الآية تبين الأمرين، وللتوضيح أقول: المعنى الرئيسي في الآية هو إنكار تعظيم الأصنام ومساواتها بالله سبحانه وهي لا شيء، وليس المعنى الرئيسي تفصيل جوانب عظمة الله سبحانه وتعالى، ولذا قدم ذكر مثل الأبكم العاجز إمعانا في انتقاص الأصنام.
- لماذا قدمت الآية السابقة (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء) الآية (٧٥) على هذه الآية (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء) الآية (٧٦)، وبصيغة أخرى:
- لماذا قدم مثل "العبد والحر" على مثل "الأبكم والناطق"؟
قدم مثل "العبد والحر" على مثل "الأبكم والناطق"؛ لأن مثل "العبد والحر" منتشر في بيئة مكة والعرب في ذلك الزمن أكثر من انتشار حالات البكم، فإن العبيد في مكة كانوا بالمئات، والأحرار فوق ذلك، بينما البكم قد لا يتعدون أشخاصا معدودين، ومن الأساليب التعليمية في إيصال المعلومة: الابتداء بالأوضح قبل الواضح، وبالأظهر قبل الظاهر، فحالة "العبد والحر" يعايشها كل من في مكة، بينما حالة "الأبكم والناطق" يعرفها من في مكة ولكن لا يعايشونها معايشة حالة "العبد والحر".
ولذا ضرب القرآن في البداية مثلا يعايشه العرب قاطبة بشكل يومي متكرر، ثم ضرب المثل الآخر الذي لا يعايشه كل العرب كالمثل الأول؛ لأن الإقناع هو المقصود بالمثل، فكلما عايش الإنسان المثل كان أكثر تأثرا به.
(ولله غيب السموات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير) (٧٧)
المفردات:
- أمر الساعة: شأن يوم القيامة.
- لمح البصر: توجيه النظر إلى الشيء المراد بسرعة.
المعنى الإجمالي:
أنكرت الآيتان السابقتان شرك الكفار بضرب مثلين ظاهرين بينين واضحين، وجاءت هذه الآية لتهدد الكفار وتتوعدهم، فإن الله سبحانه يعلم كل ما يفعله الكفار في السر والعلن؛ لأن الله يعلم غيب السموات والأرض، ولا يظنن ظان أن العقاب بعيد الحصول، لا؛ فإن الساعة من سرعة وقوعها إذا أرادها الله ليست كخطف النظرة بل هي أسرع حصولا، وإن عقاب الكفار على شركهم واقع لا محالة؛ لأن الله على كل شيء قدير فلا يعجزه شيء البتة.
المعنى التفصيلي:
- (ولله غيب السموات والأرض) أي أن الله يعلم كل ما غاب عنا في السموات والأرض، وبالأولى يعلم كل ما ندركه ونشهده أيضا.
- وفي قوله تعالى (ولله غيب السموات والأرض) تهديد للكفار بأن ما تفعلونه من الأعمال الشركية كلها يعلمه الله، ولن يفلت عمل واحد من أعمالكم بلا حساب وعقاب.
- الواو في قوله تعالى (ولله) استئنافية، وقدم الجار والمجرور (ولله) للحصر، أي أن الغيب لا يعلمه إلا الله، واللام للملك.
- (غيب السموات والأرض) الغيب ما غاب عن حواسنا، وتقدم ذكر السموات على الأرض؛ لأن السموات أعظم من الأرض، وما في السموات أكثر مما في الأرض، فقدم ذكر السموات وما فيهن، من باب التدرج من الأعلى للأدنى.
- (ولله غيب السموات والأرض) ولم يأت النص " ولله علم غيب السموات والأرض"؛ أي أن الغيب كله لله علما وملكا.
- الواو في قوله تعالى (وما أمر الساعة) للعطف، ووجه العطف أن الله يعلم ما يفعله الكفار؛ لأنه يعلم الغيب ويعلم الشهادة بالأولى، وأيضا يملك معاقبة الكفار على ما يفعلونه متى شاء، في أسرع ما يتصوره البشر.
- (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر) أي سرعة قيام الساعة عند إرادة الله تكون بسرعة لمح البصر، ولمح البصر هو اختلاس البصر بسرعة، وهذه السرعة هي أقل سرعة يعرفها العرب زمن الوحي؛ فمن أمثالهم: أسرع من العين، ومن طرف العين، ومن لمح البصر، وأسرع من اليد إلى الفم.
- (إلا كلمح البصر أو هو أقرب) ليس المقصود بـ (أو) الشك، ولكن المقصود به تكوين صورة ذهنية عند السامع عن سرعة قيام الساعة عند إرادة الله سبحانه وتعالى.
فأمر الساعة مشبه، ولمح البصر مشبه به، ووجه الشبه سرعة الحصول، فجاء الحرف (أو) للإضراب؛ ليقول لنا إن وجه الشبه في المشبه أقوى منه في المشبه به، أي أن السرعة في الحصول في أمر الساعة أقوى منها في لمح البصر.
وهذا كقوله تعالى (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة.... ) (البقرة: ٧٤) فالمعنى هو تكوين صورة ذهنية عند السامع عن شدة قسوة قلوب هؤلاء العاصين من بني إسرائيل، وليس المعنى تعيين مقدار القسوة من الناحية المادية العلمية المجردة، وإنما هو أسلوب تعبيري يبين شدة قسوة قلوب هؤلاء العاصين.
- لماذا جاء قوله تعالى في سورة القمر (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) (القمر: ٥٠) بدون (أو هو أقرب)، بينما جاء قوله تعالى في هذه الآية مع (أو هو أقرب)؟
السبب في ذلك أن آية النحل هذه جاءت تهديدا مباشرا للكفار بعد ضرب مثلين على بطلان شركهم، فناسب ذلك التعبير بقوة عن سرعة حصولها، بجعل صفة سرعة الحصول في أمر الساعة أقوى منه في لمح البصر، أما آية القمر فسياقها في سياق بيان مع تهديد للكفار، ولكنه ليس بشدة التهديد في هذه الآية.
- (إن الله على كل شيء قدير) فيه تحذير للكفار لما يعملونه، أي أن الله قدير على حسابكم وعقابكم، وأكدت الجملة بـ (إن)، زيادة في تهديد الكفار.
(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) (٧٨)
المفردات:
- الأفئدة: جمع: فؤاد، والفؤاد هو: القلب، ومعناه - هنا - الإدراك.
المعنى الإجمالي:
توعدت الآية السابقة المشركين على ما هم فيه من الشرك، وتتابع هذه الآية عرض الأدلة على أن الله سبحانه هو الخالق وحده، وأنه المستحق للعبادة وحده.
فالله وحده هو الذي أخرجنا من بطون أمهاتنا بعد أن خلقنا من نطفة، وأخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا، ولكنه سبحانه علمنا ما ينفعنا، وجعل لنا السمع والأبصار والعقول؛ لندرك بها ما حولنا، وما كل ذلك إلا لنشكره وحده على ما أنعم علينا.
المعنى التفصيلي:
- (والله أخرجكم) الواو للعطف على (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) (٧٢)؛ حيث تكمل هذه الآية عرض الأدلة الموجبة لعبادة الله وحده عن طريق بيان خلق الله وقدرته.
ويذكر بعض المفسرين أن هذا العرض يبدأ من الآية (٦٥) من قوله تعالى (والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون)، ولكن الصحيح أن عرض الأدلة الموجبة لعبادة الله وحده عن طريق بيان خلق الله وقدرته بدأت من أول السورة من قوله تعالى:
(خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون (٣) خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين (٤) والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون (٥) ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون (٦))
وآيات سورة النحل إنما هي لإقامة الأدلة على توحيد الله عن طريق عرض صور عظيم خلقه سبحانه وتعالى، وعن طريق رد مزاعم أهل الشرك وإبطالها، وعن طريق توعد المشركين بالعذاب.
- (والله أخرجكم) جاء لفظ الجلالة مبتدأ وخبره جملة فعلية، من باب الاختصاص، وبتعبير آخر: إن قلنا "وأخرجكم الله" لا يدل على اختصاص الإخراج بالله سبحانه كما يدل عليه قوله تعالى (والله أخرجكم)، فمعنى (والله أخرجكم) هو أن الله وحده من أخرجكم من بطون أمهاتكم، وليس هناك من يفعل هذا غيره.
- (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم) الإخراج في اللغة ضد الإدخال، وكلنا يعلم معنى أن الله هو من أخرجنا من بطون أمهاتنا، ولكن ليس معنى الإخراج - فقط - هو مجرد خروج الطفل من بطن أمه عن طريق ما جعل الله في جسم الأم من قدرة لدفع مولودها إلى الخارج، لا، ليس هذا هو المراد فقط؛ لأنه لا بد أن نعلم أن الأم قد تدفع مولودها إلى الخارج فيخرج ميتا، ولكن المراد من ذلك هو إخراجه من بطن أمه بحياة مستقلة عن أمه؛ لأن من النساء من لا تلد إلا بعملية جراحية، ويكون الإنسان هو من أخرج المولود من بطن الأم، ولم يخرج المولود بصور طبيعة، فالإخراج - هنا - ليس هو - فقط - مجرد خروج الطفل من بطن أمه، ولكن المراد من ذلك هو إخراجه من بطن أمه بحياة مستقلة عن أمه، فما أن يخرج المولود إلا ويستقل بحياة خاصة، فيتنفس باستقلالية عن أمه، ويهضم الطعام، وتعمل أجهزة جسمه باستقلالية عن التبعية التي كانت تعمل به وهو في بطن أمه.
- (من بطون أمهاتكم) والمقصود بالبطون: الأرحام؛ وذكر البطن؛ لأنه مكان الرحم، ويصدق على المولود أنه خرج من رحم أمه أو خرج من بطنها.
- قد يرد سؤال: من هي الأم في مسألة اسئتجار الرحم؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من بيان معنى استئجار الرحم، وحكمه بشكل موجز.
أما عن معنى استئجار الرحم، فمعناه أن امرأة لا يثبت الحمل في رحمها تلجأ إلى امرأة أخرى، فتلقح بويضتها مع زوجها وتزرع في رحم المرأة الأجنبية.
وأما عن حكم هذا العمل، فهو عمل ظاهر الحرمة أن تدخل امرأة فرجها نطفة رجل أجنبي أو امرأة أجنبية، قال تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون (٥) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (٦) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (٧)) (المؤمنون)
ولكن لنفرض أن هذا وقع، فمن هي الأم؟
الأم هي من ولدت، وهذا مستنبط من قوله تعالى (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم) فالتي يخرج المولود من بطنها هي الأم، وهناك آية أخرى تدل على هذا، وهي قوله تعالى (إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم) (المجادلة: ٢) أي ما الأم إلا التي ولدت.
أما بالنسبة للأم صاحبة البويضة، فإنما يحرم عليها كما يحرم بالرضاع؛ لأن كون البويضة منها فإنما هو أمر أظهر من الرضاع، لأن ذات المولود مكون من بويضتها، وليس أن جسمه غذي بلبنها فقط.
- جملة (لا تعلمون شيئا) حال من الضمير في (أخرجكم)، فالمولود عند خروجه من بطن أمه لا يعلم شيئا، وما يفعله المولود من الصراخ ومصه اللبن من ثدي أمه، إنما هذا من الفطرة لا من العلم؛ لأن العلم كسبي؛ لأنه لا علم إلا بتعلم.
و (شيئا)؛ يدل على النفي العام لأي علم عند هذا المولود.
- (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) أي علمكم سبحانه وتعالى عن طريق ما جعل لكم من منافذ المعرفة.
وجاء التعبير بالجار والمجرور (لكم) مع تقديمه؛ للدلالة على العناية والرعاية.
- ولكن لماذا الترتيب بين السمع والأبصار والأفئدة؟
لعل الترتيب بين السمع والأبصار والأفئدة إنما هو ترتيب إيجاد، فأول ما يدرك به المولود هو السمع، وبعدها بفترة البصر؛ لأن الإدراك بحاسة الإبصار عنده في أيامه الأولى غير مكتملة بعد، ثم تتكون عنده - بعد ذلك - الإدراكات الأخرى من مفاهيم وأحاسيس ومعرفة، وهذا التعقل إنما هو الفؤاد.
- ولكن هل عطف جملة (وجعل لكم) على (أخرجكم) يدل على أن خلق السمع للطفل كان بعد خروجه من بطن أمه؟
العطف لا يدل على أن خلق السمع للمولود كان بعد خروجه من بطن أمه؛ بل العطف عطف خبر على خبر، وليس للترتيب، وذلك لأن الجنين حين يولد تكون حاسة السمع عنده قد اكتملت.
وقيل: إن تقديم السمع على البصر لأن مركز السمع في الدماغ متقدم على مركز البصر، بينما الفؤاد وهو مركز الإدراكات إنما هو في داخل الدماغ، ولذا أخر ذكره.
وقالوا: أما الآذان وهي من أعضاء السمع فإنما أخر ذكرها عند ذكر الأعين؛ لأن الأعين متقدمة عليها في الرأس، قال تعالى (ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (الأعراف: ١٧٩).
قلت: وهذا القول فيه نظر؛ لأن الآية بأكملها (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (الأعراف: ١٧٩).
فهل تقديم ذكر القلب على الأعين يدل على أن مكان القلب متقدم على مكان العين، أقول: لا، بل التقديم جاء لأمور أخرى، وهذه الأمور تفهم من خلال سياق كل آية، ولو أردت أن أجمع الآيات التي ذكر فيها السمع والبصر أو العين والأذن، وأدرس سياق كل آية وأتكلم عنها؛ لخرج الأمر عن الحد المقبول ضمن هذا البحث؛ لأن المقصود هو تفسير الآية (٧٨) من سورة النحل.
لماذا إفراد "السمع" وجمع "الأبصار"؟
قيل: أفرد السمع لأنه مصدر، والأصل فيه الإفراد، أما الأبصار فإنما هي اسم ومفردها بصر.
وهذا غير صحيح؛ لأنه قد ورد في المعاجم اللغوية كـ "الفائق" للزمخشري، و" القاموس المحيط" للفيروزأبادي، وغيرهما أن البصر مصدر، يقال: بصر - أو بصر - بصرا. ويجوز في المصدر الجمع والإفراد، ولذا لا مانع من جمع "السمع".
ويبقى السؤال قائما؟
وقد قرأت معلومات عن دماغ الإنسان، فسر بها بعض المفسرين المعاصرين سبب إفراد "السمع" وجمع "الأبصار"، ولكن هذه المعلومات لا يؤمن عليها من التغيير؛ لأنها لم ترتق لتكون قواعد علمية بدهية مسلمة، حتى نفسر بها القرآن، أما أن نفسره اليوم بمعلومة علمية ثم نغير التفسير مع تغيير المعلومة، فهذا أمر بعيد عن الصواب.
ولكن قد نقول: إن مما يدركه الواحد فينا أننا لا نستطيع أن نسمع لشخصين يقصان قصتين مختلفتين في نفس الوقت؛ لأن صوت كل واحد منهما يشوش على صوت الآخر، ولذا فهو "سمع" بالإفراد.
بينما نستطيع أن نرى عدة أشياء في وقت واحد، فإننا ننظر إلى سيارة زرقاء اللون، وإلى زجاجها الأسود، دون أن يشوش النظر إلى لون السيارة على النظر إلى لون الزجاج، ولذا فهو "أبصار" بالجمع.
- (لعلكم تشكرون) هذه النعم التي أنعمها الله علينا لهي أكبر حافز لنا على شكره جل في علاه، وشكر الله إنما يكون بعبادته وفق ما أراد، نعبده موحدين له، طائعين لشرعه.
وختمت هذه الآية التي تتحدث عن السمع الأبصار والأفئدة باستحقاق الشكر لله؛ لأنها نعم نستخدمها في كل ساعة، بل في كل لحظة، لأن من النعم ما لا يستخدمه الإنسان إلا في أوقات متفرقة، بينما هذه النعم لا تفارقنا لا في الليل ولا في النهار، فهي أدعى أن تذكرنا بشكر خالقنا على ما أنعم علينا، وانظر في الآيات الأخرى التي تتكلم عن هذه النعم، انظر فيها كيف أنها تدعونا إلى شكر الله سبحانه وتعالى؛ قال تعالى:
(وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) (المؤمنون: ٧٨)
(ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) (السجدة: ٩)
(قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) (الملك: ٢٣)
(ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) (٧٩)
المفردات:
- مسخرات: مذللات.
- جو: الفراغ الذي فوق الأرض.
- يمسكهن: يحفظهن من الوقوع.
- آيات: علامات.
المعنى الإجمالي:
وتتابع الآيات بيان عظيم خلق الله الدال على أنه المستحق للعبادة وحده، وينكر الله على الكفار تعاميهم عن آية عظيمة دالة على كمال قدرته وعظيم خلقه، وهي آية طيران الطيور التي تحلق في السماء، وترتفع هذه الطيور في الجو، ولولا حفظ الله لهذه الطيور لسقطت، ولكنها محفوظة لما أودعه الله سبحانه في هذه الطيور، ولما أودعه الله في عناصر هذا الجو من خصائص.
وهذا الأمر الذي يراه الكفار ولا يتعظون به، أما المؤمنون فلهم به آيات، لا آية واحدة؛ لأنهم يحرصون كل الحرص على الإيمان.
المعنى التفصيلي:
- (ألم يروا) هذا الاستفهام إنما هو استفهام إنكاري، فكأن الكفار لا يرون هذه الطيور التي تحلق في السماء، لأنهم لو كانوا يرونها، فإنهم سيستدلون بها على استحقاقه سبحانه وتعالى للعبادة وحده.
- وقرأ جمهور القراء بالغيبة (يروا)؛ وذلك إعراضا عن المشركين؛ لأن أسلوب الآية السابقة هو أسلوب الخطاب (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم.... لعلكم تشكرون) (٧٨)
وقرأ ابن عامر وحمزة (تروا) بتاء الخطاب على نفس أسلوب الآية السابقة؛ وذلك توبيخا للمشركين.
- المقصود بقوله تعالى (الطير) كل ذي جناح يسبح في الهواء، ولا يدخل في مقصود الآية ما تعارف عليه الناس من التقسيمات العلمية الحديثة للطيور، لأنهم يدخلون الدجاج في مفهوم الطير، والمقصود بالآية ما يطير في الهواء ويسبح، قال تعالى (... ولا طائر يطير بجناحيه... ) (الأنعام: ٣٨)
- (مسخرات) اسم مفعول من الفعل "سخر"، فالطير مذللة لأن تطير، ومنقادة لأن تسبح في الهواء، فطيران هذه المخلوقات وتحليقها في الجو إنما هو بسبب تسخير الله هذه الحيوانات لتكون طائرة.
- (في جو السماء) الجو هو الفضاء الذي فوق الأرض، وهو ما يطير فيه الطير من الهواء القريب من الأرض، وفسره بعض أهل اللغة والتفسير بالهواء، ولا بد من الإشارة إلى أنهم لا يقصدون بالهواء هذه الرياح التي تحتوي على الأكسجين، وإنما يقصدون به هذا الفراغ السماوي، وهو ما يعرف بالفضاء؛ لأن الهواء - كما في المعاجم اللغوية - كل فارغ فهو هواء، قال تعالى (وأفئدتهم هواء) (إبراهيم: ٤٣) أي: فارغة خالية، وقد ظن بعض المفسرين أن الهواء هو الغازات الموجودة في الغلاف الجوي، وهذا ليس صحيحا.
- وأضيف الجو إلى السماء؛ لأن جو الشيء داخله، يقال: جو البيت، أي: داخله، فمعنى (جو السماء) أي: الفراغ السماوي؛ وإضافة الجو إلى السماء يدل على علو هذا الفراغ.
- (ما يمسكهن إلا الله) فلا يحفظ الطير عن السقوط إلا حفظ الله وحده؛ لأنه هو الإله الحق، وأما غيره، فلا شأن له بهذا الحفظ؛ لأنه لا شأن له في الألوهية.
- وتوحيد الله في حفظ الطير لا ينفي أن الله سبحانه خلق سننا في الكون تحفظ الطير عن السقوط، أما ما يتعلق به الماديون من أن الأسباب المادية هي التي تحفظ الطير، فنقول لهم: إن الذي خلق الأسباب كلها هو الله سبحانه، والفاعل الحقيقي هو الله خالق الأسباب والمتصرف فيها.
وأكبر مثال هذه الطائرات التي صنعها الإنسان بما آتاه الله من العلم، إنما تطير وتحلق بالسماء بما أودعه الله في الأشياء من خصائص، فالله هو الحافظ بما أودع من خصائص، ولولا هذه الخصائص المودعة، لم يطر طائر ولم ترتفع طائرة.
- ولكن لماذا جاء التعبير بلفظ الجلالة (الله) في هذه الآية (ما يمسكهن إلا الله)، بينما جاء التعبير باسم الله (الرحمن) في سورة (الملك: ١٩) (ما يمسكهن إلا الرحمن)؟
جاء التعبير بلفظ الجلالة (الله) في هذه الآية (ما يمسكهن إلا الله)؛ لذكر التسخير في الآية (مسخرات)، ومثل هذا قوله تعالى:
(ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض... ) (الحج: ٦٥)، (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض.. ) (لقمان: ٢٠)، (الله الذي سخر لكم البحر... ) (الجاثية: ١٢) بينما لم يقترن التسخير باسم (الرحمن)، وقد تتبعت ذلك في القرآن، وذلك لما في التسخير من القهر، وهذا لا يتناسب وذكر الرحمة، بل يتناسب وذكر لفظ الجلالة (الله) الذي يدل على الألوهية والتسخير والتصرف.
ولذا جاء التعبير في سورة (الملك: ١٩) (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير) فجاء التعبير عن الطير بما يفعل (صافات ويقبضن) وجاء التعبير في سورة النحل بقهر الطير وتسخيره لا بفعله (مسخرات).
- جاءت جملة (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) غير معطوفة على ما قبلها؛ لأنها جاءت في مقام الجواب عن الذي قبلها (ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله)؛ لأن هذا يثير تساؤلا: أكان عدم الاتعاظ عاما؟ ولذا جاء الجواب بأن الذين آمنوا يتعظون بما يرون.
وهذا ما يسمى في علم المعاني بالفصل لشبه كمال الاتصال، لأن الجملة الثانية وقعت جوابا نتج عن الجملة الأولى فلم تعطف على الأولى.
- (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) (إن) للتأكيد على أن المؤمنين هم من يتعظون، وليسوا مثل الكفار.
- (لآيات) وليس "آية"؛ لأن في خلق جسم الطير مناسبا للطيران آيات، وفي خلق الخصائص المودعة في الجو آيات أخرى.
ومجال معرفة هذه الآيات هو دراسة الأبحاث العلمية عن الطيور وتحليقها، ومن طالع هذا المجال رأى الكثير الكثير من الآيات.
- (لقوم يؤمنون) لماذا يتعظ المؤمنون بما يرون؟
يتعظ المؤمنون بما يرون لأنهم يريدون الله جل في علاه، ويحرصون على الإيمان وعلى ما يزيده، ولذا يرون آيات الله الدالة عليه في كل شيء، حتى تلك الأشياء التي اعتاد البشر رؤيتها، وأغمضوا عيون قلوبهم عن التفكر فيها.
ومن عجيب الأمر أن قوم موسى - عليه السلام - انبهروا بما رأوا من خلق الحية من العصا، ولو تفكروا لرأوا ذلك في أبنائهم الذين يخلقون من النطف، ولرأوا ذلك في الدجاجة التي تخرج من البيضة الميتة.
فعلينا أن نتفكر فيما حولنا مما اعتدنا رؤيته، فإن اعتياد رؤية الشيء لا يلغي الاعتبار به، وإنما يتعامى من يتعامى، أعاذني الله وإياك من ظلمة القلب!
(والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين) (٨٠)
المفردات:
- سكنا: استقرارا وسكينة.
- تستخفونها: تجدونها خفيفة.
- الأنعام: الإبل والبقر والغنم والمعز.
- يوم ظعنكم: يوم ترحالكم وسفركم.
- أثاثا: متاع البيت الكثير.
- متاعا: انتفاعا.
المعنى الإجمالي:
وتتابع الآيات بيان عظيم خلق الله الدال على استحقاقه للعبادة، فالله سبحانه وتعالى وحده من جعل لنا من بيوتنا مكان راحة واستقرار وسكينة، وجعل لنا من جلود الأنعام بيوتا متنقلة، نستفيد من خفتها في السفر والحضر، فننقلها بسهولة كما نشاء، ونرفعها بسهولة - أيضا - وقت نشاء.
وجعل لنا سبحانه وتعالى من أصواف الغنم وأوبار الإبل وأشعار المعز أثاثا لبيوتنا من أردية وأغطية وأكسية وفرش وزينة، ولنا فيها - أيضا - متاع نتمتع به ولكن إلى وقت معلوم، وزمن محدد.
المعنى التفصيلي:
- الواو في قوله تعالى (والله) للعطف، أي ومن نعمه سبحانه وتعالى عليكم أيضا، أن جعل لكم من بيوتكم سكنا.
- (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا) أي هو وحده سبحانه وتعالى الذي جعل لكم من بيوتكم سكنا، ولم يشاركه أحد، فكيف تشركون بالله سبحانه وهو المنعم وحده؟!
ولو قلنا في غير التنزيل "وجعل الله لكم" لما أفادت ما أفادته الآية من التعظيم لقدرة الله، ومن تخصيص تفرده بالتصرف بالخلق، وأنه ليس له شريك سبحانه.
- (جعل) لها عدة معان، ومعناها هنا هو: إيجاد شيء من شيء وتكوينه منه، كما في قوله تعالى (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) فالأزواج لم تخلق ابتداء بل جعلت من أنفسنا.
وتأمل معي - بارك الله فيك - في قوله تعالى (والله جعل لكم مما خلق ظلالا) (النحل: ٨١) فالله سبحانه وتعالى خلق الأشياء وخلق الظلال، ولكن خص إيجاد الظلال بـ "جعل"؛ لأنه إيجاد شيء من شيء، حيث أوجد الظلال من إيجاد الأشياء، وفي هذه الآية (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا)، حيث أوجد الله لنا السكن من إيجاد البيوت.
وقد يطلق الخلق على الجعل أيضا، قال تعالى (خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) (النساء: ١)
- وذكر (لكم) مع أنه معلوم من السياق؛ للامتنان، ولبيان كمال العناية الربانية بالخلق، وأنهم رغم كل هذه العناية فهم يشركون بالله سبحانه وتعالى.
- (من بيوتكم سكنا) أصل البيت: المكان الذي يؤوى إليه بالليل؛ يقال "بات"، أي: أقام بالليل، و "ظل"، أي: بالنهار.
ويطلق على البيت هذا الاسم دون اعتبار للإقامة به ليلا، ولكن في بيان أصل الكلمة بيان لدقة التعبير بها في السياق القرآني، فأحوج ما يكون الإنسان للمأوى في الليل، ولذلك فإن التعبير بالبيت يشير إلى فائدة الإيواء إليه ليلا والاحتماء به عن الشرور والأخطار، لما في الليل من انتشارها.
- أصل السكن: ثبوت الشيء بعد تحرك. ونحن إذ نثبت في بيوتنا فإنما ذلك بعد انتقال وأعمال.
وللسكن في هذه الآية معنيان: الأول: السكون والراحة، والثاني: بمعنى المفعول، أي مكان يأوي إليه الإنسان.
وكلا المعنيين: السكن النفسي والسكن المادي واردان في سياق سكن البيوت، وليس واحد منهما فقط، بل هما معا، ولأجل ذلك قال تعالى (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم) ولم يذكر أمر السكن فيها؛ لأنها بيوت للإيواء المادي فقط، والميزة فيها سهولة الانتقال بها وسهولة إقامتها، أما بيوت الحضر المبنية فهي للسكن المادي والنفسي معا، ولذا فإنه يعتنى فيها بكل وسائل الراحة، لأن المقصود منها ليس فقط السكن المادي، وإنما أيضا السكن النفسي، والذي هو الراحة والاستقرار والأمان.
- وقد يقال: إن بعض الناس لا يستطيعون أن يتحصلوا على السكن المادي ولا النفسي في بيوتهم، وذلك لأسباب، كالحروب وانعدام الأمن، والمشاكل الزوجية، فما المقصود من إطلاق السكن على البيوت؟
المقصود هو كلا المعنيين: السكن النفسي والسكن المادي، وهذا هو الأصل في البيوت، وما كان غير ذلك فهذا خلاف الأصل لظروف استثنائية، كما أن الله سبحانه يمن علينا بنعمة البصر والسمع والكلام والأزواج والذرية، ومن الناس من لا يملك هذه النعم، ولكن الغالب من أحوال البشر أنهم يملكونها، فالخطاب على وفق الغالب.
- ولكن كيف جعل الله لنا من بيوتنا سكنا ونحن الذين نبنيها؟
جعل الله سبحانه لنا من بيوتنا سكنا ونحن الذين نبنيها؛ بأن خلق لنا كل ما تبنى به البيوت، وألهمنا وعلمنا كيف نبنيها، ولولا هذا الإيجاد وهذا التعليم لما استطعنا أن نبني بيوتا لتكون سكنا لنا، وإنما هي رحمة الله وإيجاده وخلقه.
- (من) في قوله تعالى (من بيوتكم سكنا) إما أن تكون بيانية أو ابتدائية، فإن كانت بيانية فإن السكن هو البيت، أي السكن هو الموضع الذي تسكنونه، فيكون التقدير: جعل لكم سكنا وهو بيوتكم.
وإن كانت "من" ابتدائية، فتكون البيوت شيء غير السكن، ويكون السكن ناشئا عن البيوت، كقوله تعالى (وما بكم من نعمة فمن الله... ) (النحل: ٥٣) (من الله) أي أن النعمة ناشئة عن الله وواصلة إلينا منه جل جلاله.
وكون "من" ابتدائية أظهر؛ لأن الامتنان في هذه الآية هو بنعمة السكن الناشئة من نعمة البيوت، وليس بالبيوت فقط، فهما نعمتان، نعمة ناشئة عن نعمة.
والامتنان بالنعمة الناشئة "السكن"، يتضمن الامتنان بالنعمة التي نشأت عنها "البيوت"، ولذا لم تأت الآية " جعل لكم من الحجر بيوتا ".
- قدم الجار والمجرور (من بيوتكم سكنا) لبيان أن هذا الجعل أمر عجيب، وعجيب هذه النعمة أنها ناشئة عن بيوتنا، ولو كان النص في غير التنزيل: "والله جعل لكم سكنا من بيوتكم" لكان الامتنان بالسكن دون بيان أن هذا الجعل أمر عجيب.
- (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا) قدم الجار والمجرور؛ لأن الامتنان بالبيوت والجلود، مع بيان عجيب هذه النعمة وأنها ناشئة عن جلود الأنعام.
- ويقاس على هذا الجعل كل هذه الصناعات والاختراعات التي عملها الإنسان، من المذياع والتلفاز والهاتف المتنقل، والهاتف الثابت، والكهرباء، وذلك بأن نقول:
" والله جعل لنا من المغناطيس كهرباء تنير لنا، وتدفئنا، ولنا فيها منافع أخرى، وجعل الله لنا من المعدن والبلاستيك هاتفا نحمله نتكلم به مع من بعد مكانه عنا كأنه عندنا، نسمع كلامه ويسمع كلامنا "
وعلى هذا فقس بارك الله فيك؛ فنحن وما نصنع كلنا خلق الله (قال أتعبدون ما تنحتون (٩٥) والله خلقكم وما تعملون (٩٦)) (الصافات).
- (تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم) أي تجدون هذه البيوت المصنوعة من جلود الأنعام، تجدونها خفيفة في الترحال والإقامة.
- وقدم ذكر الترحال على الإقامة (يوم ظعنكم ويوم إقامتكم)؛ لأن الحاجة إلى هذه البيوت الخفيفة في السفر أعظم منها في الإقامة.
- خصت البيوت المبنية بأنها سكن دون البيوت المصنوعة من جلود الأنعام؛ لأن الميزة في جلود الأنعام هي خفتها لا السكن؛ ولأن بيوت الجلد لا تحمل معاني السكن التي تحملها البيوت المبنية.
- (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا) أي أن الله سبحانه جعل من أصواف الغنم، ومن أوبار الإبل، ومن شعر المعز أثاثا، والأثاث هو متاع البيت الكثير، من أغطية وبسط ووسائد وغير ذلك من أثاث المنزل المصنوع من هذه الأشياء.
- وأصل الأثاث في اللغة من أث الشيء إذ كثر.
- (ومتاعا إلى حين) أي جعل الله سبحانه لنا من الصوف والوبر والشعر ما ننتفع به، وهذا الانتفاع له أمد وينتهي، وأجل وينقضي، واختلف في تحديد الحين، أهو الموت أم إلى حين الاستهلاك والبلى؟
وعلى كل فإن المتاع ليس بدائم على كل وجه، ولذا تأمل - بارك الله فيك - في هذه الآيات التي ذكرت التمتع كيف أنها قيدته بأنه غير دائم، وما ذلك إلا لأن الإنسان في غمرة التمتع قد يغفل عن مصيره، وقد يظن بأن هذا التمتع دائم.
قال تعالى:
(ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) (البقرة: ٣٦) (الأعراف: ٢٤)
(فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) (يونس: ٩٨)
(إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين) (يس: ٤٤)
(فآمنوا فمتعناهم إلى حين) (الصافات: ١٤٨)
- الأثاث من زمرة المتاع، فلماذا ذكر أولا ثم ذكر المتاع (أثاثا ومتاعا إلى حين)؟
ذكر الأثاث أولا مع أنه من زمرة المتاع؛ لأن سياق الآية عن البيوت، فناسب الكلام في البداية عن ما يخصها، ثم ذكر العام، وهو المتاع من باب بيان عموم النعمة.
(والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) (٨١)
المفردات:
- ظلالا: جمع ظل، ويقال لكل موضع لا تصل إليه الشمس.
- أكنانا: جمع كن، وهو ما يحفظ فيه الشيء، ومعناه هنا: الكهوف ونحوها.
- سرابيل: جمع سربال، وهو اللباس.
- تقيكم: تحفظكم وتحميكم.
- بأسكم: شدتكم في الحرب.
- تسلمون: تنقادون.
المعنى الإجمالي:
وتتابع الآيات بيان عظيم خلق الله الدال على استحقاقه للعبادة، فالله سبحانه وتعالى وحده من جعل لنا الظلال التي تقينا حر الشمس، وجعل لنا الكهوف ونحوها في الجبال لنأوي إليها عند الحاجة.
وجعل لنا الملابس التي نحفظ بها أجسادنا من أن تصاب بأذى الحر، وجعل لنا الدروع التي نلبسها لتحمينا من ضربات السيوف وطعنات الرماح ورمي السهام.
وكما أن الله سبحانه وتعالى أتم علينا نعمه هذه، يتم علينا نعمه بنعمة الدين التي تبين لنا الحق من الباطل؛ لعلنا نستسلم لأمر الله ونوحده ونقوم بما أمرنا به.
المعنى التفصيلي:
- الواو في قوله تعالى (والله) للعطف، أي ومن نعمه سبحانه وتعالى عليكم أيضا، أن (جعل لكم مما خلق ظلالا).
- وانظر تفسير الآية السابقة لمعرفة الفرق بين (والله جعل لكم) وبين قولنا "وجعل الله لكم "، ولمعرفة معنى (جعل)، والفرق بينها وبين "خلق"، ولمعرفة دلالة (لكم)، ولمعرفة دلالة تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى (مما خلق ظلالا) و (من الجبال أكنانا).
- لماذا قدم ذكر الوقاية من الحر على الوقاية من البأس في قوله تعالى (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم)؟
قدم ذكر الوقاية من الحر على الوقاية من البأس؛ لأن أذى الحر في الصحراء حدث يومي، يحتاج الإنسان الوقاية منه في كل ساعة من النهار، بينما الحروب لا تكون إلا في وقائع قليلة، وكذلك، فإن الوقاية من الحر يحتاجه كل واحد من الذين يعيشون في الصحراء، من صغير وكبير، ورجل وامرأة، وشيخ وعجوز، بينما دروع الحرب لا يحتاجها إلا المقاتلون؛ فقدم ما يحتاج إليه أكثر، وأخر ما تقل الحاجة إليه.
- لماذا لم تذكر الحماية من البرد في قوله تعالى (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم)؟
لم تذكر الحماية من البرد؛ لأن القرآن في بداية الأمر يخاطب عربا يعيشون في الصحراء، وهم يقاسون إذ يقاسون حر الشمس، وأما البرد فهو نادر أيما ندرة!
وأما غير العرب من الذين يقاسون البرد، فما عليهم إلا أن يقيسوا الحماية من البرد على الحماية من الحر، أي كما أن الله سبحانه جعل لنا ما يقينا الحر، فقد جعل لنا ما يقينا البرد.
- ما المناسبة بين ذكر البيوت في الآية السابقة، والظل والأكنان واللباس في هذه الآية؟
الآية السابقة تتكلم عن نعمة البيوت التي نحتمي فيها عن ما يؤذينا، وتتابع هذه الآية بيان ما يحتمي به الإنسان من الأذى، فالظل يحمينا من أذى الشمس، وهو مسكن مؤقت، وكذلك نحتمي في كهوف الجبال، وأيضا فإن في الملابس التي نلبسها حماية لنا من الأذى، سواء الحر أو البرد، أو أذى القتال والحروب.
- ولكن لماذا ذكرت البيوت أولا؟
ذكرت البيوت أولا في سياق ما يحمي الإنسان؛ لأنها ذات الحظ الأعظم في حمايته من الأذى، ففيها الظلال والدفء والأمان، ووسائل الراحة الجسدية والنفسية.
- لماذا ذكرت الظلال أولا ثم الأكنان ثم الألبسة؟
ذكرت الظلال أولا ثم الأكنان ثم الألبسة؛ لأن نفع الظلال عام لكل الناس، فعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال:
اتقوا اللعانين، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟
قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم (مسلم: ٣٩٧)
والشاهد من الحديث أن الظل مما يأوي إليه الناس هربا من حر الشمس.
وكذلك موسى عليه الصلاة والسلام اتخذ الظل مأوى له من حر الشمس (فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) (القصص: ٢٤)
وبعد ذكر الظلال ذكرت الأكنان؛ لأن الذين يحتمون بالأكنان أقل عددا من الذين يحتمون بالظلال.
ثم ذكر الاحتماء بالملابس بعد ذلك؛ لأنها ملحقة إلحاقا بالبيوت والظلال والأكنان، لوجود معنى المسكن فيها؛ فكأن الإنسان يأوى إلى ملابسه ليحتمي من البرد والحر وشدة الحرب.
- (كذلك يتم نعمته) إتماما مثل ذلك الإتمام، فالكاف في (كذلك) للتشبيه، و"ذا" اسم إشارة، واللام للبعد، والكاف للخطاب.
أي أن الله سبحانه يتم عليكم نعمة الدين، كما أتم عليكم النعم المادية المحسوسة.
- (لعلكم تسلمون) تستخدم "لعل" للترجي، وهي هنا للرغبة، أي أن الله سبحانه أنعم علينا بنعمة الدين رغبة في انقيادنا وفق أوامره تعالى، وما ذلك إلا لينعم الله علينا النعمة العظمى، نعمة الجنة، جعلنا الله من سكانها! آمين آمين!
(فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين) (٨٢)
المفردات:
- تولوا: أعرضوا.
- البلاغ: إيصال الخبر.
- المبين: الواضح.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة نعم الله الموجبة لتوحيده وعبادته، جاءت خاتمة الآية السابقة ببيان أن نعمة الدين هي تمام نعم الله، وما أنعم الله علينا بنعمة الدين إلا لنسلم لرب العالمين (كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون).
وهذه الآية تسلية وتأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم، لئلا يصاب النبي ﷺ بالحزن والغم بسبب إعراض الكفار عن نعم الله، فأخبره الله سبحانه وتعالى بأنك يا محمد معذور لا تكلف إدخال الإيمان إلى قلوب العباد؛ لأنه ليس عليك إلا البلاغ الواضح.
المعنى التفصيلي:
- الفاء في قوله تعالى (فإن تولوا) للتفريع، أي بناء على أن الله سبحانه أتم نعمته ببيان الدين، فلا تحزن لإعراض الكفار بعد البيان، فأنت معذور.
- (تولوا) فعل ماض، وقيل: يحتمل أنه فعل مضارع "تتولوا" حذفت التاء الأولى، مثل "تذكرون" و " تتذكرون"، و"تنزل" وتتنزل".
ولكن الظاهر أن الفعل هو فعل ماض؛ وانظر معي في سياق هذه الآية مع الآية السابقة على فرض أنه فعل مضارع (كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن) تتولوا (فإنما عليك البلاغ المبين)، حيث جاء الفعل المضارع "تتولوا" موجها للكفار بمعنى التهديد، ولكن لا يوجد جواب شرط يناسب هذا التهديد.
وأما القول بأن (تولوا) هو فعل ماض، فهو المناسب للسياق؛ لأن الآية خطاب للنبي ﷺ تسلية له، وهذا يناسب أن يخبر عن الكفار بأسلوب الغيبة (تولوا) ومع النبي ﷺ بأسلوب الخطاب (عليك)، فهو خطاب مع النبي مباشرة دون حواجز من أساليب الخطاب.
- (تولوا) أصل مادة "ولي" القرب، و"تولى" إن عدي بنفسه - أي أخذ مفعولا به دون الحاجة إلى حرف - دل على الولاية والقرب، نقول: تولى الأمر، وإذا عدي بـ "عن" صار معناه البعد، نقول: تولى عن الأمر، أي تركه وابتعد.
ولكن ما الفرق بين "أعرضوا" و"تولوا"؟
أعرض عنه: أظهر له عرضه، إذ تركه. ولكن "تولى عنه " فيها زيادة معنى عن الإعراض؛ لأن التولي عن الشيء يقتضي الإعراض عنه، ويقتضي فوق الإعراض البعد.
وخلاصة القول: إن الفعل "تولى" ينبئ عن البعد زيادة عن الإعراض.
أي يا محمد لو أعرض الكفار عن الحق وزادوا بأن تولوا عنه، فأنت معذور، إذ ليس عليك إلا البلاغ فقط.
- (فإنما عليك البلاغ المبين) جواب للشرط (فإن تولوا)، والمفهوم من قوله تعالى (فإنما عليك البلاغ المبين) أي أنت معذور؛ لأنك لا تكلف إدخال الإيمان إلى قلوب العباد، فيصبح معنى الآية: فإن تولى الكفار عن الدين فأنت معذور لأنه ليس عليك إلا البلاغ.
- استدل بعض الجهلاء بقوله تعالى (فإنما عليك البلاغ المبين) على أن عمل النبي ﷺ إنما هو البلاغ فقط، ولذا فليس القتال من أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم، وتناسوا كل النصوص التي تبين وظائف النبي ﷺ الأخرى، من حكمه للمسلمين وقضائه، وإقامة الحدود، وإعلان الجهاد.
ولكن كيف يفهم هذا القصر (فإنما عليك البلاغ المبين)؟
القصر في اللغة يأتي بمعنى التخصيص، وينقسم إلى قصر حقيقي، وقصر إضافي.
ومثال القصر الحقيقي "لا إله إلا الله" أي لا معبود بحق إلا الله، وهذه حقيقة مطلقة سواء ذكرت مفردة، أو كانت في أي سياق أو أي موضوع.
والقصر الإضافي ليس قصرا حقيقيا عاما من جميع الوجوه، بل جاء قصرا بالإضافة إلى السياق والموضوع.
ومثاله (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم.... ) (آل عمران: ١٤٤) فالقصر (وما محمد إلا رسول) إضافي؛ لأن للنبي ﷺ صفات أخرى غير أنه رسول، فهو عربي وزوج وأب، ولا يشترط في النبي أن يكون عربيا أو زوجا أو أبا، فمن الأنبياء من ليس عربيا ومنهم من لم يتزوج أو يرزق ذرية، ولكن هذا القصر جاء بالإضافة إلى الموضوع، فهو قصر إضافي وليس مطلقا عاما.
وموضوع الآية هو الرد على من يستبعدون أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم، والرد هو (وما محمد إلا رسول) كمن سبقه، يموت كما مات من سبقه.
وقوله تعالى (فإنما عليك البلاغ المبين) قصر إضافي بالنسبة إلى الموضوع، والموضوع هو تسلية النبي ﷺ بسبب تولي الكفار عن الحق، فأخبره الله بأنك لا تكلف إدخال الإيمان في قلوبهم، بل عليك البيان.
- (فإنما عليك البلاغ المبين) رسالة إلى الدعاة بأن لا يصابوا باليأس من قلة المستجيبين ولا بالقنوط من قلة السامعين، ولا بالحزن من كثرة الهالكين، بل عليهم أن يستمروا على ما هم عليه من البلاغ.
- (البلاغ المبين) ليعلم الدعاة أن مطلق البلاغ لا يكفي، بل لا بد أن يكون بلاغا واضحا، تقام بمثله الحجة، فيبلغ عامة الناس بما يناسبهم من البيان والأسلوب، ويبلغ خاصتهم وعلماؤهم بما يناسبهم، وبغير هذا لا يكون البلاغ مبينا.
(يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون) (٨٣)
المعنى الإجمالي:
بينت الآية السابقة أن النبي - ﷺ - ليس مؤاخذا بما يفعله الكفار من التولي عن دين الله، ولكن لماذا يتولى الكفار عن دين الله ولا يؤاخذ النبي ﷺ بكفرهم؟
لا يؤاخذ النبي - ﷺ - بكفرهم؛ لأنهم يعرفون نعمة الله عليهم ولكنهم ينكرونها، أي ينكرون أن تكون هذه النعم دالة على استحقاقه للعبادة وحده جل في علاه. وأكثر هؤلاء المشركين، إنما أتى إنكارهم عن جحود وعناد لا عن جهل.
المعنى التفصيلي:
- جاءت جملة (يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها) غير معطوفة على ما قبلها؛ لأنها جاءت في مقام الجواب عن الذي قبلها (فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين) وهذا ما يسمى في علم المعاني بالفصل لشبه كمال الاتصال، لأن الجملة الثانية وقعت جوابا نتج عن الجملة الأولى فلم تعطف على الأولى.
والبيان الناشئ عن الآية السابقة، هو أن النبي - ﷺ - معذور لتولي الكفار عن دين الله؛ وذلك لأن النبي - ﷺ - أقام الحجة عليهم بالبلاغ، فعرفوا نعم الله، ولكنهم أنكروها من عند أنفسهم.
- لماذا جاء التعبير بـ (يعرفون)، وليس "يعلمون"؟
جاء التعبير بـ (يعرفون)، وليس "يعلمون"؛ لأن مقابل (يعرفون) (ينكرون)، ومقابل "يعلمون" "يجهلون"، والآية إنما جاءت لسياق إنكار الكفار نعم الله.
وأيضا فإن معنى (يعرفون) هو تمييز نعمة الله عن طريق العلامات المميزة، أي أن المعرفة هي العلم الظاهر الذي يستطيعون به تمييز النعمة أنها من الله لا من الأصنام أو غير ذلك.
ذكر بعض العلماء فروقا بين "العلم" و"المعرفة"، ولكن منهم من اعتمد على المعاني الاصطلاحية، كاصطلاح العالم والعارف، وأراد أن يبين الفرق بينهما في القرآن بناء على هذا الاصطلاح الحادث، وهذا شيء عجيب.
ولا أريد أن أعرض هذه التعريفات فهذا أمر يطول، ولكن لنقف سويا أمام كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لنلاحظ الفرق بين "المعرفة" و"العلم ":
قال تعال (يعرف المجرمون بسيماهم.... ) (الرحمن: ٤١)
أي يميز المجرمون عن غيرهم بالعلامات المميزة، وهذا علم سطحي ظاهري.
وكذا قوله تعالى (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم.... ) (الأعراف: ٤٦) فأهل الأعراف يميزون أهل الجنة بالعلامات الدالة عليهم كبياض وجوههم وغير ذلك، ويميزون أهل النار بسواد وجوههم أو غير ذلك.
وأهل الكتاب يميزون النبي ﷺ بصفاته والعلامات الدالة عليه (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم... ) (البقرة: ١٤٦)
وعن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون قالوا إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا (البخاري: ١٩)
وفي هذا الحديث فرق بين المعرفة والعلم، فالمعرفة هي علم بالظواهر المميزة (حتى يعرف الغضب في وجهه) والعلم معرفة بدقائق الأمور (إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)
وقال أبي بن كعب رضي الله عنه فقال أخذت صرة مئة دينار فأتيت النبي ﷺ فقال عرفها حولا فعرفتها حولا فلم أجد من يعرفها... (مسلم: ٢٢٤٨)
(عرفها) أي: اذكر من الصفات ما يميزها.
- التعبير بالمضارع (يعرفون) و (ينكرونها) يدل على أن المعرفة مستمرة باستمرار النعم، والإنكار مستمر باستمرار المعرفة.
- قيل معنى "النعمة" هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: النعم المادية المحسوسة.
والصحيح أن هذا كله مقبول؛ لأن الآية جاءت في سياق آيات النعم الدالة على استحقاق الله للعبادة وحده، لأن نعمة "الدين" قد ذكرت ضمن نعم الله (كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) (النحل: ٨١)، ويلزم عن كون "الدين" نعمة أن يكون "النبي" نعمة أيضا؛ لأنه سبب تبليغنا هذه النعمة.
- التعبير بالمفرد (نعمة) من باب الجنس، أي أن معنى (نعمت الله) أي جنس نعمة الله، ولكن لماذا لم يأت التعبير بالجمع "نعم الله"؟
قد يقال: إن المراد هو جنس النعم، وهذا يستوي فيه الجمع والمفرد؛ لأن المراد هو الجنس.
ولكن قد يقال أيضا: إن الكفار لا يعرفون كل نعم الله، بل يعرفون بعضها (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) (النحل: ١٨)؛ ولأنهم لا يعرفون كل النعم كان في التعبير عن الجنس بالمفرد إشارة إلى ذلك.
- حرف (ثم) في قوله تعالى (ثم ينكرونها) ليس للبعد الزمني بين المعرفة والإنكار، بل للبعد الرتبي بين رتبة المعرفة ورتبة الإنكار؛ لبيان أن البعد بينهما عظيم، إذ تقتضي المعرفة أن يشكر أصحابها لا أن ينكروا، وهذا من باب بيان عجيب تفكير المشركين.
- (ينكرونها) أي ينكرون أن تكون هذه النعم موجبة لعبادته وحده سبحانه وتعالى، أي أن معنى ينكرونها هو: لا يشكرون الله رغم ما يعرفون؛ لأن النعم موجبة للشكر من جهة الإنعام والفضل، وموجبة للشكر - أيضا - من جهة دلالتها على استحقاق الله سبحانه وتعالى للعبادة وحده.
- ومن صور إنكار نعمة الله التي بقيت حاضرة في قلوب بعض المسلمين، هي اعتمادهم على الأسباب بأنها هي الفاعل الحقيقي، فيقول أحدهم: أنا من علم أبنائي، ولولا عنايتي بهم لضاعوا. ولا يستحضر في قلبه أن هذا من توفيق الله سبحانه وتعالى.
بل أذكر حادثة وقعت في يوم من الأيام، حيث ذهبت لأهنئ أحدهم بنجاحه في الثانوية العامة، فقلت له: مبارك نجاحك، وهذا من فضل الله عليك. فغضب، وظن أنني أقدح بقدراته وقال: أنا نجحت باجتهادي.
فقلت له: أنك اجتهدت وتعبت، ولكن من فضل الله أن أعطاك العقل وحبب إليك العلم، ويسر لك الظروف المناسبة، وأنا إذ قلت ما قلت لم أنقص من قدر اجتهادك، ولكن أردت أن أذكرك بنعمة الله عليك، لأن بعض الناس يغفلون عن استحضار نعمة الله عليهم في نشوة الفرحة.
- (وأكثرهم الكافرون) لماذا جاء التعبير عن الذين لا يشكرون الله ولا يعبدونه ويشركون به بالأكثر (وأكثرهم) علما بأن كل من لا يعبد الله كافر؟
قيل: لأنه كان فيهم الصبي وناقص العقل، فأراد بالأكثر؛ البالغين الأصحاء.
ولكن هذا مناقش بأن الصبي ومن لا يعقل ليسوا مكلفين، فلا ينسب إليهم إنكار نعمة الله؛ لأن إنكار نعمة الله كفر.
وقيل: ذكر الأكثر وأراد الجميع؛ لأن أكثر الشيء، يقوم مقام الكل.
وهذا مناقش بأنه بعيد؛ لأن التعبير بالأكثر لا يكون بمعنى الكل لا للفظا ولا معنى، ويعصم عن مثل هذا كلام البشر، فكيف كلام الله؟؟!! فلو قال بعض الناس: وأكثر. ثم قال: أردت بالأكثر الكل. لم يقبل ذلك منه.
وقيل: أراد بالكافرين من سيموتون على الكفر.
وهذا مناقش بأن أكثر أهل مكة لم يموتوا كفارا بل دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة.
والأظهر أن المراد بالكافر: الجاحد المعاند، لأن في أهل مكة من لم يكن معاندا، بل جاهلا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون معنى الآية: وأكثرهم كافرون جحودا ومعاندة، وبعضهم كافرون لعدم اتضاح الصورة أمام عيونهم بعد؛ ولذا دخل من دخل الإسلام من قريش كلما لاح له النور، فاليوم عبد الله بن مسعود، واليوم حمزة بن عبد المطلب، وبعدهم عمر بن الخطاب، وهؤلاء الصحابة - رضي الله عنهم - لم يكونوا معاندين جاحدين قبل دخول الإسلام، بل كانوا جاهلين، ولذا فما أن ظهر لهم النور إلا اتبعوه، وهؤلاء من استثناهم الله سبحانه ممن بقي على الشرك ولم يؤد العبادة لله شكرا على نعمه.
- وجملة " وأكثرهم الكافرون " حال من الواو في " ينكرونها "، أي يا محمد أنت معذور لأن الكفار هم من اختار إنكار نعمة الله، بل زيادة على هذا، فإن أكثر هؤلاء منكر عن جحود وعناد لا عن جهل.
(ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون) (٨٤)
المفردات:
- نبعث: نرسل.
- شهيدا: شاهدا، وهو نبي كل قوم.
- يؤذن: يسمح.
- يستعتبون: يسترضون.
المعنى الإجمالي:
هذه الآية تكملة لسياق تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يخبره الله سبحانه وتعالى أن المشركين الذين (يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها... ) (النحل: ٨٣) سيجزون يوم القيامة جزاء كفرهم.
فالله سبحانه وتعالى سيخرج من كل أمة من الأمم نبيها ليشهد عليها، وبعد شهادته لا يسمح للكفار أن يعتذروا، ولا يسترضون، فقد فات الأوان، وحان الهوان.
المعنى التفصيلي:
- الواو (ويوم نبعث) استئنافية، و (يوم) مفعول به لفعل محذوف تقديره: اذكر، أو: خوفهم.
وتقدير الفعل بـ "اذكر" أنسب في السياق؛ لأن السياق سياق تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتقدير الفعل بـ "خوفهم" فإنما يكون في سياق الإرشاد والأمر لا في سياق التسلية.
- التسلية في هذه الآية وفق سياق الآيات هي: إنك يا محمد معذور، ولا تحاسب على كفرهم، لأنك لا تكلف إلا البلاغ المبين، وأيضا فهم معاندون إذ يعرفون نعمة الله ثم يشركون، فلا تحزن يا محمد واذكر يوم يبعثون في الآخرة، حيث إن لهم الجزاء العظيم، والعذاب الأليم.
- التعبير بالجمع (نبعث) للتعظيم؛ لأنه أمر عظيم لا يقدر عليه إلا العظيم سبحانه وتعالى.
- (نبعث) أصل البعث في اللغة: الإثارة، ويختلف معناه وفق السياق، ففي قوله تعالى (... والموتى يبعثهم الله... ) (الأنعام: ٣٦) يكون معنى البعث: إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم وتسييرهم إلى المحشر.
وفي هذه الآية (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا) يكون معنى (نبعث) هو: نرسل يوم القيامة النبي ليشهد على قومه.
- (من كل أمة شهيدا) قدم الجار والمجرور (من كل أمة)؛ لأن المقصود أصالة في هذا السياق هو أن كل أمة سيشهد عليها، ولو قلنا في غير التنزيل "نبعث شهيدا من كل أمة " لصار المقصود أصالة من النص هو أن الشهيد سيكون متعددا بتعدد الأمم. وهذا ليس المقصود أصالة في هذه الآية، بل المقصود هو تسلية النبي بأن كل أمة سيشهد عليها وأمتك من ضمنهم، ولذا سيحاسب المكذبون على ما هم فيه، وليس المقصود هو الكلام على تعدد الشهداء، وأنهم أكثر من شهيد، وأن عددهم بعدد الأمم.
- (شهيدا) شاهدا، وهو نبي كل قوم.
- ولكن الله لا يحتاج إلى معاون لإقامة الحجة على الكافرين، فلماذا الشهداء؟
الله أعلم بما يفعل وهو لا يسأل، ولكن فيما يبدو لنا أن الله سبحانه يشهد الأنبياء على أقوامهم؛ إكراما للأنبياء، وخزيا للكفار؛ بأن الذي كنتم تحتقرونه وتكفرون به وتستهزئون، إنما هو من ستكون شهادته سببا في دخولكم النار.
- (ثم لا يؤذن للذين كفروا) (ثم) حرف عطف، وهو للتراخي الرتبي لا الزمني، فأمر شهود نبيهم عليهم عظيم، والأعظم منه عدم السماح لهم أن يتكلموا فيعتذروا، ؛ لأن النبي قد يشهد على قومه، ولكن إذا سمح للكفار أن يعتذروا ويسترضوا ربهم فلا مشكلة عندهم، ولا تشكل شهادة نبيهم عليهم خطرا؛ لأنهم في هذه الحالة سوف يرضون ربهم بالاعتذار وينتهي الأمر.
- (ولا هم يستعتبون) الواو للعطف، أي لا يؤذن لهم بالاعتذار، وأيضا فإنهم لا يسترضون.
- جاء النص بذكر الضمير المنفصل (هم) من باب التهديد لهم، فلو جاء النص " ولا يستعتبون " من دون ذكر (هم)، لدل على أن الذين لا يستعتبون هم الكفار؛ لأن الإظهار في سياق يكفي فيه الإضمار إنما يكون لتأكيد المعنى.
- (ولا هم يستعتبون) أي لا يسترضون، وهو من العتبى بمعنى الرضى، أي لا يسترضون بأي شيء، كإدخالهم الجنة، أو إعطائهم فرصة أخرى بالرجوع إلى الدنيا، أو غير ذلك.
وقال بعض أهل العلم: (يستعتبون) أي يطلب إليهم أن يرضوا ربهم إما بالقول وإما بطلب الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا.
ولكن كون معنى (يستعتبون) أي: يطلب رضاهم، أرجح من جهة السياق من معنى: يطلب إليهم أن يرضوا ربهم؛ لأن قوله تعالى (ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون) يشتمل على أمرين اثنين:
الأول: (لا يؤذن للذين كفروا) أي بالاعتذار.
والثاني: (ولا هم يستعتبون) أي: ولا يطلب رضاهم.
ولكن لو قلنا: إن المعنى: لا يطلب إليهم أن يسترضوا ربهم، لكان إعادة لمعنى الجملة التي قبلها (لا يؤذن للذين كفروا) بالاعتذار، وعلى هذا يكون المعنى: لا يؤذن للكفار أن يعتذروا كي يرضوا ربهم، ولا يطلب إليهم أن يرضوا ربهم، وكلا الأمرين مفادهما الاعتذار.
أما لو كان المعنى (ولا هم يستعتبون) أي: ولا يطلب رضاهم، لكان السياق متوافقا، أي لا يسمح لهم بالاعتذار من جهتهم، ولا يرضون من جهة ربهم.
وأيضا من غير الصحيح أن يكون معنى (ولا هم يستعتبون): لا يطلب إليهم أن يسترضوا ربهم؛ لأن من لا يسمح له بالاعتذار لا يطلب منه الاعتذار، إذ لم يقبل اعتذارهم وقد كان من تلقاء أنفسهم، فكيف يطلب الاعتذار طلبا؟!!
- ولقائل أن يقول: كيف يرضيهم الله وهو سبحانه لم يسمح لهم بالاعتذار؟
أقول: عدم السماح بالاعتذار قد يوهم بعض الناس أنه بسبب أن الله راض عنهم ولا يريد اعتذارهم، ألا ترى - ولله المثل الأعلى - أن الابن قد يخطئ فيأتي ليعتذر لأبيه، فيشفق عليه الأب، فيقول له: لا أريد منك الاعتذار. وإنما كان ذلك شفقة من الأب ورحمة؛ لأنه سامح ابنه على ما كان منه، فحتى لا يظنن ظان أن عدم السماح للكفار إنما هو لرضى الله عنهم، جاء نفي إرضائهم أيضا.
(وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون) (٨٥)
المفردات:
- ينظرون: يمهلون.
المعنى الإجمالي:
وتتابع هذه الآية سياق التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد بينت الآية السابقة ما يحل بالكفار من الخزي في المحشر، حيث يشهد عليهم أنبياؤهم ولا يؤذن لهم بالاعتذار، وبعد موقف الكفار في المحشر يساقون إلى النار، فإذا رأوا العذاب واقعا بهم طلبوا التخفيف، ولكن هيهات هيهات، وكذلك لا يؤخرون عن العذاب ولا يمهلون.
المعنى التفصيلي:
- (وإذا رأى) الواو للعطف، أي بعد الموقف العظيم في المحشر وما نال الكفار من الخزي، فإنهم إذا رأوا العذاب....
- (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب) جاء التعبير بـ (الذين ظلموا) مع أن الإضمار مفهوم " وإذا رأوا العذاب " لبيان سبب استحقاقهم العذاب؛ لأنهم ظالمون بشركهم وكفرهم.
- (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب) سألوا الله سبحانه وتعالى أن يخفف عنهم
- (فلا يخفف عنهم) "لا يخفف" خبر لمبتدأ محذوف تقديره "هو"، وجملة "فهو لا يخفف عنهم" جواب للشرط (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب).
وإنما قدر المبتدأ "هو"؛ لأن جواب الشرط حين يكون مضارعا، لم يحتج إلى فاء، كقوله تعالى (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر) (الحج: ٧٢)، ولكن يجوز اقتران الفعل المضارع بالفاء في جواب الشرط، وحينئذ يكون الفعل المضارع خبرا لمبتدأ محذوف، وعلى هذا فجواب الشرط جملة اسمية.
- (ولا هم ينظرون) الجملة معطوفة على ما قبلها، أي لا يخفف عن الكفار ما هم فيه من العذاب، وكذلك لا يؤخرون ولا يمهلون، بل العذاب قائم بهم دائم عليهم.
- الضمير المنفصل (هم) في قوله تعالى (ولا هم ينظرون) زيادة في تأكيد أن إمهال الكفار ممتنع، لأن الإظهار في سياق يكفي فيه الإضمار إنما يكون لتأكيد المعنى.
- الكفار لا يدركون خطورة نتيجة ما قاموا به إلا عندما يرون العذاب واقعا بهم، ومن لا يدرك خطورة عمله إلا عندما يرى النتائج فذلك أحمق.
(وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) (٨٦)
المعنى الإجمالي:
وهذه الآية تكملة لتسلية النبي - ﷺ - ببيان حال مكذبيه يوم القيامة.
فإذا رأى المشركون بالله يوم القيامة ما كانوا يعبدون من أصنام وأوثان قالوا: يا ربنا هؤلاء هم شركاؤنا، فقد كنا نعبدهم من دونك، فينطق الله المعبودين، فيكذب المعبودون المشركين في دعواهم؛ لأنهم لم يشاركوا المشركين ما هم فيه من الشرك، وإنما اتخذهم المشركون من تلقاء أنفسهم، لذا؛ فلا شأن لهم في قضية الشرك من قريب أو بعيد (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون (٥) وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين (٦)) (الأحقاف)
المعنى التفصيلي:
- (وإذا) الواو للعطف، أي: ومن الفظائع التي ستقع للمشركين أن يتبرأ منهم المعبودون. و (إذا) ظرف للزمن المستقبل متضمن معنى الشرط، وجوابه (قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك).
- ذكر قوله تعالى (الذين أشركوا) في قوله تعالى (وإذا رأى الذين أشركوا) ولم يكتف بالضمير العائد على ما في الآية السابقة؛ لأن الإظهار في موضع الإضمار لتأكيد المعنى.
وثانيا: فإن المذكور في الآية السابقة (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون (٨٥)) هم (الذين ظلموا)، وذكرهم في سياق استحقاق العذاب مناسب؛ لأن للظلم صورا كثيرة؛ ولأجل هذه الصور الكثيرة استحق الظالمون العذاب، بينما هذه الآية تتكلم عن تبرؤ المعبودين ممن أشرك مع الله وعبدهم، ولذا ناسب وصفهم بـ (الذين أشركوا)؛ لأن الشرك نوع من الظلم، فذكر الجانب الأخص في التعبير.
- (شركاءهم) أي الذين عبدهم الكفار دون الله سبحانه وتعالى، وأضيفوا إلى الكفار؛ لأنهم اتخذوهم شركاء من تلقاء أنفسهم ولم يأمرهم الله بهذا، وليس لأنهم شركاء حقيقيون.
- (قالوا) أي: المشركون (ربنا هؤلاء شركاؤنا)، وهذا القول إنما يقوله المشركون عندما يرون شركاءهم؛ ظنا منهم أن يعفو الله سبحانه عنهم ويحول العذاب إلى الشركاء، أو أن يخفف عنهم العذاب، ويقسمه بينهم وبين شركائهم.
- (ربنا): منادى منصوب، أي: يا ربنا، والدعاء بـ (ربنا) لما لكلمة "الرب" من معاني الرعاية واللطف.
- (شركاؤنا) أي الذين عبدهم المشركون من دون الله، وأضيف الشركاء إلى الكفار؛ لأنهم هم من اتخذهم من دون الله من تلقاء أنفسهم.
- (الذين كنا ندعو من دونك) (الذين) نعت للشركاء، أي صفة هؤلاء الشركاء هم (الذين).
- جاء التعبير عن الأصنام وغيرهم من الشركاء بصيغة جمع العقلاء (هؤلاء) (الذين)؛ لأن المشركين اعتقدوا أنهم عقلاء، أو لأن فيهم من هو من جنس العقلاء، فعبر عنهم تغليبا.
- (ندعو) أي نعبد، وجاء التعبير بالدعاء لأنه من أبرز أنواع العبادة، ولذا جاء حديث النبي ﷺ دالا على هذا المعنى (إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ (ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) (غافر: ٦٠) وهو حديث صحيح، رواه (أحمد: ١٧٦٢٩) (الترمذي: ٢٨٩٥) (أبو داود: ١٢٦٤) (ابن ماجه: ٣٨١٨).
- (فألقوا) أي الشركاء هم من ألقى القول، والفاء للتعقيب؛ للدلالة على سرعة الرد، وعبر عن الشركاء بجمع العقلاء مشاكلة لما يعتقده الكفار، أو لأن فيهم من هو من جنس العقلاء، فعبر عنهم تغليبا.
- (فألقوا) أي قالوا لهم، وألقيت إليه كذا، أي قلت له كذا.
- ما دلالة كلمة (ألقوا) في قوله تعالى (فألقوا إليهم القول)؟
بعد التتبع لتصاريف مادة " لقي" في القرآن، والوقوف على معانيها في المعاجم، والنظر في دلالة الإلقاء مع القول، وجدت أن لمادة "لقي" ثلاثة معان ذكرها ابن فارس في (مقاييس اللغة)، منها: النبذ والطرح، وهو المعنى المتفرع عنه في هذه الآية، أي أنهم ردوا بقوة ووضوح، كأن القول شيء يطرح على من أمامه، وهذا يبين قوة القول وأنه ذو شأن.
ويأتي الإلقاء مع غير القول على سبيل المثال: (يلقون السمع وأكثرهم كاذبون) (الشعراء: ٢٢٣) (أو ألقى السمع وهو شهيد) (ق: ٣٧) (وألقيت عليك محبة مني) (طه: ٣٩) (تلقون إليهم بالمودة) (الممتحنة: ١) (وألقوا إلى الله يومئذ السلم) (النحل: ٨٧)
وتجتمع المعاني من ناحية الأصل، ولكن السياق يوجه المعنى توجيها يتوافق معه، ليبرز المعنى بلون مختلف مع اتحاده مع أصله من ناحية المادة المكونة.
- وجملة (إنكم لكاذبون) تفسيرية للقول الملقى، أي قال الشركاء للمشركين (إنكم لكاذبون) بدعواكم أننا شركاؤكم، بل هذه أسطورة أنشأتموها وحدكم، وليس لنا فيها أي شأن.
واكد القول بتأكيدين، الأول: إن (إنكم)، والثاني: اللام المزحلقة (لكاذبون).
(وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون) (٨٧)
المفردات:
- السلم: الاستسلام والانقياد.
- وضل عنهم: غاب عنهم.
- يفترون: يكذبون.
المعنى الإجمالي:
وبعد أن كذب المشركون ممن كانوا يتخذونهم آلهة من دون الله، استسلموا لأمر الله وانقادوا صاغرين، وقد غاب عنهم كل ما كانوا ينسجونه من الأكاذيب من أن آلهتهم المزعومة ستنصرهم، أو غير ذلك من الأكاذيب التي اعتمدوا عليها في شركهم.
المعنى التفصيلي:
- (وألقوا) الواو للعطف، أي بعد أن كذب المعبودون من دون الله المشركين، ألقى المشركون الاستسلام والخضوع.
- (يومئذ) تعريض بهم أنهم لم يكونوا منقادين لحكم الله في الحياة الدنيا.
- (السلم) الاستسلام، وأصل مادة "سلم" من الصحة والعافية، وهذا ما قاله ابن فارس في (مقاييس اللغة)، والاستسلام هو طلب العافية عن طريق الانقياد.
- ما دلالة (ألقوا) في قوله تعالى (وألقوا إلى الله يومئذ السلم)؟
أصل معنى الإلقاء - هنا - هو الطرح والنبذ، والمقصود به كمال الذل، فهم لم يستسلموا فحسب، بل كأن استسلامهم شيء محسوس أظهروه وزيادة في إظهاره ألقوه إلى خصومهم، كالذي يستسلم ومعه سلاحه، فإنه يستسلم ويلقي سلاحه أرضا؛ إتماما لاستسلامه.
- (وضل عنهم) ضل أي ضاع، أي أنه غاب عنهم فلم يجدوه، ولكن من هذا الذي غاب عنهم فلم يجدوه؟
إنه الذي (كانوا يفترون)، فـ (ما) في قوله تعالى (ما كانوا يفترون) اسم موصول في محل رفع فاعل.
- (يفترون) أي يدعون الكذب، وهذا الادعاء متعمد، لأن أصل الافتراء "القطع"، فهم يفترون على الله الكذب، أي يقطعون به، وليس مجرد تكذيب في سياق التفكير والبحث عن الحق.
والافتراء يستعمل في التعبير عن الكذب، ولكنه ليس هو الكذب، بل استعمل فيه، وانظر إلى قوله تعالى (انظر كيف يفترون على الله الكذب) (النساء: ٥٠) (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) (المائدة: ١٠٣) وغير ذلك من الآيات.
ووجه الشاهد أن الافتراء استعمل في الكذب، ولكنه ليس الكذب؛ لأنهم يفترون الكذب، والافتراء في أصله هو القطع.
- (ما كانوا يفترون) أقوى في الدلالة من " ما يفترون "؛ لما تعنيه "كان" من الوجود، للتنبيه على أنه قد وقع حقا.
وافتراء الكفار يدور حول قولهم: إن لله شركاء، وما يترتب عليه من نصرتهم للمشركين. ألا ساء ما يفترون!!
- الآية مكونة من قسمين، الأول: (وألقوا إلى الله يومئذ السلم)، و القسم الثاني: (وضل عنهم ما كانوا يفترون) ولكن لماذا جاء هذا الترتيب وليس العكس؟
جاءت الآية وفق هذا الترتيب تنبيها على مصيرهم بعد الاستسلام، أي أن الكفار ذلوا وخضعوا واستسلموا، وحتى يخمد كل بصيص أمل في أذهان الكفار، جاء ختم الآية ببيان أن معتقداتهم إنما هي خرافة، وأن أحدا لن ينفعهم، فهم لا أمل لهم البتة.
(الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) (٨٨)
المعنى الإجمالي:
ما زال السياق سياق تسلية للنبي صل الله عليه وسلم، حيث تخبره الآية الكريمة بأن الكفار ليسوا في مستوى واحد من العذاب، بل إن هؤلاء الذين كفروا وزادوا على كفرهم أن صدوا عن سبيل، فإنهم يا محمد سيزاد لهم عذاب آخر فوق العذاب، لأنهم ما كفروا واكتفوا، بل زادوا بأن أفسدوا في الأرض بصدهم عن دين الله.
وفي هذا تسلية للنبي - ﷺ - بأن أئمة الكفر وساداته سيعاقبون العقاب الأشد والأعظم.
المعنى التفصيلي:
- (الذين) الاسم الموصول يدل على العموم، و إن كانت السورة مكية، والآية نزلت بخصوص كفار مكة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذا يندرج تحت هذا اللفظ العام (الذين) كل من كفر وصد عن سبيل الله، مهما يكن جنسه أو جنسيته أو موطنه أو زمنه.
- ما دلالة البدء بالاسم الموصول (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله.. ) وليس الفعل "زدنا الذين كفروا وصدوا... "؟
البدء بالفعل "زدنا الذين كفروا وصدوا... " يدل على زيادة العذاب لمن كفر وصد عن سبيل الله، بينما البدء بالاسم الموصول (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) يدل - أيضا - على زيادة العذاب لمن كفر وصد عن سبيل الله، ولكن فيه تنبيه على فئة جمعت بين الكفر والصد عن سبيل الله، والتنبيه على فئة ما في مقام بيان خزيهم، إنما هو زيادة في خزي هذه الفئة، والتنبيه على فئة ما في مقام المدح، إنما هو زيادة في المدح.
ولتقريب الصورة أضرب مثلا من أمثلة أثر التقديم والتأخير على المعنى، فهنالك فرق بين قولي: أكرمت زيدا. وبين قولي: زيد أكرمته. ففي الأولى "أكرمت زيدا"حصل التنبيه على الإكرام بداية، بينما في الثانية "زيد أكرمته" حصل التنبيه على زيد المكرم بداية.
- (كفروا وصدوا عن سبيل الله) من الكفار من وقع في جريمة واحدة، وهي الكفر فقط، ولكن العناصر النشطة عند الكفار وقعوا في جريمتين، الأولى: الكفر، والثانية: الصد عن سبيل الله، ولأنهم وقعوا في جريمتين اثنتين، وقع عليهم عذابان اثنان.
- (وصدوا) قيل: إن "صد" في الآية فعل لازم غير متعد، صدوا صدودا، أي: أعرضوا، وهذا غير صحيح، لأن الكفر إنما هو إعراض، وإنما استحقوا العذابين لأنهم كفروا أولا، وصدوا غيرهم ثانيا، فـ"صد" في الآية إنما هو فعل متعد، أي: صدوا الناس عن سبيل الله، يقال: صده عن الأمر يصده صدا.
- (وصدوا) قد يقول قائل: إن معنى "الصد" هو: "المنع"؛ لأن المنع هو: أن تحول بين الرجل وبين ما يريد، وهو خلاف الإعطاء.
فيقال له: أصبت ولكن ليس كل المعنى، فـ"الصد" هو: المنع، وزد عليه "الصرف" أيضا، ومعنى: صرف القوم فانصرفوا، أي: أرجعهم فرجعوا، إذن فـ"الصرف" يكون بالتوجيه لشيء آخر.
- (عن سبيل الله) السبيل: الطريق الذي فيه سهولة، يذكر ويؤنث، و (سبيل الله) الطريق الموصلة إلى الله سبحانه وتعالى، وهي دينه.
ويحدد معنى (سبيل الله) في السياق القرآني بالقرائن الدالة على نوعه، فعند ذكر القتل أو القتال مع (سبيل الله) فإنما هو الجهاد، وهكذا، ولولا الخوف من أن يخرج الكلام عن مقصوده، لعرضت كل الآيات التي ورد فيها ذكر (سبيل الله)، وبينت المعنى في كل موطن.
- (وصدوا عن سبيل الله) والكفار إذ يعادون دين الله فهم يمنعون الناس من الالتزام به، وزيادة على هذا يردونهم إلى غير الإسلام، يردونهم إلى العلمانية والاشتراكية والديمقراطية وغير ذلك من الضلال الذي لم ينزل الله به سلطانا، وهذا المنع للناس وهذا الصرف إنما هو ما تعبر عنه كلمة " الصد".
- ولكن لماذا ذكرت جريمة الكفر أولا ثم جريمة الصد عن سبيل الله (كفروا وصدوا)؟
ذكرت جريمة الكفر أولا ثم جريمة الصد عن سبيل الله؛ لأن وجود الكفر في الواقع يكون أولا ثم الصد، فذكر السبب ثم المسبب.
- (زدناهم) الـ"نا" للتعظيم؛ لأن أمر زيادة العذاب في الآخرة لا يكون إلا للعظيم سبحانه وتعالى.
- لماذا جاء التعبير بصيغة الماضي (زدناهم) مع أن الزيادة إنما تكون في الآخرة؟
جاء التعبير بصيغة الماضي (زدناهم) من باب التعبير عن المستقبل بالماضي دلالة على تحقق وقوعه، وأمثاله في القرآن كثير، وأذكر ما ذكرت في تفسير أول كلمة في سورة النحل (أتى)، حيث جاء التعبير بالماضي (أتى) في قوله تعالى) أتى أمر الله (وذلك لأن وضع الماضي موضع المستقبل دلالة على قرب الوقوع وعلى تأكده، كقوله تعالى:) ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة ((الأعراف: ٤٤) وقوله) ونفخ في الصور ((الكهف: ١٠٠) فالفعل "نادى" و"ونفخ" فعلان ماضيان يتحدثان عن أمور مستقبلية؛ للدلالة على تحقق الفعل المستقبلي كأنه وقع.
- (عذابا فوق العذاب) وهذا العذاب كله في الآخرة، لأن العذاب الأول نكرة (عذابا)؛ لأنه لم يكن خاطرا في الذهن، والعذاب الثاني معرف بالألف واللام؛ لأنه معروف في الذهن لكثرة وروده في القرآن الكريم؛ ولأنه وارد في السياق قبل عدة آيات (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون) (٨٥)
- (بما كانوا يفسدون) الباء للسببية، أي بسبب إفسادهم استحقوا زيادة العذاب، و "ما" مصدرية، " ما يفسدون" معناها: إفسادهم.
ودلالة (كانوا) هي التأكيد على وقوع الإفساد منهم؛ لما تعنيه "كان" من الوجود.
- الصد عن سبيل الله إفساد في الأرض، ولكن أصحابه يدعون الإصلاح (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (١١) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (١٢)) (البقرة).
(ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (٨٩)
المفردات:
- نبعث: نرسل.
- شهيدا: شاهدا، وهو نبي كل قوم.
المعنى الإجمالي:
وما زال السياق سياق تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله سيبعث في كل أمة من الأمم نبيهم الذي أرسل منهم شاهدا عليهم، وسيكون محمد - ﷺ - شاهدا على قومه.
وكذلك فإن الله سبحانه أنزل القرآن على محمد - ﷺ - تبيانا لكل شيء تحتاجه أمته لصلاح دنياها وآخرتها، وهدى من الضلال، ورحمة لمن آمن به واتبعه، بل رحمته تتعدى من لم يؤمن، وكذلك أنزله سبحانه وتعالى ليكون بشرى للمسلمين.
المعنى التفصيلي:
- قال كثير من أهل التفسير: هذه الآية تكرير لقوله تعالى (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون) (النحل: ٨٤)، وقالوا: هذا التكرير لتأكيد التهديد.
ولكن قوله تعالى (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون) (النحل: ٨٤) جاء في سياق تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم- بما سوف يحل بالكفار المكذبين من شهادة أنبيائهم عليهم، وبما سوف يلاقيهم من العذاب، وفق ما سبق بيانه في محله، بينما قوله تعالى (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء.... ) (٨٩) هو تشريف للنبي ﷺ بما له من مقام الشهادة، تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله تعالى (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم) ففيه زيادة في المعاني عن الآية (٨٤)، وهو أيضا توطئة لذكر شهادة النبي صلى الله عليه وسلم، ولما جاء من تخصيص الأنبياء عليهم السلام بالبعث (نبعث)، والنبي ﷺ بـ (وجئنا بك).
- الواو (ويوم نبعث) استئنافية، و (يوم) مفعول به لفعل محذوف تقديره: اذكر، أو: خوفهم.
وتقدير الفعل بـ "اذكر" أنسب في السياق؛ لأن السياق سياق تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتقدير الفعل بـ "خوفهم" فإنما يكون في سياق الإرشاد والأمر لا في سياق التسلية.
- (نبعث) النون للتعظيم؛ لأن هذا الأمر عظيم لا يقدر عليه إلا العظيم سبحانه وتعالى.
- (نبعث) أصل البعث في اللغة: الإثارة، ويختلف معناه وفق السياق، ففي قوله تعالى (... والموتى يبعثهم الله... ) (الأنعام: ٣٦) يكون معنى البعث: إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم وتسييرهم إلى المحشر.
وفي هذه الآية (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا) يكون معنى (نبعث) هو: نرسل يوم القيامة النبي ليشهد على قومه.
- جاء النص (نبعث في كل أمة شهيدا) (نبعث في)، بينما جاء النص في الآية (النحل: ٨٤) (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا... ) (نبعث من) وليس "في"، فما الفرق بين النصين؟
لقد بحثت فيما كتب فلم أجد - وفق جهدي - إلا من قال: ليوجد التفنن بين المكررين تجديدا لنشاط السامعين. ومنهم من قال: إن "في" بمعنى "من".
ولكن هنالك فرق بين "من" و"في"، أما أن الحروف يقوم بعضها مكان بعض دون معنى زائد لهذا الاستخدام، هو مما لا يصح؛ لأن كل حرف جاء لأداء معنى، فلا يكون قيام حرف مكان حرف ولا كلمة مكان كلمة إلا لمعنى زائد، عرفه من عرفه، وجهله من جهله.
فالبعث في قوله تعالى (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا.... ) (النحل: ٨٤) هو بمعنى "جئنا" كقوله تعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد... ) (النساء: ٤١) وكمعنى "نزعنا" (ونزعنا من كل أمة شهيدا... ) (القصص: ٧٥)؛ لأن أصل البعث الإثارة.
و قوله تعالى (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا) معناه أن الله يرسل النبي ليكون مقامه في قومه شاهدا عليهم.
أما لماذا استخدم هنا حرف "من" وهنا حرف "في" فبيانه ما يلي:
استخدم حرف "من" في قوله تعالى (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا.... ) (النحل: ٨٤) للدلالة على أن النبي هو من القوم، أي: من أنفسهم، أما في قوله تعالى (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم) فلا حاجة لاستخدام حرف "من" ليدل على أن النبي من القوم، لقوله تعالى (من أنفسهم) مما أغنى عن حرف "من".
ولو قلنا في غير التنزيل " ويبعث الله من كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم" لكان معناه " يبعث الله منهم شهيدا منهم" وهذا ليس من البلاغة.
فـ"في" لا تغني عن "من"، قال تعالى (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) ((البقرة: ١٢٩) فمبعث الرسول فيهم لا يعني أنه منهم؛ لأن معنى (منهم) أي: من أنفسهم.
- (شهيدا) أي من يشهد على الأمم، فالشهداء في هذا السياق هم الأنبياء، ولا يدخل فيهم الملائكة؛ لقوله تعالى (شهيدا عليهم من أنفسهم) والملائكة ليست من جنس الأمم المشهود عليها.
- ما الفرق بين " الشاهد" والشهيد"؟
الشاهد اسم فاعل، والشهيد صفة مشبهة، وتدل الصفة المشبهة على الثبوت، أكثر مما يدل عليه اسم الفاعل، والتعبير عن النبي الذي يشهد على قومه بـ (الشهيد)؛ للدلالة على أنه لا يمارس الشهادة فحسب، بل الشهادة وصف ثابت له.
- قيل: إن المقصود بالشهيد هو أعضاء الإنسان التي ينطقها الله تعالى.
وهذا قول ضعيف؛ لأن قوله تعالى (وجئنا بك شهيدا على هؤلاء) يبين أن المعنى هو: يبعث الله نبيا في كل أمة ليشهد عليها، وأنت يا محمد ستكون شهيدا على هؤلاء الكفار.
ولو كان المقصود بـ (شهيدا) أعضاء البشر، لكان المعنى: ونجعل أعضاء البشر شهداء على كل البشر، ونجعلك أنت شهيدا على هؤلاء.
فانظر - بارك الله فيك - إلى ركاكة المعنى الذي يحفظ عنه كلام البشر، فما بالك بكلام رب العالمين؟!
- (من أنفسهم) فهم ليسوا ملائكة وليسوا خلقا آخر، بل هم منكم يعرفونكم، ويعرفون أحوالكم وأخباركم وأفعالكم وكل شيء عنكم.
- (وجئنا) الواو للعطف، فالنبي - ﷺ - سيشهد على أمته كما يشهد الأنبياء على أممهم.
- و الـ"نا" في (وجئنا) للتعظيم، فالمجيء بالنبي - ﷺ - أمر عظيم لا يقدر عليه إلا العظيم سبحانه وتعالى.
- ولكن لماذا جاء الفعل (نبعث) مضارعا والفعل (جئنا) ماضيا؟
هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذا كانت الآية إبرازا لشرف النبي - ﷺ - في الآخرة، فجاء الفعل الخاص بالأنبياء (نبعث)، والخاص بالنبي ﷺ (جئنا)، لأن فعل "بعث" لا يدل بمجرده إلا على الإرسال والإثارة دون الوصول، بينما الفعل "جاء" يدل على الوصول، فنقول: بعثت زيدا إلى السوق. وهذا البعث لا يدل على الوصول بمجرده إلا بوجود قرينة دالة على وصول زيد إلى السوق، أما قولنا: جاء زيد السوق. يعني أنه وصل.
ولذا ما سبق من أن البعث لا يلزم منه الوصول، والمجيء يلزم منه الوصول، فتخصيص المجيء للنبي ﷺ يدل على أنه التشريف؛ للتنصيص على قمة مقام الشهادة، وهو قيام النبي مقام الشهادة، بينما الأنبياء بعثوا إلى الشهادة، وهم سيقومون مقام الشهادة، إلا أنه لم ينص على ذلك في هذا السياق تكريما للنبي صلى الله عليه وسلم.
- وجاء النص (وجئنا بك) وليس " وجئت "؛ لأن معنى " جئت ": وصلت وحدك، أما (وجئنا بك) فمعناه: أحضرناك، والمجيء بأحد من الناس ليس كبعثه، قال تعالى (وجيء يومئذ بجهنم.... ) (الفجر: ٢٣) فعن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) (مسلم: ٥٠٧٦) والزمام: الحبل الذي يسحب به.
فالنبي ﷺ يجاء به، والذين يجيئون به هم الملائكة، فهو موكب ملائكي يحضر النبي صلى اله عليه وسلم، والإحضار في مقام التشريف تعظيم للتشريف، وفي مقام الإدانة تعظيم للإدانة، وما إحضار النبي - ﷺ - ليشهد على قومه إلا مقام تشريف.
ولا يفهم أحد أنني لا أقدر الأنبياء قدرهم، ولكن هذا هو أسلوب التشريف، ولذا فالناظر في قوله تعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) (النساء: ٤١) يرى أن الآية قد جاءت في حق الأنبياء بـ (إذا جئنا... بشهيد) وليس "إذا بعثنا" كما جاءت بحق النبي ﷺ (وجئنا بك)؛ لأن السياق ليس سياق تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو سياق تهديد للكفار، فذكر الأنبياء عموما والنبي ﷺ بما يدل على كمال مقام الشهادة، وهو وصول الأنبياء لمقام الشهادة، ومن كمال التهديد، التهديد بكمال ما يكون به التهديد.
- (بك) أي يا محمد، وكان من جهة المعنى أن يكتفى بـ (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم) فيشمل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكنها التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
- (شهيدا) حال من كاف المخاطب (بك)، وهذا تشريف للنبي - ﷺ - بأن يكون مقامه مقام الشهيد، في يوم لا يكون لأحد فيه مكانة إلا من جعل الله - سبحانه وتعالى - له المكانة.
- (هؤلاء) أي الكفار، ولكن لماذا ذكر الجار والمجرور (على هؤلاء) بعد (شهيدا) في قوله تعالى (وجئنا بك شهيدا على هؤلاء)، بينما تقدم ذكر الجار والمجرور في قوله تعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) (النساء: ٤١)؟
سياق آية النحل سياق تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذا قدم ذكر (شهيدا) لتشريف النبي - ﷺ - من باب التسلية، أما سياق آية النساء، فتقدم الجار والمجرور لأن محور السياق هو التهديد للكفار، وانظر - بارك الله فيك للسياق:
(الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (٣٧) والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا (٣٨) وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما (٣٩) إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما (٤٠) فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (٤١) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا (٤٢)) (النساء)
أما ما قيل: إن تقديم الجار والمجرور في آية النساء من أجل الفاصلة القرآنية، أي مراعاة لجانب الجمال الصوتي في ختم الآية، وهذا ما يقابله في الشعر ما يعرف - من باب التقريب - بالقافية، فهذا لا يصح؛ لأن الله قادر على أن يأتي بصيغة أخرى تراعي الفاصلة دون هذا التقديم، وكيف يكون هذا مع أن للتقديم معنى؟!!
- قد يقال: كيف نوفق بين قوله تعالى (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) (المائدة: ١٠٩) وبين قوله تعالى (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء... ) (النحل: ٨٩)؟
الجواب عن هذا أن آية النحل واضحة بينة في شهادة الرسل على أقوامهم، وفي القرآن غيرها من الآيات مما يدل على شهادة الرسل على أممهم، بينما آية المائدة تحتمل عدة احتمالات:
الأول: لا علم لنا، أي: بالمقارنة مع علمك، فنحن نعرف ظواهر الأمور لا بواطنها.
الثاني: من باب التأدب، ولله المثل الأعلى، فالطالب من يتأدب أمام العالم عندما يسأله عن معرفته بالعلم، فيقول له: العلم عندكم، أما أنا فبحاجة أن أتعلم. علما بأن المسؤول قد يكون على حظ ما من العلم، ولكنه التأدب مع البشر، فكيف بالتأدب مع الله سبحانه وتعالى رب البشر؟؟!!
وقيل غير ذلك، وخلاصة القول، أن ما يحتمل عدة معان، يحمل على ما هو أحكم منه وأوضح، فالرسل يشهدون على أقوامهم، وفي ضوء هذا المعنى المحكم تفهم الدلالات المتشابهة، أي: إنما السبيل برد المتشابه إلى المحكم.
- (ونزلنا) الواو للعطف، أي يا محمد لا تحزن من
(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) (٩٠)
المفردات:
- الفحشاء: ما حكم الشرع بعظم قبحه من الأقوال والأفعال.
- المنكر: ما حكم الشرع بقبحه من الأقوال والأفعال.
- البغي: التعدي.
- تذكرون: تتعظون.
المعنى الإجمالي:
لما بينت الآية السابقة أن القرآن أنزل (تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)، أتت هذه الآية - وما بعدها - لتبين أن في القرآن بيانا لكل شيء يحتاجه الناس.
فالقرآن يأمرنا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ويأمرنا بترك ما يخالف هذه الأوامر، وينهانا عن المعاصي كبيرها وصغيرها، وينهانا عن التعدي، وكل هذا لأجل أن نتعظ، فنفعل ما أمرنا الله، وننتهي عن ما نهانا عنه.
المعنى التفصيلي:
- قال عبد الله بن مسعود: "ما في القرآن آية أجمع لحلال وحرام وأمر ونهي من هذه الآية (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى... ) ".
رواه البخاري في (الأدب المفرد: ٤٨٩) بسند حسن؛ للمقال الذي في عاصم بن بهدلة، وقد جاء من طرق أخرى عند الحاكم في (المستدرك: ٣٣٥٨)، وعبد الرزاق في (مصنفه: ٦٠٠٢) وغيرهم.
- (إن الله) استفتحت الآية بحرف التوكيد (إن) وباسم الجلالة (الله) تعظيما لشأن المأمور به في الآية.
- لم يأت النص مخبرا أن القرآن يأمرنا، رغم أن الآية بيان لما تضمنه القرآن من البيان، وذلك تصريحا بأن القرآن إنما هو من عند الله، (... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء... ) (إن الله يأمر... )، فالتبيان من الله تعالى لا من أحد غيره.
- جاء النص (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى) وليس "اعدلوا وأحسنوا وآتوا "؛ لأن ذكر الأمر فيه تعظيم الأمر، وأضرب مثلا - ولله المثل الأعلى - قول سيد في قومه لأحد أتباعه "افعل كذا" ليس بعظمة وقوة قوله له "آمرك أن تفعل كذا"؛ لأنه بقوله "افعل كذا" طلب منه الفعل فقط، ولكن بقوله "آمرك أن تفعل كذا" طلب منه الفعل، وزاد عليه التأكيد بالتصريح أن هذا الفعل هو فعل أمر إن لم تكن منتبها فانتبه، كأنه يقول له: افعل كذا وهو أمر فاحذر أن تعصيه.
- أتى التعبير بـ (يأمر) و (ينهى)؛ لأن الآية بيان للآية السابقة (... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء... )، وللدلالة على أن التبيان والهدى والرحمة والبشرى تكون بإطاعة الله في الأمر والنهي.
- أتى التعبير (يأمر) و (ينهى) بصيغة الفعل المضارع؛ لأن الآية بيان للآية السابقة (... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء... ) فكأن التقدير: إن الله يأمر الناس في القرآن بـ... وينهى الناس في القرآن عن... ، والقرآن حاضر يأخذ الناس أحكامهم منه في كل وقت، ونتيجة ذلك، فإن أمر الله ونهيه متجدد في كل وقت.
- حذف المفعول في قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل)، أي لم يأت النص "يأمركم" أو "يأمرهم"؛ للدلالة على العموم، ليشمل كل مخاطب.
وكذلك حذف المفعول لتوجيه الانتباه إلى الفعل والفاعل، وترك الانشغال بالمفعول.
- لكن لماذا لم يحذف المفعول في قوله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) (النساء: ٥٨)
جاءت هذه الآية في سياق بيان ما وقع فيه الكفار من الكفر والمعاصي وتضييع الأمانات والحقوق، فاستأنفت الآية أمر المؤمنين لئلا يكونوا مثلهم، فكان الخطاب فيها موجها للمؤمنين، ولذا كان من المهم التنبيه على المفعول في هذا السياق.
- (إن الله يأمر... ) ما جاء الأمر به في هذه الآية إنما هو مجمل غير مفصل، وذلك من باب الإشارة إلى أن القرآن احتوى على بيان كل ما يحتاجه الناس في دينهم، وعلى هذا يكون التقدير (إن الله يأمر) في القرآن على وجه التفصيل (بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى)، (وينهى) في القرآن على وجه التفصيل (عن الفحشاء والمنكر والبغي).
- (بالعدل) العدل في الآية لفظ عام يندرج تحته ما لا ينحصر من الأنواع، فالعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، وهو ضد الظلم.
فتوحيد الله من العدل؛ ألا ترى أن الله يقول (... إن الشرك لظلم عظيم) (لقمان: ١٣).
وعبادة الله من العدل؛ لأن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.
وطاعة الله من العدل مع النفس؛ لأننا بالطاعة ندخل الجنة، وبالمعاصي ندخل النار، قال تعالى (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (البقرة: ٥٧).
ومن العدل أيضا: العدل مع الأولاد وبينهم بكل صوره، والعدل مع الزوجات وبينهن، والعدل مع الناس وبينهم.
حتى أن إعطاء الحيوان حقه من العدل (فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض) (البخاري: ٣٠٧١) (مسلم: ٤٩٥١)
فيندرج تحت العدل كل الأقوال والأفعال بكل ارتباطاتها مع كل الأشياء من أشخاص وأوقات وحيوان وجماد.
- والأمر (بالعدل) نهي عن كل صور الظلم في هذه الحياة، فانظر - بارك الله فيك- سعة عموم الأمر بالعدل.
- (والإحسان) الواو للعطف، والإحسان مصدر أحسن، نقول: أحسن إحسانا.
والإحسان هو إتقان الشيء على أكمل وجه، وله أنواع، منها: الإحسان إلى غيرنا بمعاملته على أكمل وجه، نقول: أحسن الابن إلى والديه. وكذلك إتقان المرء فعله، نقول: أحسن الرجل عمله.
وقيل: إن "الإحسان" هو المندوب، وهذا غير صحيح، فإن من الإحسان ما هو فرض كالإحسان إلى الوالدين (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا... ) (الإسراء: ٢٣)، ومن الإحسان ما هو مندوب، كما يحسن أحدنا إلى أحد دون أن يجب عليه.
- (الإحسان) لفظ عام يندرج تحته كل صور الإتقان في الأقوال والأفعال، فالإحسان مع الله (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) (البخاري: ٤٨) (مسلم: ٩)
حتى أن الله شرع لنا الإحسان للحيوان فعن رسول الله ﷺ قال (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته) (مسلم: ٣٦١٥)
- ولعموم "الإحسان" في الآية فإنه لم يبق أي نوع من الإحسان إلا واندرج تحته.
- والأمر بـ "الإحسان" أمر بكل مندوب فضلا عن الفرض، ونهي عن كل مكروه فضلا عن الحرام.
فانظر - بارك الله فيك - سعة عموم الأمر بالإحسان.
- قدم ذكر "العدل" على "الإحسان"؛ لأن "العدل" كله واجب، بينما "الإحسان" واجب ومندوب، والواجب أولى؛ لقول الرسول ﷺ في الحديث القدسي: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه " (البخاري: ٦٠٢١)
- قد يسأل سائل: لماذا بدأ الأمر بالبر أولا في قوله تعالى (... وتعاونوا على البر والتقوى... ) (المائدة: ٢) مع أن البر يضم المندوبات، ثم جاء الأمر بالتقوى التي هي فعل الواجبات وترك المحرمات، وهذا على خلاف ما ورد في هذه الآية من الترتيب حيث كان الأمر بالعدل أولا ثم الأمر بالإحسان؟
جاء الترتيب في هذه الآية بالعدل أولا ثم الأمر بالإحسان؛ لأن هذه الآية بيان لما تضمنه القرآن، فكان المناسب أن يذكر الأهم، بينما في قوله تعالى (... وتعاونوا على البر والتقوى... ) (المائدة: ٢) فإن فيه حضا على التعاون، فبدئ بالأعم وهو البر؛ لتوسيع دائرة الحض على التعاون، ثم ذكر الخاص - وهو التقوى - تنبيها على أهميته.
إذن، فلكل آية مقصد خاص، وبين المقصدين فرق؛ ولذا اختلف التعبير.
- (وإيتاء ذي القربى) الواو للعطف، أي: أن الله سبحانه وتعالى يأمر كذلك بإيتاء ذي القربى، والإيتاء: الإعطاء، و (القربى) مصدر، وقيل: مؤنث أقرب. وهم كل من تربطك به قرابة.
- (وإيتاء ذي القربى) أمر بإعطاء القرابة حقوقهم من البر والصلة، وحذف ذكر المعطى في الآية؛ ليعم كل ألوان العطاء وأنواعه وأشكاله، زيادة في الخير، حتى نعطي ونعطي ولا نستكثر، وكذلك يشمل هذا العطاء الواجب كما أنه يشمل المندوب.
- لكن صلة القربى تدخل ضمن العدل والإحسان، فلماذا ذكرت بعدهما؟
ذكرت صلة القربى بعدهما من باب ذكر الخاص بعد العام؛ للأهمية والتأكيد على حقوق ذوي القربى.
وجاء هذا التنبيه؛ لأن كثيرا من الناس من يحسن إلى البعيد وينسى القريب؛ إما غفلة عن قرابته - كما قيل: شدة القرب حجاب - وإما سعيا إلى السمعة بين الناس، وهذا لا يتحقق بالإحسان إلى القريب كما في الإحسان إلى البعيد، وإما طمعا بعلاقات جديدة غير علاقة القربى؛ لأنها مضمونة.
- لماذا لم يخص الوالدين بالذكر كما في قوله تعالى (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) (النساء: ٣٦)؟
آية النحل (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.. ) عامة، وآية النساء (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى... ) تفصيلية، فناسب عدم ذكر الوالدين في "سورة النحل"؛ لأن الوالدين يدخلان ضمن ذوي القربى دخولا أولويا.
- لماذا جاء التعبير في هذه الآية بـ (وإيتاء ذي القربى) وليس "وإيتاء أولي القربى"؟
وقبل الإجابة عن السؤال فلا بد من بيان معنى "ذو" و"أولو"، فأما "ذو" اسم بمعنى الصاحب، فـ "ذو القربى" صاحب علاقة القرابة، و"أولو" جمع بمعنى "ذو"، ولا واحد له من لفظه.
جاء التعبير في القرآن بـ "أولي القربى" في سياق الكلام عن المقربين من الأقارب، وانظر - بارك الله فيك - إلى الآيات:
١ - (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) (النساء: ٨) وعادة لا يحضر هذه القسمة كل قريب، بل الأقارب الذين تربطهم بأهل الميت قرابة أقوى من غيرهم، فقد يجتمع لأهل الميت من الأقارب ما يصل إلى ألف رجل، ولكن لا يدعى لمثل هذا الأمر إلا القليل الأقربون.
٢ - (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) (النور: ٢٢)
سبب نزول هذه الآية أن مسطح بن أثاثة لما قال في حق عائشة ما قال، وأنزل الله براءتها، أقسم أبو بكر أن لا ينفق على مسطح، فأنزل الله هذه الآية، فأنفق عليه أبو بكر بعد نزول الآية.
ومسطح إنما هو قريب لأبي بكر؛ لأن أم مسطح هي ابنة خالة أبي بكر؛ لأن أمها هي بنت صخر بن عامر، وهي خالة أبي بكر. انظر (البخاري: ٣٨٢٦، كتاب: المغازي، باب: حديث الإفك) (مسلم: ٤٩٧٤، كتاب: التوبة، باب: حديث الإفك)
٣ - (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (١١٣) وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) (التوبة: ١١٤)
وفي هذه الآية نهي عن الاستغفار لذوي القربى مهما كانت قرابتهم؛ لأن المسلم لا يصر عادة على الاستغفار لكافر إلا لقربه الشديد، ولذا جاء الكلام في الآية التالية عن استغفار إبراهيم لأبيه.
أما الآيات التي جاء التعبير فيها بـ "ذي القربى " فإن موضوعها إما أن يكون في النصرة أو الإنفاق العام، وإنما جاء التعبير عن القرابة بالمفهوم الأوسع في النصرة؛ لأن النصرة إنما هي عند العرب عامة في كل القرابة، اقتربت أم بعدت؛ لأن النصرة إنما هي من مفهوم العشيرة والقبيلة، وكذلك جاء التعبير عن القرابة بالمفهوم الأوسع في الإنفاق العام ليشمل كل القرابة وإن بعدت قرابتهم.
أما الآيات التي جاءت في النصرة:
(وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون) (٩١)
المفردات:
- الأيمان: جمع يمين، وهو القسم.
- تنقضوا: تبطلوا.
- كفيلا: ضامنا وشاهدا ورقيبا.
المعنى الإجمالي:
بعد الأمر بجوامع الخير، والنهي عن جوامع الشر، أمر الله بالوفاء بالعهود، من باب ذكر الخاص بعد العام؛ لما للعهود من أهمية في تنظيم حياة الناس.
وقد أمرنا الله - سبحانه وتعالى - أن نفي بعهدنا معه أولا، وأن نفي بعهودنا مع الناس ثانيا؛ إذ كيف نحلف بالله، ونجعله ضامنا ونخلف؟!! ولذا فإن من نقض فإن له العذاب على كل ما فعل؛ لأنه لا يغيب عن الله شيء.
المعنى التفصيلي:
- قيل: أنزلت هذه الآية في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان من أسلم يبايع رسول الله - ﷺ - على الإسلام، (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) البيعة، فلا يحملكم قلة محمد - ﷺ -وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وإن كان فيهم قلة والمشركين فيهم كثرة.
وقيل: هؤلاء قوم كانوا حلفاء لقوم تحالفوا وأعطى بعضهم العهد، فجاءهم قوم آخرون، فقالوا: نحن أكثر وأعز وأمنع، فانقضوا عهد هؤلاء وارجعوا إلينا ففعلوا.
وقيل: نزلت في الحلف الذي كان أهل الشرك تحالفوا في الجاهلية، فأمرهم الله عز وجل في الإسلام أن يوفوا به ولا ينقضوه.
ولا يوجد لهذه الأقوال سند صحيح مرفوع أو في حكم المرفوع، وإنما حذفت الأسانيد والكلام عليها للاختصار.
ولو صح سبب نزول للآية، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
- (وأوفوا) الإيفاء: الإتمام والكمال، أي يأمرنا الله سبحانه وتعالى بإتمام العهود التي ألزمنا أنفسنا بها، وإتمام العهود يكون بإتمام العمل بمقضاها.
والوفاء بالعهد واجب؛ قال تعالى (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) (آل عمران: ٧٧)
وقد وصف الله المؤمنين بالوفاء بالعهد؛ لأهميته، قال تعالى (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) (البقرة: ١٧٧) و (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) (الرعد: ٢٠).
- (بعهد الله) العهد في اللغة يرجع إلى معنى الاحتفاظ، وبصيغة أخرى، معنى "العهد" في الآية هو: الموثق.
- (بعهد الله) إما أن يكون المراد به كل العهود، وإما أن يكون المراد ما يعاهد الله عليه.
فإن كان المراد به كل العهود، عندها تكون إضافة العهد إلى لفظ الجلالة "الله" إضافة تعظيم؛ رفعا لشأن العهد، وإعلاما بأنه ذو قدسية؛ لأن المسلم إذا عاهد فإنما يعاهد بصفته مسلما منتميا لدين الله، ومن هنا جاءت نسبة العهد إلى الله.
وعندها يكون للعهد صور كثيرة، فالوفاء بما ألزمه المسلم على نفسه من توحيد الله من صور الوفاء بالعهد، ووفاء الصحابة ببيعة النبي - ﷺ - كذلك، ووفاء الناس ما تعاهدوا عليه من شؤونهم أيضا من صور الوفاء بالعهد.
- وإن كان المراد (بعهد الله): ما يعاهد الله عليه، فيكون "عهد الله" خاصا بالعهد المعقود مع الله سبحانه، وتكون الإضافة من باب الإضافة إلى المفعول.
ولقد تتبعت مادة "عهد" في القرآن فوجدت كثيرا من الآيات لا تدل دلالة واضحة على معنى "عهد الله"، بل تحتاج إلى آيات أخرى أو قرائن أخرى لتحديد المعنى.
وإن كنت أميل إلى أن "عهد الله" هو ما يعاهد الله عليه؛ لقوله تعالى (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا) (الأحزاب: ١٥) حيث جاء التعبير عن العهد المعقود مع الله بـ (عهد الله)، بينما جاء التعبير بـ "العهد" من دون الإضافة إلى الله في قوله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) (الإسراء: ٣٤) لأن العهد هنا معقود مع البشر على حفظ مال اليتيم، فجاء العهد من دون إضافته إلى الله.
وانظر - بارك الله فيك - إلى اختلاف إضافة "العهد" في قوله تعالى (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون) (البقرة: ٤٠) (بعهدي) أي: بعهد الله، وهو ما أخذه الله على بني إسرائيل من المواثيق، (بعهدكم) أي: إدخالكم الجنة.
ولاحظ معي - زادك الله حرصا - إلى الآيات التي لم يضف فيها "العهد" إلى الله، لترى أن هنالك فرقا بين العهد المضاف إلى الله وغير المضاف إليه.
(... وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) (البقرة: ١٧٧)
(بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) (آل عمران: ٧٦)
(الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة... ) (الأنفال: ٥٦)
(وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) (التوبة: ١٢)
(والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) (المؤمنون: ٨)
- قد يقول قائل: إن قوله تعالى (إذا عاهدتم) يدل على اندراج كل العهود المشروعة تحت "عهد الله" لأن العهد مع الله ليس متجددا وليس اختياريا؛ لأن العهد مع الله إنما هو الإيمان والتزام أوامره واجتناب نواهيه، وهذا إنما يقع مرة واحدة عند دخول الإسلام.
وللجواب عن هذا فإن العهد مع الله سبحانه قد يكون في غير الإيمان، أليست بيعة النبي ﷺ من العهد مع الله سبحانه و تعالى، كما حصل في بيعة الرضوان يوم الحديبية؛ قال تعالى (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) (الفتح: ١٠).
وكذلك من "عهد الله" ما يقطعه الواحد على نفسه من طاعة معينة لله؛ قال تعالى (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (٧٥) فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (٧٦) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون (٧٧)) (التوبة)
- لماذا ذكر (إذا عاهدتم) في قوله تعالى (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) مع أن الوفاء بالعهد لا يجب إلا إذا كان هنالك معاهدة، وكذلك فالنص مفهوم دون هذا الشرط؟
ذكر (إذا عاهدتم) من باب الحض والحث على الوفاء بالعهد، أي أن إيجاب الوفاء بالعهد سببه ما وقع منكم من العهد، ولذا جاء التذكير بما التزموه من العهد لحثهم على الوفاء به.
- (ولا تنقضوا الأيمان) والنقض إفساد ما أبرم من عقد أو بناء، و (الأيمان) جمع: يمين، وهو القسم، وقد قيل: إن سبب تسمية القسم يمينا؛ هو أن العرب كانوا إذا تحالفوا ضرب كل واحد منهم يمينه على يمين صاحبه.
- (بعد توكيدها) وليس معنى التوكيد هنا هو إعادة اليمين وتكرارها؛ لأن إعادة اليمين وتكراره ليس مطلوبا في العقود والمواثيق، بل المعنى هو (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) بذكر اسم الله أو صفة من صفاته، وعبر عن عقد اليمين والتلفظ بها بالتوكيد؛ لأن هذا هو حقيقة عقد اليمين والتلفظ بها. وهذا شبيه بذكر (إذا عاهدتم) في قوله تعالى (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم)، أي: جاء ذكر (بعد توكيدها) للحض والحث على الوفاء بالأيمان.
وقد يقال: (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) العهد والعقد، وهذا أيضا وارد.
وقيل: معنى (بعد توكيدها) إخراج يمين اللغو؛ لأنها ليست مؤكدة؛ لأن صاحبها لم يقصدها.
وهذا غير صحيح؛ لأن الأيمان المقصودة في الآية هي أيمان العقود والعهود، وليست من باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه. (مسلم: ٣١١٥)
ولا بد من العلم بأن يمين العقود والعهود وحقوق العباد ليست على نية الحالف، بل هي على نية من يحلف له؛ لأنها لو تركت على نية الحالف؛ لكان فيها هضم لحقوق العباد، فلا يقبل قول قائل: إنني حلفت لكم يمينا على هذا العهد؛ ولكنه كان لغوا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك (مسلم: ٣١٢١)
- (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) وهذا حث آخر على الوفاء بالأيمان؛ فالواو في قوله تعالى (وقد جعلتم) واو الحال، و (قد) للتأكيد، أي: أوفوا بالأيمان ولا تنقضوها؛ لأن حالكم هو أنكم جعلكم الله كفيلا عليكم.
- (عليكم كفيلا) تقديم الجار والمجرور (عليكم) زيادة في التحذير من نقض الأيمان، وذلك لأنكم جعلتم الله كفيلا، ولكن احذروا فإنكم جعلتم الله كفيلا عليكم أنتم وليس على غيركم.
- (عليكم كفيلا) وليس "عنكم كفيلا"، أو "كفيلكم"؛ وذلك لتضمين (كفيلا) معنى رقيبا وشاهدا.
ولكن لماذا هذا التضمين؟
جاء هذا التضمين لتكون الجملة بقوة جملتين، فهو سبحانه وتعالى ضامن، وزيادة على ذلك هو شاهد ورقيب يرى كل ما يقع.
وفي هذا التضمين إعلام لمن يعقد الأيمان ويجعل الله سبحانه ضامنا لهذه العقود، إعلام له بأن جعلك الله سبحانه ضامنا ليمينك يقتضي أن يعاقبك على نقضه، فهو شاهد ورقيب لما تفعل.
- (إن الله يعلم ما تفعلون) وهذا تهديد وتحذير من نقض الأيمان؛ لأن الله يعلم كل ما تفعلون، ومن ضمنه يعلم سبحانه نقض الأيمان فيجازي عليها.
- قوله تعالى (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) متضمن لقوله (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها)؛ لأن حقوق العباد مندرجة تحت حقوق الله، لأن من طاعة الله إعطاء العباد حقوقهم، ولكن ذكر قوله تعالى (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) من باب التنصيص لأجل التفصيل والتأكيد.
(ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) (٩٢)
المفردات:
- نقضت: أفسدت ما صنعت.
- أنكاثا: جمع: نكث، وهو قطع الصوف والشعر التي تنتج عن فك الغزل والنسج.
- دخلا: إفسادا وخديعة.
- أربى: أزيد عددا أو عدة.
- يبلوكم: يختبركم.
المعنى الإجمالي:
بعد أن نهى الله - سبحانه وتعالى - عن نقض الأيمان بعد توكيدها، تبين هذه الآية عظيم قبح نقض الأيمان بتشبيه حال من ينقض ما عقد من الأيمان بحال امرأة خرقاء، كانت تنسج غزلها ثم تنقضه.
وجاء النهي عن اتخاذ الأيمان وسيلة للخداع، وذلك عن طريق نقضها مع المعاهدين إذا وجد من هو أقوى منهم من القبائل الأخرى. وإنما أمر الله سبحانه بالوفاء بالعهد اختبارا، وسوف يجازي الله - سبحانه وتعالى - كلا بعمله يوم القيامة، إن كان خيرا فخير، وإن كان شرا فشر.
المعنى التفصيلي:
- (ولا تكونوا) هذا نهي من الله - سبحانه وتعالى - أن ننقض الأيمان، ولكن جاء التعبير بـ (تكونوا) وليس "تفعلوا"؛ لما في التعبير بـ (تكونوا) من زيادة دلالة على الوجود؛ فالتعبير بـ "لا تفعلوا" لا يوحي بمنزلة الفاعلين، وإنما يفيد النهي عن الفعل فقط، ولكن التعبير بـ (ولا تكونوا) يوحي بمنزلة الفاعلين بأنهم أصبحوا بفعلهم هذا بمنزلة المرأة الخرقاء التي تنقض غزلها بعد نسجه.
- (كالتي نقضت غزلها) ولكن من هذه التي نقضت غزلها؟
قيل: امرأة في مكة كانت خرقاء. وهذا القول مروي عن بعض التابعين كالسدي وعبدالله بن كثير، ولا يصح هذا عن ابن عباس.
وقيل: هو من باب المثل الذي يراد به الوصف دون التعيين، فهي امرأة ليست معينة. وهو مروي عن قتادة، وهو من التابعين، فقد روى عنه الطبري عند تفسير هذه الآية بسند صحيح: " وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده ".
وبالرواية عن قتادة يتضح أن التابعين غير متفقين على أن المرأة معينة حتى نقول: إن تعيينها من أخبار العرب.
ودليل بعض من ذكر أنها معينة: أن الإخبار عنها بالاسم الموصول "التي"؛ لأنها معلومة عند العرب، ولم يذكر اسمها لأنه ليس لذكر اسمها شأن عظيم كذكر أسماء الأنبياء، أو كبعض ذوي الشأن في التاريخ، بغض النظر عن تقواهم وفجورهم: كذي القرنين وفرعون وهامان وقارون وجالوت.
ولكن لا بد من الإشارة إلى أن التعبير بالاسم الموصول قد لا يدل على معين:
ومثال الاسم الموصول الذي لا يدل على معين قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر... ) (البقرة: ٢٦٤)؛ ولذا لانستطيع الجزم بأن الاسم الموصول ينبهنا بأنها امرأة معروفة.
وعلى كل، فإنه ليس من كبير فائدة في معرفة أن التي نقضت غزلها معينة أو لا، ولكن تكلمت على هذا من باب العلم ليس إلا.
- (نقضت) النقض: إفساد ما أبرم من بناء أو حبل، ويستخدم في العهد.
- (من بعد قوة) أي من بعد إحكام وإتقان؛ لأنه لا ينكر أن تنقض المرأة غزلها إن لم تكن أحكمت غزله؛ لأنه حينها يعد في زمرة الفاسد الذي لا بد أن يصلح، فيكون نقضها ساعتها من الإصلاح.
- في تقديم الاحتراس (من بعد قوة) على (أنكاثا) زيادة في بيان عجيب فعل المرأة، فقبل أن يكتمل في ذهن السامع معنى أن المرأة نقضت غزلها، يكون التنبيه ولفت النظر: انتبه! هذا النقض نقض إفساد لا إصلاح؛ لأن الغزل محكم الصنعة.
- (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة) أي: تجعلون أيمانكم وسيلة للخداع والغش؛ ليطمئن إليكم الناس، فعندما تجدون أناسا أقوى من الذين عاهدتموهم نقضتم العهد لأجل الأقوى.
وهذه الحال هي حال أهل الجاهلية، يتخذون العهود خداعا لأجل مصالحهم، فهم لا ينوون حين يعاهدون إلا اتخاذ العهد خديعة؛ ليتسلقوا بالعهد من القوي إلى الأقوى منه؛ لينالوا مكاسبهم.
وإنما جاء الإسلام لينهى عن هذه العادات الجاهلية، ولكن هذه العادات الخسيسة أصبحت في هذا الزمن تصنف في قمة الحنكة السياسية، فما السياسة في هذا الزمن الذي ينادون فيه بالحضارة إلا خداع وغش وتسلق، وما الأحلاف الدولية وتغير المواقف من زمن إلى زمن إلا بحثا عن الأقوى ونقضا لعهد الضعيف.
وأذكر صورة اجتماعية أستنبط النهي عنها من هذه الآية، ألا وهي التسلق الاجتماعي، يقال في حياتنا: فلان متسلق. أي أنه يصاحب هذا ويعطيه الولاء، فإذا ما وجد آخر أقوى منه، غدر بالأول واستمسك بالثاني.
وهذه ظاهرة لا تكاد تخلو منها مؤسسة من مؤسساتنا، ولا قطاع من قطاعات العمل، بل عمم ذلك على كل التجمعات الإنسانية إلا من رحم الله، بل وتجاوز الامر إلى حيز التجمع العائلي، ممثلا بالقبيلة والعشيرة، بل والله إن الأمر تجاوز هذا إلى أن غدا كثير من الإخوة يقيمون الولاءات والتحالفات أمام إخوتهم الآخرين بناء على المصلحة، بل وزاد الطين بلة أن أصبح بعض الآباء يجفون بعض أبنائهم بعد أن كانوا يقدمونهم على إخوتهم؛ لأن المجفو بالأمس أصبح أنفع من أخيه المقرب، ولذا تغيرت مواقف الوالدين، وسحبوا الامتيازات، بل ووقفوا مناصرين ظلما لموقف الابن الأنفع ضد الابن الضعيف، لا أقول: كل الآباء، ولكنها ظاهرة محسوسة ملموسة.
والجامع بين النهي عن نقض العهد مع الضعيف لأجل القوي، وعن التسلق الاجتماعي، أن الأمر في الحالتين غدر لأجل المصلحة، عافانا الله وإياك أخي من الوقوع في نقض العهود و من الغدر.
- جملة (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) حال من الضمير (تكونوا)، أي لا تكونوا حمقى كالمرأة الخرقاء التي تفسد عملها بعد إحكامه، حال كونكم جاعلين أيمانكم وسيلة للخداع.
وبلغة أيسر: لا تكونوا حمقى كالمرأة الخرقاء التي تفسد عملها بعد إحكامه، وذلك عندما تجعلون أيمانكم وسيلة للخداع والمكر.
- (أيمانكم) الأيمان جمع: يمين، وهو القسم، وقد قيل: إن سبب تسمية القسم يمينا، هو أن العرب كانوا إذا تحالفوا ضرب كل واحد منهم يمينه على يمين صاحبه.
- (دخلا) الدخل: الإفساد والخديعة، وأصل الدخل هو ما يدخل الشيء مما ليس منه، ووجه الإفساد أن دخول شيء غريب على الشيء مفسد له، ووجه الخديعة أن إدخال شيء غريب على الشيء يكون إيهاما أنه منه؛ خداعا وغشا.
- (بينكم) أي أنتم ومن عاهدتم، والفساد والخديعة في اطمئنان المعاهدين إليكم؛ لما قدمتموه من العهد والأيمان، وبعد ذلك تنقضون العهد.
- (أن تكون أمة) قيل فيها: المصدر المؤول (أن تكون) في محل جر بحرف جر محذوف، أي: " لأن تكون".
وقيل: "أن" في موضع المفعول من أجله، أي: بسبب أن تكون أمة.
وقيل: مخافة أن تكون.
وخلاصة الأمر أن معنى (أن تكون أمة) هو تعليل لسبب نقض العهد.
- (أمة) معناها - هنا - الجماعة المتفقة على شيء، وهي القبيلة والعشيرة وما كان في هذه المعنى.
- قال ابن فارس في (مقاييس اللغة): " (أم) وأما الهمزة والميم فأصل واحد، يتفرع منه أربع أبواب، وهي الأصل، والمرجع، والجماعة، والدين ".
وأصل هذه المعاني: القصد والرجوع، نقول: أمه، أي: قصده؛ فالأصل، والمرجع، والجماعة، والدين أمور تقصد ويرجع إليها.
ولذا فإنك ترى أن الأم تقصد من ولدها، وأن الآيات المحكمات تقصد لفهم المتشابه، ولذا سميت بـ "أم الكتاب"، قال تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات... ) (آل عمران: ٧)، ولذا سميت مكة بـ "أم القرى"؛ لأنها تقصد من كل القرى (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها... ) (الشورى: ٧).
وسميت "الأمة" بهذا الاسم؛ لأن أفرادها يقصدون الاجتماع على أمر ما يتفقون عليه، ويطلق عليها "أمة" ولو كانت هذه الجماعة أقل من القوم؛ قال تعالى (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) (الأعراف: ١٥٩).
وكذلك يطلق على الوقت "أمة"؛ لأنها أوقات تجتمع؛ قال تعالى (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه... ) (هود: ٨).
- جاء ضمير الفصل (هي) في قوله تعالى (أن تكون أمة هي أربى) من باب التأكيد على قوة الأمة وتميزها، كأن هذه الأمة لقوتها مختصة بالقوة.
- وضمير الفصل هو الضمير الذي يقع ما بين المبتدأ والخبر، أو ما كان أصله مبتدأ أو خبرا مما دخل عليه أحد النواسخ، والأصل في إعرابه أنه لا محل له من الإعراب، ولكن قد تكون الجملة المكونة من ضمير الفصل والخبر خبرا للمبتدأ الأول، كما في هذه الآية (أن تكون أمة هي أربى).
- (أن تكون أمة هي أربى) جاء التعبير بذكر ضمير الفصل الذي يفيد الاختصاص؛ لتعظيم النهي عن نقض العهود، أي: لا تنقضوا عهد قوم لأجل قوم آخرين وإن كانوا من القوة بمكان عظيم.
وحصل النهي بذكر الداعي الأعظم للنقض؛ ليعم النهي عن الأعظم النهي عن العظيم وما دونه، فإذا قبح نقض العهد لأجل الأقوى، فقبح نقضه لأجل القوي والضعيف أعظم.
- (أربى) أي: أزيد قوة، وسواء كانت زيادة القوة نابعة من الكثرة في العدد أو العتاد أو غير ذلك من مقومات القوة، ومن باب الزيادة سمي "الربا" بهذا الاسم.
- دل النهي عن نقض العهد مع الحاجة إلى الأقوى عن النهي عن نقض العهد في حالة التمكن والقدرة، ودل تقبيح صورة نقض العهد مع الحاجة إلى أن نقضه مع التمكن أقبح.
- (إنما يبلوكم الله به) أي: إنما يختبركم الله بالوفاء بالعهود.
- ويحتمل أن الضمير في (به) يعود على المصدر المؤول من (أن تكون) أي: يختبركم الله بكون أمة أربى من أمة.
- ولكن الظاهر أن الابتلاء هو: بالوفاء بالعهد؛ لأن السياق إنما هو سياق أمر بالوفاء بالعهد ونهي عن نقضه، وأما نقض العهد لأجل قوم آخرين أقوى، فإنما ذلك حالة من حالات نقض العهد، والابتلاء بالوفاء بالعهد عام يدخل تحته هذه الصورة وغيرها.
- (إنما يبلوكم الله به) وهذا القصر إنما يكون لتأكيد المعنى، أي: ما الأمر بالوفاء بالعهود إلا لاختباركم. أي: فاحذروا أن تنقضوا العهود، وفي هذا القصر حض وحث على الوفاء بالعهد، ولو قلنا في غير التنزيل "يبلوكم الله به" دون "إنما" لكان إخبارا بابتلاء الله للمؤمنين، ولكن ليس بقوة أسلوب القصر في الحض على الوفاء والتحذير من النقض.
- (إنما يبلوكم الله به) وإسناد الابتلاء إلى الله - سبحانه وتعالى - بذكر اسم الجلالة (الله)، وليس "نبلوكم" أو "تبلون"؛ لأن في إسناد الابتلاء إلى الله - سبحانه وتعالى - بذكر اسم الجلالة (الله) زيادة في التحذير من نقض العهود؛ لأن الله هو من يبتليكم بهذه الأوامر، فاذكروا إن كنتم نسيتم، واعلموا إن كنتم لا تعلمون.
- لماذ لم يقدم الجار والمجرور في هذا القصر (إنما يبلوكم الله به)؟
لم يقدم الجار والمجرور (به) في هذا القصر؛ لأن المعنى هو: ما الأمر بالوفاء بالعهود إلا لاختباركم. وأما قولنا في غير التنزيل "إنما يبلوكم به الله" فإن معناه: إنما يبلوكم به الله لا غيره، أي: ما يبلوكم به إلا الله. وهذا يصلح في غير هذا السياق. فلو قال الكفار من الذي يبلونا به؟ لكان الجواب: "إنما يبلوكم به الله". أي: لا غيره.
- (وليبينن) جواب لقسم مقدر، واللام لام القسم، والنون نون التاكيد، واللام والنون دلا على القسم المحذوف.
والفاعل ضمير مستتر تقديره "هو" يعود على "الله".
- (لكم) أي: انتبهوا فالتبيين ليس لغيركم إنما هو لكم، فاحرصوا على الوفاء بالعهد حتى تسعدوا بعملكم.
- (يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) و (يوم) ظرف زمان منصوب، و (ما) اسم موصول في محل نصب مفعول به، والاسم الموصول من صيغ العموم، أي: سيبين الله لكم كل ما كنتم فيه تختلفون.
(ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون) (٩٣)
المعنى الإجمالي:
لما ختمت الآية السابقة بـ (وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) بينت هذه الآية أن هذا الاختلاف مقصود ليعاقب الخاطئ على خطيئته، ويكافأ المحسن على إحسانه، ولذا فليحذر الذين ينقضون عهودهم.
فلو شاء الله - سبحانه وتعالى - لجعل الناس متفقين على الهدى، ليس فيهم عاص، ولكن الله - سبحانه وتعالى - أعطى الإنسان حرية الاختيار، وبين له طريق الخير والشر، فمن سلك طريق الشر فسوف يعاقب على ما فعل؛ لأنه اختياره، ومن اختار طريق الخير فسوف يكافأ على إحسانه؛ لأنه اختياره.
المعنى التفصيلي:
- هذه الآية تفصيل لحقيقة الاختلاف الواقع في دين الله - سبحانه وتعالى - لما سبق من ختم الآية السابقة بـ (وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون).
أي: احذروا فإن الله سيبين ما كنتم فيه تختلفون، وبيان ما كانوا فيه يختلفون يكون في الآخرة بالنعيم في الجنة أو العذاب في النار. وبعد هذا الجزاء الفصل لا يبقى أمر إلا قد بان وظهر على حقيقته.
ولا بد من العلم أن هذا الاختلاف مقصود، فإن من ضل فإنما ضل باختياره، ومن اهتدى فإنما اهتدى باختياره، ولأن الأمرين بالاختيار؛ فإن الفاعل سيلقى جزاءه خيرا أو شرا، وهذا زيادة في التهديد والوعيد، أي: فمن نقض العهد فإنما ينقضه باختياره، ولذا فإن له الجزاء الشديد على فعله واختياره.
- قيل في بيان المناسبة بين هذه الآية وما قبلها:
١ - للتنبيه على أن اختلاف الدين لا يسوغ نقض العهود.
٢ - لئلا يظن ظان أن قدرة الله - سبحانه وتعالى - منحصرة في الآخرة فقط، فجاء التنبيه على قدرته في الدنيا.
وما ذكر من أن الآية تفصيل لحقيقة الاختلاف الواقع في دين الله - سبحانه وتعالى - أظهر من هذين القولين؛ لما سبق من ختم الآية السابقة بـ (وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون)، فتأمل بارك الله فيك.
- (ولو) حرف امتناع لامتناع، أي: امتناع وجود الجواب لا متناع وجود الشرط، وأضرب مثلا ليقرب الأمر إلى الأذهان، نقول: لو جئت لأكرمتك.
والنتيجة أني لم أكرمك لأنك لم تجئ، فامتنع الإكرام لامتناع المجيء. (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) ولكن لم يصبح الناس أمة واحدة على التوحيد والدين الحق؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - شاء أن يعطي الاختيار للناس حتى يختاروا هم ما يريدون.
- (لجعلكم أمة واحدة) "اللام" في (لجعلكم) واقعة في جواب "لو"، و"الجعل" هو تقدير الله سبحانه أن يخلق الناس مثل الملائكة بأن يطيعوا ولا يعصوا.
- (أمة) والأمة: مجموعة كبيرة من الناس يجمعهم شيء يميزهم عن غيرهم، كاللغة أو الدين أو غير ذلك، والأمة في هذه الآية هم أمة يجمعهم توحيد الله وطاعته، وانظر في تفسير الآية السابقة إلى معنى الأمة، فإني بينت ذلك في قدر ما رأيته مناسبا.
- (واحدة) جاء نعت الأمة بكونها واحدة؛ لنفي أي فرقة بينها.
- (ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء) أي أن الله - سبحانه وتعالى - هو من يضل من يشاء لاستحقاقه الضلال، ويهدي من يشاء لاستحقاقه الهدى؛ قال تعالى (... فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة... ) (النحل: ٣٦)
وظاهر الآيات الواردة في الهداية والإضلال أن فاعل (يشاء) يعود على الله سبحانه وتعالى.
- يتسأل بعض الناس عن التوفيق بين أن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي يضل ويهدي، وبين أنه يعاقب الضال ويكافئ المهتدي، فلماذا يعاقب الضال رغم أنه أضل، وكذلك المهتدي سيق إلى الهداية؟
والجواب عن هذا أن من المسلم به أن كل شيء في هذا الوجود لا يكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وشاء الله أن يعطي الإنسان حرية اختيار دينه، قال تعالى (ونفس وما سواها (٧) فألهمها فجورها وتقواها (٨) قد أفلح من زكاها (٩) وقد خاب من دساها (١٠)) (الشمس)
فما اختاره الإنسان من الهداية أو الضلال إنما هو باختياره، ولكنه ضمن مشيئة الله - سبحانه وتعالى - من جهة أن الله شاء أن تكون للإنسان القدرة على الاختيار.
فالله يضل من اختار الضلال، ويهدي من اختار الهداية، ولذا يعاقب الضال على اختياره، ويكافأ المهتدي على اختياره.
ومن هنا، فالهداية باب من يطرقه يفيض الله عليه منها دون تحصيل بالأسباب، بل برحمته سبحانه وتعالى، قال تعالى (... ويهدي إليه من ينيب) (الشورى: ١٣) أي من يقبل على الهداية يهديه الله، وقال تعالى (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى... ) (مريم: ٧٦) وقال تعالى (... إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) (الكهف: ١٣) فالفتية آمنوا واهتدوا ولأجل هذا جاءهم فيض الهداية الرباني.
وكذلك من اختار الضلالة مد الله له فيها؛ قال تعالى (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا... ) (مريم: ٧٥)
- (ولتسألن) الواو للعطف، واللام للقسم، والنون للتوكيد، واللام والنون دلا على القسم المحذوف.
- (ولتسألن) والسؤال سؤال محاسبة وجزاء، لا سؤال استفهام واستعلام.
- (عما كنتم تعملون) (عما)، أي: "عن ما"، و"ما" اسم موصول، والاسم الموصول من صيغ العموم، أي سيحاسبنا الله - سبحانه وتعالى - على كل ما عملنا من خير أو شر.
- والقسم على أن الخلق سيحاسبون مع التأكيد بنون التوكيد، زيادة في التهديد والوعيد لمن نقض العهد.
- جاء التهديد في هذه الآية لمن نقض العهد بأمور:
الأول: التذكير بأن نقض العهد من اختيار العباد، وكل عليه أن يتحمل نتيجة اختياره.
الثاني: أن الله - سبحانه وتعالى - أقسم بمحاسبة العباد على ما عملوا في الدنيا من الأعمال.
(ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم) (٩٤)
المفردات:
- دخلا: إفسادا وخديعة.
المعنى الإجمالي:
بعد أن شبهت الآية قبل السابقة حال ناقض العهود بالمرأة الخرقاء التي تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثا، مع بيان سبب نقض العهود بكون أمة أقوى من أمة، وحملت الآية السابقة ناقض العهود مسؤولية نقضه للعهد لأنه من اختياره، أتت هذه الآية لتشبه حال عاقبة ناقض العهود بعد تشبيه حال فعله، ولتؤكد أن له العذاب في الدنيا والآخرة.
وهذه الآية تنهى عن نقض العهود، وتبين عاقبته بعاقبة القدم الثابتة التي تزل عن مكانها ويهوي صاحبها، فيلاقي ما يسوؤه في الدنيا في الدنيا، ويلاقي العذاب العظيم في الآخرة.
المعنى التفصيلي:
- (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا) جاءت بداية هذه الآية بالنهي عن الخداع في العهود بصيغة النهي، بينما جاءت في الآية قبل السابقة (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) بصيغة الإخبار الذي يفهم منه النهي؛ وجاء التعبير هناك بالخبر (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم)؛ لأن جملة (تتخذون... ) حال من الضمير (تكونوا)، أي: لا تكونوا حمقى كالمرأة الخرقاء التي تفسد عملها بعد إحكامه، حال كونكم جاعلين أيمانكم وسيلة للخداع.
وجاء التعبير هنا بالنهي؛ لأجل التفريع على هذا النهي - أي البناء عليه - والتفريع والبناء جاء بقوله تعالى (فتزل قدم بعد ثبوتها)، أي (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا) لأنه يترتب على اتخاذ العهود للخداع أن تزل (قدم بعد ثبوتها).
- (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا) أي: لا تجعلوا أيمانكم وسيلة للخداع والغش، ليطئن إليكم الناس، وهذه الحال هي حال أهل الجاهلية، يتخذون العهود خداعا لأجل مصالحهم، فهم لا ينوون حين يعاهدون إلا اتخاذ العهد خديعة؛ لينالوا مكاسبهم.
- قيل: إن هذه الأيمان هي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن على فرض هذا الأمر فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
- (دخلا) الدخل: الإفساد والخديعة، وأصل الدخل هو ما يدخل الشيء مما ليس منه؛ ووجه الإفساد أن دخول شيء غريب على الشيء مفسد له، ووجه الخديعة أن إدخال شيء غريب على الشيء يكون إيهاما أنه منه؛ خداعا وغشا.
- (فتزل قدم بعد ثبوتها) أي: تضلوا بعد أن كنتم على الهدى، وجاء التعبير عن هذا المعنى بهذه الصورة الحسية المعلومة للقاصي والداني، والعالم والجاهل؛ تعميقا لقبح عاقبة الخداع بالعهود، حيث إن صورة انزلاق القدم وسقوط صاحبها أرضا، صورة مرئية محسوسة، فكم رأينا ممن زلت قدمه فسقط أرضا؟! وكذلك فهي صورة واقعة بنا ونعرف طعم ألمها، فمن منا لم تنزلق قدمه في يوم من الأيام، ومن منا من لم يذق ألم السقوط؟!
ولأنها صورة مستحضرة في الذهن، ومستحضرة أيضا في الشعور، فهي أدعى للتذكير والتحذير.
- (فتزل) الفاء للتفريع، أي: إن اتخاذكم الأيمان غشا وخداعا يتفرع عنه أن تزلوا عن الحق الذي أنتم عليه.
- (قدم) نكرت القدم؛ لأن التنكير في هذا السياق يفيد التعظيم؛ فالقدم هي التي تحمل صاحبها وتحميه من الوقوع، فلعظيم دورها نكرت، ولو قلنا في غير التنزيل "فتزل القدم بعد ثبوتها"، لما كان تعريف القدم من الفخامة مما في تنكيرها.
- (قدم) افردت ولم تجمع؛ لأن الصورة اتضحت بذكر قدم واحدة، بل إن جمع (قدم) يشوش الصورة الذهنية، فتأمل معي - بارك الله فيك - الفرق العظيم بين الصورة الذهنية المتولدة من قولنا "فتزل أقدام بعد ثبوتها"، وبين قوله تعالى (فتزل قدم بعد ثبوتها)، فالصورة بالجمع "أقدام" نشأ عنها صورة أخرى شوشت صفاء البيان، إنها صورة لأشخاص كثيرين، تنزلق أقدامهم فيسقطون أرضا، وهنا يتشتت الذهن بين تصور كثرة الأشخاص وبين حالات السقوط الكثيرة، بينما الصورة الذهنية المتولدة عن إفراد "القدم"، نجدها تتركز في جانب واحد، وهو حالة الانزلاق بعد الثبوت.
وبناء على ما ذكرت، فإنني أستبعد القول بأن إفراد "القدم" جاء لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه، فكيف بأقدام كثيرة؟!
وإن كنت لا أقول: إنه خطأ، بل هو مجرد استبعاد وترجيح، والله أعلم.
- (بعد ثبوتها) الزلل لا يكون إلا بعد الثبوت، فلماذا ذكر الثبوت؟
إذا أردت أن تعرف قيمة ذكر (بعد ثبوتها) في الآية فتأمل الآية دونها؛ لتعلم قيمة ذكرها؛ فإن في ذكر الثبوت زيادة في بيان قبح العاقبة، وإشارة إلى الخسران الذي وقع لمن خدع في عهده، فإنه اختار الزلل على الثبات والأمان، وإشارة إلى أن الوفاء بالعهود هو الثبات والحق.
- فرق بعضهم بين "الثبوت" و"الثبات"، فقالوا: الثبوت - بالواو - خاص بالمعنى المجازي، وهو التحقق، مثل: ثبوت عدالة الشاهد لدى القاضي، وخصوا الثبات - الذي بالألف - بالمعنى الحقيقي. وعلق بعض المفسرين على هذه التفرقة بأنها تفرقة حسنة.
ولكن هذا التخصيص للاستعمال غير صحيح، فإن "الثبوت" يستعمل أيضا في المعنى الحقيقي، فقد جاء في لسان العرب في مادة "ثبت" ما نصه: "ثبت فلان في المكان يثبت ثبوتا فهو ثابت إذا أقام به"، وهذا استعمال للثبوت في المعنى الحقيقي.
- وفي قوله تعالى (فتزل قدم بعد ثبوتها) استعارة؛ حيث استعيرت القدم للثبوت، واستعير زلل القدم الحسي للزلل المعنوي عن الحق.
- (وتذوقوا) أصل الذوق: تحسس الطعم عن طريق الفم، واستعمل في القرآن في العذاب؛ وذلك لبيان عظيم العذاب، فإن الإنسان يجد طعم ما يذوقه أكثر من طعم ما يبلعه، فمعنى (وتذوقوا السوء) أي: وتحسوا به إحساسا عظيما.
- (السوء) ما يسوء الإنسان ويؤلمه وينغص عليه صفو حياته، والمقصود به في هذه الآية ما يصيب العاصي في الدنيا، وذلك بدلالة الآية (وتذوقوا السوء) أي: في الدنيا (ولكم عذاب عظيم) أي: في الآخرة.
والسوء الذي يلاقيه ناقض العهد في الدنيا هو ما يحصل له في هذه الدنيا من المصائب والويلات بسبب غضب الله عليه، وهذا أولا. وكذلك فإن الناس لا يثقون به، بل وينبذونه ويعادونه.
- (بما صددتم) الباء سببية، و"ما" مصدرية، أي: وتذقوا السوء في الدنيا بسبب صدكم - أو صدودكم - عن سبيل الله.
- (صددتم) قد يكون الفعل من "الصدود" ويكون الفعل لازما، أو من "الصد"، ويكون المفعول محذوفا.
- (عن سبيل الله) يختلف معنى (سبيل الله) وفق اختلاف معنى (صددتم).
فيكون المعنى على اعتبار كون الفعل من "الصدود": وتذقوا السوء في الدنيا بسبب إعراضكم عن سبيل الله، وهو الوفاء بالعهود.
ويكون المعنى على اعتبار الفعل من "الصد": وتذوقوا السوء في الدنيا بسبب صد غيركم عن سبيل الله، وهو دينه.
- ولكن كيف نصد غيرنا عن سبيل الله عندما ننقض العهود؟
نصد غيرنا عن سبيل الله عندما ننقض العهود بإقامتنا للقدوة السيئة، والتي بدورها تنفر الناس عن دين الله؛ حيث يقول الكافر أو ضعيف الإيمان: إذا كان هذا هو فعل الأتقياء من المسلمين فإن هذا الدين لا فائدة فيه.
وفي هذا رد على الذين قالوا: إن هذه الآية نزلت فقط في الذين بايعوا النبي - ﷺ - على الإسلام وكفروا بعد ذلك، مستدلين بأن هذه الآية لو كانت في العهود عامة، لما كان فيها صد عن سبيل الله. وهذا منقوض بما ذكرت آنفا من معنى الصد في الآية.
وقد ذكرت عند تفسير الآية (٩١) من هذه السورة أنه لا يصح في سبب النزول شيء مرفوع أو ما في حكمه، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
- ولا بد من الإشارة إلى أن شعوبا كثيرة دخلت الإسلام لما رأت صدق المسلمين وحسن أخلاقهم، ولأجل هذا؛ لا بد أن يتنبه الدعاة إلى الله أولا والمسلمون عموما إلى أن معصيتهم قد تكون فتنة للناس عن دين الإسلام، ومن صد غيره عن دين الله، فإن له السوء في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.
- (ولكم عذاب عظيم) أي إن نقضتم عهودكم فلكم العذاب في الآخرة. ووصف العذاب بالعظيم؛ للدلالة على أنه أعظم من عذاب الدنيا الذي جاء التعبير عنه في قوله تعالى (وتذوقوا السوء)؛ لأن عذاب الآخرة ليس سوءا فقط، بل عذاب موصوف بأنه عظيم. أعاذني الله وإياكم منه. آمين!
(ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون) (٩٥)
المعنى الإجمالي:
ما زال السياق سياق تحذير من نقض العهود، وجاءت هذه الآية للتحذير من نقض العهود المبرمة مع الله سبحانه وتعالى.
تنهانا هذه الآية أن ننقض عهودنا مع الله - سبحانه وتعالى - مقابل عرض من الدنيا زائل؛ فإذا كنا نعلم هذا الأمر ونلتزم به، فما أعده الله لنا هو خير من الدنيا.
المعنى التفصيلي:
- لماذا جاء الأمر بالوفاء بعهد الله في الآية (٩١) (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ) ثم جاءت هذه الآية تنهى عن نقض العهود مع الله سبحانه وتعالى؟
يجب أن نعلم أن موضوع الآيتين التفصيلي مختلف، فالآية الأولى تأمرنا أن نفي بعهدنا مع الله أولا، وأن نفي بعهودنا مع الناس ثانيا؛ إذ كيف نحلف بالله - سبحانه وتعالى - ونجعله ضامنا ونخلف؟!! ولذا فإن من نقض فإن له العذاب على كل ما فعل؛ لأنه لا يغيب عن الله - سبحانه وتعالى - شيء.
بينما هذه الآية تنهانا أن ننقض عهودنا مع الله - عز وجل - مقابل عرض حقير من دنيا زائلة، والمعنى المختلف في هذه الآية هو تحقير أي عرض يكون ثمنا لنقض العهد مع الله سبحانه وتعالى؛ لأن ما عند الله خير من الدنيا وما فيها.
- (ولا تشتروا) نهي عن نقض عهد الله - سبحانه وتعالى - مقابل عرض من الدنيا، وجاء التعبير بالشراء من باب الاستعارة.
- (بعهد الله) العهد في اللغة يرجع إلى معنى الاحتفاظ، وبصيغة أخرى، معنى "العهد" في الآية هو: الموثق.
- (بعهد الله) إما أن يكون به المراد كل العهود، وإما أن يكون المراد ما يعاهد الله عليه، فإن كان المراد به كل العهود فإن إضافة "العهد" إلى لفظ الجلالة "الله" إضافة تعظيم؛ رفعا لشأن العهد، وإعلاما بأنه ذو قدسية؛ لأن المسلم إذا عاهد فإنما يعاهد بصفته مسلما منتميا لدين الله سبحانه وتعالى، ومن هنا جاءت نسبة "العهد" إلى الله.
وعندما يكون المراد كل العهود، يكون للعهد صور كثيرة، فالوفاء بما ألزمه المسلم على نفسه من توحيد الله من صور الوفاء بالعهد، ووفاء الصحابة ببيعة النبي - ﷺ - كذلك، ووفاء الناس بما تعاهدوا عليه من شؤونهم من صور الوفاء بالعهد.
- وإن كان المراد (بعهد الله) ما يعاهد الله عليه، فيكون "عهد الله" خاصا بالعهد المعقود مع الله، وتكون الإضافة من باب الإضافة إلى المفعول.
ولقد تتبعت مادة "عهد" في القرآن فوجدت كثيرا من الآيات لا تدل دلالة واضحة على معنى "عهد الله"، بل تحتاج إلى آيات أخرى أو قرائن أخرى لتحديد المعنى.
وإن كنت أميل إلى أن "عهد الله" هو ما يعاهد الله عليه، وقد سبق بيان هذا بالشواهد القرآنية عند تفسير الآية (٩١) من هذه السورة.
- (ثمنا) والثمن لا يجهل معناه أحد، ولزيادة البيان، فكل عوض يحصل عليه البائع يسمى ثمنا.
والثمن في هذه الآية هو: ما يحصل عليه ناقض العهد من المكاسب الدنيوية.
- (قليلا) ليس تقييدا للثمن، أي: ليس النهي عن نقض العهد مقابل الثمن القليل فقط، وأما الكثير فغير داخل تحت النهي، وإنما (قليلا) وصف لكل ثمن يحصل عليه ناقض العهد؛ لأن كل ما في الدنيا زائل.
- (إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون) لم تعطف الجملة على ما سبقها؛ لأن الجملة الأولى (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) إنشائية، والجملة الثانية (إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون) خبرية، وهذا يسمى في علم المعاني بـ "كمال الانقطاع".
- (إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون) هذه الجملة تعليل لوصف أي عرض في الدنيا بالقلة، بأن أي ثمن قليل أمام ما عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن ما عند الله هو الخير، ولا خير مثله البتة.
- (إنما) هي مكونة من حرف "إن" والاسم الموصول "ما"؛ وإنما كتبت في المصاحف متصلة بناء على النطق، ويكتب الاسم الموصول - في العصر الحاضر - منفصلا عن حرف التوكيد.
- (عند الله هو خير لكم) أي ما ادخره الله وأعده من الأجر والثواب في الآخرة خير لكم من أي عرض في هذه الدنيا، وكذلك فإن نعم الدنيا تدخل ضمن دلالة قوله تعالى (عند الله هو خير لكم)؛ لأن كل ما يصيبنا من النعم في الدنيا والآخرة فإنما هو من عند الله سبحانه وتعالى.
- (عند الله هو خير لكم) جاء ضمير الفصل (هو) للتخصيص، أي ما عند الله وحده خير لكم.
- (خير) اسم تفضيل، ولكن حذفت منه الهمزة "أخير"؛ لكثرة الاستعمال، ويجوز إثباتها على الأصل، وذلك قليل.
- (لكم) الكلام مفهوم بدون (لكم)، فتأمل - حفظك الله - نص الآية بدون (لكم)، ستجد بأن الكلام مفهوم، ولكن (لكم) أضافت دلالة جديدة، وهي: زيادة الحث على الوفاء بالعهود.
- (إن كنتم تعلمون) وما أعده الله في الآخرة خير لنا، ولكن هذه الخيرية مشروطة بكوننا نعلم هذا ونلتزم به، أما إذا لم نلتزم بالوفاء بعهد الله - عافانا الله - فإنه ليس لنا الخير في الآخرة. نسأل الله السلامة!
- هذه الآية أصل عظيم في النهي عن أخذ الرشوة مقابل معصية الله سبحانه وتعالى، وأصل عظيم - كذلك - في النهي عن كل معصية يفعلها العبد لأجل الحصول على مكسب دنيوي بخس.
(ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) (٩٦)
المفردات:
- ينفد: يفنى.
المعنى الإجمالي:
هذه الآية تعليل لما سبق من بيان خيرية ما عند الله - سبحانه وتعالى - على ما في الدنيا من الأشياء والمكاسب والعروض.
فما عند الله - سبحانه وتعالى - من الأجر والثواب يبقى، ولكن ما عند الناس من الدنيا يفنى، ومن العقل أن يؤثر الباقي على الفاني.
ويقسم الله - سبحانه وتعالى - بأنه سوف يجزي الصابرين على طاعتهم بأحسن أعمالهم في الدنيا.
المعنى التفصيلي:
- (ما عندكم) (ما) اسم موصول، (عندكم) أي: من أعراض الدنيا وأشيائها وملذاتها.
- (ما عندكم) (ما) اسم موصول، والاسم الموصول من صيغ العموم، أي: كل ما عندكم من الدنيا - بدون استثناء - فان.
- (ينفد) الفعل "نفد" - بالكسر- يدل على انقطاع الشيء وفنائه.
- (وما عند الله باق) الواو عاطفة، والذي عند الله هو ما أعده الله للمؤمنين في الجنة من النعيم، و (باق) اسم فاعل: "باقي"، حذفت الياء لالتقاء الساكنين.
- وفي هذه المقارنة بين ما عند الله سبحانه وما عند الناس رد عظيم على من يقدمون بعض متاع الدنيا على ما أعده الله للمؤمنين في الجنة.
وهذه الآية تذكرة - وأي تذكرة!! - لكل من يعصي الله لأجل متاع الدنيا، (ما عندكم ينفد وما عند الله باق). فمن هذا الذي يعقل ويؤثر الفاني على الباقي؟!
- (ولنجزين) الواو عاطفة، واللام لام القسم، والقسم مقدر، ونون "نجزي" للتعظيم، وإسناد الفعل إلى الله تشريف لهذا الجزاء، والنون المشددة للتوكيد.
وإنما جاءت هذه الأساليب زيادة في تطمين قلوب المؤمنين - رغم إيمانهم - بأن جزاءهم قادم لا محالة. فكأن المعنى: وللصابرين - بكل تأكيد - أحسن الجزاء منا.
- (ولنجزين) ضمن الجزاء معنى العطاء؛ لأنه تعدى إلى مفعولين، الأول: الذين، والثاني: أجرهم.
- (ولنجزين) التفات من أسلوب الغيبة (وما عند الله باق) إلى المتكلم (لنجزين)، وهذا الالتفات للعناية، والتعبير بأسلوب التعظيم مع القسم والتأكيد زيادة في العناية والتأكيد والبشارة.
- وقرئت (لنجزين) بياء الغيبة (ليجزين) رجوعا إلى الله سبحانه وتعالى؛ لتقدم ذكره (وما عند الله باق).
- (الذين صبروا) أي في الدنيا على حفظ العهود مع الله ومع الناس، وفي هذا إشارة إلى أن الالتزام بالعهود بحاجة إلى الصبر.
وكذلك ففي قوله تعالى (ولنجزين الذين صبروا) دلالة على أن الصبر سبب للحصول على نعيم الله في الآخرة.
- (أجرهم) أي: على صبرهم على طاعة الله سبحانه وتعالى، والأجر - هنا - هو الجنة، وأكرم بها من أجر!!
- (بأحسن ما كانوا يعملون) أحسن على بابها من التفضيل، و (ما) اسم موصول، وهو مضاف إليه، ولذا صرفت (أحسن).
- (بأحسن ما كانوا يعملون) أي أن الله - سبحانه وتعالى - يجزي الصابرين بأحسن عمل عملوه، ويعطيهم درجتهم على أساس أحسن عمل، ويلحق باقي الأعمال الأقل به.
وهذا الجزاء من كرم الله سبحانه وتعالى، وإلا فنحن في الدنيا نسجل درجة الطالب أو غيره وفق المتوسط الحسابي لكل ما حصل عليه من التقديرات، ولكن الله - سبحانه وتعالى - يعطي الصابرين الدرجة بناء على أعلى تقدير.
وبهذا يتبين خطأ من قال: إن "أحسن" ليست على بابها من التفضيل؛ هروبا من إشكالية كون الجزاء على الأحسن، وملخص هذا الإشكال عندهم: إذا كان الجزاء على الأحسن فأين الجزاء على الحسن؟! وفي ما سبق من أن الجزاء على الأحسن في الجنة يجعل العمل الحسن عملا أحسن. وهذا جواب حسن إن شاء الله تعالى.
- (بأحسن ما كانوا يعملون) قيل: بجزاء أحسن من عملهم.
وهذا ضعيف؛ لأن اسم "أحسن" اسم تفضيل، ولو كان المعنى "بجزاء أحسن من عملهم" لكان القول "بأحسن مما كانوا يعملون".
- (ما كانوا يعملون) (ما) اسم موصول، والاسم الموصول للعموم، ليدخل كل ما عمله الصابر في حيز اختيار أحسن عمل.
(صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) (٩٧)
المفردات:
- طيبة: حسنة، والطيب ضد الخبيث.
المعنى الإجمالي:
ختمت الآية السابقة بوعد الصابرين بالجزاء وفق أحسن ما كانوا يعملون، فجاءت هذه الآية من باب التفصيل والبيان لمبدأ جزاء الصالحين عند الله - سبحانه وتعالى - على سبيل العموم؛ لمناسبة السياق لهذا المعنى.
فكل مؤمن يعمل صالحا فله الحياة الطيبة في الدنيا وله الجزاء في الآخرة بأحسن ما عمل، يستوي في هذا الأمر الذكور والإناث.
المعنى التفصيلي:
- (من عمل) (من) اسم شرط، وأسماء الشرط من صيغ العموم؛ ليدخل كل من عمل صالحا ضمن الموعودين بالجزاء.
- (عمل) في هذه الدنيا عملا (صالحا). ولا يوصف العمل بالصلاح إلا إذا كان موافقا لدين الله سبحانه وتعالى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. (مسلم: ٣٢٤٣).
- (من ذكر أو أنثى) حرف الجر "من" للبيان، بمعنى: أعني (من ذكر أو أنثى).
يستوي في الأجر الذكر والأنثى، وإن كان الله - سبحانه وتعالى - قد خص الذكور بأحكام كما أنه خص الإناث بأحكام، ولكنهما في أجر العمل سواء.
- (من ذكر أو أنثى) اسم الشرط "من" من صيغ العموم، ويدخل ضمنه الذكر والأنثى، فلماذا ذكر "الذكر والأنثى"؟
ذكر "الذكر والأنثى" من باب البيان والتفصيل؛ رفعا لإيهام التفريق بينهما بالجزاء، وزيادة في حث المؤمنين على العمل الصالح إناثا كانوا أو ذكورا؛ لأن الحكم الصريح ليس كالحكم المستنبط.
- (وهو مؤمن) هذه الجملة حال، أي: من عمل صالحا وحاله الإيمان بالله والإخلاص له فله الجزاء المذكور.
وهذه الآية من مجموع الأدلة القاضية بأن الأعمال لا تقبل بلا إيمان، ويعبر عن هذا بأن الإيمان شرط في صحة الأعمال.
- (فلنحيينه) الفاء رابطة لجواب الشرط، واللام لام القسم، والقسم مقدر، والنون للتعظيم، وإسناد الفعل إلى الله - سبحانه وتعالى - تشريف لهذه الحياة، والنون المشددة للتوكيد.
وإنما جاءت هذه الأشياء زيادة في تطمين قلوب المؤمنين - رغم إيمانهم - بأن جزاءهم قادم لا محالة. فكأن المعنى: وله - بكل تأكيد - حياة طيبة منا.
- (حياة طيبة) أي: الحياة الدنيا، وهذا هو الراجح. وقيل: في الآخرة؛ بحجة أن المسلم لا يطيب له عيش في الدنيا. وهذا ضعيف للآتي:
أولا: لأن سياق الآية يدل على أن الحياة الطيبة في الدنيا؛ (فلنحيينه حياة طيبة) في الدنيا (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) في الآخرة. ولو كانت الحياة الطيبة في الآخرة لكان في الآية تكرار، وحمل الآية على ما ذكرنا أظهر.
وثانيا: لأن الحياة الطيبة تكون للمسلم في الدنيا، وسيأتي بيان معنى الحياة الطيبة بعد قليل.
- (حياة) نكرة، ودلالة التنكير في هذا السياق هي: التشريف.
- (طيبة) طاهرة زكية، والطيب ضد الخبيث؛ قال تعالى (... حتى يميز الخبيث من الطيب... ) (آل عمران: ١٧٩)، (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات... ) (النور: ٢٦)
- ولكن قد يسأل سائل: إننا نرى كثيرا من المؤمنين يعيشون حياة خشنة يملؤها الفقر والحاجة، فكيف وعد الله - سبحانه وتعالى - المؤمنين بالحياة الطيبة وحالهم هذه؟
وقبل الإجابة عن هذا التساؤل لا بد من العلم أن الحياة الطيبة لا تعني الغنى ورغد العيش، وإلا فقد ذاق النبي - ﷺ - وذاق الصحابة - رضوان الله عليهم - خشونة العيش، وإنما المقصود بالحياة الطيبة، تلك الحياة التي يحياها المؤمنون، حياة ليس فيها فسق ولا انحلال ولا مجون ولا زنا، فالكفار في هذا الزمن ورغم كل ما يملكون من المال ورغد العيش يعيشون حياة خبيثة؛ لأن الحياة الطيبة إنما هي للمؤمنين، فالزنا بين الكفار أشهر من أن يذكر، فهم لا يفرقون بين امرأة وأخرى، حتى أن الزنا امتد إلى نساء إخوانهم وأصحابهم، بل إلى محارمهم، وأما طعامهم، فهم لا يفرقون بين طيب وخبيث، فهم يأكلون أي شيء يخطر ببالهم، وعلى هذا فقس كل جوانب حياتهم.
هذا، ومن جهة أخرى فإن القناعة والرضا بما قسم الله - سبحانه وتعالى - تجعل المؤمن راضيا مطمئنا سعيدا، وهو بهذا الإيمان يشعر بالسعادة أيضا؛ لأن يركن إلى ركن شديد، ويعتمد على العظيم الحميد.
ولذا؛ فرغم الرغد الذي يعيشه الكفار إلا أنهم هم المقبلون على الانتحار، علاوة على ما يعانون من اضطرابات نفسية تحرق أي فرحة في حياتهم. فالمؤمنون هم أهل التوكل على الله - سبحانه وتعالى - وهم أهل الصبر؛ ولذا فهم يعيشون حياة طيبة نظيفة طاهرة ملؤها القناعة والرضا.
وفسرت الحياة الطيبة بـ:
الرزق الطيب الحلال، والقناعة، وحلاوة الطاعة، والاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الخالق.
وهذا كله صحيح؛ فإن هذا من باب التنصيص على بعض أفراد العام، أي: كل واحد من هذه الأقوال بين جانبا من الحياة الطيبة، وكل هذه الجوانب مجتمعة هي الحياة الطيبة.
وأما ما ذكره بعض المفسرين من أن الحياة الطيبة هي: المال. فهو غير صحيح، فقد قال أحد المفسرين رحمه الله تعالى: "الله - عز وجل - جعل المال جزاء الأعمال، وذلك في ستة مواضع" وذكر منها هذه الآية.
وفسر بعض المفسرين الحياة الطيبة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه" (مسلم: ١٧٤٦).
وفي هذا نظر؛ لأن من الصالحين من لم يرزق الكفاف، والله وعد الصالحين بالحياة الطيبة، ولو كان رزق الكفاف حد للحياة الطيبة؛ لحكمنا على كل من لم يرزق كفافا بأنه ليس من الصالحين، وهذا معلوم البطلان، فكم من الصحابة - رضوان الله عليهم - كان رزقه دون الكفاف.
- (ولنجزينهم) الواو عاطفة، واللام لام القسم، والقسم مقدر، والنون للتعظيم، وإسناد الفعل إلى الله تشريف لهذا الجزاء، والنون المشددة للتوكيد.
- ولكن لماذا جاء التعبير في (ولنجزينهم) بالجمع، بينما جاء التعبير في (فلنحيينه) بالمفرد؟
جاء التعبير في (ولنجزينهم) بالجمع مراعاة لمعنى الاسم الموصول (من)، بينما جاء التعبير في (فلنحيينه) بالمفرد مراعاة للفظ الاسم الموصول (من).
- (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) سبق الكلام في تفسيرها في الآية السابقة عند قوله تعالى (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) (٩٦)
(فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (٩٨)
المفردات:
- استعذ: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأصل الاستعاذة: طلب الالتجاء.
- الرجيم: المطرود من رحمة الله سبحانه وتعالى.
المعنى الإجمالي:
المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها أن قوله تعالى (... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (النحل: ٨٩) متصل المعنى مع قوله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (النحل: ٩٨) وأن ما بينهما جمل معترضة.
ووجه المناسبة بين الآيتين هو أن الآية الأولى تخبر أن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فتأمره الآية الثانية بالاستعاذة إذا قرأ هذا القرآن المنزل عليه.
المعنى التفصيلي:
- (فإذا) الفاء متفرعة عن نزول القرآن على النبي ﷺ (... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (النحل: ٨٩).
- (فإذا) جاء التعبير بـ "إذا" وليس "إن"؛ لأن الأصل في ما بعد "إذا" تحقق وقوعه، وفي ما بعد "إن" عدم تحقق وقوعه أو ندرته، ولا يخرج عن هذا إلا لنكتة بلاغية.
ولذا؛ فقراءة النبي - ﷺ - للقرآن - وكذا المسلمون في زمنه ومن بعده - حاصلة في كل وقت من آناء الليل والنهار؛ ولذا استعمل حرف "إذا".
- (قرأت) الخطاب موجه ابتداء للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته داخلة تحت هذا الأمر؛ لقوله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) (الأحزاب: ٢١) وجرى أمثال ذلك في قوله تعالى (قل هو الله أحد) (الإخلاص: ١)
- (قرأت) جاء الخطاب موجها إلى المسلمين من الآية (٩٠) إلى (٩٧)، بينما كان الخطاب في الآية (٨٩) والآية (٩٨) موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه المناسبة أن قوله تعالى (... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (النحل: ٨٩) متصل المعنى مع قوله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (النحل: ٩٨) وأن ما بينهما جمل معترضة؛ وهذا هو سبب كون الخطاب للنبي - ﷺ - ابتداء.
ووجه المناسبة بين الآيتين (٨٩) و (٩٨) هو أن الآية الأولى تخبر أن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فتأمره الآية الثانية بالاستعاذة إذا قرأ هذا القرآن المنزل عليه.
- (قرأت) أي: إذا أردت أن تقرأ القرآن، ولهذا نظائر في القرآن: قال تعالى (... إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم... ) (المائدة: ٦) أي: أردتم، وقوله تعالى (... إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان... ) (المجادلة: ٩) أي: إذا أردتم أن تتناجوا، وقوله تعالى (... وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب... ) (الأحزاب: ٥٣) أي إذا أردتم أن تسألوهن.
- ذهب بعض العلماء إلى أن الاستعاذة إنما تكون بعد القراءة، وهذا ضعيف لما ذكر آنفا، وأيضا: فإنما شرعت الاستعاذة في بداية قراءة القرآن؛ لدفع وسوسة الشيطان؛ لئلا يفسد الشيطان على القارئ تفكره وتدبره، وهذا إنما يتحقق إذا كانت الاستعاذة في بداية القراءة لا عند الانتهاء منها.
ولو قلنا في غير التنزيل "وإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم فاقرأ القرآن"، لكان الأمر بقراءة القرآن كلما استعاذ المسلم، وهذا غير مأمور به.
- (القرآن) هو كلام الله المنزل على نبينا محمد - ﷺ - المعجز المتعبد بتلاوته، وهو أشهر من أن يعرف.
- (فاستعذ بالله) الفاء رابطة لجواب الشرط، والاستعاذة بالله: طلب الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
- (فاستعذ) وليس "قل أعوذ"؛ لأن الاستعاذة قول واعتقاد، وقوله (فاستعذ) يشمل القول والاعتقاد، بينما "قل أعوذ" ليس صريحا على اشتمال الاعتقاد صراحة (فاستعذ). فتأمل حفظك الله!
- (فاستعذ) وليس "فعذ"؛ لأن (فاستعذ) فيها معنى الطلب والسعي للحصول على العوذ؛ وهذا مستفاد من صيغة الاستفعال.
- (بالله) وليس "بالرحمن" أو "القهار"؛ لأننا عندما نستعيذ بـ "الرحمن" فإننا نستحضر معنى "الرحمة"، وإذا قلنا "القهار" فإننا نستحضر معنى "القهر"، وعندما نقول "الله" في سياق الاستعاذة فإننا نستحضر الاستعاذة بالإله الحق الواحد الأحد المتصف بكل صفات الكمال سبحانه وتعالى.
- (من الشيطان) (من) سببية، أي: التجئ بالله بسبب الشيطان الرجيم. والشيطان: إما أن يقصد به إبليس أو كل الشياطين، وعلى الأول فإن "ال" التعريف للعهد، وعلى الثاني للجنس. وكون الاستعاذة من كل الشياطين جميعا أبلغ من الاستعاذة من إبليس وحده؛ لأن الوسوسة من إبليس وجنوده جميعا، لا من إبليس وحده.
- وأصل (الشيطان) في اللغة إما أن يكون من "شطن" أو "شاط"، فإذا كان من "شطن" فهو يدل على البعد، والشيطان في ضوء هذا المعنى بعيد عن رحمة الله ومطرود، وإن كان من "شاط" فهو يدل على الهلاك بالاحتراق أو أي شيء آخر، والشيطان في ضوء هذا المعنى هالك.
- (الرجيم) على وزن فعيل بمعنى مرجوم على وزن مفعول، وفي اللغة نظائر لوزن "فعيل" بمعنى "مفعول": نقول: جريح وقتيل. بمعنى مجروح ومقتول.
- (الرجيم) هو: المطرود من رحمة الله تعالى، وهو من "الرجم" هو: الرمي بالحجارة، والرمي إما ان يكون للقتل كما في رجم الثيب الزاني، وإما ان يكون للطرد، أو لغير ذلك من المعاني، والتي تعرف بإطلاق النظر في المعاجم اللغوية.
- (الرجيم) نعت للشيطان، وذكر النعت في هذا السياق إنما هو لتأكيد ذم الشيطان، وللتنصيص على ضعفه وذله.
- لكن ما حكم الاستعاذة؟
ملخص ما ذهب إليه العلماء في شأن الاستعاذة:
ذهب الجمهور إلى أن حكم الاستعاذة هو: الندب، ومن العلماء من رأى الوجوب، كابن حزم وغيره ممن سبقه من التابعين أو لحقه، محتجين أن الأمر للوجوب، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، رغم أن الأمر للوجوب؛ لأنه صرفه صارف عن الوجوب إلى الندب، ودليل ذلك:
١ - لم يأمر النبي - ﷺ - المسيء صلاته بالاستعاذة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
٢ - وأيضا فعن أنس قال بينا رسول الله - ﷺ - ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم (إنا أعطيناك الكوثر (١) فصل لربك وانحر (٢) إن شانئك هو الأبتر (٣)) (صحيح مسلم ج١/ص٣٠٠)
والشاهد أن النبي - ﷺ - قرأ القرآن دون استعاذة.
وذهب بعض الجمهور - كالإمام مالك - إلى أن الاستعاذة لا تشرع في الصلاة، وهذا ضعيف؛ لثبوت الاستعاذة في الصلاة عن النبي - ﷺ - كما سيأتي، ولذا فإن الاستعاذة مشروعة في الصلاة وخارجها.
وقال بعض من رأى أن الاستعاذة تشرع في الصلاة بأن الاستعاذة إنما تكون في الركعة الأولى، ومنهم من رأى أنها تكون في كل ركعة، علما بأنه لم يرد نص تفصيلي عن النبي - ﷺ - بكون الاستعاذة في كل ركعة، وإنما استدلوا بعموم الأمر بالاستعاذة، وهذا العموم قد يفهم منه الجواز أما السنية فإنها أمر زائد على هذا، ولذا فإن السنة هي - والله أعلم - الاستعاذة في الركعة الأولى فقط.
- ولكن كيف يستعيذ القارئ؟
يستعيذ القارئ بقوله: أعوذ بالله من الشيطان. وهو بقوله هذا قد امتثل أمر الاستعاذة، ولكن قد ورد في السنة صيغة أخرى، وهي:
عن أبي سعيد قال كان رسول الله - ﷺ - إذا قام من الليل فكبر، قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه. ثم يستفتح صلاته. قال جعفر: وفسره مطر همزه: المؤتة، ونفثه: الشعر، ونفخه: الكبر. (سنن الدارمي ج١/ص٣١٠).
رواه (الدارمي: ١٢١١) واللفظ له، ورواه (أبو داود: ٦٥٨) و (الترمذي: ٢٥) و (ابن ماجه: ٧٩٩) وعند (أحمد) في غير موضع، مع اختلاف في بعض الألفاظ بين بعض الروايات، وكل الطرق لا تخلو من مقال، والحديث بمجموع طرقه حسن محتج به في إثبات هذه الصيغة من الاستعاذة.
(إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) (٩٩)
المفردات:
- سلطان: تسلط.
المعنى الإجمالي:
بعد أن أمر الله - سبحانه وتعالى - رسوله - ابتداء - بالاستعاذة، وأمر كذلك المؤمنين أجمعين، جاءت هذه الآية لتعلل الأمر بالاستعاذة.
فالذي آمن وتوكل على الله - سبحانه وتعالى - فإن الشيطان ليس له عليه تسلط.
المعنى التفصيلي:
- (إنه ليس له سلطان) (إنه) أي: الشيطان؛ لذكره في ختام الآية السابقة (... الشيطان الرجيم).
- (سلطان) أصل مادة "سلط" هي: القوة والقهر، ومن ذلك التسلط، وسمي السلطان سلطانا؛ لأن أساسه القوة والقهر.
وتسلط الشيطان ليس بالجبر والقهر، وإنما بالدعوة إلى المعصية وطاعتهم له بذلك، قال تعالى (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم) (إبراهيم: ٢٢)
- ولكن لا يسلم أحد من الوسوسة حتى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ قال تعالى (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) (الحج: ٥٢)، فما الفرق بين الوسوسة والسلطان؟
لا تصبح وسوسة الشيطان سلطانا إلا إذا أطيع فيما يوسوس به من الكفر، ويوضح هذا المعنى الآية التالية (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) (النحل: ١٠٠).
وإنما قلت: فيما يوسوس به من الكفر؛ لأن من المؤمنين من يتأثر بوسوسة الشيطان فيقع في المعاصي، فالمؤمنون غير معصومين عن المعاصي، وإنما ليس له سلطان عليهم في أمرهم بالكفر.
- (على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) التوكل جزء من الإيمان، فلماذا ذكر بعده؟
هذا من باب ذكر الخاص بعد العام للأهمية، وأهمية التوكل في هذا السياق تبرز في أن الاستعاذة إنما هي الاتجاء إلى الله - سبحانه وتعالى - واعتماد عليه، وهذا هو عين التوكل.
وأيضا ففي ذلك إشارة إلى استحضار النية عند الاستعاذة حتى يجني المؤمن ثمرها؛ لأن الاستعاذة ليست لفظا وانتهى الأمر، وإنما تكون باستحضار النية والتوكل على الله سبحانه وتعالى، وكم من مستعيذ يستعيذ بلسانه وقلبه لاه؟
- (على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) جاء التعبير (آمنوا) بالفعل الماضي، بينما جاء (يتوكلون) بالفعل المضارع، فلماذا؟
جاء التعبير (آمنوا) بالفعل الماضي؛ لأن الإيمان استقر في القلب وقضي أمره، بينما جاء (يتوكلون) بالفعل المضارع؛ لأن أمر التوكل مستمر متجدد، فعبر عنه بالفعل المضارع.
- (وعلى ربهم يتوكلون) قدم الجار والمجرور (وعلى ربهم) للحصر، أي: لا يتوكلون على أحد إلا الله سبحانه وتعالى.
- جاء التعبير بـ (ربهم) ولم يأت أي اسم آخر من أسماء الله سبحانه وتعالى؛ لما في معنى الربوبية من الرعاية والعناية، فهو تأنيس للمؤمنين بأن الله سيعيذهم، وإضافة "رب" إلى الضمير "هم" إنما هو للولاية والقرب والتأنيس.
- استدل بعض من ينكر أذى الجن على الإنس بهذه الآية، واعتراضهم: كيف ينفي الله - سبحانه وتعالى - سلطان الشيطان على المؤمن ويصيبه بالمس وغير ذلك؟
وللجواب عن ذلك لا بد من العلم أن وسوسة الشيطان لا تصبح سلطانا إلا أطيع الشيطان في ما يوسوس به من الكفر، ويوضح هذا المعنى الآية التالية (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) (النحل: ١٠٠)
وأما نفي الواضح الثابت من ضرر الجن على الإنس بما هو محتمل فهو غير صحيح؛ لأن هذا يتعارض مع النصوص الصريحة والصحيحة التي تثبت أن ضررا للجن قد يقع على الإنس، ولقد كتبت رسالة في بيان ضرر الجن على الإنس، وكل ذلك بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة، واسمها (تعرف إلى ضوابط الرقية الشرعية وأحكامها) وهي منشورة.
- الإيمان والتوكل على الله سبحانه وتعالى - حرز حريز وحصن حصين من الشيطان، وأما سلطان الشيطان بالإضلال، فإنما يكون بالابتعاد عن ذكر الله سبحانه وتعالى؛ قال تعالى (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (٣٦) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (٣٧)) (الزخرف)
(إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) (١٠٠)
المفردات:
- سلطانه: تسلطه.
- يتولونه: يتخذونه وليا.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة أنه ليس للشيطان تسلط على المؤمنين، تبين هذه الآية أن سلطان الشيطان إنما هو على من يتخذونه وليا ويطيعونه، والذين يشركون بالله - سبحانه وتعالى - بسبب هذا الشيطان.
المعنى التفصيلي:
- هذه الآية تأكيد لمضمون الآية السابقة، وهو: ليس للشيطان سلطان على المؤمنين الذين يتوكلون على ربهم، وفيها معنى جديد أيضا.
- قصرت هذه الآية سلطان الشيطان على الذين يتولونه وعلى المشركين.
- (سلطانه) أي: سلطان الشيطان، وسبق الكلام في الآية السابقة على معنى "السلطان" بما يوضح المعنى.
- (الذين يتولونه) أي: يتخذونه وليا، أي: مطاعا عندهم.
والذين يتخذون الشيطان وليا ليسوا من المسلمين كما ظن بعض المفسرين؛ لأن الذي يتولى الكافر فهو مثله، فكيف بمن يتولى الشيطان رأس الكفر (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) (المائدة: ٥١)، وأولياء الشيطان هم الكفار الذين أمر الله بقتالهم؛ قال تعالى (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا) (النساء: ٧٦).
- (يتولونه) جاء التعبير بالفعل المضارع للدلالة على أن تولي الشيطان متجدد بتجدد الأيام واللحظات، وذلك كلما تولى الكافر الشيطان كلما ازداد تعلقه به وتوليه، فإنما هو تول يزداد ويتجدد. والله المعيذ!
- (والذين هم به مشركون) الضمير في (به) يعود على الشيطان، والباء سببية، أي: والذين هم مشركون بسبب إطاعتهم الشيطان. وهذا هو الاحتمال الأول.
والاحتمال الثاني: إن الضمير يعود على الله سبحانه وتعالى، ويكون المعنى: والذين هم بالله مشركون.
ولكن الاحتمال الأول أظهر؛ وذلك لدلالة السياق عليه؛ فالضمائر السابقة عائدة إلى الشيطان، وليس من مانع يمنع حمل هذا الضمير على الشيطان، فكان أظهر للتناسق، واقرأ وتأمل - بارك الله فيك - (إنما سلطانه) أي: الشيطان (على الذين يتولونه) أي: الشيطان (والذين هم به)؟؟؟؟؟ (مشركون).
- (والذين هم به مشركون) جاء تقديم الجار والمجرور (به) على (مشركون)؛ للدلالة على الحصر، أي: ما أشركوا إلا بسبب غواية الشيطان.
- (مشركون) جاء التعبير بالاسم وليس بالفعل؛ لأن الاسم يدل على الثبوت والدوام، والنكتة في هذا أن الشيطان لم يضل الكفار ليمارسوا الشرك أحيانا، بل اجتهد عليهم حتى احترفوا الشرك، فصار المعنى: وما احترف الكفار الشرك احترافا إلا بسبب الشيطان، وهذا أقوى من: وما يشرك الكفار إلا بسبب الشيطان. فتأمل رعاك الله!
- قيل: إن (الذين يتولونه) هم من المسلمين العصاة، وسبق بيان بطلان هذا القول، ولكن لماذا أعيد ذكر الاسم الموصول (الذين) في قوله تعالى (.. الذين يتولونه والذين هم به مشركون) ولم يعد في الآية السابقة (... إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) (النحل: ٩٩)؟
والجواب عن هذا: إن عطف (والذين هم به مشركون) على (الذين يتولونه) من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الفئات التي تتولى الشيطان كثيرة، منهم الملحد المنكر لوجود الله، ومنهم المشرك، ومنهم الكفار من أهل الكتاب، ومنهم.... ، وجاء التنصيص على المشركين لأنهم هم المخاطبون ابتداء في هذه السورة المكية.
ولكن لماذا أعيد الاسم الموصول في هذه الآية ولم يعد في الآية السابقة؟
أعيد الاسم الموصول في هذه الآية؛ لأن كل فئة تتولى الشيطان إنما هي فئة مستقلة عن الفئة الأخرى بأسلوب ضلالها، ولذا فكل فئة لها فلسفتها وعقيدتها وسلوكها وشعائرها، وكل هذا خاص بها دون الآخرين، فكان التعبير بالاسم الموصول للدلالة على هذه الاستقلالية، فالمشركون هم نوع مستقل من مجموع من يتولى الشيطان، بينما لم يعد الاسم الموصول في قوله تعالى (... الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)؛ لأن التوكل هو عين الإيمان، ولا إيمان دون توكل، وليست فئة المتوكلين مستقلة عن فئة المؤمنين استقلال فئات الضلال.
- إنما يأخذ الشيطان قوته من إقبال الضالين عليه (إنما سلطانه على الذين يتولونه... ) فهم من يقبل عليه ويتولاه ويخضع لأمره، وما كان الشيطان يوما صاحب سلطان على من يلتجئ إلى الله - سبحانه وتعالى - ويستعيذ به، إنما سلطانه على من يعطيه الدنية ويخضع له. أعاذنا الله منه. آمين!
(وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) (١٠١)
المفردات:
- بدلنا: من التبديل، وهو: جعل شيء مكان شيء.
- مفتر: الذي يكذب عن عمد.
المعنى الإجمالي:
ما زال الكلام في شأن القرآن، فبعد الأمر بالاستعاذة وبيان فائدتها، جاءت الآية ببيان طعن الكفار بالقرآن، وسبب هذا الطعن هو النسخ الواقع في آيات الله سبحانه وتعالى.
فإذا ما وقع النسخ في آية من آيات الله، قال الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم: إنما أنت تفتري على الله كذبا، وهذا القرآن ليس من عند الله؛ وذلك لوقوع النسخ في آياته.
ولكن لا بد من العلم أن الله - سبحانه وتعالى - ينزل من الآيات في كل زمن ما يعلم أنه نافع لنا، ولكن الكفار لا يعلمون ما في النسخ من الحكم والمنافع، ومنهم من يعلم ولكن ينكر عنادا واستكبارا.
المعنى التفصيلي:
- هذه الآية تدل على أن الله - سبحانه وتعالى - ينسخ آياته كما يريد، وليس هذا من باب التناقض، وإنما هذا لحكم يعلمها الله سبحانه وتعالى.
- (وإذا) جاء التعبير بـ (إذا) وليس "إن"؛ لتحقق وقوع النسخ في آيات القرآن الكريم، وما أثير حول النسخ من شبه قد رد عليه العلماء قديما وحديثا، فمن أراد الاستزادة فعليه مراجعة كتب علوم القرآن الكريم.
- (بدلنا آية مكان آية) أي: بدلنا حكم آية مكان حكم آية، أو: بدلنا آية موضع آية أخرى، بأن وضع لفظ آية مكان لفظ آية.
ولا بد من شرح مختصر مسهل حول أنواع النسخ حتى يتضح تفسير الآية.
فأنواع النسخ ثلاثة:
الأول: نسخ الحكم وبقاء التلاوة.
الثاني: نسخ التلاوة وبقاء الحكم.
الثالث: نسخ الحكم والتلاوة.
أما الأول (نسخ الحكم وبقاء التلاوة) فمثاله:
(يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم) (المجادلة: ١٢) منسوخ بقوله تعالى (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون) (المجادلة: ١٣)
أما الثاني (نسخ التلاوة وبقاء الحكم) فمثاله:
قال أنس بن مالك أن رسول الله - ﷺ - قال: لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب. قال أبي: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت (ألهاكم التكاثر). (صحيح البخاري ج٥/ص٢٣٦٥)
وأخرج (مسلم ج٢/ص٧٢٦) من حديث أبي موسى الأشعري نحو هذا المعنى (بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمئة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فأتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة، فأنسيتها غير أني قد حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف بن آدم إلا التراب)
أما الثالث (نسخ الحكم والتلاوة) فمثاله:
عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - ﷺ - وهن فيما يقرأ من القرآن. (مسلم ج٢/ص١٠٧٥)
ومعنى (فتوفي رسول الله - ﷺ - وهن فيما يقرأ من القرآن) أي عند من لم يبلغه النسخ لغاية ذلك الوقت، وكما تعلم يا أخي فإن طرق الاتصال في عصرهم كانت صعبة.
فإن قلنا معنى الآية: بدلنا حكم آية مكان حكم آية. فهو النوع الأول من النسخ (نسخ الحكم وبقاء التلاوة)
وإذا قلنا: معنى الآية: بدلنا لفظ آية مكان لفظ آية. فهو من النوع الثاني (نسخ التلاوة وبقاء الحكم) أو من النوع الثالث (نسخ الحكم والتلاوة).
قد يسأل سائل: كيف تنسخ تلاوة القرآن، وهل ينسخ كلام الله - سبحانه وتعالى - ويصبح ليس كلاما لله؟!!
وللجواب عن هذا لا بد من العلم أن كلام الله - سبحانه وتعالى - موجود في القرآن وغيره، ونسخ تلاوته في القرآن لا يخرجه عن كونه كلاما لله، بل ينسخ حكم ضمه إلى القرآن.
- (والله أعلم بما ينزل) هذا احتراس لبيان أن التبديل الحاصل إنما هو لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، وليس كما يشغب به الكفار من أن النسخ دليل على التناقض.
- جاء إسناد الفعل (بدلنا) إلى الضمير "نا"، وجاء الالتفات من أسلوب الغيبة إلى أسلوب المتكلم؛ تعظيما لأمر النسخ.
- (والله أعلم بما ينزل) الالتفات من أسلوب المتكلم (بدلنا) إلى أسلوب الغيبة (الله)؛ لما في ذكر اسم الجلالة (الله) من تنبيه على مصدر النسخ، ولأن التعبير بأسلوب الغيبة في هذا السياق (والله أعلم بما ينزل) مقرر للخبر بأسلوب القاعدة والأصل، ولو قلنا في غير التنزيل "ونحن أعلم بما ننزل" لما ظهر الكلام على نسق تقرير القاعدة والأصل.
- (قالوا إنما أنت مفتر) أي قال الكفار لمحمد صلى الله عليه وسلم: إنما أنت يا محمد تفتري على الله الكذب، فهذا القرآن ليس كلام الله؛ لأن هذا التناقض لا يكون في كلام الله.
- (إنما أنت مفتر) وهذا قصر موصوف على صفة، وهو قصر إضافي. وقد سبق بيان المقصود من هذا الاصطلاح. وقولهم (أنت مفتر) ليس بقوة القصر (إنما أنت مفتر)، فهم يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أنت إلا مفتر. فكأنهم ألغوا كل صفاته التي يتصف بها وجعلوا له صفة واحدة ألا وهي: الافتراء.
- (مفتر) أي: مفتري. فهم لا ينسبون إلى النبي ﷺ الكذب فقط، بل ينسبون له الاحتراف في الكذب، لأن الافتراء هو: ادعاء الكذب، وهذا الادعاء متعمد، لأن أصل الافتراء "القطع"، فمن يفتري الكذب فإنما يتعمد الكذب ويقطع به.
والافتراء يستعمل في التعبير عن الكذب، ولكنه ليس هو الكذب، بل استعمل فيه، وانظر في قوله تعالى (انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا) (النساء: ٥٠) (... ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب... ) (المائدة: ١٠٣) وغير ذلك من الآيات.
- (بل أكثرهم لا يعلمون) أن في النسخ حكما بالغة، و (بل) للإضراب، وهذا إضراب انتقالي، والإضراب الانتقالي هو: الانتقال من أمر إلى أمر أفظع منه مع بقاء الحكم الأول، والحكم الأول هو ادعاؤهم أن النبي - ﷺ - مفتر.
- ولكن لماذا (أكثرهم لا يعلمون) لا كلهم؟
وذلك؛ لأن فيهم السادة والزعماء وأصحاب المصالح الذين يعلمون الحق ولكنهم ردوه عن علم لأجل مصالحهم، وفيهم العامة الذين قد يغيب عنهم كثير من الأمور.
- ولكن قد يسأل سائل: إن كان الكفار لا يعلمون فلماذا يحاسبهم الله سبحانه وتعالى، مع أن الجهل عذر من الأعذار التي ترفع العذاب، قال تعالى (... وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (الإسراء: ١٥)؟
وللجواب عن هذا لا بد من العلم أن جهلهم هنا لا يعذرون به؛ لأنه ليس جهلا ناتجا عن عدم وصول الخبر إليهم، بل هو جهل ناتج عن جحودهم وإغلاقهم قلوبهم عن الإيمان، وعقولهم عن التفكير، ولذا فهذا الجهل من كسب أيديهم!
(قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين ءامنوا وهدى وبشرى للمسلمين) (١٠٢)
المفردات:
- روح القدس: جبريل عليه السلام.
المعنى الإجمالي:
بعد أن طعن الكفار بالقرآن بأنه مفترى من عند محمد - ﷺ - أمر الله - سبحانه وتعالى - نبيه أن يقول للكفار: إن هذا القرآن ليس كلامي، بل هو كلام الله سبحانه وتعالى؛ أنزله ليثبت المؤمنين على الإيمان، وليكون هدى وبشرى للمسلمين.
المعنى التفصيلي:
- (قل) الخطاب فيه بداية للنبي - ﷺ - وللمؤمنين تبعا.
وفي فعل الأمر (قل) دلالة على أننا مكلفون بتبليغ دين الله سبحانه وتعالى، ومكلفون - أيضا - بالذب عنه، وهذا تكليف جازم يستمد هذه الصفة من جزم فعل الأمر (قل).
- (نزله) أي القرآن.
قيل: جاء التعبير بـ (نزله) وليس "أنزله"؛ للدلالة على التدرج بإنزال القرآن، بينما تدل صيغة "أنزله" على نزول القرآن مرة واحدة دون تدرج. وقيل: إن تضعيف الفعل يدل على التعظيم.
وقد سبق الكلام على مثل هذا بالنفي؛ لقوله تعالى (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) (الفرقان: ٣٢) فالكفار طلبوا أن ينزل القرآن جملة واحدة بفعل مضعف (نزل)، وهذا يرد أن التضعيف لتقوية المعنى تعظيما للقرآن، ويرد على أن التضعيف يعني نزول القرآن منجما؛ لأنهم طلبوا نزوله جملة واحدة (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة)
وقال تعالى (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) (الزخرف: ٣١) فـ (نزل) ليس لتقوية المعنى تعظيما للقرآن.
ولو كانت التعدية بالتضعيف أقوى من التعدية بالهمزة، لكان الإنزال في قوله تعالى (ولو نزلناه على بعض الأعجمين) (الشعراء: ١٩٨) أقوى منه في قوله تعالى (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) (الدخان: ٣) (إنا أنزلناه في ليلة القدر) (القدر: ١)، وهذا غير صحيح؛ لأن السياق في سورتي (الدخان) و (القدر) لتعظيم القرآن.
- (روح) أي جبريل عليه السلام، وقيل في بيان معنى الروح في هذه الآية من جهة اللغة: الروح: المطهر من نقائص البشر؛ لأن الأرواح تترفع عن نقائص الأجساد. وهذا ضعيف؛ لأن من الأرواح ما هو خبيث.
والروح تأتي بعدة معان، منها ما تكون الحياة به: (ويسألونك عن الروح) (الإسراء: ٨٥)، ومنها جبريل: (نزل به الروح الأمين) (الشعراء: ١٩٣)، ومنها الوحي: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) (الشورى: ٥٢)، والجامع فيما ذكر أن الروح تكون بها حياة الأبدان، والوحي يكون به حياة القلوب؛ ولذا سمي روحا، وسمي جبريل روحا؛ لأنه كان ينزل بالوحي، فهو بهذا الاعتبار سبب لحياة القلوب.
- (القدس) وهو: الطهر، ومعنى (روح القدس) أي: جبريل المطهر من النقائص.
- (من ربك) وهذا بيان لمصدر القرآن الكريم، وجاء النص (من ربك) وليس "من ربي"؛ لأن في هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وحتى يخرج الكلام عن أسلوب التلقين المحض إلى أسلوب التكريم والتشريف جاء التعبير بـ (ربك).
- (بالحق) أي أن القرآن متلبس بالحق في كل ما يتعلق به، سواء إنزالا أو أحكاما أو قصصا أو نسخا، وفي هذا رد على تكذيب الكفار للقرآن بدعوى وقوع النسخ فيه، كما جاء بيان هذا في الآية السابقة (وإذا بدلنآ ءاية مكان ءاية والله أعلم بما ينزل قالوا إنمآ أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون).
- (ليثبت الذين ءامنوا) من مقاصد إنزال القرآن تثبيت المؤمنين على الهداية التي هم فيها، ولكن لقوله تعالى معنى أخص في هذا السياق الذي يثبت بأن النسخ من الله سبحانه وتعالى، وهذا المعنى هو (ليثبت الذين ءامنوا) عندما يتفكرون في الحكمة من النسخ وبما يحققه لهم من الخير.
- (وهدى وبشرى للمسلمين) وهذا مقصد آخر من مقاصد تنزيل القرآن، ألا وهو هداية المسلمين إلى الطريق المستقيم وتبشيرهم بأنهم على الطريق المستقيم.
وقدم ذكر الهداية على البشرى؛ لأن الهداية أولا ثم تأتي البشرى ثمرة للاستقامة على الهداية، والمسلمون هم الذين أسلموا وانقادوا لله سبحانه وتعالى وفق ما أراد.
- لماذا جاء ذكر تثبيت المؤمنين أولا ثم جاء بعده ذكر الهداية والبشرى للمسلمين؟
جاء ذكر تثبيت المؤمنين أولا ثم جاء بعده ذكر الهداية والبشرى للمسلمين؛ لأن المؤمنين أعلى رتبة من المسلمين؛ فعن عامر بن سعد عن أبيه قال: قسم رسول الله - ﷺ - قسما، فقلت: يا رسول الله أعط فلانا فإنه مؤمن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم. أقولها ثلاثا ويرددها علي ثلاثا: أو مسلم. ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار. (صحيح مسلم ج١/ص١٣٢).
- ولكن لماذا جاء ذكر التثبيت للمؤمنين، بينما جاء ذكر الهداية والبشرى للمسلمين، ألا يحتاج المؤمنون الهداية والبشرى كما يحتاجها المسلمون؟
جاء ذكر التثبيت للمؤمنين لأن المؤمنين وصلوا إلى درجة عالية في الإيمان، ولذا فلا بد لهم أن يثبتوا عليها، وثباتهم على هذه الدرجة العالية فوز عظيم، وأما المسلمون فهم أحوج للهداية والبشرى؛ لأنهم ما زالوا سائرين في الطريق ليصلوا إلى درجة المؤمنين، فاحتاجوا إلى الهداية ليسيروا على نور، واحتاجوا إلى البشرى لتكون حافزا لهم.
(ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربى مبين) (١٠٣)
المفردات:
- يلحدون: يميلون عن الحق وينحرفون.
- لسان: المقصود به هنا: اللغة.
المعنى الإجمالي:
وما زال الكلام حول نقض مزاعم الكفار في الطعن في القرآن، فهم يدعون أن رجلا أعجميا يعلم النبي - ﷺ - القرآن، ولكن هذه الدعوة دعوة غبية، لأن القرآن كتاب عربي غاية في البيان والفصاحة والبلاغة، ومن يدعون أنه يعلم النبي - ﷺ - إنما هو رجل أعجمي لا يتقن أبجديات البلاغة والفصاحة علاوة على عجزه عن إتقان النطق.
المعنى التفصيلي:
- (ولقد نعلم) توكيد الفعل المضارع بـ "قد" يدل على أن علم الله مستمر؛ لأن علم الله - سبحانه وتعالى - حق دائم، و"قد" مع الفعل الماضي تدل على التحقيق "لقد علمنا" ولكن لا يدل اللفظ بذاته على استمرار العلم، وإنما يفهم ذلك من أدلة أخرى، بينما توكيد الفعل المضارع بـ "قد" يدل على أن تحقق العلم مستمر، ولن يغيب عن الله - سبحانه وتعالى - شيء مما يحدثه هؤلاء من طعن في القرآن، وكذلك ليكون التعبير مناسبا لما بعده، ألا ترى أن ما يعلمه الله - سبحانه وتعالى - من قول الكفار في حق القرآن جاء معبرا عنه بقوله تعالى (يقولون)، فالمناسب أن يكون "نعلم ما يقولون" وليس "علمنا ما يقولون"، لأن التعبير بالمضارع هنا جاء لتهديد الكفار، كأن الآية تقول لهم إن الله يتابع أقوالكم أولا بأول، وستجزون بما كنتم تعملون.
ومما يستخدمه الناس في تهديدهم لغيرهم أنهم على اطلاع مستمر بكل ما يعمله الآخر، والله - سبحانه وتعالى - يخاطب هذه النفس الإنسانية بما يخيفها من أمر المراقبة والمتابعة من الله القادر العظيم.
ومن الأمثلة الدالة على أن التأكيد من دلالات دخول "قد" على الفعل المضارع:
- (... قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا... ) (النور: ٦٣)
- (... قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم) (النور: ٦٤)
- (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا) (الأحزاب: ١٨)
- التعبير بالجمع (نعلم) للتعظيم. والعلم من صفات الله سبحانه وتعالى، ومن أسمائه الحسنى "العليم"، ولكن علمه - سبحانه وتعالى - لا كعلمنا؛ لأنه (... ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى: ١١)، فأثبت الله سبحانه وتعالى له السمع والبصر بأنه سميع بصير ولكن من غير تشبيه ولا تمثيل، وعلى هذا يجري فهم بقية صفات الله سبحانه وتعالى، وهذا مزلق عظيم ضل فيه أناس كثير. والله الحافظ والهادي إلى سواء السبيل.
- (أنهم يقولون) أي يعلم الله قول المشركين، و"أن" للتوكيد، وجاء الفعل (يقولون) مضارعا لا ماضيا "قالوا"؛ لأن الكفار لم يقولوا هذا مرة واحدة وسكتوا، بل كانوا يكررون ويعيدون.
- (يقولون إنما يعلمه بشر) أي: ما يعلم محمدا القرآن إلا بشر، وهو رجل أعجمي، وكل المقصود بهذه الدعوى القدح في قدسية القرآن.
واختلف العلماء في تعيين هذا الرجل الأعجمي الذي ادعى المشركون بأنه يعلم محمدا صلى الله عليه وسلم، فقيل: بلعام، وقيل: يعيش، وقيل: جبر، وقيل غير ذلك، وتعيين اسمه ليس ذا فائدة، بل الفائدة في معرفة أنه أعجمي.
- (لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربى مبين) يرد الله - سبحانه وتعالى - هذه الدعوى الغبية على أصحابها بخير بيان، إذ كيف ينسبون القرآن الذي لم يستطع كل العرب أن يأتوا بمثله كيف ينسبونه إلى غير عربي لا يتقن الفصاحة والبلاغة علاوة على النطق؟؟! أين عقولهم؟! إنه الكفر والعناد ينزل بصاحبه إلى حمأة الغباء والسفاهة.
- (لسان) أي: لغة وكلام، وعبر عن اللغة والكلام باللسان لأنه آلة النطق.
- (يلحدون إليه) أي: يميلون إليه، ولذا سمي الملحد ملحدا لأنه مال عن الحق.
- (أعجمى) والأعجم من لا يقدر على النطق بالعربية كما ينبغي، أي من لا يفصح لوجود العجمة في كلامه. والعجم هم غير العرب. والياء في (أعجمى) للنسب، وجاء النسب لتقوية وصفه بالعجز عن الإفصاح.
- (وهذا لسان عربى مبين) اسم الإشارة (هذا) في هذا المكان يدل على التعظيم، وأعيد ذكر (لسان) مع دلالة السياق عليه لتعظيم أمر القرآن.
ووصف القرآن بوصفين الأول: عربي، والثاني: مبين.
و (مبين) اسم فاعل من أبان، فالقرآن عربي وذاك أعجمي، والقرآن مبين وذاك غير مبين.
- ولم يأت الرد على الكفار بأن محتوى القرآن لا يكون إلا من عند الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يرد بما يحتمل النقاش مع وجود ما لا يحتمل النقاش، ولذا فإن إبرهيم - عليه السلام - لما أقام الحجة على الطاغية بأن الله - سبحانه وتعالى - يحيي ويميت، وقام بعدها هذا الطاغية بالمراوغة أمام الحجة، لم يجادله إبراهيم - عليه السلام - بأن الذي فعلته ليس هو الإحياء والإماتة، وإنما أسرع إلى إقامة الحجة عليه بما لا يقبل النقاش، بأن الله يأتي بالشمس من جهة المشرق فأت بها من جهة المغرب، فبهت هذا الطاغية وألجم فوه فلم يرد.
وهذه نصيحة لمن يجادلون أهل الأهواء بأن يحرصوا على الحجة الساطعة معرضين عن الحجج الأخرى حتى لا يخبو ضوء الحقيقة خلال النقاش.
(إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم) (١٠٤)
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة الدعوى الغبية للكفار بأن أعجميا يعلم النبي - ﷺ - القرآن، جاءت هذه الآية لترد على تساؤل مفاده: هؤلاء الكفار ليسوا أغبياء كل هذا الغباء، فلماذا يحتجون بحجة وهم يعلمون أنها سخيفة؟ فجاء الجواب بأن ذلك بسبب الجحود.
المعنى التفصيلي:
- (إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله) ولكن السؤال: أليس كل كافر اهتدى كان لا يؤمن بآيات الله؟!
الجواب عن هذا أن هؤلاء صنف لا يؤمن بآيات الله - سبحانه وتعالى - جحودا وعنادا بعدما تبين لهم الحق، قال تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) (الأنعام: ١١٠) وقال تعالى (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا... ) (مريم: ٧٥)، وقال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) (الصف: ٥) وقد سبق الكلام على مثل هذا في غير موضع في هذه السورة، وعلى سبيل المثال عند قوله تعالى (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين) (٣٧)
- إضلال الله - سبحانه وتعالى - لمن اختار الضلال أكيد، وهذا ما جاء مؤكدا بحرف التوكيد "إن" (إن الذين).
- التعبير بالاسم الموصول (الذين) للتشهير بهم بما يدل عليه الاسم الموصول في هذا السياق.
- (ولهم عذاب أليم) أي في الآخرة. وقدم الجار والمجرور (لهم)، علما بأن المبتدأ نكرة موصوفة يجوز الابتداء بها، ولكن قدم الجار والمجرور زيادة في تهديد هؤلاء الجاحدين، أي أن العذاب الأليم لهم هم، فليعلموا.
- يستفاد من هذه الآية أن من يعتدي على دين الله بعد أن يتبين له الحق فإنه اختار بذات نفسه طريقا لا رجعة فيه؛ لأن الله لا يهدي من أراد الضلالة عن علم ومعرفة، ولكن كم ممن عادى الإسلام وهداه الله سبحانه وتعالى؛ ليتبين من هدايته أن معادته للإسلام كانت بسبب عدم اكتمال صورة الحقيقة عنده، فلما اكتملت عنده توجه بنفسه وقلبه إلى الله جل في علاه.
(إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) (١٠٥)
المفردات:
- يفتري: يدعي الكذب.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية سبب ما فيه الكفار من الغباء، تبين هذه الآية أنه لا يدعي الكذب على رسول الله ودين الله إلا الذين يجحدون بآيات الله، فسبب الغباء والافتراء واحد، وهو الجحود.
وهذا رد على ما ادعاه الكفار من افتراء النبي - ﷺ - للقرآن (... قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) (النحل: ١٠١)
المعنى التفصيلي:
- (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) أي: ما يفتري الكذب إلا الذين لا يؤمنون.
- (يفتري) جاء التعبير بالفعل المضارع ليدل على أن تجدد الافتراء على دين الله لا يصدر إلا عن الكفار الجاحدين.
- (يفتري) أي يدعي الكذب، وهذا الادعاء متعمد، لأن أصل الافتراء "القطع"، فهم يفترون على الله الكذب، أي يقطعون به، وليس مجرد تكذيب في سياق التفكير والبحث عن الحق.
والافتراء يستعمل في التعبير عن الكذب، ولكنه ليس هو الكذب، بل استعمل فيه، وانظر إلى قوله تعالى (انظر كيف يفترون على الله الكذب) (النساء: ٥٠) (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) (المائدة: ١٠٣) وغير ذلك من الآيات.
(الكذب) أي يفترون هذا الكذب الذي تعرفونه، فـ "ال" هنا للعهد والتعريف؛ لأن ذكر كذبهم مر ذكره قبل آيات (... قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) (النحل: ١٠١)
- (الذين لا يؤمنون بآيات الله) جاء التعبير بالاسم الموصول (الذين) للتشهير بهم بما يدل عليه الاسم الموصول من أنهم كفار جاحدون.
(وأولئك هم الكاذبون) جاء التعبير في هذه الجملة بضمير الفصل "هم" لإفادة التخصيص، فهؤلاء الجاحدون هم فقط الكاذبون على دين الله.
(من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) (١٠٦)
المعنى الإجمالي:
بعد بيان الآيات لما قاله الكفار طعنا في القرآن الكريم، وبعد الرد عليهم، جاءت هذه الآية لتهدد وتتوعد من يكفر بعد إيمانه متبعا ما يروجه الكفار، وذلك تقديما لمنافع الدنيا ومصالحها على أمر الآخرة.
ولكن الذي ينطق بالكفر بسبب الإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان فلا شيء عليه، إنما العذاب على من يكفر بدون إكراه؛ لأنه ما كفر امرئ دون إكراه إلا وقد طاب صدره وانشرح بالكفر، وهؤلاء عليهم غضب من الله العظيم، ولهم في الآخرة - أيضا - عذاب عظيم.
المعنى التفصيلي:
- (من) اسم شرط وجوابه (فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)
- (كفر) جاء الفعل ماضيا؛ لأن معنى الفعل الماضي في الشرط يصبح مضارعا، قال تعالى (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني... ) (البقرة: ٢٤٩)
- (كفر بالله) لو جاء النص من غير (بالله) لفهم المقصود، ولكن ذكر لفظ الجلالة تعظيما لأمر هذا الردة لأنه ليس كفرا بأي أحد، إنه كفر بالله، ولذا فليحذر من يفكر في مثل هذا الأمر.
- (من بعد إيمانه) ولكن كيف يكفر من آمن؟
هذا ما بينه النبي - ﷺ - بقوله: (قال بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا) (صحيح مسلم ج١/ص١١٠)، وهذا ما سيأتي بيانه في الآية التالية (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) (١٠٧)
- (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) وهذا استثناء منقطع ممن توعدهم الله سبحانه وتعالى، فإن من أكره على الكفر وتلفظ به إنما هو معذور.
قيل: إن هذه الآية نزلت بسبب نطق عمار بن ياسر - رضي الله عنه - بالكفر مكرها. علما بأن هذه القصة لم تثبت وإنما جاءت من طرق ضعيفة.
- (أكره) بني الفعل للمجهول؛ لأن المهم في الأمر إبراز أمر الإكراه لا إبراز من قام به، فإن القائمين على إكراه الناس على الكفر من زمن نزول هذه الآية إلى هذا الزمن من الكثرة بمكان حيث لا يستطيع أحدنا أحصاءهم.
- (وقلبه مطمئن بالإيمان) الواو حالية، أي: حال هذا الذي نطق بالكفر أنه مؤمن بالله، لأن من الناس من يكره على الكفر فيكفر راضيا متجها بنفسه وقلبه إلى الكفر لتحصيل منفعة دنيوية خسيسة.
- الإكراه الذي يبيح الكفر هو الذي يخاف به المرء على نفسه أو أهله أو على عضو من أعضائه أو أعضاء أهله أو عذاب شديد لا يحتمله أكثر الناس، ويقاس على هذا أنواع الإكراه المختلفة.
ولا يجوز الكفر بسبب إكراه يسير يحتمله أكثر الناس، ودرجة الإكراه المبيحة لأي فعل تقدر بدرجة الحرام الذي يستباح، فقد يكره شخص على دفع دينارين للصوص فيعطيهم، علما بأنه لو أكره هذا الإكراه لأجل دفع ألف دينار فإنه لن يرصخ له.
وبناء على هذا يفهم ما ينقل عن بعض العلماء من أن الإكراه يقع بسوط أو سوطين، فإننا لو بحثنا عن هذه الأقوال لوجدنا أنها قيلت في وقائع تناسب هذا الإكراه وليس في مسألة الكفر.
- وكما أن الكفر يباح عند الإكراه فإباحة فعل المعاصي كشرب الخمر وأكل الميتة أولى بالجواز.
- لكن هناك أفعال لا يبيحها الإكراه كالقتل والاغتصاب وغيرهما من المعاصي التي فيها الاعتداء على الآخرين.
- وقد اختلف العلماء في جواز فعل عمل الكفر - كالسجود للصنم - بعد اتفاقهم على جواز النطق بالكفر، والظاهر الجواز، لأن النطق باللسان كفر والعمل بالجوارح كفر، وكما أبيح النطق باللسان - وهو من الجوارح - فإباحة العمل مثله، فهما في معنى واحد.
- ولكن لا بد أن يعلم أن الصبر على الإكراه لأجل الله أعظم من الرضوخ للإكراه.
- (ولكن من شرح بالكفر صدرا) وهذا استدراك بأن الذين يشملهم الوعيد هم من طابت قلوبهم بالكفر.
- (شرح بالكفر صدرا) وانشراح الصدر هو الراحة والقبول الذي يداخل النفس لأمر ما.
- ولكن لماذا لم يأت النص "ولكن من قلبه مطمئن بالكفر" مثل قوله تعالى (وقلبه مطمئن بالإيمان)؟
لم يأت النص هكذا لأن الكفر ليس فيه طمأنينة.
- (شرح بالكفر صدرا) لم يأت النص "وصدره منشرح بالكفر" كما في قوله تعالى (وقلبه مطمئن بالإيمان)، لأن (وقلبه مطمئن بالإيمان) جملة اسمية تدل على الثبوت والدوام، فهذا القلب دائم الاطمئنان بالإيمان، لأن من لا يكون قلبه مطمئنا بالإيمان وقت السعة والراحة فلن يطمئن بالإيمان وقت الإكراه، فهو قلب مطمئن بالإيمان قبل الإكراه وعنده وبعده.
بينما جملة (شرح بالكفر صدرا) هي جملة فعلية لا تدل على الثبات والدوام؛ لأن القلب الكافر ليس قلبا منشرحا، بل انشرح وقتيا لأمر عارض وسرعان ما يضيق هذا الصدر، وتأمل معي قوله تعالى (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) (الأنعام: ١٢٥)
- لماذا قدم الجار والمجرور (بالكفر)؟
قدم الجار والمجرور (بالكفر)؛ لإبراز بشاعة الأمر بإظهار سبب الانشرح أولا قبل ذكر الصدر؛ لأن المنكر في الأمر ليس مجرد انشراح الصدر بل المنكر هو انشراحه بالكفر، ولذا قدم لإبراز وجه الإنكار والبشاعة.
- (صدرا) لم يأت الصدر معرفا "صدره" بل نكر استحقارا لهذا الصدر الذي انشرح بالكفر.
- (فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) في الجمع بين الغضب والعذاب مع وصف العذاب بالعظيم دلالة على عظيم عقاب المرتدين عند الله سبحانه وتعالى.
- (فعليهم غضب من الله) الوعيد بهذه الجملة الاسمية يدل على دوام غضب الله عليهم وثبوته، فهو ليس غضبا مؤقتا، والنص على أن هذا الغضب من الله ليس من أحد غيره تعظيم له وزيادة في الوعيد.
- (ولهم عذاب عظيم) أي في الآخرة. وقدم الجار والمجرور (لهم)، علما بأن المبتدأ نكرة موصوفة يجوز الابتداء بها، ولكن قدم الجار والمجرور زيادة في تهديد هؤلاء المرتدين، أي أن العذاب الأليم لهم هم، فليعلموا.
- وللمرتدين عقاب يقام عليهم في الدنيا بينه رسول الله ﷺ (من بدل دينه فاقتلوه) (صحيح البخاري ج٦/ص٢٥٣٧)
(ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) (١٠٧)
المعنى الإجمالي:
بعد أن توعد الله - سبحانه وتعالى - المرتدين بالغضب والعذاب، جاءت هذه الآية معللة لاستحقاق المرتدين لهذا الغضب والعذاب.
واستحقاق المرتدين لغضب الله وعذابه يعود إلى أمرين، الأول: تفضيلهم الحياة الدنيا على الآخرة، والثاني: أن الله - سبحانه وتعالى - لا يهدي من اختار الكفر، ولذا تركهم في ضلالتهم فاستحقوا ما استحقوا من الغضب والعذاب.
المعنى التفصيلي:
- (ذلك) "ذا" اسم إشارة، واللام للبعد، والكاف للخطاب، واختلف في تعيين ما تعود عليه الإشارة، هل هو الارتداد عن الإسلام أم غضب الله وعذابه؟
فإن قلنا: إن المقصود هو الارتداد عن الإسلام، كان المعنى: من ارتد عن الإسلام فإنما ارتد لإيثاره الدنيا على الآخرة، ولأن الله لا يهدي من يريد الضلالة فأبقاه ضالا.
ويؤيد هذا المعنى قوله ﷺ (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا) (صحيح مسلم ج١/ص١١٠) والشاهد في الحديث (يبيع دينه بعرض من الدنيا).
وإن قلنا: إن المقصود هو غضب الله وعذابه، كان المعنى: غضب الله على من ارتد عن الإسلام وأعد له العذاب؛ لأنه آثر الدنيا على الآخرة، ولأن الله لا يهدي من اختار الضلالة فأبقاه ضالا.
والمعنى الثاني يتضمن المعنى الأول؛ فغضب الله على المرتد كان بسبب إيثاره الدنيا على الآخرة، ويفهم من هذا الكلام أن سبب الارتداد هو إيثار الدنيا على الآخرة، ويفهم منه أن سبب الغضب والعذاب وسبب الارتداد هو ترك الله لمن أراد الضلالة في الضلالة، ولذا ارتد ولذا استحق العذاب.
وكما تلاحظ فإن القول الثاني متضمن للقول الأول؛ فعود اسم الإشارة إلى ما استحقه المرتد من غضب الله ومن العذاب هو أبلغ وأولى.
- (بأنهم) الباء للسبب، والضمير "هم" يعود على المرتدين.
- (استحبوا) صيغة الاستفعال الدالة على الطلب تفيد التأكيد على قصد الفعل، فهم لم يحبوا فقط بل طلبوا الحب طلبا؛ زيادة في المبالغة في الإقبال على الدنيا.
وضمن (استحبوا) معنى "فضلوا"؛ ولذا عدي الفعل بـ "على"، فالإنسان قد يفضل شيئا لا لحبه بل للمصلحة، ولكن هؤلاء لم يقدموا الدنيا لمجرد المصلحة فقط، بل قدموها من فرط حبهم لها، وحبهم هذا ناشئ من بغضهم للآخرة وما يترتب على ذلك من إيمان؛ ولذلك ارتدوا.
- (الحياة الدنيا على الآخرة) وسميت "الدنيا" بهذا الاسم؛ لقربها؛ نقول: دانيت بين الأمرين إذ قربت بينهما، وسميت "الآخرة" بهذا الاسم؛ لأنها آخر المطاف إذ لا حياة بعدها.
- (وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) وهذا سبب ثان لاستحقاق المرتدين لغضب الله وعذابه، وهو أن الله تركهم في الضلالة فاستحقوا ما استحقوا؛ لأن الله لا يهدي من يريد الضلالة، قال تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) (الأنعام: ١١٠) وقال تعالى (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا... ) (مريم: ٧٥)، وقال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) (الصف: ٥).
وقد سبق الكلام على مثل هذا في غير موضع في هذه السورة، وعلى سبيل المثال عند قوله تعالى (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين) (٣٧)
- (القوم الكافرين) جاء التعبير بـ "القوم" للإشارة إلى أن المقصودين هم من أصبح الكفر صفتهم التي عليها يجتمعون، ولأجل هذه الصفة المشتركة استحقوا إطلاق "قوم" عليهم.
وأحب أخي القارئ أن أستطرد عند هذه النقطة، وهي أن الذين يستحقون الإضلال هم من تمكنوا في الضلالة لا من زل جهالة وعاد إلى رشده، وتأمل معي قوله تعالى (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا (٧٥) ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا (٧٦)) (سورة مريم).
فإن الله لا يمد الضال في الضلالة إلا إذا أصبح فيها، محيطة به في كل نواحي حياته، قد تمكن منها وتمكنت منه (قل من كان في الضلالة)، فهو لم يضل فقط، بل هو في الضلالة، بينما يزيد الله - سبحانه وتعالى - من لامس الهداية ملامسة حتى وإن لم يتمكن منها (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) وهذا من لطفه وكرمه سبحانه وتعالى، وهذا معنى "القوم" في قوله تعالى (القوم الكافرين)، فهم ما استحقوا الإضلال إلا بعد أن تمكنوا من الكفر وأصبح صفتهم التي عليها يجتمعون.
(أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون) (١٠٨)
المعنى الإجمالي:
وهذا بيان لخاتمة الآية السابقة (وأن الله لا يهدي القوم الكافرين)، فهم لن يهتدوا لأنهم اختاروا الضلالة فطبع الله سبحانه على قلوبهم فلا يصل إليها الإيمان، وعلى سمعهم وأبصارهم فلا يهتدون بهما.
وهؤلاء الذين فضلوا الدنيا الزائلة على الآخرة الباقية هم الغافلون الحقيقيون.
المعنى التفصيلي:
- (أولئك) استفتاح الآية باسم الإشارة زيادة في تحقير المشار إليهم وهم المرتدون؛ لأن الإشارة إلى الشيء في سياق التكريم تكريم وفي سياق التحقير تحقير.
- (الذين) ذكر الاسم الموصول مع أن الكلام يقع بدونه "أؤلئك طبع الله على.. "؛ لأن الاسم الموصول في هذا السياق إنما هو للتشهير بهؤلاء المرتدين، أي: أؤلئك هم بعينهم الذين طبع الله على قلوبهم، فاعرفوهم.
- (طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم) المقصود من الطبع هو حجب قلوب المرتدين وسمعهم وأبصارهم عن وصول الإيمان إليها.
والطبع هو: التغطية على الشيء والاستيثاق من أن يدخله شيء، وهذا ما يكون مع هذه القلوب إذ تحجب عن الإيمان والهدى.
وكذلك من معاني الطبع جعل الشيء سجية وطبيعة، ومن هنا قيل: طبع الإنسان: عادته. والطبع على قلوب المرتدين يكون بجعل الإعراض عن الإيمان والهدى طبيعة لهذه القلوب، فلا تتعظ ولا تلين أبدا.
- لم يأت التعبير بـ "طبع على قلوبهم" وإنما أسند الطبع إلى الله - سبحانه وتعالى - (طبع الله) تعظيما لهذا الطبع، لأن من طبع الله على قلبه فليس هنالك أحد في الوجود يستطيع إزالة هذا الطبع.
- (على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم) جاء الترتيب من الأعلى إلى الأدنى بالنسبة للأهمية في موضوع الإيمان، لأن القلب هو الأهم في موضوع الإيمان، والسمع أهم من البصر، ثم تأتي منزلة الأبصار في الاعتبار وغير ذلك من الأمور المتعلقة بالهداية.
وإنما جاء هذا الترتيب من الأعلى إلى الأدنى - وليس العكس - تعظيما لقوة هذا الطبع، فعند اهتمامنا بمصير القائد نقول: قضي على القائد والجنود، وهذا أعظم من قولنا: قضي على الجنود والقائد. وفي هذا السياق يحتل موضوع القلب المنزلة الأهم (... فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (الحج: ٤٦)
- (وسمعهم وأبصارهم) لماذا أفرد "السمع" وجمع "الأبصار"؟
قيل: أفرد السمع لأنه مصدر، والأصل فيه الإفراد، أما الأبصار فإنما هي اسم ومفردها بصر.
وهذا غير صحيح؛ لأنه قد ورد في المعاجم اللغوية كـ "الفائق" للزمخشري، و" القاموس المحيط" للفيروزأبادي وغيرهما أن البصر مصدر، يقال: بصر - أو بصر - بصرا. ويجوز في المصدر الجمع والإفراد، ولذا لا مانع من جمع "السمع".
ويبقى السؤال قائما: لماذا أفرد "السمع" وجمع "الأبصار"؟
وقد قرأت معلومات عن دماغ الإنسان، فسر بها بعض المفسرين المعاصرين سبب إفراد "السمع" وجمع "الأبصار"، ولكن هذه المعلومات لا يؤمن عليها من التغيير؛ لأنها لم ترتق لتكون قواعد علمية بدهية مسلمة، حتى نفسر بها القرآن، أما أن نفسره اليوم بمعلومة علمية ثم نغير التفسير مع تغيير المعلومة، فهذا أمر بعيد عن الصواب.
ولكن قد نقول: إن مما يدركه الواحد فينا أننا لا نستطيع أن نسمع لشخصين يقصان قصتين مختلفتين في نفس الوقت؛ لأن صوت كل واحد منهما يشوش على صوت الآخر، ولذا فهو "سمع" بالإفراد.
بينما نستطيع أن نرى عدة أشياء في وقت واحد، فإننا ننظر إلى سيارة زرقاء اللون، وإلى زجاجها الأسود، دون أن يشوش النظر إلى لون السيارة على النظر إلى لون الزجاج، ولذا فهو "أبصار" بالجمع. والله أعلم وعلمه أحكم.
- (وأولئك هم الغافلون) عن حقيقة الدنيا الخسيسة الزائلة، ولغفلتهم قدموها على الآخرة الباقية، وضمير الفصل "هم" للتخصيص، فمن غفل عن حقيقة الدنيا والآخرة إنما هو الغافل الحقيقي؛ لأنه بغفلته هذه لا يخسر تجارة أو مالا، وإنما يخسر كل حياته.
(لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون) (١٠٩)
المفردات:
- لا جرم: حقا.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة أن هؤلاء المرتدين محرومون من الهداية بسبب اختيارهم الضلالة وتفضيلها على الهدى، جاءت هذه الآية لتبين مصير من كان هذا أمره في الدنيا بأنه لا شك وأنه هو الخاسر الحقيقي في الآخرة، ومن خسر آخرته فماذا ربح!!
المعنى التفصيلي:
- (لا جرم)... الجرم هو الذنب، والذنب هو الباطل، ونفي الجرم نفي للباطل، ونفي الباطل هو إثبات الحق؛ لأن الأمر إما أن يكون حقا أو باطلا، فإذا نفي الباطل وقع الحق، ولذا فإن معنى لا جرم هو حقا.
- (أنهم) الضمير "هم" يعود على المرتدين.
وخسران المرتدين مؤكد في هذه الآية بتأكيدين، الأول: (لا جرم)، والثاني: حرف التوكيد "أن"، وإنما جاء هذا التأكيد لبيان حقيقة سوء حال المرتدين في الآخرة.
- (في الآخرة هم الخاسرون) قدم الجار والمجرور (في الآخرة) تنبيها على عظيم أمر الآخرة الذي تناساه المرتدون.
وضمير الفصل (هم) يدل على أن هؤلاء المرتدين هم ذاتهم لا غيرهم الخاسرون، ولعظم خسرانهم جاء التعبير بأسلوب التخصيص، كأنه لا خاسر سواهم.
(ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) (١١٠)
المفردات:
- فتنوا: امتحنوا.
المعنى الإجمالي:
بعد ذكر وعيد المرتدين وبيان خسرانهم، جاء التنويه بمكانة المؤمنين المهاجرين في سبيل الله سبحانه وتعالى، المفضلين الآخرة الباقية على الحياة الدنيا الزائلة، رغم أن هؤلاء المؤمنين قد وافقوا قومهم على الكفر خوفا منهم فإن الله غفور لهم رحيم بهم بعد هجرتهم وجهادهم وصبرهم.
المعنى التفصيلي:
- (ثم) جاء العطف بـ (ثم) لعلو رتبة المؤمنين على وضاعة رتبة المرتدين، فالفرق بينهما عظيم؛ فالعطف بـ (ثم) يكون للتراخي الزمني بين الأحداث أو للتراخي الرتبي كما هو الحال في هذه الآية.
- (إن) حرف تأكيد يؤكد مضمون الآية.
- (ربك) جاء التعبير بـ "الرب" لما فيه من معاني الرعاية والعناية، وهذا يناسب سياق المغفرة والرحمة في هذه الآية، وأضيف " الرب" إلى كاف المخاطب، والمقصود به محمد صلى الله عليه وسلم، فالمعنى (ربك) أي: يا محمد، وإنما وقعت هذه الإضافة تشريفا للنبي صلى الله عليه وسلم.
- (للذين هاجروا) والهجرة الانتقال من بلد إلى بلد فرارا بدين الله.
وفي تعيين هذه الهجرة قيل: هي الهجرة إلى الحبشة، وقيل: بل الآية مدنية وليست مكية، فالهجرة هي إلى المدينة.
أما القول بأن الهجرة إنما هي إلى الحبشة فغير صحيح؛ لما ستعرفه من سبب النزول المروي عن ابن عباس بسند صحيح بأن الهجرة المقصودة في هذه الآية هي الهجرة إلى المدينة، وأحب أن أنبه إلى أن قول الصحابي في سبب النزول: "حدث كذا فنزل قوله تعالى... ". له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الأمر مما لا مجال للاجتهاد فيه، وإنما هو نقل لما حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
فالآية على هذا مدنية، وبهذا تنضم هذه الآية إلى الآيات المدنية الموجود في هذه السورة المكية.
- (من بعد ما فتنوا) أي هاجروا من بعد أن امتحنوا، ولا بد من العلم أن هؤلاء قوم من المستضعفين في مكة وافقوا قومهم على الكفر خوفا منهم، ومما يستأنس به خاتمة الآية (لغفور رحيم)، أقول: يستأنس به وليس دليلا؛ لأنه لا يشترط في من امتحن أن يكفر حتى تذكر الرحمة والمغفرة في شأنه، ألا ترى قوله تعالى (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم) (البقرة: ٢١٨) فإن رحمة الله ومغفرته هي مطلب كل المؤمنين.
وهم أناس في مكة لم يهاجروا في بداية الأمر فكفروا خوفا من كفار مكة؛ لما روى الطبري في تفسيره (ج٢٠/ص١٣٣) بسند صحيح "حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال ثنا أبو أحمد الزبيري قال ثنا محمد بن شريك عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال:
كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بإسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم... ) (النساء: ٩٧) إلى آخر الآية.
قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية: أن لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله... ) (العنكبوت: ١٠) إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم)
فكتبوا إليهم بذلك: إن الله قد جعل لكم مخرجا، فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل.
- (فتنوا) امتحنوا واختبروا، يقال: فتن الذهب، أي: أدخله الفتان - وهو الصائغ - إلى النار ليختبر جودة الذهب، هل هو صاف أم مخلوط؟ وكم هي نسبة الخلط؟
ولكن لا يشترط من وقوع الإنسان في الفتنة أن يكون قد أخفق، قال تعالى في شأن موسى عليه السلام (... وفتناك فتونا... ) (طه: ٤٠) أي: اختبرناك اختبارا. وقد تستعمل "الفتنة" في الخير كما في الشر (... ونبلوكم بالشر والخير فتنة) (الأنبياء: ٣٥) وإن كان استعمالها في الشر أكثر.
- (فتنوا) قرأ الجمهور بضم الفاء وكسر التاء، وقرأ ابن عامر بفتح الفاء والتاء (فتنوا).
وقيل في توجيه القراءتين: أما قراءة (فتنوا) فالضمير يعود للذين هاجروا، فهم من فتنهم الأعداء، وفي قراءة (فتنوا) فإن الضمير يعود إلى (الخاسرون) في الآية السابقة، أي: إن الذين فتنوا غيرهم ثم تابوا إن ربك من بعد فتنتهم الناس لغفور رحيم. وهذا غير صحيح؛ لأن هؤلاء المهاجرين هم من وقع تحت الفتنة، لا أنهم فتنوا الناس، كما عرفت من سبب النزول.
وقيل: (فتنوا) لغة في افتتن، وفتن الرجل وافتتن بمعنى واحد.
ولكن يمكن أن نقول: (فتنوا) أي: فتنوا أنفسهم؛ بأن أوقعوها في الفتنة بتركهم الهجرة ابتداء، أو بموافقتهم الكفار على كفرهم. وهذا ليس بعيدا بل جاء مثله في القرآن؛ واقرأ قوله تعالى (... فتنتم أنفسكم... ) (الحديد: ١٤) أي: أوقعتم أنفسكم في الفتنة وسقطتم فيها.
- (هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا) ذكرت الهجرة أولا ثم الجهاد ثم الصبر، وهذا ترتيب لزمن استمرار الأفعال، فالهجرة وقعت أولا وانقضى فعل الانتقال، ثم وقع الجهاد منهم، ولكن ذكر الصبر في النهاية مع أنه كان موجودا منذ البداية - إذ لا هجرة من غير صبر وكذا الجهاد - وإنما وقع في النهاية لأنه هو الممتد في الزمن بعد انقضاء الهجرة والجهاد إلى آخر لحظة تخرج فيها الروح.
- (ثم جاهدوا) جاء العطف بـ (ثم)؛ لأن بين الهجرة والجهاد زمن متراخ.
- (إن ربك من بعدها) أي بعد هذه الأفعال الصالحة من الهجرة والجهاد والصبر لغفور لكم رحيم بكم. ولا يخصص عود الضمير على أمر من الأمور الثلاثة "الهجرة والجهاد والصبر"، بل يرجع إلى كل هذه الأمور؛ إذ لا يوجد دليل مخصص، وهذا أولا، وثانيا: الأصل أن يحمل الأمر على الجميع لكونها كلها أعمال صالحة يغفر الله - سبحانه وتعالى - لصاحبها ويرحمه.
- أعيد ذكر (إن ربك) رغم ذكره في أول الآية لأمرين، الأول: طول الفصل، والثاني: للتأكيد على مغفرة الله ورحمته لهؤلاء المؤمنين.
- (لغفور رحيم) اللام في (لغفور) للتأكيد، وكل ما ذكر من تأكيد في الآية إنما هو لتطمين هؤلاء المؤمنين - ومن في حكمهم - أن الله - سبحانه وتعالى - غفور رحيم؛ فلا تيأسوا من رحمة الله ومغفرته.
الغفور: اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، بمعنى المتجاوز عن ذنوب عباده، وأصله في اللغة من الستر؛ والتجاوز عن الذنوب ستر لها فلا يحاسب عليها صاحبها.
والرحيم: اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى مشتق من الرحمة.
- ولكن لماذا قدم ذكر اسم "الغفور" على "الرحيم" وليس العكس؟
قدم ذكر اسم "الغفور" على "الرحيم"؛ لأن المغفرة سلامة، والرحمة غنيمة، والسلامة أولا ثم الغنيمة.
- الأصل في ترتيب الجملة هو التالي: " إن ربك لغفور رحيم للذين هاجروا... ) فلماذا هذا التغيير في ترتيب الجملة بذكر الجار والمجرور (للذين) قبل (لغفور رحيم)، ؟
قدم الجار والمجرور (للذين) إبرازا للاسم الموصول، حتى يكون هذا الإبراز إعلانا لإعلاء أمر هؤلاء المؤمنين، وتنويها بعظيم قدرهم.
(يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون) (١١١)
المفردات:
- تجادل: تدافع.
- توفى: تعطى جزاءها كاملا.
المعنى الإجمالي:
بعد أن توعدت الآيات السابقة المرتدين وبشرت المؤمنين، جاء التذكير بيوم الوفاء لما سبق من وعد أو وعيد.
ففي يوم القيامة يدافع المكلفون عن تقصيرهم لينجوا بأنفسهم، ولكن تعطى كل نفس حقها كاملا، ولا يظلم أحد عند الله سبحانه وتعالى.
المعنى التفصيلي:
- نصب (يوم) بفعل مقدر تقديره: اذكر، وقيل: بل هذه الآية متصلة مع ما قبلها، فيكون المعنى: إن الله لغفور رحيم يوم القيامة.....
والأظهر في الآية أنها استئناف وابتداء؛ لأن الآية أساس في بيان للعدل الإلهي يوم القيامة، وهذا هو المعنى الرئيسي، وكون الآية متصلة بما قبلها يجعل من بيان عدل الله - سبحانه وتعالى - معنى جانبيا، الغرض منه التعريف بيوم القيامة بحدث يحدث فيه، وهذا لا يتناسب وعظيم جزالة البيان الإلهي للعدل يوم القيامة، فالآية مستقلة ببيانها، ومتناسبة مع ما قبلها بأن هذا يوم القيامة يوم الوفاء بالوعد والوعيد، وهذا أولا.
وثانيا: عند القول بأن الآية متصلة بما قبلها، فإن معاني مغفرة الله ورحمته بالمؤمنين لا تكون بعموم وشمول كونها مستأنفة، لأن اللفظ يقيد الرحمة والمغفرة بيوم القيامة، ولا يفهم عندئذ شمول الرحمة إلا من نص آخر، ولكن عندما تكون الآية مستأنفة، فإن نص الآية يدل على شمول الرحمة والمغفرة للدنيا والآخرة، ولا تحتاج دلالة الشمول الرحمة للدنيا والآخرة على نص آخر.
وعندما يؤدي النص معنى أعظم وأوسع مع تناسبه مع السياق وقواعد التفسير، فهو الأولى؛ لأنه يحمل المعنى الواسع والأوسع، فهو يحمل معنيين، وليس من الصواب حذف معنى من المعاني من غير دليل ظاهر يدل عليه.
وموضوع الآيتين التفصيلي مختلف، فالآية السابقة تبين أن الله - سبحانه وتعالى - غفور رحيم، وهذه الآية تبين أن الله عادل لا يظلم، والمغفرة والرحمة أمران فوق العدل؛ لأن من العدل أن يعاقب كل مسيء، ولكن من رحمة الله ومغفرته أنه يرحم بعض المسيئين ويغفر لهم، فموضوع الآيتين التفصيلي مختلف؛ ولذا فليس بينهما اتصال تفصيلي، بل بينهما مناسبة إجمالية تتناسب وتوافق السياق القرآني.
- (تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) والمجادلة معروفة لا يجهلها أحد، ومقصد المجادل دفع الخطأ عنه وإثبات أنه على صواب. ومن أمثلة مجادلة الكفار (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) (الأنعام: ٢٣)
ولكن هل هما نفسان - مجادلة ومجادل عنها - أم هي نفس واحدة؟
إنما هي نفس واحدة، ولكن المقصود بالنفس الثانية: الذات. والمعنى على هذا: يوم يجادل كل مكلف عن ذاته، ولا يعنيه غيره (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) (عبس: ٣٧).
وهذه المجادلة تكون عند مخاطبة الله - سبحانه وتعالى - للعباد، وهذه الجرأة من الخلق في المجادلة إنما هي بإذن الله سبحانه وتعالى، ولو شاء الله - سبحانه وتعالى - لألقى الرعب في قلوب العباد فألجم أفواههم، ويكون الختم على أفواه الكفار في موقف آخر في المحشر (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) (يس: ٦٥)
- (وتوفى) التوفية هي: إعطاء الشيء وافيا، أي: كاملا. وحذف ذكر الفاعل (لفظ الجلالة) من باب حذف ذكر الفاعل لإبراز معنى الفعل وهو التوفية وعدم الظلم.
- (كل نفس) أعيد ذكر الكلام - رغم دلالة السياق عليه - من باب التأكيد.
- (وتوفى كل نفس ما عملت) أي: جزاء عملها، والجزاء يوم الجزاء يكون بدخول الجنة أو بدخول النار، أعاذنا الله منها وأدخلنا فسيح جنانه.
- مجادلة الخلق عن أنفسهم لا تغير شيئا من حكم الله سبحانه وتعالى؛ لأن كل نفس توفى جزاء عملها توفية كاملة، ولكن المجادلة في الدنيا قد تؤثر في القضاء؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها (صحيح البخاري ج٢/ص٩٥٢)
- (وهم لا يظلمون) الواو واو الحال، فحال العباد حين يوفون حسابهم أنهم غير مظلومين، وإن كان ما سبق من الآية يغني في بيان معنى العدل (وتوفى كل نفس ما عملت) فتوفية العباد أعمالهم توفية كاملة تدل على أن أحدا من الخلق لم يظلم، ولكن جاء التصريح بنفي الظلم؛ زيادة في التأكيد على عدل الله سبحانه وتعالى.
- والتأكيد على عدل الله - سبحانه وتعالى - في الجزاء يدل على شدة الوعيد للمرتدين، وعظيم البشارة للمؤمنين.
(وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) (١١٢)
المفردات:
- ضرب: جعل.
- مثلا: وأصل المثل: الصفة، ومعناه هنا: وصف يقاس عليه.
- رغدا: واسعا طيبا.
المعنى الإجمالي:
بعد توعد الآية السابقة المشركين بعذاب الله يوم القيامة، تتوعد هذه الآية المشركين بعذاب الله في الدنيا؛ ليعلم المشركون أن عذاب الله محيط بهم في الدنيا والآخرة.
يضرب الله - سبحانه وتعالى - مثلا حقيقيا لقرية كانت تعيش حياة آمنة هادئة منعمة، ورزقها هانئ كثير، ولكنها كفرت بأنعم الله فأبدلها الله بدل أمنها وطمأنينتها خوفا وبدل الرزق الوافر جوعا جزاء كفرها.
المعنى التفصيلي:
- (وضرب الله مثلا) وصف سبحانه وتعالى وصفا ليقيس عليه الكفار ما يفعلونه، فيعلموا أنهم مخطئون.
- (وضرب) جاء التعبير بـ "الضرب" لا "الجعل"؛ لما للضرب من وقع يلفت النظر، وهذا يتناسب والمثل، لأن المثل يلفت الأنظار، ويدق الأذهان فيوقظ النائم، وينبه الغافل.
وقيل: إن ضرب المثل من ضرب الدراهم، لأن المثل هو ذكر شيء يظهر أثره في غيره.
ولكن لا بد من العلم أن فقه معنى الكلمة يكون بالرد إلى أصل المادة، وأصل المادة "ضرب" وهو إيقاع شيء على شيء، وهذه المادة تستعمل عدة استعمالات، وفي كل استعمال يشترك معنى الضرب مع معنى آخر لينتج معنى له دلالته، فليس من الصواب ربط الكلمة بالاستعمالات؛ لأننا قد نربط الكلمة بأحد الاستعمالات ولكن يكون الربط في القدر غير المشترك بين الكلمة وأصل المادة، فيخرج الباحث عن معنى الأصل إلى معنى آخر جديد، ظانأ أنه رد الكلمة إلى أصلها، فتأمل بارك الله فيك.
- ذكر الاسم الظاهر (الله) رغم دلالة السياق عليه، ولو جاء الآية بالضمير المقدر لعلم المقصود، أي: "وضرب مثلا قرية"، ولكن إقامة الاسم الظاهر مقام المضمر إنما جاء تفخيما للمثل المضروب بذكر ضارب المثل سبحانه وتعالى.
- أبهم المثل في قوله تعالى (وضرب الله مثلا)، ثم فسر بقوله تعالى (قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها )، وهذا الإبهام للمثل ثم تفسيره فيه ما فيه من تفخيم المثل وتعظيمه.
- (قرية) بدل من (مثلا)، وهي مكان اجتماع الناس، ولا يلتفت إلى التقسيم المحدث في عصرنا حول المدينة والعاصمة والقرية، فهو مصطلح حادث ولا يفسر القرآن بناء عليه.
وتطلق القرية على الناس المجتمعين، (واسأل القرية التي... ) (يوسف: ٨٢)، بغض النظر أقدرنا المحذوف: أهل القرية، أو قلنا: إن هذا مجاز مرسل، بل قد ذكر بعض أهل اللغة كالمبرد في كتابه (ما اتفق لفظه، ص: ٧٧) أن القرية تطلق على القوم أنفسهم. وقصده: تطلق دون تقدير لمحذوف أو القول بالمجاز.
وعلى كل فالسياق يبين المقصود من "القرية" أهو المكان أم الناس، ففي هذه الآية (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة... ) المقصود بالقرية الناس، أما في قوله تعالى (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا... ) (البقرة: ٥٨) فالمقصود المكان.
وأصل "القرية" مادة "قري" التي تدل على الجمع والاجتماع، يقال: قريت الماء في الحوض: جمعته. ومن هنا سميت القرية لاجتماع الناس فيها.
- قيل: إن هذه القرية هي مكة، وقد روى الطبري في (تفسيره١٤/ص١٨٦) عند تفسير هذه الآية أن ابن عباس قال عن القرية "يعني مكة" ولكنه سند لا يصح؛ لأنه من طريق عطية العوفي، وأما ما روي عن التابعين ومن بعدهم فهي آراء بحاجة إلى دليل، وإنما درست السند عن ابن عباس دون التابعين؛ لأن لقوله اعتبارا وإن لم يكن في هذا المقام بدرجة الحجية، ولكنه ترجمان القرآن واسمع لقوله رضي الله عنه قال: ضمني رسول الله ﷺ وقال: "اللهم علمه الكتاب" (البخاري: ٧٣)
والصحيح أن هذه القرية المضروبة مثلا هي قرية غير مكة، وضربت مثلا لتخويف كفار مكة ابتداء، وذلك لأن هذه القرية وصفت بأنها كافرة إذ كفرت بأنعم الله، ومكة أحب أرض الله إلى الله لم يصفها سبحانه وتعالى بصفة مشينة، ألا ترى - بارك الله فيك - كيف نزه مكة عن وصفها بالظلم في قوله تعالى (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها... ) (النساء: ٧٥) فلم يأت النص "ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالمة" علما أن ذلك جائز لغة، ولو قيل "القرية الظالمة" لقصد أهلها، ولكن لتكريم مكة صرحت الآية بأن الظالم هو أهل مكة لا مكة.
ولو كانت مكة المقصودة بالقرية لقيل بناء على ما سبق "فكفر أهلها بأنعم الله". وسيأتي من الأدلة ما يثبت أن القرية هي غير مكة.
- (قرية كانت آمنة) لم يأت النص " قرية آمنة" أي: دون الفعل (كانت)، فما دلالة الفعل (كانت)؟
مما يدل عليه الفعل (كانت) أن هذه القرية قرية حقيقية (كانت) أي كان لها وجود وأصابها العذاب، وسبق الكلام على مثل هذا - على سبيل المثال لا الحصر - عند تفسير الآية (٨٧) من هذه السورة، عند قوله تعالى (ما كانوا يفترون)، حيث إن التعبير بالفعل "كان" (ما كانوا يفترون) أقوى في الدلالة من " ما يفترون " دون الفعل "كان"؛ لما يعنيه الفعل "كان" من الوجود، للتنبيه على أنه قد وقع حقا.
وهذا مما يدل - أيضا - على أن القرية ليست مكة، بل مثل ضرب لكفار مكة تهديدا لهم، والقول بأن هذه الآية إخبار عن مكة لما سيحصل لها من العذاب يتعارض والفعل (كانت).
وبهذا تعلم بعد قول القائلين " فهذه القرية يحتمل أن تكون موجودة ويحتمل أن تكون غير موجودة "
- (آمنة مطمئنة) والأمن نقيض الخوف، والطمأنينة هي: السكون والهدوء، وقد يكون الإنسان آمنا ولا يكون مطمئنا، ولكن لماذا قدم ذكر الأمن على الطمأنينة؟
قدم ذكر الأمن على الطمأنينة؛ لأنه لا طمأنينة دون الأمن، فالأمن أولا ثم الطمأنينة
ولكن لو ذكرت الطمأنينة وحدها لتضمنت معنى الأمن، فلماذا ذكر الأمن أيضا؟
ذكر الأمن أيضا؛ لأن المقام مقام تفصيل لنعم الله على هذه القرية وليس مقام اختصار، فناسب التفصيل في ذكر النعم ما يقتضيه المقام من التفصيل في ذكر النعم.
- (يأتيها رزقها رغدا) ولو تأملنا قليلا لوجدنا فرقا بين "بسط الله لهم في رزقهم " أو "كان رزقهم رغدا" وبين (يأتيها رزقها رغدا)، فلقد بسط الله سبحانه لهم في الرزق وكان رزقهم رغدا، ولكن للفعل المضارع (يأتيها) دلالة على سهولة الحصول على هذا الرزق، وأن الرزق يأتيها دون أن تمشي إليه، وحال هذه القرية مثل حال مكة، قال تعالى (... أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا... ) (القصص: ٥٧) وتأمل كلمة (يجبى).
- جاء التعبير في وصف حالة الأمن والطمأنينة بالاسم (آمنة مطمئنة) ولم يأت النص بالفعل "أمنت واطمأنت"؛ لأن الاسم يدل على ثبوت الأمن والطمأنينة ودوامهما لهذه القرية، فهو ليس أمن يوم أو يومين بل على الدوام.
ولكن جاء التعبير عن الرزق بالفعل المضارع (يأتيها) لدلالة الفعل المضارع على التجدد؛ لأن إتيان الحصول على الرزق متجدد في كل يوم وكل ساعة.
- (رزقها) أي القرية، ولكن لماذا لم يأت النص "يأتيها رزق الله"؟
وللجواب عن هذا لا بد أن نعرف أن الإضافة قد تقع للفاعل والمفعول، فالإضافة للفاعل كما نقول: هذا رزق الله. من جهة أن الله - سبحانه وتعالى - هو الرزاق، والإضافة للمفعول كما في (رزقها) من جهة أن الرزق أعطي لها.
ولكن يبقى السؤال: لماذا لم يضف الرزق إلى الله سبحانه وتعالى؟
لم يضف الرزق إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن المقام مقام وصف للامتيازات التي وقعت لهذه القرية، ولذا أضيف الرزق إليها من باب النص على امتلاك القرية لهذه الامتيازات، بينما أضيف الرزق إلى الله سبحانه وتعالى في سياق آخر (... كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) (البقرة: ٦٠) (... كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور) (سبأ: ١٥) وهذا سياق امتنان ناسبه إضافة الرزق إلى الله سبحانه وتعالى، بينما هذه الآية وصفت ما أعطيت هذه القرية من الخير فناسبت الإضافة سياق التنعم والتملك.
- (رغدا) يقال: رغد - بفتح الغين وضمها - رغدا. والرغد الرزق: واسعه وطيبه. فهو ليس رزقا كثيرا وحسب، بل رزق طيب ليس خبيثا وليس فيه ذل في تحصيله.
- (كل مكان) عموم مخصوص؛ لأنه لا يتصور أن يأتيهم الرزق من كل مكان في هذا الكون أو حتى الأرض، وإنما معناه: (من كل مكان) يمكن أن يأتيهم منه. وهذا العموم كالعموم الذي في قوله تعالى (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) (النمل: ٢٣) فلا يتصور أنها أوتيت من كل شيء في هذا الوجود، وإنما المعنى: وأوتيت من كل شيء يعطاه الملوك.
- (فكفرت بأنعم الله) وكفرها بأن جعلت مع الله - سبحانه وتعالى - شريكا، وهذا مستفاد من أن المثل إنما ضرب للمشركين في مكة تهديدا لهم.
- (بأنعم الله) و (أنعم) جمع نعمة، وقيل: جمع نعمى، وقيل: جمع نعم، وقيل غير ذلك.
- (أنعم) جمع قلة، ولكن لماذا جاء التعبير بجمع القلة، أليس التعبير بجنس النعم أعظم في بيان جرم هذه القرية؟
قيل: جاء التعبير عن النعم التي كفرت بها هذه القرية بجمع القلة؛ للتنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان كفران النعم القليلة موجبا للعذاب، فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب.
ويضاف على هذا بأن هذه القرية على ما أوتيت من نعم فإنها لم تؤت إلا جزءا يسيرا من نعم الله سبحانه وتعالى، لأن الأمن والطمأنينة ورغد العيش ليست كل نعم الله، فتأمل.
- (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) جازى الله - سبحانه وتعالى - هذه القرية على كفرها بأنعمه بأن عذبها في هذه الدنيا بالجوع بعد رغد العيش، وبالخوف بعد الأمن والطمأنينة.
- (فأذاقها) الذوق وجود الطعم بالفم، واستعمل في العذاب بكثرة، وعلى سبيل المثال قوله تعالى (ذق إنك أنت العزيز الكريم) (الدخان: ٤٩)، واستعمل في الرحمة أيضا (ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته... ) (هود: ١٠).
وجاء التعبير بالذوق عن الإحساس بالعذاب من باب التعبير عن شدة ما يجدون من الألم؛ لأن التذوق هو بحث عن الطعم حتى يجده المرء، ولذا فمن يبلع الطعام بلعا لا يجد طعمه كمن يتذوقه تذوقا، فإن كان التذوق للنعمة زيادة في التنعم، والتذوق للعذاب زيادة في الألم؛ فأهل هذه القرية لم يتعذبوا فحسب، بل ذاقوا طعم العذاب ووجدوا ألمه.
- (لباس الجوع والخوف) ما أصاب القرية من جوع وخوف كان ملازما لها في كل أوقاتها، فليس الجوع والخوف في أوقات معينة ثم يذهبان ثم يعودان، بل هو جوع وخوف ملازمان لزوم اللباس للابسه.
وهذا من جهة، ومن جهة أخرى بدأ الجوع والخوف من شدتهما يظهران على الوجوه والأجسام، وكلنا يعرف علامات الجوع من الشحوب والنحول، وعلامات الخوف من الذهول وضعف البدن وغير ذلك من العلامات التي تظهر على الخائف والجائع، وجاء التعبير عن ظهور هذه العلامات باللباس لأن هذه العلامات أصبحت ظاهرة عليهم ظهور اللباس.
وأيضا فإن هذا الخوف والجوع محيط بهم متمكن من أجسادهم إحاطة اللباس باللابس.
- قد يسأل سائل هل يذاق اللباس، ولماذا لم يأت النص "فأذاقها الله طعم الجوع والخوف" أو "فكساها الله لباس الجوع والخوف "؟
كلمة اللباس في الآية لا تعني لباس القماش ـ وإنما تعني الجوع والخوف الشديدين كما سبق بيانه آنفا، ولذا يكون معنى الآية: فأذاقها الله الجوع والخوف الشديدين.
أما لماذا لم يأت النص "فأذاقها الله طعم الجوع والخوف" أو "فكساها الله لباس الجوع والخوف "؟
فالجواب عن هذا أن قولنا: أذاقه
(ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون) (١١٣)
المعنى الإجمالي:
بعد بيان كفر أهل القرية بالله سبحانه وتعالى، تتابع هذه الآية بيان أبشع جرم ارتكبوه، وهو تكذيب رسول الله الذي جاءهم من قومهم وجنسهم، ويعرفون أنه نبي مرسل، ولكنهم كذبوه في ما جاء به من التوحيد، وجزاء لهذا التكذيب أخذهم العذاب، وهم ظالمون بما هم فيه من الشرك، ومستحقون لهذا العذاب الذي وقع عليهم.
المعنى التفصيلي:
- (ولقد) الواو للعطف على ما سبق من جرائم هذه القرية، واللام لام القسم لقسم مقدر، و (قد) حرف التحقيق لتأكيد الخبر الوارد في الآية؛ تنبيها للغافلين وإعلاما للسامعين.
- (جاءهم) أي أهل القرية المضروبة مثلا، وجاء في تفسير الآية السابقة أن هذه القرية ليست مكة، بل هي قرية تتشابه مع حال مكة قبل فتحها على يد النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء بيان ذلك في تفسير الآية السابقة.
وفي هذه تهديد لكفار قريش على ما يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن حال كفار قريش كحال كفار القرية المضروبة مثلا؛ لأن الكفر يعود دوما بنفس الحقيقة مع تغير الأزياء والألوان: رسول يأتي قوما أنعم الله عليهم، يدعوهم إلى الخير فيقابلونه بالتكذيب، فيأخذهم الله بالعذاب.
- (رسول منهم) أي من جنسهم، يفهمهم ويفهمونه، قال تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين... ) (إبراهيم: ٤) فهو مبعوث إلى قومه بلسانهم وهو منهم، فهم يعرفون صدقه وأصله وأخلاقه، ويعلمون كل الدلائل الدالة على صدقه وسمو مكانته، ورغم أن النبي ﷺ أرسل إلى الناس كافة، فإنما أرسل إلى قومه ابتداء (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم... ) (البقرة: ١٥١) ثم إلى الناس كافة (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (سبأ: ٢٨)
- (فكذبوه) أي كذب أهل القرية الرسول، وجاء العطف بالفاء لأنهم كذبوا الرسول بسرعة دون نظر أو بحث عن حقيقة؛ لأنهم لا يريدون الحقيقة بل يريدون أهواءهم، فهم لا يقبلون التفكير ولو قليلا في أي أمر يعارض شهواتهم وأهواءهم حتى ولو كان من عند الله سبحانه وتعالى.
- (فأخذهم العذاب) جاء العطف بالفاء دلالة على سرعة العذاب في مقابل سرعة الكفر.
وجاء التعبير عن الإهلاك بالأخذ؛ ليدل على أن هذا الإهلاك شامل لهم، ومتمكن منهم، فلن يفلت منهم أحد.
نقول - ولله المثل الأعلى -: أخذت الشيء إذ حزته ولم يفلت منه شيء، وأخذ الكفار بالعذاب معناه: إحاطة العذاب بهم وتمكنه منهم، وعدم إفلاتهم منه.
وانظر في قوله تعالى كيف كيف جاء التعبير عن الإهلاك بالأخذ: (فأخذهم أخذة رابية) (الحاقة: ١٠) (أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) (الأنعام: ٤٤).
وانظر في قوله صلى الله عليه وسلم:
(إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) (هود: ١٠٢) (صحيح البخاري ج٤/ص١٧٢٦)
فانظر كيف فسر النبي ﷺ الأخذ بشدة العذاب وتمكنه من الكفار، وعدم إفلاتهم منه.
- (فأخذهم العذاب) جاء إسناد الفعل إلى العذاب، من باب التصوير الذهني في عقول السامعين، كأن العذاب ذو إرادة وانقضاض، يهجم على هذه القرية فيهلكهم ولا يفلت منهم أحد.
- (وهم ظالمون) جملة حالية لهؤلاء المعذبين، وهذه الجملة جاءت تأكيدا على ما هم فيه من الشرك والظلم والضلال، وتنبيها إلى أن تكذيبهم للرسول لم يكن من باب عدم قيام الحجة عليهم، بل كان كفرهم ظلم لمعرفتهم الحق، وهم رغم كل هذه المعرفة رموا بما جاء به الرسول عرض الحائط.
(فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون) (١١٤)
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة ما وقع فيه أهل القرية من كفران نعمة الله سبحانه وتعالى، تحث هذه الآية المؤمنين على شكر نعمة الله - سبحانه وتعالى - حتى لا يكونوا مثل أهل القرية الظالمين. وهذا كقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) (البقرة: ١٧٢)
المعنى التفصيلي:
- (فكلوا) الفاء للتفريع، أي بناء على ما سبق من كفران أهل القرية للنعم فاشكروا أيها المؤمنون نعمة الله - سبحانه وتعالى - ولا تكونوا مثلهم.
- (فكلوا) ليس الأكل مقصودا وحده، إنما يندرج ما في معناه من النعم من اللباس والمركب والمسكن، ولكن جاء التعبير بالأكل لأنه أعظم ما يبحث عنه الإنسان أولا، وكذلك فإن تحصيله - وما في معناه من الشراب - متكرر، أما تحصيل اللباس فليس متكررا تكرر الطعام، ألا ترى أن الواحد فينا قد يشتري لباسا ما فيستعمله سنين عددا.
وقد ذكرت آنفا في تفسير الآية (النحل: ١١٢) سبب تقديم ذكر الجوع على الخوف في قوله تعالى (... فأذاقها الله لباس الجوع والخوف... ) وقدم ذكر الجوع على الخوف؛ لأن الجوع أعظم عذابا، ألا ترى أن الإنسان يعيش في خوف الحروب سنين ولكنه لا يستطيع أن يعيش دون طعام أكثر من بضعة أيام، ولذا من الله - سبحانه وتعالى - على أهل مكة بالإطعام أولا ثم بالأمان ثانيا، قال تعالى (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (قريش: ٤)، إذن توفير الطعام أولا.
وتأمل قوله تعالى (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) (النساء: ١٠) والشاهد هو: التعبير بالأكل عن أخذ أموال اليتامى، علما أن الأكل أحد الأشياء المستفادة من المال وليس كل شيء.
- (مما رزقكم الله) أي: من الذي رزقكم الله، وجاء التصريح بذكر لفظ الجلالة "الله" رغم دلالة السياق عليه للتنبيه على مصدر النعم.
- (حلالا طيبا) الطيب ما هو حسن ومستلذ، وكل طيب حلال ولكن ليس كل حلال طيب، ألا ترى أن كسب الحجام حلال؛ لأن النبي ﷺ احتجم وأعطى الحجام أجره (صحيح البخاري ج٥/ص٢١٥٤) ولكن عن كسب الحجام خبيث؛ لقول الرسول ﷺ (كسب الحجام خبيث) (صحيح مسلم ج٣/ص١١٩٩)
- وقد يأتي " الطيب" في القرآن بمعنى الحلال؛ قال الله تعالى: (... ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب... ) (النساء: ٢)، أي: لا تتبدلوا الحرام عليكم من أموالهم بالحلال من أموالكم.
وقد يأتي بمعنى الطاهر؛ قال تبارك وتعالى (... فتيمموا صعيدا طيبا... ) (النساء: ٤٣)، وقد يأتي بمعان أخرى.
- (حلالا طيبا) قدم ذكر "الحلال" على "الطيب" لأن ذكر "الطيب" أولا يغني عن ذكر "الحلال"؛ لأن كل طيب حلال وليس العكس، ولكن لأن السياق سياق حث على شكر النعم جاء التفصيل في وصف النعم.
- (واشكروا نعمت الله) ولا تكونوا مثل أهل القرية كفروا بنعم الله (... فكفرت بأنعم الله... ) (النحل: ١١٢) وجاء التصريح بذكر لفظ الجلالة للتنبيه على مصدر النعم، وذكرت "النعمة" لأن السياق سياق حث على شكر النعم فجاء التركيز على ذكر النعم، وتأمل بارك الله فيك قوله تعالى في سورة (البقرة: ١٧٢) (... واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) (البقرة: ١٧٢) وقوله تعالى في هذه الآية (واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون)
- (نعمت الله) أي جنس النعم، ولكن جاء التعبير عن النعم في هذه الآية بالمفرد "نعمة" بينما جاء التعبير بالجمع في وصف إبراهيم - عليه السلام - في قوله تعالى (شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم) (النحل: ١٢١)؛ لأن السياق سياق مدح لإبراهيم - عليه السلام - فجاء وصفه بأنه شاكر لأنعم الله سبحانه وتعالى، وأما هنا فإن الأمر لعموم المؤمنين، ولن يكون عموم المؤمنين بمنزلة إبراهيم عليه السلام، ولذا جاء الطلب من المؤمنين بالشكر بصيغة المفرد الدالة على الجنس وليس بصيغة الجمع؛ لأنهم لن يقدروا أن يكونوا بمنزلة إبراهيم عليه السلام.
ولا بد من الإشارة إلى أن "الأنعم" جمع نعمة، ولكنه جمع قلة، لأن إبراهيم - عليه السلام - مهما شكر فلن يسعه أن يشكر كل نعم الله سبحانه وتعالى، ألا ترى أن البشر لن يستطيعوا أن يحصوا نعم الله إحصاء، فكيف يمكنهم أن يشكروها كلها؟؟! (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) (النحل: ١٨) فنحن لا نستطيع أن نحيط بنعم الله بالعد والذكر، فكيف نستطيع أن نؤدي شكر ما لا نستطيع عده؟! ومن المسلم به أننا لا نستطيع، ولذا جاء ختم الآية بقوله تعالى (إن الله لغفور رحيم)
لكن لماذا لا يستطيع الإنسان أن يحيط بنعم الله؟ لا يستطيع لأنها كثيرة، فأهل الفلك يمضون العمر في استكشاف نعم الله علينا، وكذا أهل الجيولوجيا وأهل الطب وأهل التربية، وغيرهم كثير، وما يفهمه كل في تخصصه لا يحيط به الآخرون، وإنما يعرف الناس طرفا منه، وهذا فيما نعلم، فكيف بما لا نعلم، وما لا نعلمه أعظم، لأن علمنا في علم الله لا شيء، سبحانه وتعالى!
- (إن كنتم إياه تعبدون) وجواب الشرط مقدر بما سبق، وتقديره (إن كنتم إياه تعبدون) فاشكروا نعمته.
- (إن كنتم إياه تعبدون) وفي هذا دليل على أن الخطاب للمؤمنين؛ لأن تقديم المفعول به (إياه) على الفعل والفاعل (تعبدون) للحصر، أي إن كنتم تعبدون الله - سبحانه وتعالى- وحده، وعبادة الله وحده مختصة بالمؤمنين، فالآية ليست خطابا لكفار قريش لأنهم يشركون مع الله سبحانه وتعالى، وبهذا يتبين ضعف قول من قال في تفسير (إن كنتم إياه تعبدون): "إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته تعالى ". وضعف هذا القول يظهر من تقديم المفعول، وهذا التقديم يدل على توحيد الله - سبحانه وتعالى - بالعبادة، ومن المعلوم أن كفار قريش لم يزعموا أنهم يوحدون الله بالعبادة حتى يقال لهم ذلك.
(إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم) (١١٥)
المفردات:
- باغ: من البغي، وهو: الظلم على وجه القوة والاستطالة.
- عاد: من العدوان، وهو: مجاوزة الحق إلى الباطل.
المعنى الإجمالي:
بعد أن أمرت الآية السابقة المؤمنين بأن يأكلوا الحلال الطيب ويؤدوا شكره، جاءت هذه الآية لبيان المحرم الذي ينحصر ليتبين الطيب الذي لا ينحصر، واستثني المضطر من حرمة الأكل إنقاذا لحياته، إلا أن يكون باغيا أو عاديا فإنه سوف يعاقب على الأكل بسبب عصيانه.
المعنى التفصيلي:
- (إنما) للقصر، أي: ما حرم عليكم إلا... ، وجاء ما يؤكد هذا القصر في آيات أخرى، أذكر منها (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم (الأنعام: ١٤٥) والشاهد (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون... )
ولكن كيف يفهم هذا القصر مع وجود نصوص صحيحة عن النبي - ﷺ - تحرم غير ذلك، فعلى سبيل المثال: فقد نهى رسول الله - ﷺ - عن أكل كل ذي ناب من السباع (صحيح البخاري ج٥/ص٢١٠٣)؟
قد يقول قائل: إن هاتين الآيتين مكيتين، ولم يكتمل التشريع في العهد المكي.
فيقال للقائل: هذه آية سورة البقرة المدنية (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) (البقرة: ١٧٣) لم تزد شيئا على آية سورة النحل، وقد جاءت بـ (إنما).
وللجواب عن هذا لا بد من بيان أن القصر في اللغة يأتي بمعنى التخصيص، وينقسم إلى قصر حقيقي، وقصر إضافي.
ومثال القصر الحقيقي "لا إله إلا الله" أي لا معبود بحق إلا الله، وهذه حقيقة مطلقة سواء ذكرت مفردة، أو كانت في أي سياق أو أي موضوع.
والقصر الإضافي ليس قصرا حقيقيا عاما من جميع الوجوه، بل جاء قصرا بالإضافة إلى السياق والموضوع، ووجه كون القصر إضافيا أن الكفار الذين نزل القرآن بينهم كانوا يستحلون هذه المحرمات، فجاء الآية للرد عليهم بصيغة جازمة، فهي لم تحرم فقط بل كأنها حصرت هذه المحرمات في ما كان الكفار يستحلونه، كردنا على من يستحل صورة معينة من الإثم فنقول له: إنما الإثم ما تفعل. وليس القصد قصر الإثم على فعله ولكنه زيادة في الإنكار.
وهناك توجيه آخر لمعنى القصر في الآية، ومضمون هذا التوجيه أن الميتة هي: كل حيوان فارق الحياة ولم يذكى ذكاة شرعية، فيندرج تحت مسمى الميتة المنخنقة والموقوذة لأنها فارقت الحياة من غير ذكاة، ويندرج تحتها الخنزير والكلاب والسباع وغيرها من الحيوانات المحرمة في السنة؛ لأنها وإن ذبحت فذبحها ليس ذكاة شرعية.
- (الميتة) ويستثنى من تحريم الميتة أمور، منها صيد البحر؛ قال تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة... ) (المائدة: ٩٦)، وأيضا ما جاء عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:: " أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال. (أحمد: رقم ٥٧٢٣) والحديث صحيح، وإن كان اختلف في رفعه ووقفه، ورجح بعض الحفاظ كالدارقطني وقفه، إلا أن الموقوف له حكم المرفوع، فالنتيجة واحدة.
- (والدم) مقيد بالمسفوح كما في قوله تعالى (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) (الأنعام: ١٤٥) أما ما كان مخالطا للحم فغير محرم.
- (ولحم الخنزير) وشحمه وجلده، وعلى حرمة أكله كله انعقد الإجماع، ولكن لماذا خص اللحم بالذكر؟
قيل: لأنه الأنفع فيه.
وقيل: من باب التفنن في التعبير. وهذا ضعيف؛ لأن المغايرة في التعبير في باب الأحكام لا بد لها من فائدة.
وقيل: لئلا يظن أنه نجس العين، بل هو طاهر الذات كما هو مذهب مالك. وهذا فيه بعد؛ لأن تحريم أكله دون تخصيص اللحم بالذكر لا يدل على نجاسة ذاته، فالهر - مثلا - لا يجوز أكله ولكنه طاهر العين.
- (وما أهل لغير الله به) الإهلال رفع الصوت، والمقصود به النية، ولكن يفهم من التعبير برفع الصوت أن المشركين كانوا يرفعون أصواتهم عند الذبح لأصنامهم.
- (فمن اضطر) شارف على الهلاك، ولا يسمى من وجد بعض الطعام الذي يبقيه على قيد الحياة ويدفع عنه المرض المهلك مضطرا.
وهناك حديث ضعيف استدل به من يجوز الحرام لمن صعب الأمر عليه قبل أن يقع في الاضطرار، وهذا الحديث الضعيف هو ما روي عن الفجيع العامري أنه أتى رسول الله - ﷺ - فقال: ما يحل لنا من الميتة؟ قال: ما طعامكم؟ قلنا: نغتبق ونصطبح. - قال أبو نعيم: فسره لي عقبة: قدح غدوة وقدح عشية - قال: ذاك وأبي الجوع. فأحل لهم الميتة على هذه الحال. قال أبو داود: الغبوق من آخر النهار والصبوح من أول النهار (سنن أبي داود ج٣/ص٣٥٨).
فمن وجد الغبوق والصبوح فليس مضطرا، ويقاس عليه كل من وجد ما يقوم به أمره ولو على شدة.
- هل يجوز للمضطر أن يأكل فوق الضرورة حتى الشبع؟
في ذلك خلاف عند العلماء، والظاهر أن الأصل في هذه الأشياء التحريم، ولكن أبيحت للضرورة، فإذا اندفعت الضرورة رجعت الحرمة، ولذا لا يجوز بعد دفع الضرورة الاستمرار بالأكل حتى الشبع، وأما من قال بجواز الشبع استدل بما روي عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضلت فإن وجدتها فأمسكها فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت، فقالت امرأته: انحرها. فأبى فنفقت، فقالت: اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله. فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه فسأله، فقال: هل عندك غنى يغنيك؟ قال: لا. قال: فكلوها. قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها. قال: استحييت منك (سنن أبي داود ج٣/ص٣٥٨)
والشاهد أن النبي - ﷺ - أجاز لهم أكل الناقة الميتة دون بيان حد الأكل هل هو الشبع أو دونه، وعدم التفصيل في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم من المقال.
ولكن في تصحيح الحديث خلاف لأجل سماك بن حرب، والظاهر أن الحديث ضعيف لتفرد سماك بهذا الحديث، وهو وإن كان ثقة لكن حفظه ساء، ومثل معنى هذا الحديث لا يقبل من طريق تفرد بها من في حال سماك؛ لأن الحديث يتعارض مع الآية، فالآية لا تبيح لغير المضطر بالأكل، والحديث يبيح لمن لا يجد غنى يغنيه بالأكل من الميتة، رغم أنه يجد شيئا يدفع به الهلاك عن نفسه، فهو إذن غير مضطر. فالحديث ضعيف لتفرد سماك بمثل هذا الحديث، ومن هنا تعلم ضعف قول القائل: ليس في إسناده مطعن.
- (غير باغ ولا عاد) قيل: إن حال البغي والعدوان خاص بالمضطر، أي: من اضطر إلى أكل الميتة غير باغ ولا عاد فأكل فلا إثم عليه. وعلى هذا القول فإن الباغي هو من بغى على المسلمين بالخروج عليهم أو نحوه، والعادي من اعتدى على حقوق العباد بقطع طريق أو نحوه.
وقيل: إن حال البغي والعدوان خاص بأكل المضطر، أي من اضطر فأكل غير باغ أو عاد في أكله فلا إثم عليه. وعلى هذا القول فالباغي هو من يطلب المحرم والعادي من يتعدى حد الشبع.
وبناء على هذا الخلاف في بيان معنى البغي والعدوان في الآية وقع الخلاف في حكم أكل العاصي في سفره إذا اضطر إلى الطعام.
فعلى القول الأول - وهو قول الشافعي - فإنه لا يجوز للعاصي أن يأكل حتى يتوب؛ لأن الرخصة إعانة على السفر، فإذا كان السفر معصية، كانت الرخصة إعانة على المعصية.
وعلى القول الثاني - وهو قول أبي حنيفة - فإنه يجوز للعاصي أن يأكل وإن لم يتب؛ لأن إنقاذ النفس من الهلاك واجب؛ قال تعالى (... ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) (النساء: ٢٩) فإذا كان إنقاذ العاصي نفسه من الهلاك واجب، والميتة في حقه حرام فكيف يؤمر بفعل الحرام؟!!
والأصل في حمل اللفظ أن يحمل على عمومه ولا يخصص إلا بمخصص، فالبغي يشمل كل معانيه، وكذا العدوان، وعلى هذا فالعاصي بالبغي أو بالعدوان أو بالأكل لا يرفع عنه الإثم، فإن قال قائل: فإذا كان إنقاذ العاصي نفسه من الهلاك واجب، والميتة في حقه حرام فكيف يؤمر بفعل الحرام؟!!
الجواب عن هذا أن الله - سبحانه وتعالى - لم يأمر العاصي أن ينقذ نفسه بالحرام، بل أمره أن ينقذ نفسه بما أحل له من الميتة بأن يكون طائعا، فإذا أنقذ العاصي نفسه بأكل الميتة وكان ما يزال على عصيانه، كان معاقبا على عصيانه لا على إنقاذ نفسه. فتأمل بارك الله فيك.
- من صور البغي التي ذكرها المفسرون:
١ - الخارج على جماعة المسلمين.
٢ - من يأكل المحرمات وهو يجد غيرها من الحلال.
- من صور الاعتداء التي ذكرها المفسرون:
١ - قطع الطريق.
٢ - الأكل من المحرم فوق ما يدفع الضرورة.
- (فإن الله غفور رحيم) الجملة في محل جزم جواب الشرط (فمن اضطر غير باغ ولا عاد).
قيل: إن الفاء (فإن) تعليلية لجواب الشرط المقدر "فلا إثم عليه". وفي نهاية الأمر فإن المعنى واحد، وهو: رفع الإثم عن المضطر غير الباغي ولا العادي، ولكن الخلاف في كيفية تأدية الكلام لهذا المعنى.
- الغفور: اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، بمعنى المتجاوز عن ذنوب عباده، وأصله في اللغة من الستر؛ والتجاوز عن الذنوب ستر لها فلا يحاسب عليها صاحبها.
- والرحيم: اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى مشتق من الرحمة.
- ولكن لماذا قدم ذكر "الغفور" على "الرحيم" وليس العكس؟
قدم ذكر "الغفور" على "الرحيم"؛ لأن المغفرة سلامة، والرحمة غنيمة، والسلامة أولا ثم الغنيمة.
(ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) (١١٦)
المفردات:
- تفتروا: تدعوا الكذب.
المعنى الإجمالي:
بعد أن أمر الله - سبحانه وتعالى - المؤمنين أن يأكلوا الحلال الطيب وبين ما عليهم اجتنابه من المحرمات، تنهى هذه الآية المؤمنين أن يتبعوا سبيل المشركين في التحليل والتحريم على مبدأ الهوى دون شريعة من الله سبحانه وتعالى.
وتبين هذه الآية - أيضا - أن الذي يحرم ويحلل من تلقاء نفسه إنما يفتري على الله الكذب، وسوف يكون من الخاسرين الذين يلقون سوء العذاب بسبب افترائهم.
وهذا كقوله تعالى (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون) (يونس: ٥٩) وكقوله تعالى (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم) (الأنعام: ١٣٩)
المعنى التفصيلي:
- قيل: عاد الخطاب إلى المشركين، ولذا فإن الآية معطوفة على (وضرب الله مثلا قرية... ) (سورة النحل: ١١٢).
ولكن الأظهر حمل الآية على أنها خطاب للمؤمنين؛ ليحذروا من سبيل المشركين في التشريع وفق أهوائهم دون وحي من الله سبحانه وتعالى.
والأظهر حملها على أنها خطاب للمؤمنين؛ لأن استقامة الكلام على نسق واحد أبلغ، ولأن استقامة الكلام على نسق واحد أبلغ؛ فقد حدا هذا ببعض المفسرين أن يقولوا بأن الخطاب كان موجها للكافرين في قوله تعالى (فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون) (النحل: ١١٤)؛ مستدلين بأن استقامة الكلام على نسق واحد أبلغ؛ لأنهم ظنوا أن أن الأمر بالأكل والشكر كان للمشركين، ولا داعي للرد على هذا من جديد فقد سبق بيان الدليل على أن الأمر بالأكل والشكر كان للمؤمنين وليس للمشركين.
وفي حمل الآية على أنها خطاب للمؤمنين ليحذروا من سبيل المشركين في التشريع وفق أهوائهم دون وحي من الله سبحانه وتعالى، توجيه حسن مع بقاء الكلام على نسق واحد.
- (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) واختلف في معنى هذه الآية، وأهم ما قيل في بيانها هو:
أولا: أن يكون "الكذب" مفعولا به لـ "لا تقولوا"، وهذا هو الإعراب الأول، ويترتب على ذلك تقديران:
التقدير الأول: ولا تقولوا الكذب هذا حلال وهذا حرام في شأن ما تصفه ألسنتكم من رزق الله بالحل والحرمة. واللام هنا بمعنى "عن"، وهي من قبيل اللام في قوله تعالى (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات... ) (البقرة: ١٥٤) أي: ولا تقولوا عن من يقتل في سبيل الله أموات.
التقدير الثاني: ولا تقولوا الكذب هذا حرام وهذا حلال لأجل وصف ألسنتكم من غير حجة ولا برهان.
والإعراب الثاني: أن يكون "الكذب" مفعولا به للمصدر المؤول من "ما" المصدرية والفعل "تصف".
وعلى هذا يكون التقدير: ولا تقولوا هذا حرام وهذا حلال لأجل وصف ألسنتكم الكذب.
وكون "اللام" للتعليل أرجح؛ لأن النص على بطلان مصدر التشريع (لما تصف ألسنتكم الكذب) أقوى من النص على كذب القول الناشئ عن المصدر؛ لأن الطعن في الأساس أبلغ من الطعن في الفرع، والأساس هو: ما تصفه الألسن من كون هذه سائبة أو بحيرة أو وصيلة، والفرع هو: القول بأن هذا حلال وهذ حرام بناء على ما سبق من وصف.
- وجاء التعبير بإسناد الكذب إلى ألسنتهم (تصف ألسنتكم) وليس "يصفون"، زيادة في بيان بشاعة فعلهم، فهؤلاء يفترون الكذب على الله بألسنتهم التي خلقها الله كي تذكره (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات: ٥٦).
فكل عضو في أجسادنا ما خلقه الله إلا ليكون في طاعته، ومن أعلى هذه الأعضاء - إن لم يكن أعلاها - اللسان، فبه يذكر الله، وبه يقال الحق، ومن هنا تظهر بشاعة استعمال الألسن في الافتراء على الله سبحانه وتعالى.
- (تصف ألسنتكم الكذب) فألسنتهم تصف الكذب ذاته، لا شيئا قريبا منه، ولا شيئا مخلوطا بالحق، بل ما تصفه ألسنتهم هو عين الكذب، وذات الكذب.
فمن الناس من لا يتجرأ على قول الكذب خالصا، فيخلطه ببعض الصدق، ولكن كفار قريش ومن سار على نهجهم، بلغوا من القحة مبلغا عظيما، حيث يقولون الكذب خالصا، بلا حياء ولا خجل، ولا قلق ولا وجل.
- (هذا حلال وهذا حرام) وقدم ذكر التحليل على التحريم؛ لأن أهواء البشر تميل للتحليل لما فيه من الانفلات والاسترسال والسهولة.
- (لتفتروا على الله الكذب) و"اللام" لام العاقبة، أي: تحللوا وتحرموا بناء على أهوائكم فتكون النتيجة أنكم تفترون على الله الكذب؛ لأنكم تحلون وتحرمون وتزعمون أن هذه هي الشريعة الحقة، ومن قال لكم إن هذه هي الشريعة الحقة؟! ولا يحكم على أن الشريعة حق أو باطل إلا الله وحده، فأنتم تفترون على الله حينما تقولون: إن هذا هو الحق الذي يجب اتباعه!!!
قيل: إن "اللام" في (لتفتروا) للتعليل. وهذا ضعيف؛ لأن من يتعمد التحليل والتحريم من غير شرع الله - سبحانه وتعالى - فإنه يفتري على الله الكذب ولا ينظر إلى نيته: هل يريد الافتراء على الله أم لا؟
ومثل هذا ما جاء عن النبي ﷺ - بسند حسن - أنه قال: " أيما أمرأة استعطرت فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية" (مسند أحمد بن حنبل ج٤/ص٤١٣) فنهي المرأة عن الاستعطار ليس مشروط بنيتها؛ لأن "اللام" في (ليجدوا) هي لام العاقبة، أي من استعطرت فمرت بقوم فإن النتيجة هي أنهم سيجدون ريحها. ولذا جاء الحديث بلفظ آخر دون "اللام"؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا. يعني: زانية " قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح (سنن الترمذي ج٥/ص١٠٦) وهذا سند حسن.
- (لتفتروا) أي: لتدعوا الكذب، وهذا الادعاء متعمد، لأن أصل الافتراء "القطع"، فهم يفترون على الله الكذب، أي يقطعون به، وليس مجرد تكذيب في سياق التفكير والبحث عن الحق.
والافتراء يستعمل في التعبير عن الكذب، ولكنه ليس هو الكذب، بل استعمل فيه، وانظر إلى قوله تعالى (انظر كيف يفترون على الله الكذب) (النساء: ٥٠) (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) (المائدة: ١٠٣) وغير ذلك من الآيات.
ووجه الشاهد أن الافتراء استعمل في الكذب، ولكنه ليس الكذب؛ لأنهم يفترون الكذب، والافتراء في أصله هو القطع.
- (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) (إن) للتأكيد، والتعبير بالاسم الموصول (الذين) وليس "المفترين"؛ للتشهير بالمشركين، (لا يفلحون)؛ لأن مأواهم عذاب النار، وبئس العذاب، وبئس المآل.
- الأصل في ترتيب الجملة: "ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لما تصف ألسنتكم الكذب"، ولكن جاء ترتيبها في الآية (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام)؛ لأن نقض أصل التشريع - وهو: الهوى - هو الأهم، فنبه عليه باعتراض سياق الكلام بـ (لما تصف ألسنتكم الكذب).
- جاء الالتفات من أسلوب الخطاب (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب) إلى أسلوب الغيبة (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون)؛ لأن المخاطب هم المؤمنون، فناسب أسلوب الخطاب تحذيرهم، وجاء أسلوب الغيبة في قوله تعالى (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون)؛ لأنه إخبار للمؤمنين عن عقاب من يفتري، ولا يستقيم التعبير بأسلوب الخطاب "إنكم افتريتم على الله الكذب فلن تفلحوا"؛ لأن المؤمنين لم يفتروا على الله الكذب، إنما وعظوا بمصير من افترى. فتأمل رعاك الله.
(متاع قليل ولهم عذاب أليم) (١١٧)
المعنى الإجمالي:
لما بينت الآية السابقة أن الذين يفترون على الله الكذب بقولهم: هذا حلال وهذا حرام لا يفحلون، تبين هذه الآية لماذا لا يفلحون.
وهم لا يفلحون لأن لهم في هذه الدنيا متاع قليل وبعد ذلك لهم العذاب الأليم خالدين فيه. فأين فلاحهم إذا كانوا سيقضون حياتهم الأبدية في العذاب؟!!
المعنى التفصيلي:
- (متاع قليل) أي: حياتهم ومعيشتهم متاع قليل؛ لأن حياتهم الدنيا بما فيها من متاع إنما هي شيء قليل؛ فما يعيش أحدنا إلا سنين قليلة، نقضي فترة منها في مكابدة أحوال الطفولة، ثم نكابد شدائد مرحلة الشباب، وبعدها يمتد العمر بمن يمتد حتى يكابد مرارة الكبر، وما في هذا العمر من السعادة إلا قليل.
- (ولهم عذاب أليم) وقدم (لهم) زيادة في التهديد والوعيد.
- جاء التعبير عن العذاب بـ (لهم) (ولهم عذاب أليم)، بينما لم يأت التعبير عن المتاع بـ (لهم)، فما دلالة ذلك؟
إنهم مستحقون للعذاب بسبب افترائهم؛ ولذا جاء التعبير بما يدل على استحقاقهم العذاب (لهم)، بينما هم ليسوا مستحقين للمتاع القليل في الدنيا؛ ولذا لم ينص على ما يدل على استحقاقهم لهذا المتاع، وإنما قدرت الكلام بـ "معيشتهم" أو "حياتهم" تمشيا مع هذه الدلالة.
(وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (١١٨)
المفردات:
- الذين هادوا: اليهود.
المعنى الإجمالي:
بعد أن أمر الله - سبحانه وتعالى - المؤمنين أن يأكلوا الطيبات، أخبرهم بما حرم عليهم، ثم نبههم إلى أن لا يتورعوا عن أكل ما حرم على يهود؛ لأنه حلال طيب في ذاته، وإنما حرم لأمر عارض، ولذا فهو من ضمن الطيبات.
فالله - سبحانه وتعالى - حرم على يهود طيبات أحلت لهم، وذلك بسبب ذنوبهم، وسبب ظلمهم.
المعنى التفصيلي:
- (الذين هادوا) هم اليهود. وجاء التعبير بالاسم الموصول (الذين) تشهيرا بهم. وقيل في معنى (هادوا) عدة أقوال، منها: تابوا، وذلك من قوله تعالى (... إنا هدنا إليك... ) (الأعراف: ١٥٦). وهذا غير صحيح؛ لأن المقام في آية سورة النحل مقام ذم فكيف يوصفون بصفة المدح في مثل هذا المقام.
وقيل: هادوا، أي: كانوا يهودا، ويهود معربة من يهوذا، وهو أحد الأسباط.
ومما قيل - وأرى له وجها -: إن "يهوه" في العبرية معناها "الله"، وأطلق على الأتباع "يهوديم" نسبة إلى "يهوه"، وعند تعريبها صارت "يهود".
- (حرمنا) جاء التعبير بأسلوب المتكلم، و"نا" للتعظيم، بينما جاء التعبير بأسلوب الغيبة في قوله تعالى (إنما حرم عليكم الميتة... ) (النحل: ١١٥)؛ لأن التحريم الذي وقع على بني إسرائيل كان عقابا؛ فناسبه التعظيم، وهذا بخلاف آية تحريم الميتة.
- (قصصنا عليك من قبل) والذي قصه الله - سبحانه وتعالى - على نبيه - ﷺ - من قبل هو: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) (الأنعام: ١٤٦).
- (عليك) أي: يا محمد. ورغم أن الكلام مفهوم دون (عليك)، ولكنها جاءت تأنيسا للنبي - ﷺ - وتكريما.
- (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) وما وقع عليهم من التحريم إنما هو بسبب ذنوبهم، والله - سبحانه وتعالى - لم يظلمهم، بل كانوا يظلمون أنفسهم؛ قال تعالى (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا) (النساء: ١٦٠).
- ودلالة (كانوا) هي التأكيد على وقوع الظلم منهم على أنفسهم؛ لما تعنيه "كان" من الوجود.
- (أنفسهم يظلمون) الأصل في الترتيب "يظلمون أنفسهم"، ولكن قدم المفعول به لبيان بشاعة أن يظلم الإنسان نفسه، ويا له من ظلم عظيم!
- والأصل في ترتيب الآية "وحرمنا على الذين هادوا ما قصصنا... "، ولكن قدم ذكر "الذين هادوا" تنبيها على أن هذه المحرمات إنما حرمت عليهم هم دون غيرهم من العالمين، وهذا تشهير بهم وبما اقترفوه من الظلم.
(ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) (١١٩)
المفردات:
- بجهالة: بسفه وطيش.
المعنى الإجمالي:
بعد بيان الآيات السابقة الأحكام التكليفية، تبين هذه الآية أن بعض المسلمين قد لا يطيعون الله - سبحانه وتعالى - بكل ما جاء من الأحكام، وسبب هذه المعصية هي الجهالة، وهي: السفه والطيش، وليس الكفر والإنكار، ولذا فإن هؤلاء العاصين إن تابوا والتزموا بأوامر الله - سبحانه وتعالى - فإنه سيغفر ذنوبهم ويرحمهم.
المعنى التفصيلي:
- (ثم) ليست للتراخي الزمني بل للدلالة على تعظيم غفران الله - سبحانه وتعالى- للذنوب.
- (إن ربك) (إن) للتأكيد، و"الكاف" في (ربك) عائد على النبي محمد صلى الله عليه وسلم. والإضافة إنما هي لتكريم النبي صلى الله عليه وسلم. ودلالة التعبير بـ"الرب" هي العناية والرعاية؛ لما لاسم "الرب" من معاني الرعاية والعناية والتي تتناسب وسياق المغفرة.
- (للذين عملوا السوء) أي: المعاصي. والفرق بين السوء والسوء، أن السوء "بفتح السين" هو: مصدر، والسوء "بضم السين" هو: اسم، والفرق بينهما أن السوء بالفتح يضاف إليه المنعوت، نقول: رجل السوء، ظن السوء. والسوء بالضم المكروه، نقول: ساءني سوءا، إذا لقيت منه المكروه. فهما من ناحية الأصل مشتركان، ولكن الاختلاف في طريقة الاستعمال.
- (بجهالة) أي بسفه وطيش. وللجهالة عدة معان:
الأول: خلو النفس من العلم.
الثاني: اعتقاد الشيء على غير ما هو عليه.
الثالث: السفه والطيش.
وإنما قلت: إن المعنى - هنا - السفه والطيش؛ لأنه المعنى المناسب لتوبة المسلم للمعاصي، أما المعصية التي يجهل المسلم حرمتها - غير مقصر بجهله - فلا إثم عليه لفعلها، فعدم العلم مانع من موانع العذاب بسبب الكفر زيادة على المعاصي؛ قال تعالى (... وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (الإسراء: ١٥)
- (ثم تابوا) (ثم) ليست للتراخي الزمني بل للتراخي الرتبي، لعلو رتبة الغفران؛ لأن بين غفران الذنوب وارتكابها بون شاسع وفرق عظيم.
- (تابوا) أي توبة خالصة لله سبحانه وتعالى، صادقة في حقيقتها، نصوحا غير مشوبة بمصلحة دنيوية.
- (من بعد ذلك) أي من بعد وقوع السوء، والكلام مفهوم دون (من بعد ذلك)؛ لأن التوبة لا تكون إلا بعد الإثم، ولكن في ذلك إشارة إلى ما وقع من الإثم للتأكيد بأن الله غفور رحيم رغم ما وقع وكان.
- (ذلك) "ذا" اسم إشارة و"اللام" للبعد، وإنما أشير للمعاصي بما يشار به للبعيد احتقارا لها.
- (وأصلحوا) أي: أصلحوا أعمالهم.
- أعيد ذكر (إن ربك) رغم ذكره في أول الآية لأمرين، الأول: طول الفصل، والثاني: للتأكيد على مغفرة الله ورحمته لهؤلاء المؤمنين.
- (لغفور رحيم) اللام في (لغفور) للتأكيد، وكل ما ذكر من تأكيد في الآية إنما هو لتطمين هؤلاء المؤمنين - ومن في حكمهم - أن الله - سبحانه وتعالى - غفور رحيم؛ فلا تيأسوا من رحمة الله ومغفرته.
الغفور: اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، بمعنى المتجاوز عن ذنوب عباده، وأصله في اللغة من الستر؛ والتجاوز عن الذنوب ستر لها فلا يحاسب عليها صاحبها.
والرحيم: اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى مشتق من الرحمة.
- ولكن لماذا قدم ذكر اسم "الغفور" على "الرحيم" وليس العكس؟
قدم ذكر اسم "الغفور" على "الرحيم"؛ لأن المغفرة سلامة، والرحمة غنيمة، والسلامة أولا ثم الغنيمة.
- الأصل في ترتيب الجملة هو التالي:
" إن ربك لغفور رحيم للذين عملوا السوء بجهالة ) فلماذا هذا التغيير في ترتيب الجملة بذكر الجار والمجرور (للذين) قبل (لغفور رحيم)؟
قدم الجار والمجرور (للذين) إبرازا للاسم الموصول، حتى يكون هذا الإبراز إعلانا لإعلاء أمر هؤلاء المؤمنين التائبين، وتنويها بعظيم قدرهم، كيف لا؟! والله شديد الفرح بتوبة عبده؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها" (صحيح مسلم ج٤/ص٢١٠٢)
(إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين) (١٢٠)
المفردات:
- أمة: إمام هدى يعلم الناس الخير.
- قانتا: دائم الطاعة والخضوع لله تعالى.
- حنيفا: مستقيما على الحق.
المعنى الإجمالي:
بعد بيان الأحكام الشرعية في الآيات السابقة، وبيان ما حرم على يهود وحدهم، جاءت هذه الآية وما بعدها من ممهدات لقوله تعالى (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) (النحل: ١٢٣)؛ لبيان أن ما شرع لأمة محمد من هذه الأحكام إنما كان شريعة لإبراهيم عليه السلام، ولبيان أن يهود ليسوا على شريعة إبراهيم - عليه السلام - رغم زعمهم أنهم على شريعته (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (٦٧) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (٦٨)) (آل عمران).
المعنى التفصيلي:
- (إن) للتأكيد؛ ردا على المشركين الذين يزعمون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام.
- (إبراهيم) وهو من رسل الله سبحانه وتعالى، ولا يجهل مكانته مسلم، وليس له أصل في العربية حتى يعرف ما معناه، وقيل: معناه بالسريانية "أب رحيم"، ولا أعرف صحة هذا المعنى، وإنما نقلت ما وقفت عليه.
- (أمة) أي: إماما في الخير، يعلم الناس ويقودهم إلى طريق الخير؛ قال تعالى (... قال إني جاعلك للناس إماما... ) (البقرة: ١٢٤)، و "أمة" على وزن فعلة بمعنى مفعول، مثل: نسخة بمعنى منسوخ، وعرضة بمعنى معروض.
وللأمة في القرآن عدة معان:
الأول: بمعنى القدوة؛ كما في هذه الآية (إن إبراهيم كان أمة... )
الثاني: مقدار من الزمن؛ كما في قوله تعالى (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون) (يوسف: ٤٥)
الثالث: الجماعة من الناس؛ كما في قوله تعالى (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك... ) (البقرة: ١٢٨)
الرابع: الدين والملة؛ كما في قوله تعالى (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) (الزخرف: ٢٢)
والجامع في هذه المعاني: الجمع؛ فالقدوة يجمع الناس على طريقه، ومقدار الزمن يجمع في ذاته الدقائق والأيام، والجماعة من الناس يجتمون مع بعضهم، والدين يجمع الناس على مبادئه.
وقيل: إن معنى (إن إبراهيم كان أمة) أي: قائما بالعبادة مقام أمة، وهذا معنى آخر، ولا تناقض بينه وبين ما سبقه.
- (قانتا) طائعا لله منقادا لأمره، وهذا هو أصل المعنى، ويرد بمعان أخرى تعرف من السياق.
- (حنيفا) حنف: مال إلى الحق وابتعد عن الباطل، وإبراهيم عليه السلام كان على الحق بعيدا عن الباطل.
- يدل ما سبق أنه كان عليه السلام (حنيفا) يدل على أنه ما كان من المشركين، فلماذا ذكر (ولم يك من المشركين) رغم دلالة ما قبله عليه؟
ذكر (ولم يك من المشركين) رغم دلالة ما قبله عليه؛ ردا على المشركين الذين كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام. ويدل أيضا على أنه - عليه السلام - ما كان مشركا في أي أمر كبيرا كان أو صغيرا، ولم يكن مشركا في أي مرحلة من حياته لا في صغره ولا كبره.
- جاء بيان صفات إبراهيم عليه السلام من الأعلى إلى الأدنى؛ وانظر معي - بارك الله فيك - إلى هذا التدرج: فالإمام والقدوة ومعلم الناس الخير والقائم مكان أمة لا بد أن يكون قانتا لله، والقانت لله لا بد أن يكون حنيفا، ومن كانت هذه صفاته فلا بد أن يكون موحدا وأن لا يكون من المشركين.
ولا يشترط في كل موحد أن يكون قانتا أو يكون إماما للناس يعلمهم الخير.
ولكن لماذا التدرج في ذكر صفات إبراهيم - عليه السلام - من الأعلى إلى الأدنى؟
جاء التدرج هكذا لأنه الأصل في المدح؛ نقول: فلان الرئيس السابق، وقد شغل قبلها عدة مناصب. ولا نقول على سبيل المدح: فلان مدير مؤسسة رعاية المسنين سابقا، وكان بعدها رئيسا للبلاد. إنما نقول هذا على سبيل الحكاية والإخبار لا المدح والتزكية.
(شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم) (١٢١)
المفردات:
- اجتباه: اختاره.
المعنى الإجمالي:
ما زالت الآية تعرض عظيم صفات إبراهيم عليه السلام، فهو شاكر لنعم الله، والسبب في ما فيه إبراهيم - عليه السلام - من الفضل العظيم إنما هو بسبب اختيار الله - سبحانه وتعالى - له، وبسبب هدايته إلى طريق التوحيد والدين الحق.
المعنى التفصيلي:
- (شاكرا) صفة أخرى لإبراهيم عليه السلام، وهذا تعريض بالمشركين الذين سبق وصفهم بقوله تعالى (... فكفرت بأنعم الله... ) (النحل: ١١٢)
- (لأنعمه) أي: لأنعم الله، و (أنعم) جمع نعمة، وقيل: جمع نعمى، وقيل: جمع نعم، وقيل غير ذلك.
- (أنعم) جمع قلة، ولكن لماذا جاء التعبير بجمع القلة، أليس التعبير بجنس النعم أعظم في بيان عظيم شكر إبراهيم عليه السلام؟
جاء التعبير عن النعم بجمع القلة؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - مهما شكر فلن يسعه أن يشكر كل نعم الله سبحانه وتعالى، ألا ترى أن البشر لن يستطيعوا أن يحصوا نعم الله إحصاء، فكيف يمكنهم أن يشكروها كلها؟؟! (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) (النحل: ١٨) فنحن لا نستطيع أن نحيط بنعم الله بالعد والذكر، فكيف نستطيع أن نؤدي شكر ما لا نستطيع عده؟! ومن المسلم به أننا لا نستطيع، ولذا جاء ختم الآية بقوله تعالى (إن الله لغفور رحيم).
لكن لماذا لا يستطيع الإنسان أن يحيط بنعم الله؟
لا يستطيع الإنسان أن يحيط بنعم الله؛ لأنها كثيرة، فأهل الفلك يمضون العمر في استكشاف نعم الله علينا، وكذا أهل الجيولوجيا وأهل الطب وأهل التربية، وغيرهم كثير، وما يفهمه كل في تخصصه لا يحيط به الآخرون، وإنما يعرف الناس طرفا منه، وهذا فيما نعلم، فكيف بما لا نعلم، وما لا نعلمه أعظم، لأن علمنا في علم الله لا شيء، سبحانه وتعالى!
ويضاف إلى هذا بأن ما أوتي إبراهيم - عليه السلام - إلا جزءا يسيرا من نعم الله سبحانه وتعالى، فتأمل.
وقيل: جاء التعبير بجمع القلة؛ للإيذان بأن إبراهيم - عليه السلام - شاكر لما قل من النعم فكيف بكثيرها.
وهذا ضعيف؛ لأن من يشكر كثير النعم فبالأولى يشكر قليلها، ولكن لا يلزم من رجل يشكر الله على قليل النعم أن يقدر على شكره على كثيرها؛ فكم من فقير كان شاكرا في فقره فلما أغناه الله تكبر وتجبر وأغوته النعمة فنسي شكر الله.
- (اجتباه) جبى الشيء جمعه، والاجتباء الجمع عن طريق الاصطفاء؛ قال تعالى (... الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) (الشورى: ١٣) فاصطفاء الرسل لا يرجع إلى كسبهم، بخلاف الهداية التي تكون لمن قصدها.
- (وهداه) وللهداية عدة معان، أذكر منها:
الأول: الهداية الفطرية أو الغريزية أو ما كان في معناهما؛ قال تعالى (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) (طه: ٥٠)
الثاني: البيان عن طريق الأنبياء والدعاة، قال تعالى في شأن الأنبياء (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات.... ) (الأنبياء: ٧٣) وقال تعالى في شأن الدعاة (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) (السجدة: ٢٤)
الثالث: التوفيق لمن اهتدى (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) (محمد: ١٧)
- (صراط مستقيم) وهو طريق التوحيد والدين الحق، روى أحمد في (مسنده ج١/ص٤٣٥) بسند حسن عن عبد الله بن مسعود قال خط لنا رسول الله - ﷺ - خطا ثم قال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله... ) (الأنعام: ١٥٣)
- لم يقع العطف بين (شاكرا لأنعمه) و (اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم)؛ لأن الجملة الثانية بيان لسؤال ناشئ في الذهن: لماذا حاز إبراهيم - عليه السلام - على كل هذه الفضائل؟
فكان الجواب: لأن الله - سبحانه وتعالى - اختاره لرسالته ووفقه إلى الهدى وزاده منه زيادة جعلته إماما وقانتا و.. و...
(وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين) (١٢٢)
المعنى الإجمالي:
بعد بيان صفات إبراهيم عليه السلام، وبعد بيان سبب نيله لهذه الصفات، تبين هذه الآية فضل إبراهيم - عليه السلام - بصورته النهائية، وبعنوان واضح: إن الله - سبحانه وتعالى - آتى إبراهيم - عليه السلام - خيري الدنيا والآخرة، فله في الدنيا كل الخير: من النبوة إلى الذرية إلى السعادة والتنعم وغير ذلك من خير الدنيا، وله بالآخرة الفوز العظيم؛ لأنه من الصالحين، وهذا كقوله تعالى (... وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) (العنكبوت: ٢٧).
المعنى التفصيلي:
- (وآتيناه) الواو عاطفة، و "نا" للتعظيم، والالتفات من أسلوب الغيبة (... اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم) إلى أسلوب المتكلم (وآتيناه.. )؛ لتنبيه السامع إلى أهمية ما سيقال؛ لأن الآيتين السابقتين تأسيس لهذه النتيجة النهائية، وتنبيه السامع إلى ما يقال هو مما يناسب بيان النتيجة النهائية.
وقيل: الالتفات إلى التكلم لإظهار الاعتناء بشأن إبراهيم عليه السلام.
وهذا ضعيف؛ ألا ترى أن الآيتين السابقتين تتكلمان عن إبراهيم عليه السلام، فلماذا جاء الأسلوب فيهما بالغيبة ما دام الأمر هو الاعتناء بإبراهيم - عليه السلام - فقط؟!!
- (في الدنيا) الجار والمجرور متعلق بـ (آتيناه)، أو متعلق بـ (حسنة).
- (حسنة) والحسنة نكرة في سياق الإثبات، وهذا يدل على الإطلاق وليس العموم، والفرق بين عموم المطلق وعموم العام أن عموم المطلق بدلي وعموم العام شمولي، فالله - سبحانه وتعالى - آتى إبراهيم - عليه السلام - خير الدنيا العظيم، ولكنه لم يؤته كل خير في هذه الدنيا.
- (حسنة) حسنة الدنيا كل خير فيها، وعليك - بارك الله فيك - أن تتصور كل خير في الدنيا وتدرجه تحت مسمى الحسنة.
- (وإنه) أي: إبراهيم عليه السلام، وأكد خير الآخرة بتأكيدين:
الأول: إن في (وإنه).
والثاني: اللام في (لمن).
وإنما جاء التأكيدان بخصوص أمر الآخرة؛ لأنه أعظم من أمر الدنيا.
- (في الآخرة) الجار والمجرور متعلق بـ (الصالحين)
- (الصالحين) ولقد دعا إبراهيم - عليه السلام - بهذا (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) (الشعراء: ٨٣).
ومن كان صالحا في الآخرة فهو صالح في الدنيا، ومن كان صالحا في الآخرة فإن له الجنة.
(ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) (١٢٣)
المفردات:
- ملة: دين.
- حنيفا: مستقيما على الحق.
المعنى الإجمالي:
جاء بيان فضل إبراهيم - عليه السلام - في الآيات السابقة توطئة لأمر الله - سبحانه وتعالى- نبيه محمدا - ﷺ - باتباع دين إبراهيم عليه السلام.
فقد أوحى الله - سبحانه وتعالى - إلى نبيه محمد - ﷺ - أن يتبع دين إبراهيم - عليه السلام - المستقيم على دين الحق، والذي لم يكن مشركا في وقت من الأوقات أو أمر من الأمور.
المعنى التفصيلي:
- (ثم) تصلح أن تكون للتراخي الزمني؛ لأن ما بين إبراهيم - عليه السلام - ومحمد - ﷺ - زمن طويل.
ولكن تصلح (ثم) أن تكون للتراخي الرتبي بين فضائل إبراهيم - عليه السلام - السابقة "أمة، قاتنا، شاكرا.... " وبين هذا الفضل العظيم له أن أمر محمد - ﷺ - باتباع ملته، أي بمعنى آخر: أعلى فضائل إبراهيم عليه السلام هو أمر خير البشر محمد - ﷺ - باتباعه.
- (أوحينا) "نا" للتعظيم، وفي هذا تعظيم لأمر الوحي، فبه يعرف النبي الدين، وبه يعرف الخلق دين الله - سبحانه وتعالى - على ألسنة أنبيائهم.
- (إليك) يا محمد، وفي الآية تكريم لمحمد - ﷺ - لكون اتباعه لإبراهيم - عليه السلام - فضيلة من فضائله، وفيها تكريم لإبراهيم - عليه السلام - لأمر خير الأنبياء باتباعه.
ومن فضل النبي - ﷺ - أنه خير البشر؛ فعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع" (صحيح مسلم ج٤/ص١٧٨٢)
- (أن اتبع) تفسير لما أوحى الله - سبحانه وتعالى - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
- (ملة) الملة الدين، وأصلها من أمللت الكتاب، أي: ما أوحى الله لأنبيائه من الشرائع. والفرق بين الدين والملة أن الدين يطلق باعتبار الطاعة والجزاء، ولكن الملة باعتبار الشرائع الهادية إلى الطاعة، وهذا نابع من أصل كل كلمة، وهناك فروق من جهة الاستعمال اللغوي، وما ذكر كاف في بيان المعنى.
- (إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) تقدم بيان هذا قريبا في تفسير الآية (١٢٠) من هذه السورة.
(إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) (١٢٤)
المعنى الإجمالي:
بعد أمر النبي - ﷺ - باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، تبين هذه الآية أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم؛ لأن تعظيم السبت ليس من ملة إبراهيم، وإنما فرض تعظيم السبت على اليهود الذي عظموه، والله - سبحانه وتعالى - سيحاسبهم يوم القيامة على ما صدر منهم من عصيان.
المعنى التفصيلي:
- (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) أي: ما فرض السبت إلا على اليهود، وليس تعظيم السبت من ملة إبراهيم، وبهذا فليعلم اليهود أنهم ليسوا على ملة إبراهيم.
وجاء البيان بأسلوب القصر (إنما) ردا على من يعتقد أن اليهود على ملة إبراهيم عليه السلام.
- (جعل السبت) أي: يوما معظما، واليهود تعظم يوم السبت ولا تعمل فيه. وضمن (جعل) معنى: فرض؛ بدلالة (على الذين) أي: فرض على الذين.
وقيل: (إنما جعل السبت) أي وباله على الذين اختلفوا فيه فصادوا واستحلوه.
وهذا القول لا يناسب السياق؛ لأن السياق لا يتحدث عن عقاب بني إسرائيل بل يتحدث عن مخالفة بني إسرائيل لملة إبراهيم عليه السلام، وزيادة على هذا فإن السياق إذا انتظم دون تقديرات فلا داعي لها، لأن التقدير لا يقبل إلا عند الضرورة لانتظام الكلام، وهنا لا حاجة إليه.
- (الذين اختلفوا فيه) هم اليهود، ولكن بماذا اختلفوا؟
قيل: استحله بعضهم وحرمه بعضهم، وقيل: اختاروه بدل يوم الجمعة. والقول الثاني أقرب؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد" (صحيح البخاري ج١/ص٢٩٩)
واختلف العلماء في اختيار يوم الجمعة، هل وكل الله اختياره إلى اليهود والنصارى؟
وفي هذا الحديث الصحيح جواب على أنه فرض عليهم فأبوا أن ينقادوا لحكم الله؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم" (صحيح البخاري ج١/ص٢٩٩).
- وهناك تساؤل: هل كان يوم الجمعة معظما في ملة إبراهيم، علما بأن قوله ﷺ " فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع" يدل على أن يوم الجمعة لم يكن معظما عند إبراهيم عليه السلام؟
والجواب عن هذا أن يوم الجمعة كان معظما عند إبراهيم - عليه السلام - للأمور التالية:
الأول: إن سياق الآيات يدل على أننا مأمورون باتباع ملة إبراهيم وأن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم لأنهم عظموا يوم السبت، ويفهم من هذا أن تعظيم اليوم الأسبوعي هو من ضمن ملة إبراهيم، ونحن إذ نعظم يوم الجمعة فإننا نتبع ملة إبراهيم.
ومن هذا تعلم أن قول من قال: إننا لا نعلم هل كان يوم الجمعة معظما في ملة إبراهيم عليه السلام؟ من هذا نعلم أنه قول ليس صحيحا.
الثاني: يوم الجمعة يوم معظم من قبل بعث الأنبياء، فعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة" (صحيح مسلم ج٢/ص٥٨٥)
أما قوله عليه الصلاة والسلام: " فهدانا الله" أي: باتباع ملة إبراهيم عليه السلام.
- (الذين اختلفوا فيه) جاء التعبير بالاسم الموصول (الذين) وليس بـ "بني إسرائيل" أو "اليهود"؛ وذلك تشهيرا بهم؛ لأنهم قوم عصاة، كأن المعنى "أولئك العاصون الذين عصوا الله فيما فرض عليهم من تعظيم الجمعة فعظموا السبت، إنهم ليسوا على ملة إبراهيم".
- (وإن ربك) (إن) للتأكيد، والتعبير بـ "الرب"يدل على العناية والرعاية، فلماذا التعبير به رغم أن السياق سياق حساب وتهديد لليهود؟
جاء التعبير بـ"الرب" لأن الرعاية والعناية هي للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذا أضيف "رب" لكاف المخاطب العائد على النبي محمد - ﷺ - من باب تكريمه وتأييده بأنه على الحق المبين.
- (ليحكم) اللام للتأكيد، وسبق التأكيد بـ "إن" لتهديد اليهود تهديدا شديدا، ولتأييد النبي - ﷺ - تأييدا أكيدا.
- (يوم القيامة) والتعبير بـ (يوم القيامة) وليس "الآخرة"؛ للإشارة إلى أن الله سبحانه سيبعثهم، وسيقومون من قبورهم ليلقوا حسابهم؛ لأنهم ماتوا قبل سنين كثيرة.
- (فيما كانوا فيه يختلفون) أي في كل الذي كانوا فيه يعصون أمر الله سبحانه وتعالى، وليس في أمر السبت فقط، ولذا جاء التعبير بـ (بينهم)؛ لأنه كان في بني إسرائيل صالحين، والحكم سيكون في كل أمر اختلف فيه، فيلزم من وجود الصالحين وجود فريقين مخطئ ومصيب.
- لم تتعرض الآيات للنصارى؛ لأن النصارى تبع لليهود، فإذا لم يكن اليهود على ملة إبراهيم فالنصارى بالأولى.
ومن الأدلة على أن النصارى تبع لليهود أنهم يسمون أسفار اليهود بالعهد القديم والأناجيل بالعهد الجديد، ويطلقون على العهدين اسم " الكتاب المقدس"، بمعنى أن التوراة مقدسة عند النصارى.
(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (١٢٥)
المعنى الإجمالي:
بعد بيان أن الله - سبحانه وتعالى - أوحى إلى محمد - ﷺ - أن يتبع ملة إبراهيم، أمره أن يستمر بالدعوة إليها، فالآية مرتبطة بقوله تعالى (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) (١٢٣).
المعنى التفصيلي:
- (ادع) فعل أمر موجه إلى محمد - ﷺ - ابتداء ولنا أيضا، فنحن مأمورون بالدعوة إلى الله سبحانه وليس رسولنا - ﷺ - فقط، ودل على هذا آيات وأحاديث صحيحة، أذكر من الآيات (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (آل عمران: ١٠٤).
وأما من الأحاديث فأذكر قوله ﷺ "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (صحيح مسلم ج١/ص٦٩)
- (ادع) حذف ذكر المفعول به؛ إبرازا لأمر الدعوة؛ لأن السياق سياق أمر بالدعوة إلى سبيل الله، وليس سياق تعيين المدعوين، وأيضا فإن حذف ذكر المفعول به - في هذا السياق - يدل على التعميم، أي أن الدعوة إلى الجميع.
- (سبيل ربك) أي الطريق التي أمر الله - سبحانه وتعالى - عباده أن يسلكوها حتى يرضى عنهم.
- (ربك) إضافة السبيل إلى "الرب"؛ دلالة على أن الداعي إلى الله سبحانه مرعي بعناية الله ولطفه، لما في اسم "الرب" من معاني العناية والرعاية. والكاف للخطاب، وهو عائد إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ تكريما له.
- (بالحكمة) وأصل "حكم" في اللغة: المنع؛ ولذا سمي لجام الدابة: حكمة الدابة.
والحكمة تمنع صاحبها من الوقوع في الخطأ؛ ولذا فهي: الإصابة في القول والفعل، وأعلى حكمة على الإطلاق ما أوحى الله به إلى أنبيائه، وهو في حقنا: الكتاب والسنة.
وقيل: إن الحكمة هي الكتاب والسنة فقط؛ لقوله تعالى (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة... ) (الإسراء: ٣٩). وهذا ليس صحيحا؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر حكمة" (صحيح البخاري ج٥/ص٢٢٧٦)
وقيل: هي الحجج العقلية أو ما كان في هذا المعنى، وذكر بعض المفسرين اصطلاحات "المنطق".
وهذا ليس صحيحا؛ لأن الحكمة لا تنحصر في القول، بل الحكمة تكون بالفعل أيضا، ويتحدد معنى الحكمة في القرآن وفق السياق الذي جاءت فيه، ولكن لا تخرج معانيها عن الإصابة في القول والعمل.
والحكمة في الدعوة إلى الله تكون باختيار الوقت المناسب والزمان المناسب والمكان المناسب والأسلوب المناسب والوسيلة المناسبة والقول المناسب، وهكذا.....
ويفسر بعض المعاصرين بأن الحكمة هي اللين في الدعوة، وهذا تفسير لجزء من معاني الحكمة.
- (والموعظة الحسنة) اختلف في معنى الوعظ، فقيل: الكلام الذي تلين له القلوب. وقيل: زجر مقترن بتخويف.
والمعنى المستنبط من قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) (النحل: ٩٠)، هو: أن الوعظ أمر وكذلك زجر، لأن الآية اشتملت على الأوامر والنواهي، فالوعظ نصيحة وإرشاد يبرز فيه معنى التذكير، وانظر في قصة نوح - عليه السلام - في "سورة هود": فلما سأل نوح - عليه السلام - ربه في شأن ابنه، قال له ربنا سبحانه وتعالى (... يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) (هود: ٤٦) أي: (أعظك)؛ لما سبق من إعلامك (... احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) (هود: ٤٠) وكذلك قوله تعالى (يعظكم لعلكم تذكرون) يبين العلاقة بين الموعظة والتذكير.
- (والموعظة الحسنة) أمر الله - سبحانه وتعالى - بالوعظ الحسن وليس بأي وعظ؛ لأن من الوعظ والتذكير ما ليس بحسن، بل هو منفر، ومنه ما ليس له تأثير في النفوس.
- ولكن أليست الموعظة الحسنة من الحكمة، فلماذا ذكرت بعد ذكر الحكمة؟
الموعظة الحسنة من الحكمة؛ لأنها من جملة الصواب والحق، ولكن الحكمة أوسع؛ لأنها تكون في كل الأقوال من مواعظ وغيرها، وفي كل الأفعال، ولكن أفردت الموعظة بالذكر بعد الحكمة من باب ذكر الخاص بعد العام للأهمية.
وتكون الموعظة بالقرآن والسنة وأقوال الصحابة والسلف الصالح والعلماء والشعراء والقصص والوقائع والتاريخ والحقائق العلمية والأسلوب المؤثر وهكذا، وأسلوب الوعظ يختلف عن أسلوب التعليم؛ لأن أسلوب الوعظ يراعى فيه جانب القلب والتذكير والتأثير، بخلاف أسلوب التعليم الذي يغلب جانب العقل على جانب القلب.
- (وجادلهم) لم يأت النص "والمجادلة" لأن الواو عطفت الفعل (جادلهم) على (ادع) وليس على (والموعظة)، علما بأن المجادلة تصب في بحر الدعوة، ولكن الفرق الدقيق بينهما أن هدف الدعوة الأول هو إدخال الناس في الإسلام؛ ولذا فإن الدعوة تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، وأما الهدف الأول للجدال والمحاججة هو دفع الخصوم وإقامة الحجة، وبعدها يأتي هدف اقتناع المجادل بالحق؛ ألا ترى - رحمك الله - أن المسلمين يفرحون عند إفحام خصومهم من الكفار ولو لم يهتد منهم أحد؛ لأنهم حققوا الهدف الأول من الجدال، وإذا دخل أحد إلى الإسلام بسبب هذا الجدال فإن الفرحة عندهم تكتمل، وأما عندما يدعوا المسلمون غيرهم إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، فإنهم لا يفرحون بمجرد الدعوة وإنما بحصول الاستجابة.
- (بالتي هي) الضمير "التي" متعلق بـ (جادلهم)، وهناك محذوف تقديره "وجادلهم بالمجادلة التي".
وضمير "هي" عائد على المجادلة، وللضميرين "التي" و"هي" دلالتهما على التأكيد على القول الأحسن في المجادلة، فلو قلنا في غير التنزيل "وجادلهم بالأسلوب الأحسن أو القول الأحسن" لما كان له وقع التعبير بالضميرين "التي" و"هي"، وتأمل معي - رعاك الله - الفرق بين النصين لتعلم روعة النص القرآني (وجادلهم بالتي هي أحسن).
- (أحسن) صيغة تفضيل يستفاد منها أن لا نجادل الكفار المجادلة الحسنة، بل علينا أن نجادلهم المجادلة الأحسن.
وصيغة التفضيل من حسن هي: أحسن، أما مؤنث حسن: حسنة، وصيغة التفضيل منها: حسنى، جاء النص (بالتي هي أحسن) وليس "بالتي هي حسنى"؛ لتضمين المجادلة معنى القول.
- ولكن لماذا جاء الأمر بالموعظة الحسنة وليست الحسنى، بينما جاء الأمر بالمجادلة بالأحسن وليس الحسن؟
جاء الأمر كذلك؛ لأن قليل اللين يفي بالغرض في الموعظة، بينما في المجادلة فإن قليل اللين لا يفي بالغرض، بل لا بد من الكثير منه؛ لما في المجادلة من المحاججة ومقارعة الخصوم مما يسبب نفور الخصم وتجلده أمام الحق، بينما الموعظة ليس فيها هذه المصادمة.
- (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) أي: يا محمد ادع فقط ولا تحزن على الكافرين؛ لأن الله هو أعلم بهم فيضل من يستحق الضلالة ويهدي من يستحق الهدى.
- (إن ربك) (إن) لتأكيد مضمون القول، والتعبير بـ "الرب" وإضافته إلى النبي - ﷺ - لتأنيسه وتسليته وإكرامه.
- (إن ربك هو أعلم) فلا أحد أعلم من الله سبحانه وتعالى، وضمير الفصل "هو" للدلالة على أن الله - سبحانه وتعالى- هو الأعلم وحده.
- (وهو أعلم بالمهتدين) وليس "بمن ضل عن سبيله وبالمهتدين"، بل أعيد ذكر ضمير الفصل "هو" والفعل "أعلم" ترسيخا لعقيدة أن الله - سبحانه وتعالى - العليم وحده، وجاء التفريق بالعطف بين المهتدين والضالين؛ لبيان أن المهتدين شيء والضالين شيء آخر.
- تقدم ذكر الضالين على المهتدين؛ لأن سبب الحزن الحاصل للنبي - ﷺ - وللدعاة من بعده إنما هو بسبب الضالين، ولأن الكلام تسلية وتأنيس تقدم ذكر الضالين لإزالة سبب الحزن والضيق.
وقيل تقدم ذكر الضالين على المهتدين: لتهديدهم. وهو قول مقبول، ولكن القول بأن التقديم للتسلية أولى؛ لأن معنى الآية أي: يا محمد ادع إلى سبيل ربك فقط ولا تحزن على الكافرين؛ لأن من يضل فإنما يستحق الضلالة ومن يهتدي يستحق الهداية.
- جاء التعبير عن الضالين بالفعل "ضل" وعن المهتدين بالاسم "المهتدين"، (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)؛ لأن الضلال أمر حادث على الفطرة، وإنما ولد الناس على الفطرة فضلوا بعدها، وأما الهداية فهي الأصل؛ ولذا جاء التعبير عنها بالاسم، وأيضا فإن الاسم "المهتدين" يتضمن الوصف بالهدى أقوى مما يتضمنه الفعل، وهذا تزكية للمهتدين.
(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) (١٢٦)
المعنى الإجمالي:
بعد أن أمر الله - سبحانه وتعالى - عبده محمدا - ﷺ - بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، أمره أن يجادل بالحسنى من يعترض الدعوة بآرائه الفاسدة، وتبين هذه الآية مرحلة متطورة من العقبات أمام الدعوة ألا وهي قتال الكفار للمؤمنين؛ ولذا بينت الآية منهج التعامل مع هذا الاعتداء كما بينت منهج التعامل مع الأفكار الفاسدة بالجدال.
فهذه الآية تأمر النبي - ﷺ - والمؤمنين معه أن يعاقبوا الكفار مثل مقدار اعتدائهم، وتحثهم على العفو؛ لأنه خير للصابرين. يقول تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين) (الشورى: ٤٠)
المعنى التفصيلي:
- وسبب نزول هذه الآية ما جاء عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة فمثلوا بهم.
فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم قال فلما كان يوم فتح مكة فأنزل الله تعالى (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)
فقال رجل: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفوا عن القوم إلا أربعة.
رواه (الترمذي: ٣٠٥٤) و (أحمد، رقم: ٢١٢٢٩) بسند حسن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي بن كعب. ورواه أيضا ابن حبان في (صحيحه ج٢/ص٢٣٩) ومن طريقه رواه الحاكم في (المستدرك على الصحيحين ج٢/ص٤٨٤) ورواه غيرهم.
وبهذا تعلم ضعف قول من قال: إن هذه الآية مكية. والصحيح أنها مدنية على قول من قال: إن المدني ما نزل بعد الهجرة بغض النظر عن المكان.
وبهذا تعلم أيضا ضعف قول من قال: إن الحديث الوارد في سبب النزول ضعيف.
- قيل: إن هذه الآية منسوخة بالقتال، والصحيح - والذي عليه الجمهور - أن الآية محكمة ولا تتعارض مع آية السيف؛ لأن النبي - ﷺ - لم يترك الجهاد بل فتح مكة وأذعن أهلها لجيش المسلمين، والآية تتكلم عن العفو فيمن يصلحه العفو كأهل مكة؛ فإنهم دخلوا بالإسلام.
- (وإن عاقبتم) وجاء النص بـ "إن" وليس بـ"إذا"؛ تقليلا من حوادث رد العقوبة حثا على العفو؛ لأن"إذا" تستعمل فيما هو محقق الوقوع، و"إن" تستعمل فيما هو مشكوك في وقعه، وقد تقع "إذا" مكان "إن" لغرض بلاغي، كقولك للبخيل تحثه على الإنفاق: إذا أنفقت في سبيل الله فإن الله يخلف ما أنفقت.
- (عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) أي إن انتقمتم من الكفار فانتقموا قدر اعتدائهم ولا تزيدوا على ذلك.
- (عوقبتم به) أي عاقبكم الكفار به على دعوتكم إلى سبيل الله. وبني الفعل لما لم يسم فاعله؛ لأن المهم هو وقوع العقوبة وليس تعيين من وقعت منه العقوبة.
ولا داعي أن نقول إن (عوقبتم) مشاكلة لـ (عاقبتم)؛ لأن ما فعله الكفار للمؤمنين هو عقوبة منهم للمؤمنين على دعوتهم حقيقة وليس من باب المشاكلة اللفظية.
- (ولئن) اللام موطئة للقسم، و"إن"حرف شرط، و لام (لهو) واقعة في جواب القسم، وهذا القسم إنما هو للتأكيد على خيرية العفو على الانتقام.
- (خير للصابرين) أي: خير لكم. وأقيم (للصابرين) مقام الضمير، حثا لهم على العفو بأنهم إذا فعلوه استحقوا هذا الاسم المتضمن لوصف الصبر.
- ويستدل بهذه الآية في مسألة الظفر، وهي: إذا ظلم رجل بأخذ ماله ولم يستطع أن يثبت ذلك، واستطاع أخذ ماله بطريقة لا تقع عليه فيها العقوبة ولا على أحد آخر ولا يتعدى على حرمة أحد، كدخول بيت لم يؤذن له بدخوله، فهل يجوز له استيفاء حقه؟
اختلف الفقهاء في ذلك، واستدل المبيحون بهذه الآية وبغيرها ممن في معناها، واستدل المحرمون بحديث " أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك "
وقد حسن بعض العلماء هذا الحديث بمجموع طرقه، نظرا لمتابعة قيس بن الربيع لشريك، ولشاهد من طريق أيوب بن سويد.
ولكن في هذا التحسين نظر، فإن قيس بن الربيع لم يتغير حفظه فقط بل قد أدخل عليه ابنه أحاديث ليست له فحدث بها، وكذلك فإن أيوب لم يكن صدوقا يخطئ فقط، بل كان يسرق الحديث، فقد حدث بالرملة أحاديث عن ابن المبارك ثم جعلها بعد ذلك عن نفسه عن ابن المبارك، وقال النسائي فيه: ليس بثقة.
قال ابن الملقن: "حديث أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك. رواه أبو داود والترمذي والحاكم من رواية أبي هريرة. قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم على شرط مسلم، وله شاهد فذكره. وأعله ابن حزم وابن القطان والبيهقي، وقال أبو حاتم: منكر، وقال الشافعي: إنه ليس بثابت عند أهله، وقال أحمد: هذا حديث باطل لا أعرفه عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - من وجه صحيح. فقلت له طرق ستة كلها ضعاف كما أوضحتها في الأصل" (خلاصة البدر المنير ج٢/ص١٥٠)
ولكن إن صح الحديث فإنه خاص بالأمانة؛ لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قالت هند أم معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي جناح أن آخذ من ماله سرا؟ قال: خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف (صحيح البخاري ج٢/ص٧٦٩).
فقد أجاز النبي - ﷺ - لهند وبنيها أن يأخذوا حقهم من غير علم والدهم إن قصر في دفعه إليهم.
جاء في (إعانة الطالبين ج٣/ص٨٣): "وله - أي للشخص - بلا خوف فتنة عليه أو على غيره أخذ ماله استقلالا للضرورة من مال مدين له مقر مماطل به أو جاحد له أو متوار أو متعزز، وإن كان على الجاحد بينة أو رجا إقراره لو رفعه للقاضي؛ لإذنه - ﷺ - لهند لما شكت إليه شح أبي سفيان أن تأخذ ما يكفيها وولده بالمعروف، ولأن في الرفع للقاضي مشقة ومؤنة، وإنما يجوز له الأخذ من جنس حقه، ثم عند تعذر جنسه يأخذ غيره، ويتعين في أخذ غير الجنس تقديم النقد على غيره"
وقال بعض العلماء: إن كان السبب ظاهرا كالزوجية والأبوة والبنوة جاز له الأخذ، وإن كان غير ظاهر كالقرض وثمن المبيع لم يجز له الأخذ. وقولهم هذا مبني على تصحيح حديث " أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك " وجمعا بينه وبين حديث هند.
- استنبط العلماء من هذه الآية المماثلة بالقصاص، فمن قتل بحجر قتل بحجر، ومن قتل بسيف قتل بسيف، واستدلوا بما روي عن أنس رضي الله عنه أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، قيل: من فعل هذا بك، أفلان أفلان؟ حتى سمي اليهودي، فأومت برأسها، فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر به النبي - ﷺ - فرض رأسه بين حجرين (صحيح البخاري ج٢/ص٨٥٠) وهذا قول جمهور العلماء.
(واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) (١٢٧)
المعنى الإجمالي:
بعد تعريض الآية السابقة بالعفو (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) جاء التصريح بالحث على العفو (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) وهذا عام لكل المؤمنين، وفي هذه الآية جاء الأمر خاصا للنبي - ﷺ - بالعفو، وجاء أمر النبي - ﷺ - بالعفو بعد حث المؤمنين عليه؛ لأن مقام النبي - ﷺ - هو الأسمى والأرفع؛ ولذا كان حقه أن يفعل الأحسن لا الحسن، وكما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وتأمر هذه الآية النبي - ﷺ - بالصبر مستعينا بالله سبحانه وتعالى وحده، وتنهاه أن يحزن على الكفار لاختيارهم الكفر، وتنهاه أن يضيق صدره بسبب ما يمكرون للمؤمنين من المكائد والسوء.
المعنى التفصيلي:
- (واصبر) يا محمد، لعلو شأنك، ولرفعة منزلتك، فعليك أن تفعل الأحسن لا الحسن، والأكمل لا الكامل.
- (وما صبرك إلا بالله) لعلم الله - سبحانه وتعالى - بشدة هذا العفو على نفس النبي ﷺ - لما لاقاه من أذى عظيم على مر سنين - مد له يد العون والتوفيق، ولأن الله هو وحده من يعين على الصبر فاستعن به وحده.
- (ولا تحزن عليهم) أي الكفار بسبب إعراضهم عن الذكر بعد إذ جاءهم، لأن من رحمة النبي - ﷺ - شفقته على الكفار، قال تعالى (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) (الكهف: ٦) وقال تعالى (... إن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون) (فاطر: ٨)
وقيل (ولا تحزن عليهم) أي المؤمنين لما أصابهم من أذى. وهذا بعيد؛ لأنه لا يتوافق والسياق؛ وتأمل قوله تعالى (ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون).
- (ولا تك في ضيق مما يمكرون) أي: يا محمد لا يضق صدرك بسبب مكرهم.
- (في ضيق) أي مبالغا في الحزن، وهذا مستفاد من حرف الجر "في"، أي نهاه أن يكون حالا في الضيق كمن حل في مكان فكان محيطا به. أما مطلق الحزن الذي لا تخلو منه النفس البشرية فليس منهيا عنه.
- (ضيق) قرئت (ضيق) بالكسر، وهما - على المشهور - لغتان بمعنى واحد. وفرق بعضهم بينهما.
- (مما يمكرون) أي: "من ما". و"من" سببية، و"ما" إما أن تكون اسما موصولا، ويكون المعنى: "بسبب الذي يمكرون"، أو تكون "ما" مصدرية، ويكون المعنى: "بسبب مكرهم ".
- (يمكرون) والتعبير بالمضارع لا بالمصدر لحكاية الحال الواقعة في ذلك الزمن، وللدلالة على ما يحدث في المستقبل من المكر. وما زال الكفار يمكرون ويمكرون.
(إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (١٢٨)
المعنى الإجمالي:
بعد حث المؤمنين على العفو وأمر النبي - ﷺ - بالعفو، تبين هذه الآية أن الله - سبحانه وتعالى - مؤيد للمؤمنين المتقين الذين إذا عاقبوا عاقبوا بمثل ما عوقبوا به ولم يتجاوزوا الحد، وهو أيضا مع المحسنين الذين عفوا عن المعتدين عند المقدرة عليهم.
المعنى التفصيلي:
- (إن الله مع الذين اتقوا) (إن) للتأكيد على مضمون الآية، ومعية الله - سبحانه وتعالى - هي معية النصرة والتأييد.
- (الذين) جاء التعبير بالاسم الموصول للتنويه بمكانة المتقين والمحسنين.
- (اتقوا) أي: فعلوا الواجبات وابتعدوا عن المحرمات.
- (والذين هم محسنون) الواو للعطف، أي: إن الله مع الذين هم محسنون. ولم يأت النص " والمحسنون" بل (والذين هم محسنون) إعلاء لشأنهم، ورفعا لقدرهم.
- (محسنون) أي: يفعلون الأحسن لا الحسن، فإن أمر المعاقبة بالمثل حسن، ولكن العفو هو الأحسن.
- لماذا جاء التعبير عن المتقين بالفعل الماضي (اتقوا)، بينما جاء التعبير عن المحسنين بالاسم (محسنون)؟
جاء التعبير عن المتقين بالفعل الماضي (اتقوا) إشارة إلى أن فعل التقوى قد وقع لهم وتحلوا به، فهم أهل عراقة بالتقوى؛ ولذا استحقوا معية الله سبحانه وتعالى.
بينما جاء التعبير عن المحسنين بالاسم (محسنون) رفعا لشأنهم؛ لأنهم أهل العفو؛ والتعبير بالاسم أقوى؛ لأن الاسم (محسنون) يحمل في تضاعيفه الوصف بالإحسان للموصوفين أكثر مما يحمله الفعل؛ ورفع مقام المحسنين أكثر من المتقين؛ لأن المحسنين متقون وزيادة. وفي هذا ترغيب بالعفو. عفا الله عنا وفر لنا وعافانا إنه سميع مجيب قريب.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
كتبه سامي وديع عبد الفتاح شحادة القدومي.
الأردن - عمان
٢٥ - ٥ - ٢٠٠٣ م
Icon