تفسير سورة النحل

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة النحل من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة النحل

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: يريد أتى عذابُ الله (١)، وقال الحسن وابن جريج: أي عقابُه لمن أقام على الإشراك به والتكذيب لرسوله (٢)، وهذا القول في معنى ﴿أَمْرُ اللَّهِ﴾ هاهنا هو اختيار الزجاج؛ قال: ﴿أَمْرُ اللَّهِ﴾: ما وعدهم الله من المجازاة على كفرهم من أصناف العذاب، واحتج بقوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ [هود: ٤٠]، أي: جاء ما وعدناهم به، وبقوله: ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا﴾ (٣) [يونس: ٢٤]. وفسّر آخرون هذا العذاب؛ فقال: هو الأمر بالسيف، وقالوا: هذا جواب النضر بن الحارث حين قال: ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً﴾ الآية [الأنفال: ٣٢]، فأنزل الله: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ (٤)، أي: لا تطلبوه قبل حينه، وهذا كما تقول لمن يطلب أمرًا يستعجل فيه، أتاك الأمر فلا تستعجل.
(١) ورد في "تفسير السمرقندي" ٧/ ٢٢٧، بنصه، والثعلبي ٢/ ١٥٣ ب، بمعناه، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٣٦٥، "تنوير المقباس" ص ٢٨٢.
(٢) أخرجه الطبري ١٤/ ٧٥ بمعناه عن ابن جريج، وورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٣٥٨، عنهما، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٧٨، عن ابن جريج، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٦٥، عنهما.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٨٩، بنصه.
(٤) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٣ ب، بنحوه، وذكره المؤلف في "أسباب النزول" له ص ٢٨٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٥ - ٨.
7
وقال جماعة من المفسرين: ﴿أَمْرُ اللَّهِ﴾ هاهنا الساعة (١)؛ وذلك أن المكذبين بها استعجلوها، فقل لهم: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾. قال أبو إسحاق: استبطاؤا (٢) أمْرَ الله، فأعلم اللهُ أن ذلك عنده في القرب بمنزلة ما قد أتى، كما قال: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر: ١]، وكما قال: ﴿ومَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ (٣) [النحل: ٧٧]؛ وعلى هذا، إنما قال لِمَا لَم يأت بعد أتى؛ لأنه آت لا محالة، والعربُ إذا ذكرت شيئًا قَرُبَ وقوعه أخرجته مخرج الواجب، كقوله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّار﴾ [الأعراف: ٤٤]، وقد مر.
وقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَهُ﴾ هو قال ابن عباس: نَزَّه نفسه (٤)، وقال الزجاج: تنزيه له وبراءة من السوء (٥)، ﴿وَتَعَالَى﴾ أي: ارتفع وتعاظم بأعلى صفات المدح عن أن يكون له شريك، و (ما) في قوله: ﴿عَمَّا﴾ يجوز أن تكون (ما) المصدر، والتقدير: عن إشراكهم، والمعنى عن إشراكهم به غيره، فحُذف للعلم، ويجوز أن تكون بمعنى الذي؛ أي:
(١) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٢٧، بنحوه، والثعلبي ٢/ ١٥٣ ب، بلفظه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٧٨، عن الكلبي، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٧، عن الكلبي وغيره، وابن عطية ٨/ ٣٦٥، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٦٦، والخازن ٣/ ١٠٥، وأبي حيان ٥/ ٤٧٢، وقال: هو قول الجمهور.
(٢) في (أ)، (د): (استبطلوا)، والمثبت من (ش)، وهو موافق للمصدر.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٨٩، بنصه تقريباً.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٨٢، وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٠ أ، وهود الهواري ٢/ ٣٥٩، والسمرقندي ٢/ ٢٢٨، والفخر الرازي ١٩/ ٢١٨.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٠، بنحوه.
8
ارتفع عن الذي أشركوا به (١)؛ لأنهم ﴿لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾.
٢ - قوله تعالى: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ﴾ روى عطاء عن ابن عباس قال: يريد جبريل وحده (٢)، وذكرنا فيما تقدم جوازَ تَسْمِيةِ الواحد باسم الجمع إذا كان ذلك الواحدُ رئيسًا مقدمًا؛ كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ الآية [آل عمران: ١٧٣] (٣).
وقوله تعالى: ﴿بِالروحَ من أَمرِهِ﴾ وقال ابن عباس: بالوحي (٤)، وهو كلام الله، هذا قول الربيع والحسن (٥)، وهو الاختيار في معنى الروح
(١) في جميع النسخ: (أشركهم به)، ولا يستقيم بها المعنى، فلعلها تصحفت عن المثبت، أو التبست على النساخ بما قبلها.
(٢) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٢٨، والفخر الرازي ١٩/ ٢١٩، وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٠ أ، والسمرقندي ٢/ ٢٢٨، وفي "تنوير المقباس" ص ٢٨٢، قال: "جبريل ومن معه من الملائكة".
(٣) قال الفراء: الناس في هذا الموضع واحد؛ وهو نُعيم بن مسعود الأشجعي، بعثه أبو سمان وأصحابُه فقالوا: ثبط محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أو خوفه حتى لا يلقانا ببدر الصغرى، وكان معياد بينهم يوم أحد. "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٤٧، وهو اختيار الزجاج في معانيه ١/ ٤٨٩، وانظر: "تفسير الزمخشري" ١/ ٢٣١.
(٤) أخرجه الطبري ١٤/ ٧٧ بلفظه، من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٧٨، والطوسي ٩/ ٣٥٦، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٣٦٨، وابن الجوزي ٤/ ٤٢٨، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٦٧، وأبي حيان ٥/ ٤٧١، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٠٥، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٥) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٥٣، عن الحسن بلفظ: بالنبوَّة، وورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٧٨، عن الربيع بن أنس قال: هو القرآن، وعن الحسن أيضًا قال: الرحمة، والطوسي ٦/ ٣٥٩، عن الربيع قال: كلام الله، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٣٦٨، عن الربيع، وابن الجوزي ٤/ ٤٢٨، عن الحسن، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٦٧، عن الحسن، وأبي حيان ٥/ ٤٧١، عن الحسن، =
9
هاهنا، قال الزجاج: الروح ما كان فيه من أمر الله حياةً للنفوس بالإرشاد إلى أمر الله (١).
وقال أبو العباس في هذه الآية وفي قوله: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ﴾ [غافر: ١٥]، ولقوله: ﴿وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: ٥٢] هذا كله معناه الوحي (٢)؛ سُمّي روحًا لأنه حياةٌ من موت الكفرِ، فصار يحيا به الناس؛ كالروح الذي يحيا (٣) به الجسد.
وقال أبو عبيدة: الروح هاهنا جبريل (٤)، وعلى هذا الباء في بالروح بمعنى (مع) كقولهم: خرج بثيابه، أي: ومعه ثيابه، وركب الأمير بسلاحه، والأول الوجه، ومعنى ﴿مِنَ أَمرِهِ﴾، أي: من فعله في الوحي (٥).
وقوله تعالى: ﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ يريد النَّبِيّين الذين يختصهم من عباده بالرسالة والوحي بقوله: ﴿أَن أَنذِرُواْ﴾، قال الزجاج: ﴿أَن﴾ بدل
= وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٠٥، ونسبه إلى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بالنبوة.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٠، بنصه.
(٢) "تهذيب اللغة" (روح) ٣/ ١٧٦٨، بنصه.
(٣) في جميع النسخ: (يحي)، ويستقيم السياق بالمثبت، وهو موافق لما في المصدر.
(٤) ليس في مجازه، وورد منسوباً إليه في: "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٤ أ، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨، الفخر الرازي ١٩/ ٢٢٠، "تفسير القرطبي" ١٠/ ٦٧، وهو قول ضعيف جدًّا، والصحيح هو الأول كما ذكر.
(٥) قال القاسمي: ﴿من أَمرِهِ﴾ بيان للروح، أو حال منه، أو صفة، أو متعلق بـ ﴿ينزل﴾، وقال الفخر الرازي: وقوله: ﴿من أَمرِهِ﴾ إن ذلك التنزيل، والنزول لا يكون إلا بأمر الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ [مريم: ٦٤] ونحوها، فكل هذه الآيات دالة على أنهم لا يقدمون على عمل من الأعمال إلا بأمر الله تعالى وإذنه. انظر. "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ٢٢٠، والقاسمي ١٠/ ٧٨.
10
من الروح، المعنى: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ﴾ بأن أنذروا (١).
والمعنى: أنذروا أهل الكفر بأنه لا إله إلا أنا، أي مروهم بتوحيدي وأن لا يشركوا بي شيئًا (٢)، والخطاب للنَّبِيّين المعنيين بقوله: ﴿مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾، وهذا يدل أن معنى الروح هاهنا الوحي، إذا بُدّل منه الإنذار، ومعنى إنذارِهم بأنه لا إله إلا هو إعلامهم بذلك مع تخويفهم لو لم يقروا، ثم ذكر ما يدل على توحيده، فقال:
٣ - ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ ومعنى هذا مذكور في قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ﴾ [الأنعام: ٧٣].
وقوله تعالى: ﴿عَمَّا يشركِوُنَ﴾ ذكرنا معناه آنفًا (٣).
٤ - وقوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾، قال أبو إسحاق: اختصر هاهنا، وذكر تقلبَ أحوال الإنسان في غير مكان من القرآن (٤).
قال ابن عباس: يريد إني خلقت، قال المفسرون: نزلت هذه الآية والتي في آخر سورة يس: ﴿أوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ [يس: ٧٧] في قصة أُبي بن خلف وإنكاره البعث (٥).
(١) هذا المقطع ليس في معانيه، فلعله ساقط من النسخة المتداولة، بدليل أن النحاس قد نسبه إليه في إعرابه ٢/ ٣٩١، وقال بهذا مكي في "مشكل الإعراب" ٢/ ١٢، والزمخشري في "تفسيره" ٢/ ٣٢١، وابن الأنباري في "البيان في غريب الإعراب" ٢/ ٧٥، و"المنتجب في الفريد" ٣/ ٢١٤.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٠، بنصه.
(٣) في سورة الأعراف: الآية [١٩٠].
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٠، بنصه.
(٥) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٠ أ، والسمرقندي ٢/ ٢٢٨، والثعلبي ٢/ ١٥٤ أ، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٧٩، عن الكلبي، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" =
11
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾، الخصيم بمعنى المخاصم، ذكرنا ذلك عند قوله: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: ١٠٥]، هذا قول أهل اللغة.
قالوا: خصيمك الذي يخاصمك، وفعيل بمعنى مُفَاعل معروف؛ كالنسيب بمعنى المناسب، والعشير بمعنى المعاشر، والأكيل والشريب، ويجوز أن يكون خصيم فاعلًا من خَصِم يَخْصم بمعنى اختصم، وبه قرأ حمزة (١) قوله: ﴿تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُون﴾ (٢) [يس: ٤٩].
وقوله تعالى: ﴿مُبِينٌ﴾ أي ظاهر، ومعناه: ظاهر الخصومة، ويجوز أن يكون مبين؛ أي يُبين عن نفسه الخصومة بالباطل، وذكر أهل المعاني لهذه الآية معنيين؛ أحدهما: أنه عرّفنا قدرته في إخراجه من النطفة ما هذه
= ص ٢٨٥، بلا سند، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٩، والزمخشري ٢/ ٣٢١، وابن عطية ٨/ ٣٧٠، وابن الجوزي ٤/ ٤٢٨، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٦٨، و"تفسير الخازن" ٣/ ١٠٦.
ولا خلاف أن آية (يس) لها سبب نزول ثابت، وإن اختلف فيمن نزلت؛ أبي بن خلف، أم العاص بن وائل؛ وهو الصحيح [انظر: "المسندرك" للحاكم (٢/ ٤٢٩) وصححه]. لكن هذه الآية ليس لها سبب نزول مسند، وهو شرط في إثبات أسباب النزول، ويكفي لرد هذه الدعوى أنه ورد من طريق الكلبي وحاله معروف، وتشابه الآيتين لا يسوغ إثبات نزول إحداهما للأخرى، إلا إذا لم يُقصد بإطلاق لفظ نزلت هذه الآية.. المعنى الاصطلاحي لأسباب النزول، وأريد التوسع في اللفظ كما فعلوا في النسخ.
(١) قرأ حمزة: ﴿يَخْصِمون﴾ ساكنة الخاء خفيفة الصاد. انظر: "السبعة" ص ٥٤١، و"المبسوط في القراءات" ص ٣١٢، و"تلخيص العبارات" ص ١٤١، وقال في "شرح الهداية" ٢/ ٤٨٦، ومن قرأ ﴿يَخْصِمون﴾ فالمعنى: يخصم بعضهم بعضاً.
(٢) نقل الفخر الرازي هذا المقطع بنصه ونسبه للواحدي. "تفسير الرازي" ١٩/ ٢٢٦.
12
حاله وصفته، والثاني: أنه ذَكر فاحشَ ما ارتكب من تضييع حق نعمة الله بالخصومة في الكفر به (١).
٥ - قوله تعالى: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا﴾، يعني الإبل والبقر والغنم، وتم الكلام ثم ابتدأ فقال: ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾، ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله: ﴿لَكُمْ﴾ ثم يبتدئ فيقول: ﴿فِيهَا دِفٌ﴾.
قال صاحب النظم: أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله: ﴿خَلَقَهَا﴾؛ لقوله في النسق على ما قبلها: ﴿وَلَكُم فِيهَا جَمَال﴾ (٢).
وأما الدفء، فقال الفراء وجميع أهل اللغة: هو ما انتفع به من أوبارها وأشعارها وأصوافها، أراد ما يلبسون منها ويبتنون (٣)، فالدفء عند أهل اللغة: ما يُستدفأ به من الأكسية والأبنية (٤)، قال الأصمعي: ويكون الدفء السخونة، يقال: اقعد في دفء هذا الحائط، أي في كنّه (٥)، وقال الفراء في المصادر: يقال للرجل: دَفَيْت فأنت تدفأ دَفْأً، ساكنة الفاء مفتوحة الدال، ودِفْآء بالكسر والمد، وزاد غيرُه دَفاءةً ودَفاءً.
(١) ورد بنحوه في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٧٩، عن الحسن، والطوسي ٦/ ٣٦١.
(٢) أي أنه نسق ﴿وَلَكُم فِيهَا جَمَال﴾ على ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾، ولو وقف على ﴿خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ لتعذر هذا العطف. وقد نقل الفخر الرازي ١٩/ ٢٢٧، والخازن ٣/ ١٠٦، قول صاحب النظم، وعزياه للواحدي -رحمه الله-.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٩٦، مختصرًا، وورد بنصه في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٠٣ (دفأ)، وهذا يؤكد نقله من التهذيب لا المعاني، وانظر: (دفأ) في "مقاييس اللغة" ٢/ ٢٨٧، و"الصحاح" ١/ ٥٠، و"اللسان" ٣/ ١٣٩٣.
(٤) انظر: (دفأ) في "المحيط في اللغة" ٩/ ٣٦٩، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٨٧، و"الصحاح" ١/ ٥٠، و"اللسان" ٣/ ١٣٩٣، و"عمدة الحفاظ" ٢/ ١٣.
(٥) ورد في "تهذيب اللغة" (دفأ) ٣/ ١٢٠ بنصه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ٢٢٧.
13
وروى الحرَّاني عن ابن السِّكِّيت: يقال: هذا رجل دَفْآنُ وامرأة دَفْأى، ويوم دَفِيءٌ وليلة دفيئةٌ، وكذلك بيت دَفِيء، وغرفة دَفيئةٌ، على فَعيل وفعيلة، وما كان الرجل دَفْآن، ولقد دَفِئَ، وما كان البيت دَفِئًا، ولقد دَفُؤَ (١). الفَراء: دَفُؤَتْ ليلَتُنا ويومُنا دفأةً، ويقال: أدفأه فَدَفِئَ (٢)، وإبل مُدْفِئة: كثيرة؛ لأن بعضَها يُدْفِئُ بعضًا بأنفاسها (٣)، وإبل مُدْفأَةٌ ومدفآت: كثيرات الأوبار (٤)، قال الشماخ:
وكيفَ يضيِعُ صاحِبُ مُدْفَآتٍ على أثْباجِهِنَّ مِنَ الصَّقِيعِ (٥)
ونحو هذا قال عامة المفسرين في الدفء (٦)، إلا ما روي عن ابن
(١) لم أجده في الإصلاح، وورد في "تهذيب اللغة" (دفأ) ٢/ ١٢٠٣، بنصه. وانظر: "اللسان" (دفأ) ٣/ ١٣٩٣.
(٢) لم أجده في معانيه.
(٣) ورد في "الإصلاح" ص ٣٧٩، بنحوه، و"التهذيب" (دفأ) ٢/ ١٢٠٣، بنصه، وانظر: (دفأ) في "مقاييس اللغة" ٢/ ٢٨٧، و"اللسان" ٣/ ١٣٩٣.
(٤) وهو قول الأصمعي كما في "التهذيب" (دفأ) ٢/ ١٢٠٣، وقال نحوه ابن السِّكِّيت في "الإصلاح" ص ٣٧٩، وانظر: (دفأ) في "المحيط في اللغة" ٩/ ٣٦٩، و"اللسان" ٣/ ١٣٩٣، و"التاج" ١/ ١٥٣.
(٥) "ديوان الشماخ" ص ٢٢٠، وفيه: (مُدْفِئَات)، وورد في "إصلاح المنطق" ص ٣٧٩، و"المعاني الكبير" ١/ ٤٢٩، و"جمهرة اللغة" ٣/ ١٣١٣، و"الأضداد" لابن الأنباري ص ٦٦، و"أمالي القالي" ١/ ١٠٦، و"تهذيب إصلاح المنطق" ص٧٨١، و"أساس البلاغة" ١/ ٢٧٤، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٦٩، و"اللسان" (دفأ) ٣/ ١٣٩٣، (ثبج) ١/ ٤٦٨، (ضيع) ٥/ ٢٦٢٥، و"التاج" (دفأ) ١/ ١٥٣.
(أثباجهن) جمع ثبج؛ وهو الوسط، قال الأصمعي: ثبج كل شيء: وسطه. (الصقيع) البرد والنَّدى، ويقال: الجليد. والشاعر يمدح إبله أنها لن تهلك من البرد؛ لأن أوساطها مغطاة بوبر كثير يقيها البرد.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٠ ب، والطبري ١٤/ ٧٨ - ٧٩، والسمرقندي ٢/ ٢٢٨، وهود الهواري ٢/ ٣٦٠، والثعلبي ٢/ ١٥٤ أ، والماوردي ٣/ ١٧٨، والطوسي ٦/ ٣٦١.
14
عباس من طريق عكرمة، ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ﴾ قال: النسل (١)، وروى الأزهري عن ابن هاجك (٢) بإسناده عن ابن عباس، ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ قال: نسل كل دابة (٣).
قال (٤) الأزهري: وهذا يوافق قول الأموي (٥)، روى أبوعبيد عنه: الدفءُ (٦) عند العرب: نتاج الإبل وألبانها والانتفاع بها (٧)، قال الفراء:
(١) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٥٤، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٧٩، وقد روي عن ابن عباس تفسيرها بتفسير العامة، أخرجه الطبري ١٤/ ٧٩ بعدة روايات، وانظر: "تنوير المقباس" ص ٢٨٢، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٠٦، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، ولذلك حمل النحاس تفسير ابن عباس: بالنسل، على المنافع لا الدفء، مع أن قوله التالي الذي رواه عنه ابن هاجك يؤكد تفسيره لـ ﴿دِفْءٌ﴾ بالنسل.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) لم أقف عليه في التهذيب، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٥٣) بنصه، والطبري ١٤/ ٧٩، بنصه من طريق عكرمة جيدة، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٢٨، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٧٠، وانظر: "اللسان" (دفأ) ٣/ ١٣٩٣، و"عمدة الحفاظ" ٢/ ١٣، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٠٦، وزاد نسبته إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٤) (قال) ساقط من (ش)، (ع).
(٥) أبو محمد، عبد الله بن سعيد الأموي اللغوي، لقي العلماء، ودخل البادية، وأخذ عن فصحاء الأعراب، وأخذ عنه العلماء كأبي عبيد، وأكثروا في كتبهم، كان حافظًا للأخبار والشعر وأيام العرب، وكان ثقة في نقله، من كتبه: (النوادر)، (رحل البيت). انظر: "طبقات النحويين والبلاغيين" ص ١٩٣، و"إنباه الرواة" ٢/ ١٢٠، و"البلغة" ص ٣٠٩، و"البغية" ٢/ ٤٣.
(٦) في جميع النسخ: (الدفؤ)، والمثبت موافق لجميع المصادر.
(٧) لم أجده في غريبه، وورد في "تهذيب اللغة" (فاد) ٢/ ١٢٠٣، بنصه، وانظر:=
15
وكتبت دفء بغير همز؛ لأن الهمزة إذا سَكن ما قبلها حُذفت من الكتاب، وذلك لخفاء الهمزة إذا سُكِتَ (١) عليها، فلما سَكَنَ ما قبلها ولم يَقْدِروا على هَمْزِها في الْسَّكْت، كان سكوتهم كأنه على الفاء، وكذلك قوله: ﴿يُخْرِجُ الْخَبْءَ﴾ [النمل: ٢٥] و ﴿مِلْءُ الْأَرْضِ﴾ [آل عمران: ٩١] (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنَافِعُ﴾ يعني النسل والدّر والركوب، ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد من لحومها (٣).
٦ - قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ أي زينة، كما قال: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: ٤٦]، والمال ليس يخص الورِق والعين، وأكثر مال العرب الإبل، كما أن أكثر أموال أهل البصرة النخل.
وقوله تعالى: ﴿حِينَ تُرِيحُونَ﴾، الإراحة: ردّ الإبل بالعَشي إلى مُراحِها حيث تأوِي إليه ليلًا (٤)، قال ابن عباس: يريد حِينَ خروج العرب أيام الربيع بالماشية إلى الخِصب، يعني أن الإراحة أكثر ما تكون أيام
= (دفأ) في "مقاييس اللغة" ٢/ ٢٨٧، و"اللسان" ٣/ ١٣٩٣، و"عمدة الحفاظ" ٢/ ١٣.
(١) في جميع النسخ: (سكنت)، والصحيح المثبت، وهو موافق للمصدر وبه يستقيم الكلام.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٩٦، بنصه.
(٣) ورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٠ ب، والسمرقندي ٢/ ٢٢٨، والثعلبي ٢/ ١٥٤ أ، والبغوي ٥/ ٩.
(٤) "تهذيب اللغة" (راح) ٢/ ١٣٠٩، بنصه، وهو قول الليث، وانظر: "تفسير الطبري" ١٤/ ٨٠، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٥٥، و"تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ٢٢٨، و"اللسان" (روح) ١/ ١٧٧٠.
الربيع إذا سقط الغيث، وكثر الكلأ، وخرجت العرب للنجعة، وتركت مياهها، وأحسنُ ما تكون النَّعم في ذلك الوقت (١)، ولذلك ستر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وجَهه لمّا رأى نَعَمَ بني المصطلق وقد عَبِست في أبوالها، وذكرنا هذا في آخر سورة الحجر.
وقوله تعالى: ﴿وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ يقال: سَرَّح القومُ إبِلَهم سَرْحًا إذا أخرجوها بالغداة إلى المَرْعَى، واسم ذلك المال السَّرْحُ، وسَرَح المالُ نفسُه سُرُوحًا: رَعَى بالغَدَاة (٢).
٧ - قوله تعالى: ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ﴾ جمع الثقل، وهو متاع المسافر وحَشَمُه، ﴿إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ﴾ قال ابن عباس: يريد من مكة إلى اليمن، وإلى الشام، وإلى مصر (٣)، هذا قوله، والمراد: كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير الإبل شق عليكم (٤)، وخص ابن عباس اليمن والشام؛ لأن متاجر أهل مكة كانت إلى هذه الوجوه، وليس قول من خص البلد بمكة بشيء (٥)؛ والشِّقُّ المَشَقَّةُ، والشِّقُّ: نصفُ الشيء، وكِلا المعنيين
(١) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ٢٢٨، والخازن ٣/ ١٠٧، أورداه بنصه غير منسوب، والظاهر أنهما نقلاه عن الواحدي.
(٢) "تهذيب اللغة" (سرح) ٢/ ١٦٦٥، بتصرف، وانظر: "تفسير الطبري" ١٤/ ٨٠.
(٣) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ٢٢٨، مع زيادة المدينة، والخازن ٣/ ١٠٧، والألوسي ١٤/ ١٠٠، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٢٩، و"الشوكاني" ٣/ ٢١٢.
(٤) أخرجه الطبري ١٤/ ٨٠، بنحوه، عن عكرمة، وانظر: "تفسير الماوردي" ٣/ ١٨٠، وابن الجوزي ٤/ ٤٣٠.
(٥) وهو وابن عباس والربيع بن أنس وعكرمة، وقد أخرجه الطبري ١٤/ ٨٠ عن عكرمة، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٢٩، عن عكرمة، وابن عطية ٨/ ٣٧٣، =
17
في الشق سائغ في معنى الآية، ذكرهما الفراء؛ وقال أكثر القراء: على كسر الشين (١)، ومعناه إلا بِجَهْدِ الأنفس، وكأنه الاسم، وكأن الشِّقَّ فعلٌ، قال: ويجوز في قوله: ﴿إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ﴾ أن يذهب إلى أن الجَهْدَ يُنْقِص من قوةِ الرجل ونَفَسِه حتى يجعله قد ذهب بالنصف من بدنه أو قوته، فيكون الكسر على أنه كالنصف، ويقال: المال بيني وبينكم بشَقِّ الشعر؛ وشِقِّ الشَعَر، وهما متقاربان، فإذا قالوا: شَقَقْتُ عليك شقًّا، نصبوا (٢).
وقال في "المصادر": شققت عليه شقًّا، وشق الصبح، وشق بابه إذا طلع، شقوقًا منهما، وشققت الثوب شقًّا لا غير.
قال ابن شميل: شَقَّ عليَّ ذلك الأمر مشقة، أي: ثقل عليّ (٣)، فجاء من هذا أن الشَّق بالفتح مصدر شَقَّ عليه الأمر، أي: أثقله عليه، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لولا أن أَشُقَّ على أمتي" (٤)؛ شَقَّ الأمْرُ عليه مَشَقَّةً، فهو واقع
= عنهم، وابن الجوزي ٤/ ٤٣٠ عن عكرمة، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٧١، عن عكرمة، وأبي حيان ٥/ ٤٧٦، عنهم، و"تنوير المقباس" ص ٢٨٢، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٠٦، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس، وصديق خان ٧/ ٢١٠، عن ابن عباس، والصحيح حمله على العموم؛ لعدم وجود مخصص، كما أشار الواحدي -رحمه الله-.
(١) قرأ أبو جعفر المدني وحده في العشر بفتح الشين. انظر: "تفسير الطبري" ١٤/ ٨١، و"القراءات الشاذة" لابن خالويه ص ٧٦، و"المحتسَب" ٢/ ٧، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٣، و"إعراب القراءات الشاذة" ١/ ٧٥٦، و"النشر" ٢/ ٣٠٢.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٩٧، بتصرف يسير، وورد في "تهذيب اللغة" (شق) ٢/ ١٩٠٦، بنحوه.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (شق) ٢/ ١٩٠٦، بنصه.
(٤) أخرجه أحمد (٢/ ٢٥٠، ٢٨٧) بنصه عن أبي هريرة، والبخاري: كتاب: الجمعة، باب: السواك يوم الجمعة، ومسلم: كتاب: الطهارة، باب: السواك ١/ ٢٢٠، =
18
ومطاوع (١)، والشق: الاسم منه، وشَقَّ الشيءَ شقًّا، وشق بنفسه شُقوقًا.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ يريد أنه مَنّ عليكم وتفضَّل بإنعامه بالنعم التي لكم فيها هذه المنافع والمرافق (٢).
٨ - قوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ قال الفراء: نُصبت ﴿وَزِينَةً﴾ على: وجعلها زينة، مثل قوله: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا﴾ (٣) [فصلت: ١٢] المعنى: وحفظناها حفظًا، ولو لم يكن في (الزينة) ولا في ﴿وَحِفظَا﴾ وَاوٌ لنصبتَها بالفعل الذي قبلها لا بالإضمار، ومثله: أعطيتك درهمًا ورغبة في الأجر، المعنى أعطيتكه (٤) رغبةً، فلو ألقيت الواو لم يحتج إلى ضمير؛ لأنه متصل بالفعل الذي قبله (٥)، وقال أبو إسحاق: نُصبت ﴿وَزِينَةً﴾ على أنها مفعول لها، المعنى: وخلقها للزينة (٦).
قال أصحابنا: والآية لا تدل على تحريم لحوم الخيل، وإن ذكرت
= وأبو داود (٤٦): كتاب: الطهارة، باب: السواك ١/ ١١، والترمذي (٢٢) كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في السواك (١/ ٩)، والنسائي: الطهارة/ الرخصة في السواك بالعشي للصائم ١/ ٤، و"معجم الطبراني الكبير" ٥/ ٢٤٣، ٢٤٤، وأورده الهيثمي في "المجمع" ١/ ٢٢١، وورد في تهذيب اللغة (شق) ٢/ ١٩٠٦.
(١) الوقوع في اصطلاح النحويين: التعدِّي، والمطاوعة: هو الفعل المتعدي الذي يصير لازمًا إذا تحوَّل إلى صيغة "انفعل" مثل: كَسَرَ الولدُ الزجاج، تقول: انكسر الزجاج انظر: "المعجم المفصل في النحو العربي" ٢/ ١٠١٢، ١١٨٩.
(٢) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٣١.
(٣) الآية التي أورد الفراء غير هذه، وهي: ﴿وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ﴾ [الصافات: ٧].
(٤) في جميع النسخ: (أعطيتكه هو) بزيادة ضمير الفصل، وأدى إلى اضطراب المعنى، والتصويب من المصدر.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٩٧، بتصرف يسير.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٢، بنحوه.
19
البغال والحمير؛ لأن القصد بهذه الآية بيانُ إباحةِ الركوب وإظهار المنّة بأنْ خَلق لنا من الحيوان ما نقضي عليه حوائجنا ونتجمَّل به، وكيف تدل على تحريمها والسورة مكية؟ ولحوم الحُمُر الأهلية حُرِّمت عام خيبر (١)، فلو دَلَّت على تحريم لحم الخيل لَدَلَّت على تحريم لحم الحُمُر حتى (٢) تُحَرَّم عند نزولها، ولحوم الخيل حلال بالسنة والأخبار فيها كثيرة (٣).
(١) وقد وردت عدة أحاديث في ذلك، منها: ما رواه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المتعة عام خيبر وعن لحوم حُمُرِ الإنسيَّةِ. (أخرجه البخاري (٥٥٢٣) كتاب: الذبائح والصيد، باب: لحوم الحمر الإنسية (٥/ ٢١٠٢، ومسلم (١٤٠٧) كتاب: الصيد والذبائح، تحريم أكل الحمر الإنسية، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. رواه البخاري (٥٥٢١)، ومسلم (٥٦١).
(٢) هكذا في جميع النسخ، والعبارة مضطربة، فلعل (حين) تصحفت إلى (حتى)، وبها يستقيم السياق.
(٣) وهو مذهب الشافعية والحنابلة، وقد استدلوا على إباحته بما رواه الشيخان عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: نهى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخص في لحوم الخيل، وفي رواية مسلم: وأذن في لحوم الخيل. (أخرجه البخاري (٥٥٢٠، ٥٥٢٤): الذبائح، باب: لحوم الخيل، ومسلم (١٩٤١): الصيد والذبائح، باب: في أكل لحوم الخيل، واستدلوا أيضًا بما روته أسماء -رضي الله عنها- قالت: نحرنا فرسًا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأكلناه. (أخرجه البخاري (٥٥٢٠، ٥٥١٩) كتاب: الذبائح والصيد، النحر والذبح (١٩٤٢)، ومسلم (١٩٤٢): الصيد والذبائح، في أكل لحوم الخيل (٣/ ١٥٤١)، والمشهور عن الحنفية والمالكية تحريمه، وروي عنهما الكراهة، والقول بالإباحة هو الراجح؛ لصحة أدلته وصراحة دلالتها، ومع أن الشرع يُجوِّز أكله فإن أكله غير مشهور في بلاد المسلمين اليوم، ولعل سبب ذلك استخدامه في المعارك العسكرية في الأجيال السابقة، لذلك لم يألف الناس أكله ولا بيعه ولا تسويقه لذلك الغرض.
انظر: "بداية المجتهد" ١/ ٤٦٩، و"شرح الزرقاني" (٣/ ٩١، و"حاشية الرهوني =
20
وقوله تعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ روي عن ابن عباس أنه قال: لم يسمه فالله أعلم (١). وروى عطاء عنه، ومقاتل عن الضحاك عنه، قال: يريد أنّ عن يمين العرش نهرًا من نور؛ مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع يدخل جبريل فيه كل سحر فيغتسل فيزاد نورًا إلى نوره وجمالًا إلى جماله، وعِظَمًا إلى عِظَمِه، ثم ينتفض فيخلق الله من كل نفضة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألفًا البيت المعمور، وفي الكعبة سبعون ألفًا، لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة (٢).
= على عبد الباقي ٣/ ٣٩، و"المبسوط" ١١/ ٢٣٣، و"حاشية ابن عابدين" ٦/ ٣٠٥، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٧٦، و"المجموع" ٩/ ٤، و"المغني والشرح الكبير" ١١/ ٦٩، و"فتح الباري" ٩/ ٥٦٦، و"أضواء البيان" ٢/ ٢٥٤، و"أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية" ص ١٢٦.
(١) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٨٢، بنحوه.
(٢) ليس في تفسير مقاتل، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة ص ١٥٤، بنحوه من طريقين؛ مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من رواية أبي سعيد، وموقوفًا على وهب بن منبه، لكن ليس في الروايتين أنه تفسير لقوله تعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٤ ب، بنصه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ٢٣١، و "تفسير القرطبي" ١٠/ ٨٠، وأبي السعود ٥/ ٩٨، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ١٠٢، وورد غير منسوب في: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٣٢ مختصرًا.
وعلى هذا التفسير مأخذان؛ الأول: أنه حدد وخصص ما أبهم الله خلقه بأمور بعيدة عن سياق الآية. الثاني: أن الحديث الوارد موضوع، فقد أورده السيوطي في "اللالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" ١/ ٨٤، عن أبي هريرة مرفوعاً. وأغلب الظن أن الأثر من الإسرائيليات، يؤكده أنه ورد عن أحد مصادر الإسرائيليات، وبذلك جزم محقق كتاب "العظمة" ص ١٥٤، رقم (٣)، وقد أورده ابن الجوزي بنحوه في كتاب "الموضوعات" ١/ ٢١٨.
21
وقال آخرون: يعني مما أعد في الجنة لأهلها وما أعد في النار لأهلها (١).
وقال السدي وقتادة: يعني السوس في الثياب، والدود في الفواكه (٢).
٩ - قوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ القصد: استقامة الطريق، يقال: طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك، وقصد بك ما تريد (٣)، واختلفوا في معنى هذه الآية، فأكثر المفسرين على أن المعنى: وعلى الله بيان قصد السبيل بالكتب والرسل والحجج (٤)، وهو قول جابر وقتادة
(١) انظر: "تفسير الطبري" ١٤/ ٨٣، والبغوي ٥/ ١١، وابن الجوزي ٤/ ٤٣٢، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٨٠، والخازن ٣/ ١٠٨، وأبي حيان ٥/ ٤٧٧.
(٢) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٥٧، عن السدي، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٤ ب، بنصه عن قتادة، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٨٠، وعنهما في الخازن ٣/ ١٠٨، عن قتادة، وأبي حيان ٥/ ٤٧٧، وهو قول غريب وتخصيص عجيب دون داعٍ أو مناسبة، وهذا التفسير لا يليق بهذا المكان؛ لأن السياق في النعم والمنن، وحتى تخصيصه بما أُعد في الجنة غير مناسب للسياق؛ فالحديث في معرض الامتنان على العباد مؤمنهم وكافرهم بالمركوبات، لذلك فالإطلاق أولى من كل هذه التخصيصات البعيدة عن السياق، وإن لزم الأمر إلى تخصيص، فينبغي أن يكون التخصيص بجنس الممتن به؛ لقوة القرينة، فيكون المقصود بـ ﴿مَا لَا تَعلَمُونَ﴾، أي: من جنس المركوبات، ويؤيد هذا التخصيص ما ألهم الله البشر من اختراع وسائل النقل المتعددة - لم تكن موجودة بل ولا متصورة يومئذٍ، كالسيارات والقطارات والطائرات والمركبات الفضائية، وقد أشار إلى ذلك جماعة من العلماء المعاصرين. انظر: "تفسير سيد قطب" ٤/ ٢١٦١، و"الطاهر بن عاشور" ١٤/ ١١١، و"الشنقيطي" ٣/ ٢١٨.
(٣) انظر: (قصد) في "المحيط في اللغة" ٥/ ٢٥٦، و"المفردات" ص ٦٧٢، و"اللسان" ٣٦٤٢.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٠ ب، والطبري ١٤/ ٨٤، والسمرقندي ٢/ ٢٢٩، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٨١، والبغوي ٥/ ١١، وابن عطية ٨/ ٣٧٦، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٨١، والخازن ٣/ ١٠٨، وأبي السعود ٥/ ٩٨.
22
والسدي (١)، ورُوي ذلك عن ابن عباس (٢) واختاره الفراء (٣) والزجاج (٤)، وعلى هذا: الآية من باب حذف المضاف؛ لأن التقدير: وعلى الله بيان قصد السبيل، ثم قال: ﴿وَمِنهَا جَآِئرٌ﴾، أي: عادل مائل، ومعنى الجور في اللغة: الميل عن الحق (٥)، والكناية في منها تعود على السبيل، وهي مؤنثة في لغة الحجاز، يعني: ومن السبيل ما هو جاثر غير قاصد للحق (٦). قال الكلبي: يعني اليهودية والنصرانية والمجوسية (٧). وقال ابن المبارك: يعني الأهواء والبدع (٨).
روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية، قال: من أراد أن يهديه سهل له طريق الإيمان، ومن أراد أن يُضلَّه وعَّر عليه طريق الإيمان (٩)، يعني
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ٨٤ بمعناه عن قتادة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٠٩، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة بمعناه، ولم أقف عليه عن جابر والسدي.
(٢) أخرجه الطبري ١٤/ ٨٥ بمعناه، من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، ومن طريق العوفي غير مرضية، وورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٣٦٣.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٩٧، بمعناه.
(٤) معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٢، بمعناه.
(٥) انظر: (جور) في "المحيط في اللغة" ٧/ ١٧٢، و"مجمل اللغة" ١/ ٢٠٢، و"الصحاح" ٢/ ٩١٧، و"اللسان" ٢/ ٧٧٢.
(٦) نقله الفخر الرازي بنصه، ونسبه للواحدي ١٩/ ٢٣١.
(٧) روي عن ابن عباس في "تفسير ابن كثير" ٢/ ٦٢٠، و"تنوير المقباس" ص ٢٨٣، وورد غير منسوب في: "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٤، دون ذكر المجوسية، والبغوي ٥/ ١١، وابن عطية ٨/ ٣٧٧، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٨١، والخازن ٣/ ١٠٨.
(٨) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٤ ب، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١١، وابن الجوزي ٤/ ٤٣٣، والخازن ٣/ ١٠٨.
(٩) انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٨٢، بنصه.
23
المنافق والكافر؛ شَدُدَ عليه الغُسْلُ من الجنابة والوُضوءُ للصلاة، ويَثْقُلُ عليه صيام شهر رمضان من اثني عشر شهرًا، ثم بين أن المشيئة إليه، فقال: ﴿وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾، يريد: فلو شاء لأرشدكم أجمعين حتى لا يختلف عليك يا محمد أحد، هذا كلامه، والذي ذكرنا في هذه الآية هي طريقة المفسرين. وفي الآية وجه آخر، وهو أن المعنى: أن قصد السبيل الذي هو الحنفية والإسلام على الله؛ أن يؤدي إلى رضا الله وثوابه وجزائه (١)؛ كقوله: ﴿قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾ [الحجر: ٤١]، أي: أنه يؤدي إلى جزائي وكرامتي، فهو طريق عليّ، وهذا مذهب مجاهد، قال: على الله طريق الحق (٢)، وبه قال عبد الله بن المبارك (٣)، وهو أقوى القولين؛ لأنه صح من غير إضمار ولا شبهة للقدرية (٤)؛ لأنهم يقولون على التفسير الأول: أضاف قصد السبيل إليه.
ثم قال: ﴿ومنها جائزٌ﴾ وهو ضده، فلم يضف إلى نفسه (٥)،
(١) انظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٣٧٦.
(٢) تقدم توثيق قوله.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) القدرية هم نفاة القدر؛ يزعمون أن الأمر أنف، كان أول ظهورهم في نهاية جيل الصحابة، عندما ظهر معبد الجهني، وقد تبرأ منهم ابن عمر -رضي الله عنهما-، وخلف الجهمية في هذه البدعة المعتزلة، وأصّلوها، وجعلوها من أصولهم الخمسة. انظر: "الفرق بين الفرق" ص ١١٤، و"الفصل في الملل والأهواء" ٣/ ٨٢، و"الملل والنحل" ١/ ٤٣، و"الاستقامة" ١/ ١٧٩، و"التعريفات" ص ١٧٤.
(٥) هذه إشارة إلى مذهبهم الفاسد في إخراج أفعال العباد عن قدرة الله وخلقه، والمذهب الحق في هذه القضية هو مذهب أهل السنة والجماعة، وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره، فقال: وأما جمهور أهل السنة، فيقولون: إن =
24
وجوابهم عن هذا أن الجائر أيضًا منه، وإن لم يضف إلى نفسه، ولكنه ذكر ذلك على الإطلاق (١)، وابن عباس قد بَيَّنَ ذلك كما حكينا، ولا شبهة لهم في الآية على القول الثاني.
١٠ - قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ﴾ إلى قوله: ﴿وَمِنهُ شَجَرٌ﴾، قال أهل اللغة: الشجر أصناف، فأما جِلُّ الشجر فعظامه التي تبقى على الشتاء، وأما دِقُّ الشجر فصنفان: أحدهما يبقى له أَرُومَةٌ (٢) في الشتاء وَينْبت في الربيع، ومنها ما لا يبقى له ساق في الشتاء؛ كالبقول (٣)، وقال أبو إسحاق: كلُ ما يَنْبُت على الأرض فهو شجر:
= فعل العبد فعل له حقيقة، ولكنه مخلوق لله ومفعول لله؛ لا يقولون: هو نفس فعل الله، ويفرقون بين الخلق والمخلوق، والفعل والمفعول. "منهاج السنة النبوية" ٢/ ٢٩٨.
(١) لذلك فإن من كمال الأدب أن لا ينسب إلى الله إلا الخير، وأما الشر فإما أن يذكر مطلقًا غير منسوب إليه، وإما أن ينسب إلى السبب الظاهر، ومن أمثلته في القرآن: ما ورد على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨ - ٨٠]، وقال على لسان الخضر: ﴿ومَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الكهف: ٦٣]؛ في حين نسب الخير إليه في قوله: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: ٨٢]، وقال على لسان الجن: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الجن: ١٠]، ومن هنا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "والخير كله بيديك، والشر ليس إليك" [مسلم (٧٧١) كتاب: المسافرين، الدعاء في صلاة الليل].
(٢) الأرُومَةُ: أصلُ كلِّ شجرة، والجميعُ الأرُومُ والأرُومَات، وأرَمْتُ الشيءَ: ذهبتُ بأرُومَته وقَلَعْتُه. انظر: "المحيط في اللغة" (أرم) ١٠/ ٢٩٠.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (شجر) ٢/ ١٨٣٠، بنحوه، وانظر: (شجر) في: "جمهرة اللغة" ١/ ٤٥٨، و "مقاييس اللغة" ٣/ ٢٤٦، و"اللسان" ٤/ ٢١٩٨.
25
نُطْعِمُها (١) اللحم إذا عَزَّ الشَّجَرْ (٢)
ويعني أنهم يُسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض (٣)، وقال ابن قتيبه في هذه الآية: يعني الكلأ (٤)، ومعنى الآية: أنه ينبت بالماء الذي أنزل من السماء ما يرعاه الراعيةُ من ورق الشجر وجلّها؛ لأن الإبل يرعى جِلَّ الشجر. قال ابن السِّكِّيت: يقال: شاجرَ المالُ، إذا رعى العُشبَ والبَقْلَ فلم يَبْق منها شيء، فصار إلى الشجر يَرْعاه (٥).
وقوله تعالى: ﴿فِيهِ تُسِيمُونَ﴾، أي: في الشجر تَرْعَون مواشيكم، يقال: أَسِمْت الماشية إذا خليتها ترعى، وسَامَت هي تَسُومُ سَوْمًا إذا رَعَتْ حيثُ شاءت، فهي سَوَامٌ وسَائِمَةٌ (٦)، قال الزجاج: أُخِذَ ذلك من السّومة؛
(١) في جميع النسخ: (يعظمها) ولا معنى لها، والصحيح أنها تصحيف من (نطعمها) كما في بعض المصادر.
(٢) البيت للنمر بن تَوْلَب [مخضرم (ت ١٤ هـ)]. وعجزه:
والخَيْلُ في إطْعامِها اللَّحْمَ ضَرَرْ
"ديوانه" ص ٣٥٥، وفيه (عَسَرْ) بدل (ضَررْ)، وورد في "الشعر والشعراء" ص ١٩١ (الشحم) بدل (اللحم) الأولى، و"الأغاني" ٢٢/ ٢٧٩، و"اللسان" (هشش) ٨/ ٤٦٦٧، وورد غير منسوب في "تهذيب اللغة" (لحم) ٤/ ٣٢٤٨، "اللسان" (علف) ٥/ ٣٠٧٠، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ١٠٥، في الأخيرين برواية: (نعلفها) بدل (نطعمها)، وورد صدره في "تفسير الرازي" ١٩/ ٢٣٣، والخازن ٣/ ١٠٨، وأبي حيان ٥/ ٤٧٨، وسمى اللبن لحماً؛ لأنها تسمن على اللبن.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٢، بنحوه.
(٤) "الغريب" لابن قتيبة ص ٢٤٣، بلفظه.
(٥) "إصلاح المنطق" ص ٣٠٩، بنصه، وانظر: (شجر) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٣١ بنصه، و"الصحاح" ٢/ ٦٩٤، بنصه.
(٦) ورد في "تهذيب اللغة" (سام) ٢/ ١٦٠٢، بنحوه، وانظر: (سوم) في "جمهرة اللغة" ٢/ ٨٦٢، و"المحيط في اللغة" ٨/ ٤٠٣، و"الصحاح" ٥/ ١٩٥٥.
26
وهي العلامة، وتأويلها أنها تُؤثِّر في الأرض برَعْيِها علامات (١)، وقال غيره: لأنها تُعَلَّمُ الإرسالَ (٢) في المرعى (٣).
١١ - قوله تعالى: ﴿يُنْبِتُ لَكُمْ﴾ قراءة العامة بالتاء (٤)، وقرأ أبو بكر عن عاصم بالنون (٥) والياء أشكل لما تقدم من الإفراد (٦)، والنون لا يمتنع أيضًا، ويقال: نبت (٧) البقل (وأنبته الله، وقد روي: أنبت البقل) (٨)، والأصمعي يأبى إلا نبت، ويزعم أن قصيدة زهير التي فيها:
حتى إذا أنبت البَقْلُ (٩)
متّهمة (١٠).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٢، بنصه.
(٢) في "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ٢٣٤، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٨٢ (للإرسال)، وهو قريب من الأول.
(٣) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ٢٣٤، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٨٢.
(٤) انظر: "السبعة" ص٣٧٠، و"علل القراءات" ١/ ٣٠١، و"الحجة للقراء" ٥/ ٥٤، و"الكشف عن وجوه القراءات" ٢/ ٣٤.
(٥) أي: (نُنْبِتُ)، انظر: المصادر السابقة.
(٦) وقد رجحه الأزهري فقال: والياء أجودهما، وقال ابن خالويه: فالحجة لمن قرأه بالياء: أنه أخبر به عن الله عز وجل لتقدم اسمه أول الكلام، والحجة لمن قرأه بالنون: أنه جعله من إخبار الله عز وجل عن نفسه بنون الملكوت. انظر: "علل القراءات" ١/ ٣٠١، و"الحجة في القراءات" ص ٢٠٩، و"الكشف عن وجوه القراءات" ٢/ ٣٤.
(٧) في (ش)، (ع): (أنبت)، والصحيح المثبت ليستقيم السياق، وهو موافق للمصدر.
(٨) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).
(٩) البيت كما في الديوان ص ٤١:
رأيتُ ذَوِي الحاجاتِ حولَ بُيوتِهم قطيناً لهم حتى إذا أنبت البقْلُ
أي: نبت.
(١٠) ورد في "تهذيب اللغة" (نبت) ٤/ ٣٤٩١، بمعناه، و"الحجة للقراء" ٥/ ٥٤، بنصه.
وقوله تعالى: ﴿الزَّرْعَ﴾ قال ابن عباس: يريد الحبوب (١)، ﴿وَالزَّيْتُونَ﴾ جمع زيتونة، يقال: الشجرة نفسُها زيتونة، ولثمرها زيتونة، والمجميع الزيتون، ﴿وَالنَّخِيلَ﴾ يقال: نخلة ونخل ونخيل.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾، أي: وينبت من كل الثمرات، فحُذف لأن ما سبق يدل عليه.
١٢ - قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ إلى قوله: ﴿مُسَخَّرَاتٌ﴾، قراءة العامة بالنصب في هذه المنسوقات كلها (٢)، وهو الوجه لاستقامتها في المعنى، وإذا استقامت في معنى واحد استقامت في إعراب واحد، وقد جاء التسخير في الشمس والقمر والنجوم، وهو قوله: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ﴾ [إبراهيم: ٣٣]، وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ﴾ [الأنعام: ٩٧]، فكما حملت على التسخير في هاتين كذلك وجب أن يحمل على التسخير في هذه السورة.
وقوله تعالى: ﴿مُسَخَّرَاتٍ﴾ حال مؤكدة؛ لأن تسخيرها قد عُرف بقوله: ﴿وَسَخَّر﴾ فجاءت الحال مؤكدة، ومجيء الحال مؤكدة في التنزيل وغيره كثير؛ كقوله: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا﴾ [البقرة: ٩١]. و:
أنا ابنُ دارَة معروفًا (٣)
(١) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٣٣، والخازن ٣/ ١٠٨، بلا نسبة.
(٢) انظر: "السبعة" ص ٣٧٠، و"علل القراءات" ١/ ٣٠٢، و"الحجة للقراء" ٥/ ٥٥، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٣، و"التيسير" ص ١٣٧.
(٣) جزء من بيت لسالم بن دارة (مخضرم)، وتمامه:
أنا ابن دارة معروفا بها نَسَبي وهل بدارة يا للناس من عارِ
وهو من شواهد سيبويه ٢/ ٧٩، وورد في "الخصائص" ٣/ ٦٠، و"أمالي ابن الشجري"، و"تفسير ابن عطية" ٨/ ٣٨٢، و"الخزانة" ٢/ ١٤٥، ٣/ ٢٦٦، =
28
و:
كَفَى بالنأيِ من أسماءَ كاف (١)
وقرأ ابنُ عامر: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ﴾ رفعًا (٢)؛ كأنه قطعها عن سخر لئلا يجعل الحال مؤكدة، فابتدأ الشمس والقمر والنجوم، وجعل مسخرات خبرًا عنها؛ لأنه لا يقال: ذللت هذا الشيء مُذللا، ووهبت لك هذا موهوبًا، إلا في التأكيد النادر، وروى حفص عن عاصم: ﴿مُسَخَّرَاتٍ﴾ بالرفع وحدها (٣)؛ ووجه ذلك أنه لم يجعلها حالاً مؤكدة، وجعلها خبر ابتداء محذوف؛ كأنه قال بَعدُ: هي مسخراتٌ، فحذف المبتدأ وأضمر لدلالة الخبر عليه، وقد عُلم التسخير بما تقدم، وكون ﴿مُسَخَّرَاتٍ﴾ حالًا مؤكدة أسوغ من كونها خبرَ مبتدأ محذوف؛ لأن الخبر ينبغي أن يكون
= و"دارة": أمُّه، سميت بذلك لجمالها، تشبيها بدارة القمر.
والشاهد: قوله (معروفًا) حال مؤكِّدة لمضمون الجملة قبلها: (أنا ابن دارةَ).
(١) البيت لبشر بن أبي خازم الأسدي (جاهلي)، وعجزه:
وليس لِحبِّها ما عشتُ شافِ
"ديوانه" ١٤٢، وفيه: (إذا طال شافي) بدل (ما عشت شافي)، وورد في "أمالي ابن الشجري" ١/ ٢٨٢، ٤٣٢، و"الخزانة" ٤/ ٤٣٩، ١٠/ ٤٧٧ (عجز)، وورد غير منسوب في "الكامل" ٢/ ٩١٠، و"المقتضب" ٤/ ٢٢، و"الخصائص" ٢/ ٢٦٨ (صدر)، و"المنصف" ٢/ ١١٥، و"الموضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧٣٢ (صدر)، و"شرح المفصل" ٦/ ٥٠، ١٠/ ١٠٣. (النأي) البعد، (أسماء) امرأة؛ يريد كفى النأي من أسماء كفايةً.
والشاهد قوله: (كافٍ) على أنه حال مؤكدة؛ لأنه إذا كفى فهو كافٍ لا محالة.
(٢) انظر: "السبعة" ص ٣٧٠، و"علل القراءات" ١/ ٣٠١، و"الحجة للقراء" ٥/ ٥٥، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٣، و"التيسير" ص ١٣٧.
(٣) انظر: المراجع السابقة.
29
مفيدًا، لم يجيء إلا كذلك، والحالُ تجيء مؤكِدة (١)؛ ألا ترى إلى قوله:
إذا كان يومٌ ذو كَواكِبَ أَشْنَعَا (٢)
حمله على الحال ولم يحمله على الخبر (٣).
١٣ - قوله تعالى: ﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ﴾ أي لأجلكم، وهو عطف على ما قبله من المسخرات.
وقوله تعالى: ﴿مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾ أي هيأته ومناظره، يعني الدواب والأشجار وغيرها، ونصب مختلفًا على الحال، وذو الحال: ﴿وَمَا﴾ العامل فيها قوله: ﴿سَخَّرَ﴾.
(١) نقل القراءات في الآية وتوجيهها من "الحجة للقراء" ٥/ ٥٥، بتصرف، وانظر: كذلك التوجيه النحوي للقراءات في: "علل القراءات" ١/ ٣٠٢، و"الحجة في القراءات" ص ٢٠٩، و"الكشف عن وجوه القراءات" ٢/ ٣٥، و"المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧٣٢.
(٢) البيت لعمرو بن شَأس مخضرم (توفي نحو سنة٢٠ هـ) وصدره:
بَنِي أسدٍ هلْ تعلمونَ بلاءَنا
"شعر عمرو بن شأس" ص ٣٦، وورد في "الكتاب" ١/ ٤٧، و"الحجة للقراء" ١/ ١٤٨، و"الأزهية" ص ١٨٦، و"الخزانة" ٨/ ٥٢١، ويروى (يومًا ذا كواكب)، أراد إذا كان اليوم يومًا، وأضمر لِعلم المخاطب، ومعناه: إذا كان اليومُ الذي يقع فيه القتال، و (كان) في الوجهين بمعنى وقع. (الشناعة) الفظاعة، والتشنيع: التشمير، وشنَّعَ النجم: ارتفع في السماء، والشاعر يصف حربًا وشدةً، والعرب تقول لليوم الذي تلقى فيه شِدَّة: يومٌ مظلمٌ، حتى إنهم ليقولون: يومٌ ذو كواكب؛ أي اشتدّت ظُلْمته حتى صار كالليل. انظر: (شنع) في: "المحيط في اللغة" ا/ ٢٨٨، و"الصحاح" ٣/ ١٢٣٩، و"اللسان" ٤/ ٢٣٣٩.
(٣) قال أبو علي: فجعل أي سيبويه (أشنعا) حالاً ولم يجعله خبرًا؛ لأن فيما تقدم من صفة الاسم ما يدل علي الخبر، فيصير الخبر لا يفيد زيادة معنى. "الحجة للقراء" ١/ ١٤٨.
١٤ - قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ﴾ أي ذَلَّله للركوب والغوص، ﴿لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا﴾ قال ابن الأعرابي: لحم طري غير مهموز، وقد طرو طرواة.
وقال الفراء في "المصادر": ما كان طريًّا، ولقد طري يطرى طراءً ممدود وطراوةً، كما يقال: شقي يشقى شقاءً وشقاوةً، قال ابن عباس: يريد السمك والحيتان (١)، ﴿وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ قال: يريد الدر واللؤلؤ والمرجان والزبرجد والياقوت، وربما وجدوا فيه الذهب.
قال أبو علي: الحِلْيَة والحُلِي واحد، كما يقال: بِرْكَة للمصدر وبِرَك (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ﴾ يجوز أن يكون هذا فصلاً مبتدأً غير معطوف على ما قبله، ويجوز أن يكون معطوفًا على ما قبله.
واختلف ألفاظ المفسرين في تفسير الماخر؛ فروى ابن عباس أنه قال: جواري (٣)، وقال في رواية عطاء: يريد ملججين فيه، وأهل البحر يقولون: مَخَرْنا، يريد لججنا؛ إذا انقطع البر عنهم فلم يروه، وقال قتادة ومقاتل: مقبلة ومدبرة (٤).
(١) ورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٠ ب، والسمرقندي ٢/ ٢٣٠، والثعلبي ٢/ ١٥٥أ، والبغوي ٣/ ٦٤.
(٢) لم أقف على مصدره، وانظر: "اللسان" (حلا) ٢/ ٩٨٥، بنحوه منسوبًا إليه.
(٣) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٥ أ، بلفظه، وورد غير منسوب في البغوي ٣/ ٦٤.
(٤) أخرج عبد الرزاق في "مصنفه" ٢/ ٣٥٤ بلفظه عن قتادة، والطبري ١٤/ ٨٩ بلفظه عن قتادة من طريقين، ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٥ أ، بلفظه عنهما، والماوردي ٣/ ١٨٢، عن قتادة، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٢، عن قتادة.
31
قال الكلبي: يذهب ويجيء (١).
وقال الحسن: مواقر (٢).
وقال أبو عبيدة: صوائح (٣)، ونحو هذا قال الفراء (٤)، وكل هذا معان وليس بتفسير، وتفسير المواخر ما ذكره أهل اللغة.
قال المنذري: سمعت أحمد بن يحيي يقول وسئل عن المواخر، فقال: الماخرةُ السفينةُ التي تَمْخَرُ الماءَ؛ تدفعه وتدفع الموج بصدرها (٥)، قال: وأنشدني الحرَّانيُّ عن ابن السكيت أنه أنشده للراجز في صفة نساء ضرائر:
وصارَ أمثالَ الفغا ضرائري مُقَدِّماتٍ أَيْدِيَ المَواخِرِ (٦)
قال: الماخِرُ: الذي يَشقُّ الماءَ إذا سَبحَ، يصف نساءً تَصْخَبْنَ وتَسْتعِنَّ بأيديهن كأنهن سوابح (٧)، والفغا: ضرب من التمر غليظ (٨)،
(١) ورد بلا نسبة في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣١، وابن عطية ٨/ ٣٨٦، وورد منسوبًا للضحاك في: "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٥٩.
(٢) أخرجه الطبري ١٤/ ٨٨ بلفظه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٥ أ، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٨٢.
(٣) "مجاز القرآن" ١/ ٣٥٧ بمعناه، قال: من مخرت الماء، شقَّته بجآجِئها.
(٤) قال: واحدها ماخرة؛ وهو صوت جري الفلك بالرياح. "معاني القرآن" ٢/ ٩٨.
(٥) ورد في "تهذيب اللغة" (مخر) ٤/ ٣٣٥٦، بنصه.
(٦) نُسب لابن السِّكِّيت في التهذيب واللسان. ورد في "التهذيب" (مخر) ٤/ ٣٣٥٦ برواية:
يافِىَّ مالِي عَلِقَتْ ضَرَائري مقدماتٍ أيديَ المواخِرِ
وورد صدره في (فغا) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٠٩، و"اللسان" ٦/ ٣٤٤٢، وورد عجزه في "مقاييس اللغة" ٥/ ٣٠٣، و"مجمل اللغة" ٢/ ٨٢٥، بلا نسبة فيهما، و"اللسان" (مخر) ٧/ ٤١٥٢.
(٧) ورد في "تهذيب اللغة" (مخر) ٤/ ٣٣٥٦، بنحوه.
(٨) وهو قول الليث، ورد في "تهذيب اللغة" (فغا) ٣/ ٣٨٠٩، وقد خطأه الأزهري، =
32
يقال: ما الذي أفغاك، أي: أغضبك وورّمك.
وقال أبو الهيثم: مَخْرُ السفينةِ: شَقُّها الماءَ بصدرها (١).
وقال الفراء: يقال: مَخَرَتْ تَمْخُرُ وتَمْخَرُ (٢) مَخرًا ومخُورًا.
قال الأزهري: والقول في تفسير المواخر ما قاله ثعلب وأبو الهيثم؛ أنها تشق الماء شقًّا (٣)، وسمعت أعرابيًّا يقول: مَخَرَ الذئبُ شاةً، أي شقَّ بطنَها (٤)، وأصل المخر الشق، ومنه الحديث: "إذا أراد أحدكم الخلا فليتمخر الريح" (٥). قال أبو عبيد: يعني أن ينظر مجراها فلا يستقبلها (٦)، فأما ما ذكره المفسرون فإنه يصح في المعنى؛ لأنها لا تشق الماءَ إلا إذا كانت جارية موقرة ويسمع لجريها وشقها الماءَ صوتٌ، وهي تشق الماء مقبلةً ومدبرةً، وذاهبةً وجائيةً.
وقوله تعالى: ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ يعني لتركبوا للتجارة فتطلبوا
= فقال: هذا خطأ، والفغا: داءٌ يقع على البُسر مثل الغُبار، ويقال: ما الذي أفغاك، أي أغضبك وأورمك، وقال أبو عبيد: إذا غَلُظت التمرةُ وصار فيها مثل أجنحة الجراد فذلك الفغا مقصور، وقد أفغت النَّخلة.
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (مخر) ٤/ ٣٣٥٦، بنصه.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٩٨، بنصه، وهو في "تهذيب اللغة" بنصه.
(٣) "تهذيب اللغة" (مخر) ٤/ ٣٣٥٦، وعبارته: قلت: والمخْرُ أصله الشَّقُّ.
(٤) ورد في "تهذيب اللغة" بنحوه.
(٥) ورد في "تهذيب اللغة"، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٥ أ، برواية: (البول) بدل (الخلاء)، وأورده الطبري بهذه الرواية ونسبه لواصل مولى ابن عيينة ١٤/ ٨٩، وورد في "تفسير البغوي" ٥/ ١٣، وفي "النهاية" برواية: (إذا بال أحدكم فليتمخر الريح) ٤/ ٣٠٥، وورد بمعناه في "المجروحين" لابن حبان ٣/ ١٠٨، قال: (إذا أراد أحدكم الخلاء فلا يستقبل الريح).
(٦) "الغريب" لأبي عبيد ١/ ٣١٢ بنصه، وانظر: "تهذيب اللغة" (مخر) ٤/ ٣٣٥٦، بنصه.
33
الربح من فضل الله.
١٥ - قوله تعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾ يريد جبالًا ثابتة، ﴿أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ يعني لئلا تميد على قول الكوفيين، وكراهة أن تميد على قول البصريين، وذكرنا هذا عند قوله: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٧٦]، والميد: الحركة والاضطراب يمينًا وشمالاً، ماد يميد ميدًا (١)، قال ابن عباس: يريد أُوَتّدُها بالجبال لئلا تميد بأهلها.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْهَارًا﴾ قال يريد: النِّيل (٢) والفُرات ودِجلة (٣) وسَيْحَان (٤) وجَيْحَان (٥)، ونصب: ﴿وَأَنْهَارًا﴾ بتقدير: وجعل، ودَلَّ: ألقى
(١) انظر: (ميد) في "جمهرة اللغة" ٢/ ٦٨٥، و"المحيط في اللغة" ٩/ ٣٨٣، و"مجمل اللغة" ٢/ ٨٢٠، و"عمدة الحفاظ" ٤/ ١٥٠.
(٢) النِّيل: بكسر أوله، نهر مشهور بأفريقيا وبمصر خاصة، يعد ثاني أنهار العالم طولاً، يبلغ طوله (٦٥٠٠) كلم، ينبع من بحيرتي فكتوريه وثانا ويصب في المتوسط، ويمر بعدة دول، هي: كينيا وأوغنده وأثيوبيا والسودان ومصر، ويتفرع في عدة جداول فيها. انظر: "الروض المعطار" ص ٥٨٦، و"معجم البلدان" ٥/ ٣٣٤، و"أطلس العالم الصحيح" ص ١٢١.
(٣) دجِلة والفُرات: من الأنهر المشهورة، ينبعان من هضبة أرمينية، ويمران بعدة دول، هي: أرمينية وتركية والعراق وسورية، ويجتمعان في شط العرب جنوب العراق ويصبان في الخليج العربي. انظر: "الروض المعطار" ص ٤٣٩، و"معجم البلدان" ٤/ ٢٤١، و"أطلس تاريخ الإسلام" ص ١١٤، و"أطلس العالم الصحيح" ص ٦٨.
(٤) سَيْحان: نهر كبير بالثغور من نواحي المصيصة [منطقة جنوب تركيا]، وهو نهر أذنة [أضنة] بين أنطاكية والروم [تركيا]، يمر بأذنة ثم ينفصل عنها نحو ستة أميال فيصب في بحر الروم [البحر المتوسط] وهو غير سيحون، وذكر صاحب الروض المعطار أنه واحد. انظر: "الروض المعطار" ص ٣٣٣، و "معجم البلدان" ٣/ ٢٩٣، و"أطلس تاريخ الإسلام" ص ١٤٢، و"أطلس العالم" ص ٣٩.
(٥) جَيْحَان: نهر عظيم بالمصيصة بالثغر الشامي [جنوب تركيا]، ومخرجه من بلاد =
عليه، قال أبو إسحاق: لأن معنى ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾: جعل فيها رواسي، يدل عليه قوله: ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ (١) [النبأ: ٧].
وقوله تعالى: ﴿وَسُبُلَاَ﴾ قال ابن عباس: يريد طُرقًا إلى كل بلاد (٢)، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾: لكي تهتدوا إلى مقاصدكم من البلاد فلا تضلون.
١٦ - قوله تعالى: ﴿وَعَلَامَاتٍ﴾ منسوقة (٣) على ما قبلها، والعلامة صورة يعلم بها المعنى من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة، وأصلها مشتق من العلم، واختلفوا في معناها؛ فقال الكلبي والقرظي: يعني الجبال (٤)، وهي علامات للطرق بالنهار كالنجوم بالليل، وعلى هذا تَمَّ الكلام هاهنا، وبقية الآية ابتداء مع خبره، وهذا قول الأخفش (٥)، وقال ابن عباس في رواية
= الروم، ويمر حتى يصب بمدينة تعرف بكَفَرْ بَيّا بإزاء المصيصة [الإسكندرونة]، ويخرج إلى البحر الرومي [البحر المتوسط]. انظر: "الروض المعطار" ص ١٨٥، و"معجم البلدان" ٢/ ١٩٦، و"أطلس تاريخ الإسلام" ص ١٤٢، و"أطلس العالم" ص ٣٩.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٣، بنصه.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٨٣، بنحوه.
(٣) في جميع النسخ: (منسوخة) بالخاء، والصواب المثبت؛ لانسجام المعنى، فالكلام هنا عن العطف لا النسخ.
(٤) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٥٤) بلفظه عن الكلبي، والطبري ١٤/ ٩٢ بلفظه عن الكلبي، والسمرقندي ٢/ ٢٣١، بلفظه عن الكلبي، والثعلبي ٢/ ١٥٥ ب، بلفظه عنهما، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٣، عنهما، وابن عطية ٨/ ٣٨٩، عن الكلبي، وابن الجوزي ٤/ ٤٣٦، عن الكلبي، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٩١، عن الكلبي، والخازن ٣/ ١١٠، عنهما، و"الدر المنثور" ٤/ ٢١٢، وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن الكلبي.
(٥) ليس في معانيه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٠، وصديق خان ٧/ ٢٢٢.
35
عطاء: يريد نجوم السماء، والوجه هو الأول (١)؛ لأنها (٢) معطوفة على ما خلقت في الأرض، والنجوم لم تخلق في الأرض، ولأنه لو كان المراد بالعلامات النجوم لقال: وبها يهتدون، فلما قال: ﴿وَبِالنَّجْمِ﴾ دَلَّ أن المراد بالعلامات غيرُ النجم.
وقوله تعالى: ﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ قال مجاهد وإبراهيم: أراد جميع النجوم (٣)، واختاره الزجاج؛ فقال: النجم والنجوم في معنى واحد، كما يقال: كثر الدِّرهم في أيدي الناس والدَّراهم (٤)، وقال عطاء عن ابن عباس: يعني الجَدْي (٥)، وقال السدي: يعني الثُّريا وبَنات نَعْش (٦)، وقال
(١) وقد ورد عن ابن عباس قولاً لم يورده أعمّ وأولى مما رجحه، وهو ما رجحه الطبري، قال: العلامات: معالم الطرق بالنهار. انظر: "تفسير الطبري" ١٤/ ٩٢، وورد في "الدر المنثور" ٤/ ٢١٢، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(٢) في (أ)، (د): (لا)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح، وبه يستقيم الكلام.
(٣) الذي ورد عن مجاهد وإبراهيم، قالا: منها ما يكون علامة، ومنها ما يهتدى به. أخرجه الطبري (١٤/ ٩١، عنهما من طريقين، لكن هذا تفسير لـ ﴿وَعَلَامَاتٍ﴾، وليس لـ ﴿وَبِالنَّجْمِ﴾ كما في الطبري، وانظر: "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٥ ب.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٣، بنصه، وهو الأوْلَى من التخصيص الوارد في الأقوال التالية.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٨٣، قال: بالفرقدين والجدي. (الجدي): هو الكوكب الذي يتوخى الناس بها القبلة؛ لأنه لا يزول، وتُسَمّيه العرب: جدى بنات نعش. انظر: "الأزمنة والأمكنة" ص ٥٤٦.
(٦) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٥ب، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٣، والزمخشري ٢/ ٣٢٥، وابن الجوزي ٤/ ٤٣٦، والفخر الرازي ٢٠/ ١٠، والخازن ٣/ ١١٠. (الثريا): من الكواكب، سميت لغزارة نَوْئها [النوء: هو سقوط نجم بالغداة مع طلوع الفجر وطلوع آخر في حياله في تلك الساعة]، وقيل: سميت بذلك لكثرة كواكبها مع صغر مرْآتها، لا يتكلم بها إلا مصغرًا، وهو تصغير على =
36
الكلبي: يعني الفَرْقَدين والجَدْي (١)، وهو اختيار الفراء (٢)، ﴿همْ يَهْتَدُونَ﴾ أي إلى الطريق والقبلة في البر والبحر.
١٧ - قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ﴾ قال ابن عباس: يريد ما ذكر في هذه السورة، ومن يخلق هو الله عَزَّ وَجَلَّ، ﴿كَمَنْ لَا يَخْلُقُ﴾ يريد الأوثان؛ كقوله: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ﴾ الآية. [لقمان: ١١] وإنما قال: ﴿كَمَنْ لَا يَخْلُقُ﴾ للوثن لاقترانه في الذكر مع الخالق؛ كقوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ الآية [النور: ٤٥] قال الفراء: والعرب تقول: اشتَبه عليّ الراكبُ وجمله، فلا أدري مَنْ ذا ومنْ ذا؟ حيثُ جَمَعَها وأحدُهما إنسان؛ صَلحت (مَنْ) فيهما (٣)، وقيل: إنهم لما عبدوها ذُكرت بلفظ (مَنْ) (٤)؛ كقوله: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ﴾ الآية [الأعراف: ١٩٥]، وقد مر.
= جهة التكبير. (بنات نعش) سبعة كواكب؛ أربعة منها نَعْش؛ لأنها مُربعة، وثلاثةٌ بناتُ نعشٍ؛ الواحد ابنُ نَعْش؛ لأن الكواكب مذكر فيذكرونه على تذكيره، وإذا قالوا: ثلاث أو أربع، ذهبوا إلى البنات. انظر: "المحيط في اللغة" (نوأ) ١٠/ ٤١٩، و"الأزمنة والأمكنة" ص ١٣٩، ٥٤٧، و"اللسان" (نعش) ٧/ ٤٤٧٤، (ثرا) ١/ ٤٨٠.
(١) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٣٦، ورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣١، (الفرقدان) نجمان منيران في بنات نعش، يضرب بهما المثل في طول الصحبة في التساوي والتشاكل، وقيل: نجمان في السماء لا يغربان ولكنهما يطوفان بالجدي، وقيل: كوكبان في بنات نعش الصغرى. انظر: "اللسان" (فرقد) ٦/ ٣٤٠٢، "جنى الجنتين في تمييز نوعي المثنيين" ص ٨٦.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٩٨، بلفظه.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٩٨، بنصه، وانظر: "تفسير الطبري" ١٤/ ٩٣.
(٤) ذكر هذين القولين توجيهًا لاستخدام (منْ) وهي للعاقل كما يقول النحويون للتعبير بها عن غير العاقل؛ وهي الأصنام، وحقها (ما) عندهم؛ لأن الأصنام غير عاقلة.
وقوله: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد المشركين، يقول: أفلا تتعظون كما اتعظ المؤمنون (١)، قال أصحابنا: وهذه الآية دليل على أن الخالق واحد، وإنما يتميز الخالق من المخلوق بالقدرة على اختراع الخلق، فمن جعل نفسه خالقًا لأفعاله التي يفعلها فقد نصب نفسه خالقًا شريكًا لله في الخلق (٢)، وقال أهل التأويل: معنى هذه الآية: إنكار تشبيه من يخلق بمن لا يخلق بالتسوية بينهما في العبادة، كما (٣) لا يجوز أن يُسوّى بين من ينعم ومن لا ينعم في الشكر (٤).
١٨ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ ذكرنا تفسيره في سورة إبراهيم (٥)، وقال ابن عباس في هذه الآية: يريد أنّ نِعمي أكثر مما يُحصي أو يُعرف؛ منها ظاهر ومنها باطن.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ﴾ أي لِما منكم من تقصير شكر نعمه، ﴿رَحِيمٌ﴾: بكم حيث لم يُقصْها عنكم بتقصيركم.
٢٠ - وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ قراءة العامة بالتاء (٦)؛ لأن ما قبل هذه الآية كلها خطاب للكفار، وقرأ عاصم بالياء في: ﴿يَدْعُونَ﴾ (٧) إخبارًا
(١) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٨٣، بنحوه.
(٢) هذا ردّ على المعتزلة في زعمهم أن العباد خالقون لأفعالهم.
(٣) في جميع النسخ: (كمن)، وبالمثبت يستقيم الكلام.
(٤) ورد بمعناه في: "تفسير الطبري" ١٤/ ٩٢، وهود الهواري ٢/ ٣٦٣، والطوسي ٦/ ٣٦٨.
(٥) عند الآية [٣٤].
(٦) انظر: "السبعة" ص ٣٧١، و"علل القراءات" ١/ ٣٠٢، و"الحجة للقراء" ٥/ ٥٨، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٢٤، و"التيسير" ١٣٧.
(٧) المصادر السابقة.
عن المشركين الذين يعبدون الأصنام من دون الله، ثم وصفها.
٢١ - فقال: ﴿أَمْوَاتٌ﴾، قال الزجاج: أي وهم أموات (١)، وقال الفراء: وإن شئت رددت على أنه خبر للذين، كأنه قال: والذين تدعون من دون الله أموات، والأموات في هذا الموضع يعني بها أنها لاروح فيها (٢).
وقوله تعالى: ﴿غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ تأكيد (٣)؛ إذ قد يقال للحي هو كالميت في البعد من أن يعلم.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ قال ابن عباس: وذلك أن الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيتبرؤون من عابديهم، ثم يؤمر بالشياطين والذين كانوا يعبدونها إلى النار (٤)، وقال أبو إسحاق: أي وما يشعرون متى يبعثون، و ﴿أيَّانَ﴾ في موضع نصب بقوله: ﴿يُبْعَثُونَ﴾، ولكنه مبني غيرُ مُنَوَّن (٥) لأنه بمعنى الاستفهام، ولا يُعرب كما لا يُعرب متى وكيف وأين، إلا أن النون فتحت لالتقاء الساكنين (٦)، واختير الفتح على الكسر؛ لأن الفتح أشبه بالألف وأخف معها، وذكرنا معنى أيّان عند قوله: ﴿أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ [الأعراف: ١٨٧]، وقد تضمنت هذه الآية البيان عما تُوْجِبه صفة من ليس بحي من الامتناع أن يكون منه فعل، لاستحالة ذلك، ذكر الله ذلك في الآية الأولى؛ أن أصنامهم مخلوقة غير خالقة،
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٣، بلفظه.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٩٨، بنحوه.
(٣) ساقطة من (د).
(٤) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٣٨، والفخر الرازي ٢٠/ ١٦، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٩٤.
(٥) في (ش)، (ع): (معرب).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٣، بنصه.
وذكر في هذه الآية أنها مع كونها مخلوقةً مواتٌ غيرُ ذات روح وأنها مبعوثة، وهي لا تعلم متى وقت بعثها، وكل هذا يدل على جهل من عبدها أو أشركها بالله تعالى.
٢٢ - قوله تعالى: ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ مضى الكلام في هذا في سورة البقرة [١٦٢].
وقوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ الآية دخلت الفاء للإتباع دون العطف، ذكر الله تعالى دلائل وحدانيته ثم أخبر أنه واحد لا نظير له ولا كفء ولا شريك، ثم أتبع هذا إنكار الكفار وحدانيته، وقال: ﴿قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ﴾، أي: جاحدة غير عارفة ولا مُقِرَّة بالحق من توحيد الله، وقال ابن عباس: منكرة لهذا القرآن (١)، وذكرنا معنى الإنكار عند قوله: ﴿نَكِرَهُمْ﴾ في سورة هود [٧٠].
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾، أي: ممتنعون من قبول الحق، والاستكبار: الترفع بترك الإذعان للحق، قال ابن عباس: ﴿وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾: عن عبادة الله.
٢٣ - قوله: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ﴾ الآية، ذكرنا معنى لا جرم، والخلاف فيه في سورة هود عند) (٢) قوله ﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ [هود: ٢٢]، وليس يحتمل هاهنا من تلك الأقوال إلا قولًا واحدًا، وهو أن يكون بمعنى: حقًّا، وبهذا فسره ابن عباس (٣) واختاره الزجاج، فقال: حقًّا أن
(١) ورد غير منسوب في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٦٤.
(٢) في نسخة (أ) ما بين القوسين كتب على الهامش.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٨٤، وورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" ١٤/ ٩٤، والسمرقندى ٢/ ٢٣٢، والثعلبي ٢/ ١٥٥ ب.
الله (١)، ومذهبه في لا جرم في سورة هود غير هذا (٢)؛ فمعنى لا جرم هاهنا: تأكيدٌ وقَسمٌ ﴿أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾، وتأكيد ذلك تأكيد جزائهم؛ كأنه قيل: يجازيهم بما يسرون وما يعلنون؛ لأنه يعلم ذلك.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾، أي: لا يثيبهم ولا يمدحهم ولا يرضى عنهم (٣).
٢٤ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾، معنى أساطير الأولين ذكرناه في سورة الأنعام [٢٥]، قال ابن عباس: نزلت في النضر بن الحارث وأصحابه؛ كان خرج إلى الحِيرَة فاشترى أحاديث كَليلة ودِمنة وأساطير الأولين، وكان يقول: تعالوا أقرأ عليكم ما يقرأ محمد على أصحابه؛ أساطير الأولين (٤).
وقال أبو إسحاق في هذه الآية: (ما) مبتدأة و (ذا) في موضع الذي،
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٤، بنحوه.
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٦.
(٣) هذا من تأويلات الأشاعرة للصفات الفعلية لله تعالى، إذ صرفوا اللفظ عن ظاهره دون دليل أو حجة إلا شبهات واهية، فأولوا صفة المحبة: بالإثابة والمدح والرضى عنهم كما هنا، أو بالإحسان إليهم والتفضل بإعطاء الثواب أو إرادة الإنعام والإحسان. أما مذهب أهل الحق: فيثبتون صفة المحبة الله تعالى إثباتًا حقيقيًا على وجه يليق بجلاله وعظمته، كما أنهم يثبتون معه لازم المحبة؛ وهي إرداته سبحانه إكرام من يحبه وإثابته، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له، وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء -عليه السلام-. انظر: "مجموع الفتاوى" ٢/ ٣٥٤، و"مدارج السالكين" ٣/ ١٨، و"أقاويل الحقات في تأويل الأسماء والصفات" ص ٧٧، و"شرح العقيدة الواسطية" للهراس ص ٥٣.
(٤) انظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٣٩٧. و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٩٥، ورد فيهما بلا نسبة.
41
المعنى: ما الذي أنزل ربكم؟ وأساطير مرفوعة على الجواب؛ كأنهم قالوا: الذي أَنْزَلَ أساطيرُ الأولين؛ الذي يذكرون أنه منزلٌ أساطيرُ الأولين، أي أكاذيبهم (١)، وشرح أبو علي هذا فقال: رُفِعَ الأساطيرُ؛ لأن ذا بعد (٢) ما بمنزلة الذي (٣)، ولم يُجعل معها بمنزلة اسم واحد، فكأنه قال: ما الذي أنزل ربكم؟ فقيل: أساطير الأولين، أي الذي أنزله أساطير الأولين، فَيُضَم المبتدأ الذي كان خبرًا في سؤال السائل، على هذا يرتفع الأساطير في قول سيبويه (٤)، قال: وروي عن أبي زيد وغيره من النحويين أنهم قالوا: لم يُقِرُّوا بإنزال الله لذلك، فكأنهم لم يجعلوا أساطير الأولين خبر الذي أنزل، وعلى هذا يرتفع الأساطير بخبر ابتداء محذوف؛ كأنه قيل الذي يعنون والذي يسألون عنه أساطير الأولين، فحذف المبتدأ لدلالة ما في السؤال عليه (٥)، ووجه قول سيبويه: إذا جعلت أساطير الأولين خبر (ذا) الذي هو بمعنى الذي في قوله: ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾ أن يكون المعنى: الذي أنزله ربكم عندكم وفي قولكم أساطير الأولين؛ كما جاء: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ [الزخرف: ٤٩]، وكما قالوا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾ [الحجر: ٦]، أي: عنده وعند من تبعه، فيمكن أن يُجعلَ
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٤، بنحوه.
(٢) في (د): (بمعنى).
(٣) انظر: "رصف المباني" ص ٢٦٥، و"الجنى الداني" ص ٢٣٩.
(٤) "الكتاب" ٢/ ٤١٩، وانظر: "المسائل البغداديات" ص ٣٧١ - ٣٧٢.
(٥) لم أقف على مصدره، وورد نحوًا من هذا التوجيه في "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢٠٨، و"مشكل إعراب القرآن" ٢/ ١٣، و"البيان في غريب إعراب القرآن" ٢/ ٧٧، و"الإملاء" ٢/ ٧٩، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٢٢.
42
الأساطيرُ خبر من غير أن يُقِرُّوا بالإنزال على الوجه الذي ذكرنا، وهذا معني قول أبي إسحاق، أي الذي يذكرون أنه منزل أساطير الأولين.
٢٥ - قوله تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ﴾ الآية، اللام في ﴿لِيَحْمِلُوا﴾ لام العاقبة، وهم لم يقولوا للقرآن: أساطير الأولين، ليحملوا الأوزار؛ ولكن لما كانت عاقبتهم ذلك بهذا القول، جاز أن يقال: فعلوا ذلك له؛ كقوله عز وجل: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: ٨]، وهم لم يلتقطوا لذلك، وكما قال النابغة:
جاءت لِتُطعِمَه لحمًا ويَفْجعها بابن فقد أطعمتْ لحمًا وقد فَجعا (١)
يعني بقرًا جاءت مع عجلها للرعي، فوقع الذئب على عجلها فأكله، فزعم أنها جاءت لذلك، وهي لم تجئ له.
قوله تعالى: ﴿كَامِلَةٌ﴾، قال صاحب النظم: أي أن غيرهم لا يحمل عنهم من أوزارهم شيئًا، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم لا يُكفَّر عنهم شيء من ذنوبهم بما يصيبهم في الدنيا من نكبة وبلية كالمؤمنين (٢)؛ لأنهم (٣) كفار، فهم يرِدون الآخرة بما اكتسبوا من الآثام كلها.
(١) لم أجده في "ديوان النابغة"؛ لا الجعدي ولا الذبياني، ولم أقف عليه في المصادر.
(٢) في هذا المعنى روى البخاري (٥٦٤١)، (٥٦٤٢) في المرض، باب ما جاء في كفارة المرض، ومسلم (٢٥٧٣) في البر والصلة والآداب، ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما يصبب المؤمن من نصبٍ ولا وصب، ولا همّ ولا حزَن، ولا أذى ولا غمّ، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفَّرَ الله بها من خطاياه"
(٣) في (د): (فإنهم).
43
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ﴾ لأنهم كانوا رؤساء، فلما قالوا في القرآن: إنه أساطير الأولين، اقْتُدي بهم فيه، فحُمل عليهم من أوزارهم، يبين هذا ما روي أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيّما داعٍ دعا إلى ضلالة فاتُّبع فإن عليه أوزارَ من اتَّبَعه، من غير أن يَنقصَ من أوزارهم شيء" (١).
فهؤلاء لمّا كانوا دعاةَ الضلالة، حُمِّلوا من أوزار من اتبعهم.
و (من) في قوله: ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ﴾ ليست للتبعيض؛ لأنها لو كانت للتبعيض لخفَّ عن الأَتْبَاعِ بعضُ أوزارهم يحمل الرؤساء ذلك، ولكنها للجنس، أي ليحملوا من جنس أوزار الأتباع، وإنما ذلك لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"، ولو جعلنا المحمولَ من أوزار الأتباع نقصت أوزارهم، فليس يأتي التابعُ بجنس من الذنب في ضلالته إلا وعلى المتبوع مثلُ ذلك، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "فإن عليه مثل أوزار من اتبعه".
وقوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾، أي: بجهل، يريد أن هؤلاء المتبوعين
(١) أخرجه ابن ماجه (٢٠٥) المقدمة، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة بنصه عن أنس، والطبري ١٤/ ٩٦ بنصه، وورد في "تفسير الرازي" ٢٠/ ١٨، و"القرطبي" ١٣/ ٣٣١، و"الدر المنثور" ٧/ ٢١٤ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، والجامع الصغير للألباني (٢٧١٢)، وقد ورد برواية: "من دعا.. ، وبرواية: "من سن سنة.. " في: مسند أحمد ٢/ ٣٩٧، ٤/ ٣٦١، وصحيح مسلم (٢٦٧٤) في العلم، باب: من سن سنة حسنة وما بعدها، والترمذي (٢٦٧٤) في العلم، باب: ما جاء فيمن دعا إلى الهدى فاتبع أو إلى ضلالة ٥/ ٤٣، والنسائي بالرواية الثانية: الزكاة، التحريض على الصدقة ٥/ ٧٥، وسنن ابن ماجه. المقدمة، من سن سنة (٢٠٦).
44
يُضِلّون من اتبعهم جهلًا منهم بما يفعلون من احتقاب (١) أوزارهم ومثل أوزار من اتبعهم، ثم ذم الله صنيعهم فقال: ﴿أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾، ومضى تفسير هذا وتفسير الوزر عند قوله: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِم﴾ الآية [الأنعام: ٣١].
٢٦ - قوله تعالى: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ قال جماعة المفسرين: يعني نمرود بن كنعان، بَنَى صرحًا طويلًا ورام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها (٢). ومعنى المكر هاهنا: التدبيرُ الفاسد؛ روى ثعلب
(١) أصلها حقب، يقال: حقب البعير واحتقب حقبًا: احتبس بوله وتَعَسَّر عليه، وحَقِب العام: احتبس مطرُه، واحتقبَ الشيءَ: ادَّخره، وكذلك: احتمله، وهو المقصود هناك. انظر: (حقب) في "تهذيب اللغة" ١/ ٨٧٣، و"المحيط في اللغة" ٢/ ٣٦٣، و"اللسان" ٢/ ٩٣٧، و"معجم متن اللغة" ٢/ ١٢٩.
(٢) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٤٦، و"مقاتل" ١/ ٢٠١ ب، وأخرجه الطبري (٧/ ٥٧٦) عن ابن عباس والسدي وزيد بن أسلم، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٣، والثعلبي ٢/ ١٥٥ ب، والماوردي (٣/ ١٨٥، والطوسي ٦/ ٣٧٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٦، والزمخشري ٢/ ٣٢٦، وابن عطية ٨/ ٣٩٩، وابن الجوزي ٤/ ٤٣٩، و"الرازي" ٢٠/ ٢٠، و"القرطبي" ١٠/ ٩٧، والخازن ٣/ ١١٢، و"الدر المنثور" ٤/ ٢١٨، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وتخصيص الآية على النمرود وأصحابه فيه نظر، لأنه ليس في الآية ما يدل على ذلك، لكنهم اعتبروا أن المشار إليهم في هذه الآية هم المذكورون في سورة إبراهيم في قوله: ﴿وقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾، كما ذكر الطبري؛ وحتى بهذا الاعتبار، لا يسلم لهم، فقد عرفنا موقف العلماء من هذه القصة؛ التضعيف والرد والإنكار، وأغلب الظن أنها إسرائيلية، ومما يؤكده رواية كعب لها، وهو من مصادر الإسرائيليات، ولا يقال: إن الرواية هنا ثبتت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وقوله معتبر، وهو كذلك عند ورودها عن الطرق الصحيحة، والرواية التي أوردها الطبري جاءت من طريق العوفي، وهي طريق غير مرضية، فلا يعتد بها، ولا يعتمد عليها، وقد أشار ابن عطية إلى التعميم بقوله: وقالت فرقة أخرى: المراد به جميع من كافر من الأمم المتقدمة ومكر، ونزلت له عقوبةُ من الله تعالى، وهو ما رجحه الفخر الرازي، والخازن انظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٠٠، والفخر الرازي ٢٠/ ٢٠، والخارن ٣/ ١١٢.
45
عن ابن الأعرابي في قوله: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا﴾ [النمل: ٥٠] قال: دبروا (١)، والمراد في هذه الآية (٢) تدبيره في بناء الصرح لقتال أهل السماء.
وقوله تعالي: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ﴾، أي: أتى أمرُ الله، وهي الريح التي خربتها وحركتها، وهو ما ذكر المفسرون؛ أن الله تعالى أرسل ريحًا فألقت رأس الصرح في البحر وخَرَّ عليهم الباقي (٣)، فأمْرُ الله الذي أتى البنيان يجوز أن يكون الريح، ويجوز أن يكون أمره للبنيان بالانهدام، فالآية من باب حذف المضاف؛ وحذف المضاف هاهنا للتهويل والتعظيم، وقد سبق بيان هذا في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢١٠]، والبنيان اسم للبناء.
وقوله تعالى: ﴿مِنَ الْقَوَاعِدِ﴾ قال أبو إسحاق: أي من أساطين البناء التي تَعْمِده (٤)، وذكرنا معنى القواعد للبناء في سورة البقرة [١٢٧].
وقوله تعالى: ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾، أي: سقط عليهم البيوت؛ على أصحاب نمرود (٥)، وذِكْر ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ ليدل أنهم كانوا تحته، إذ (٦) يقول القائل: تهدمت عليّ المنازل، ولم يكن تحتها، هذا قول
(١) لم أقف عليه.
(٢) في (أ): (الأمة) والمثبت هو الصحيح، كما في باقي النسخ.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٦، عن كعب ومقاتل، والزمخشري ٢/ ٣٢٦، وابن عطية ٨/ ٣٩٩، وابن الجوزي ٤/ ٤٤٠، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٩٧، والخازن ٣/ ١١٢، فيهما عن كعب ومقاتل.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٥، بنصه.
(٥) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ٢/ ٣٥٥ بمعناه عن قتادة، والطبري ١٤/ ٩٧ - ٩٨ بمعناه عن قتادة ومجاهد ورجحه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٦٣، عن مجاهد، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٦ أ، بنحوه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٨٥.
(٦) في جميع النسخ: (إذا)، والمثبت هو الصحيح المناسب للسياق.
46
ابن الأنباري، قال: والعرب تقول: تداعت علينا الدار، وخَرِب علينا الحانوت، وإن لم يكونوا تحته (١)، ويجوز أن يكون للتأكيد.
وقوله تعالى: ﴿وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾، أي: من حيث ظنوا أنهم منه في أمان، وقال عطاء عن ابن عباس: يريد بالبعوضة؛ يعني التي أهلك بها نمرود (٢).
٢٧ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِم﴾، معنى الإخزاء ذكرنا عند قوله: ﴿إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ [آل عمران: ١٩٢].
وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ﴾ قال الزجاج: شركائي حكايته لقولهم، والله لا شريك له، والمعنى: أين الذين في دعواكم أنهم شركائي (٣).
قال أبو علي: سبحانه لم يثبت بهذا الكلام له شريكًا، وإنما أُضيف على حسب ما كانوا يقولونه وينسبونه، وكما أُضيفت هذه الإضافة كذلك أضيفت إليهم في قوله: ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام: ٢٢]، وفي أخرى: ﴿وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ [يونس: ٢٨]، فإنما أُضيفوا هذه الإضافة على حسب ما كانوا يسمونه ويعتقدونه فيهم؛ كقوله: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ [الزخرف: ٤٩]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦]، وقد تقع الإضافة لبعض الملابسة دون التحقيق،
(١) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٤١.
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٩٨، وهذا تخصيص بلا دليل، فضلاً أن هذه الطريق إلى ابن عباس منقطعة.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٥، بنصه.
47
كقول الشاعر (١):
إذا قُلْتُ قَدْني قَال باللهِ حَلْفَةً لَتُغْنيَ عَنِّي ذا إنائِكَ أَجْمَعَا (٢)
فأضاف الإناء إليه لشربه منه، والإناء في الحقيقة لمن سقى به دون من شرب منه، وهذا كما يقول لمن يحمل خشبة ونحوها: خذ طَرَفَكَ وآخذ طَرَفي، فتَنْسِبُ إليه الطرف الذي يليه كم تنسب إلى نفسك الطرف الذي يليك، فعلى هذا تجري الإضافة في قوله: ﴿شُرَكَائِيَ﴾ (٣)، ومعنى: ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ﴾ أي: أين هم لا يحضرونكم فيدفعوا عنكم العذاب.
وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ﴾ قال ابن عباس: تخالفون (٤).
قال أهل المعاني: معناه يكونون في أمر الشركاء في جانب والمسلمون في جانب، لا يكونون معهم يدًا واحدة (٥)؛ يخالفونهم فيها
(١) هو حُريث بن عَنّاب الطائي، من شعراء الدولة الأموية (ت ٨٠ هـ).
(٢) ورد في: "شرح شواهد المغني" (٢/ ٥٥٨) برواية:
إذا قال قدني قلت آليت حلفة
وفي "الخزانة" ١١/ ٤٣٤، برواية: (قطني) بدل (قدني)، والمعنى واحد، معناه: حسبي، و"الدر" ٤/ ٢١٧، برواية: (قيل) بدل (قلت)، وورد غير منسوب في "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٥٥٧، و"إيضاح الشعر" ص ٢١٤، و "تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٠٢، و"شرح المفصل" ٣/ ٨ برواية: إذا قال، و"المقرب" ٢/ ٧٧ برواية: إذا هو آلى، و"الدر المصون" ٥/ ١١٨، و"مغني اللبيب" ص ٢٧٨، و"همع الهوامع" ٤/ ٢٤٢، والمعنى: اشرب جميع ما في الإناء ولا تردّه عليّ.
(٣) "الحجة للقراء" ٥/ ٦١، بتصرف يسير.
(٤) أخرجه الطبري ١٤/ ٩٨ بلفظه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢١٨ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٥) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٥٩، بنحوه.
48
فيعبدونهما ولا يعبدون الله، وقرأ نافع بكسر النون (١).
ووجهه ما ذكرنا في قوله: ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر: ٥٤] المعنى على هذه القراءة ما رواه عطاء عن ابن عباس، قال: يريد تنازعوني فيهم وتتخذونهم أولياء من دوني، وعلى هذا معنى مخالفتهم الله في الشركاء (٢) مخالفتهم أمر الله؛ كما ذكرنا في قوله: ﴿شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الأنفال: ١٣٠].
وقوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ قال ابن عباس: يريد الملائكة (٣)، وقال آخرون: هم المؤمنون (٤)؛ يقولون حين خزى الكفار في القيامة: ﴿إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ﴾: عليهم لا علينا.
٢٨ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي﴾ ذكرنا معنى هذا في سورة النساء.
(١) أي: ﴿تُشاقُّونِ﴾ مع الكسر التخفيف. انظر: "السبعة" ص ٣٧١، و"علل القراءات" ١/ ٣٠٣، و"الحجة للقراء" ٥/ ٥٩، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٤، و"التيسير" ص ١٣٧، و"المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧٣٤.
(٢) في (أ)، (د): (الشرع)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو المناسب للسياق والمعنى.
(٣) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٤١، والفخر الرازي ٢٠/ ٢٠، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٩٨، و"تنوير المقباس" ص ٢٨٤، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٣، والزمخشري ٢/ ٣٢٧، وابن عطية ٨/ ٤٠٢، والخازن ٣/ ١١٢، وهذا التفسير فيه نظر؛ فالملاحظ أن القرآن يصف البشر بالعلم لا الملائكة، كما في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١]، وقوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ١٨]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ﴾ [الإسراء: ١٠٧].
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٦، وابن عطية ٨/ ٤٠٢، وابن الجوزي ٤/ ٤٤١، والفخر الرازي ٢٠/ ٢٠، والقرطبي ١٠/ ٩٨، والخازن ٣/ ١١٢.
وقوله تعالى: ﴿فَأَلْقَوُا السَّلَمَ﴾ قال ابن عباس: استسلموا وأقروا لله بالربوبية (١)، وقال السدّي: انقادوا واستسلموا عند الموت (٢).
قال الزجاج: ذكر السَّلَمَ، وهو الصلح، بإزاء المشاقة (٣)، يريد أن الله تعالى أخبر عنهم بالمشاقة في الدنيا، فأخبر أنهم عند الموت ينقادون ويتبرؤون من الشرك، كما ذكره ابن عباس.
وقوله تعالى: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾ أي قالوا: ما كنا نعمل من سوء، قال ابن عباس: يريد الشرك (٤)، فقالت الملائكة ردًّا عليهم وتكذيبًا لهم: ﴿بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [من التكذيب والشرك، ومعنى (بلى): رد لقولهم ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾، وقد ذكرنا معنى (بلى)] (٥) عند قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢١٠].
٢٩ - وقوله تعالى: ﴿فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد مقام المتكبرين عن التوحيد وعبادة الله عز وجل (٦)، كقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الصافات: ٣٥].
(١) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٠، وورد بنحوه غير منسوب في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٦٤، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٩٩.
(٢) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الطبري" ١٤/ ٩٩، والسمرقندي ٢/ ٢٣٣، والثعلبي ٢/ ١٥٦ أ، والبغوي ٥/ ١٧.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٥، بنحوه.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٨٤، بنحوه، وورد نحوه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٣، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٨٦، والبغوي ٥/ ١٧، وابن عطية ٨/ ٤٠٤ وابن الجوزي ٤/ ٤٤٣، والفخر الرازي ٢٠/ ٢١، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٩٩.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (د).
(٦) ورد نحوه غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٢ أ، والطبري ١٤/ ٩٩ بمعناه غير منسوب، والفخر الرازي ٢٠/ ٢٠، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٠٠.
٣٠ - قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ قال ابن عباس: يريد الذين خافوا الله وصدقوا نَبِيَّه وأيقنوا أنه لا إله غيره، ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾ قال المفسرون: هذا كان في أيام المواسم، يأتي الرجل مكة فيَسأل المشركين عن محمد وأمره، فيقولون: إنه ساحر وكاهن وكذاب، (فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وما أتى به من الكتاب وما أنزل الله عليه، فيقول) (١) المؤمنون خيرًا (٢)، قال ابن عباس: يريد ثوابًا؛ يعني أنهم إذا سُئلوا عن ما أنزل الله على محمد، قالوا: أنزل عليه الخير عن ثواب المحسن، فقالوا: أنزل ثوابًا، أي ذِكْرَه، ولهذا نصب خيرًا؛ لأنه على معنى أنزل خيرًا، ويكون هذا على أن (ما) و (ذا) كالشيء الواحد، والمعنى: أيُّ شيءٍ أنزل؟ ﴿قَالُوا خَيْرًا﴾ على جواب ماذا، أي: أنزل خيرًا، ثم فَسَّرَ ذلك الخير؛ فقال: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة﴾ قال ابن عباس: يريد: قالوا: لا إله إلا الله (٣)، وهذا على أن قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ إخبارًا عن الله تعالى، أخبر أن من أحسن في الدنيا فله جزاء ذلك عند الله حسنة، قال ابن عباس: يريد مضعفة بعشر (٤)، ودلّ بهذا على أن الذي قاله المؤمنون (٥)
(١) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).
(٢) "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٢ أ، بنحوه، والثعلبي ٢/ ١٥٦ أ، بنحوه، وانظر: الزمخشري ٢/ ٣٢٧، وابن الجوزي ٤/ ٤٤٣، والفخر الرازي ٢٠/ ٢٣، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٠٠، والخازن ٣/ ١١٣.
(٣) ورد غير منسوب في "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٤٣.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٧، بنحوه، وورد غير منسوب في "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٤.
(٥) في جميع النسخ: (للمؤمنين)، وهو خطأ أدى إلى اضطراب المعنى، وبالمثبت يستقيم الكلام، ويؤيده ما ورد في المصدر.
اكتسبوا به حسنة، والوجهان ذكرهما أبو إسحاق (١).
وقوله تعالى: ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ﴾ يعني الجنة، ومضى الكلام في هذا في سورة الأنعام [٣٢].
وقوله تعالى: ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾، أي: ولَنِعْمَ دارُ المتقين دار الآخرة، فحذفت لسبق ذكرها، هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها، [وإن جعلتها متصلة] (٢) قلت: ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ فترفع جنات على أنها اسم لنعم؛ كما تقول: نعم الدار دار ينزلها.
٣١ - قوله تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ ذكرنا وجهَ ارتفاعها إن كانت موصولة، وإن كانت مقطوعة، فقال الزجاج: جنات مرفوعة بإضمار هي؛ كأنك لمّا قلت: ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾، قيل: أي دار هذه الممدوحة؟ فقلت على جواب السائل: جنات عَدْن، أي هي جناتُ عَدْن (٣)، وإن شئت رفعتها على الاستئناف وجعلت يدخلونها الخبر، هذا قول الفراء (٤)، وعند الزجاج: يجوز أن يكون الخبر نِعم دار المتقين؛ لأنه قال: وان شئت رفعت على الابتداء، ويكون المعنى: جناتُ عَدْنٍ نِعْمَ دارُ المتقين (٥).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٦، بتصرف. وذكر الزمخشري قولاً ثالثاً، هو: أن "للذين أحسنوا" وما بعده بدل من خيرًا، حكايته لقول الذين اتقوا، أي قالوا هذا القول، فقدم عليه تسميته خيرًا ثم حكاه. "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٢٧، وعلى القول الأول والثالث تكون ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ من كلام المؤمنين، وعلى الثاني تكون من كلام الله؛ كلامًا مستأنفًا.
(٢) زيادة يقتضيها السياق ليستقيم الكلام.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٦، بتصرف يسير.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٩٩، بنحوه.
(٥) "معانى القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٦، بنصه.
٣٢ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ الذين في موضع نصب؛ لأنه صفة المتقين في قوله: ﴿كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ﴾.
قولى تعالى: ﴿طَيِّبِينَ﴾، أي: بأعمالهم الصالحة، خلاف من يتوفاهم خبيثين بأعمالهم القبيحة، قال الكلبي: طيبين من الشرك (١)، وقال مجاهد: زاكية أفعالهم وأقوالهم (٢).
٣٣، ٣٤ - قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ نظير هذه الآية في سورة البقرة [آية: ٢١٠]، وآخر سورة الأنعام [آية: ١٥٨]، وقد مر، والمعنى: هل ينظرون إلا الموت؛ لأن الملائكة إنما تأتيهم لقبض أرواحهم، ﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ قال ابن عباس: يريد القتل وغيره، وقال قتادة ومجاهد: يعني القيامة (٣).
وقال الزجاج: ما وعدهم الله به من عذابه (٤).
قال صاحب النظم: إنهم لا ينتظرون ذلك على الحقيقة؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالله، كيف ينتظرون أمره؟! ولكن لمّا كان امتناعهم من الدخول في الإيمان موجبًا عليهم إتيان أمر الله والملائكة بما قدّر عليهم من العذاب، وكان عاقبة أمرهم إلى ذلك، أضيف ذلك إليهم على المجاز والسعة، وجعل
(١) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير البغوي" ٥/ ١٧، وابن الجوزي ٤/ ٤٤٣، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٠١، والخازن ٣/ ١١٣، و"تنوير المقباس" ص ٢٨٥، و"الشوكاني" ٣/ ٢٢٩، والألوسي ١٤/ ١٣٣، وصديق خان ٧/ ٢٣٦.
(٢) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٦ أ، بلفظه، وانظر: البغوي ٥/ ١٧، والخازن ٣/ ١١٣، والألوسي ١٤/ ١٣٣، وورد غير منسوب في "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٤٣، و"القرطبي" ١٠/ ١٠١، و"الشوكاني" ٣/ ٢٣٠، وصديق خان ٧/ ٢٣٦.
(٣) أخرج الطبري ١٤/ ١٠٢ بلفظه عنهما من طريقين، وورد غير منسوب في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٦ أ، والبغوي ٥/ ١٨، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٠٢، والخازن ٣/ ١١٣.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٦، بنصه.
مجيء ذلك انتظارًا منهم له؛ فكأنه عز وجل قال: هل يكون مدة إقامتهم على كفرهم إلا مقدار إيقاعي بهم وإنزالي العذاب عليهم، وهذا كما قلنا في لام العاقبة في مواضع، لمّا كانت العاقبة تؤدي إلى ذلك جُعل سببًا له وإن لم يكن في الحقيقة كذلك؛ كقوله: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا﴾ الآية [القصص: ٨]، وقد مر (١)، وهذا الذي ذكره صاحب النظم وجه جيد في هذه الآية لم يذكره في نظيرها في سورة البقرة والأنعام.
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ يريد كفار الأمم الماضية، وفي الآية حذف على قول الزجاج؛ لأنه قال: أي كذلك فعلوا فأتاهم أمرُ الله بالعذاب (٢)، ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾: بتعذيبهم ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾: بإقامتهم على الشرك وكفران ما أنعم الله عليهم، وإن شئت حملت الكلام على التقديم والتأخير فقلت: التقدير: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، ﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾ الآية، ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ الآية، وهو قول ابن عباس: يريد جزاء ما عملوا من الشرك (٣)، ﴿وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾: من العذاب والنقمة.
٣٥ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ يعني أهل مكة، ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾: من البحيرة (٤) والسائبة (٥) وسائر ما
(١) في تفسير الآية [٢٥] من هذه السورة.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٧، بنصه.
(٣) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٤٥، و"تنوير المقباس" ص ٢٨٥، بنحوه.
(٤) وردت فيها عدةُ أقوال؛ قال سعيد بن جبير: هي التي يمنح دَرُّها للطواغيت، فلا يحتلبها أحدٌ من الناس، وقيل: هي ناقة كانت إذا نُتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرًا، شقُّوا أذنها وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولا تطرد عن ماءٍ ولا تمنع من مرْعى، وقيل غير ذلك. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٣، و"تفسير المُشْكِل" ص ١٥٦، و"تفسير القرطبي" ٦/ ٣٣٥.
(٥) فيها أقوال كذلك، قال سعيد بن المسيب: هي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم، =
حرموا، نظير هذه الآية في سورة الأنعام [آية: ١٤٨]، ومضى الكلام هناك مستقصى، على أن أبا إسحاق قال هاهنا: إن المشركين قالوا هذا على جهة الهزء؛ كما قال قوم شعيب له: ﴿إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ [هود: ٨٧]، ولو قالوا هذا معتقدين لكانوا مؤمنين ولكنهم قالوا مستهزئين، وكذلك هؤلاء لو قالوا مُحَقِّقِينَ، ما قيل: إنهم مكذبون، كما كَذَّب الذين من قبلهم (١)، وهو قوله: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، أي: من تكذيب الرسل وتحريم ما أحل الله، قال ابن عباس: يريد عمرو بنَ لُحَيٍّ وأصحابَه (٢)، ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ قال: يريد: قد بَلَّغْتَ رسالتي وبَلَّغَ مَن قبلك، يعني ليس عليهم إلا التبليغ، فأما الهداية فهو إلى الله تعالى؛ يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وقد حَقَّقت هذا فيما بعد، وهو:
٣٦ - قوله: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا﴾، يعني كما بعثناك في هؤلاء، ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ تعالى، أي: بعبادة الله تعالى، والتقدير: بأن اعبدوا الله، فحذف الجار، ﴿وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾، أي: الشيطانَ وكلَّ من يدعو إلى الضلالة، ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ﴾: أرشده، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ
= وقال الزجاج: كان الرجل إذا نذر لقدوم من سفر أو برء من علة أو ما أشبه ذلك، قال: ناقتي هذه سائبة، فكانت كالبحيرة؛ في أن لا ينتفع بها وأن لا تُجْلى عن ماءٍ، ولا تمنع من مرعى. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٣، و"تفسير المُشْكِل" ص ١٥٦، و"تفسير القرطبي" ٦/ ٣٣٥.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٧، بتصرف واختصار.
(٢) تخصيص الآية بعمرو بن لحي وأصحابه لا دليل عليه، وحمل الآية على العموم أولى، إلا أن يراد به التمثيل فيكون مقبولاً، وأغلب الظن أنه نُسب إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- من الطرق الضعيفة.
عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} قال ابن عباس: يريد في سابق علمي (١).
وقال الزجاج: أعلم اللهُ أنه بَعَثَ الرسلَ بالأمر بالعبادة، وهو من وراء الإضلال والهداية، وهذا يدل على أنهم لو قالوا: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا﴾ الآية، معتقدين لكانوا صادقين (٢)، ومعنى ﴿حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾: وجب عليهم الكفر، كما قال: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾ [الأعراف: ٣٠]، وكقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ٩٦]، ثم قال: ﴿فَسِيرُوا﴾ الآية، أي: فسيروا معتبرين في الأرض بآثار الأمم المكذبة، فتعرفوا أن العذاب بإزائكم كما نزل بهم، ثم أكد أن من حقَّت عليه الضلالة لا يهتدي.
٣٧ - فقال -عز من قائل-: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ﴾ أي إن تطلب بجهدك ذلك، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾، أي: من يُضلُّه، فالراجع إلى الموصول الذي هو (مَنْ) محذوف مقدر (٣)، وهذا كقوله: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ﴾ [الأعراف: ١٨٦]، وكقوله: ﴿فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ﴾ [الجاثية: ٢٣]، أي: من بعد إضلال الله إياه (٤)، وقرأ أهل الكوفة يَهْدِي بفتح الياء (٥)،
(١) انظر: تفسيره "الوسيط"، تحقيق سيسي ٢/ ٣٩٣، وورد بلا نسبة في "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٤٦، وورد بمعناه بلا نسبة في "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٩، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٠٤، والخازن ٣/ ١١٤.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٨، بتصرف يسير.
(٣) وهو الهاء المحذوفة، وتَقْديره: (يضلُّه).
(٤) انظر: "الحجة للقراء" ٥/ ٦٤، بنحوه.
(٥) وهم عاصم وحمزة والكسائي، انظر: "السبعة" ص ٣٧٢، و"علل القراءات" ١/ ٣٠٥، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٥٣، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٤، و"التيسير" ص ١٣٧، و"النشر" ص ٢/ ٣٠٤، قال الأزهري في "علل =
56
وهو يحتمل وجهين: (١)
أحدهما: أن المعنى فإن الله لا يُرْشد من أضله، وبهذا فَسَّره ابن عباس (٢).
والثاني: أنّ يَهْدِي بمعنى يَهْتَدي، قال الفراء: والعرب تقول: قد هَدَّي الرجلُ؛ يريدون قد اهتدى، ومثله قوله: ﴿أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾ (٣) [يونس: ٣٥]، قال ابنُ مجاهد (٤): ولم يختلفوا في ﴿يُضِلُّ﴾ أنه مضومُ الياء (٥).
= القراءات" وغيره: ومن قرأ (لا يُهْدَى) [وهم: ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر]، فالمعنى: لا يُهْدى أحدٌ يُضله الله، وهذا نظير قوله جل وعز: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ﴾، وقد اختار الطبري هذه القراءة ورجح هذا المعنى، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. انظر: "تفسير الطبري" ١٤/ ١٠٤، والثعلبي ٢/ ١٥٦ ب، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٠٤.
(١) ذكرهما الثعلبي ٢/ ١٥٦ ب، بنحوه، وذكرهما ابن الجوزي ونسبهما إلى ابن الأنباري. "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٤٦.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٣٠، وورد غير منسوب في "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٠٤.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٩٩، بنصه.
(٤) أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس التميمي البغدادي، المشهور بابن مجاهد، شيخ القراءات وأول من سبّع السبعة، ولد سنة (٢٤٥ هـ)، قرأ على عبد الرحمن بن قدوس عشرين ختمة، وعلى قُنْبُل المكي، وسمع القراءات من طائفة كبيرة، تصدَّر للإقراء وازدحم عليه أهل الأداء، ورُحِل إليه، قرأ عليه: صالح بن إدريس وأبو الفرج الشَّنَبُوذي، صنَّف كتابه المشهور: "السبعة في القراءات"، مات سنة (٣٢٤ هـ). انظر: "الفهرست" ص ٥٢، و"معرفة القراء الكبار" ١/ ٢٦٩، و"غاية النهاية" ١/ ١٣٩.
(٥) "السبعة" ص ٣٧٢، بنحوه، وزاد: مكسورة الضاد.
57
٣٨ - قوله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ مضى الكلام في هذا في سورة الأنعام [١٠٩]، قال ابن عباس: أغلظوا في الأيمان تكذيبًا منهم بقدرة الله على البعث بعد الموت (١)، فقال الله تعالى ردًّا عليهم: ﴿بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾، أي: لَيَبْعَثَنَّهم وعدًا عليه حقًّا، وهو مصدر مؤكد؛ أي وعدَ البعثِ وعدًا حقًّا لا خُلْفَ فيه؛ لأنه إذا قال يبعثهم دَلَّ على وعدٍ بالبعث وعدًا.
٣٩ - قوله تعالى: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ من أمر البعث، واختلافهم فيه: ذهابهم إلى خلاف ما ذهب إليه المؤمنون، واللام في قوله: ﴿لِيُبَيِّنَ﴾ متعلقة بالبعث، المعنى: بلى يبعثهم ليبين لهم، قال الزجاج: ويجوز أن تكون متعلقة بقوله: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا﴾، (ويكون المعنى: بعثنا في كل أمة رسولاً) (٢)؛ ليبين لهم اختلافهم وأنهم كانوا من قبله على ضلالة (٣)، فعلى هذا لا يعود البيان إلى بيان البعث، وعلى القول الأول: يعود إلى بيان البعث بعد الموت، وهو قول ابن عباس (٤)؛ لأنه قال: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾: بهذا الوعد الذي قال: ﴿وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾، ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ﴾: فيما أقسموا فيه.
(١) انظر: تفسيره "الوسيط"، تحقيق سيسي ٢/ ٣٩٤، وورد بلا نسبة في "تفسير ابن كثير" ٢/ ٦٢٧.
(٢) ما بين القوسين ساقط من (ش)، (ع).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٨، بنحوه.
(٤) لم أقف عليه، وورد هذا المعنى في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٦٦، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٦، والثعلبي ٢/ ١٥٦ ب.
٤٠ - قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ﴾ الآية. قال ابن عباس: أخبر بقدرته وقوته، يريد ليس كما يتكلف المخلوقون من الأعوان والاله أمر الله أوحى من ذلك (١). وقال الزجاج: أعلمهم الله سهولة خلق الأشياء عليه، فأعلم أنه متى أراد الشيء كان (٢).
قال ابن الأنباري: وقع اسم الشيء على المعلوم عند الله عز وجل قبل الخلق؛ لأنه بمنزلة ما قد عوين وشوهد (٣).
قال الفراء: القول مرفوع بقوله: ﴿أَنْ نَقُولَ﴾ كما تقول: إنما قولنا الحق، هذا كلامه (٤)، وبيانه ما ذكره الزجاج، فقال: ﴿قَوْلُنَا﴾ رفع بالابتداء وخبره: ﴿أَنْ نَقُولَ﴾، المعنى: إنما قولنا لكل مراد قولنا كن، فإن قيل كيف خاطب المعدوم بقوله: ﴿كُنْ﴾، قلنا: هذا تمثيل لنفس الكلفة والمعاناة، ومخاطبةُ الخلق بما يعقلون ليس أنه يخاطب المعدوم؛ لأن ما أراد الله عز وجل فهو كائن على كل حال، وعلى ما أراده من الإسراع، لو أراد خلق الدنيا والسموات والأرض في قدر لمح البصر لَقَدَر على ذلك، ولكن العباد خُوطبوا بما يعقلون (٥)، وذكرنا في سورة البقرة عند قوله: ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آية: ١١٧] أجوبة سوى هذا.
(١) لم أدرك مقصوده بهذه العبارة المعترضة.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٩، بتصرف يسير.
(٣) انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٠٦، بنصه، وابن الجوزي ٤/ ٤٤٧، بلا نسبة.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٠، بنصه.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٨، بتصرف.
59
واختلفوا في قوله: ﴿فَيَكُونُ﴾، فقرأه أكثرُ القراء بالرفع (١) على: (فهو يكون)، قال الفراء: الرفع على أن تجعل ﴿أَنْ نَقُولَ لَهُ﴾ كلامًا تامًّا يخبر بأنه سيكون؛ كما تقول للرجل: إنّما يكفيه أن آمره، فيفعلُ بعد ذلك ما يؤمر (٢)، برفع فيفعلُ؛ على معنى فهو يفعل وسيفعل، وقرأ ابن عامر والكسائي: ﴿فَيَكُونُ﴾ نصبًا (٣)، عطفًا على ﴿أَنْ نَقُولَ﴾، المعنى: أن نقول فيكون، هذا قول جميع النحويين (٤).
قال الزجاج: ويجوز أن يكون نصبًا على جواب كن (٥).
قال أبو علي: هذا الوجه الذي أجازه من النصب في يكون لم يجزه أحد من أصحابنا غيرُه، ولم أعلم لغيره إجازةً له على هذا الوجه، ووجدت الكسائي يقول: إنه سمعه من العرب أكثر من خمسين مرة بالنصب، وما علمته حَمَل ذلك على أنه جواب، ولكن على (أنْ)، وحَمْلُه على الجواب
(١) انظر: "السبعة" ص ٣٧٣، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٥٤، و"الحجة للقراء" ٥/ ٦٥، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٤، و"التيسير" ص ١٣٧، و"المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧٣٦.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٠، بتصرف يسير.
(٣) انظر: "السبعة" ص ٣٧٣، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٥٤، و"الحجة للقراء" ٥/ ٦٥، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٤، و"المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧٣٦.
(٤) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٨، و"تفسير الطبري" ١٤/ ١٠٦، و"إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢١٠، و"الحجة للقراء" ٥/ ٦٥، و"مشكل إعراب القرآن" ٢/ ١٤، وانظر: "الإملاء" ٢/ ٨١، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٢٨.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٨، بنصه.
60
غيرُ سائغ؛ لأن (كُنْ) وإن كان على لفظ الأصل فليس القصد به هاهنا الأمر، إنما هو -والله أعلم- الإخبار عن كون الشيء وحدوثه، وإلى هذا ذهب أبو العباس وغيره (١)، وقد ذكرنا هذا في سورة البقرة (٢).
٤١ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ الآية. قال الفراء: ﴿وَالَّذِينَ﴾ موضعها رفع (٣)؛ يريد أن هذا كلام مستأنفٌ لا تعلق له ما قبله، قال المفسرون: نزلت هذه الآية في قوم آذاهم المشركون وعذبوهم بمكة؛ صهيب وبلال وخَبَّاب (٤)، ومعنى ﴿هَاجَرُوا فِي اللَّهِ﴾:
(١) "المقتضب" ٢/ ١٨، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٩١٠، و"الحجة للقراء" ٢/ ٢٠٥، و"مشكل إعراب القرآن" ٢/ ١٤، و"الإملاء" ١/ ٦٠، و"الدر المصون" ٢/ ٨٩. وبالإضافة إلى كون (كن) هنا للحكاية لا الأمر، يشترط في جواب الأمر أن يخالف الأمر؛ إما في الفعل، أو في الفاعل، أو فيهما، فلما اتفق الفعلان، والفاعلان واحد، لم يحسن أن يكون (فيكون) جواباً للأول. (المصادر السابقة).
(٢) "الإغفال" ٢/ ١٥٣ أ، بنصه.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٠، بلفظه.
(٤) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٣ أ، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٦٧، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٦، عن مقاتل والكلبي، والشعبي ٢/ ١٥٦ ب، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٨٩، عن الكلبي، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" ص ٢٨٥، بلا سند، وهذا القول لا يعتد به في أسباب النزول؛ لوروده بلا إسناد، فضلاً عن كونه من رواية الكلبي، وقد أخرجه الطبري ١٤/ ١٠٧ برواية أخرى عن ابن عباس قال: هم قوم هاجروا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل مكة من بعد ظلمهم، وظلمهم المشركون، وهذه كذلك لا يعتد بها في أسباب النزول؛ لكونها من الصيغ غير الصريحة، ولورودها من طريق العوفي، وهي ضعيفة، وخبَّاب هو: ابن الأرتّ، أبو عبد الله -رضي الله عنه-، سبي في الجاهلية فبيع بمكة، فكان مولى أم أنمار الخزاعية، وقيل غير ذلك، ثم حالف بني زهرة، كان من السابقين في الإسلام، ومن المستضعفين، عذب بمكة عذابًا شديدًا حتى اشتكى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هاجر إلى المدينة وشهد بدرًا وما بعدها، ونزل الكوفة ومات بها سنة (٣٧ هـ). انظر: "الاستيعاب" ٢/ ٢١، و"أسد الغابة" ٢/ ١١٤، و"الإصابة" ١/ ٤١٦.
61
هاجروا في رضا الله وطلب ثوابه.
وقوله تعالى: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ قال الشعبي وقتادة: بوأهم الله المدينة (١)، وعلى هذا يكون التقدير: لنُبَوّئَنهم في الدنيا دارًا حسنة أو بلدة حسنة، يعني المدينة؛ فإن الله تعالى جعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارًا من المؤمنين فيها، وجمعهم فيها مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وقال مجاهد: لنَرْزُقنّهم في الدنيا (٢).
وقال الضحاك: يعني بالحسنة: النصر والفتح (٣)، وعلى هذا تقدير الآية: لنبوئنهم في الدنيا ولنرزقنهم حسنة أو لنعطينهم حسنة، فحذف ذلك اكتفاءً بالأول كقوله (٤):
علفتها تبنًا وماءً باردًا (٥)
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٠٧ بلفظه عنهما من طريقين، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٦٧، عن الشعبي، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٧ أ، عن قتادة، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٨٨، عنهما، والطوسي ٦/ ٣٨٣، عنهما، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٢١ أو زاد نسبته إلى ابن المنذر عن الشعبي.
(٢) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٤٧، بنصه، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٠٧ بنصه من طريقين، وورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٨٨، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٢١، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٣) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٦٧، بنصه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٨٨، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٤٨.
(٤) نسبه الفراء لبعض بني أسد.
(٥) وعجزه:
حتى شَتَتْ هَمّالةً عَيْناها
"معاني القرآن" للفراء ١/ ١٤، وورد بلا نسبة في "الخصائص" ٢/ ٤٣١، و"الإنصاف" ٤٨٨، و"اللسان" (علف) ٥/ ٣٠٧٠، و"الدر المصون" ٧/ ١١٢، و"أوضح المسالك" ٢/ ١١٠، و"همع الهوامع" ٥/ ٢٢٨، و"الدرر اللوامع" ٦/ ٧٩، و"الخزانة" ٣/ ١٤٠، وقال: وأورده الشيرازي والفاضلُ اليمني صدرًا =
62
وهذا باب قد مرّ منه كثير، فيكون معنى الآية: أنزلهم المدينة وأطعمهم الغنيمة، وهذا الوجه اختيار الفراء؛ لأنه قال في هذه الآية: نزول المدينة ولنُحَلِّلنَّ لهم الغنائم (١)، وعلى هذا التفسير حذف من الآية شيئان: المفعول الثاني للتَّبوِئة، والفعل الناصب للحسنة.
وقوله تعالى: ﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد أن أمر الجنّة أعظم وأكثر (٢) من أن يعلمه أحدٌ ويقدر أحدٌ على وصفه (٣)، وما ظنُّك بما قال الله له: أكبر.
٤٢ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾، في محل ﴿الَّذِينَ﴾ وجوه: أحدهما: أن يكون بدلاً من المضمر في: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾، ويجوز أن يكون على تقدير: هم الذين، قال ابن عباس: أثنى عليهم ومدحهم بالصبر، فقال: ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ يريد على دينهم وعلى عذاب المشركين إيّاهم، وهم في ذلك واثقون بالله متوكلون عليه.
٤٣ - قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ قال المفسرون (٤): إن مشركي مكة أنكروا نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، قالوا: الله أعظم من
= وبرواية أخرى للصدر:
لما حَطَطْتُ الرحْلَ عنها واردًا عَلَفْتُها تبنًا وماءً باردًا
(شتت) بمعنى أقامت شتاء، يقال: شتا بالبلد: أقام به شتاءً، (همَّالة عيناها) من هملَت العينُ؛ إذا صبَّت دمعها وفاضت وسالت. والشاهد: حذف وسقيتها ماءً، اكتفاءً بالأول؛ وهو: علفتها.
(١) "معانى القرآن" للفراء ٢/ ١٠٠، بنصه.
(٢) في جميع النسخ: (أكثر)، وفي تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٣٩٦، (أكبر).
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٣٩٦، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٤٨، مختصرًا.
(٤) ساقط من (د).
63
أن يكون رسوله بشرًا، فهلا بعث إلينا ملكًا (١)، فقال الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا﴾ أي إلى الأمم الماضية، ﴿إِلَّا رِجَالًا﴾: آدميين لا ملائكة، أعلمَ اللهُ أن الرسلَ بشر، إلا أنهم يُوحَى إليهم، فقال: ﴿إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾، نظير هذه الآية في أواخر سورة يوسف (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ فقال ابن عباس: يريد أهل التوراة الذين آمنوا من قريظة والنضير (٣)، قال: والذكر التوراة (٤)، وتلا قوله: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ [الأنبياء:
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٠٩، بنحوه عن ابن عباس، من طريق الضحاك مقطعة، وورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٣ أ، والسمرقندي ٢/ ٢٣٦، والثعلبي ٢/ ١٥٧أ، بنصه، وانظر: البغوي ٥/ ٢٠، وابن عطية ٤/ ٤٢٣، وابن الجوزي ٤/ ٤٤٩، والفخر الرازي ٢٠/ ٣٥، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٠٨، والخازن ٣/ ١١٦، وأبي حيان ٥/ ٤٩٣، وابن كثير ٢/ ٦٢٨، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٢٢، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٢) وهي قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [آية: ١٠٩].
(٣) هما قبيلتان من قبائل اليهود التي سكنت المدينة وخيبر، وكانوا ثلاث قبائل؛ الثالثة هي بنو قينقاع، وقد أجلاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المدينة لما خانوا عهده وتآمروا عليه، وآذوا المسلمين. انظر: "سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-" لابن هشام ١/ ١٦، ٢/ ٤٤٢، و"الروض الأنف" ٢/ ٢٨٩، و"زاد المعاد" ٣/ ٦٥، و"البداية والنهاية" ٤/ ٣، ٧٤، ١١٦.
(٤) أخرجه الطبري ١٤/ ١٠٩، وهو جزء من رواية الضحاك عن ابن عباس السابقة؛ وفيها: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾: يعني أهل الكتب الماضية، وورد بنحوه مختصرًا في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٨٩، والطوسىِ ٦/ ٣٨٤، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٢٣، وابن الجوزي ٤/ ٤٤٩، والفخر الرازي ٢٠/ ٣٦، وأبي حيان ٥/ ٤٩٣، وابن كثير ٢/ ٦٢٨، والقول في كل المصادر ورد مطلقًا دون تقيده بمن آمن من بني قريظة أو النضير.
64
١٠٥]، ﴿الذِّكْرِ﴾ يعني التوراة، وهذا قول عامة المفسرين: أن أهل الذكر هم أهل الكتاب؛ يعني المؤمنين منهم في قول الأكثرين (١).
وقال أبو إسحاق: قيل: فاسألوا أهل الكُتب الذين يشهدون بهذا (٢)، لا من أجل أنهم من أهل هذه الملة، ولكن أهل الكتاب يعترفون أن (٣) الأنبياء كلهم بشر، فعلى هذا؛ المراد بأهل الذكر: أهل العلم بأخبار الماضين ومن أُنبِّئهم من الرسل، والذكر المراد به العلم؛ لأنه مقرون بالذكر ومتعلق به، إذ العالم من يذكر الدليل ولا يكون ساهيًا عنه، فحَسُن أن يقع الذكر موقع العلم.
وقال الزجاج: ويجوز -والله أعلم- قيل لهم: سلوا كلَّ من يُذْكَرُ بعلم، وافق هذه الملة أو خالفها (٤).
قال أهل المعاني: وفي هذه الآية دليل على أن الخصم إذا التبس عليه أمر رَدّ إلى أهل العلم بذلك (٥).
٤٤ - قوله تعالى: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾ اختلفوا في الجالب لهذه
(١) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٣، و"معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٢١، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٦، وهود الهواري ٢/ ٣٧١، والطوسي ٦/ ٣٨٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٠، وابن عطية ٨/ ٤٢٣، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٠٨، والخازن ٣/ ١١٦، وأبي حيان ٥/ ٤٩٣.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠١، بنحوه، وهو أحد قولين ذكرهما في الآية.
(٣) (أن) ساقط من (ع).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠١، بنصه، وهذا القول هو الراجح؛ لأنه موافق لعموم اللفظ، وحمل اللفظ على عمومه أولى ما لم يرد له مخصص، والرواية المخصص بأهل الكتاب عن ابن عباس، هي من طريق الضحاك وهي منقطعة.
(٥) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٣٨٤، بنحوه.
65
الباء (١)؛ فعند الفراء: لا يجوز أن تتعلق بأرسلنا المذكور في الآية الأولى؛ لأن صلة ما قبل إلاَّ لا تتأخر بعد إلاَّ، ولكنّه يقول: تقدير الآية: أرسلناهم بالبينات (٢)، فالباء تتعلق بأرسلناهم المضمر المدلول عليه بأرسلنا المذكور، قال: ومثله قوله: ما ضرب إلا أخوك زيدًا، وما مرّ إلا أخوك يزيد، تريد ما مرّ إلا أخوك، ثم تقول: مرّ يزيد، فهذا إنما يجوز على كلامين، ولا يجوز أن يكون ما بعد إلاَّ موصولاً بما قبله، ومن هذا الجنس قول الشاعر:
نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبُوا بالنّارِ جارَتهَمْ وهل يُعذِّبُ إلاّ اللهُ بالنّارِ (٣)
وقال الكسائي: (إلاّ) في قوله: ﴿إِلَّا رِجَالًا﴾ بمعنى غير؛ كقوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢]، (قال: المعنى لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا) (٤)، واحتجّ بقول الشاعر (٥):
أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمُ بِيَدٍ إلاّ يَدٍ لَيْسَتْ لَها عَضُدُ (٦)
(١) أورد السمين في ذلك ثمانية أقوال، انظر: "الدر المصون" ٧/ ٢٢٢، وما بعدها.
(٢) فيكون تأويل الكلام: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم أرسلناهم بالبينات والزبير وأنزلنا إليك الذكر.
(٣) ورد غير منسوب في "تفسير الطبري" ١٤/ ١١٠، و"الإملاء" ٢/ ٨١، فيه: (لا) بدل (هل)، والثعلبي ٢/ ١٥٧ أ، والطوسي ٦/ ٣٨٥، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٢٨، و"الدر المصون" ٧/ ٢٢٢، و"شرح التصريح" ١/ ٢٨٤، قال الأزهري: فقدم الفاعل المحصور بإلا على المجرور بالباء، وطوى ذكر المفعول، وهل بمعنى ما، وأصل الكلام: ما يعذب أحدٌ أحدًا بالنار إلا الله.
(٤) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).
(٥) هو أوس بن حجر (جاهلي).
(٦) "ديوانه" ص ٢١، ووردت اليد الثانية منصوبة (إلا يدًا) وليس في هذه الرواية =
66
فقال. (إلاّ) هاهنا بمعنى غير؛ لأنه لا يمكن إعادة خافض بضمير (١)، قال الفراء: وقد ذهب في هذا مذهبًا (٢)، ومن قال الذكر في الآية الأولى بمعنى العلم (٣)، جعل الباء من صلته؛ كأنه قيل: سَلوا أهل العلم بالبينات والزبر (٤)؛ وهي ما أنزل الله على الأنبياء من الحجج الواضحة والكتب، ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾ يعني القرآن (٥)، ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾: في هذا الكتاب من الحلال والحرام، والوعد والوعيد، ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾: في ذلك فيعتبرون.
٤٥ - قوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ﴾ قال ابن عباس: يريد المشركين؛ أهلَ مكة وما حول المدينة (٦).
= الشاهد، وورد في: "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠١، و"تفسير الطبري" ١٤/ ١١٠، والثعلبي ٢/ ١٥٧ أ، (لُبَيْنى): اسم امرأة، وبنو لبينى من بني أسد بن واثلة، يعيرهم بأنهم أبناء أَمَة إذ ينسبهم إلى الأم تهجينًا لشأنهم.
(١) يعني أن الذي خفض اليد قبل (إلا) وهي الباء يتعذر إعادته بعد (إلا) لخفض اليد الثانية، ولا إشكال لو كانت بمعنى غير.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٠ - ١٠١، بتصرف واختصار.
(٣) أشار إلى ذلك الزجاج في "المعاني" ٣/ ٢٠١، بقوله: قيل لهم: اسألوا كلَّ من يذكر بعلم.. ، وانظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٠٨، والخازن ٣/ ١١٦.
(٤) وهذا القول هو الأظهر؛ لأنه لا يحتاج إلى تأويل، وما لا يحتاج إلى تأويل أولى مما احتاج إلى تأويل.
(٥) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٣ أ، والطبري ١٤/ ١١١، وهود الهواري ٢/ ٣٧٣، والسمرقندي ٢/ ٢٣٧، والطوسي ٦/ ٣٨٥، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٠، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٢٥، والخازن ٣/ ١١٦، وابن كثير ٢/ ٥٩٢.
(٦) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٣٠، وابن عطية ٨/ ٤٢٥، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٠، والفخر الرازي ٢٠/ ٣٨، والخازن ٣/ ١١٧، وأبي حيان ٥/ ٤٩٤.
67
وقوله تعالى: ﴿مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ﴾ قال الكلبي: عملوا السيئات، يعني عبادة غير الله (١)، وكذلك قال قتادة: يعني الشرك (٢)، وعلى هذا سمي عبادتهم الأوثانَ مكرًا، لأن المكر في أصل اللغة: السعي بالفساد (٣)، وذكرنا هذا فيما تقدم (٤)، وعبادة غير الله من أفسد السعي.
وقوله تعالى: ﴿أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ﴾ قال ابن عباس: كما خَسف بقارون (٥)، ومعنى الخسف في اللغة: سُؤُوخُ الأرضِ بما عليها (٦)، قال أبو زيد والأصمعي: خَسَفَ المكانُ يَخْسِفُ، وخَسَفَهُ الله (٧). ومعنى الاستفهام في قوله: ﴿أَفَأَمِنَ﴾ الإنكار؛ أي: يجب أن لا يأمنوا عقوبة تلحقهم كما لحقت المكذبين من قبلهم.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ قال الكلبي: من حيث لا يعلمون بهلاكهم (٨)، قال ابن عباس: يريد يوم بدر وما كانوا
(١) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٣٨، وورد غير منسوب في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٧٢.
(٢) أخرجه الطبري ١٤/ ١١٢ بلفظه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٢٣، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٣) والمشهور عند أهل اللغة أن أصل المكر: الاحتيال والخداع، ويكون عادة في خُفْيَة، فكأن الواحدي رحمه الله فسرها باللازم؛ انظر: (مكر) في "تهذيب اللغة" ٣٤٣٤، و"المحيط في اللغة" ٦/ ٢٦٣، و"مجمل اللغة" ٢/ ٨٣٨، و"الصحاح" ٢/ ٨١٩.
(٤) في تفسير الآية [٢٦] من هذه السورة.
(٥) انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٠٩، والخازن ٣/ ١١٧، وأبي حيان ٥/ ٤٩٥، وفي الأخيرين بلا نسبة.
(٦) ورد في "تهذيب اللغة" (خسف) ١/ ١٠٢٩، بنصه، وهو قول الليث. وانظر: (خسف) في "المحيط في اللغة" ٤/ ٢٦٧، و"اللسان" ٢/ ١١٥٧.
(٧) المصدر السابق نفسه.
(٨) ورد بنص غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٧.
68
يُقدِّرون ذلك ولا يشعرونه (١)
٤٦ - قوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ﴾ قال ابن عباس: يريد في تجارتهم واختلافهم إلى اليمن وإلى الشام (٢)، وهذا قول قتادة والكبي، قالا: ﴿فِي تَقَلُّبِهِمْ﴾: في أسفارهم (٣)، وقال مقاتل: في ليلهم ونهارهم (٤)، يريد في تقلبهم في كل الأحوال ليلاً ونهارًا، فيدخل في هذا تقلبهم على الفرش يمينًا وشمالًا، ﴿فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أي بممتنعين ولا فائتين (٥) الله، قال ابن عباس: يريد أن الله لا يعجزه شيء أراده.
٤٧ - قوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾، التخوف: تَفَعُّل من الخوف، يقال: خفت الشيء وتخوَّفته، قال الزجاج: أي أو يأخذهم بعد
(١) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٠٩، و"الشوكاني" ٣/ ٢٣٦.
(٢) أخرجه الطبري ١٤/ ١١٢ من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وأخرجه بنحوه من طريق العوفي غير مرضية، وورد في تفسير "تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٠، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢١، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٠ قال: في أسفارهم، والخازن ٣/ ١١٧، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٢٣، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وفي جميع المصادر ما عدا ابن الجوزي ورد بلفظ: في اختلافهم.
(٣) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ٢/ ٣٥٦ بلفظه عن قتادة، والطبري ١٤/ ١١٢ بلفظه عن قتادة من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٦٩، بلفظه عن قتادة، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٥٠، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٠٩، وابن كثير ٤/ ٦٢٩، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٢٣، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، كلها عن قتادة، وورد غير منسوب في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٧ أ، وهود الهواري ٢/ ٣٧٢، ونُسب فيه إلى الكلبي تفسيرها بقوله: في البلاد بالليل والنهار.
(٤) "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٣ أ، بلفظه، وانظر: "تفسير أبي حيان" ٥/ ٤٩٥.
(٥) في جميع النسخ: (قانتين) ولا معنى لهاهنا، والصحيح المثبت كما في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٧، و"الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٣٩٨.
69
أن يخيفهم؛ بأن يهلك فرقة فتخاف التي تليها (١)، وهذا معنى قول الضحاك والكلبي، يعني: (يعذب طائفة ويدع طائفة) (٢)، فيتخوف الذين يَدَعْهم مثل ما أصاب الآخرين (٣)، ونحو هذا قال الحسن (٤)؛ والمعنى يأخذهم على تخوفهم الهلاك لما سبق من هلاك طائفة منهم، وقال ابن عباس وعامة المفسرين: على تَنَقُّص؛ إما (٥) بقتل أو بموت (٦)، يعني: ينقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يُهْلِك جميعَهم (٧). أخبرني
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠١، بنصه.
(٢) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).
(٣) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ٢/ ٣٥٦ عن الكلبي، والطبري ١٣/ ١١٤ عن الضحاك، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٦٩، عن الضحاك، وورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٧ أ، عنهما، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٠، عن الضحاك، والطوسي ٦/ ٣٨٦، عن الضحاك، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢١، عنهما، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٠، عن الضحاك، والخازن ٣/ ١١٧، عنهما، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٢٣، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن الضحاك.
(٤) انظر: "تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٠، والطوسي ٦/ ٣٨٦، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٠.
(٥) في جميع النسخ: (أو، ويستقيم المعنى بـ (إما)، والتصويب من "تفسير الشوكاني" ٢/ ٢٣٦، وصديق خان ٧/ ٢٥٠.
(٦) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٤٧، بنحوه، وأخرجه الطبري ١٤/ ١١٣، بنحوه، عن ابن عباس من طريق عطاء الخرساني صحيحة، وأخرجه مختصرًا عن مجاهد من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٦٩، مختصرًا عن ابن عباس ومجاهد، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٥١، عن ابن عباس ومجاهد والضحاك، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٠، عن ابن عباس ومجاهد، والخازن ٣/ ١١٧، عن ابن عباس ومجاهد، وأبي حيان ٥/ ٤٩٥، عن ابن عباس ومجاهد والضحاك.
(٧) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٧ أ، بنصه.
70
العروضي عن الأزهري، قال: أخبرني المنذري عن الحرّانيِّ عن ابن السِّكِّيت، قال: يقال: هو يَتَخَوَّفُ المالَ ويتَحَوَّفُه، أي يتَنَقَّصُهُ ويأخذُ من أطرافه، وأنشد لابن مقبل (١):
تخوَّفَ السَّيْرُ منها تَامِكًا قَرِدًا كما تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعةِ السَّفَنُ (٢) (٣)
وروى شمر عن ابن الأعرابي: تَخوَّفْتُ الشيء وتَخيّفْتُه، وتَخَوَّفْتُهُ وتَخَيَّفْتُهُ إذا تَنَقَّصَتُه (٤).
قال أهل المعاني: معنى التنقص: أنه يؤخذ الأول فالأول حتى لا يبقى منهم أحد، وتلك حال يُخافُ معها الفناء ويُتخوفُ الهلاكُ (٥)، فمعنى
(١) نُسب في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٧ ب، لأبي كبير الهذلي، وهو يصف ناقة، ولم أجده في "ديوان الهذليين". وابن مقبل هو: تميم بن أُبيّ بن مُقبل، من بني عجلان، تقدمت ترجمته.
(٢) لم أجده في الإصلاح، وورد في "تهذيب اللغة" (خاف) ١/ ٩٦٦، بنصه.
(٣) "ديوان ابن مقبل" ص ٤٠٥، وورد في "تهذيب اللغة" (خاف) ١/ ٩٦٦، و"اللسان" (خوف) ٣/ ١٢٩٢، ونُسب إلى أبي كبير الهذلي في "تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٠، وأبي حيان ٥/ ٤٩٥، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ١٥٣، وصديق خان ٧/ ٢٥٠، والثعلبي ٢/ ١٥٧ ب، لكن برواية:
تخوف الرحل منها تامكًا صلبًا
ونسبه الزمخشري لزهير ٢/ ٣٣٠، وورد غير منسوب في "تفسير الطبري" ١٤/ ١١٣، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٢، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٣٨٦، وابن عطية ٨/ ٤٢٧، والفخر الرازي ٢٠/ ٣٩، و"الدر المصون" ٧/ ٢٢٥، وفي بعض المصادر: (الرحل) بدل (السير)، (التامك) السنام، (القرد) الذي تراكم لحمه من السمن، (النبعة) ضرب من الشجر الصلب، (السَّفَن) المِبْرَد، والمعنى: أي ينقص السيرُ سنامَها بعد تموكه، كما يُنحت العُودُ فيدِق بعد غِلَظِه.
(٤) المصدر السابق نفسه وبنصه.
(٥) انظر: "تفسير الطوسي" ٦/ ٣٨٦، بنصه.
71
﴿يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾، أي: على حال تنقصهم، يأخذهم الأول فالأول حتي يأتي الأخذ على الجميع.
وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ قال الزجاج: أي من رأفته أمهل وجعل فسحة للتوبة (١)، وهو معنى قول المفسرين: إذ لم يعجل عليم بالعقوبة والإهلاك (٢)، وأَخَّر عنهم هذه العقوبات التي ذكرها مع قدرته عليها.
٤٨ - قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ قراءة العامة بالياء (٣)؛ لأن ما قبله غيبة، وهو قوله: ﴿أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ﴾، ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ﴾ كذلك: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾، وكان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه قد رأوا ذلك وتيقنوه فلا يحسن أن يقال لهم: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾.
وقرأ حمزة والكسائي: ﴿تَرَوا﴾ بالتاء (٤)، على الخطاب لجميع الناس (٥).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٢، بنصه.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٣ أ، والطبري ١٤/ ١١٤ بمعناه، والسمرقندي ٢/ ٢٣٧، والثعلبي ٢/ ١٥٧ ب، والماوردي ٣/ ١٩٠، وابن الجوزي ٤/ ٤٥١، والفخر الرازي ٢٠/ ٣٩، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١١، والخازن ٣/ ١١٧، وأبي حيان ٥/ ٤٩٥، وابن كثير ٢/ ٦٢٩.
(٣) وهم: ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. انظر: "السبعة" ص ٣٧٣، و"علل القراءات" ١/ ٣٠٥، و"الحجة للقراء" ٥/ ٦٦، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٤، و"التيسير" ص ١٣٨، و"شرح الهداية" ٢/ ٣٨٠، و"تلخيص العبارات" ص ١١١.
(٤) انظر: المصادر السابقة.
(٥) "الحجة للقراء" ٥/ ٦٧، بتصرف يسير.
72
وقوله تعالى: ﴿إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ قال المفسرون وأهل المعاني: أراد من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم (١)، وهذا معنى قول ابن عباس: يريد الشجر والنبات.
وقوله تعالى: (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ) إخبار عن قوله: ﴿شَيْءٍ﴾، وليس بوصف له، و ﴿يَتَفَيَّأُ﴾: يتفعل من الفيء، يقال: فاء الظل يفيء فيئًا، إذا رجعَ وعادَ بعد ما كان ضياءُ الشمس نسخَه، وأصلُ الفيء الرجوع (٢)، ومنه فَيءُ المولي (٣)، وذكرنا ذلك في قوله: ﴿فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٦]، وكذلك فيءُ المسلمين؛ لِمَا يعود على المسلمين من مال مَنْ خالف دينهم بلا قتال (٤)، وسنذكر ذلك في قوله: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [الحشر: ٧] إن شاء الله. وأصلُ هذا كله من الرجوع، فإذا عُدِّي (فَاءَ) عُدّي بزيادة الهمزة أو تضعيف العين، فمِمَّا عُدّي بنقل الهمزة قوله: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ﴾، وبالتضعيف فاءَ الظلُّ، وفَيّأه الله فتفيّأ، وتَفيَّأ مطاوع فَيَّأَ (٥).
(١) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٧٢، بنصه، و"تفسير الطبري" ١٤/ ١١٤ - ١١٦، بنحوه، والثعلبي ٢/ ١٥٧ ب، بنحوه، والطوسي ٦/ ٣٨٧، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢١، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٢، والفخر الرازي ٢٠/ ٤٠، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١١، ونسبه إلى ابن عباس، والخازن ٣/ ١١٧، وأبي حيان ٥/ ٤٩٦.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (فاء) ٣/ ٢٧١١، و"مجمل اللغة" (في) ٢/ ٧٠١، و"الصحاح" (فيأ) ١/ ٦٣، و"عمدة الحفاظ" ٣/ ٣٠٨.
(٣) هو الذي يحلف أن لا يجامع زوجته، وقد حدد الشارع مدة الإيلاء بأربعة أشهر؛ إما أن يطلق وإما أن يفي. انظر: "تفسير الجصاص" ١/ ٣٥٥، والكيا الهراسي ١/ ٢١٦ - ٢١٩، وابن العربي ١/ ١٧٨، و"تفسير القرطبي" ٣/ ١٠٣.
(٤) ورد في "تهذيب اللغة" (فيأ) ٣/ ٢٧١١، بنحوه، وانظر: "التعريفات" ص ١٧٠، و"تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٤٠.
(٥) "الحجة للقراء" ٥/ ٦٧، بنصه، وانظر. "اللسان" (فيأ) ٦/ ٣٤٩٦، و"معجم الألفاظ المتعدية بحرف" ص ٢٨٢.
73
قال الأزهري: وتفيؤ الظلال رُجوعها بعد انتصاف النهار وانتعال الأشياء (١)، قال: وأخبرني المنذري عن أبي طالب النحوي أنه قال: التفيؤ لا يكون إلا بالعشي؛ ما انصرفت عنه الشمس، وقد بينه الشاعر (٢) فقال:
فلا الظلَّ من بَرْد الضُّحى تستطيعُهُ ولا الفيءَ من بردِ العشيِّ تذَوُق (٣)
وقال أبو علي الفارسي: الظل ما كان قائمًا لم تنسخه الشمس، فإذا نسخته الشمس ثم زال ضياء الشمس الناسخ للظل فاء الظل، أي رجع كما كان أولاً (٤)، فهذا هو الفيء، وُيسمى الظل أيضًا، ولا يسمى الأول فيأً.
قال ثعلب: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال: كُلُّ ما كانت عليه الشمسُ فزالت عنه فهو فيءٌ وظلٌّ، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظِلٌّ (٥)، على أن أبا زيد أنشد للنابغة الجعدي:
(١) "تهذيب اللغة" (فاء) ٣/ ٢٧١١، بنصه، وفي المصدر: وانتعال الأشياءِ ظلالَها. قلت ومعناه: صار ظلها تحتها.
(٢) هو حميد بن ثور. تقدمت ترجمته.
(٣) ديوانه ص ٧٠، وورد في "إصلاح المنطق" ص ٣٢٠، و"الصحاح" (فيأ) ١/ ٦٣، (بعد) بدل (برد) الثانية، و"تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٣٠، و"اللسان" (فيأ) ٦/ ٣٤٩٥، وورد غير منسوب في "الحجة للقراء" ٥/ ٦٨، و"تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٤٠، وأبي حيان ٥/ ٤٩٦، والبيت قاله يصف سَرْحَة شجر عظام طوال وكنَّى بها امرأة. والشاهد: أنه جعل الظلَّ وقت الضحى؛ لأن الشمس لم تنسخْه في ذلك الوقت. وكلام الأزهري في "تهذيب اللغة" (فاء) ٣/ ٢٧١١، بنصه.
(٤) ولخصه ابن السِّكِّيت فقال: الظلُّ: ما نسخته الشمسُ، والفيءُ: ما نسخ الشمسَ. "إصلاح المنطق" ص ٣٢٠.
(٥) "الحجة للقراء" ٥/ ٧٠، بخصه، و"الصحاح" (فيأ) ١/ ٦٤، بنصه، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٣٢، والفخر الرازي ٢٠/ ٤٠، و"اللسان" (فيأ) ٦/ ٣٤٩٥، و"تفسير أبى حيان" ٥/ ٤٩٦.
74
فسلامُ الإلهِ يَغْدو (١) عليهمْ وفُيوءُ الفرْدَوْسِ ذاتُ الظِّلالِ (٢)
فهذا الشعر قد أوقع فيه الفيء على ما لم تنسخه الشمس، وجمعه على فيوء؛ مثل بيت وبيوت؛ لأن ما في الجنة يكون ظلًّا ولا يكون فيئًا؛ لأن ضياء الشمس لم تنسخه، ففاء بعد النسخ، وأكثر ما تقول العرب في جمعٍ (٣) أفياء؛ وهو للعدد القليل، وفيوء؛ للكثير كالبيوت والعيون.
وقوله تعالى: ﴿ظِلَالُهُ﴾ أضاف الظلال إلى مفرد، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال؛ لأن الذي يعود إليه الضمير واحدٌ يدل على الكثرة، وهو قوله: ﴿إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ﴾، وهذا مثل: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ [الزخرف: ١٣]، فأضاف الظهور، وهو جمع، إلى ضمير مفرد؛ لأنه يعود إلى واحدٍ يُرادُ به الكثرة، وهو قوله: ﴿مَا تَرْكَبُونَ﴾ (٤) [الزخرف: ١٢].
وأما قول المفسرين في: (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ) قال ابن عباس: يتميل (٥)، وهو معنى وليس بتفسير؛ لأنه إذا قرن بقوله: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ﴾ صار المعنى: أنه يتميل عن الجوانب، ومعنى تفيؤ الظلال: أن يعود الظل بعد نسخ الشمس إياه، وأما معنى تفيؤها عن اليمين والشمائل (فهو أن يكون
(١) في جميع النسخ: بعد، والصحيح المثبت لموافقته للمصادر وإفادته للمعنى.
(٢) "شعر النابغة" الجعدي ص ٢٣١، وورد في "النوادر في اللغة" ص٢٢٠، و"تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٣١، والفخر الرازي ٢٠/ ٤١، و"اللسان" (ظلل) ٥/ ٢٧٥٣.
(٣) الأولى (في الجمع)، أو (في جمع فيء) ولعل (فيء) ساقطة.
(٤) "الحجة للقراء" ٥/ ٦٧ - ٧٠ نقل طويل تصرف فيه بالحذف والإضافة، والتقديم والتأخير، والتهذيب والاختصار، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٤٠، نقله بطوله عن الواحدي بتصرف يسير مع نسبته.
(٥) ورد في "تفسير الطوسى" ٦/ ٣٨٧، بلفظه.
75
للأشجار فيء عن اليمين والشمائل) (١)، إذا كانت الشمس يمين الشخص كان الفيء عن شماله، وإذا كانت على شماله كان الفيء عن يمينه، فهذا وجه ذكره بعضُ أهل التأويل (٢)، والذي عليه المفسرون، قال قتادة والضحاك وابن جريج: أما اليمين فأول النهار، وأما الشمال فآخر النهار (٣)، وقد بين الكلبي هذا، فقال: إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة كان الظل قدامك، فإذا ارتفعت كان عن يمينك، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك، فإذا كان قبل أن تغرب الشمس كان على يسارك، فهذا تفيؤه عن اليمين والشمائل (٤)، ووحد اليمين والمراد الجمع، ولكنه اقتصر فيه على الواحد في اللفظ للإيجاز؛ كقوله: ﴿وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر: ٤٥] وقول الفرزدق:
بِفي الشَّامِتِينَ الصَّخْرُ إنْ كانَ هَدَّنِي رَزيَّةُ شِبْلَيْ مُخْدِرٍ في الضَّراغمِ (٥)
(١) ما بين القوسين ساقط من (ش)، (ع).
(٢) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٧٢، بنصه.
(٣) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٥٦) بنصه عن قتادة، والطبري ١٤/ ١١٥ بنصه عن قتادة من طريقين، وبمعناه عن الضحاك وابن جريج من طريقين، ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٧ ب، بنصه عن الضحاك وقتادة، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩١، والطوسي ٦/ ٣٨٧، عنهم، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٢، عن قتادة والضحاك، وابن عطية ٨/ ٤٣٣، عن قتادة وابن جريج، والخازن ٣/ ١١٧، عن الضحاك، وأبي حيان ٥/ ٤٩٧، عن قتادة وابن جريج.
(٤) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٧ ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٢، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٢، وأبي حيان ٥/ ٤٩٨، ورد في الأخيرين بلا نسبة.
(٥) "ديوانه" ٢/ ٢٠٦، وورد في "تفسير الطبري" ١٤/ ١١٧، والثعلبي ٢/ ١٥٧ ب، والطوسي ٦/ ٣٨٨، و"الأساس" ص ١٥٤، وابن عطية ٨/ ٤٣٣، (الشامتين) =
76
هذا قول الأخفش وجميع أهل المعاني (١).
وقال الفراء: كأنه إذا وَحَّد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال، وإذا جمع ذهب إلى كلها (٢)، وذلك أن قوله: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ لفظه واحد ومعناه الجمع على ما بينا، فيحمل كلا الأمرين.
وقوله تعالى: ﴿سُجَّدًا لِلَّهِ﴾ قال المفسرون: ميلانها سجودها، (٣) وشرح ابن قتيبة هذا شرحًا شافيًا فقال: أصل السجود التّطَأطُؤ والميل، يقال: سجد البعير وأُسجد إذا طأطأ رأسَه لِيُرْكَب، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة العمل، ثم قد يُستعارُ السجودُ فيوضع موضع الاستسلام والطاعة والذل، ومن الأمثال المبتذلة: اسْجُدْ للقرد في زمانه (٤)، يراد اخضع للئيم في دولته، ولا يُراد معنى سجود الصلاة، والشمس والظل خَلقان مُسخَّران لأَنْ يُعَاقِبَ كلُّ واحدٍ منهما صاحِبَه بغير فصْلٍ، فالظلُّ في أول النهار قبل طلوع الشمس يَعُمُّ الأرضَ، كما تَعُمُّها ظلمةُ الليل، ثم
= جمع شامت؛ وهو الذي يفرح في بلية الإنسان، (هدني): أوهن أركاني، (المُخدر): الأسد، وكذلك (الضرغام)، يعني أنه يَتَجَلَّد وَيتَحَمَّل مصيبته في فقد ولديه حتى لا يشمت فيه الشامتون الحاقدون. والشاهد: كما قال الطبري: فقال بقي الشامتين، ولم يقل: بأفواه، وهو الشاهد. والبيت يرثي فيه ابنين له.
(١) لم أقف عليه في معاني الأخفش، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٥٢، بلا نسبة.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٥٢، بمعناه.
(٣) ورد في "تفسير الطبري" ١٤/ ١١٤ - ١١٥، بلفظه واختاره، والسمرقندي ٢/ ٢٣٧، بنحوه، والثعلبي ٢/ ١٥٧ب بلفظه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٢، وابن عطية ٨/ ٤٣٥، و"القرطبى" ١٠/ ١١١، وأبي حيان ٥/ ٤٩٨، وابن كثير ٢/ ٦٣٠.
(٤) ذكره الميداني في المجمع، ونصه: اسْجُدْ لقرْد السُّوء في زمانه. انظر: "مجمع الأمثال" للميداني ١/ ٣٥٧.
77
تطلُع الشمسُ فتَعُمُّ الأرضَ إلا بما (١) سترته الشُّخُوصُ، فإذا سَتَرَ الشخص شيئًا عاد الظلُّ، فرجوعُ الظلِّ بعد أن كان شمسًا ودورانُه من جانب إلى جانب هو سُجُودُه؛ لأنه مستسلم منقاد مطيع بالتَّسخير، وهو في ذلك يميل، والميل سجود، وكذلك قوله: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٦]، أي يستسلِمَان لله بالتسخير (٢)، وهذه الآية كقوله: ﴿وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [الرعد: ١٥]، وقد مر بيانه وشرحه.
وقوله تعالي: ﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾، أي: صاغرون، وهذا لفظ المفسرين (٣)، يقال: دَخَرَ يَدْخَر دُخُورًا، أي صَغُرَ يَصْغُرُ صغَارًا، وهو الذي يَفعلُ ما تأمره شاء أو (أبى (٤).
قال الزجاج: هذه الأشياء مجبولة على الطاعة (٥).
وقال الأخفش في قوله: ﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾) (٦) ذَكَّرَ، وهم من غير
(١) في المصدر: إلا ما.
(٢) تأويل مشكل القرآن (ص ٤١٦ - ٤١٨)، وهو نقل طويل تصرف فيه واختصر.
(٣) "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٣ ب، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ٢/ ٣٥٦ بلفظه عن قتادة، والطبري ١٤/ ١١٦ بلفظه عن مجاهد وقتادة من طريقين لكل منهما، وورد في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٧٣، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٧٠، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٧، والثعلبي ٢/ ١٥٧ ب، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٠، والطوسي ٦/ ٣٨٨، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٢، وابن عطية ٨/ ٤٣٦، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٣، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١١، والخازن ٣/ ١١٨، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٢٣، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد، وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن قتادة.
(٤) ورد في "تهذيب اللغة" (دخر) ٢/ ١١٥٨، بنصه.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٢، بنصه.
(٦) ما بين القوسين ساقط من (د).
78
الإنس؛ لأنه لما وصفهم بالطاعة أشبهوا ما يعقل (١).
٤٩ - قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ الآية. قد ذكرنا السجود يكون على نوعين: سجود هو عبادة؛ كسجود المسلمين لله، وسجود هو خضوع واستكانة؛ وهو سجود ما [لا] (٢) يعقل وسجود الجمادات، فإن هذه الأشياء بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى مُدَبَّر وصانع ساجدة؛ أي خاضعة متذللة، وقال: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ لأن (ما) و (من) يتعاقبان، و (ما) أعمّ من (من) ألا ترى أنه قد قال في أخرى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ [الرعد: ١٥].
وقوله تعالى: ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ قال الفراء: دخل (من) هاهنا؛ لأن (ما) مُبْهم، فلو أسقطت (من) لأشبه أن تكون الدابة حالاً لها، فأدخل (من) ليدُلّ (٣) على أنه تفسير لـ (ما) (٤)، ومثل هذا كثير في كتاب الله؛ قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ﴾ [النساء: ٧٩]، وقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ﴾ [النساء: ١٢٤]، وقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٤٨] لم يقل في شيء منه بطرح (مِنْ)؛ لما ذكرنا من أنّ (ما) و (مِنْ) غير مؤقّتتين (٥)، ومثله قول الشاعر:
(١) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٠٦، بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٥٣.
(٢) إضافة يقتضيها السياق ليستقيم المعنى، ويؤيده ثبوتها في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٠٠.
(٣) في (أ)، (د): (البدل)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الصواب، يستقيم به المعنى، ويؤيده المصدر.
(٤) في (ش)، (ع): (لها).
(٥) أي: غير محددتين.
79
فثبتَ اللهُ ما آتاك من حَسَنٍ وحيثُ ما يقض أمرًا صالحًا يكن (١)
وقال آخر:
عُمْرًا حَييت ومَن يشناك من أحد يَلْق الهوان ويلق الذُلَّ والغِيَرا (٢)
فدلّ مجيء (من) على أنه لم يرد أن يكون ما جاء من النكرات حالاً للأسماء التي قبلها، ودلَّ على أنه مُترجِم على معنى (مَن) و (مَا)، ومثل هذا قوله: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْء﴾ [سبأ: ٣٩]؛ لأن الشيء لا يكون حالاً، ولكنه مترجم، فأمَّا قولهم: لله دَرُّه رجلاً (٣)، فالرجلُ مترجِم لما قبله وتفسير وليس بحال، إنّما الحال الذي ينتقل؛ مثل القيام والقعود، وجاز سقوط (مِنْ) في هذا الموضع (٤)؛ لأن الذي قبله مؤقت، فجاز أن يُذكرَ بطرح (مِن) كالحال (٥)، وقال الأخفش في قوله: ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ يريد: (من الدواب، واجتزأ بالواحد؛ كما تقول: ما أتاني من رجل مثله (٦)، وقال ابن عباس في قوله: ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾) (٧):
(١) ورد غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٣ بخلاف في رواية الصدر:
حاز لك الله ما آتاك من حَسَنٍ
(٢) ورد غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٣.
(٣) ورد في "جمهرة الأمثال" ٢/ ٢١٠، وانظر: "مجمع الأمثال" ٢/ ١٩٠، و"اللسان" (عجب) ٥/ ٢٨١٢، (درر) ٣/ ١٣٥٦، وورد برواية: (لله درُّك)، والأصل فيه أن الرجل إذا كَثُر خيرُه وعطاؤهُ قيل له ذلك، إشادةً وتعجبًا، ثم قيل لكل مُتَعَجبٌ منه.
(٤) أي في المثل؛ لأن أصله أن يقال: لله درُّه من رجل.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٣ - ١٠٤، نقل طويل تصرف فيه بالتقديم والتأخير، والاختصار والتهذيب، والتمثيل والتوضح.
(٦) أي: ما أتاني من الرجال مثله، فأفاد الإفراد معنى الجمع. "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٠٦، بنصه.
(٧) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).
80
يريد كلَّ ما (١) دَبَّ على الأرض (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ أخرجهم بالذكر تخصيصًا وتفصيلاً؛ كقوله: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ (٣) [الرحمن: ٦٨]، وقوله تعالى: ﴿لَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ (٤) [البقرة: ٩٨] وقال الزجاج: المعنى: ولله يسجد ما في السموات من الملائكة، وما في الأرض من دابة والملائكة؛ أي: وتسجد ملائكة الأرض (٥)، وفي الأرض ملائكة موكلون بالعباد (٦)، وقيل: إنما ذكرهم على التخصيص لخروجهم من صفة الدبيب بما جعل لهم من الأجنحة (٧)، والله أعلم.
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد عن عبادة الله (٨)، وهذا صفة من يسجد لله سجود عبادة، فأما من له سجود الخضوع
(١) في جميع النسخ: كلما، وهو تصحيف ظاهر.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٤٤، وأبي حيان ٥/ ٤٩٨، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٢، بلا نسبة.
(٣) يقصد ذكر الخاص بعد العام؛ فذكر الفاكهة عمومًا، ثم فصل في أنواعها وخص من الأنواع النخل والرمان.
(٤) وهنا كذلك، أجمل الملائكة، ثم فصَّلهم وخصّ منهم جبريل وميكال بالذكر.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٢، بنصه.
(٦) لقوله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨]، وغيرها من الأدلة.
(٧) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٨ أ، بنحوه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٢، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٣، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٤، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٣.
(٨) انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٣، وابن كثير ٢/ ٦٣٠، وأبي السعود ٥/ ١١٩، و"الشوكاني" ٣/ ٢٣٨، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ١٥٨، كلها بلا نسبة.
81
دون سجود العبادة، فمعنى لا يستكبرون في صلتهم أنهم يذعنون للخالق والصانع بالتسخير والتذليل وما فيهم من الضرورة إلى صانع فطرهم وخلقهم وأنشأهم ودبَّرهم، ويجوز أن يكون قوله: ﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ من صفة الملائكة خاصة (١)؛ لأن الآية التي بعد هذا تختص بصفتهم.
٥٠ - قوله تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم﴾ الآية. ذكر أهل العلم وأصحاب المعاني في هذه الآية، قولين (٢)؛ أحدهما: أن الآية من باب حذف المضاف، على تقدير يخافون عقاب ربهم من فوقهم (٣)؛ لأن أكثر ما يأتي العقاب المهلك من فوق، سيّمَا والآية في صفة الملائكة، والآخر: أن الله تعالى لما كان موصوفًا بأنه علىٌّ ومتعال علو الرتبة في القدرة، حَسُن أن يقال: ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ ليدل على أنه في أعلى مراتب القادرين (٤)، وهذا
(١) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٣ ب، بنحوه، وهود الهواري ٢/ ٣٧٣، بمعناه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٥٤، و"الشوكاني" ٣/ ٢٣٨.
(٢) ورد القولان في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٢، بنحوه، والطوسي ٦/ ٣٨٩ بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٣١، وابن عطية ٨/ ٤٣٧، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٥، وأبي حيان ٥/ ٤٩٩، و"الدر المصون" ٧/ ٢٣٤.
(٣) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٣ ب، بمعناه، والطبري ١٤/ ١١٧ - ١١٨ بمعناه، والثعلبي ٢/ ١٥٨، بنحوه، وانظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٣.
(٤) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٨، بمعناه.
والقولان باطلان؛ لأن فيهما تعطيلًا وتأويلاً؛ فالأول تعطيل ظاهر لصفة الفوقية، والثاني تأويل وصرفٌ لظاهر النص من فوقية العلو إلى فوقية القدرة والعظمة، وهو خلاف مذهب أهل الحق؛ يقول ابن القيم: ومما ادعى المعطلة مجازه: الفوقية، وقد ورد به القرآن؛ كقوله ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾، وحقيقة الفوقية علو ذات الشيء على غيره، فادعى الجهمي أنها مجاز في فوقية الرتبة والقهر، كما يقال الذهب فوق الفضة، والأمير فوق نائبه، وهذا وإن كان ثابتًا للرب تعالى، لكن =
82
معنى قول أبي إسحاق: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ﴾: خوف مُجِلِّين (١)، ويدل على صحة هذا المعني قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام: ٦١]، وقوله إخبارًا عن فرعون: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٢٧]، وقد روى مجاهد عن ابن عباس في قوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ قال: ذاك مخافة الإجلال (٢)، وذهب بعض الناس إلى أن قوله: ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ من صفة الملائكة (٣)، والمعنى: أن الملائكة الذين هم فوق بني آدم وفوق ما في الأرض من دابة يخافون الله مع علو رتبتهم، فلأن يخاف من دونهم أولى (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ قال المفسرون: يعني الملائكة (٥)،
= إنكار حقيقة فوقيته سبحانه وحملها على المجاز باطل من وجوه عديدة، وقد ذكر سبعة عشر وجهًا. انظر: "مختصر الصواعق المرسلة" ص ٣٥٥ - ٣٦٣، و"الفتاوى" ٥/ ١٢٦.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٣، بنصه. وقد ردّ الألوسي القول بأن خوفهم ليس إلا خوف إجلال ومهابة لا خوف وعيد وعذاب، بقوله: ﴿وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء].
(٢) أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٢٥، وعزاه للخطيب في تاريخه [لم أقف عليه]، وانظر: "تفسير الرازي" ٢٠/ ٤٤، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ١٥٩، وأورداه بصيغة التمريض، وانتصر له الفخر الرازي وردّه الألوسي -كما مرّ في الحاشية السابقة-، وورد بلا نسبة في "تفسير أبي حيان" ٥/ ٤٩٩، وأبي السعود ٥/ ١١٩.
(٣) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٣ ب، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٥٤، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٣، وأبي حيان ٥/ ٤٩٩.
(٤) وفي هذا المعنى تكلُّف وصَرْفٌ لِلَّفظ عن ظاهره؛ فالفوقية هنا صفة لله وليس للملائكة.
(٥) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٣ ب، بنحوه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٢، بمعناه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٣، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٤، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٣، و"الشوكاني" ٣/ ٢٣٨.
83
وهذا كقوله في آية أخرى: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾ الآية [التحريم: ٦].
٥١ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ قال الزجاج: ذكر اثنين توكيدًا لقوله: ﴿إِلَهَيْنِ﴾، كما ذكر الواحد في قوله: ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ (١) [التوبة: ٣١]. وقال صاحب النظم: فيه تقديم وتأخير؛ يريد: لا تتخذوا اثنين إلهين (٢)، أي: الاثنان لا يكونان ولا واحدٌ منهما إلهًا، ولكن اتخذوا الواحد الذي لا يجوز أن يكون له ثانٍ إلهًا، يدل على هذا قوله: ﴿إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، وقوله: ﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ من تلوين الخطاب.
٥٢ - وقوله تعالى: ﴿وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا﴾، الدين: الطاعة هاهنا، والواصب: الدائم، و [هو] (٣) قول ابن عباس وجميع المفسرين (٤)؛ يقال
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٤، بنصه، لكنه استشهد بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ بالآية نفسها.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٤٧، بنصه، والظاهر نقله عن الواحدي، والخازن ٣/ ١١٨، بنحوه.
(٣) ساقطة من جميع النسخ، ولا يستقيم الكلام إلا بها.
(٤) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٣ ب، بنحوه، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ٢/ ٣٥٧ بلفظه عن قتادة، وورد في "الغريب" لابن قتيبة ص ٢٤٣، بلفظه، وأخرجه الطبري ١٤/ ١١٩ بلفظه عن ابن عباس، وعن عكرمة من طريقين، وعن مجاهد من طريقين، وعن الضحاك من طريقين، وعن قتادة، وعن ابن زيد، وأخرجه بلفظ واجبًا عن ابن عباس، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٧٢، بلفظه عن قتادة وعن مجاهد، وعن ابن عباس قال: واجبًا، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٨ بلفظه، وهود الهوارى ٢/ ٣٧٣، بلفظه، والثعلبي ٢/ ١٥٨ أ، بنحوه، وفيه عن ابن عباس قال: واجبًا، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٣، بلفظه عن الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك، وعن ابن عباس قال: واجبًا، والطوسي ٦/ ٣٩٠، بنحوه عن ابن عباس، وقال: وبه قال الحسن ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد.
وصب الشىء يصب وصوبًا إذا دام (١)، قال الله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ﴾ [الصافات: ٩] ويقال: واظَبَ على الشيء وواصَبَ عليه إذا داوم (٢)، قال أبو إسحاق: أي طاعته واجبة أبدًا (٣)، وقال عبد الله بن مسلم (٤): ليس من أحد يُدان له ويطاوع إلا انقطع ذلك عنه بزوال أو هلكة، غير الله عز وجل؛ فإن الطاعة تدوم له (٥)، ثم قال: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾، أي: أفغير الله الذي قد أبان لكم أنه واحدٌ، وأنه خالق كل شيء، وأمر أن لا يُتخذ معه إلَهٌ، تتقون.
٥٣ - قوله تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: يريد من نعمة الإسلام وصحة الأبدان (٦)، أي ما أعطاكم الله من صحة في جسم أو سعة في رزق أو متاع بمال وولد، فكل ذلك من الله، ودخلت الفاء في قوله: ﴿فَمِنَ اللَّهِ﴾؛ لأن الباء في: ﴿بِكُمْ﴾ متصلة بفعل مضمر، المعنى: ما يكن بكم أو ما حل بكم من نعمة فمن الله (٧)، وقد شرحنا هذه المسألة في
(١) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٧٢، بنصه، وانظر: (وصب) في "جمهرة اللغة" ١/ ٣٥١، و"المحيط في اللغة" ٨/ ٢٠٢، و"الصحاح" ١/ ٢٣٣، و"اللسان" ٨/ ٤٨٤٨، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٤٩، بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٢٥، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (وصب) ٤/ ٣٩٠٠، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٤٩.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٣، بنصه.
(٤) هو ابن قتيبة (ت ٢٧٦ هـ).
(٥) "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٤٥، بنصه.
(٦) انظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١١٩، بنصه غير منسوب.
(٧) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٤، بنحوه، و"تفسير الطبري" ١٤/ ١٢٠ - ١٢١، بنحوه، وانظر: "تفسير الرازي" ٢٠/ ٥١، و"الإملاء" ٢/ ٨٢، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٣٢.
85
قوله: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٥٨] وفي قوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ الآية [البقرة: ٢٧٤].
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ﴾ قال ابن عباس: يريد الأسقام والأمراض والحاجة (١)، ﴿فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾، أي: (ترفعون أصواتكم بالاستغاثة، وهو معنى قول المفسرين: يتضرعون بالدعاء (٢)، يقال: جأر ويجأر) (٣) جُؤارًا، وهو الصوت الشديد؛ كصوت البقرة (٤)، قال الأعشى يصف بقرة:
وكان النَّكيرُ أَنْ تُضيفَ وتَجْأرَا (٥)
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٢١ من طريق أبي طلحة صحيحة بلفظ السُّقْم، وكذلك ورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٣، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٥٧ بنصه، والفخر الرازي ٢٠/ ٥١، والخازن ٣/ ١١٩.
(٢) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٣ ب، بلفظه، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٢١ بلفظه عن مجاهد من طريقين، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٨، بلفظه، وهود الهواري ٢/ ٣٧٣، بلفظه عن مجاهد، والثعلبي ٢/ ١٥٨ أ، بمعناه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٣، بلفظه، والطوسي ٦/ ٣٩١ بلفظه، قال: وهو قول مجاهد، وانظر: "تفسير البغوي" ١/ ٥١٩، وابن عطية ٨/ ٤٤١، وابن الجوزي ٢٠/ ٥١.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).
(٤) انظر: (جأر) في "تهذيب اللغة" ١/ ٥١٩، و"المحيط في اللغة" ٧/ ١٧٢، و"اللسان" ٢/ ٧٢٢، ونقله الفخر الرازي ٢٠/ ٥١، بنصه.
(٥) لم أجده في ديوانه، وورد منسوبًا إليه في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٨ أ، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٥، برواية:
فطافت ثلاثًا بين يوم وليلة وكان النكيرُ أن تُضيفَ وتجأرا
والصحيح أن البيت للنابغة الجعدي كما في شعر النابغة الجعدي ص ٤١، وصدره:
فجالتْ على وَحْشيتها حتبجَةَ مستتِبَّةً
86
فهذا (١) ذهب جُؤَار البقرة، وقال عدي بن زيد في جُؤَار الإنسان:
إنَّني والله فاقْبَلْ حَلْفَتِي بأَبِيل كلما صَلَّى جَأَرْ (٢)
(أي رئيس النصارى) (٣).
٥٤ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ﴾ الآية. قال ابن عباس في قوله: ﴿إِذَا فَرِيقٌ﴾ يريد أهل النفاق (٤)، وقال الكلبي: يعني الكفار (٥)،
= ونسب إليه كذلك في "الكتاب" ٣/ ٥٦٣، و"أدب الكاتب" ص ٢٧٥، و"الاقتضاب" ص ٣٦٧، و"الخزانة" ٧/ ٤٠٧، وبرواية: (أقامت) بدل (فطافت) في "إصلاح المنطق" ص ٢٩٨، و"تهذيب إصلاح المنطق" ص ٦٤١، و"اللسان" (خمس) ٢/ ١٢٦٢، (ضيف) ٥/ ٢٦٢٧. (مستتبة) واهنة ضعيفة، يقال: استتبَّني: استضعفني، وأتب الله قوتها، أي: أوهنها. والنابغة يصف بقرة وحشية أكل السبع ولدها، فطافت ثلاثة أيام وثلاث ليال تطلبه ولا إنكار عندها ولا غناء إلا الإضافة؛ وهي: الجزع والإشفاق، و (الجؤار) هو الصياح، و (النكير) الإنكار. وانظر: "المحيط في اللغة" (تب) ٩/ ٤١٦.
(١) في (أ)، (د): (بهذا).
(٢) ورد في "الأغاني" ٢/ ١٠٥، وفيه: (لأبيلٌ)، و"مقاييس اللغة" ١/ ٤٢، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٣٩١، و"اللسان" (أبل) ١/ ١١، وفيه (فاسمع حَلِفي)، و"شعراء النصرانية قبل الإسلام" ص ٤٥٣. (الأبيل) الراهب، سمي به لتأبله عن النساء وترك غشيانهنّ، والفعل منه: أبَل يأبُلُ أبالةً: إذا تنسَّك وترهَّب، وفي اللسان: الأبيل: رئيس النصارى، وقيل: هو الراهب، وقيل: الراهب الرئيس، وقيل: صاحب الناقوس، وكانوا يسمون عيسى -عليه السلام- أبيل الأبيليين، وكانوا يعظمون الأبيل فيحلفون به كما يحلفون بالله.
(٣) ما بين القوسين كتب على الهامش في نسخة (أ).
(٤) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٥٧، وأبي حيان ٥/ ٥٠٢.
(٥) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٥٧، وأبي حيان ٥/ ٥٠٢، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٨، والزمخشري ٢/ ٣٣٢، وابن عطية ٨/ ٤٤٣.
وهو اختيار الزجاج؛ قال: هذا خاص فيمن كفر (١)، وقابل كشف الضّر عنه بالجحود والكفر.
٥٥ - قوله تعالى: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾، أي: ليجحدوا نعمة الله في كشف الضرّ عنهم، واللام هاهنا يحتمل أن تكون لام كي (٢)، ويكون المعنى: أنهم أشركوا بالله غيره ليجحدوا نعمته، فاللام بيان عما هو بمنزلة العلة التي يقع لأجلها الشرك، وهؤلاء أشركوا بالعبادة ليكفروا النعمة (٣)، ويحتمل أن تكون اللام للعاقبة (٤)، ويكون المعنى: أنهم جعلوا ما رزقناهم وأنعمنا به عليهم سببًا إلى الكفر، كما قلنا في قوله: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ﴾ إلى قوله: ﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ [يونس: ٨٨]، وقد مر، وذكر أبو إسحاق الوجهين أيضًا في اللام هاهنا (٥).
وقوله تعالى: ﴿فَتَمَتَّعُوا﴾ لفظ أمر لتهدد؛ كقوله: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا﴾ [الإسراء: ١٠٧]، ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾: عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب.
٥٦ - قوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ﴾ يعني الأوثان؛ لا يعلمون ضرًّا ولا نفعًا، ومفعول العلم هاهنا محذوف، والتقدير: لما لا يعلمون له
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٤، بنصه.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٥٢، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٥، والخازن ٣/ ١١٩، وابن كثير ٢/ ٦٣٠.
(٣) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٣٩٢، بنحوه.
(٤) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٥٢، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٥، والخازن ٣/ ١١٩، وابن كثير ٢/ ٦٣٠.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٤ باختصار.
88
حقًّا ولا فيه ضرًّا ونفعًا، قال مجاهد: يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه ينفعهم ويضرهم (١)، ونحو هذا قال قتادة وابن زيد: هم مشركو العرب جعلوا لأوثانهم جزءًا من أموالهم (٢)، وقد بينّا (٣) مذهبهم في هذا عند قوله: ﴿هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا﴾ [الأنعام: ١٣٦] جعلوا نصيبًا من الحرث والأنعام يتقربون به إلى الله تعالى، ونصيبًا يتقربون به إلى الأصنام والحجارة على ما يجب أن يتقربوا إلى الله، وعلى هذا: العِلمُ مسند إلى المشركين، وهو قول عامة المفسرين (٤).
وقال صاحب النظم: قوله: ﴿يَعْلَمُونَ﴾ هاهنا لازم ليس بمتعَدّ؛ لأنه الأصنام ومضاف إليها، والتأويل لِمَا ليس لها (٥)؛ لأنها موات لا معارف لها ولا حس، وأخرجها في قوله: (ما) مخرج غير الآدميين ومن [لا] (٦)
(١) ليس في تفسيره، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٢٢ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٥٨، والفخر الرازي ٢٠/ ٥٣، و"تفسير القرطبي"١٠/ ١١٥، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٢٦.
(٢) أخرجه الطبري ١٤/ ١٢٢ بنحوه عن قتادة، وبمعناه عن ابن زيد، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٥٨، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٢٦، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٣) في (أ)، (د): (ساء)، ولا معنى له، والصحيح المثبت كما في (ش)، (ع).
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٤/ ١٢٢ - ١٢٣، والسمرقندي ٢/ ٢٣٨، وهود الهواري ٢/ ٣٧٤، والثعلبي ٢/ ١٥٨ أ، والطوسي ٦/ ٣٩٢، والزمخشري ٢/ ٣٣٢، وابن عطية ٨/ ٤٤٤، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٨، والفخر الرازي ٢٠/ ٥٣، وذكر مسوغات ترجيح من رجحه، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٥، والخازن ٣/ ١١٩، وأبي حيان ٥/ ٥٠٣.
(٥) أي لما ليس لها علم ولا فهم.
(٦) إضافة يقتضيها السياق ليستقيم الكلام، ولعلها التبست على النساخ بما بعدها.
89
يفهم، وفي قوله: ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ مخرج من يفهم، ومثله قوله: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ (١) [الأعراف: ١٩٨]، وحمله المعنى ﴿وَيَجْعَلُونَ﴾، أي. المشركون، ﴿لِمَا لَا يَعْلَمُونَ﴾ أي للشركاء الذين لا يعلمون شيئًا ولا معرفة لهم ولا حس، ﴿نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾، هذا كلامه، ولعل هذا القول أقرب؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى تقدير محذوف، قال صاحب النظم: ولو كان هذا العلم مضافاً إلى المشركين لاستحال المعنى؛ لأنه لا يحتمل أن يجعلوا نصيبًا من رزقهم لما لا يعلمونه (٢)، ثم خاطبهم بعد الخبر عنهم، فقال: ﴿تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ﴾ أي سؤال توبيخ حتى يعترفوا به على أنفسهم؛ لأن سؤال التوبيخ هو الذي لا جواب لصاحبه إلا ما يظهر فيه فضيحتة (٣).
وقوله تعالى: ﴿عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾ أي تتقولونه على الله من أنه أمركم بذلك.
٥٧ - قوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ﴾ قال المفسرون: هؤلاء خزاعة (٤)
(١) قال الواحدي: والأكثرون على أن المراد بالآية الأصنام، وبيان صفات ما هي عليه من النقص.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٥٣، ذكر القولين كمسوغات لترجيح القول الثاني دون نسبته لصاحب النظم أو الواحدي.
(٣) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٣٩٢، بنحوه.
(٤) خزاعة: قبيلة من الأزد من القحطانية، وهم بنو عمرو بن ربيعة، وهو لُحيُّ بن عامر ابن قَمَعَة بن إلياس، وهو أول من بحّر البحيرة وسيَّب السائبة. سُمُّوا بذلك لأنهم انخزعوا عن جماعة الأسد أيام سيل العرم لمّا صاروا إلى الحجاز، فافترقوا بالحجاز فصار قومٌ إلى عُمان وآخرون إلى الشام، وبطونهم هي: بنو كعب، وبنو عديّ، وبنو نصر، وبنو مُلَيح، وبنو جفنة، وبنو المُصْطَلِق، وبنو الحياء. انظر: "الاشتقاق" ص ٤٦٨، و"جمهرة أنساب العرب" ص ٤٦٧، و"نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" ص ٢٢٨، و"معجم قبائل العرب" ١/ ٣٣٨.
90
وكنانة (١) زعموا أن الملائكة بنات الله (٢)، ثم نَزَّه نفسه فقال: ﴿سُبْحَانَهُ﴾ أي تنزيهًا عما زعموا.
وقوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ﴾ أجاز الفراء في (ما) وجهين؛ أحدهما: أن يكون في محل النصب على معنى: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون، والثاني: أن يكون رفعًا على الابتداء؛ كأنه تم الكلام عند قوله: ﴿سُبْحَانَهُ﴾، ثم ابتدأ فقال: ﴿وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ﴾ يعني البنين، وهذا كقوله: ﴿أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ﴾ (٣) [الطور: ٣٩]، ثم اختار الوجه الثاني فقال: لو كان نصبًا لقال: ولأنفسهم ما يشتهون؛ لأنك تقول: جعلتَ لنفسِك كذا وكذا، ولا تقول: جَعلتَ لك (٤)، و (٥) الزجاج أجاز (٦) الوجه الأول (٧) وقال: (ما) في موضع رفع لا غير، المعنى: ولهم الشيء الذي يشتهونه،
(١) كنانة: قبيلة عظيمة من العدنانية، وهم بنو كنانة بن خُزيمة بن مُدْرِكة بن إلياس، كانت ديارهم بجهات مكة، وُلِد له: النَّضر، ومَلْك، وملِكان، وعبد مناة، وترجع جميع أنساب كنانة إلى هؤلاء، ويرجع نسب قريش إلى النَّضر بن كنانة، ومنه يتفرع نسب نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص ١١، و"نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" ص ٣٣٦، و"معجم قبائل العرب" ٣/ ٩٩٦.
(٢) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٨أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٤، والزمخشري ٢/ ٣٣٢، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٨، والفخر الرازي ٢٠/ ٥٤، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٦، و"تفسير البيضاوي" ٣/ ١٨٤، والخازن ٣/ ١٢٠، وأبي حيان ٥/ ٥٠٣.
(٣) حيث تم الكلام على الآية السابقة [٣٨]، وهي: ﴿فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾، تم ابتدأ بهذه الآية.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٥، بتصرف.
(٥) ورد في جميع النسخ: (وابن الزجاج)، وهو خطأ، والصواب ما أثبته.
(٦) في جميع النسخ: (أجازه)، والصحيح المثبت.
(٧) الصحيح أنه أجاز الوجه الثاني كذلك.
91
ولا يجوز النصب؛ لأن العرب تقول: جَعَل لنفْسِه ما يشتهي، ولا تقول جَعَل زيدٌ له ما يَشْتهىِ، وهو يعني نفسه (١).
٥٨ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى﴾ أي أُخبر بولادة بنت، والتبشير هاهنا بمعنى الإخبار أو بمعنى حقيقة التبشير على ما بينا في قوله: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٢٥]؛ لأن الحزن يؤثر في البَشَرة كما يؤثر السرور، يدل على هذا قوله: ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا﴾ قال الزجاج: أي متغيرًا تَغَيُّرَ مغتم، ويقال لمن لَقِي مكروها: قد اسود وجهه غمَّا وحُزْنًا (٢)، وشرح أبو علي هذا فقال: ليس المعنى على السواد الذي هو خلاف البياض، ولكن على ما يلحق من غضاضة عن مذمة (٣)، ونَزَّلُوا ولادةَ الأنثى -وإن لم يكن من فِعْلِهم- منزلةَ ما يكونُ من فِعْلِهم مما يلحق من أجله العار، وعلى ضِدِّ هذا يمدحون بالبياض من لم يلحقه عار، من ذلك قوله (٤):
وأَوْجُهُهُمْ بيضُ المَسَافِرِ غُرَّان (٥)
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٦، بتصرف يسير.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٦، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٤، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٨، والفخر الرازي ٢٠/ ٥٥.
(٣) لم أقف عليه، وورد نحوه في "تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٦.
(٤) البيت لامرئ القيس.
(٥) وصدره:
ثيابُ بَني عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيةٌ
"شرح ديوان امرئ القيس" ص ١٦٧، وفيه (عند المشاهد) بدل (ببض المسافر)، وورد في "العين" ٤/ ١٩، وفي (غرر) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٥٢، و"الصحاح" ٢/ ٧٦٧، و"اللسان" ٦/ ٣٢٣٤، و"التاج" ٧/ ٣٠١، وفيه (المشاهد) بدل (المسافر)، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٤٢٨، برواية: (عند المسافر)، "الأساس" ص ٢٩٨. (المَسَافر)؛ أصله: سفر؛ أي أشرق، يقال: سفر وجهه حُسناً، وأسفر، =
يريد أنهم لا يرتكبون ما يُدَنِّس الوجه، وعلى هذا المعنى وصفهم الرجلَ بالبياض في المدح لا على معنى بياض اللون ونصوعه، قال قتادة في هذه الآية: هذا صنيع مشركي العرب، فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له (١).
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ أي ممتلئ غمًّا (٢)، وفسرنا هذا الحرف في سورة يوسف [٨٤].
٥٩ - قوله تعالى: ﴿يَتَوَارَى﴾، أي: يختفي ويتغيب، وقد ذكرنا هذا الحرف وتفسيره في قوله: ﴿مَا وُورِيَ عَنْهُمَا﴾ [الأعراف: ٢٠].
وقوله تعالى: ﴿مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ﴾ قال المفسرون: كان الرجل في الجاهلية إذا ضرب امرأتَه المخاضُ توارى إلى أن يعلم ما يُولدُ له، فإن كان ذكرًا سُرَّ به وابتهج، وإن كانت أُنثى اكتأب لها وحزن ولم يظهر للناس أيامًا، يُدبِّر كيف يصنع في أمرها (٣)، وهو قوله: ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ﴾ أي أيحبسه، والإمساك هاهنا بمعنى الحبس، كقوله: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ [الأحزاب: ٣٧]، والكناية تعود على ما في قوله: ﴿مَا بُشِّرَ بِهِ﴾، والهُون:
= وأسفر: أشرق، ومنه: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾: أي مشرقة، ومَسَافرُ الوجه: ما يظهر منه، (المشاهد) الوقائع والحروب، (غرَّان) جمع أغرّ، ورجلٌ أغرُّ الوجه إذا كان أبيض الوجه.
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٢٣ بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٢٦، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٨ أ، بنصه.
(٣) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٧٥، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٤٦، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٨، والفخر الرازي ٢٠/ ٥٥، والخازن ٣/ ١٢٠، وأبي حيان ٥/ ٥٠٤.
93
الهَوَان (١).
قال ابن شميل: إنه لَيَهُون علي هَوْنًا وهَوانًا (٢)، وأهنته هَوْنًا وهوانًا، وذكرنا هذا في سورة الأنعام عند قوله: ﴿عَذَابَ الْهُونِ﴾ [آية: ٩٣].
قال المفسرون: كان أحدُهم في الجاهلية إذا وُلِدت له بنتٌ ضاق بها ذرعًا، فلم يدر ما يصنع بها؛ أَيَدُسُّها تحت التراب أو يتهاون بها فيُلْقِيها (٣)، والهَوان على قول أكثرهم يعود إلى المولودة على معنى أنه سيهينها في التعب والعمل، ويمسكها على هوان منه لها.
وقال عطاء عن ابن عباس في قوله: ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ﴾ يريد على رغم أنفه وعلى الكراهية منه (٤)، وعلى هذا القول، الهوان راجع إلى الوَالِد (٥)؛ لأنه يمسكه على رضا بهوان نفسه وكراهته، واختاره الفراء
(١) لم يفرق بعضهم بين الهَوْن والهُون، وذهب الكثير إلى التفريق بينهما؛ فقال بعضهم: الهُون: الهوان، والهَون: الرفق. وقال آخرون: الهُون: العذاب، والهَون: الرفق. وقال الليث: الهَون: مصدر الهيِّن في معنى السكينة والوقار. وقال شمر: الهَوْنُ: الرفق والدعة. وقال الفراء: الهُوْنُ في لغة قريش: الهَوَانُ، وبعض تميم يجعل الهُون مصدرًا للشيء الهيّن؛ أي القليل. انظر: "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٦، و"تهذيب اللغة" (هان) ٤/ ٣٦٩٩، و"اتفاق المباني وافتراق المعاني" ص ٩٩.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (هان) ٤/ ٣٦٩٩، بنصه.
(٣) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٤ أ، والطبري ١٤/ ١٢٤، والسمرقندي ٢/ ٢٣٩، وهود ٢/ ٣٧٤، والثعلبي ٢/ ١٥٨ أ، ولعل المقصود بقوله: (فيلقيها)، أي: يلقيها من شاهق، فقد ذكر الرازي عدة وسائل كانوا يسلكونها في قتل البنات، أشهرها: أن يحفر لها الحفيرة ويدفنها حتى تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل، ومنهم من يغرقها، ومنهم من يذبحها. انظر: "تفسير الرازي" ٢٠/ ٥٦.
(٤) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٥٥.
(٥) في جميع النسخ: (الولد) والصحيح (الوالد)؛ لأن هذا هو المعنى الثاني، وفي الأول عاد الهوان على الولد، ويؤيده التعليل بعده.
94
فقال: لا يدري أيدفنها أم يصبر عليها وعلى مكروهها (١).
وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ أي يخفيه، والدس: إخفاء الشيء (٢)، وهذا على ما كانوا يفعلونه من الوأد في الجاهلية، والجملة التي وقع عليها الاستفهام من الإمساك أو (٣) الوأد متعلقة بمحذوف يدل عليه القَسَم في الاستفهام، على تقدير ﴿يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ﴾ مقدرًا: أيمسكه أم يدسه، أو مفكرًا أو مدبرًا، أي يُقَلِّبُ رأيه في أحد الأمرين.
وقال صاحب النظم: قوله: ﴿أَيُمْسِكُهُ﴾ متصل في النظم بقوله: ﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾، والكظيم بمعنى الكاظم، ومعنى الكظم: ستر الشيء في القلب وترك إظهاره (٤)، ومنه: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ [آل عمران: ١٣٤]، والتأويل: وهو كاظم، ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾، أي: أن هذا المعنى في قلبه من شدة الغَمّ وهو يكظمه ولا يظهره.
وقوله تعالى: ﴿أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ قال ابن عباس والمفسرون: بئس ما حكموا أن جعلوا لمن يعرفون بأنه خالقهم البنات؛ اللاتي محلهن منهم
(١) "معانى القرآن" للفراء ٢/ ١٠٧، بنصه.
(٢) انظر: (دس) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٨٣، و"المحيط في اللغة" ١٢/ ٢٣٥، و"الأساس" ١/ ٢٧١، و"عمدة الألفاظ" ٢/ ٨.
(٣) في جميع النسخ: (و)، وما أثبته هو الصواب، والظاهر أن الألف سقطت أو تصحفت.
(٤) أصل الكَظْم: اجتراعُ الغَيْظ، والكَظَمُ: مخرجُ النفس، يقال: أخذ بكَظَمِه، والكُظُومُ: السكوت، والكُظومُ: إمساكُ البعيرِ عن الجِرَّةِ. انظر: (كظم) في "العين" ٥/ ٣٤٥، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٥١، و"المحيط في اللغة" ٦/ ٢٣٣، و"مجمل اللغة" ٢/ ٧٨٦، و"عمدة الحفاظ" ٣/ ٤٦٩.
95
هذا المحل، ونسبوه إلى اتخاذ الولد، وجعلوا لأنفسهم البنين (١)، نظير هذه الآية قوله: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النجم: ٢١، ٢٢].
٦٠ - قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ﴾ قال ابن عباس والكلبي: يريد العذاب والنار.
﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾: شهادة أن لا إله إلا الله (٢)، وهذا قول قتادة، ورُوي عنه ﴿الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾: الإخلاص والتوحيد (٣)، وهذا قول المفسرين في هذه الآية، لا أدري لم قيل للعذاب: المثل السَّوء، وللإخلاص: المثل الأعلى.
(١) ورد بمعناه غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٤ أ، والطبري ١٤/ ١٢٤، والسمرقندي ٢/ ٢٣٩، والثعلبي ٢/ ١٥٨ أ، والطوسي ٦/ ٣٩٤، وانظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٣٣، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٩، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٨، والخازن ٣/ ١٢٠، وأبي حيان ٥/ ٥٠٤.
(٢) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٥٧) بنصه عن قتادة، والطبري ١٤/ ١٢٥ بنصه عن قتادة، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٧٧، بنصه عن قتادة، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٨ب، بنصه عن ابن عباس، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٤، عن ابن عباس، وابن عطية ٨/ ٤٤٨، عن قتادة، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٩، عن ابن عباس، والخازن ٣/ ١٢٠، عن ابن عباس، وأبي حيان ٥/ ٥٠٥ عن ابن عباس وقتادة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٢٦، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٣) أخرجه الطبري ١٤/ ١٢٥ بنصه، ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٧٧، بنصه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٥، بنصه، وانظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٩، وورد بنصه غير منسوب في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٧٥، والثعلبي ٢/ ١٥٨ ب، والطوسي ٦/ ٣٩٤، والقولان عن قتادة متطابقان.
96
وقال قوم: المثلُ السَّوء: الصفةُ السَّوء؛ من احتياجهم إلى الولد وكراهيتهم الإناث خوفَ العَيلة والعَار (١)، ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾: الصفة العليا من تنزهه وبراءته عن الولد، وهذا قول صحيح، والمَثْلُ يَردُ (٢) كثيرًا بمعنى الصفة، وقد بَيَّنا ذلك مستقصي في قوله: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ﴾ في سورة الرعد [آية: ٣٥] وإن أنكر ذلك بعض المتأخرين (٣)، فقد رُوي عن المقدمين من أئمة اللغة المثل بمعنى الصفة (٤).
وقال ابن كيسان: ﴿مَثَلُ السَّوْءِ﴾: ما ضَرب اللهُ للأصنام وعبدتها من الأمثال (٥)؛ مِثلُ قوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ﴾ الآية. [العنكبوت: ٤١]. وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ الآية [الحج: ٧٣]، ولله المثل الأعلى نحو قوله: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ﴾ الآية [النور: ٣٥].
(١) ورد في "نفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٨ أ، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٥، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٩، والفخر الرازي ٢٠/ ٥٦، و"البيضاوي" ١/ ٢٧٨.
(٢) في: (أ)، (د): (يريد)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الصحيح.
(٣) يقصد محمد بن يزيد المبّرد (ت ٢٨٥ هـ) فقد قال عند قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ﴾ [الرعد: ٣٥]: فمن قال: إنما معناه: صفة الجنة فقد أخطأ؛ لأن (مَثَل) لا يوضع في موضح صفة، وإنما المثل مأخوذ من المثال والحذو، والصفة تحلية ونعْت. انظر: "المقتضب" ٣/ ٢٢٥.
(٤) كيونس بن حبيب (ت ١٨٢ هـ)، و"الفراء" ت ٢٠٧، ومحمد بن سلّام الجمحي (ت ٢٣١ هـ)، وإليه ذهب ابن جرير عند آية الرعد [٣٥]، ، ومال إليه الأزهري ونصره. انظر: "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٦٥، و"تفسير الطبري" ١٣/ ١٦٢، و"تهذيب اللغة" (مثل) ٤/ ٣٣٤١.
(٥) لم أقف عليه.
97
فإن قيل كيف جاء ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ مع قوله: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾؟ [النحل: ٧٤] قيل: لأنه بمعنى الأمثال التي توجب الأشباه، فأما الأمثال التي يضربها الله من غير شَبَه له بخلقه فحقٌّ وصوابٌ؛ لما فيها من الحِكم (١).
٦١ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ﴾ قال ابن عباس: يريد المشركين، ﴿بِظُلْمِهِمْ﴾ قال: يريد بافترائهم على الله، ﴿مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ قال: يريد من (٢) مفتر، هذا قوله في رواية عطاء (٣)، ومعناه: أنه لو عاجلهم بالعقوبة على كفرهم ما أمهلهم طرفة عين ولأخلى وجه الأرض عنهم، والكناية في: ﴿عَلَيْهَا﴾ تعود إلى الأرض ولم يسبق لها ذكر، ولكن ذكر الدابة تدل على الأرض؛ فإنها تَدُبّ عليها، وكثير ما يُكَنّي عن الأرض وإن لم يتقدم ذكرها؛ لأنه لا يُشْكِل، يقولون: ما عليها مثل فلان، وما عليها أكرم من فلان؛ يعنون على الأرض (٤)، وعلى هذا التفسير الدابة تختص بالمفتري، وقال سائر المفسرين: يعني دواب الأرض؛ روى السدي عن أصحابه في قوله: ﴿مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ يقول لأقحط المطر، فلم يبق في الأرض دابة إلا هلكت (٥)، ورُوي عن ابن مسعود أنه قرأ هذه
(١) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٣٩٤، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٥٦، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٩.
(٢) موضع طمس في (ع) وغير واضح.
(٣) انظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٣٣، وأبي حيان ٥/ ٥٠٦، وفيهما قال: ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ أي: من مشرك يدبّ عليها.
(٤) نقله الفخر الرازي بنصه دون عزو، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٦٠.
(٥) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٥٩، وأبي حيان ٥/ ٥٠٦، وورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٤ أ، بنحوه غير منسوب.
98
الآية، فقال: كاد (١) أن يَهْلِكَ الجُعَلُ (٢) في جُحْره بذنب ابن آدم (٣)، وقال قتادة في هذه الآية: قد فَعَل ذلك زمان نوح (٤)، والمعنى على هذا: أن شؤم ذنوب المشركين كاد أن يصيب دواب الأرض حتى تهلك بسبب ذلك، لولا حلم الله وتأخيره العقوبة، كما روى عن أبي حمزة الثُّمالي (٥) أنه قال: يحبس المطر فيَهلكَ كلُ شيء (٦).
وقال أهل المعاني: معنى الآية، أن الله تعالى لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء (٧)، فكانت الأرض تبقى خالية، وقد ضرب الله لهلاك الخلق
(١) في (أ)، (د): (كان) والمثبت من (ش)، (ع) يتفق مع السياق والمعنى.
(٢) الجُعَلُ: دويبَّة سوداء صغيرة تألف المواضع النديّة، وهي من الخنافس، أو هو الحرباء، وكنيته أبو جِعْران، وأبو وجزة في لغة طيىء، وجمعه جِعْلاَن. انظر: "المحيط في اللغة" (جعل) ١/ ٢٥٦، و"متن اللغة" ١/ ٥٣٨.
(٣) أخرجه الطبري ١٤/ ١٢٦ بنصه، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٩، بنحوه، والثعلبي ٢/ ١٥٨ ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٤، والزمخشري ٢/ ٣٣٣، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٢٠، والبيضاوي ١/ ٢٧٨، والخازن ٣/ ١٢١، وابن كثير ٢/ ٦٣١.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٦، وابن الجوزي ٤/ ٤٥٩، والخازن ٣/ ١٢٠، وأبي حيان ٥/ ٥٠٦.
(٥) أبو حمزة ثابت بن أبي صفية الثُّمالي، اسم أبيه دينار، وقيل: سعيد، مولى المهلَّب بن أبي صُفرة، كوفي ضعيف رافضي، روى عن أنس والشعبي، وعنه: وكيع وأبو نعيم، مات في خلافة أبي جعفر. انظر: "الجرح والتعديل" ٢/ ٤٥٠، و"ميزان الاعتدال" ١/ ٣٦٣، و"الكاشف" ١/ ٢٨٢، و"تقريب التهذيب" ص ١٣٢ (٨١٨).
(٦) أقف عليه.
(٧) ورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٦، بنصه، والطوسي ٦/ ٣٩٦، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٦، والزمخشرى ٢/ ٣٣٣، والفخر الرازي ٢٠/ ٥٩، ونسبه لأبي علي الجبائي، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١١٩، و"البيضاوي" ١/ ٢٧٨، والخازن ٣/ ١٢١.
99
وخلو الأرض عن سكانها أجلاً، فهو يؤخرهم إلى أجل مُسَمّى كي يتوالدوا، والأجل المسمى في هذه الآية: القيامة، في قول عطاء عن ابن عباس (١)، ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾ يريد أجل القيامة، وفي قول الآخرين: يعني منتهى الأجل وانقضاء العمر (٢)، ولعل الأقرب هذا؛ فإن المشركين يؤاخذون بالعقوبة إذا انقضت أعمارهم وخرجوا من الدنيا، ووجه القول الأول: أن معظم العذاب يوافيهم يوم القيامة، وذكرنا معنى: ﴿لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ في سورة الأعراف: [٣٤].
٦٢ - قوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾، معنى ﴿يَجْعَلُونَ﴾ هاهنا يصفونه بذلك ويحكمون به له، لقولك: جعلت زيدًا أعلى الناس؛ وذكرنا معاني الجَعَل عند قوله: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ [المائدة: ١٠٣].
وقوله تعالى: ﴿مَا يَكْرَهُونَ﴾ يعني البنات في قول جميع المفسرين (٣)، والمعنى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾: لأنفسهم،
(١) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٦٠، وورد غير منسوب في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٧٥، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٥، والخازن ٣/ ١٢١.
(٢) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٨ ب، بنصه، والطوسي ٦/ ٣٩٦، بمعناه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٦، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٠، والفخر الرازي ٢٠/ ٦٠، و"تفسير البيضاوي" ١/ ٢٧٨، والخازن ٣/ ١٢١، وذهب بعضهم إلى أنه الوقت الذي قدّره الله لإنزال العذاب بهم في الدنيا، فيكون الناس من العام المخصوص؛ أي أهل المعاصي والكفر؛ كما في قول ابن عباس القول الأول. انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٤ أ، والطبري ١٤/ ١٢٥ - ١٢٦، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٥، والفخر الرازي ٢٠/ ٦٠، و"القرطبي" ١٠/ ١١٩، والخازن ٣/ ١٢٠.
(٣) ورد بلفظه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٤ أ، والطبري ١٤/ ١٢٦، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٧٨، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٩، و"تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٧٥، والثعلبي ٢/ ١٥٨ ب، والطوسي ٦/ ٣٩٦.
100
﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى﴾ قال الفراء والزجاج: موضع ﴿أَنَّ﴾ نصب؛ لأنه عبارة عن الكذب وبدل منه، المعنى: وتصف ألسنتهم أن لهم الحسنى (١).
وأما تفسير ﴿الْحُسْنَى﴾ فكثير من المفسرين على أنه الغلمان والبنون، وهو (٢) قول السدي ومجاهد وقتادة (٣)، قال يمان بن رِئاب (٤): ﴿الْحُسْنَى﴾: الجنة (٥)، وهو معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (٦)، واختيار
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٧، بنحوه، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٧، بنحوه.
(٢) في جميع النسخ: (وهي)، والصواب ما أثبته؛ لأن الضمير يعود على القول، وهو مذكر.
(٣) "تفسير مجاهد" ص ٤٢٢ بلفظه، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ٢/ ٣٥٧ بلفظه عن قتادة، والطبري ١٤/ ١٢٧ بلفظه عن مجاهد وقتادة من طريقين لكلٍّ، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٧٨، بلفظه عن مجاهد، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٦، بنحوه عن مجاهد، والطوسي ٦/ ٣٩٧، بنحوه عن مجاهد، وانظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٣٣، عن مجاهد، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٠، عن مجاهد وقتادة، والقرطبي ١٠/ ١٢٠، عن مجاهد، وأبي حيان ٥/ ٥٠٦، عن مجاهد، وابن كثير ٢/ ٦٣٢، عن مجاهد وقتادة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٢٨، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة. ولم أقف عليه منسوبًا إلى السدي.
(٤) في جميع النسخ: (رباب)، وكذا في "لسان الميزان"، والصحيح رِئاب كما ذكره الدارقطني والذهبي، وقد صوَّب محقق كتاب الضعفاء للدارقطني هذه الرواية ورجحها على رواية اللسان.
(٥) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٨ ب بلفظه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٦ وورد بلفظه غير منسوب في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٧٨، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٩، وابن عطية ٨/ ٤٥١، والفخر الرازي ٢٠/ ٦٠، والخازن ٣/ ١٢١.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٨٨.
101
الزجاج (١)، قال: المعنى يصفون أن لهم مع قولهم هذا القبيح من الله الجزاء الحسن (٢)، فحصل في ﴿الْحُسْنَى﴾ هاهنا قولان؛ الأول: على أنهم قالوا: لله البنات ولنا البنون، والثاني: على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة والثواب من الله إن كان محمد صادقًا (٣) في البعث؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالمعاد، ولعل الأقرب في تفسير الحسنى: الجنة، وفي الآية ما يدل على هذا، وهو قوله: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّار﴾، فردَّ عليهم قولَهم وأثبت لهم النار، فدلّ هذا أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة، قال الزجاج: (لا) ردٌّ لقولهم، المعنى ليس ذلك كما وصفوا، جَرَمَ فعلُهم هذا، أي كَسَبَ النارَ (٤)، فعلى هذا (أنَّ) يكون في محل النصب بوقوع الكسبِ عليه، وقال قطرب: (أنَّ) في موضع رفع، المعنى: وجب أنَّ لهم النار (٥)، وقيل: لا بُدَّ ولا محالةَ أن لهم النّار، وذكرنا فيما تقدم استقصاء الكلام في هذا الحرف (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ﴾ أي مُتْرَكون (٧) مَنْسِيُّون في النار، قاله الكلبي ومجاهد والضحاك (٨).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٧، بنصه.
(٢) في (أ)، (د): (الحسنى)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الموافق للمصدر.
(٣) في (أ)، (د): (صادق) وهو خطأ نحوي ظاهر، لعله من النساخ، والمثبت من (ش)، (ع). "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٨ ب.
(٤) أي: كَسَبَ فعلُهم هذا لهم النارَ.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٧، بتصرف يسير.
(٦) سورة هود: الآية [٢٢]، و"تفسير السمرقندي" ١/ ١٦٩، والنحل الآية [٢٣].
(٧) هكذا في جميع النسخ، ولعلها (متروكون) كما في "مجاز القرآن" ١/ ٣٦١، و"تفسير الطبري" ١٤/ ١٢٧، و"الحجة للقراء" ٥/ ٧٣.
(٨) "تفسير مجاهد" ص ٤٢٢، بنصه، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٢٨ من ثلاث طرق عن مجاهد بلفظ: مَنْسيون، وعن الضحاك بلفظ: متروكون في النار، ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٧٩، بلفظه عن مجاهد، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٨٦، بلفظه عن مجاهد والضحاك، والطوسي ٦/ ٣٩٥، بنصه عن مجاهد والضحاك، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٥٢، عن مجاهد، وأبي حيان ٥/ ٥٠٦ عن مجاهد، وابن كثير ٢/ ٦٣٢، عن مجاهد.
102
وقال قتادة: مُعَجَّلُون إلى النار (١)، وهو قول الحسن، والقول الأول اختيار أبي عبيدة (٢) والفراء (٣)، قال الكسائي: يقال: ما أَفْرَطْتُ من القوم أحدًا (٤)، وقال الفراء: العرب تقول أَفْرَطتُ منهم ناسًا، أي خَلَّفتهم ونسِيتُهم (٥)، ومَنْ قال: مُعَجَّلُون، وهو الاختيار (٦)؛
(١) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ٢/ ٣٥٧ بلفظه عن قتادة، والطبري ١٤/ ١٢٨ - ١٢٩ بنصه عن قتادة من طريقين، ورد في: "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٧٩، بنصه عن الحسن، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٣٩ بنصه عن قتادة، والثعلبي ٢/ ١٥٨، بنصه عن قتادة، والماوردي (٣/ ١٩٦) بمعناه عن قتادة، والطوسي ٦/ ٣٩٥، بمعناه عنهما، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٧، عن قتادة، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٢١، والخازن ٣/ ١٢١، عن قتادة، وابن كثير ٥/ ٢٧، عن قتادة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٢٨، وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن قتادة، وأورده وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن الحسن.
(٢) "مجاز القرآن" ١/ ٣٦١، بنصه.
(٣) "معانى القرآن" للفراء ٢/ ١٠٧، بنصه.
(٤) أي ما تركتُ أحدًا، ورد في "تهذيب اللغة" (فرط) ٣/ ٢٧٧٣، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٦١، ورجَّحَ الطبري هذا القول ١٤/ ١٢٩.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٧، بنصه.
(٦) وقد رجحه النحاس كذلك، وقال: قول الحسنِ أشهرُ في اللغة وأعرف، وأيَّده بقول القُطامي كما في "ديوانه" ص ٩٠:
واسْتَعْجَلُونا وكانوا من صَحَابَتِنا كما تَعَجَّل فُرَّاطٌ لِروَّادِ
وهذا الذي ذكره أوضح دلالة مما ذكره الواحدي رحمه الله، كما يؤيِّده حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"أنا فَرَطكْم على الحوض.. " أي متقدِّمكم وسابقكم إليه حتى تردوه. أخرجه البخاري (٦٥٧٥): الرقاق، في الحوض، ومسلم (٢٢٨٩) كتاب: الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا -صلى الله عليه وسلم- وصفاته، وقد جمع ابن كثير بين القولين -في (مفرطون) - وقال: ولا منافاة؛ [أي بينهما]، لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار وينسون فيها؛ أي يخلدون. "تفسير ابن كثير" ٢/ ٥٩٥.
103
فوَجْههُ (١) ما قال أبو زيد وعيره: فرَطَ الرجلُ أصحابَه يَفْرُطُهم فِراطا وفُرُوطًا، إذا تقدمهم إلى الماء ليصلح الدِّلاء والأرْسَان (٢)، وأنشدوا (٣):
فأثارَ فارِطُهم غَطَاطًا جُثَّمًا أصواتُها كتَراطُنِ الفُرْسِ (٤)
(١) في جميع النسخ: (فوجه) والصحيح ما أثبته؛ وينسجم مع السياق.
(٢) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٧٣، بنحوه، ونقله الفخر الرازي ٢٠/ ٦١، بنصه ونسبه للواحدي. (الأرْسانُ) هكذا في جميع النسخ، جمع رَسَن؛ وهو الحبل تقاد به الدابّة، ويحتمل أن يكون (الأرْشَان) جمع رَشْن بسكون الشين وفتحها، وهي مَشْرَبُ الماءِ من النَّهر، أي الثُّلمة في النهر يُستقى منها، وذكر الطبري نحوًا من هذا القول بلفظة (الأرشية) وهو جمع الرَّشاء: وهو حبل الدلو، وهو الأقرب لولا اختلاف مبنى الكلمة، انظر: "تفسير الطبري" ١٤/ ١٢٨ بمعناه، و"المحيط في اللغة" ٧/ ٣٢٠، ٣٧٤، ٨/ ٣٠٥، و"اللسان" (رشن) ٣/ ١٦٥٢، (رشا) ٣/ ١٦٥٣، و"المعجم الوسيط" ١/ ٣٤٧، و"متن اللغة" ٢/ ٥٨٨، ٥٩٢.
(٣) لطرفة بن العبد (جاهلي).
(٤) لم أجده في ديوانه، وذكر محقق "مستدرك التهذيب" (غط) ١٦/ ٤٩، أنه ليس في ديوانه، ولكنه مما نسب إليه في زيادات [ط: أوربا/ باريس]، ورد في "لسان العرب" (رطن) ٣/ ١٦٦٦، وورد بلا نسبة في: "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص ٥٧٢ وفيه: (فأراد) بدل (فأثار)، و"تهذيب اللغة" (فرط) ٣/ ٢٧٧٣، (غط) ٣/ ٢٦٧٦، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٤٠٤، ٤/ ٣٨٤، و"اللسان" (غطط) ٦/ ٣٢٧١، (فرط) ٦/ ٣٣٩٠، و"التاج" (غطط) ١٠/ ٣٥٣، (فرط) ١٠/ ٣٦٠. (الفارطُ): المتقدّم السابق، (الغَطاطُ) بفتح الغين كسَحَاب، هي القَطَا أو ضرب منه، وقيل: ضربٌ من الطير ليس من القطا، هنَّ غُبرُ الظهور والبُطون والأبدان. سُودُ بْطون الأجنحة، طوال الأرجل والأعناق، لِطافٌ، لا تجتمعُ أسرابًا، أكثرُ ما تكونُ ثلاثًا أو اثنين، وواحدتُها: غَطاطَة، سميت لصوتها غطاطًا، (جُثَّمًا) يقال: جثم الإنسان والطائر، يجْثِم ويجْثُم جَثْمًا وجُثومًا، فهو جاثِم: أي لزم مكانه فلم يبْرح؛ أي تلَبَّد بالأرض، (تراطن) من الرَّطانة بفتح الراء وكسرها، والتراطن: كلام لا يفهمه الجمهور، إنما هو مُواضعةٌ بين اثنين أو جماعة، والعرب تخص بها غالبًا كلام العجم. وانظر: "اللسان" (جثم) ١/ ٥٤٥.
104
وأَفْرَط للقوم الفَارِطُ، وفَرَّطُوه: إذا قدَّموه، فمعنى قوله: ﴿مُفْرَطُونَ﴾ من هذا، كأنهم أُعجلوا إلى النار؛ فهم فيها فَرْطٌ للذين يدخلون بعدهم (١).
وقال أبو إسحاق: معنى ﴿مُفْرَطُونَ﴾: مُقَدَّمُون إلى النّار (٢)، وقرأ نافع بكسر الراء (٣).
قال الفراء: يقول: كانوا مُفْرِطين على أنفسهم في الذنوب (٤)، ونحوه قال الزجاج: المعنى على أنهم أَفْرَطُوا في مَعْصِية الله (٥).
قال ابن عباس في رواية عطاء: أفرطوا في الافتراء على الله.
وقال أبو علي: كأنه من أَفْرَطَ؛ أي صارَ فَرَطٌ، مِثْلُ: أقْطَفَ (٦) وأجْرَبَ، أي هم ذَوو فَرَطٍ إلى النّار (٧)؛كأنهم قد أَرْسَلُوا من يُهيئ لهم
(١) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٧٣، بنصه.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٨، بنصه.
(٣) قرأ نافع وحده: ﴿مُفْرَطُونَ﴾ من أفْرَطْتَ، وقرأ الباقون: ﴿مُفْرَطُونَ﴾ بفتح الراء، من أُفْرِطُوا فهم مُفْرَطُونَ. انظر: "السبعة" ص ٣٧٤، و"علل القراءات" ١/ ٣٠٦، و"الحجة للقراء" ٥/ ٧٣، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٥، و"التيسير" ١٣٨.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٨، بنصه تقريبًا.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٨، بنصه.
(٦) في (ش)، (ع): (قَطَفٌ). قال الصاحب ابن عباد: يقال: أقطف الرجل، أي: صار صاحبَ دابةٍ قطوف، والقطوف من الدواب والإبل: هو البطئُ المقاربُ. انظر: "المحيط في اللغة" (قطف) ٥/ ٣٣٠.
(٧) "الحجة للقراء" ٥/ ٧٤، بنصه تقريباً.
105
مواضعَهم منها.
٦٣ - قوله تعالى: (﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ قال ابن عباس: يعزي الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بهذا (١) يقول) (٢): ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ﴾ يعني رسلًا وأنبياءَ من قبلك، ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ﴾: حتى عَصَوا وكذبوهم، ﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ﴾ (يحتمل معنيين؛ أحدهما: أن المراد بهذا كفار قريش، يقول: الشيطان وليهم اليوم) (٣)؛ يتولى إغواءهم وصرفهم عنك كما فعل بكفار الأمم قبلك (٤)، فيكون قد رجع عن الإخبار عن (٥) الأمم الماضية إلى الإخبار عن كفار مكة. الثاني: أنه أراد باليوم يوم القيامة، يقول: فهو ولي أولئك الذين زَيَّن لهم أعمالهم يوم القيامة (٦)، ومن كان الشيطان ولِيَّه ذلك
(١) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٦٢، والفخر الرازي ٢٠/ ٦١، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٢١، والخازن ٣/ ١٢١، وأبي حيان ٥/ ٥٠٧، وابن كثير ٢/ ٦٣٢، وأبي السعود ٥/ ١٢٣، وهو بلا نسبة في المصادر كلها.
(٢) ما بين القوسين ساقط من (ع).
(٣) ما بين القوسين ساقط من (ع).
(٤) ورد في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٢٩ - ١٣٠، بمعناه، والثعلبي ٢/ ١٥٨ ب، بمعناه، والطوسي ٦/ ٣٩٧، بمعناه، وانظر: "الكشاف" ٢/ ٣٣٤، وابن عطية ٨/ ٤٥٤، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٢، و"البيضاوي" ١/ ٢٧٨، وأبي حيان ٥/ ٥٠٧، ونسبه إلى الزمخشري، واستبعده بحجة اختلاف الضمائر من غير ضرورة، وهذا تحامل منه على الزمخشري كما هو معروف عنه؛ لأن القول قديم كما هو واضح في المصادر، والقول ليس بضعيف، بل هو محتمل كما قال الواحدي رحمه الله.
(٥) في جميع النسخ (إلى)، وما أثبته هو الصواب؛ كما في "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٦٢.
(٦) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٤ ب، بنحوه، والطوسي ٦/ ٣٩٧، بمعناه، وانظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٣٤، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٢، والفخر الرازي ٢٠/ ٦٢، نقل القولين بنصهما بلا نسبة، وأبي حيان ٥/ ٥٠٧، و"الدر المصون" ٧/ ٢٤٩، وابن كثير ٢/ ٦٣٢.
106
اليوم دخل (١) النار، وأطلق اسم اليوم على يوم القيامة لشهرة ذلك اليوم.
٦٤ - قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ قال ابن عباس: يريد ما قص من أخبار الأمم الخالية في القرآن، ﴿إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، قال: يريد لاتخاذ الحجة عليهم، كأن المعنى: إلا لتُبَيِّن لهم ما يختلفون في من الدين والأحكام؛ فيذهبون فيها إلى خلاف ما يذهب إليه المسلمون، فَتقومُ الحجةُ عليهم بدعائك وبيانك.
وقوله تعالى: ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾ قال أبو إسحاق: بنصب ﴿رَحْمَتَ﴾؛ لأن المعنى: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا للهداية والرحمة، فهو مفعول له (٢).
٦٥ - قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ إلى قوله: ﴿يَسْمَعُونَ﴾ أخبر الله تعالى أنه هو الذي أنزل المطرَ فأخصبت الأرض به بعد جُدُوبتها وُيبُوستها، وفي ذلك آية ودلالة على قدرته على البعث والإحياء بعد الإماتة لمن سمع ذلك سَماعَ اعتبارٍ وتَفَكُّر.
٦٦ - قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً﴾ الآية. ذكرنا معنى العبرة في سورة آل عمران عند قوله: ﴿لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [آية: ١٣].
وقوله تعالى: ﴿نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ مَنْ فتح النون (٣) فحجته ظاهرة
(١) في (أ)، (د): (ذلكل)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الصحيح الذي يستقيم به الكلام.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٨، بنصه.
(٣) وهم ابن عامر ونافع وعاصم في رواية أبي بكر. انظر: "السبعة" ص ٣٧٤، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٥٧، و"علل القراءات" ١/ ٣٠٧، و"الحجة للقراء" ٥/ ٧٤ و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٥، "المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧٣٩.
107
يقول: سقيته حتى رَوِي، أسقيه، قال الله تعالى ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان: ٢١]، وقال: ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾ [الشعراء: ٧٩]، وقال: ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا﴾ [محمد: ١٥]، وما كان للشفة فهو بفتح النون؛ ومن ضَمَّ النونَ (١) فهو من قولك: أسقاه إذا جعل له شِربًا كقوله: ﴿وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا﴾ [المرسلات: ٢٧]، وقوله: ﴿فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ﴾ [الحجر: ٢٢]، والمعنى هاهنا إنا جعلناه في كثرته وإدامته كالسُّقْيَا، واختار أبو عبيدة الضَّمَّ وقال: لأنه شِرْبٌ دائم (٢)، وأكثر ما يقال في هذا المعنى: أَسْقَيْت، وذكرنا الكلام في سقى وأسقى في سورة الحجر (٣).
واختلف النحويون في علة تذكير الكناية في قوله: ﴿مِمَّا فِي بُطُونِهِ﴾، وهي راجعة إلى الأنعام، فقال أبو إسحاق: الأنعام لفظه لفظ جمع، وهو اسم للجنس يذكر ويؤنث، يقال: وهو الأنعام، وهي الأنعام، ﴿نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ﴾، وفي موضع آخر: ﴿مِمَّا فِي بُطُونِهَا﴾ (٤) [المؤمنون: ٢١].
وهذا مذهب سيبويه، قال في ذِكْرِه إن الاسم الواحد يجيء على أَفْعَال، قال: يقال: هو الأنْعَام، وقال: ﴿فِي بُطُونِهِ﴾ (٥)، فذهب إلى أنه اسم مذكر يقع للجميع كالقوم والنفر والرهط، وقال الفراء: النَّعَمُ والأنعامُ شيء واحد، فرجع التذكير إلى معنى النَّعَم إذ كان يؤدي عن معنى الأنعام،
(١) وهم: ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي. انظر: المصادر السابقة.
(٢) لم أجده في مجازه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٨، بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٦٤.
(٣) آية: [٢٢].
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٩، بنصه.
(٥) "الكتاب" ٣/ ٢٣٠، بنحوه، وانظر:"إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٤٠١.
108
وأنشد (١):
وطاب ألْبانُ اللِّقَاح وَبردْ (٢)
وفرحع إلى اللبن (٣)؛ لأن اللبن والألبان في معنى واحد (٤)، والدليل على أن النَّعَمَ مذكر قول الراجز (٥):
أَكُلَّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهُ يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وتَنْتُجُونه (٦)
(١) لم أقف على القائل، وفي "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٩ أ، أنه رجز لبعض الأعراب.
(٢) وصدره:
بالَ سُهَيلٌ في الفَضِيخِ فَفَسَدْ
ورد بلا نسبة في "معاني القرآن" للفراء ١/ ١٢٩، ٢/ ١٠٨، و"تفسير الطبري" ١٤/ ١٣١، والثعلبي ٢/ ١٥٩ أ، والطوسي ٦/ ٤٠٠، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٣، و"اللسان" (خرت) ٢/ ١١٢٤، (كتد) ٦/ ٣٨١٩، و"الدر المصون" ٧/ ٢٥٧، و"التاج" (خرت) ٣/ ٤٤ - ٤٥، (كتد) ٥/ ٢١٨، وفي جميع المصادر عدا الدّر: (فبرد). (سهيل) كوكب يُرى في ناحية اليمن والعراق، ولا يُرى بخُراسان، (الفضِيخ) عصير العنب، وهو أيضًا شراب يتخذ من البُسر المفضوخ وحده من غير أن تمسه النار، وهو المشدوخ. ومعنى البيت: يقول لما طلع سُهيلٌ ذهب زمن البسر وأرطب، فكأنه بال فيه، وعندها تطيب ألبان النوق، والشاهد: أنه لم يقل: وبردت؛ لأنه رده إلى اللبن، المفرد. انظر: "تهذيب اللغة" (سهل) ٢/ ١٧٨٦ - ١٧٨٧، و"اللسان" (فضخ) ٦/ ٣٤٢٦.
(٣) في جميع النسخ: (اللبن والألبان) بزيادة الألبان، وقد أدى زيادتها إلى اضطراب المعنى، ويؤيّد أنها زائدة، عدم وجودها في المصدر و"الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤١٠.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٨، بنصه تقريبًا.
(٥) هو فيس بن حصين بن يزيد الحارتي (جاهلي).
(٦) ورد في "الخزانة" ١/ ٤٠٧، ٤١٢، وورد بلا نسبة في "الكتاب" ١/ ١٢٩، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٦٢، و "تفسير الطبرى" ١٤/ ١٣٢، "المذكر والمؤنث" للأنباري ١/ ٤٢٦، و"إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢١٧، و"تهذيب اللغة" (نعم) ٤/ ٣٦١٧، =
109
قال الكسائي: أراد مما في بطون ما ذكرنا (١)، قال الفراء: وهو صواب، أنشدني بعضهم:
مِثْلُ الفِراخِ نَتَقَتْ حَواصِلُه (٢) (٣)
وقال المبرد: هذا فاشٍ في القرآن وفي كلامهم، مثل: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٨]، بمعنى هذا الشيء الطالع، وكذلك قوله: ﴿كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ [المدثر: ٥٤، ٥٥]، أي: ذَكَرَ هذا الشيء، وكذلك: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ﴾ النمل: ٣٥]، ثم قال: ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ﴾ [النمل: ٣٦]، ولم يقل: جاءت؛ لأن
= و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٩ أ، و"المخصص" ١٧/ ١٩، و"تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٣٤، وأبي حيان ٥/ ٥٠٩، و"الدر المصون" ٧/ ٢٥٣، و"تخليص الشواهد" ص ١٩١، وفي بعض هذه المصادر ورد برواية: (في كل) بدل (أكل).
(١) ورد في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٩، بنصه، و"إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٤٠١، بنصه، و"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ١/ ٤٢٧، بنصه، و"تهذيب اللغة" (نعم) ٤/ ٣٦١٥، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٥، والفخر الرازي ٢٠/ ٦٤.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٩، بنصه.
(٣) رجز ورد بلا نسبة في "معاني القرآن" للفراء ١/ ١٣٠، و"تفسير الطبري" ١٤/ ١٣٢، و"تهذيب اللغة" (نعم) ٤/ ٣٦١٦، و"المحتسَب" ٢/ ١٥٣، و"تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٥٦، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٣، و"شرح شواهد الإيضاح" ص ٣٤٧، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٢٤، و"اللسان" (خلف) ٢/ ١٢٣٧، (نعم) ٧/ ٤٤٨٢، و"تفسير أبي حيان" ٥/ ٥٠٩. (نتقت) سمنت وامتلأت شحمًا، (حواصله) جمع حوصلة؛ أسفل البطن، وهي للطير والنعام كالمعدة للإنسان، وهي المصارين لذي الظلف والخُفّ، والشاهد: أنه أعاد على الفراخ ضمير الواحد؛ لأنها في معنى الفرخ، إذا أريد به الجنس والكثرة، وقال الطبرى: لم يقل: حواصلها، أي: ذكَّرها. النظر: "المحيط في اللغة" (نتق) ٥/ ٣٦٧، و"متن اللغة" ٢/ ١٠٦، ووردت برواية: (نُتِفَتْ).
110
المعنى: جاء الشيءُ الذي ذكرنا (١).
قال أبو عبيد: وسمعت الكسائي يُنْشِد ما هو أشد من هذا (٢):
وعَفْرَاءُ أَدْنَى الناسِ مِنِّي مَوَدَةً وعَفراءُ عَنِّي المُعْرِضُ الْمُتَوَانِي (٣)
قال وأنشدنا الأحمر (٤):
إذ (٥) الناسُ نَاسٌ والبِلَادُ بِغِرَّةٍ وإِذْ أُمُّ عَمَّارٍ صَدِيقٌ مُسَاعِفُ (٦)
(١) لم أقف على مصدره، وورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤١٠، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٦٣، والفخر الرازي ٢٠/ ٦٤، وأبي حيان ٥/ ٥٠٩، و"الدر المصون" ٧/ ٢٥٦، وورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٣٣، بنصه تقريبًا، والثعلبي ٢/ ١٥٩ أ، بنحوه.
(٢) البيت لعروة بن حزام (ت ٣٠ هـ) شاعر إسلامي، أحد المتيَّمِين، لا يُعرف له شعرٌ إلا في عفراءَ بنتِ عمِّه.
(٣) ورد في "المذكر والمؤنث" للأنباري ١/ ١٨٧، برواية:
فعفراءُ أرجى الناس عندي مودةً
وورد في الأغاني برواية:
فعفراءُ أحظى الناسِ عندي مودَّةً
وورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٣٣، والثعلبي ٢/ ١٥٩ أ، والشاهد: أنه لم يقل: المعرضة المتوانية، وذكَّرَ المعرض؛ لأنه أراد التشبيه، أي: وعفراء عنّي مثْلُ المُعرضِ، والمؤنث قد يشبَّه بالمذكر.
(٤) هو لأَوْس بن حَجَر، كما في ديوانه واللسان.
(٥) في جميع النسخ: (إذا) والتصويب من الديوان وجميع المصادر عدا الثعلبي.
(٦) "ديوانه" ص ٧٤، وفيها: (الزمان) بدل (البلاد)، و (بعزة) بدل (بغرة)، وورد في "اللسان" (سعف) ٤/ ٢٠١٨، وفيه: والزمان، وورد بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (سعف) ٢/ ١٦٩٦، كما للسان، وورد برواية: (بغبطة) بدل (غِرَّة) في "تفسر الطبري" ١٤/ ١٣٣، والثعلبي ٢/ ١٥٩ أ، وفي "الخزانة" ٥/ ٤٢٩، برواية: (والزمان بعزَّة)، (غِرَّة)، بكسر الغين: الغفلة، يقال: غَرَّ الرجلُ غَرارةً وغِرَّةً: جهلَ الأمور وغفل عنها، (مساعف) قريب، والإسعاف: قضاء الحاجة، وهو المقصود.
111
فهذا التذكير في هذه الأشياء أشَدُّ منه في الأنعام، ومثله كثير (١)، وإنما توَجَّه على معنى هذا الشخص والسواد وكل شيء، فالشيء يَشْرَكُه في اسمه، فالأصل التذكير؛ لأن الشيء مذَكَّر، غير أن الشيء إذا كان تأنيثه حقيقيًّا فلا بد من أن يؤنث في مستقيم الكلام، لا يَحْسُن أن يقول: جَارِيتُك ذهب ولا غلامك ذهبت، بحمله على النَّسْمَة (٢)، وذهب المؤرج في هذا إلى وجه آخر؛ وهو أن الكناية تعود إلى ما في قوله: ﴿مِمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ وأضمر اللبن؛ كأنه قيل: نسقيكم مما في بطونه اللبن، ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا﴾ أراد أنه يُسقى من أَيِّها كان ذا لبن؛ لأنه ليس لكلها لبن (٣)، واختار صاحب النظم هذا الوجه وزاده بيانًا فقال: الأنعام يقع على الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحائل (٤) والحامل، وذات الدَّرّ والبِلَى (٥)، فلما ذَكَرَ عز وجل مُجْمَلَه في أول الفصل، وليس الدّرُّ إلا لبعضها؛ مَيَّزَ واختص منها في الخبر ذات الدّر دون سائرها. فقوله: ﴿مِمَّا﴾ مِثْلُ قولك: مِنْ الَّتي، إلا أنه
(١) لم أقف على مصدره.
(٢) النَّسمَةُ: النَّفسُ، والنسمة في العتق: المملوك ذكرًا كان أو أنثى. "المحيط في اللغة" ٨/ ٣٤٥.
(٣) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٩، بنحوه، والطبري ١٤/ ١٣١، بنحوه غير منسوب، وورد في "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢١٧، بنحوه منسوبًا إلى أبي عبيدة عن أبي عبيد، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٨، و"وضح البرهان" ص ٥٠٧.
(٤) الحائل: التي لا تحمل تلك السنة، حَالتْ تحُولُ حُؤُولاً وحِيَالاً، والمُحْتالة: الحائل من ذوات الحَمْلِ. انظر: "المحيط في اللغة" (حول) ٣/ ٢١٠.
(٥) يقال: ناقة بَلِيَّة: هي التي يموت صاحبها فيحفر لها حفرة وتشدّ رأسها إلى خلفها، وتُبْلَى: أي تترك هناك لا تعلف ولا تسقى حتى تموت جوعًا وعطشًا. انظر: "المحيط في اللغة" (بلى) ١٠/ ٣٥٤، و"اللسان" (بلا) ١/ ٣٥٥.
112
لمّا ذَكَرَ (الَّتي) بلفظ (ما) ذَكَرَ الكناية؛ لأن (ما) لا تبين فيه تذكير ولا تأنيث، فكأنه مذكر، والتقدير: نُسقيكم مِن التي في بطونها لبن، ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا﴾، وأضمر ذِكرَ اللبن لعلم المخاطب بذلك، ولمجيء (١) ذِكرِ اللبن فيما بعده.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا﴾، الفَرْثُ: سِرْجين الكرش (٢)، قال ابن عباس: يريد العلف الذي يكون في الكرش، وروى الكلبي عن أبي صالح عنه أنه قال: إذا استقر العَلَفُ في الكرش صار أسفله فَرْثًا وأعلاه دمًا وأوسطه لبنًا، فيجري الدمُ في العروق واللبنُ في الضَّرع ويبقى الفَرْثُ كما هو (٣)، فذلك قوله: ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا﴾: لا يَشُوبُه الدم ولا الفرث، ﴿سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾: جائزًا في حلوقهم لذيذًا هنيئًا، يقال: ساغَ الشَّرَابُ في الحلق وأَسَاغَهُ صاحِبُه (٤)، ومنه قوله: ﴿وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ [إبراهيم:
(١) في جميع النسخ: (والمجيء)، ويستقيم الكلام بالمثبت.
(٢) يقال: سرجين بالجيم، وسرقين بالقاف، ويسمى فرْثًا ما دام أنه بالكرش، فإذا خرج لا يسمى فرثًا، انظر: (فرث) في "العين" ٨/ ٢٢٠، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٥٧، و"المحيط في اللغة" ١٠/ ١٣٨، و"مجمل اللغة" ٢/ ٧١٩، و"اللسان" ٦/ ٣٣٦٩.
(٣) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٠، والثعلبي ٢/ ١٥٩ أ، بنحوه، (وهذه أوهى الطرق إلى ابن عباس، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٨، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٤، والفخر الرازي ٢٠/ ٦٤، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٢٥، و"تفسير البيضاوي" ١/ ٢٧٩، والخازن ٣/ ١٢٣، وأبي حيان ٥/ ٥٠٩، وهذا التفسير مردود لضعف الأثر، وزاد الفخر الرازي تضعيفه لمخالفته للحس، فقال: وقد دللنا على أن هذا القول على خلاف الحس والتجربة، ولأن الدم لو كان يتولد في أعلى المعدة والكرش، كان يجب إذا قاء أن يقيء الدم، وذلك باطل قطعًا، ثم بيَّن كيفية توَلُّد اللبن حسيًّا. الفخر الرازي ٢٠/ ٦٥
(٤) انظر: (سوغ) في "جمهرة اللغة" ٢/ ٨٤٦، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٩٧، و"المحيط =
113
١٧] وقد مر، والآية بيان عن إقامة الدلالة على الصانع حيث جعل العَلَف وهو جنس واحد أنواعًا في بطن الدابة، فإذا تفكر العاقلُ عَلِمَ أن ذلك بقدرة الله الذي لا إله إلا هو، قال أصحابنا: وهذه الآية تدل على أن مَنِيّ الآدمي لا يكون نجسًا وإن كان في باطنه مجاورًا للنجاسات كاللبن؛ فإنه يخرج طاهرًا من بين نجسين (١).
= في اللغة" ٥/ ١٠٧، و"مجمل اللغة" ١/ ٤٧٨، و"مقاييس اللغة" ٣/ ١١٦، و"الصحاح" ٤/ ١٣٢٢، و"العباب الزاخر" غ/ ص ٤٨، و"اللسان" ٤/ ٢١٥٢.
(١) هذا مشهور لكن فيه نظر؛ لأن الدم مختلف في نجاسته، فالمذاهب الأربعة على نجاسته، وقد حكى النووي في ذلك الإجماع فقال: "وفيه أن الدم نجس، وهو بإجماع المسلمين" [شرح مسلم (٣/ ٢٠٠)]، وانظر: "أحكام النجاسات في الفقه الإسلامي" ص ١٨٧، لكن الذي عليه المحققون -كابن تيمية والشوكاني وصديق خان- أن الدم المسفوح ليس بنجس، وعمدة القائلين بالنجاسة أمران؛ أحدهما: قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ [الأنعام: ١٤٥]، والثاني: حديث أسماء قالت: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: (إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ قال: "تَحُتُّهُ ثم تَقْرُصُهُ بالماء ثم تَنْضِحُهُ ثم تُصَلَّي فيه" [شرح مسلم (٣/ ١٩٩)].
وقد رد المحققون على هذين الدليلين: أما الآية فدلالتها على نجاسة الدم غير صريحة؛ لأن كون تناول الدم المسفوح محرم لا يقتضي نجاسته، وكلمة ﴿فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ وإن كان من معانيها في اللغة النجاسة، إلا أنه مختلف في عودة الضمير، وإذا وقع الاحتمال بطل الاستدلال. أما الحديث فالكلام فيه على دم الحيض ولا خلاف في نجاسته؛ لأنه خارج من أحد السبيلين، لذلك كان قياس سائر الدماء عليه قياسًا مع الفارق، لذلك قال صديق خان: (وأما سائر الدماء فالأدلة فيها مختلفة مضطربة، والبراءة الأصلية مستصحبة حتى يأتي الدليل الخالص عن المعارضة) [الروضة الندية شرح الدرر البهية (١/ ٨٢)]، وحتى على القول بنجاسة الدم فإن الدم قبل انفصاله عن الجسم يعد طاهرًا، وهو ما ذهب إليه ابن تيمية في =
114
كذلك يجوز أن يخرج المنيّ طاهرًا وإن جرى في طريق النجاسة (١) (٢).
= الفتاوى ٢١/ ٥٩٨ - ٦٠٠، ونصره من عدة وجوه، فقال: (إنا لا نسلم أن الدم قبل ظهوره وبروزه يكون نجسًا، فلا بد من الدليل على تنجيسه)، ثم ذكر وجوهًا على طهارته، وهي: أن النجس هو المستقذر المستخبث، وهذا الوصف لا يثبت لهذه الأجناس إلا بعد مفارقتها مواضع خلقها، فوصفها بالنجاسة فيها وصف بما لا تتصف به. أن الدماء في الأبدان وغيرها هي أحد أركان الحيوان التي لا تقوم حياته إلا بها حتى سميت نفسًا، فالحكم بأن الله يجعل أحد أركان عباده من الناس والدواب نوعًا نجسًا في غاية البعد. أن الأصل الطهارة، فلا تثبت النجاسة إلا بدليل، وليس في هذه الدماء شيء من أدلة النجاسة، وخصائصها. أما روث الحيوان فالأرجح فيه الطهارة أيضًا، وهو مذهب الحنابلة والمالكية والهادوية وغيرهم. [انظر: "نيل الأوطار" ١/ ٥٩ - ٦٠، و"الروضة الندية" ١/ ٧١، و"أحكام النجاسات" ص٥٠ - ٩٨]. ومن أدلتهم: حديث أنس في الصحيحين: (أن النبي - ﷺ أمر العُرَنِيين بأن يشربوا من أبوال الإبل) البخاري (٢٣٣) كتاب الوضوء، أبوال الإبل والدواب، مسلم (١٦٧١): القسامة، حكم المحاربين والمرتدين، واستدلوا كذلك (بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي قبل أن يبنى المسجد في مرابض الغنم. أخرجه البخاري (٢٣٤) بنفس الباب، كذلك استدلالات ابن تيمية -السابقة- على طهارة الدم تنطبق على طهارة الروث.
(١) الكلمة ساقطة من (أ)، (د).
(٢) نسبه القرطبي للنقاش من الشافعية (ت ٣٥١ هـ) وقال: وقاله أيضًا غيره، وهذا الاستدلال على طهارة المنيّ فيه تكَلُّف وبُعد، والقياس الوارد قياس مع الفارق، لذا أنكره ابن العربي وشكك في أهلية المسندل على الدعوى بهذه الآية. انظر: "تفسير ابن العربي" ٣/ ١١٥٢، وقد أنكر ابن تيمية هذه المدعوى -في معرض الرد على القائلين بنجاسة المني- فقال: لا نسلم أنه يجري في مجرى البول، فقد قيل: إن بينهما جلدة رقيقة، وإن البول إنما يخرخ رشحًا، وهذا مشهور. "الفتاوى" =
115
٦٧ - قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ﴾ الآية.
قال صاحب النظم: تأويل الآية: ولكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرًا (١)؛ لأنه لو كان مبتدأً ومنقطعًا مما قبله لوجب أن يقال: منها؛ لأن تأويله يكون راجعًا على قوله: ﴿ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ﴾ على ما نظم، وتتخذون من ثمرات النخيل والأعناب سكرًا.
والعرب تضمر (ما) و (من) كقوله تعالي: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ﴾ (٢) [الإنسان: ٢٠]، ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ﴾ (٣) [الصافات: ١٦٤] وذكرنا (٤) هذا قديمًا.
والأعناب عطف على الثمرات لا على النخيل؛ لأنه يصير التقدير: ومن ثمرات الأعناب، والأعناب ثمار، ولكنه ومن الأعناب، وأمَّا السكر
= ٢١/ ٦٠٢، أما طهارة المني فمختلف فيها، وقد بسط العلماء القول فيها في كتبهم في مظانها. وانظر: "أحكام النجاسات" ص ٩٩ - ١٢٤] ومن أقوى أدلة القائلين بطهارته -وهو الراجح- قول عائشة رضي الله عنها "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسْلُت المنيّ من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابسًا ثم يصلي فيه". صحيح ابن خزيمة: باب سلت المني من الثوب بالإذخر إذا كان رطبًا (١/ ١٤٩).
(١) وإلى هذا ذهب الطبري في "تفسيره" ١٤/ ١٣٨، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٨، وابن عطية ٨/ ٤٥٨، قال البغوي: يعني: ولكم أيضًا عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب، ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ﴾ والكناية في ﴿مِنْهُ﴾ عائدة إلى (ما) محذوفة، أي: ما تتخذون منه ﴿سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾.
(٢) قال الفراء: أي ما ثَمَّ رأيت. "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٢١٨، وانظر: "الدر المصون" ١٠/ ٦١٤.
(٣) وتقديره عند الكوفيين: وما منا إلا مَنْ له، فحذف الموصول وأبقى الصلة، واباه البصريون؛ لأن الموصول عندهم لا يحذف. انظر: "البيان في غريب إعراب القرآن" ٢/ ٣١٠، و"الفريد في إعراب القرآن" ٤/ ١٤٦.
(٤) ساقطة من (أ)، (د).
116
فروى سعيد بن جبير وشهر بن حَوْشب وعمرو (١) بن سفيان (٢) عن ابن عباس أنه قال: السَّكَر ما حُرِّم من ثمرتيهما، والرزق الحسن ما أُحلَّ من ثمرتيهما (٣)، وقال في رواية عطاء: سَكَرًا يريد ما أَسْكَر، وهذا قبل أن يحرم الخمر.
﴿وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ يريد الخَلَّ والزبيب والتمر وكل ما يُتَّخَذ من النخيل والأعناب (٤)، وهذا قول عامة المفسرين؛ قالوا: السكر هي الخمر بعينها،
(١) في جميع النسخ (عمر) والصحيح المثبت كما في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٣٤، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٨١.
(٢) عمرو بن سفيان الثقفي، روى عن ابن عباس وابن عمر وعن أبيه رضي الله عنه، وروى عنه الأسود بن فيس، صحح له الحاكم حديثًا في تفسير السَّكر، وضعفه النحاس في معانيه. انظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ٢٣٤، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٢٧٣، و"تقريب التهذيب" (٥٠٣٨).
(٣) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٥٧) بنصه، والطبري ١٤/ ١٣٤ بنصه من طرق كثيرة، والجصاص ٣/ ١٨٥، بنحوه، والحاكم: التفسير/ النحل (٢/ ٣٥٥) بنصه وصححه، وورد في "الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٤٨٥، بنصه، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٨١، بنصه، وقال: وهي روايةٌ تضعفُ من جهة عمرو بن سفيان، و"تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٧٦، بنصه، والثعلبي ٢/ ١٥٩ أبنصه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٨، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٩، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٤، وابن كثير ٢/ ٦٣٣، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٢٨، وزاد نسبته إلى الفريابي وسعيد بن منصور وأبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(٤) أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص٢٥٢، بنحوه من طريق الحجاج عن ابن جريج صحيحة، ومن طريق أبي طلحة صحيحة والطبري ١٤/ ١٣٤ - ١٣٥ بنحوه من طريق عمرو، ومن طريق أبي طلحة، والجصاص ٣/ ١٨٥، بنحوه من طريق الحجاج، والسمرقندي ٢/ ٢٤١، بمعناه، وانظر:"تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٥٨.
117
والسكر حرام، والرزق الحسن حلال، وقالوا: نزلت هذه قبل تحريم الخمر (١)، ونزل تحريمها في سورة المائدة (٢).
والسَّكَر في اللغة: الخمر (٣)، وقال جرير:
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٣٥، بنحوه من طرق عن سعيد بن جبير وأبي رزين والحسن ومجاهد، ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٨٢، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤١، بنحوه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٨، بنحوه، والطوسي ٦/ ٤٠١، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٨.
(٢) في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: ٩٠]، وعلى هذا فآية النحل منسوخة بآية المائدة، وهو ما ذهب إليه ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن والشعبي والنخعي وأبو رَزين وجمهور المفسرين، وقد ردّ هذه الدعوى جماعة من العلماء، وبينوا أن هذا خبر، ولا يجوز فيه النسخ، قال مكي: وقيل: إن هذا لم ينسخ؛ لأن الله لم يأمرنا باتخاذ ذلك، ولا أباحه لنا في هذه الآية، وإنما أخبرنا بما كانوا يصنعون من النخيل من السَّكَر الذي حرَّمه الله في المائدة. ا. هـ. ومن القائلين بعدم النسخ الطبري، لكنه حمل السَّكر على أن معناه: كل ما حلّ شربه، مما يتخذ من ثمر النخل والكرم، وفَسَّد أن يكون معناه الخمر أو ما يُسْكِر من الشراب. انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص ٢٥٢، و"تفسير الطبري" ١٤/ ١٣٤ - ١٣٦، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٤٨٦، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي ص ٣٣١، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٢٠٨، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص ١٨٦، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٣٠.
(٣) أصل السَّكر في اللغة: السَّدُّ، ومنه سَكِرَ فلانٌ؛ لأنه سُدَّ عقله ومنع منه، والسَّكَرُ: الخمر نفسها، وكُلّ ما يُسْكِرُ، وقيل: هو شراب يُتخذ من التَّمر والكَشُوث، والسُّكر: حالةٌ تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب المُسكرِ، انظر: "تهذيب اللغة" (سكر) ٢/ ١٧٢٠، و"المفردات" ص ٤١٦. و"الأساس" ص ٣٠٢، و"اللسان" (سكر) ٤/ ٢٠٤٧، و"عمدة الحفاظ" ٢/ ٢٣٧ و"التاج" (سكر) ٦/ ٥٣٤، و"متن اللغة" ٣/ ١٧٩.
118
إذا رَوِينَ على الخِنْزِيرِ من سَكَرٍ نادَيْنَ يا أعظمَ القِسِّين جُرْداناَ (١)
وهذا القول هو اختيار الفراء (٢) والزجاج (٣).
وقال أبو عبيدة بوحده: السَّكَر: الطعام، واحتج بقوله (٤):
جَعَلْتَ أعْرَاضَ الكِرَامِ سَكَرا (٥)
أي جعلتَ ذَمَّهم (٦) طُعْمًا لك (٧).
قال الزجاج: هذا بالخمر أشبَهُ منه بالطعام، المعنى: جعلْتَ تتخمَّرُ بأعراضِ الكرام، وهو أبينُ فيما يقال: يبترك (٨) في أعراض
(١) "ديوانه" ١/ ١٦٧، وفيه: (لمّا) بدل (إذا)، وورد في "تهذيب اللغة" (سكر) ٢/ ١٧٢٠، و"اللسان" (جرد) ١/ ٥٩٠، (سكر) ٤/ ٢٠٤٨، (جردانا): الجُردانُ بالضم: هن أسماء الذَّكَرِ، وهو قضيب ذوات الحوافر، والجمع: جرادين.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٩، بلفظه.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٩، بلفظه.
(٤) نسبه في المجاز إلى جندل، وهوابن المثنى الطَّهوي.
(٥) ورد في "تهذيب اللغة" (سكر) ٢/ ١٧٢٠، و"تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٣٥، والفخر الرازي ٢٠/ ٦٨، و"اللسان" (سكر) ٤/ ٢٠٤٨، وورد برواية: "جَعَلْتَ عَيْبَ الأكْرمين سكرًا" في "مجازالقرآن" ١/ ٣٦٣، و"تفسير الطبري" ١٤/ ١٣٨، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٨٣، و"إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢٣٨، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٩ ب، والطوسي ٦/ ٤٠١، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٤، و"القرطبي" ١٠/ ١٢٩.
(٦) في"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٩: دَمَهُم، ولعل الخطأ من المحقق، والمثبت هو الصحيح المتفق مع المعنى.
(٧) "مجاز القرآن" ١/ ٣٦٣، بنحوه، وورد في "التهذيب" (سكر) ٢/ ١٧٢٠، بنصه، والظاهر أنه نقله من التهذيب.
(٨) يقال: بارك على الشيء: واظب، وأبرك في عدْوه: أسرع مجتهدًا، والاسم: البرُوُك، يقال: ابْتَرك الرجل في عرض أخيه: إذا اجتهد ذمّه وشتمه =
119
الناس (١)؛ يتخَمَّر بهم.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد عقلوا عن الله قدرَته وما لا يقدر عليه أحدٌ غيرُه وحدَه، فصَدَّقوا نَبِيَّه وأيْقَنُوا بالثواب والعقاب.
٦٨ - قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ﴾ الآية. وَحَى وأوحَى واحد (٢)، وهو الإلهام هاهنا، قال المفسرون: ألهَمَها وقذف في أنفسها (٣)، وذكرنا معنى الوحي والإيحاء (٤) عند قوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [النساء: ١٦٣] وفي مواضع. وقوله تعالي: ﴿إِلَى النَّحْلِ﴾، النَّحْل: زنبور (٥) العَسَلِ، والواحدة نَحْلَة (٦).
= وانتقاصه، والابتراك في العدو: الاجتهاد فيه. انظر: (برك) في "تهذيب اللغة" ١/ ٣١٩، و"المحيط في اللغة" ٦/ ٢٦٠، و"اللسان" ١/ ٢٦٧.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠٩، بنحوه، وورد في "تهذيب اللغة" (سكر) ٢/ ١٧٢٠، بنصه تقريبًا، والظاهر أنه نقله منه.
(٢) يقال: أوْحى لها وَوَحى لها، لكن اللغة الفاشية في القرآن بالألف، وأما في غير القرآن فوحيْتُ إلى فلان هو المشهور. انظر: (وحى) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٥٢، و"المحيط في اللغة" ٣/ ٢٤١، و"الصحاح" ٦/ ٢٥١٩.
(٣) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٤ ب، بنحوه، والطبري ١٤/ ١٣٩ بنصه عن معمر من طريقين، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٨٣، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤١، بنحوه، وهود الهواري ٢/ ٣٧٧، بنحوه، والثعلبي ٢/ ١٥٩ ب، بنصه، و"الماوردي" ٣/ ١٩٩، بنحوه، والطوسي ٦/ ٤٠٢، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٩، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٥، والفخر الرازي ٢٠/ ٦٩، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٣٣.
(٤) في (أ)، (د): (إيحاء)، والمثبت من (ش)، (ع).
(٥) في (أ)، (د): (زبر)، وفي كتب اللغة: (دَبْرُ العسل)، قال الخازن: "النحل: زنبور العسل، ويسمى الدَّبْر أيضًا". "تفسير الخازن" ٣/ ١٢٣.
(٦) انظر: (نحل) في "العين" ٣/ ٢٣٠، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٠٣٢ و"المحيط في اللغة" ٣/ ١٠٣، و"الصحاح" ٥/ ١٨٢٦، و"اللسان" ٧/ ٤٣٦٨.
120
قال الزجاج: جائز أن يكون سمي نحلًا؛ لأن الله عز وجل نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها، وقال غيره: النَّحْل يذكر ويؤنث (١)، وهي مؤنثة في لغة الحجاز؛ ولذلك أنثها الله تعالى، وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء.
وقال أهل المعاني: الله تعالى أوحى إلى كل دابة وذي روح وحي الإلهام في التماس منافعها واجتناب مضارِّهَا، فذكر من ذلك أمر النحل؛ لأن فيها من لطيف الصنعة وبديع الخلق ما فيه أعظم معتبر، بأن ألهمها اتخاذ المنازل والمساكن (٢)، وذلك قوله: ﴿أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ﴾، قال ابن عباس: هي تتخذ من الجبال لأنفسها إذا كانت لا أصحاب لها (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾، أي: يبنون ويسقفون، وفيه لغتان: قُرئ بها ضَمُّ الراء (٤) وكسرها (٥) مثل يَعْكِفون ويَعْكُفون.
قال ابن عباس: يريد ما يعرش الناس لها من الجِبَاح (٦)؛ وهو: خلايا
(١) ليس في معانيه، وورد في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٣٢، بنصه، وقال الأزهري في مادة (نحل) "فمن ذكَّر النحل فلأن لفظه مذكَّر، ومن أنث فلأنه جَمْعُ نحْلَة".
(٢) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٠، بنحوه.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤١٤، بنصه.
(٤) قرأ بضم الراء: ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: ﴿يَعْرِشُونَ﴾، انظر: "السبعة" ص ٣٧٤، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٥٨، و"الحجة للقراء" ٥/ ٧٦، و"حجة القراءات" ص ٣٩٢، و"المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧٤٠.
(٥) قرأ الباقون بكسر الراء: ﴿يَعْرِشُونَ﴾، وروى حفص عن عاصم بكسر الراء أيضًا. انظر: المصادر السابقة.
(٦) الأجْبُح: مواضِع النحل في الجبل، والواحد: جِبْحٌ وجِبَحٌ. انظر: "المحيط في اللغة" (جبح) ٢/ ٤١٦، و"مجمل اللغة" ١/ ٢٠٥.
121
النحل (١).
وقال ابن زيد في قوله: ﴿وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ هو الكروم (٢)، ولا معنى للكروم هاهنا؛ لأنها لا تأوي الكُرُومَ، والمعنى ما قاله ابن عباس أن معنى يعرشون: يبنون لها من خلاياها، ويعرشون صحيح في البناء للكروم، ولكن المراد هاهنا في البناء للنحل لا الكَرْم.
قال أهل المعاني: لولا التسخير وإلهام الله تعالى ما كانت تأوي إلى ما يبني لها الناس من بيوتها (٣).
٦٩ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ قال ابن قتيبة: أي من الثمرات، وكل هاهنا لا يقع على العموم، كقوله: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٣]، وقوله: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (٤) [الأحقاف: ٢٥].
وقوله تعالى: ﴿فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ﴾ قال ابن عباس: يريد طُرقَ ربك (٥)، تطلب فيها الرعي، ﴿ذُلُلًا﴾ جمع ذَلُول، وهو المنقاد اللين
(١) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٧٠، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٣٤، وأبي حيان ٥/ ٥١٢، كلها بنحوه وبلا نسبة.
(٢) أخرجه الطبري ١٤/ ١٣٩ بلفظه، ورد في "تقسير الثعلبي" ٢/ ١٥٩ ب، بلفظه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٩، بلفظه، والطوسي (٦/ ٤٠٢) بلفظه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٩، و"تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٦١، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٥، وأبي حيان ٥/ ٥١٢.
(٣) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٦٥.
(٤) "الغريب" لابن قتيبة ص ٢٤٦، بنصه ولم يستشهد إلا بالآية الثانية.
(٥) ورد بلفظه بلا نسبة في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤١، وهود الهواري ٢/ ٣٧٦، والثعلبي ٢/ ١٥٩ ب، و"القرطبي" ١٠/ ١٣٥، وأبي حيان ٥/ ٥١٢.
122
المُسَخَّر، يقال: فرس ذلول بَيِّن الذُّلِ (١).
قال مجاهد: لا يتوعَّرُ عليها مكان سلكته (٢)، فعلى هذا الذُّلُلُ من صفة السُّبُل، والنحل يرعى الأماكن البعيدة ذات الغِيَاضِ (٣)، الأشْبَهُ: لا تتوعر عليها لتذليل الله لها إياها، وهذا القول اختيار الزجاج؛ لأنه قال في قولهه: ﴿سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا﴾، أي: قد ذَلَّلَها الله لك وسَهَّلَ عليك مَسالِكَها (٤).
وقال قتادة: ذُلُلًا يعني مطيعة (٥)، وهو اختيار ابن قتيبة؛ لأنه قال: منقادة بالتَّسْخِير (٦)، وعلى هذا الذُّلُلُ من نعت النَّحل، وحكى الفراء القولين، فقال: ذُلُلًا نعتُ للسبيل، ويقال: نعت للنحل؛ أي ذُلِّلَت لأن يخرج الشراب من بطنها (٧).
(١) انظر: (ذل) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٩٠، و"المحيط في اللغة" ١٠/ ٥٧، و"مجمل اللغة" ١/ ٣٥٤، و"الصحاح" ٤/ ١٧٠١.
(٢) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٤٩، بنصه، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٤٠ بنصه من طريقين، ورد في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٧٧، بنصه، والثعلبي ٢/ ١٥٩ ب، بنصه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٩، بنصه، والطوسي ٦/ ٤٠٤، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٩، وابن عطية ٨/ ٤٦٢، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٦، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٠، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٣) جمع غَيْضَة: وهي الأجمة؛ وهي مَغِيضُ ماء يجتمع فينبت فيه الشجر. انظر: (غيض) في "الصحاح" ٣/ ١٠٩٧، و"اللسان" ٦/ ٣٣٢٧.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٠، بنصه.
(٥) أخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٥٧) بلفظه، والطبري ١٤/ ١٤٠ بلفظه من طريقين، وورد بلفظه في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٩ب، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٩٩، والطوسي ٦/ ٤٠٤، وانظر: "تفسير أبي حيان" ٥/ ٥١٢، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٠، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٦) "الغريب" لابن قتيبة ص ٢٤٦، بنصه.
(٧) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٠٩، بتصرف يسير، وكذلك النحاس ذكر القولين في =
123
وقوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا﴾ رجوع من الخطاب إلى الخبر، ﴿شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾ قال ابن عباس: منه أحمر وأبيض وأصفر (١).
قال أبو إسحاق: هي تأكل الحامضَ والمُرَّ وما لا يُوصفُ طعمُهُ فيحيل اللهُ ذلك عَسَلًا يخرج من بطونها، إلا أنها تلقيه من أفواهها؛ كالريق الذي يخرج من فم ابن آدم (٢).
قوله تعالى: ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ أكثرُ المفسرين على أن الكناية تعود إلى قوله: ﴿شَرَابٌ﴾، وهو العسل، وقالوا: إن في العسل شفاء للناس (٣)، فإن قيل: قد رأينا من يَضُرُّه العسل، فكيف يكون فيه شفاء للناس؟! أجاب عن هذا الزجاج، وقال: الماء حياة كل شيء، وقد رأينا من يقتله الماء إذا أخذه على ما يُضَادُّه من علة في البدن (٤)، وهذا معنى قول السدي: فيه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه (٥).
= معانيه ٤/ ٨٤، بنحوه، وأورد الطبري الروايات على القولين، ثم قال: وكلا القولين غير بعيد من الصواب... غير أنا اخترنا أن يكون نعتًا للسُّبل؛ لأنها إليها أقرب. "تفسير الطبري" ١٤/ ١٤٠.
(١) انظر: في "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٦٦، و"تنوير المقباس" ص ٢٨٨، وورد بلفظه بلا نسبة في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٤ ب، والسمرقندي ٢/ ٢٤١، والثعلبي ٢/ ١٥٩ ب، والطوسي ٦/ ٤٠٤، والبغوي ٥/ ٢٩، و"ابن العربي" ٣/ ١١٥٧، والفخر الرازي ٢٠/ ٧٢، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٣٥، وابن كثير ٢/ ٦٣٤.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٠، بتصرف يسير.
(٣) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٤، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٨٥، والثعلبي ٢/ ١٥٩ب، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٠، والطوسي ٦/ ٤٠٤، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٦٣، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٦، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٣٦.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١١، بنصه، لكنه في المصدر قال: (ما يصادف من علة).
(٥) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٢، بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٦٧.
124
وروي عن مجاهد: ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾: أي في القرآن (١).
قال أبو [إسحاق] (٢) وهذا القول إذا فُسِّرَ عُلم أنه حَسَنٌ، المعنى فيما قصصنا عليكم من قصة النحل في القرآن وسائر القصص التي تدل على أن الله واحدٌ، شفاء للناس (٣)، وعلى هذا كون القرآن شفاء؛ أن فيه بيان الحلال والحرام، والدليل على وحدانية الله تعالى، ونفيًا لما يتخالج ويعترض من الشكوك، يدل على هذا قوله تعالى [في] (٤) وصفه القرآن: ﴿وَشِفَاءٌ لِمَا في الصُّدُورِ﴾ [يونس: ٥٧].
(وقال ابن مسعود: العسل فيه شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور (٥)) (٦)، وذكر الفراء والزجاج القولين جميعًا (٧).
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٤٠ بلفظه، وورد بلفظه في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٢، والثعلبي ٢/ ١٥٩ ب، والماوردي ٣/ ١٩٩، والطوسي ٦/ ٤٠٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٩، و"ابن العربي" ٣/ ١١٥٧، واستبعده، وقال: ولو صح نقلاً لم يصح عقلاً، وذكره أيضًا ابن عطية ٨/ ٤٦٣، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٧، والفخر الرازي ٢٠/ ٧٣، وضعفه. لا خلاف أن القرآن شفاء بنص آية الإسراء [٨٢]، لكن السياق هنا لا يساعد على حمل الشفاء على القرآن، بل هو محمول على العسل.
(٢) في (أ)، (ش)، (د) بياض مكان (إسحاق)، وفي (ع): (علي)، والصحيح المثبت؛ لوروده في "معاني القرآن وإعرابه" بنصه.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١١، بنصه.
(٤) إضافة يقتضيها السياق.
(٥) ما بين التنصيص ساقط من: (أ)، (د).
(٦) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (٦/ ١٢٧) بنصه، والطبري ١٤/ ١٤١ بنصه، والثعلبي ٢/ ١٥٩ ب، بنصه، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٢، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٢٩، والخازن ٣/ ١٢٤.
(٧) "معانى القرآن" للفراء ٢/ ١٠٩، بنصه، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١١، بنصه.
125
واختار قوم القول الأول؛ وقالوا: إنه أليق بظاهر الكتاب (١)، واحتجوا بما أخبرناه أبو إسحاق بن أبي منصور المقرئ (٢) أنا عبد الله بن حامد (٣)، أنا مكي بيت عبدان (٤)، أنا عبد الرحمن بن بشر (٥)، أنا يحيى بن سعيد (٦)، عن
(١) منهم: الطبري ١٤/ ١٤١ وقال: لأن قوله: ﴿فِيِه﴾ في سياق الخبر عن العسل، فأن تكون الهاء من ذكر العسل، إذ كانت في سياق الخبر عنه أولى من غيره، واختاره الثعلبي ٢/ ١٥٩ ب بنصه، ورجحه البغوي ٥/ ٢٩، و"ابن العربي" ٣/ ١١٥٩، و"الرازي" ٢٠/ ٧٣، وابن كثير ٢/ ٦٣٤، وغيرهم، وذكروا نحو قول ابن جرير.
(٢) هو الثعلبي، وقد تقدمت ترجمته ضمن شيوخه.
(٣) عبد الله بن حامد بن محمد، أبو محمد النيسابوري، الواعظ الفقيه الشافعي، ولد في نيسابور، وتفقه على أبي محمد علي البيهقي، سمع مكي بن عبدان، ورحل إلى أبي علي بن أبي هريرة، روى عنه أبو عبد الله الحاكم، توفي سنة (٣٨٩ هـ)، وعاش (٨٣) سنة انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي ٣/ ٣٠٦، و"تاريخ الإسلام للذهبي" ٢٧/ ١٨٢.
(٤) أبو حاتم مكي بن عبدان التميمي النيسابوري، ثقة مأمون مقدم على أقرانه، سمع عبد الله بن هاشم ومحمد بن يحيى الذُّهلي، مات سنة (٣٠٥ هـ). انظر: "تاريخ بغداد" ١٣/ ١١٩، و"سير أعلام النبلاء" ١٥/ ٧٠، و"شذرات الذهب" ٢/ ٣٠٧.
(٥) عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري، أبو محمد، محدث حافظ ثقة، روى عن سفيان بن عيينة، ويحمى بن سعيد، وعنه: البخاري ومسلم، مات سنة (٢٦٠ هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٥/ ٢١٥، و"سير أعلام النبلاء" ١٢/ ٣٤٠، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٤٩٠.
(٦) يحيى بن سعيد بن أبَان بن سعيد بن العاص، إمام محدث ثقة، روى عن الأعمش وسفيان الثوري، وعنه: أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي، مات سنة (١٩٤ هـ)
انظر: "الجرح والتعديل" ٩/ ١٥٠، و"سير أعلام النبلاء" ٩/ ١٣٩، و"تذكرة الحفاظ" ١/ ٣٢٥، و"تقريب التهذيب" ص ٥٩٠ (٧٥٥٤).
126
شعبة عن قتادة عن أبي المتوكل (١)، عن أبي سعيد الخدري، قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أخي تشتكي بطنه فقال: "اسقه عسلًا" فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فلم يغن عنه شيئًا، فقال عليه السلام: " اذهب واسقه عسلاً، فقد صدق الله وكذب بطنُ أخيك، وسقاه فبرأ كأنما أُنْشِط من عقال" (٢)، وتاوَّلُوا في قوله: "صدق الله" قوله تعالى: ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد في عظمة الله وقدرته (٣).
٧٠ - قوله تعالى: ﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ﴾ الآية. قال المفسرون: ولم تكونوا شيئًا (٤)، ﴿ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ﴾ عند إنقضاء آجالكم، ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾
(١) علي بن داود، أبو المتوكل النّاجي البصري، مشهور بكنيته، ثقة، حدّث عن أبي سعيد وأبي هريرة وابن عباس -رضي الله عنهما-، وعنه: قتادة وحُميد الطويل، مات سنة (١٠٢ هـ). انظر: "التاريخ الكبير" ٦/ ٢٧٣، و"الجرح والتعديل" ٦/ ١٨٤، و"سير أعلام النبلاء" ٥/ ٨، و"تقريب التهذيب" ص ٤٠١ (٤٧٣١).
(٢) أخرجه بنحوه عبد الرزاق ٢/ ٣٥٨، عن قتادة مرسلاً، وأحمد ٣/ ١٩، والبخاري (٥٦٨٤): الطب، الدواء بالعسل، ومسلم (٢٢١٧) في السلام، باب: التداوي بسقي العسل، والترمذي (٢٠٨٣): الطب، ما جاء في التداوي بالعسل، والطبري ١٤/ ١٤١ من طريقين عن قتادة مرسلاً، والحاكم: الطب/العسل لشفاء المعدة، والبيهقي ٩/ ٣٤٤)، والثعلبي ٢/ ١٥٩ ب، بنصه وإسناده، والبغوي ٥/ ٢٩ - ٣٠، بنحوه، وورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤١، وهود الهواري ٢/ ٣٧٨، و"الماوردي" ٣/ ٢٠٠، و"مشكاة المصابيح" (٤٥٢١)، و"الرازي" ٢٠/ ٧٣، والخازن ٣/ ١٢٤، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣١، وزاد نسبته إلى ابن مردويه.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" ٢/ ٤١٩، بنصه بلا نسبة، وبنحوه غير منسوب في "تفسير ابن كثير" ٢/ ٦٣٥.
(٤) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٤ ب، بنصه، والطبرى ١٤/ ١٤١ بنصه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٧٧، والخازن ٣/ ١٢٥.
127
وهو أَرْدَاه وأَوْضَعه، يقال: رَذُلَ الشيء يَرْذُلُ رَذَالَةً، وأَرْذَلَه غيره (١)، ومنه قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ [هود: ٢٧]، ﴿وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ [الشعراء: ١١١]. روى أسباط عن السُّدّي: ﴿إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ قال: الخرف (٢)، ونحوه قوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ [التين: ٥]، ونظير هذه الآية لفظًا ومعنى في الحج (٣)، وقال مقاتل: ﴿أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾: الهرم (٤)، وقال قتادة: تسعون سنة (٥)، روي عن علي -رضي الله عنه- قال: ﴿أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾: خمس وسبعون سنة (٦).
(١) انظر: (رذل) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٩٨، و"المحيط في اللغة" ١٠/ ٧١، و"الصحاح" ٤/ ١٧٠٨، و"اللسان" ٣/ ١٦٣٣.
(٢) انظر: "تفسير الرازي" ٢٠/ ٧٧، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٢، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وتصحفت الكلمة فيه إلى (الخوف).
(٣) آية: [٥]، وهي ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾.
(٤) "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٤ ب، بلفظه.
(٥) في جميع النسخ: تسعون، وكذلك في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٩٩ أ، نسخة المحمودية، لكن في نسخة الحرم النبوي (٢/ ١٥٩ ب) ذكرت أنها سبعون سنة، والصحيح الأول كما دلت عليه المصادر الأخرى، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٠، والزمخشري ٢/ ٣٣٦، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٧، والفخر الرازي ٢٠/ ٧٧، والخازن ٣/ ١٢٥، وأبي حيان ٥/ ٥١٤.
(٦) أخرجه الطبري ١٤/ ١٤١ بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٩ب، بنصه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٠، بنصه، والطوسي ٦/ ٤٠٥ بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٠، والزمخشري ٢/ ٣٣٦، وابن عطية ٨/ ٤٦٤، وابن الجوزى ٤/ ٤٦٧، والفخر الرازي ٢٠/ ٧٧، والخازن ٣/ ١٢٥، وأبي حيان ٥/ ٥١٤، وابن كثير ٢/ ٦٣٥، و"الدر المنثور" ٥/ ٢٣٢، وما ذكره علي -رضي الله عنه- هو الأغلب؛ والأمر يختلف من إنسان لآخر؛ فمنهم من يرد إلى أرذل العمر قبل ذلك، ومنهم من يتعدى ذلك وهو بكامل قواه العقلية؛ كالعلماء. انظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٦٤، وأبي حيان ٥/ ٥١٤.
128
قوله تعالى: ﴿لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ أي ليرجع إلى حال الطفولية بنسيان ما كان علم؛ للكِبَر، قال ابن عباس: كي يصير كالصبي الذي لا عقل له (١).
وقال أبو إسحاق: معنى قوله: ﴿لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾، أي: ليريكم من قدرته أنه كما قدّر إماتته وإحياءَه، إنه علي نقله من العلم إلى الجهل قادر (٢).
قال عطاء عن ابن عباس: ليس هذا في المسلمين، والمسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء عند الله إلا كرامة وعقلاً ومعرفة (٣)، وقال في قوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ [التين: ٥]، يريد الكافر، ثم استثنى المؤمنين فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (٤) [التين: ٦].
(١) انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٤٠، بنصه، والخازن ٣/ ١٢٥، بنصه، وورد في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٧٨، بنحوه بلا نسبة.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١١، بنصه.
(٣) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٦٨، بنصه، والخازن ٣/ ١٢٥، بنصه، والفخر الرازي ٢٠/ ٧٧، بلا نسبة.
(٤) الاستدلال بهذه الآية فيه نظر؛ فقد اختلف السلف في تأويلها وفي المراد بقوله تعالى. ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾، فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة والضحاك والنخعي: معناه الهرم والخرف وذهاب العقل، وهو اختيار ابن جرير، واستحسنه ابن عطية، وقال الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وأبو العالية: معناه رددناه إلى النار، وهو اختيار ابن كثير والسعدي والشنقيطي. انظر: "تفسير الطبري" ٣٠/ ٢٤٤، وابن عطية ١٥/ ٥٠٤، وابن كثير ٤/ ٥٥٩، والسعدي ١٥٩٩، والشنقيطي ١٠/ ٣٣٨. والراجح القول الأول؛ وهو رده إلى الهرم، وعليه فيكون الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ منقطعًا، ويكون المراد أن المؤمن وإن ردّ إلى الهرم فإن أجر عمله الصالح لا ينقطع لعجزه بل يستمر على ما كان عليه قبل الهرم. أملاه عليّ شيخي.
129
ونحو هذا روى عاصم (١) عن عكرمة، قال: من قرأ القرآن لم يُردَّ إلى أرذل العمر حتى لا يعلم بعد علم شيئًا (٢)، وقال في قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِخَتِ﴾: قرؤوا القرآن (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ﴾ قال ابن عباس: يريد بما صنع بأوليائه وأعدائه، ﴿قَدِيرٌ﴾: على ما يريد (٤).
(١) عاصم بن سليمان الأحول، البصري الحافظ الثقة، من أكبر شيوخه عبد الله بن سرجس، وأنس، وعمرو بن سلمة؛ وعنه: شعبة ويزيد بن هارون، كان على قضاء المدائن، وولي حسبة الكوفة، مات سنة (١٤٢هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ٣٤٣، و"ميزان الاعتدال" ٣/ ٦٤، و"الكاشف" ١/ ٥١٩ (٢٥٠١)، و"تقريب التهذيب" ص ٢٨٥ (٣٠٦٠).
(٢) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (٦/ ١٢١) بنصه، والطبري ١٤/ ١٤١ - ١٤٢، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٠، بنحوه، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٨، بنصه، والفخر الرازي ٢٠/ ٧٧، بنصه، والخازن ٣/ ١٢٥، بنصه، وأبي حيان ٥/ ٥١٤، ونسبه إلى قتادة، فلعله وَهِمَ في ذلك، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٢، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وذكره الألوسي في "روح المعاني" ١٤/ ١٨٨، وهذا القول غير صحيح وواقع الناس على خلافه؛ فكم رد من المسلمين إلى أرذل العمر، وقد يكونون من العلماء، ومشهور بين علماء الحديث مصطلح اختلط بأخرة. وقد رده الألوسي قائلاً: والمشاهدة تكذب كلا القولين، [أي عدم رد المسلمين ومن قرأ القرآن]؛ فكم رأينا مسلمًا قارئًا القرآن قد رد إلى ذلك، والاستدلال بالآية على خلافه فيه نظر، وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- "اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أُرد أرذل العمر" رواه البخاري (٦٣٧٠) كتاب: الدعوات، باب: التعوذ من البخل.
(٣) انظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١٢٥، بنصه.
(٤) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٧٧ بنصه، والخازن ٣/ ١٢٥ بنصه غير منسوب.
130
٧١ - قوله تعالى: ﴿وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ في الرِّزْقِ﴾: كَثَّر وقَلَّلَ، وبَسَطَ وقَبَضَ، ووَسَّعَ وضَيَّقَ، ﴿فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا﴾: في الرزق وأُعطوا الفضْل، ﴿بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾، يقول: لا يردّ المولى على ما ملكت يمينه مما رُزق شيئًا حتى يكون المولى والمملوك في المال سواء.
قال أبو إسحاق: أي قد فَضَّلَ اللهُ المُلاَّكَ على ممالِيكِهِم، فجعلَ المملوك لا يقدر على مِلْكٍ من مَوْلَاه، وأعلم أن المالكَ ليس يَرُدُّ على مملوكه من فضل ماله حتى يستوي حالهما في الملك (١)، وهذا مَثَلٌ ضربه اللهُ مثلًا للمشركين في تَصْيِيرِهم عباد الله شركاء له، فقال: إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء في الملك، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء؟! وقال صاحب النظم: معنى الفاء في قوله: ﴿فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ حتى (٢)؛ لأن التأويل: ﴿فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا﴾: بجاعلي رزقهم لعبيدهم حتى يكون عبيدهم
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٢، بنصه تقريبًا.
(٢) أشار المرادي إلى أن الفاء قد تأتي بمعنى (حتى) عند بعض النحويين؛ كما في قوله ﴿فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ﴾ [الأنعام: ١٣٩] لكنه ضعف هذا القول، معتبرًا الفاء هنا عاطفة. "الجنى الداني" ص ٧٧، وهذا القول الذي ذكره صاحب النظم قول جيد، وقد إنفرد به، فلم أجده في كتب إعراب القرآن، وقد ذكر المنتجب في "الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٣٩، عند قوله تعالى: ﴿فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ ثلاثة أقوال: أن الجملة من المبتدأ والخبر جملة اسمية واقعة في موضع جملة فعلية، ومحلها النصب على جواب النفي بالفاء، والتقدير: فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا مع عبيدهم، أو على الحال على تقدير زيادة الفاء. أن محلها الرفع، إما على الاستئناف، أي هم سواء في أني رزقت الجميع، أو على العطف على موضع برادي، على تقدير: فما الذين فضلوا يردون رزقهم على ما ملكت أيمانهم فما يستوون. أنه على إضمار ألف الاستفهام، أي: أفهم فيه سواء؟ على سبيل التوبيخ والتقريع، ومعناه النفي: أي ليسوا مستوين فيه.
131
فيه معهم سواء في الملك، فقدله: ﴿فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ صفة لما تَقَدَّمه من الخبر لا جوابٌ له؛ ولو كان جوابًا له لكان قد أوجب أن يكون المولى والعبيد في ذلك سواء، وهو عز وجل إنما أراد أنهم لا يستوون في الملك، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ [الروم: ٢٨] بمعنى: حتى أنتم فيه سواء إليّ، هل يشاركونكم في أموالكم حتى تكونوا أنتم وهم فيه سواء.
وهذا الذي ذكرنا هو قول جميع المفسرين في هذه الآية؛ قال مجاهد: هذا مَثَلُ آلهة الباطل مع الله (١).
وقال السدي: يقول: فكما لا يرد أحدهم على مملوكه مما رزقه الله حتى يكون مثله، فلذلك لا أكون أنا وهذا الصنم الذي هو من خلقي ومما ملكت سواءً فيما خلقت (٢).
وقال قتادة: يقول: هذا الذي فُضِّل في المال والولد لا يشرك عبدَه في ماله وزوجته، يقول: قد رضيتَ بذلك لله ولم ترض به لنفسك، فجعلت لله شريكًا في خلقه وملكه (٣).
(١) "تفسير مجاهد" ص ٣٤٩، بنصه، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٤٣ بنصه، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٢، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ٦٣٦، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٣، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٥٨) بنصه، والطبري ١٤/ ١٤٣ بنصه، ومن طريق آخر بمعناه، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٢، بنحوه، وورد بمعناه في "تفسير الجصاص" ٣/ ١٨٥، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٨٦، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٥٩ ب، والطوسي ٦/ ٤٠٦، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣١، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٤١، والخازن ٣/ ١٢٦، وأبي حيان ٥/ ٥١٤، وابن كثير ٢/ ٦٣٦، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٣، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
132
وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا: عيسى ابن مريم ابن الله (١).
قال الفراء: فهذا مثل ضربه الله للذين قالوا: إن عيسى ابنه، فقال: أنتم لا تُشركون عبيدكم فيما ملكتم، فتكونون سواءً فيه، فكيف جعلتم عَبْدَه شريكًا له تعالى (٢)، وتلخيص معنى الآية، أنه يقول: إنكم كلكم (من بني آدم وأنتم بينكم فيما ملكت أيمانكم، وأنتم (٣) كلكم) (٤) بشر، فكيف تشركون بين الله وبين الأصنام وأنتم لا ترضون لأنفسكم فيمن هو مثلكم بالشركة.
وقوله تعالى: ﴿أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ﴾ قرأه العامة: يجحدون بالياء (٥)؛ لأنه يراد به غير المسلمين، والمسلمون لا يخاطبون بجحدهم نعمة الله، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بالتاء (٦)؛ على تقدير: قل لهم: أفبنعمة الله -بهذه الأشياء التي تقدم اقتصاصها- تجحدون بالإشراك به.
(١) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٠ أ، بنصه بلا إسناد، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٦٨، بنصه، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٤١، بنصه، وورد بلا نسبة في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٢، ولم أجده في أسباب النزول، ولم يورده المؤلف في أسباب النزول، كما أنه ورد بدون إسناد، فلا يثبت.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٠، بنصه.
(٣) (أنتم): ساقطة من (ش).
(٤) ما بين القوسين ساقط من (ع)، وهو أشبه بكلام معترض، ويستقيم الكلام بدونه، بل بدونه أوضح.
(٥) انظر: "السبعة" ص ٣٧٤، "إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٥٨، و"علل القراءات" ١/ ٣٠٨، و"الحجة للقراء" ٥/ ٧٦، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٥، و"شرح الهداية" ٢/ ٣٨١، و"التيسير" ص ١٣٨.
(٦) انظر: المصادر السابقة.
133
وذكر الزجاج في هذا وجهين، أحدهما: أفبِأنْ أَنْعَمَ اللهُ عليكم اتَّخَذْتُم النِّعَمَ لتجحدوا وتشركوا به الأصنام؛ فعلى هذا النعمة بمعنى الإنعام.
والثاني: قال أفبما أنعم الله به عليكم بأن بَيَّنَ لكم ما تحتاجون إليه تجحدون (١)، وعلى هذا، النِّعْمَة: اسم لما أَنعمَ اللهُ عليهم لا مصدر، والباء في: ﴿أَفَبِنِعْمَةِ﴾ يجوز أن تكون زيادة (٢)؛ لأن الجحود لا يُعدَّى بالباء، وهذا قول المفضَّل كما يقول: خذ الخطام وبالخطام، وتعلقت زيدًا وبه (٣)، ويجوز أن يراد بالجحود: الكفر (٤)، فعُدِّيَ بالباء لمعنى الكفر (٥).
٧٢ - قوله تعالى: ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ قال المفسرون: يعني النساء؛ خَلَقَ حواءَ من ضلع آدم (٦)، ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٢، بنصه.
(٢) انظر: التعليق على دعوى الزيادة في القرآن، عند آية [١٠]، من سورة إبراهيم.
(٣) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٨٠، بنصه بلا نسبة.
(٤) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٢، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٧، و"تفسير البيضاوي" ٣/ ١٨٧، وأبي السعود ٥/ ١٢٧.
(٥) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٨٠، بنصه دون عزو للواحدي.
(٦) ورد في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٤٣ بنصه، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٨٧، بنصه، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٠أ، بنصه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٢، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٧، والزمخشري ٢/ ٣٣٦، وابن عطية ٨/ ٤٦٦، والفخر الرازي ٢٠/ ٨٠، وقد ذهب ابن عطية إلى أن الأظهر من قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي: من نوعكم وعلى خلقتكم، كما قال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨]، وكذلك ضعف الفخر الرازي هذا القول، وقال: وهذا ضعيف؛ لأن قوله: ﴿جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ خطاب مع الكل، فتخصيصه بآدم وحواء خلاف الدليل، بل الحكم عام في جميع المذكور والإناث؛ والمعنى: =
134
أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} اختلفوا في تفسير الحفدة، فقال ابن عباس في رواية الوالبي: هم الأختان (١)، وهو قول ابن مسعود وإبراهيم وسعيد بن جبير، قالوا: هم الأصهار؛ أَخْتَان [الرجل] (٢) علي بناته (٣)، وقال
= أنه تعالى خلق النساء ليتزوج بهن الذكور، ومعنى: ﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ مثل قوله: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] وقوله: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١]، أي: بعضكم على بعض، ونظير هذه الآية، قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ [الروم: ٢١] انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٦٩، والفخر الرازي ٢٠/ ٨٠، وابن كثير ٢/ ٥٩٩.
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٤٤ بنصه من طريق عكرمة (جيدة)، وأخرج عنه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة) بلفظ: الأصهار، وورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٠ أ، بنصه، وانظر: "فتح الباري" ٨/ ٢٣٨، والأختان: جمع خَتَن، وهو زوج فتاة القوم ومن كان من قِبَلِه من رجل أو امرأة، فهم كلهم أختانٌ لأهل المرأة، وأم المرأة وأبوها خَتَنَانِ للزَّوْج، وقال الأصمعي: الأسماءُ من قِبَل الزوج، والأختان من قبل المرأة، والصهر يجمعهما، وقيل: الختنُ: الزوج ومن كان من ذوي رَحِمه، والصِّهرُ: من كان من قِبَل المرأة؛ نحو أببها وعمِّها وخالها، وقيل العكس، ومن العرب من يجعلهم كلهم أصهارًا. انظر: (ختن) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٠٢، و"المحيط في اللغة" ٤/ ٣١٢، و"الصحاح" ٥/ ٢١٠٧، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٨٨.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق، وهي ثابتة في تفسير الثعلبي.
(٣) ورد في "غريب الحديث" ٢/ ٩٦، عن ابن مسعود: الأصهار، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٤٣ - ١٤٤ من طرق عنهم قالوا: الأختان، وعن ابن مسعود: الأصهار، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٨٨، عن ابن مسعود قال: الأختان، وورد عنه وعن النخعي: الأصهار، و"تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٧٩، عن ابن مسعود: الأختان، والجصاص ٣/ ١٨٦، عنهم: الأختان، والسمرقندي ٢/ ٢٤٢، عن ابن مسعود: الأختان، وعنه: الأصهار، والثعلبي ٢/ ١٦٠ أ، بنصه عنهم، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٢، بنصه عنهم، والطوسي ٦/ ٤٠٧، بنحوه عنهم، وانظر: "تفسير البغوي" =
135
في رواية أبي حمزة (١) عنه: من أعانك فقد حفدك أما سمعت قول الشاعر (٢):
حَفَدَ الوَلائِدُ حَوْلَهُنَّ وأُسلَمتْ بأكُفِّهِنَ أَزِمَّةُ الأجْمَالِ (٣) (٤)
= ٥/ ٣١، بنصه عن ابن مسعود والنخعي، وابن الجوزي ٤/ ٤٦٩، عنهم، قال البغوي: فيكون معنى الآية على هذا القول: وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوجونهم فيحصل بسببهم الأختان والأصهار، و"فتح الباري" ٨/ ٢٣٨، عنهم.
(١) أبو حمزة السكري، هو محمد بن ميمون المَرْوزي، إمام مشهور، ثقة فاضل، روى عن الأعمش والسدي، وعنه: عبدان ونعيم بن حماد، لقب بالسكري لحلاوة منطقه، توفي سنة (١٦٧ هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٨/ ٨١، و"ميزان الاعتدال" ٥/ ١٧٨، و"الكاشف" ٢/ ٢٢٦، و"تقريب التهذيب" ص ٥١٠، و"تفسير الطبري" تحقيق شاكر ٢/ ٣٧٢.
(٢) نسبه أبو عبيد للأخطل، وليس في ديوانه، ونسبه أبو عبيدة لجميل، وهو جميل بثينة، وليس في ديوانه، ونسبه الطبري لحميد.
(٣) ورد في: غريب الحديث لأبي عبيد ٢/ ٩٦، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٦٤، و"تفسير الطبري" ١٤/ ١٤٤، ونسب لجميل كذلك في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٢، و"تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٦٧، وابن كثير ٢/ ٦٣٦، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ١٩٠، وورد بلا نسبة في "العين" ٣/ ١٨٥، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٣، و"تفسير الطبري" ١٤/ ١٤٤، و"جمهرة اللغة" ١/ ٥٠٤، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٩٠، و"تهذيب اللغة" (حفد) ١/ ٨٦١، و"تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٣٦، و"ابن العربي" ٣/ ١١٦٣، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٤٣، وأبي حيان ٥/ ٥٠٠، و"اللسان" (حفد) ٢/ ٩٢٣ وفي بعض المصادر برواية (بينهن) بدل (حولهن). الولائد: الخدم؛ مفردها: وليدة، والبيت يصور ما يقوم به الولائد من خدمة وسعي، ومن إمساكٍ بأزمَّة الأجمال.
(٤) أخرجه الطبري ١٤/ ١٤٤ بنصه، ورد في "تهذيب اللغة" (حفد) ١/ ٨٦١ بنصه ما عدا عجز البيت، والثعلبي ٢/ ١٦٠ أ، بنصه، وانظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٤٣، و"اللسان" (حفد) ٢/ ٩٢٣، و"الدر المنثور" ٥/ ١٤٩.
136
فعلي هذا الحفدة: الأعوان، وهذا قول مجاهد والحسن والسدي وعكرمة، قالوا: هم الأنصار والأعوان والخدم (١)، غير أن السدي وعكرمة قالا: هم ولده الذين يعينونه (٢)، ونحوه قال قتادة وعطاء (٣)، وقال في رواية سعيد بن جبير ومجاهد: إنهم ولد الولد (٤)، وقال في رواية العوفي: هم بنو
(١) "تفسير مجاهد" ص ٣٤٩ بنصه، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٥٨، عن الحسن: هم الخدم، ورد في غريب الحديث ٣/ ٣٧٤، عن مجاهد: هم الخدم، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٤٥ بنصه عن مجاهد، ومن طرق عن الحسن ومجاهد قالا: هم الخدم، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٨٩، عن الحسن: هم الخدم، و"تفسير الجصاص" ٣/ ١٨٦، عن مجاهد: هم الخدم، والسمرقندي ٢/ ٢٤٢، بنصه عن مجاهد، والثعلبي ٢/ ١٦٠، عن عكرمة والحسن: هم الخدم، وعن مجاهد: هم الأنصار والأعوان، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٢، عن الحسن: الأعوان، وعن مجاهد: الخدم، والطوسي ٦/ ٤٠٦، عن مجاهد: هم الخدم، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣١، وابن عطية ٨/ ٤٦٧، وأبي حيان ٥/ ٥١٥، عن مجاهد، وابن كثير ٢/ ٦٣٦، عن مجاهد، وقد استحسن النحاس من قال أنهم الخدم، ثم قال: إلا أنه يكون منقطعًا مما قبله عند أبي عبيد -لم أقف عليه- وُينْوى به التقديمُ والتأخيرُ، كأنه قال: وجعل لكم حَفَدةً، أي خدَماً، وجعل لكم من أزواجكم بنين، وجعل ابن الأنباري التقدير: وجعل لكم من أزواجكم بنين، وجعل لكم حفدةً من غير الأزواج. "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧٠.
(٢) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٥٨)، بمعناه، والطبري ١٤/ ١٤٥ - ١٤٦ من طرق بنصه وبمعناه عن عكرمة، وعن السُّديّ، قال: الأعوان، ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٨٩، بمعناه عن عكرمة، و"تهذيب اللغة" (حفد) ١/ ٨٦٢، بمعناه عن عكرمة، وانظر: "اللسان" (حفد) ٢/ ٩٢٣، عن عكرمة.
(٣) أخرجه الطبري ١٤/ ١٤٥، بنحوه عن قتادة، ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٠ أ، بنصه عن عطاء، وبنحوه عن قتادة، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣١، عنهما، والخازن ٣/ ١٢٦، عن عطاء.
(٤) أخرجه الطبري ١٤/ ١٤٦ بنصه عن سعيد، وعن مجاهد من طريقين قال: البنون، =
137
امرأة الرجل، ليسوا منه، وهو قول ابن زيد والضحاك (١).
وأصلُ الحَفَدَةِ من الحَفْد، وهو: الخِفَّةُ في الخدمة والعمل، يقال: حفد يَحْفِدُ حَفْدًا وحَفُودًا وحَفَدانًا إذا أسرع (٢)، ومنه الدعاء: (وإليك نسعى ونحفد) (٣)، قال أبو عبيدة: الحَفَدُ: الأعوان، يقال: حفدني، وهو
= ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٠ أ، بنصه من طريقهما، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٢) بنصه، والطوسي ٦/ ٤٠٦، بمعناه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣١، وابن الجوزي ٤/ ٤٧٠، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٤٣، والخازن ٣/ ١٢٦. وقد نصر ابن العربى هذا القول، فقال: فالظاهر عندي من قوله: ﴿بَنِينَ﴾: أولاد الرجل من صُلْبِه، ومن قوله: ﴿وَحَفَدَهً﴾: أولاد ولده، وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا، ويكون تقدير الآية: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا، ومن أزواجكم بنين، ومن البنين حفدة. "تفسير ابن العربى" ٣/ ١١٦٢.
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٤٦ بنصه عن ابن عباس ضعيفة، وورد في "تهذيب اللغة" (حفد) ١/ ٨٦٢، بنحوه عن الضحاك، والثعلبي ٢/ ١٦٠ أ، بنصه عن ابن عباس ضعيفة، وبنحوه عن ابن زيد، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٢، بنحوه عن ابن عباس، والطوسي ٦/ ٤٠٦، بنحوه عن ابن عباس، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣١، عن ابن عباس، وابن عطية ٨/ ٤٦٧، عن ابن عباس، وابن الجوزي ٤/ ٤٧٠، عن ابن عباس والضحاك، و"اللسان" (حفد) ٢/ ٩٢٣، عن الضحاك، و"تفسير الخازن" ٣/ ١٢٦، عن ابن عباس، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٣ - ٢٣٤، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٢) ورد في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٤٧، بنحوه، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٩٠، بنحوه، وانظر: (حفد) في "تهذيب اللغة" ١/ ٨٦٢، و"المحيط في اللغة" ٣/ ٤٢، و"اللسان" ٢/ ٩٢٣، و"التاج" (حفد) ٤/ ٤٢٣.
(٣) هذا جزء من دعاء القنوت الذي ورد عن عمر -رضي الله عنه- موقوفًا عليه، أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" الدعاء/ ما يدعو به في قنوت الفجر (٦/ ٩١) من عدة طرق، والبيهقي، الصلاة/ دعاء القنوت ٢/ ٢١٠، وورد في "الأذكار" للنووي ص ٩٦، و"كنز العمال" ٨/ ٧٤ - ٧٥.
138
حافدي (١)، وأنشد لطرفة:
يَحْفِدون الضيفَ في أبياتِهمْ كَرَمًا ذلك منهم غيرَ ذُلّ (٢)
قال أبو عبيد: وفيه لغة أخرى؛ أَحْفَدَ إِحْفادًا، وأنشد للراعي:
أَخَبَّ بِهن الْمُخْلِفَان وأَحْفَدَا (٣)
قال: خَدَمَا (٤)، قال الليث: ومثله الاحْتِفادُ (٥)، فالحفدة جمع الحافد، والحافد: كل من يخف في خدمة أو يسرع في العمل بطاعتك، ويقال في جمعه: الحَفَدُ، بغير هاء، كما يقال: الرصد والعيب، فمعنى الحفدة في اللغة: الأعوان والخدم، ثم هؤلاء الأعوان مَنْ هم على ما ذكره المفسرون،
(١) "مجاز القرآن" ١/ ٣٦٤، بنحوه.
(٢) ليس في ديوانه، وورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٢، وورد غير منسوب في "تفسير أبي حيان" ٥/ ٥٠٠، و"الدر المصون" ٧/ ٢٦٥، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ١٩٠.
(٣) وصدره:
مَزَايِدُ خَرْقاَءِ اليَدَيْن مُسِيْفَةٍ
"شعر الراعي النميري" ص ٦١، وورد في "تهذيب اللغة" (حفد) ١/ ٨٦١، (ساف) ٢/ ١٥٩٨، و"مجمل اللغة" ١/ ٤٨١، و"مقاييس اللغة" ٣/ ١٢٢، و"اللسان" (حفد) ٢/ ٩٢٣، (سوف) ٤/ ٢١٥٣، (سيف) ٤/ ٢١٧٢، و"التاج" (حفد) ٤/ ٤٢٤، ويروى: (مزائدُ)، وقياسها: مزاود؛ لأنها جمع مزادة: وهي وعاء الزاد وراوية يحمل فيها الماء، (خرقاء): بَيِّنَةُ الخرق، وهو الجهل والحمق، (مسيفة): المُسِيفُ المتقلِّد بالسيف، وأساف الخرز: أي خرقه، (أخب): يقال: أخبّ فلان في الأمر: أسرع فيه، (المخلفان): المُخْلِفُ: الذي لم تُصِبْ ماشيته الرَّبيعَ، وقيل: هو الذي يحمل الماء العذب إلى القوم ليس معهم ماء عذب، أو يكونون على ماء ملح، ولا يكون الإخلاف إلا في الربيع، وهو في غيره مستعار منه.
(٤) "غريب الحديث" ٢/ ٩٦، بنصه تقريبًا، وانظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٨٦١، بنصه تقريبًا.
(٥) ورد في "تهذيب اللغة" (حفد) ١/ ٨٦١، وفيه، قال الليث: الاحْتفادُ: السُّرعةُ في كلِّ شيء.
139
والأولى بأن يفسر بأعوان حصلوا للرجل [نْ قِبَل المرأة؛ لأن الله تعالى قال. ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ وأعوان الرجل لا] (١) من قِبَل امرأته لا يكونون ممن عناهم (٢) الله بقوله هاهنا: ﴿وَحَفَدَةً﴾ (٣).
قوله تعالى: ﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ قال ابن عباس: يريد من أنواع الثمار والحبوب والحيوان (٤)، ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ﴾ قال ابن عباس: يعني بالأصنام (٥)، وقال مقاتل: يعني بالشيطان (٦)، وقال عطاء: يعني (٧) تُصدِقوا أن لي شريكًا وصاحبة وولدًا (٨)، ﴿وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾، رُوي عن ابن عباس: أنه قال: يعني التوحيد (٩)، وقيل: أراد بما أنعم الله عليهم
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ش)، (ع).
(٢) في (أ)، (د): (عبادهم)، والمثبت من (ش)، (ع) هو الصحيح.
(٣) اختلفت ترجيحات العلماء في المقصود بـ (حفدة) وقد ذكرتها مقترنة بالأقوال، وهنا يرجح الواحدي رحمه الله نوعًا خاصًا من الأعوان؛ هم مَنْ كانوا مِنْ قِبَل المرأة، ولم يرتض الطبري تخصيص المقصود بالحفدة بأحد الأقوال الواردة؛ لأن المنّة تحصل بكل ذلك، لذلك قال: فكل الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرنا وجه في الصحة، ومَخْرج في التأويل، وهو الصحيح. "تفسير الطبري" ١٤/ ١٤٧.
(٤) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧٠، بنصه، وبلا نسبة في "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٤٥، والخازن ٣/ ١٢٦، وأبي حيان ٥/ ٥١٥، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ١٩١.
(٥) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٠ أ، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧٠، والفخر الرازي ٢٠/ ٨١، و"القرطبي" ١٠/ ١٤٥.
(٦) "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٥ أ، بلفظه.
(٧) ساقطة من: (أ)، (ش)، (ع).
(٨) لم أقف عليه.
(٩) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٠ أ، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧٠. وورد بلفظه غير منسوب في "تفسير البغوي" ٣/ ٧٧.
140
مما أحل لهم يكفرون؛ فيحرمونه ويجحدون تحليله (١)، يعني ما حَرَّمُوا على أنفسهم من الأنعام والحرث، وذكرنا وجهين في قوله: ﴿أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾، والوجهان هاهنا جائزان.
٧٣ - قوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ﴾ يعني الغيث الذي يأتي من جهتها، ﴿وَالْأَرْضِ﴾ يعني النبات والثمار التي تخرج منها.
وقوله تعالى: ﴿مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، (من) صفة النكرة التي هي: ﴿رِزْقًا﴾ كأنه قيل: لا يملك لهم رزقًا من الغيث والنبات.
وقوله تعالى: ﴿شَيْئًا﴾ قال الأخفش: جعل الشيء بدلًا من الرزق، وهو في معنى: لا يملكون رزقًا قليلًا ولا كثيرًا (٢)، أي لا يملكون أن يرزقهم شيئًا من السموات والأرض، وقال الفراء: نصب ﴿شَيْئًا﴾ بوقوع الرزق عليه (٣)، كما قال: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (٢٥) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا﴾ [المرسلات: ٢٥، ٢٦] أي: تكْفِت الأحياء والأموات، ومثله: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ (٤) [البلد: ١٥، ١٤].
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ أي لا يقدرون على شيء، وليست لهم استطاعة، وجمع هاهنا؛ لأن (ما) في مذهب جمع لآلهتهم التي يعبدون،
(١) ورد في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٤٧، بنحوه، والثعلبي ٢/ ١٦٠ أ، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣١.
(٢) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٠٦، بنصه، وأورده الطبري ١٤/ ١٤٨ بنصه.
(٣) أي أن ﴿شَيْئًا﴾ منصوبة بالمصدر ﴿رِزْقًا﴾ على أنه مفعول به.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ١١٠، بنصه، وأورده الطبري ٤٨/ ١١٤ بنصه، والشاهد: أنه نصب ﴿يَتِيمًا﴾ بالمصدر ﴿إِطعَامُ﴾.
فَوَحَّدَ ﴿يَمْلِكُ﴾ على لفظ (ما) (١) وجمع يستطيعون على المعنى (٢).
٧٤ - وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ قال المفسرون: يعني لا تُشَبِّهُوهُ بخلقه (٣)، وقال الزجاج: أي لا تجعلوا لله مِثْلاً؛ لأنه واحدٌ لا مِثْلَ له (٤)، فعلى هذا ضَرْبُ المَثَل، استُعْمِل في التَّشْبِيه؛ لأن أكثرَ ما يُضْرَب المَثْلُ إنما يُضْرب لتشبيه وصف بوصف أو ذات بذات، وتعالى الله عن أن يُشْبِهَ شيئًا أو يُشْبِهَهُ شيءٌ في ذاته وصفاته.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ﴾ قال ابن عباس: يريد ما يكون قبل أن يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة (٥)، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾: قَدْرَ عظمتي؛ حيث أشركتم بي وعَجَّزْتُمُوني أن أبعثَ خلقي.
٧٥ - قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلًا﴾ أي بَيَّنَ الله شِبْهًا فيه بيانٌ للمقصود، ثم ذكر ذلك فقال: ﴿عَبْدًا مَمْلُوكًا﴾ إلى قوله: ﴿سِرًّا وَجَهْرًا﴾ قال مجاهد في هذه الآية والتي تليها: كل هذا مَثَلُ إله الحق وما يُدْعَى من
(١) ساقطة من (أ)، (د).
(٢) ورد في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٠ بنصه، وأغلب الظن أنه اقتبسه منه بدون عزو.
(٣) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٥ أ، والطبري ١٤/ ١٤٨، وهود الهواري ٢/ ٣٧٩، والثعلبي ٢/ ١٦٠ أ، والطوسي ٦/ ٤٠٨، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٨، وابن الجوزي ٤/ ٤٧١، والفخر الرازي ٢٠/ ٨٢، والخازن ٣/ ١٢٦.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٣، بنصه.
(٥) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٢٢، بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧١، وورد عن بعض المفسرين قولٌ آخر في الآية، لعله أكثر مناسبة للسياق، قالوا: المعنى: والله يعلم ما يستحقه وما يليق به من وصف الكمال وأنتم لا تعلمون؛ لذلك تجعلون له أشباهًا وأمثالاً لا تليق به سبحانه. انظر: "تفسير الطبري" ١٤/ ١٤٨، والشعبي ٢/ ١٦٠ أ، وابن الجوزى ٤/ ٤٧١.
142
دونه من الباطل (١).
وقال السُّدي: هذا مَثَلٌ ضربه الله للآلهة؛ يقول: كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حُرٌّ قد رُزق رزقًا حسنًا فهو ينفق منه سِرًّا وجَهرًا لا يخاف من أحد، فكذلك أنا وهذه الآلهة التي تَدْعُون، ليست تملك شيئًا وأنا الذي أملك وأرزق مَنْ شئت (٢)، وهذا القول هو اختيار الفراء (٣)، والزجاج قال: بَيَّنَ اللهُ لهم أمرَ ضلالتهم وبعدهم عن الطريق في عبادتهم الأوثان، فذكر أن المالك المقتدر على الإنفاق والعاجز الذي لا يقدر أن ينفق لا يستويان، فكيف يُسَوَّى بين الحجارة التي لا تتحرك ولا تعقل وبين الله الذي هو على كل شيء قدير، وهو رازقُ جميع خلقه (٤).
وفي الآية قول آخر، وهو: أن هذا مثل للمؤمن والكافر؛ قال عطاء عن ابن عباس: يريد أبا جهل بن هشام وأبا بكر الصديق (٥)، وقال قتادة:
(١) ليس في تفسيره، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٥٠ بنصه من طريقين، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٧٥، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٥، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٢٢، بنصه.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١١، بمعناه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٣، بتصرف يسير.
(٥) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٠ ب، بنصه عن ابن جريج عن عطاء ضعيفة، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٣، وابن الجوزي ٤/ ٤٧٢، وقد روي عن ابن عباس أنهما: هشام بن عمرو، ومولاه الذي كان ينهاه، انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٩٣، و"تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧٢، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٥ - ٢٣٦، وعزاه إلى ابن جرير -روايته ليس فيها الشاهد- وابن أبي حاتم وابن مردويه، وابن =
143
هو الكافر لا يعمل بطاعة الله ولا ينفق خيرًا، ﴿وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا﴾ هو المؤمن يطيع الله في نفسه وماله (١)، فعلى هذا القول: الكافر لمَّا لم ينفق في طاعة الله صار كالعبد الذي لا يملك شيئًا، والمؤمن ينفق في الخير وفي طاعة الله، فليسا يستويان، كذلك قال الله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ﴾ وجمع الفعل؛ لأن المراد بقوله: ﴿عَبْدًا مَمْلُوكًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا﴾، الشُّيوع في الجنس لا التخصيص (٢).
= مردويه وابن عساكر وليس لتخصص الآية بهما داع، بل الآية عامة، وكفى بتضارب الأقوال المُعَيِّنة دليلاً على عدم التعيين، وقد أشار الواحدي رحمه الله إلى التعميم بقوله: المراد بقوله: ﴿عَبْدًا مَمْلُوكًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا﴾، الشُّيوع في الجنس لا التخصيص، وقد ردّ الجصاص هذا التخصيص بأمرين: بضعف الحديث الوارد، وبظاهر اللفظ؛ فقال: وظاهر اللفظ ينفيها؛ لأنه لو أراد عبداً بعينه لعرَّفه ولم يذكره بلفظ منكور، وأيضًا معلوم أن الخطاب في ذكر عبدة الأوثان والاحتجاج عليهم... إلخ. انظره في: "تفسيره" ٣/ ١٨٧، وهو كلام نفيس في الردّ على تخصيص هذا المثل والذي يليه، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٧٦، والفخر الرازي ٢٠/ ٨٤، وأبي حيان ٥/ ٥١٩.
(١) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٥٩) بنصه، والطبري ١٤/ ١٥٠ - ١٥١ من طريقين بنصه وبنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٩٢، بمعناه، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤٠٨، بمعناه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧٢، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٤٧، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٤ - ٢٣٥، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم. والغريب أن لابن عباس قولاً مثله -حتى إن كثيرًا من المفسرين نسبوا القول إليهما، بل إن بعضهم اكتفى بنسبته إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- ومع ذلك لم يذكره واكتفى بنسبته لقتادة.
(٢) قال الثعلبي: ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ﴾ ولم يقل: هل يستويان؛ لمكان (مَنْ) لأنه اسم مبهم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمونث."تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٠ ب.
144
واختار ابن قتيبة القول الأول (١)؛ فقال: هذا مثل ضربه الله لنفسه ولمن عُبد دُونَه، فقدله: ﴿عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ مَثَلُ من عُبِد مِن دونه؛ لأنه عاجزٌ مُدَبَّرٌ مملوكٌ لا يقدر على نفع ولا ضرّ، ثم قال: ﴿وَمَنْ رَزَقْنَاهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَجَهْرًا﴾ وهذا مَثَلُه جلَّ وعز؛ لأنه الواسع الجواد القادر الرَّزاق عباده جَهْرًا من حيث يعلمون وسرًّا من حيث لا يعلمون، قال: وهذا القول أعجب إليّ؛ لأن المَثَل توسَّط كلامين؛ هما لله جلّ وعز؛ أما الأول فقوله: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ الآية. فهذا (٢) لله ومن عُبِدَ من دونه، (وأما الآخر فقوله) (٣) بعد إنقضاء المثل: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (٤)، ومعنى قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ هاهنا: أنه بَيَّنَ أن له الحمدَ على ما فعل بأوليائه، وأنعم عليهم بالتوحيد، هذا معنى قول ابن عباس (٥).
وقال غيره: بَيَّنَ أن له جميعَ الحمد، وأنه المستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه؛ لأنه لا يَدَ للأصنام عندهم، ولا نعمة لها عليهم (٦)،
(١) وكذلك رجحه ابن عطية ٨/ ٤٧٦، والفخر الرازي ٢٠/ ٨٤، وأبوحيان ٥/ ٥١٩، وابن القيم في "الأمثال" ص ٢٠٥.
(٢) في جميع النسخ: (عهد الله)، وهو تصحيف، والتصويب من المصدر.
(٣) ما بين القوسين كتب على الهامش في نسخة (أ).
(٤) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٨٤ - ٣٨٥، بتصرف واختصار، وورد نحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٩٢.
(٥) قال: الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٨٥، بنصه، وأبي حيان ٥/ ٥١٩، بنصه.
(٦) ورد في "تفسير الطبرى" ١٤/ ١٤٩، بنحوه، والثعلبي ٢/ ١٦٠ ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٣، وابن الجوزي ٤/ ٤٧٣، والفخر الرازي ٢٠/ ٨٥، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٤٨، والخازن ٣/ ١٢٧.
145
ومعنى قوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يقول: أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون أن الحمد لي؛ لأن جميع النعمة مني، وذكر الأكثر وهو يريد الجميع.
قال أهل المعاني: عزل البعض احتقارًا له أن يُذْكَر، وقال آخرون: هو من الخاص في صِيَغِهِ، الذي هو عموم في معناه، والمعنى: بل هم لا يعلمون (١)، ثم زاد في البيان، فقال:
٧٦ - ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلًا رَجُلَيْنِ﴾ قال أبو زيد: رجل أبْكَم وهو العَيُّ المُفْحَمُ، وقد بَكِمَ بَكَمًا وبَكَامَةً، وقال أيضًا: الأبْكَمُ: الأقْطَعُ اللِّسَانِ؛ وهو العَيُّ بالجوابِ الذي لا يُحْسِنُ وَجْهَ الكَلَامِ (٢)؛ لأنه لا يَفْهَم ولا يُفْهَم عنه.
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ﴾، أي: هذا الأبكم ثِقْلٌ وَوَبَالٌ على صاحبه وقرينه وابن عمه وَوَلِيِّه، والكلّ: الذي هو عِيالٌ وثِقْلٌ على صاحبه (٣).
قال أهل المعاني: وأصله من الغِلَظ الذي هو نقيض الحدة، يقال: كَلّ السكينُ كلولاً، إذا غَلُظَ شفرته فلم يقطع، وكَلَّ لسانه إذا لم ينبعث في القول لِغِلَظه وذهاب حَدّه، وكَلّ عن الأمر يَكَلُّ إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه، فهو يَكَلُّ إذا لم ينفذ في الأمر (٤).
(١) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧٣، و"تفسير القرطبي" ١١/ ٤٨٠، وأبي حيان ٥/ ٥١٩.
(٢) لم أجده في نوادره، وورد في "تهذيب اللغة" (بكم) ١/ ٣٧٩، بنصه.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (كل) ٤/ ٣١٧٦، بنصه.
(٤) ورد بنحوه في: "أدب الكاتب" ص ٣٣٣، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤١٠، و"الفخر =
146
وقوله تعالى: ﴿أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ﴾ أي أينما (١) يرسله، ومعنى التوجيه: أن ترسل صاحبك في وجه من الطريق، يقال: وجهته إلى موضع كذا فتوَجَّه إليه (٢).
وقوله تعالى: ﴿لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾ لأنه عاجز لا يُحْسِن ولا يَفْهَم ما يُقَال له ولا يُفْهَم عنه، ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ﴾ أي هذا الأبكم الذي هو بهذا الوصف، ﴿وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ أي ومن هو قادر تام التمييز متكلم ناطق بالحق، آمرٌ بالعدل قادرٌ على الأمور مُصَرِّفٌ لها على أحسن الوجوه، ﴿وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ قال ابن عباس: يريد على دين مستقيم (٣).
وللمفسرين في هذه الآية قولان كما ذكرنا في الآية الأولى، فمن قال في المثل الأول أنه مَثَلُ الأوثان والله تعالى، قال في هذه الآية أيضًا: إن هذا مَثَلٌ كالأول، وهو قول مجاهد والسدي وقتادة (٤)، واختيار الفراء (٥)
= الرازي" ٢٠/ ٨٦، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٥٠، والخازن ٣/ ١٢٧، وانظر: (كل) في "المحيط في اللغة" ٦/ ١٤١، و"مجمل اللغة" ٢/ ٧٦٥، و"الصحاح" ٥/ ١٨١١.
(١) في جميع النسخ: (إنما)، والمثبت هو الصحيح.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٨٦، بنصه تقريبًا.
(٣) انظر: "تقسير الخازن" ٣/ ١٢٧، وأبي حيان ٥/ ٥١٩، بلا نسبة فيهما.
(٤) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ٢/ ٣٥٩ بمعناه عن قتادة، والطبري ١٤/ ١٤٩ - ١٥٠ بنصه عن مجاهد من طريقين، وبنحوه عن قتادة، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٤، بنحوه عن السدي، والثعلبي ٢/ ١٦٠ ب بمعناه عن مجاهد، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٤ ب معناه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧٣، عن مجاهد وقتادة، والفخر الرازي ٢٠/ ٨٧، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٤٩، عن مجاهد، وأبي حيان ٥/ ٥١٩، عن قتادة، وابن كثير ٢/ ٦٣٧ - ٦٣٨، عن مجاهد، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٦، وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن قتادة.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١١.
147
والزجاج (١) وابن قتيبة (٢).
قال مجاهد: كل هذا مَثَلُ إله الحق وما يُدْعَى من دونه من الباطل (٣)
وقال السدي: أما الأبكم فمِثْلُ الصنم؛ لأنه أَبْكَمُ لا ينطق، وهو كَلّ على عابديه؛ يُنْفِقون عليه ولا يُنْفِق هو عليهم ولا يَرْزقُهم، ﴿أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ﴾: الصنم من شرق أو غرب لا يأت بخير، يقول: لا يرزقهم ولا ينفعهم، ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾، والذي يأمر بالعدل: الله تبارك وتعالى، ونحو هذا قال قتادة (٤).
وقال الزجاج: هل يستوي القادرُ التامُ التمييزِ والعاجزُ الذي لا يُحْسِن ولا يأتي بخير، فكيف تُسَوُّون بين الله عز وجل وبين الأحجار (٥).
وقال ابن قتيبة: هذا مَثَلُ آلهتهم؛ لأنها بُكْمٌ صُمّ عُمْيٌ، ثِقْلٌ على من عبدَها في خدمتها، وهي لا تأتيه بخير (٦).
ثم قال: ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فجعل هذا المَثَلَ لنفسه، وقال في قوله: ﴿وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ﴾ هذا مثل للصنم الذي عبدوه، ﴿وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ﴾؛ لأنه يحمله إذا ظَعَن، وُيحَوِّلَه من مكان إلى مكان إذا تحرك، فقال الله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي﴾:
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٤.
(٢) "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٤٨.
(٣) سبق توثيقه.
(٤) أخرجه الطبري ١٤/ ١٥٥، بنحوه عن قتادة، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٥ - ٢٣٦، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، بنحوه عن السدي.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٤، بنصه.
(٦) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٨٥، بنحوه تقريبًا.
148
هذا الصنم الكَلّ، ﴿وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾، وهو استفهام معناه التوبيخ، كأنه قال: لا تُسَوُّوا بين الصنمِ الكَلِّ وبين الخالق عز وجل (١).
وقال آخرون: هذا مثل للمؤمن والكافر، وهو قول ابن عباس في رواية عطية (٢).
ثم اختلفوا فيمن نزل، فروى يَعْلَى بن مُنْيَةَ (٣) عن ابن عباس: أنها نزلت في عثمان بن عفان ومولاه؛ كان عثمان -رضي الله عنه- ينفق عليه ويكفيه المؤونة، وكان مولاه يكره الإسلام، وينهاه عن الصدقة ويمنعه من النفقة (٤).
وقال في رواية عطاء، الأبكم: أُبي بن خلف الجمحي، ﴿وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ﴾ يريد كَلّ على قومه، كان يؤذيهم، ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ﴾، يريد أبي
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (كل) ٤/ ٣١٧٦، بنصه تقريبًا.
(٢) أخرجه الطبري ١٤/ ١٥٠، بنحوه ضعيفة، وورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٠ ب، بنصه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٥ - ٢٣ - ٣٤، وابن الجوزي ٤/ ٤٧٣، وأبي حيان ٥/ ٥١٩، وابن كثير ٢/ ٦٣٧.
(٣) يَعْلَى بن أُمَيَّة التميمي -رضي الله عنه- ينسب حينًا إلى أبيه وحينًا إلى أمه مُنْيَة، وقيل: هي أم أبيه، جزم بذلك الدارقطني، أبو صفوان، صحابي، أسلم يوم الفتح وشهد حنينًا والطائف وتبوك، شهد صفين مع علي -رضي الله عنه-، مات سنة بضع وأربعين. انظر: "الاستيعاب" ٤/ ١٤٧، و"أسد الغابة" ٥/ ٥٢٣، و"الإصابة" ٣/ ٦٦٨ (٩٣٥٨)، و"تقريب التهذيب" ص ٦٠٩ (٧٨٣٩).
(٤) أخرجه الطبري ١٤/ ١٥١ بنصه تقريبًا، ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٠ ب، بنصه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٤، بمعناه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧٣، والفخر الرازي ٢/ ٨٧٠، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٤٩، وابن كثير ٢/ ٦٣٨، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٥ - ٢٣٦، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر.
149
ابن خلف، ﴿وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾، يريد حمزة وعثمان بن مظعون (١).
٧٧ - قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ﴾ قال أبو إسحاق: معناه: ولله عِلْمُ غيبِ السموات والأرض (٢)، وذكرنا الكلام في معنى غيب السموات والأرض في آخر آية من سورة هود [١٢٣].
وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ﴾: الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سُمِّيت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة، فيموت الخلق في صيحة (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ قال ابن الأعرابي: اللمح: النظر بسرعة (٤)، يفال: لمحه ببصره لمحًا ولمحانًا (٥)، أنشد الفراء:
لمحان أقنى فوق طود يافع بعضَ العُدَاة دُجُنَّة وظلالا (٦)
(١) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٠ ب، بنصه مختصرًا، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٣ - ٣٤، وابن الجوزي ٤/ ٤٧٣، و"القرطبي" ١٠/ ١٤٩، وهذا كالمَثَلِ الأول؛ لا دليل صحيح على تخصيصه بأحد بعينه، وحسبك تضارب الروايات لرده، والصحيح حمل الآية على العموم. انظر: التعليق على آية [٧٥]، و"تفسير أبي حيان" ٥/ ٥٢٠، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ١٩٧.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٤، بنصه.
(٣) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٨٨، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٥٠، بنصه غير منسوب.
(٤) ورد في لمح ٥/ ٩٨، بمعناه.
(٥) اللَّمْحُ: هو النظر الخاطف كرجوع الطَّرْف، يُشَبَّه بلَمَعَان البرق، يقال: لَمَحَ البرقُ والنجْمُ؛ أي لمع، ويقال: لمحه ببصره وألْمَحَه، والاسم: اللَّمْحَةُ. انظر: (لمح) في "العين" ٣/ ٢٤٣، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٢٩٦، و"المحيط في اللغة" ٣/ ١١٦، و"الصحاح" ١/ ٤٠٢.
(٦) لم أقف عليه. (أقنى): برز، (طود)، الطّوْدُ: الجبل العظيم، (يافع): هو التّل المُشْرِفُ، وقيل: ما أرتفع من الأرض، (دجنة)، الدُّجُنَّةُ: الظَّلْمَاءُ.
150
قال ابن عباس في قوله: ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ﴾، يريد: القيامة، ﴿إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾، يريد: النظر.
وقال قتادة: هو أن يقول: كن، فهو ﴿كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ (١).
وقال السدي: هو كلمح العين من السرعة، ﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾: من ذلك إذا أردناه (٢)، وشرح أبو إسحاق معنى هذا فقال: الساعةُ اسم لإمَاتَةِ الخَلق وإحْيائِهِم، أعلم الله تعالى أنّ البَعْثَ والإحْيَاءَ في قدرته ومشيئته، ﴿كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾، ليس يريد أنَّ السَّاعةَ تأتي في أقربَ من لمح البصر، ولكنه يصف سرعةَ القدرةِ على الإتيان بها (٣)، ومعنى (أو) في قوله: ﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾: أن أمرها يكون على إحدى منزلتين: إما لمح البصر، وإما أقرب، فأدخل (أو) لِشَكّ المخاطب؛ أي كونوا في تقدير سرعة كونها على هذا الشك، وهذا معنى قول قطرب: أراد أن يطويه عنّا (٤)، وقيل: إنّ (أو) هاهنا بمنزلة بل (٥).
(١) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٥٩) بنصه، والطبري ١٤/ ١٥١ بنصه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٩٥، بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٢٣٦، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٢٤، وأورده السيوطي في "الدر المنثور"، وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٤، بنصه.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) بذلك فسرها مقاتل ١/ ٢٠٥ ب، والسمرقندي ٢/ ٢٤٤، وهود الهواري ٢/ ٣٨٠، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٤، والفخر الرازي ٢٠/ ٨٨، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٥٠، وأورده أبو حيان في تفسيره وأبطله بحجة أن الإضراب هنا يؤدي إلى فساد المعنى، وتعقبه الألوسي وصححه، انظر: "تفسير أبي حيان" ٥/ ٥٢١، =
151
وأنشدوا (١):
أوْ أنتِ في العَينِ أَمْلَحُ (٢)
٧٨ - قوله تعالى: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ أي أخرجكم غير عالمين بمعنى: أخرجكم جاهلين.
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ عطف (٣) على قوله: ﴿أَخْرَجَكُمْ﴾، وجَعْلُ السمعِ كان قبل الإخراجِ ولم يكن بعده، وتأخيره في الذكر وتَقَدُّمُ الإخراجِ لا يدل على أن الجَعْلَ للسمع تأخر عن الإخراج؛ لأن الواو لا توجب الترتيب (٤)، ذكرنا هذا في مواضع،
= و"تفسير الألوسي" ١٤/ ١٩٨، وفي كتب حروف المعاني أن (أو) تأتي بمعنى (بل)، ومنهم من أطلق القول، ومنهم من قيده بشروط، انظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص ١٣، و"الجنى الداني" ص ٢٢٩، و"مغني اللبيب" ص ٩١.
(١) نُسب لذي الرُّمَّة - ولم أجده في ديوانه، وقال محقق الخزانة؛ عبد السلام هارون: بل هو في ملحقات الديوان ص ٦٦٤.
(٢) تمام البيت:
بدتْ مِثلَ قَرْنِ الشَّمس في روْنقِ الضُّحى... وصُورَتِها................
ورد في "المحتسَب" ١/ ٩٩، و"الخصائص" ٢/ ٤٥٨، و"الأزهية" ص ١٢١، و"اللسان" (أوا) ١/ ١٨١، و"الخزانة" ١١/ ٦٥، وورد بلا نسبة في "معاني القرآن" للفراء ١/ ٧٢، و"الصحاح" (أو) ٦/ ٢٢٧٥، و"الإنصاف" ٣٨٣، والشاهد: ورود (أو) بمعنى (بل) والمعنى: بل أنتِ في العين أملح.
(٣) وجعلها الطبري مستأنفة؛ لأن الكلام تمَّ بقوله: ﴿لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾، ثم ابتدأ بقوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ﴾. انظر: "تفسير الطبري" ١٤/ ١٥٢، والبغوي ٥/ ٣٤.
(٤) وللخازن توجيه جيد، يقول: لمّا كان الانتفاع بهذه الحواس بعد الخروج من البطن، فكأنما خلقت في ذلك الوقت الذي ينتفع بها فيه، وإن كانت قد خلقت قبل ذلك. "تفسير الخازن" ٣/ ١٢٨.
والمعنى: خلق لكم الحواس التي بها تعلمون وتقفون على ما تجهلون، قال ابن عباس في هذه الآية: يريد لتسمعوا مواعظ الله وتُبْصِروا ما أنعم الله به عليكم منذ أخرجكم من بطون أمهاتكم إلى أن صرتم رجالًا، وتعقلوا عظمة الله (١)، ﴿وَالْأَفْئِدَةَ﴾ جمع الفؤاد؛ نحو غراب وأغربة (٢).
قال الزجاج: ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد؛ لم يُقَل فيه: فِئْدان، كما قيل في غُراب وغِرْبَان (٣).
٧٩ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ﴾، أي: مذللات في جَوِّ السماء، وهو الهواء، قال الزجاج: ﴿جَوِّ السَّمَاءِ﴾: الهواءُ البعيدُ من الأرض (٤)، وهذا حث على الاستدلال بها على مُسَخِّرٍ سَخَّرها، ومُدَبِّرٍ مَكَّنَها من التصرف في جو السماء، وهو الله تعالى.
وقوله تعالى: ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ﴾ يعني في حال القَبْض والبَسْط والاصطفاف، كقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾ الآية. [الملك: ١٩].
٨٠ - قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾ الآية. السَّكَن: المَسْكَن، أنشد الفراء (٥):
(١) انظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١٢٨، بنصه، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٠١، بنصه.
(٢) قال الزمخشري: وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة. انظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٣٩.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٤، بنصه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٤، بنصه.
(٥) نسبه الأزهري لابن الأعرابي.
153
جاء الشِّتاءُ ولَمَّا أتَّخِذْ كِنَنًا (١) يا وَيْحَ نَفْسِيَ (٢) من حَفْر القراميص (٣)
والسَّكَنُ: ما سَكَنْت، وقال الزجاج: أي مَوْضِعًا تَسْكُنُون فيه (٤)، قال مجاهد وغيره: يعني المساكن من الحجر والمدر (٥).
(١) في (أ)، (د): (كِنانًا)، والمثبت من: (ش)، (ع)، وقد انفرد الواحدي برواية (كِنًا)، بينما ورد في غيره (سنكنًا) و (ربضًا)، وليس في رواية الواحدي ولا رواية (ربضًا) شاهد -إلا بالمعنى-، إنما الشاهد في رواية "سكنًا" كما سيأتي في توثيق البيت.
(٢) في (أ)، (د) زيادة كلمة (قلبي) كالتالي: (ياويح قلبي نفسي) والمثبت من: ش، ع وهو الصحيح؛ لإغناء كلمة نفسي عنها، ويؤكد ذلك خلو رواية التهذيب منها.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (قرمص) ٣/ ٢٩٤٦، وفيه: (رَبَضَاً) بدل (كناناً)، وبدون كلمة (قلبي)، وورد بلا نسبة برواية:
جاء الشتاء ولمّا أتخذ ربضًا يا ويح كفَّيَّ من حفْرِ القراميص
في "جمهرة اللغة" ١/ ٣١٤، ٢/ ١٢٠١، و"تهذيب اللغة" (ربض) ٢/ ١٣٤٤، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٤٧٨، و"الصحاح" (قرمص) ٣/ ١٠٥١، (ربض) ٣/ ١٠٧٦، و"تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩١، وفيه: (سكنًا) بدل (ربضًا، و"الأساس" ٢/ ٢٤٧، و"اللسان" (قرمص) ٦/ ٣٦٠٦، (ربض) ٣/ ١٥٥٩، و"التاج" (قرمص) ٩/ ٣٣٣، و"تفسير أبي حيان" ٥/ ٥٢٣، و"الدر المصون" ٧/ ٢٧٣، فيهما برواية: (سكناً) و (نفسي)، (ربض): قال ابن فارس: الراء والباء والضاد أصل يدل على سكون واستقرار، والرَّبَض: ما حول المدينة؛ ومسكن كلِّ قوم رَبَضٌ، ويقال: لفلان رَبَضٌ يأوي إليه: وهو كل ما سكن إليه من امرأة أو قرابة أو بيت. (قرمص): قال ابن السكيت: القراميص: حُفَرٌ صغارٌ يستكِنُّ فيها الإنسان من البرد، الواحدة: قُرْمُوص.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٥، بنصه.
(٥) ورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٥٤، بنصه، والثعلبي ٢/ ١٦١ أ، بنصه، والبغوي ٥/ ٣٥، والخازن ٣/ ١٢٨، والذي في "تفسير مجاهد" ص ٤٢٣، قال: تسكنون فيها، وأخرجه الطبري عن مجاهد بهذه الرواية، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٣٧، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
154
وقال ابن عباس: يريد مساكن تستر عوراتكم وحُرَمَكُم، وذلك أن الله تعالى خلق الخشب والمدر والآلة التي بها يمكن تسقيف البيوت وبناؤها (١).
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ﴾ يعني الأنطاع (٢) والأُدم، ﴿بُيُوتًا﴾ يعني القِبَاب والخِيَام والفَسَاطِيط (٣)، ﴿تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾، أي: يَخِفُّ عليكم حَمْلُها في أسفاركم (٤)، قال ابن عباس: يريد إذا ظعنتم الربيع، وفيه قراءتان: تسكين العين (٥) وتحريكها (٦)، وهما لغتان؛ كالشعْر والشعَر، والنهْر والنهَر، قال الفراء: والعرب تفعل ذلك بما كان ثانيه إحدى الستة الأحرف (٧)، وأنشد (٨):
له نَعَلٌ لا تَطَّبِي الكَلْبَ ريحُها وإن وُضِعت بين المجالس شُمَّت (٩) (١٠)
(١) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧٦، بنحوه وبلا نسبة.
(٢) جمع: نِطَعٌ ونِطْعٌ ونَطَعٌ ونَطْعٌ؛ هو بساطُ من الجلد. انظر: "المحيط في اللغة" ١/ ٤٠٦، و"المعجم الوسيط" ٢/ ٩٣٠.
(٣) جمع الفِسْطَاط والفُسْطَاط؛ وهو ضَرْبٌ من الأبنية؛ وهو بيتٌ يتخذُ من الشَّعر. انظر: "المحيط في اللغة" ٨/ ٢٧١.
(٤) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٥، بنصه.
(٥) قرأ بها: عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر. انظر: "السبعة" ص٣٧٥، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٥٩، و"علل القراءات" ١/ ٣٠٨، و"الحجة للقراء" ٥/ ٧٧، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٥، و"التيسير" ص ١٣٨.
(٦) بفتح العين، قرأ بها: ابن كثير ونافع وأبو عمرو. (انظر: المصادر السابقة).
(٧) يريد الحروف الحلقية؛ وهي: الهمزة والهاء، والعين والحاء، والغين والخاء.
(٨) لكُثَيِّر بن عبد الرحمن بن الأسود، المعروف بكُثَيِّر عزّة (ت ١٠٥ هـ).
(٩) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٢، بنصه تقريبًا.
(١٠) "ديوانه" ص ٨٥، وروايته: =
155
قال أبو علي: لا يجوز أن يكون الظَّعْنُ مخففًا من الظَّعَنِ، كعَضْد من عَضُد، ألا ترى أن من خفف عَضْدًا لم يخفف؛ نحو: حَمَلٍ (١) وَرَسَنٍ (٢)، قال الأزهري: والظَّعْنُ: سير البادية لنُجْعة أو حضور ماء أو طلب مَرْتَع أو تَحَوُّل من ماء إلى ماء ومن بلد إلى بلد، وقد ظَعَنوا يَظْعَنون، وقد يقال لكل شاخص لسفر: ظاعِن، وهو ضدّ الخافض (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ﴾ قال مقاتل: أي لا يثقل عليكم الحالتين (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا﴾ قال المفسرون
= إذا طُرِحَتْ لم تَطَّبِ الكلبَ ريحُها وإن وُضِعَتْ في مجلس القوم شُمَّتِ
وورد في "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ١/ ٥٠٢، و"الخصائص" ٢/ ٩، وفيه: (جُعِلت وسْطَ) بدل (وُضعت بين)، و"اللسان" (نعل) ٧/ ٤٤٧٧، وفيه: (وسط) بدل (بين)، وورد في "البيان والتبيين" برواية ليس فيها الشاهد ٣/ ٧٨٨، (تطبي): يقال طبى فلانٌ فلانًا عن رأيه وأمْره: أي صرفه، وأطْبَأه وطَبَأه: دعاه واستماله، (شُمّت): يُقبل شَمُّها؛ لأن جلدها جيد الدباغة لا تفوح منه روائحُ كريهة منتنة تستميل الكلاب، والشاعر يصف نعله برقتها وطيب ريحها، وأنها لطيب ريحها وعدم انبعاث الروائح الكريهة عنها لا تستميل الكلاب. والشاهد: أنه حرَّك حرف الحلق (ع) لانفتاح ما قبله. وانظر: "المحيط في اللغة" (طبى) ٩/ ٢٢٨.
(١) هكذا في جميع النسخ بالحاء، وفي المصدر (جمل) بالجيم، وهو خطأ؛ لأن (جمل) لا تأتي في الفصيح إلا محركة. انظر: "متن اللغة" ١/ ٥٧١.
(٢) "الحجة للقراء" ٥/ ٧٧، بتصرف يسير. (رسن): الرسن: الحبل تقاد به الدابة؛ وهو ما كان على الأنف من الأزمَّة. انظر: "اللسان" (رسن) ٣/ ١٦٤٧، و"متن اللغة" ٢/ ٥٨٨.
(٣) "تهذيب اللغة" (ظعن) ٣/ ٢٢٤١، بنصه.
(٤) "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٥ ب، بمعناه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦١ أ، بنصه.
156
وأهل اللغة: الأصواف للضأن، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز (١).
وقوله تعالى: ﴿أَثَاثًا﴾ الأثاث: أنواع المتاع من متاع البيت؛ من الفُرُش والأكسية (٢)، قال الفراء: ولا واحد له، كما أن المتاع لا واحد له، قال: ولو جمعت لقلت: أَثِثَّة في القليل وأُثُثٌ في الكثير (٣).
وقال أبو زيد: واحدتها أَثَاثَةٌ (٤).
(١) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٥ ب، بنصه، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٥، بنصه، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٩٦، بنصه، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦١ أ، بنصه، والطوسي ٦/ ٤١٣، وانظر: "تهذيب اللغة" (صاف) ٢/ ١٩٦٢ - ١٩٦٣، (وبر) ٤/ ٣٨٢٦ - ٣٨٢٧، و"المحيط في اللغة" (صوف) ٨/ ١٩٦، (وبر) ١٠/ ٢٧٢، و"اللسان" (وبر) ٨/ ٤٧٥٢ - ٤٧٥٣، (صوف) ٤/ ٢٥٢٧ - ٢٥٢٨.
(٢) ورد في الغريب لابن قتيبة ١/ ٢٤٨، بنصه، ورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٩٦، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦١ أ، وانظر: (أث) في "العين" (٨/ ٢٥٣، و"تهذيب اللغة" ١/ ١١٨، و"اللسان" (أثث) ١/ ٢٤ - ٢٥، و"التاج" (أثث) ٣/ ١٦٤.
(٣) لم أجده في معانيه، وورد في "تهذيب اللغة" (أث) ١/ ١١٨، بنصه تقريبًا، وفيه: ولو جمعت لقلت: ثلاثة آثَّةٍ، وأُثُثٌ كثيرة. وانظر: "اللسان" (أثث) ١/ ٢٤ - ٢٥، و"التاج" (أثث) ٣/ ١٦٤، وأورد السمين قول الفراء، وقال عن جمع الكثرة: فيه نظر؛ حيث يلزم هذا الوزن جمعه على أفْعِلَة في القلة والكثرة، ولا يجمع على فُعُل. انظر: "الدر المصون" ٧/ ٢٧٥.
(٤) لم أجده في نوادره، وورد في "تهذيب اللغة" (أث) ١/ ١١٨، بلفظه، وورد عنه بنحوه في "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٤٨، و"أدب الكاتب" له ص ٦١، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٩٧، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦١، و"الدر المصون" ٧/ ٢٧٥، وأورد الطبري قول أبي زيد -بلا نسبة- ورده، قائلاً: ولم أر أهل العلم بكلام العرب يعرفون ذلك -أي أن الأثاث واحد- والحق أن أبا زيد إمام وحجة في العربية، والذين أوردوا قوله -وهم من أهل اللغة- لم أجد من اعترض عليه، وحسبك بابن قتيبة وقد أورد قوله مستشهدًا به.
157
قال ابن عباس في قوله: ﴿أَثَاثًا﴾ يريد طَنَافِس (١) وبُسطًا وثيابًا وكسوة (٢)، قال الخليل: وأصله من قولهم: أثَّ النَّباتُ والشَّعر إذا كثر (٣)
وقوله تعالى: ﴿وَمَتَاعًا﴾ أي ما يمتعون به.
وقوله تعالى: ﴿إِلَى حِينٍ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد إلى حين البلى (٤).
وروي عنه: ﴿إِلَى حِينٍ﴾: الموت (٥)، ومثله قال مجاهد، وأَبْهَم قتادة؛ فقال: إلى أجل (٦)، وحكى الفراء القولين فقال: يقول: يكتفون
(١) جمع طَنْفَس، وهي البساط الذي له خَمْلٌ رقيق، وقيل: هو ضرب من السجاد. انظر: "اللسان" (طنفس) ٥/ ٢٧١٠، و"متن اللغة" ٣/ ٦٣٧.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩٢، بنصه، والمشهور عن ابن عباس أنه فَسَّرَ ﴿أَثَاثًا﴾ بالمال، أخرجه الطبري ١٤/ ١٥٥ - ١٥٦ من طريق العوفي ضعيفة، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٧، وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
(٣) "العين" (أث) ٨/ ٢٥٣، بنصه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩٢، وقد نقل المقطع كله؛ من بداية قول الأزهري بنصه تقريبًا دون نسبته للواحدي.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٩٠، وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٥ ب، والثعلبي ٢/ ١٦١ أ، والبغوي ٥/ ٣٥، والزمخشري ٢/ ٣٣٩، وابن الجوزي ٤/ ٤٧٧، والفخر الرازي ٢٠/ ٩٢، والخازن ٣/ ١٢٩.
(٥) أخرجه الطبري ١٤/ ١٥٥ بلفظه عن مجاهد، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧٧، عن ابن عباس ومجاهد، وأبي حيان ٥/ ٥٢٤، عن ابن عباس، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٠٤، عن ابن عباس، وورد غير منسوب في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٨١، والثعلبي ٢/ ١٦١ أ، والبغوي ٥/ ٣٥، والزمخشري ٢/ ٣٣٩، والفخر الرازي ٢٠/ ٩٢، والخازن ٣/ ١٢٩، وورد عن ابن عباس تفسيره بقوله: ينتفعون به إلى حين، أخرجه الطبري ١٤/ ١٥٤ - ١٥٥ من طريق العوفي ضعيفة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٣٧ وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
(٦) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٥٩) بلفظه، والطبري ١٤/ ١٥٥ بلفظه، =
158
بأصوافها إلى أن يموتوا، ويقال: إلى الحين بعد الحين (١).
٨١ - قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد ظلال الغمام والسحاب (٢)؛ كما قال: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ [البقرة: ٥٧] يريد لتقيكم من حر الشمس ومن شدة البرد، وقال الكلبي: ﴿مِمَّا خَلَقَ﴾ يعني البيوت (٣)، وقال قتادة: يعني الشجر (٤)، واختاره الزجاج. فقال: أي جعل لكم من الشجر ما تَسْتَظِلُّون به (٥) (٦).
وقوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا﴾ قالوا: يعني الغيران والأسْرَاب (٧)، وواحد الأَكْنَان كِنٌّ، على قياس حِمْل
= وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٩٧، بلفظه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٣٧، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٢. بنصه.
(٢) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧٧، وأبي حيان ٥/ ٥٢٤، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٠٥
(٣) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧٧، وأبي حيان ٥/ ٥٢٤، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٠٥
(٤) أخرجه الطبري ١٤/ ١٥٥ بلفظه من طريقين، ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٥ بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧٧، وأبي حيان ٥/ ٥٢٤، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٨، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٥، بنصه.
(٦) هذه الأقوال -في معنى الظلال- من اختلاف التنوع، ولا يجوز تخصيصها بأي منها، والأَوْلَى حَمْلُه على العموم؛ لعدم وجود مخصص، ولكونه جاء على سبيل الامتنان، والمنّة حاصلة بكل ذلك، لذلك فالأرجح ما قاله أبو سليمان الدمشقي: إنه كل شيء له ظل؛ من حائط، وسقف، وشجر، وجبل، وغير ذلك. "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٧٧.
(٧) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٥، بنصه، والثعلبي ٢/ ١٦١ أ، بنصه، وانظر: =
159
وأَحْمَال (١)، والكِنُّ: كل شيء وقى شيئًا، ويقال: اسْتَكَنَّ واكْتَنَّ، إذا صار في كِنّ (٢) (٣) ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ السرابيل: القُمُص، واحدها سربال (٤)، قال الفراء: سَرْبَلْتُ الرجلَ إذا لَبَّسْتَه سَرْبَلَةً وسِرْبَالًا (٥)، وأنشد:
عَمّى أبو مالك بالمجدِ سَرْبَلَني ودَنَّس العبد عبد القيس سربالي (٦)
قال أبو إسحاق: كلُ ما لَبِسْتَه فهو سربالٌ؛ من قميص أو دِرْع أو جَوْشَنٍ أو غيره (٧)، قال ابن عباس وقتادة: هي القُمُص من الكَتّان،
= "تفسير البغوي" ٥/ ٣٦، وابن الجوزي ٤/ ٤٧٨، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٥٩، والخازن ٣/ ١٢٩، (الغيران): جمع غار؛ وهو مغارةٌ في الجبل كالسَّرب، وقيل: الغارُ كالكَهْف في الجبل، (الأسْرَاب): جمع سَرْب، وهو المسلك في خفية، وأصله جُحر الثعلب والوحشي، وهو حفير تحت الأرض، وقيل: بيت تحت الأرض. انظر: (سرب) في "المحيط في اللغة" ٨/ ٣١٢، و"اللسان" ٤/ ١٩٨٠، (غور) ٦/ ٣٣١٣، و"معاني اللغة" ٣/ ١٣٣.
(١) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٥، بنصه.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (كن) ٤/ ٣١٩٦، بنصه، وهو قول الليث.
(٣) انظر: (كن) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٩٦، و"المحيط في اللغة" ٦/ ١٤٤، و"الصحاح" ٦/ ٢١٨٨، و"اللسان" ٧/ ٣٩٤٢، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩٣، بنصه بلا نسبة.
(٤) انظر: (سربل) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٦٤، و"الصحاح" ٥/ ١٧٢٩، و"اللسان" ٤/ ١٩٨٣، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩٣، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٠.
(٥) ليس في معانيه.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٥، بنصه. (جوشن): درع أو زَرَدٌ يُلْبَس على الصدر، والجمع: جواشن. انظر: "متن اللغة" ١/ ٦٠٣.
160
والقطن والصوف (١)، قال الفراء: ولم يقل: والبرد، وهي تقي الحرّ والبرد، فترك؛ لأن معناه معلوم (٢)، قال الزجاج: ولم يقل: وتقيكم البردَ؛ لأن ما وَقَى من الحرّ وَقَى من البرد (٣)، فعندهما أنه اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لدلالة المذكور على الآخر، وقال عطاء الخرساني: الذين خوطبوا بهذا أهل حَرّ في بلادهم فحاجتهم إلى ما يقي الحرّ أشد، لذلك لم يذكر البرد؛ لأن القوم خُوطبوا على قدر معرفتهم، كما قال: ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا﴾: وما جعل من غير ذلك أعظم، ولكنهم كانوا أصحابَ وَبَر وشَعَر، وكذلك قوله: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣] يُعَجِّبُهم بذلك، وما أنزل من الثلج أعظم ولكنهم كانوا لا يعرفونه (٤)، قال المبرد: والقرآن قد أحاط بمن يخاطب وبمن يكون بعده، وأحاط بالغائب كما أحاط بالحاضر، ولكن العرب من شأنها إذا كان
(١) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٥٩)، بنحوه، والطبري ١٤/ ١٥٥ - ١٥٦ بنصه من طريقين، وبنحوه من طريق، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٩٧، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٥، والطوسي ٦/ ٤١٣، بنحوه، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٥٦أ، والثعلبي ٢/ ١٦١أ، وهود الهواري ٢/ ٣٨١.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٢، بنصه.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٢، بنصه.
(٤) أخرجه الطبري ١٤/ ١٥٣ - ١٥٥ بنصه تقريبًا مع تقديم وتأخير، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٩٨، مختصرًا، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦١أ، بنصه تقريبًا مع تقديم وتأخير، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٧، مختصرًا، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٦، والفخر الرازي ٢٠/ ٩٣، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٠، والخارن ٣/ ١٢٩، وابن كثير ٢/ ٦٣٩، وهذا القول هو الذي رجَّحه الطبري.
161
الشيئان مجازهما واحدًا في ضر أو نفع فذكروا أحدهما علم أن الآخر مثله، فلما ذكر الحرَّ صار كأنه ذكر البرد أيضًا، لما يعلم أنها لا تقي شيئًا دون شيء (١).
وقوله تعالى: ﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾ قال المفسرون: يعني دروع الحديد (٢)، ومعنى البأس: الشدة، ويريد هاهنا شدة الطعن والضرب والرمي (٣).
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ﴾ أي مِثْل ما جعل هذه الأشياء، وخلقها لكم وأنعم بها عليكم، ﴿يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ يريد: نعمة الدنيا؛ لأن (٤) الخطاب لأهل مكة يدل على هذا.
قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ قال ابن عباس: لعلكم يا أهل مكة تُخْلِصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذا أحدٌ غيره (٥)، فتوحدوه وتصدقوا أنبياءه، ثم قال بعد أن بَيَّنَ لهم الآيات:
٨٢ - ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ أي عليك أن تُبلِّغَ الرسالةَ
(١) أورده في "التعازي والمراثي" ص٣٩، مختصرًا جدًا؛ قال: وكذلك قوله تعالى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾، ولم يذكر البرد، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩٤، عنه بمعناه، وأبي حيان ٥/ ٥٢٤ مختصرًا، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٠٥، مختصرًا.
(٢) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٦ أ، بلفظه، والسمرقندي ٢/ ٢٤٥، بنصه، وهود الهواري ٢/ ٣٨١، بلفظه، والثعلبي ٢/ ١٦١ أ، بنحوه، وانظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٣٩، وابن كثير ٢/ ٦٣٩ - ٦٤٠.
(٣) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩٤، بنصه بلا نسبة.
(٤) في (أ)، (د): (أن) ومطموسة في (ع)، والمثبت من (ش).
(٥) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩٤، والخازن ٣/ ١٢٩، بلا نسبة.
والآياتِ الدالةَ على التوحيد وصدقك، ولا يَلْزَمك تقصيرٌ مِنْ أجل تَوَلِّيهم، وهذا تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- عما يلحقه عند توليهم عنه.
٨٣ - قوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾ قال السدي: يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم- (١)، وهذا القول اختيار أبي إسحاق؟ قال: يعرفون أن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- حقٌّ ثم يُنكرون ذلك (٢)، وقال مجاهد: يعني ما عَدَّدَ من النِّعَم في هذه السورة، يعرفون أنها كلَّها نِعَمٌ عليهم، ولكن ينكرون أنها من الله تعالى، يقولون: هذه النعم كانت لآبائنا فورثناها منهم (٣)، وقال الكلبي: أقروا بأنها كلها من الله، وقالوا: لكنها بشفاعة آلهتنا (٤)، [وهذا] (٥) القول
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٥٧ بنصه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٩٩، بنصه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٥، بنصه، والثعلبي ٢/ ١٦١ ب، بنصه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٧، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٦، وابن عطية ٨/ ٤٨٧، وابن الجوزي ٤/ ٤٧٩، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦١، والخازن ٣/ ١٢٩، وأبي حيان ٥/ ٥٢٤، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٨، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٦، بنصه.
(٣) "تفسير مجاهد" ٣٥٠، بمعناه، أخرجه الطبري ١٤/ ١٥٨ بمعناه من طريقين، وورد في: "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٠، بمعناه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٥، بمعناه، وهود الهواري ٢/ ٣٨٢، مختصرًا، والثعلبي ٢/ ١٦١ب، بنحوه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٧، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٦، وابن الجوزي ٤/ ٤٧٩، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦١، والخازن ٣/ ١٢٩.
(٤) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٥، بنحوه، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١١٦١ ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٦، وابن الجوزي ٤/ ٤٧٩، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٢، والخازن ٣/ ١٢٩.
(٥) في جميع النسخ (وقال) ولا يستقيم بها الكلام، والصحيح المثبت.
163
اختيار الفراء؛ قال: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ يعني الكفار، إذا قيل لهم مَنْ رزقكم؟ قالوا: الله، ثم يقولون: بشفاعة آلهتنا فيشركون، فذلك إنكارهم نعمته (١)، ونحو هذا روى عطاء عن ابن عباس، قال: يُقِرُّون أنه لا يفعل هذا أحدٌ غيرُه، وهو المستحق للعبادة؛ لأنه المنعم عليهم دون غيره (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ قال أصحاب التأويل: إنما قال وأكثرهم؛ لأن فيهم من لم تقم عليه الحجة ممن [لم] (٣) يبلغ حَدَّ التكليف؛ ومنهم من هو ناقص العقل مأووف (٤) فأراد بالأكثر: البالغين الأصحاء الذين هم المقصودون بالخطاب وإقامة الحجة عليهم (٥)، وقال الحسن: المعنى: وجميعهم الكافرون (٦)، وعلى هذا ذكر الأكثر والمراد الجميع؛ لأن عُظْمَ الشيءِ يقوم مقام جميعه، فَذِكر الأكثرِ كذِكْرِ الجميع، وهذا كقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٧٥] وذكرنا هناك وجهين آخرين، وهذه الآية تدل على أن المعاند كافرٌ، وإن عرف بقلبه إذا لم يُقِرّ بلسانه وأنكر في الظاهر.
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٢، بنصه.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ص٢٩٠، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٢، بلا نسبة.
(٣) إضافة يقتضيها السياق ليستقيم الكلام.
(٤) في اللسان (مَأُوُوف) و (مؤُوف): وهو الذي أصابته آفة؛ أي عاهة، يقال: آفت البلادُ تؤُوف أوفًا وآفةً وأُوُوفًا: صارت فيها آفةٌ، والمقصود هنا: العاهة العقلية التي تعيقه عن الفهم والتمييز. انظر: "اللسان" (أوف) ١/ ١٧١.
(٥) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤١٤، بنحوه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩٥، وقد ذكر تعليلات أخرى.
(٦) ورد بنصه في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٧، والطوسي ٦/ ٤١٥، وانظر: ابن الجوزي ٤/ ٤٧٩، وأبي حيان ٥/ ٥٢٥.
164
٨٤ - قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾، أي: وذَكِّرهم يوم نبعث أو وأَنْذرهم يوم نبعث، قال ابن عباس: يريد يوم القيامة (١)، ﴿مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ يريد الأنبياء يشهدون على الأمم بما فعلوا من التصديق والتكذيب.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قال الكلبي: لا يؤذن لهم في الكلام والاعتذار (٢)؛ كقوله: ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٦].
وقوله تعالى: ﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ استعتَبَ فلان إذا طلب أن يُعْتَب، أي: يُرْضَى (٣)، واستعتبت فلانًا إذا طلبت منه أن يرجع إلى رضا صاحبه (٤)، فمعنى قوله: ﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ أي لا يُطلب منهم أن (٥) يرجعوا إلى ما يُرضي اللهَ؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف، كما قال ابن عباس في هذه الآية، قال: يريد انقطع العتاب وانقطعت المعذرة وحَلّ بهم الخزي، تلخيص معنى الآية: أنهم لا يُمَكَّنُونَ من عذر فيتكَلَّمون به، ولا يُكَلَّمُون أيضًا في الرجوع في العُتْبَى، وأصل هذا الحرف من العتب وهو الموجدة، يقال: عتب عليه إذا وجد عليه، وأعتبه إذا زال عنه عتبُه؛ بأن
(١) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩٥، والخازن ٣/ ١٣٠، بلا نسبة فيهما.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩٥، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٢، والخازن ٣/ ١٣٠، كلها بلا نسبة.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (عتب) ٣/ ٢٣١٤، بنصه، وهو قول الليث.
(٤) انظر: (عتب) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣١٤، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٢٢٦، و"اللسان" ٥/ ٢٧٩١.
(٥) (أن) ساقطة من (أ)، (د) وفي (ع): (أي).
ترك ما كان يعتب عليه من أجله، واستعتبه إذا طلب منه الإعتاب (١).
٨٥ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ قال ابن عباس: يريد أشركوا (٢)، ﴿الْعَذَابَ﴾ يريد النار، ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ﴾، أي: العذاب، ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾، أي: لا يؤخرون ولا يمهلون؛ لأن التوبة هناك غير مرجوة؛ لانقضاء الأمد المضروب لقبول التوبة ودخول وقت العذاب، وهذه الآية تأكيد لما قبلها؛ يريد أنهم يعجل لهم العقوبة في الآخرة من غير إنصات (٣) لعذر منهم أو عتاب معهم.
٨٦ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ﴾ قال ابن عباس: يريد الذين اتخذوهم (٤) من دون الله آلهة (٥)، وذلك أن اللهَ يبعثُ كلَّ مَنْ كان يَعْبُدون من دون الله، فيتبعوهم حتى يوردوهم النار، وَوُصِفُوا بأنهم شركاؤهم: لأنهم جعلوا لهم نصيبًا في أموالهم، ولأنهم جعلوهم شركاء في العبادة (٦)، ﴿قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ﴾، أي:
(١) انظر: (عتب) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣١٤، و"المحيط في اللغة" ١/ ٤٤٦، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٢٢٦، و"اللسان" ٥/ ٢٧٩١.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ص٢٩١، ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٨٢، والثعلبي ٢/ ١٦١ب، والبغوي ٥/ ٣٧، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٠، والفخر الرازي ٢٠/ ٩٦، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٢، والخازن ٣/ ١٣٠.
(٣) في جميع النسخ: (أنصار) والصواب ما أثبته، ويدل عليه ما بعده، ولعلها تصحفت.
(٤) في (أ)، (د): (اتخذو لهم)، وفي (ش)، (ع): (اتخذوا لهم)، والمثبت هو الصحيح وينسجم مع السياق.
(٥) انظر: "تفسير أبى حيان" ٥/ ٥٢٦، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٠٨، بنحوه غير منسوب.
(٦) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤١٦، بنصه.
166
كنا نعبدهم من دونك، ﴿فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ﴾ قال الكلبي: أجابوهم (١)، وقال مجاهد: حدثوهم (٢)، وقال الفراء: رَدَّت عليهم قولهم (٣): ﴿إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ (٤)، وذكر المفسرون في تكذيب الأصنام إيّاهم وجوهًا؛ أحدها: أنها كذبتهم في استحقاق العبادة، والمعنى: ﴿إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾: في أَنَّا نستحق العبادة (٥)، الثاني: ﴿إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾: في أَنَّا دعوناكم إلى العبادة، وهذا قول الفراء (٦)، وقيل: ﴿إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾: في تسميتنا آلهة وأربابًا (٧)، وكل هذا تكذيب من الآلهة (٨) للكفار بما لم يُخْبِر به عنهم؛ لأنه ليس في الآية أن الكفار ادعوا أنها دعتهم إلى عبادتها، ولا أنها كانت تستحق العبادة، ولا أنهم سموها آلهة، وإن كانوا قد فعلوا ذلك، ولكن لم يُخبِر عنهم في هذه الآية بهذه الأشياء حتى ينصرف التكذيب إلى ذلك، والمفسرون قالوا هذا على الاحتمال، ولم أر لواحد من أئمة التفسير قولًا منسوبًا إليه مما حكيت غير الفراء، والذي يوافق الظاهر أن يقال: إن الشركاء كانت جمادًا مواتًا ما كانت تعرف عبادة عابديها، فقالت: ﴿إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾: في عبادتكم إيَّانَا، ما كنا نعرف ذلك ولا علم لنا بعبادتكم،
(١) ورد بلا نسبة في "تفسيره "الوسيط"" تحقيق سيسي ٢/ ٤٢٨، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٠.
(٢) "تفسير مجاهد" ص ٣٥٠، بلفظه، أخرجه الطبري ١٤/ ١٥٩ بلفظه من طريقين، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٩، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٣) في جميع النسخ: (قولها)، والتصويب من المصدر.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٢، بنصه.
(٥) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤١٦، بنصه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩٧.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٢، بمعناه.
(٧) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤١٧، بنحوه، وانظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١٣٠.
(٨) في جميع النسخ: (الإله) والصحيح الآلهة؛ لأنها هي التي كذبت عابديها.
167
فظهر عند ذلك فضيحة الكفار، حيث عبدوا من لم يشعر بالعبادة، يدل على هذا قوله: ﴿كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ﴾ [مريم: ٨٢]، والله أعلم.
٨٧ - قوله تعالى: ﴿وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ قال ابن عباس: يريد استسلموا وأقروا لله بالربوبية (١)، قال الكلبي: استسلم العابد والمعبود (٢)، وقال قتادة: يقول: ذَلُّوا واستسلموا يومئذ لحكم الله (٣)، وذكرنا معنى إلقاء السَّلَم عند قوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ﴾ [النساء: ٩٤].
وقوله تعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد ذهب ما زَيَّنَ لهم الشيطان أن لله شريكًا أو ولدًا وصاحبة (٤)، وقال غيره: بطل ما كانوا يُؤَمِّلُون ويكذبون؛ من أن آلهتم تشفع لهم (٥).
٨٨ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: يريد عن طاعة الله (٦)، ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ قال ابن مسعود:
(١) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٦ أ، والسمرقندي ٢/ ٢٤٦، والثعلبي ٢/ ١٦١ ب، وابن الجوزي ٤/ ٤٨١.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩٧، بنصه، وابن الجوزي ٤/ ٤٨١، بمعناه، وأبي حيان ٥/ ٥٢٧، بمعناه، و"تنوير المقباس" ص٢٩١، بنصه.
(٣) أخرجه الطبري ١٤/ ١٦٠، بنحوه، ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠١، بنحوه، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤١٧، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ٦٤٠، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٣٩، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٤) ورد بنصه غير منسوب في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٢٩، و"تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٨١، والفخر الرازي ٢٠/ ٩٧، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٣.
(٥) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩٧، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٣.
(٦) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٨١، و"تنوير المقباس" ص ٢٩١.
عقارب لها أنيابٌ أمثالُ النخلِ الطِّوالِ (١)، وروي عنه: أفاعي (٢)، وقال السدي. إن أهل النار إذا جزعوا من حَرّها استغاثوا، بضحضاحِ ماءٍ في النار، فإذا أتوه بلغتهم عقارب كأنها البغال، وأفاعي كأنها البَخَاتِي (٣)، فضربتهم فذلك الزيادة (٤)، وقال أبو المنهال (٥): إنهم يستغيثون بالنار فرارًا من تلك الأفاعي والعقارب وهربًا (٦).
٨٩ - قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ قال ابن عباس:
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٦٠ بنصه من عدة طرق، والطبراني في "الكبير" ٩/ ٢٥٨، بنحوه من عدة طرق، والحاكم (٢/ ٣٥٦) بنحوه، وقال: على شرط الشيخين؛ ووافقه الذهبي، والثعلبي ٢/ ١٦١ ب، بنصه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠١، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٦، بنحوه، وهود الهواري ٢/ ٣٨٣، بنحوه، والطوسي ٦/ ٤١٧، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٦، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٢، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٤، والخازن ٣/ ١٣٠، وأبي حيان ٥/ ٥٢٧، وابن كثير ٢/ ٦٤١.
(٢) أخرجه الطبري ١٤/ ١٦٠ بلفظه من عدة طرق، والسمرقندي ٢/ ٢٤٦، بلفظه، وورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤١٧، وهو جزء من الرواية السابقة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٣٩، وعزاه إلى هناد.
(٣) جمع بُخْت؛ وهي الإبلُ الخُراسانِيَّةُ، وهي طوال الأعناق. انظر: (بخت) في "تهذيب اللغة" ١/ ٢٨٣، و"التاج" ٣/ ١٢.
(٤) أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٣٩ وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وانظر: "تفسير الألوسي" ١٤/ ٢١٢.
(٥) أبو المنهال هو سَيَّار بن سَلاَمة الرِّياحي البصري، ثقة، روى عن أبي العالية وشهر ابن حوشب، وعنه: شعبة وحماد، مات سنة (١٢٩ هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٤/ ٢٥٤، و"الكاشف" ١/ ٤٧٥، و"تقريب التهذيب" ص٢٦١ (٢٧١٥)، و"تفسير الطبري" تحقيق شاكر ٥/ ٢١٧.
(٦) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٣٠، بنصه.
169
يريد الأنبياء (١)، قال المفسرون: كل نبي شاهد على أمته، وهو أعدل شاهد عليها (٢)، ووجه انتصاب (ويوم) ذكرنا عند قوله: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ [النحل: ٨٤] و ﴿فِي كُلِّ أُمَّةٍ﴾ هاهنا كقوله: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا﴾ [النحل: ٣٦] فيجوز أن يكون من صلة الشهيد؛ كأنه قيل: ويوم نبعث شهيدًا في كل أمة.
وقوله تعالى: ﴿عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾: الأنبياء شهداء (٣) على أممهم بما فعلوا، وهم من أنفسهم؛ لأن كلَّ نبي بُعث من قومه إليهم، ﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ قال ابن عباس: يريد على قومك (٤)، وتم الكلام هاهنا، ثم قال: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ قال مجاهد: يعني لِمَا أَمَر به وما نهى عنه (٥). وقال أهل المعاني: يعني لكل شيء من أمور الدين بالنص عليه أو الإحالة على ما يوجب العلم به من بيان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أو إجماع،
(١) انظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١٣١، وورد بلا نسبة في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٠٨، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٤.
(٢) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٦، بنصه، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٠، بنحوه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩٨، والخازن ٣/ ١٣١.
(٣) في (أ)، (د): (شهيدًا).
(٤) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٨٢، و"تنوير المقباس" ص٢٩١، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٦ ب، والطبري ١٤/ ١٦١، والسمرقندي ٢/ ٢٤٦، والطوسي ٦/ ٤١٨، والخازن ٣/ ١٣١.
(٥) أخرجه الطبري ١٤/ ١٦١ - ١٦٢ بنصه وبنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠١، بنحوه، وانظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١٣١، وابن كثير ٢/ ٦٤١، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٦ب، والسمرقندي ٢/ ٢٤٦، وهود الهواري ٢/ ٣٨٣، والثعلبي ٢/ ١٦١ ب، و"الدر المنثور" ٤/ ١٤٠ وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
170
فهو الأصل والمفتاح لعلوم (١) الدين (٢)، أخبرني سعيد بن محمد بقراءتي عليه عن ابن مُقْسِم عن الزجاج، قال: تبيان اسمٌ في معنى البيان، ومِثلُ التِّبْيَان (٣) [التِّلْقَاء] (٤)، وأخبرني أبو الحسين الفسوي (٥) فيما قرأته عليه عن حمد بن محمد عن أبي عمر (٦) عن ثعلب عن الكوفيين، والمبرد عن البصريين، قالا: لم يأت من المصادر على تِفْعَال إلا حرفان تبيان وتلقاء، فإذا تركت هذين استوى لك القياس، فقلتَ في كل مصدر: تَفْعَال بفتح التاء مثل: تَسْيَار وتَهْمَام، وقلت في كل اسم: تِفْعَال بكسرها، مثل: تِقْصَار وتِمْثَال (٧)، وانتصاب قوله: ﴿تِبْيَانًا﴾ على أنه مفعول له؛ أي للبيان.
(١) في (أ)، (د): (بعلوم)، والمثبت من (ش)، (ع)، هو الصحيح المناسب للسياق، وهكذا وردت في تفسيره "الوسيط".
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" ٢/ ٤٣١، بنصه، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤١٨، بنحوه، وانظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٤١، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٢، والخازن ٣/ ١٣١، وأبي حيان ٥/ ٥٢٧، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢١٥.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٧، بنصه.
(٤) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها الكلام، وبدونها يبدو الكلام ناقصًا، وهي ثابتة في المصدر، فلعلها سقطت.
(٥) أبو الحسين عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي ثم النيسابوري، كان عالماً عابدًا جليل القدر عُمر طويلاً، روي صحيح مسلم عن أبي عمرو به وغريب الخطابي عن المؤلف، توفي سنة (٤٤٨ هـ) وله (٩٦) سنة. انظر: "المنتخب من السياق" ص٣٦١، ٣٨٧، و"سير أعلام النبلاء" ١٨/ ١٩، و"شذرات الذهب" ٣/ ٢٧٧.
(٦) أبو عمر محمد بن عبدالواحد، اللغوي الزاهد، المعروف بغلام ثعلب، تقدمت ترجمته.
(٧) ورد في "تهذيب اللغة" (بان) ١/ ٢٦٤، بنحوه غير منسوب، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٩٩، بنحوه ونسبه للواحدي، وأبي حيان ٥/ ٥٢٧، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢١٤.
171
٩٠ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ قال ابن عباس في رواية الوالبي: العدل: شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان: أداء الفرائض (١)، وقال في رواية عطاء: العدل: خلع الأنداد، والإحسان: تعبد الله كأنك تراه (٢)، وأن تحب للناس ما تحب لنفسك. إن كان مؤمنًا أحببت أن يزداد إيمانًا، وإن كان كافرًا أحببت أن يكون أخاك في الإسلام (٣).
وقال في رواية باذان (٤): العدل: التوحيد، والإحسان: الإخلاص فيه (٥)، وقال آخرون: يعني بالعدل: في الأفعال، والإحسان: في الأقوال (٦)، ولا يفعل إلا ما هو عدل ولا يقول إلا ما هو حسن (٧).
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٦٢ بنصه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص ١٣٤، مجملاً، ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦١ ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٨، وابن عطية ٨/ ٤٩٤، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٣، والفخر الرازي ٢٠/ ١٠١، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٥، والخازن ٣/ ١٣١، وأبي حيان ٥/ ٥٢٩، وابن كثير ٢/ ٦٤٢، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤١ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦١ ب، بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٨٣، والفخر الرازي ٢٠/ ١٠١.
(٣) نقله الفخر الرازي والخازن بنصه دون عزو. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٠١، والخازن ٣/ ١٣١.
(٤) باذان هو أبو صالح مولى أم هانىء، وقد تقدمت ترجمته.
(٥) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦١ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٨، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٣، والفخر الرازي ٢٠/ ١٠١، والخازن ٣/ ١٣١.
(٦) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٢ أ، بنصه.
(٧) نقله الفخر الرازى والخازن بنصه دون عزو. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٠١، والخازن ٣/ ١٣١.
172
وقوله تعالى: ﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد صلة القرابة (١) من فضل ما رزقك الله، فإن لم يكن عندك فضل فدعاء (٢)، وروى أبو سلمة (٣) عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّ أعْجَلَ الطاعةِ ثَوابًا صِلةُ الرحم، [حتى] (٤) إن أهل البيت ليكونون فُجَّارًا فَتُنْمَى أموالُهُم ويَكثُرُ عددُهم إذا وصلُوا أرحامَهُم" (٥).
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٦٢ من طريق ابن أبي طلحة، قال: الأرحام، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٠٠، و"تنوير المقباس" ص٢٩١، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤١، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٧، والماوردي ٣/ ٢٠٩، والطوسي ٦/ ٤١٩، والبغوي ٥/ ٣٨، وابن عطية ٨/ ٤٩٥، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٣، والخازن ٣/ ١٣١.
(٢) نقله الفخر الرازي بنصه دون عزو. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٠١.
(٣) أبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، أحد الأعلام بالمدينة، روى عن أبيه وعن زيد بن ثابت وأبي هريرة، وعنه: ابنه عمر والزهري، كان ثقة فقيهًا كثير الحديث، مات سنة (٩٤ هـ)، وقيل: (١٠٤ هـ) والأول أصح، وعمره (٧٢ سنة). انظر: "طبقات ابن سعد" ٥/ ١٥٥، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٢٨٧، و"الكاشف" ٣/ ٤٣١، و"تقريب التهذيب" ص ٦٤٥ (٨١٤٢).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق، وهي ثابتة في مكارم الأخلاق، وفي بعض المصادر زيادة (واو) بدل حتى.
(٥) أخرجه الخرائطي في "مكارم الأخلاق": باب ما جاء في صلة الأرحام ١/ ٢٦٤ بالنص سندًا ومتنًا، وابن حبان [موارد الظمآن]: البر والصلة، صلة الرحم وقطعها ص ٤٩٩ بنصه تقريبًا عن أبي بكرة، والطبراني في الأوسط [مجمع البحرين] ٥/ ١٦٧، بنحوه عن أبي سلمة عن أبي هريرة، والبيهقي في "السنن" ١٠/ ٣٥ - ٣٦، بنحوه عن أبي هريرة، وبنحوه مرسلاً عن مكحول، وورد في "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٠١. بنصه، وأورده الهيثمي في "المجمع" ٨/ ١٥٢، بنصه، وقال: وفيه أبو الدهماء البصري، وهو ضعيف جدًا، وورد في "كنز العمال" ٣/ ٣٦٤، وقد ذكره الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" ٢/ ٦٧٠ - ٦٧١ تحت (٩٧٨)، وأورد جميع طرقه وشواهده، ثم قال: وجملة القول أن الحديث بمجموع هذه الطرق والشواهد صحيح ثابت.
173
وقوله تعالى: ﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ﴾ قال في رواية علي: يقول: الزنى (١)، وقال في رواية عطاء: يريد البخل عن حقوق الله، وجميع الذنب صغيره وكبيره (٢)، وقال آخرون: الفحشاء: ما قبح من قول أو فعل (٣).
(وقوله تعالى ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾ قال في الروايتين: الشرك والكفر بالله (٤)، وقال غيره: المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة (٥)) (٦).
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٦٣ بلفظه من طريق علي صحيحة، ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٢ أ، بلفظه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٨، وابن عطية (٨/ ٤٩٦، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٣، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٧، والخازن ٣/ ١٣١، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤١، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٠١، بلا نسبة.
(٣) انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٧، والخازن ٣/ ١٣١، وأبي حيان ٥/ ٥٣٠، وهو الأرجح لكونه عامًّا وشاملاً لكل الفواحش.
(٤) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٨٤، والخازن ٣/ ١٣١، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤١، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، و"تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٠١، بلا نسبة.
(٥) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٧، بنصه، والثعلبي ٢/ ١٦٢ أ، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٨، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٤، والفخر الرازي ٢٠/ ١٠١، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٧، والخازن ٣/ ١٣١، والأولى ترك اللفظ على عمومه ليشمل كل منكر قولي أو فعلي، عرف بالشرع أو العقل أو الحرف، كما أنه ليس كل ما لم يعرف في شريعة أو سنة يعد منكرًا.
(٦) ما بين القوسين مكتوب على الهامش الأيمن من نسخة (ش).
174
وقوله تعالى: ﴿وَالْبَغْيِ﴾ قال علي عن ابن عباس: الكِبْر والظلم (١)، وقال عطاء عنه: أن تبغي على أخيك (٢).
وقال أهل المعاني في هذه الآية: إنما جمعت الأوصاف الثلاثة للبيان عن تفصيل المنهي عنه؛ فالفحشاء قد تكون بما يفعله الإنسان مما لا يظهر أمره وهو مما يعظم قبحه، والمنكر: ما يظهر للناس مما يجب إنكاره، والبغي: ما يتطاول به من الظلم لغيره، ولا يكون إلا من الفاعل على غيره، والظلم قد يكون ظلم الفاعل لنفسه (٣)، وفي حديث أبي سلمة عن أبيه: "وإن أعجلَ المعصيةِ عقابًا: البغي واليمين الفاجرة؛ تُذهبُ المالَ وتَتركُ البيتَ بَلَاقِع" (٤).
وروى مجاهد عن ابن عباس قال: لو (٥) أن جبلًا بغى على جبل لدُكَّ الباغي منهما (٦)، وقال خالد الربعي (٧): إن مما يعجل عقوبته ولا يؤخر
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٦٣ بنصه من طريق علي صحيحة، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٨، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٤، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤١، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وورد غير منسوب في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٢ أ، بنصه، والفخر الرازي ٢٠/ ١٠١، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٧، والخازن ٣/ ١٣١.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٠١.
(٣) ورد في "تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٠، بنحوه، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤١٩، بنصه.
(٤) سبق تخريجه قريبًا، أما هذه الزيادة فقد وردت بنحوها عن أبي هريرة: في معجم الطبراني الأوسط [مجمع البحرين] ٤/ ٦٨، و"السنن" للبيهقي ١٠/ ٣٥، (بَلاَقِع) جمع بَلْقَع وبلقعة، وهي الأرض القَفْر التي لا شيء بها، يريد أن الحالف بها يَفْتَقِر ويذهب ما في بيته من الرزق، وقيل: هو أن يفرِّق الله شمله ويُغَيِّر عليه ما أولاه من نِعَمِه. النهاية ١/ ١٥٣، وانظر: "اللسان" (بلقع) ١/ ٣٤٨.
(٥) في جميع النسخ: (لو قال) ولا معنى لها، والظاهر أنها تكررت.
(٦) ورد في تفسير هود الهواري ٢/ ٣٨٤، بنصه، وانظره بلا نسبة في "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٧، والخازن ٣/ ١٣١.
(٧) خالد بن بَاب الربعى الأحدب، روى عن شهر بن حوشب وصفوان بن محرز، وعنه: أبو الأشهب وحميد بن مهران، قال أبو زرعة: متروك الحديث. انظر: "التاريخ الكبير" ٣/ ١٤١، و"الجرح والتعديل" ٣/ ٣٢٢، و"ميزان الاعتدال" ٢/ ١٥١.
175
الأمانة تُخَان، والإحسانُ يُكْفَر، والرحم تُقْطَع، والبغي على الناس (١).
وقوله تعالى: ﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد ينهاكم عن هذا كله ويأمركم أن تتحاضوا على ما فيه لله رضا؛ لكي تتعظوا (٢)، قال ابن مسعود: إن أجمع آية في القرآن لخير وشر هذه الآية (٣)، وقال أهل المعاني: ذكر الله تعالى في الآية الأولى؛ فقال: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، ثم بين في هذه الآية المأمور به والمنهي عنه مجملًا، فما من شيء يُحتاجُ إليه في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية (٤).
(١) لم أقف عليه.
(٢) أخرجه الطبري ١٤/ ١٦٣ من طريق ابن أبي طلحة، قال: يوصيكم، وانظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١٣١، بنحوه غير منسوب.
(٣) أخرجه البخاري ص١٦٦ (٤٨٩) في "الأدب المفرد" /الألباني: باب الظلم ظلمات، بنحوه، والطبري ١٤/ ١٦٣ بنصه وبنحوه، والطبراني في "الكبير" ٩/ ١٤٢ من عدة طرق بنصه وبنحوه، والحاكم: تفسير النحل ٢/ ٣٥٦ بنصه، وقال: على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، والبيهقي في "الشعب" ٢/ ٤٧٣ بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٢أ، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٩، وابن عطية ٨/ ٤٩٣، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٤، والفخر الرازي ٢٠/ ١٠٠، والخازن ٣/ ١٣١، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤١، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور ومحمد بن نصر في الصلاة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٤) انظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١٣١، بنصه، وحَمْلُ الآية على العموم أولى من التخصيص، خاصة أن بعض الروايات ضعيفة، وقد ضَعَّفَ الفخر الرازي تخصيص الآية بما ورد من أقوال منسوبة أو مطلقة، ورأى أن تخصيص الآية تَحَكُّم بدون داعٍ أو دليل، وقبله ضعف ابن عطية القول الأول في تفسير العدل والإحسان لكونه مخالفًا لتفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- للإحسان، وعزا ذلك إلى احتمال ضعف الأثر عن ابن عباس؛ وقال: فإن صح هذا عن ابن عباس -رضي الله عنهما - وقد صح- فإنما أراد أداء الفرائض مكمَّلة. انظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٤٩٤، والفخر الرازي ٢٠/ ١٠١، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٦٦.
176
٩١ - قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾ قال المفسرون وأهل العلم: العهد الذي يجب الوفاء به فهو الذي يحسن فعله، فإذا عاهد يجب الوفاء به (١)، قال ابن عباس في هذه الآية: والوعد من العهد (٢)، وقال ميمون بن مِهْران: من عاهدته فَفِ له بعهده مسلمًا كان أو كافرًا؛ فإنما العهد لله (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ قال مجاهد: يعني تغليظ الحلف (٤)، وقال ابن عباس بعد تشديدها (٥)، وإنما قال: بعد
(١) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٣٣ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٨٤، بنصه.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٠٦، بنصه، وبلا نسبة في "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٨٤.
(٣) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٠٧، بنصه، وأبي حيان ٥/ ٥٣٠.
(٤) "تفسير مجاهد" ص ٤٢٤، بنحوه، أخرجه الطبري ١٤/ ١٦٤، بنحوه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠١، بنحوه، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤٢، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٥) ورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٩، وهود الهواري ٢/ ٣٨٤، والثعلبي ٢/ ١٦٢ أ، والبغوي ٥/ ٣٩، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٤، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٦٤ بلفظه عن قتادة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٤٢، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة.
توكيدها؛ فرقًا بين الأيمان المؤكدة بالعزم والعقد، وبين لغو اليمين (١).
قال أبو إسحاق: يقال: وَكَّدتُ وأَكَّدْتُ لغتان جيدتان، والأصل الواوُ والهمزة بدل منها (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ هذه واو الحال؛ أي لا تنقضوها، وقد جعلتم الله كفيلًا عليكم بالوفاء، وذلك أن من حلف بالله تعالى فكأنه أكفل الله تعالى بالوفاء بما حلف عليه (٣)، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد لا يخفى عليه شيء (٤).
٩٢ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا﴾ الآية. قال ابن عباس: هي امرأة من قريش كان لها وسوسة، وكانت تغزل عند الحجر يومها ثم تغدو فتنقضه (٥)، وقال الكلبي: كان يقال لها: رايطة، وقيل: رَيْطة (٦)،
(١) نقله الفخر الرازي والقرطبي بنصه بدون عزو. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٠٧، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٠.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٧، بنصه.
(٣) نقله الفخر الرازي بنصه تقريبًا بدون عزو. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٠٨.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٣٣، بنصه.
(٥) ورد بنحوه بلا نسبة في "تفسير ابن عطية" ٨/ ٥٠٠، و"التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن للسهيلي" ص ١٧٢، وعُزِي للمهدوي في "تفسير مبهمات القرآن" للبلنسي ٢/ ١١٥، بنحوه، وعُزِي للسدي في "مُفْحِماتُ الأقران" ص ٩٧، مختصرًا.
(٦) قال ابن الأنباري: واسمها ريطة بنت عمرو المريّة "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٨٥، وفي "تفسير أبي حيان" ٥/ ٥٣١ أنها بنت سعد بن تيم، وفي "المبهمات في القرآن" للبلنسي ٢/ ١١٥: أنها بنت سعد بن زيد بن مناة بن تميم بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة، ولم يظهر لي إن كانت صحابية أم لا، ولم يتبين لي إن كانت هي رَيْطَة أو رائطة بنت الحارث بن جُبيلة بن سعد بن تيم بن مرة القرشية، وقد ذكرت -دون الإشارة إلى قصة الغزل- في "الاستيعاب" ٤/ ٤٠٤، و"أسد الغابة" ٧/ ١٠٥، و"الإصابة" ٤/ ٢٩٩.
178
وتُلَقَّب جعر (١)، وكانت حمقاء تغزل الغزل هي وجواريها، فإذا غزلت وأبرمت أمرتهنَّ فنقضنَ ما غزلن (٢).
وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ قال مجاهد: من بعد إمرارٍ (٣) وفتلٍ (٤)،
(١) في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٦ ب، و"التعريف والإعلام" ص١٧٢: (جعرانة)، وفي "تفسير مبهمات القرآن" للبلنسي ٢/ ١١٥: (الجعرانية)، وفي "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٣ب: (جَعْير)، وفي "تفسير الماوردي" ٣/ ٢١١: (جعدة)، وفي "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٨٥: (جعراء)، وكلمة: (جعر) تستعمل في الذم ووصف الدُّبر والرجيع، يقال: جَعَرَ الكلبُ جعْرًا يجْعَر، والجاعرتان حيث يكوى من الحمار من مؤخّره، وفي اللسان: والجِعِرَّى: كلمة يلام بها الإنسان؛ كأنه يُنْسبُ إلى الاست، وبنو الجعراء: حيّ من الحرب يُعيّرون بذلك، وقال ابن السِّكيت: تُشتمُ المرأة فيقال لها: قُومي جَعارِ، تُشبه بالضبع. انظر: "مقاييس اللغة" ١/ ٤٦٣، و"اللسان" (جعر) ٢/ ٦٣٣.
(٢) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٢ ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٣٩، والخازن ٣/ ١٣٣، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٢١، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٦ ب، و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٣، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٢، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤٢١، والزمخشري ٢/ ٣٤٢، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٥، والفخر الرازي ٢٠/ ١٠٨، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧١ وسواءً تعينت هذه المرأة -كما في رواية الكلبي- أم لم تتعين -كما في رواية ابن عباس-، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والمقصود من الآية تشبيه الناقضين للعهود مع الله تعالى أو مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو مع خلقه بهذه الحالة العجيبة التي يستنكرها العقلاء، تنفيرًا لهم من هذا الخلق الذميم والفعل الشنيع.
(٣) في (ش)، (ع): (إبرام)، وكلاهما صحيح؛ لأن معناهما واحد، ففي اللغة: المِرَّة: شِدَّةُ الفَتْلِ، والمَرِير: الحبل المفْتُول، أمْرَرْتُه إمْرَارًا وفَتَلَ الحبلَ فتْلاً: لواهُ وبَرَمَهُ، والبرمة: اسم من إبرام الحبل، وبرمتُ الحبلَ وأبرمْتُه، والمِبْرَمُ: شيءٌ كالمِغزَلِ. انظر: "المحيط في اللغة" (مر) ١٠/ ٢١٨، (برم) ١٠/ ٢٤٢، و"المعجم الوسيط" ٢/ ٦٧٣.
(٤) "تفسير مجاهد" ص ٤٢٤، بنحوه، أخرجه الطبري ١٤/ ١٦٦، بنحوه من طريقين، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٥٠١، وأبي حيان ٥/ ٥٣١.
179
يعني من بعد قوة للغزل؛ بإمرارها (١) وفَتْلِها.
وقوله تعالى: ﴿أَنْكَاثًا﴾ قال: واحدها نِكْث، وهو الغَزْل من الصوف والشَّعَر؛ يُبْرَم ويُنْسَج، فإذا أَخْلَقَت النَّسِيْجَة، قُطِّعَتْ ونُكِثَتْ خُيوطُها المُبْرمة وخُلِطَت بالصوفِ ومِيشتْ (٢)، ثم غُزِل ثانية، والنَّكْثُ المصدر، ومن هذا قيل: نَكَث فلانٌ عهدَه إذا نقضه بعد إحكامه؛ كما يُنْكَث خيطُ الصوف بعد إبرامه (٣)، وأنشد أبو عبيدة (٤) للمُسَيَّب بن عَلَس (٥):
عن غَيرِ مَقْلِيَةٍ وأنَّ حِبَالَها لَيْسَتْ بأنكاث ولا أقطاع (٦)
(١) في (ش)، (ع): (بإمرارها)، والمعنى واحد كما سبق.
(٢) في (ش)، (ع): (ونُفِشت)، ومعنى (المَيْشُ): خَلْطُ الصُّوفِ والشَّعَرِ. "المحيط في اللغة" (ميش) ٧/ ٤٠٠.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (نكث) ٤/ ٣٦٥٨، بنحوه، وانظر: (نكث) في "اللسان" ٨/ ٤٥٣٦، و"التاج" ٣/ ٢٧٣.
(٤) في جميع النسخ: أبو عبيد، والصحيح المثبت.
(٥) زهير بن عَلَس، ولقبه المسيَّب، وهو خال الأعشى، وكان الأعشى راويته، وهو جاهلي ولم يدرك الإسلام، عدَّه الجمحي في الطبقة السابعة من فحول شعراء الجاهية، وكان من المُقِلِّين. انظر: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ٢١، و"الشعر والشعراء" ص٩٥، و"شرح اختيار المفضل" ١/ ٣٠٢، و"الخزانة" ٣/ ٢٤٠.
(٦) "مجاز القرآن" ١/ ٣٦٧، وورد برواية: (بأرْمامٍ) بدل (بأنكاث)، في "المفضليات" ص٦١، و"أمالي القالي" ٣/ ١٣٠، و"شرح اختيارات المفضل" ١/ ٣٠٤، وفي كل المصادر -ما عدا- الأمالي: (من) بدل (عن)، (المقلية): البغض، (حبالها): ما احتلبته من مودة، حبلٌ أرمام، وحبلٌ أقطاع: إذا كان قِطعًا مُوَصَّلة. والشاعر. يخاطب نفسه معاتبًا إياها على الرحيل من أرض سلمى وديارها ولمّا يستمتع بما أو يرى منها مكروها، ويواصل عتابه في هذا البيت قائلاً: أثرت ذلك، وهَوَى النفس كما كان لم يتسلَّط عليه تحيُّفٌ، وحبل الوصل برْمته لم يَضعُف.
180
قال أبو إسحاق: ﴿أَنْكَاثًا﴾ منصوب؛ لأنه بمعنى المصدر؛ لأن معنى: نكثت نَقَضْتُ، ومعنى نقضت: نكثت (١)، وهذا غلط منه لأن الأنكاث جمع نكث، وهو (٢) اسم لا مصدر، فكيف يكون الأنكاث بمعنى المصدر، ولو كان (٣) نكثًا لصح ما قال، ولكن أنكاثًا مفعول ثانٍ، كما تقول: كسره أقطاعًا، وفرقه أجزاءً على معنى جعله أقطاعًا وأجزاءً (٤)، وهاهنا تم الكلام، والآية متصلة بما قبلها، والمعنى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ فتكونوا إن فعلتم كامرأة غزلت غزلًا وقَوَّتْ مِرَّتَهُ فلما اسْتَحْكَم نقضته فجعلته أنكاثًا، وهذا كلام [ابن] (٥) قتيبة (٦)، ثم قال: ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ الدَّخَلُ والدَّغَلُ: الغِش والخيانة (٧)، قال الليث: ويخفف الدَّخل ويُثَقَّل (٨)، قال الفراء: يعني دَغَلًا وخديعة (٩).
(وقال الزجاج: أي غِشًّا وغِلاًّ، وكل ما دخله عيب قيل: هو مَدْخُول، وفيه دَخَل، قال: و ﴿دَخَلًا﴾ منصوب) (١٠)؛ لأنه مفعول له،
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٧، بنصه.
(٢) في (د): (وهم).
(٣) (كان) ساقطة من (د).
(٤) نقله الفخر الرازي ٢٠/ ١٠٨، وعزاه للواحدي.
(٥) ساقطة من جميع النسخ.
(٦) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٨٦، بنصه تقريبًا.
(٧) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٢ ب، بنحوه، والطوسي ٦/ ٤٢١، بنحوه، ونقله الفخر الرازي ٢٠/ ١٠٨، بنصه وعزاه للواحدي. وانظر: (دخل) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٥٩، و"الصحاح" ٤/ ١٦٩٦، و"اللسان" / ١٣٤٢.
(٨) ورد في "تهذيب اللغة" (دخل) ٢/ ١١٥٩، بنحوه.
(٩) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٣، بنصه.
(١٠) ما بين القوسين ساقط من (د).
181
والمعنى: تتخذون أيمانكم للغش والدَّغَل (١)، قال غيره: الدَّخَل: ما أُدْخِل في الشيء على فساد (٢).
وقوله تعالى: ﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾، أَرْبَى: أي أكثر، من رَبَا الشيءُ يَرْبُو إذا كثر (٣)، قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعزّ، فينقضون حِلْف هؤلاء ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ، فنُهوا عن ذلك (٤)، والمعنى: بأن يكون أو لأن يكون، فموضع (أن) نصب بإسقاط الخافض، على قول من نصب، (ومن أبقى حُكْمَ الخافض) (٥) قال موضعه خفض، قال ابن قتيبة: أي لأن يكون قوم أغنى من قوم، وقوم أعلى من قوم، تريدون أن تقْتَطِعوا بأيمانكم حقوقًا لهؤلاء، (فتجعلوها لهؤلاء) (٦)، وقال الفراء: معناه لا تغدروا بقوم لقلّتهم وكثرتكم أو قِلّتكم
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٧، بتصرف يسير بالتقديم والتأخير.
(٢) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٢١، بنصه، وقال: وإنما قيل: الدخل؛ لأنه داخل القلب على ترك الوفاء، والظاهر على الوفاء.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" (ربا) ٢/ ١٣٣٤، و"المحيط في اللغة" (ربو) ٣/ ١٥٤٥، و"اللسان" (ربا).
(٤) "تفسير مجاهد" ص ٣٥١، بنصه، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٦٧ بنصه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٣، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٨، بنحوه، وهود الهواري ٢/ ٣٨٥، بنصه، والثعلبي ٢/ ١٦٢ ب، بنحوه، والطوسي ٦/ ٤٢٢، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٤٠، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٦، والفخر الرازي ٢٠/ ١٠٩، وابن كثير ٢/ ٦٤٤، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤٣، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٥) ما بين التنصيص ساقط من (ش)، (ع).
(٦) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٨٦، بنصه، وما بين التنصيص مصوَّبٌ من المصدر، وفي النسخ: (فتجعلونها كهؤلاء).
182
وكثرتهم، وقد غَرَّرتموهم بالأيمان فسكَنُوا إليها (١).
وبيان هذه الجملة: أن القوم إذا عاهدوا قومًا أكثر من الذين عاهدوا فهم أمة أربى من أمة، لا يجوز لهم أن يغدروا، وكذلك إن كان على القلب من هذا (٢) وعاهدوهم؛ دخلوا في حلفهم خوفًا منهم لم يجز لهم الغدر، وتلخيص التأويل: النهي عن أن يحلف على ما هو منطوٍ على خلافه وأن يغر غيره بيمينه.
وقوله تعالى: ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ﴾ ظاهره إخبار ومعناه النهي، والتقدير: لا تكونوا كتلك المرأة؛ متخذين أيمانكم للغش، بأن يكون قوم أكثر من قوم، قال الفراء: وموضع ﴿أَرْبَى﴾ نصب، وإن شئت رفعت؛ كما تقول: أظن رجلًا يكون هو أفضل منك، و (أفضل) النصبُ على العِمَاد (٣)، والرفع على أن تجعل (هو) اسمًا (٤)، قال الزجاج: موضع ﴿أَرْبَى﴾ رفعٌ ولا يجوز أن تكون نصبًا وهي تكون عمادًا؛ لأن العماد والفصل لا يكون مع النكرات وإنما يكون مع المعارف، كقوله: ﴿تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا﴾ [المزمل: ٢٠]، والهاء في تجدوه معرفة، و ﴿أُمَّةٌ﴾ هاهنا نكرة (٥).
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٣، بنصه.
(٢) أي على العكس من الحالة الأولى؛ بأن كانوا هم الأكثر والأقوى.
(٣) العماد تَسْمِيةٌ كوفية لضمير الفصل، سمي بذلك لأنه يُعتمد عليه في التفرقة بين النعت والخبر؛ حيث يأتي ليبين أن ما بعد المبتدأ هو الخبر لا التابع، وله شروط. انظر: "البيان في غريب إعراب القرآن" ٢/ ٨٣، و"الدر المصون" ٧/ ٢٨٢، و"معجم القواعد العربية" للدّقر ص٢٩٤، و"المعجم المفصل في النحو العربي" ٢/ ٦٩٦، و"معجم المصطلحات النحوية والصرفية" ص ١٧٣.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٣، بنصه.
(٥) ليس في معانيه، وورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٢١، بنحوه.
183
وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ﴾ أي بما يأمركم وينهاكم، وقد تَقَدَّم ذكر الأمر والنهي، والكناية راجعة إلى الأمر، أي يختبركم الله بالأمر بالوفاء، وقال بعضهم: الكناية راجعة إلى التكليف (١)، وأمره ونهيه بمعنى التكليف، ومعنى ﴿يَبْلُوكُمُ﴾: يعاملكم معاملة المختبر، وذكرنا هذا في قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٥].
وقوله تعالى: ﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ أي في الدنيا، قال المفسرون: أي من شأن البعث والقرآن (٢)، وقال أهل المعاني: هو عام فيما يقع الاختلاف فيه من الأصول والفروع (٣).
٩٣ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ قال ابن عباس: يريد على ملة وعلى دين واحد (٤)، ﴿وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ قال: يريد الضلالة بعينها والهدى بعينه، ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ قال: يريد في الدنيا، وهذه الآية صريحة (٥) في تكذيب القدرية؛ حيث أضاف الضلالة والهداية إلى نفسه، وجعلها لمن شاء من خلقه بالمشيئة الأزلية التي لا يجوز عليها الحدوث، ثم أخبر أنهم يسألون عن أعمالهم،
(١) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٨٦، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧١، وأبي حيان ٥/ ٥٣١.
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٣٥، بنصه.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٣٥، مختصرًا.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٩٢، بنحوه، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٦٨، والسمرقندي ٢/ ٢٤٨، والثعلبي ٢/ ١٦٢ب، والبغوي ٥/ ٤٠، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٢، والخازن ٣/ ١٣٢.
(٥) في جميع النسخ: (صريح)، ومما أثبته هو الصواب؛ لكون الآية مؤنثة، والخبر يتبع المبتدأ في التذكير والتأنيث.
فبان أن الأمر على ما أخبر الله تعالى في قوله: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣] وقد قال نوف البكالي: قال [عُزير] (١): يارب خلق خلقًا فتضل من تشاء وتهدي من تشاء، فقيل: يا عُزير أعرض عن هذا، فأعاد ذلك، فقيل: أعرض عن هذا، فأعاد فقيل: أعرض عن هذا وإلا مُحِيْتَ عن النُّبُوة، أنا لا أسئل عما أفعل وهم يسألون (٢).
٩٤ - قوله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ الآية. استأنف نهيًا عن أيمان الخديعة والمكر، توكيدًا للمنع عنها، ولِمَا ذكر من الوعيد بعدها؛ وهو قوله: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ قال ابن عباس: يريد تزل عن الإيمان بعد المعرفة بالله، قال أبو عبيدة: وزليل القدم مثل لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في وَرْطَة بعد سلامة (٣)، وأنشد ابن جرير على هذا:
سَيَمْنَعُ منكَ السَّبْقُ إن كُنْتَ سابِقًا وتُقْتَلُ إن زَلَّتْ بِكَ القدمان (٤)
لم يُرد حقيقة زلَّة القدم، ولكن أراد إن تأخر فرسُك عن غاية السباق وقعت في ورطة التأخر، وهذا البيت في قصة رهان داحس (٥)، قال
(١) ما بين المعقوفتين ساقط من جميع النسخ، وقد ذكرها الفخر الرازي نقلاً عن الواحدي.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٠٩، بنصه وعزاه للواحدي، وليس لهذه الرواية سند، ويبدو أنها من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب.
(٣) "مجاز القرآن" ١/ ٣٦٧، بنصه تقريبًا.
(٤) "تفسير الطبري" ١٤/ ١٦٩، برواية: (تُلْطَعُ) بدل (تُقتل)، و (النَّعْلان) بدل (القدمان)، وورد في: "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٢ب، برواية: (تُلْطَمُ)، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٢.
(٥) يوم داحس والغبراء من أيام العرب المشهورة، بدايتها حرب وقعت بين قبيلتي عبس وذبيان، بسبب خلاف على سباق خيل بين أفراس لحذيفة سيد ذبيان، =
185
المفسرون: وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نقض عهده (١)؛ لأن هذا الوعيد إنما يُستَحقُّ في نقض معاهدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا (٢) في نقض عهد قبيلة، (ولكن من عاهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (٣) على الإسلام ونصرة الدين ثم نقض العهد سقط عن درجة الإيمان، يدل على هذا قوله: ﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾ أي العذاب، ﴿بِمَا صَدَدْتُمْ﴾ أي بصدكم عن سبيل الله، (يريد أنهم إذا نقضوا العهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم-) (٤) صدوا الناس عنه واستحقوا العذاب، فنهوا عن ذلك بذكر الوعيد عليه.
وقوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ قال ابن عباس: يريد في الآخرة (٥)، وهذا قطعٌ بإيجاب العذاب إن فَعلوا ما نُهوا عنه، كأنه قيل:
= وأخرى لقيس بن زهير سيد عبس، لكنها شملت قبائل أخرى هي شيبان وضبة وأسد وقبائل أخرى، واستمرت فترة طويلة، وامتدت حتى بزوغ فجر الإسلام، وكثرت وقائعها، واقترن بها شهرة بعض الأبطال، كعنترة بن شداد، وقيل فيها شعر كثير. انظر: أحداث الحرب وأسبابها وملابساتها بالتفصيل في "الأغاني" ١٧/ ١٩١ - ٢١٠، و"الكامل في التاريخ" ١/ ٣٤٣ - ٣٥٥، و"تاريخ العرب القديم" ص ٢١٦.
(١) ورد بنحوه في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٦٩، وهود الهواري ٢/ ٤٢٣، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٨٧، والفخر الرازي ٢٠/ ١١٠، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٢، والخازن ٣/ ١٣٣.
(٢) (لا) ساقط من (أ)، (د).
(٣) ما بين التنصيص ساقط من (د).
(٤) ما بين التنصيص كتب على هامش لوحة ٢٥٩ أ، من نسخة (ع).
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ص٢٩٢، وورد غير منسوب في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٦٩، والسمرقندي ٢/ ٢٤٩، والزمخشري ٢/ ٣٤٣، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٧، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٢٤.
186
﴿وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ إن اتخذتم أيمانكم دخلًا، ودلَّ ما تَقَدَّم من النهي على هذا المحذوف، ثم زاد توكيدًا، فقال:
٩٥ - ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ قال ابن عباس: يريد عرض الدنيا وإن كان كثيرًا (١)؛ لأن ما يذهب ويبلى قليل، وذكرنا ما في هذا عند قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ الآية. [آل عمران: ٧٧] قال المفسرون: يقول: لا تنقضوا عهودكم، تطلبون بنقضها عِوضًا من الدنيا (٢) ﴿إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾: من الثواب على الوفاء ﴿خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾: ذلك، ثم بين أن ما عنده خير بقوله:
٩٦ - ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ﴾، أي: يفنى وينقطع، يعني الدنيا، ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾، أي: من الثواب والكرامة، ﴿بَاقٍ﴾: دائم لا ينقطع، قال ابن عباس: يريد لا ينفد؛ كلما أخذت منه وأكلت منه صار مكانه مثلُه، فمعنى [لا] (٣) يفنى هذا، وهذا ردّ على من قال: إن نعيم أهل الجنة ينقطع، ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ قال ابن عباس: يريد على دينهم وعمّا نهاهم الله (٤)، ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ يعني الطاعات، وجعلها أحسن أعمالهم؛ لأن ما عداها من الحَسَن مباح، فما كان مباحًا من العمل فهو حسن ولا يستحق عليه
(١) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١١١، بلا نسبة.
(٢) ورد بنحوه في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٦٩، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٤١، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٨، والخازن ٣/ ١٣٣.
(٣) إضافة يقتضيها السياق ليستقيم الكلام، واحتمال أن الجملة انقلبت على النساخ؛ وأصلها: (فهذا معنى لا يفنى).
(٤) ورد بنصه غير منسوب في تفسيره "الوجيز" ١/ ٦١٩.
جزاء (١)، وما كان طاعة لله تعالى فهو الأحسن الذي وعد الله عليه الجزاء، ومن جزاه الله بأحسن عمله غفر له ذنوبه، وهذه الآيات زجر عن الأيمان الكاذبة فيما كانت، وحَثٌّ على الوفاء بالعهود والأيمان، وذكر الكلبي: أن هذه الآيات نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي (٢)، وفي خصمه عيدان ابن أشوع (٣)؛ كان يَدَّعي عليه أرضًا اقتطعها له، وأراد امرؤ (٤) القيس أن يحلف، فلما سمع هذه الآيات بكى وأقَرَّ له بحقه (٥).
٩٧ - قوله تعالى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ قال ابن عباس في رواية أبي الربيع (٦) وأبي مالك: هي الرزق الطيب الحلال (٧)، ونحو
(١) إلا إذا انضمت إليه النية الصالحة، فإنه يصبح عملاً مباحاً متقرباً به إلى الله، فينال صاحبه الأجر من الله، كما في حديث "وفي بضع أحدكم صدقة" أخرجه مسلم (١٠٠٥) كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
(٢) امرؤ القيس بن عابس الكندي -رضي الله عنه- صحابي، وفد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلم وثبت على إسلامه، ولم يكن فيمن ارتد من كندة، وكان شاعرًا نزل الكوفة في أواخر عمره وتوفي بها نحو سنة (٢٥ هـ). انظر: "الاستيعاب" ١/ ١٩٤، و"أسد الغابة" ١/ ١٣٧، و"الأعلام" ٢/ ١١.
(٣) عيدان بن أشوع -رضي الله عنه- هو رَبِيعَةُ بن عَيْدَان بن ذي العرف بن وائل الكِنْدِي، ويقال: الحضرمي، شهد فتح مصر، وله صحبة، وهو الذي تخاصم مع امرئ القيس في أرض إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. انظر: "أسد الغابة" ٢/ ٢٦٦، و"الإصابة" ٣/ ٥١.
(٤) في جميع النسخ: (امرئ)، وهو خطأ نحوي ظاهر.
(٥) أخرج القصة الطبراني في "الكبير" ١/ ٢٣٣، عن الأشعث، ووردت في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٩، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٨٧، عن ابن عباس، و"تنوير المقباس" ص ٢٩٢، ووردت بلا نسبة في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٧ أ، باختصار، وهود الهواري ٢/ ٣٨٦، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٣.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ٢/ ٣٦٠، بنحوه من طريق أبي الربيع، والطبري =
188
هذا روى الكلبي عن أبي صالح عنه قال: لنجعلن رزقه حلالًا (١).
وقال في رواية عطاء: يريد عبادة الله وأكل الحلال (٢).
وقال في رواية عكرمة: هي القناعة (٣)، وهو قول القرظي ووهب (٤) ومجاهد. وقال في رواية الوالبي: هي السعادة (٥).
= والطبري ١٤/ ١٧٠، بنحوه بعدة روايات من الطريقين؛ [وطريق أبي مالك ضعيفة]، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٣، بنحوه، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٢ ب بنصه، والماوردي ٣/ ٢١٢، بنحوه، والطوسي ٦/ ٤٢٤، بنحوه، وانظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٤٣، و"تفسير ابن عطية" ٨/ ٥٠٦، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٨، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٤، و"تفسير أبي حيان" ٥/ ٥٣٤، وابن كثير ٢/ ٦٤٥، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤٤ وزاد نسبته إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(١) لم أقف عليه، وهي أوهى الطرق إلى ابن عباس.
(٢) لم أقف عليه، وهي طريق منقطعة.
(٣) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٤، بلفظه، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٢ ب، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٨٨، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٤، وأبي حيان ٥/ ٥٣٤، وابن كثير ٢/ ٦٤٥، وطريق عكرمة جيدة.
(٤) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٨٨، عن وهب، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٤، عن وهب، وأبي حيان ٥/ ٥٣٤، عن وهب، وابن كثير ٢/ ٦٤٥، عن وهب، و"الدر المنثور" ٤/ ٦٤٥، ونسبه إلى وكيع في الغرر عن القرظي.
(٥) أخرجه الطبري ١٤/ ١٧١ بلفظه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة عن ابن عباس، ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٢ ب، بلفظه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢١٢، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٥٠٦، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٩، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٤، و"الدر المنثور" ٥/ ٦٤٥، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
189
وقال قتادة: هي رزق يوم بيوم (١).
وكان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "قنعني بما رزقتني" (٢).
وفيما روى أبو هريرة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو: "اللهم اجعل رزق آل محمد كفافًا" (٣).
فقول من قال: إنه القناعة، حسن مختار؛ لأنه لا يطيب في الدنيا إلا عيش القانع، والمكدود بطلبها لا تطيب حياته (٤).
وقال السدي: ﴿حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ يعني في القبر (٥).
(١) انظر: "تفسير أبي حيان" ٥/ ٥٣٤، و"تفسير الخازن" ٣/ ١٣٣، بلا نسبة.
(٢) جزء من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- رواه ابن عباس -رضي الله عنه-، وطرفه: (اللهم قنعني... ، وقد أخرجه السهمي في تاريخ جرجان ص ٩١، والحاكم: كتاب الدعاء ١/ ٥١٠، والتفسير: النحل ٢/ ٣٥٦، وقال: صحيح ووافقه الذهبي، والبيهقي في "الشعب" ٧/ ٢٩١، وورد في "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١١٢، و"تلخيص الحبير" ٢/ ٢٤٨، و"الدر المنثور" ٥/ ٦٤٥، وزاد نسبته إلى ابن جرير -لم أقف عليه- وابن المنذر وابن أبي حاتم، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٢٧.
(٣) أخرجه مسلم (١٠٥٥/ ١٩) كتاب: الزهد والرقائق بنصه، وورد في "الكنز" ٦/ ٤٩٠، ٦١٢، وأخرجه برواية: (قوتاً) بدل (كفافاً) أحمد ٢/ ٤٤٦، ٤٨١، والبخاري (٦٤٦٠): الرقاق/ كيف كان عيش النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتخليهم عن الدنيا، ومسلم (١٠٥٤): الزكاة / في الكفاف والقناعة، والترمذي (٢٣٦٢) كتاب: الزهد/ ما جاء في معيشة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهله، وابن ماجة (٤١٣٩) كتاب: الزهد/ القناعة، والبيهقي في: السنن: النكاح/ ما أمره الله تعالى به من اختيار الآخرة ٧/ ٤٦، والشُّعَب (٧/ ٢٩١، والدلائل: باب زهده في الدنيا وصبره على القوت ١/ ٣٣٩، وفي باب دعائه لأهله وهو يريد نفسه ٦/ ٨٧، وورد في "الشفا" ١/ ٢٧٨، و"الكنز" ٦/ ٤٩٠.
(٤) وهذا القول هو الذي اختاره الطبري وصوَّبه. انظر: "تفسير الطبري" ١٤/ ١٧٢.
(٥) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١١٣، والخازن ٣/ ١٣٣، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٩، عن شريك.
190
قال الحسن وسعيد بن جبير: ﴿حَيَاةً طَيِّبَةً﴾: في الآخرة (١)، فعلى هذا هذه الحياة في الجنة، روى عوف (٢) عن الحسن قال: لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة (٣).
٩٨ - قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ الآية. قال الزجاج وجميع أصحاب المعاني: معناه: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ (٤)، ليس معناه استعذ بعد أن تقرأ القرآن؛ ومثله إذا أكلت فقل: بسم الله (٥)، وقد
(١) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٤، عن سعيد، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٥٠٦، عن الحسن، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٩، عنهما، والفخر الرازي ٢٠/ ١١٣، عنهما.
(٢) عوف بن أبي جميلة العبدي البصري، المعروف بالأعرابي، صاحب الحسن وابن سيرين، ثقة ثبت، روى عن أبي العالية، وعنه: شعبة والقطان، مات سنة (١٤٧ هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٧/ ١٥، و"ميزان الاعتدال" ٤/ ٢٢٥، و"الكاشف" ٢/ ١٠١، و"تقريب التهذيب" ص ٤٣٣، و"تفسير الطبري" تحقيق شاكر ١/ ١٣٤.
(٣) أخرجه الطبري ١٤/ ١٧١ بنصه وبنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٤، بنصه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٤٩، بنصه، والثعلبي ٢/ ١٦٢ ب، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٢/ ٤٢، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٤، والخازن ٣/ ١٣٣، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤٥، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وهذا قول صحيح لكن السياق يدل علي أن الحياة الطيبة في الدنيا، يقابلها قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه: ١٢٤] وهذه المعيشة الضنك هي في الدنيا، أما الأقوال التي ذكرت أنها:
الرزق الحلال، أو القناعة، أو السعادة، فهي من باب التفسير بالمثال، لأن الحياة الطيبة تشمل كل ذلك.
(٤) بعض الكلمات هنا ساقطة من (أ)، (د).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٨، بتصرف يسير، وورد بنحوه في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٧٣، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٥، و"تفسير الجصاص" ٢/ ١٩١، =
191
ذكرنا هذا عند قوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ [المائدة: ٦]، وبينا حكم (إذا) في وقوع (ما) بعدها مستقبلًا في أوائل سورة البقرة وإجماع الفقهاء أن الاستعاذة تكون قبل القراءة (١).
وبه وردت الأخبار (٢)، وذهب أبو هريرة -رضي الله عنه- إلى أن الاستعاذة بعد
= والسمرقندي ٢/ ٢٥٠، والثعلبي ٢/ ١٦٣أ، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢١٢، والطوسي ٦/ ٤٢٤، وانظر: "تفسير الكيالهراسي" ٤/ ١٧٥، والبغوي ٢/ ٤٢، والزمخشري ٢/ ٣٤٣، وابن عطية ٨/ ٥٠٧، وابن الجوزي ٤/ ٤٨٩، والفخر الرازي ٢٠/ ١١٤، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٥.
(١) في دعوى الإجماع نظر، وقد خالفه بعض السلف وكبار الفقهاء -وإن كان استدلالهم ضعيفًا أو مشكوكًا في نسبته إليهم-، قال الثعلبي: اختلف الفقهاء في وقت الاستعاذة؛ فقال أكثرهم: قبل القراءة، وهذا قول الجمهور، وهو الصحيح المشهور، وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: يتعوذ بعد القراءة، وإليه ذهب داود، وقال مالك يتعوذ بعد القراءة، واحتجوا بظاهر الآية، وقال الكيالهراسي: ونُقل عن بعض السلف التعوذ بعد القراءة مطلقًا، احتجاجًا بالآية، وقال النووي: وأما محله فقال الجمهور هو قبل القراءة، وقال أبو هريرة وابن سيرين والنخعي: يتَعوذ بعد القراءة، وكان أبو هريرة يتعوذ بعد فراغ الفاتحة لظاهر الآية، وقال الجمهور معناه: إذا أردت القراءة فاستعذ، وهو اللائق السابق إلى الفهم، وقال القرطبي: رُوي عن أبي هريرة أن الاستعاذة بعد القراءة، وقاله داود، وقال ابن كثير: حُكي عن حمزة وأبي حاتم السجستاني أنها تكون بعد التلاوة، واحتجا بهذه الآية، وأبهم ابنُ العربي القائلين ووصفهم وصفًا قاسيًا لا يليق بهم، قال: انتهى العِيُّ بقوم إلى أن قالوا: إن القارئ إذا فرغ من قراءة القرآن حينئذ يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فهذه الأقوال تجعل دعوى الإجماع غير صحيحة، بل الصحيح أنه قول الأكثر والجمهور؛ كما نص الثعلبي والنووي. انظر: "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٣أ، و"الكيالهراسي" ٤/ ١٧٥، و"ابن العربي" ٣/ ١١٧٥، والفخر الرازي ٢٠/ ١١٤، و"تفسير القرطبي" ١/ ٨٨، و"المجموع" ٣/ ٣٢٥، و"تفسير ابن كثير" ١/ ١٤ - ١٧، ٢/ ٦٤٥.
(٢) منها: ما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر ثم يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، =
192
القراءة، وهو مذهب مالك (١)، وداود (٢)، كأنهم أخذوا بظاهر الآية (٣)، وذلك جهل بمقاييس العربية (٤).
= ولا إله غيرك"، ثم يقول: "الله أكبر كبيرا"، ثم يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه" ثم يقرأ. وقد أخرجه أبو داود (٧٧٥) كتاب: الصلاة، باب: من رأى الاستفتاح بسبحانك، والترمذي (٢٤٢) كتاب: أبواب الصلاة، باب: ما يقول عند افتتاح الصلاة، [قال عمر -رضي الله عنه-: همزه الموتة؛ وهي الجنون، نفخه: الكبر، نفثه: الشعر. "تفسير البغوي" ٥/ ٤٢].
(١) وقد استغرب ابن العربي نسبة هذا القول إلى مالك، وقال هذه دعوى عريضة لا تُشْبِهُ أصولَ مالك ولا فهمه، والله أعلم بسرِّ هذه الرواية. انظر: "تفسير ابن العربي" ٣/ ١١٧٦.
(٢) داود بن علي بن خلف الأصبهاني، أبو سليمان، فقيه حافظ، أحد الأئمة المجتهدين في الإسلام، وإليه ينسب المذهب الظاهري، وكان فاضلاً صدوقًا ورعًا، سمع من إسحاق بن راهويه ومسدد بن مسرْهَد، وعنه: ابنه محمد ويوسف ابن يعقوب، من مصنفاته: "الإفصاح"، "الأصول"، ولد بالكوفة سنة (٢٠٢ هـ) وسكن بغداد، ومات سنة (٢٧٠ هـ). انظر: "الفهرست" ص ٢٩٩، و"الأنساب" للسمعاني ٤/ ٩٩، و"وفيات الأعيان" ٢/ ٢٥٥، و"تذكرة الحفاظ" ٢/ ٥٧٣.
(٣) لا شك أن ظاهر الآية يقتضي ذلك، ولكنه مدفوع ومفسرٌ بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول الجصاص: يقتضي ظاهره أن تكون الاستعاذة بعد القراءة، ولكنه قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن السلف الاستعاذة قبل القراءة، وقد جرت العادة بإطلاق مثله. انظر: "تفسير الجصاص" ٢/ ١٩١، و"المحلى" ٣/ ٣٥٠، و"تفسير الكيالهراسي" ٤/ ١٧٥، ومن توجيهات القائلين بهذا القول، أن الاستعاذة بعد القراءة هي لوقاية العمل من الحبوط، إذ ربما أورث حسن القراءة العجب في نفس القارئ، والعجب من الشيطان، فكان من المناسب أن يؤمر بالاستعاذة منه. انظر: "تفسير ابن كثير" ٤/ ١٤ - ٤٧.
(٤) عبارته هذه قاسية، ولا يليق وصف الصحابة وأئِمة الأمة بالجهل.
193
٩٩ - قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والمفسرون: ليس له حجة (١).
وقال أهل المعاني: طريق يتسلط به عليهم (٢)، وقد بينا هذا عند قوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ في سورة الحجر [آية: ٤٢]، والمختار أن يقال: ليس له سلطان الإغواء، وهو معنى قول المفسرين: ليس له حجة، أي: لا حجة له على المؤمنين في إغوائهم إلى الضلالة.
١٠٠ - ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ قال ابن عباس: يطيعونه (٣)، يقال: توَلَّيْتُه، أي: أطعته، وتَوَلَّيْتُ عنه، أي: أعرضت عنه،
(١) "تفسير مجاهد" ص ٣٥٢، أخرجه الطبري ١٤/ ١٧٤ بلفظه عن مجاهد، وورد في: "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٥ بلفظه عن مجاهد، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢١٣ بلفظه عن مجاهد، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٩٠، عن مجاهد، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٥ عن مجاهد، وورد بلفظه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٠ والثعلبي ٢/ ١٦٣ ب، والطوسي ٦/ ٤٢٥، ولم أقف عليه عن ابن عباس وعكرمة.
(٢) ورد نحوه في "تفسير البغوي" ٥/ ٤٣، وابن الجوزي ٤/ ٤٩٠، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٥، و"تفسير البيضاوي" ٢/ ٢٨٣، والخازن ٣/ ١٣٤، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٣٠.
(٣) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١١٥، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٤٦ بمعناه عن ابن عباس وعزاه إلى الطبري -لم أقف عليه- وابن أبي حاتم، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٧٤ بلفظه عن مجاهد وقتادة، وابن كثير ٢/ ٦٤٦، عن مجاهد، وورد بلفظه بلا نسبة في: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٠، و"تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٨٨، والثعلبي ٢/ ١٦٣ ب، والبغوي ٥/ ٤٣، وابن الجوزي ٤/ ٤٩١، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٦.
وذكرنا هذا عند قوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المائدة: ٥٦].
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ قال مجاهد: يعني يعدلون برب العالمين (١)، فعلى هذا الكناية في به تعود إلى اسم الله تعالى.
وقال عطاء عن ابن عباس: يريد يطيعونه في الشرك، وعلى هذا الكناية راجعة إلى الشرك، وهذا قول الربيع (٢)، والمعنى على هذا القول: والذين هم بسببه وطاعته فيما يدعو إليه مشركون، قال صاحب النظم: وهذا كما تقول للرجل إذا تكلم بكلمة مؤدية إلى الكفر، كفرت بهذه الكلمة؛ أي: من أجلها وبقولك إياها (٣)، فلذلك قوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ﴾، أي: من أجله وحمله إياه مشركون بالله (٤).
١٠١ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾ قال الكلبي وغيره: كان إذا نزلت آية ألين منها، يقول كفار قريش: والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر وغدًا بأمر؛ وأنه ليتكذَّبه ويأتيهم به من
(١) "تفسير مجاهد" ص ٣٥١، بنحوه، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٧٥ بنصه وبنحوه ورجحه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٥، بنصه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢١٣، بمعناه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٩١، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٦، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤٦، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) لم أقف عليه عن ابن عباس، وعن الربيع أخرجه الطبري ١٤/ ١٧٥، بنحوه، وورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢١٣، بمعناه، والطوسي ٦/ ٤٢٥، بنحوه، وانظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٦، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤١، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٣) ورد بمعناه غير منسوب في "الغريب لابن قتيبة" ص ٢٤٩، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٥.
(٤) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٣ ب، بنحوه.
195
عند نفسه، فأنزل الله: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾ (١)، قال مجاهد: رفعناها وأنزلنا غيرها (٢)، وقال قتادة: هو كقوله: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ (٣) الآية [البقرة: ١٠٦] وقال الفراء: إذا نسخنا آية فيها تشديد مكان آية ألينَ منها (٤)، ومعنى التبديل: رَفْعُ الشيء مع وضع غيره مكانه (٥)، وتبديل الآية: رفعها (٦) بآية غيرها، وهو نسخها بآية سواها.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾، أي: مِن الناسخ والمنسوخ، والتغليظ والتخفيف؛ هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد، وهذا اعتراض دخل في الكلام يتضمن توبيخ الكفار على قولهم: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾، أي إذا كان هو أعلم بما ينزل، ما بالهم ينسبون محمدًا إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ.
(١) لم أقف عليه منسوبًا إلى الكلبي، وورد منسوبًا إلى ابن عباس من طريق أبي صالح وهي طريق الكلبي [وهي ضعيفة]، وانظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٠، بنحوه عن ابن عباس، وابن الجوزي ٤/ ٤٩١، عن أبي صالح عن ابن عباس، والفخر الرازي ٢٠/ ١١٦، عن ابن عباس، وورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٧ ب، بنحوه، و"تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٨٨، بمعناه عن الحسن، والثعلبي ٢/ ١٦٣ ب، بنحوه، والبغوي ٥/ ٤٣، والزمخشري ٢/ ٣٤٤، والخازن ٣/ ١٣٤.
(٢) "تفسير مجاهد" ص ٤٥٢ بنصه، أخرجه الطبري ١٤/ ١٧٦ بنصه وبنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٦، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ٦٤٦.
(٣) أخرجه الطبري ١٤/ ١٧٦ بنصه، وانظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ٦٤٦.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٣، بنصه.
(٥) انظر: (بدل) في "المحيط في اللغة" ٩/ ٣١٨، و"اللسان" ١/ ٢٣١، و"تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١١٦، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٦.
(٦) في جميع النسخ: (ورفعها) بزيادة (و)، والصواب ما أثبته كما في "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١١٦.
196
وقوله تعالى: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، أي: لا يعلمون حقيقة القرآن، وفائدة النسخ والتبديل في أن ذلك لمصلحة العباد؛ كالاستصلاح بإرسال نبي بعد نبي، والكلام في ذكر أكثرهم دون جميعهم قد مضى في موضعين من هذه السورة (١).
١٠٢ - قوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ﴾، أي: نَزَل به، أي بالقرآن، ﴿رُوحُ الْقُدُسِ﴾ وهو جبريل، ومضى تفسير روح القدس في سورة البقرة [٨٧]، ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ (من) صلة للقرآن، أي نَزَّل القرآنَ من ربك، أي: من كلام ربك جبريلُ، ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي بالأمر الحق الصحيح الثابت لا الباطل، ﴿لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما فيه من الحجج والآيات، فيزدادوا بها تصديقًا ويقينًا.
وقوله تعالى: ﴿وَهُدًى﴾، أي: وهو هدى، فهو خبر ابتداء محذوف.
١٠٣ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ اختلفوا في هذا البشر الذي نَسبَ المشركون النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى التعليم منه؛ فقال ابن عباس في رواية عكرمة: هو عَبْدٌ لبني عامر بن لُؤيّ، يقال له: يعيش (٢)، وهذا قول قتادة إلا أنه قال: كان لبني الحضرمي، وكان يقرأ
(١) عند آية: [٧٥] و [٨٣].
(٢) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٩٢، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٧٨، بنحوه عن عكرمة، وفيه أنه غلام لبني المغيرة، وأخرجه بنصه عن قتادة، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٦، بنصه عن عكرمة، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٣ ب، بنصه عن عكرمة وقتادة، لكنه قال: لبني المغيرة، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٤٤، عن عكرمة، وابن عطية ٨/ ٥١٠، عن عكرمة، و"القرطبي" ١٠/ ١٧٧، عن عكرمة، والخازن ٣/ ١٣٥، عن عكرمة، وابن كثير ٢/ ٦٤٦، عن عكرمة وقتادة، و"الدر المنثور" وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن قتادة.
197
الكتب، وقال في رواية عطاء: يريد عداس؛ غلام عتبة بن ربيعة (١).
وروى طلحة بن عمرو (٢) عن عطاء أن خديجة (٣) كانت تختلف إلى صَيْقَل (٤) على الصفا والمروة؛ عبد لبني الحضرمي صاحب كتب، فكانت تخبره بما كان يرى محمد -صلى الله عليه وسلم- فكان يقول لها لئن كنت صادقة ليوشكن نبي العرب أن يخرج، وكان اسمَه جَبرٌ وكانت قريش تقول: إنما عبد بني الحضرمي يعلم خديجة، وتعلم خديجة محمدًا، زاد شبل: وكان يتكلم بالرومية (٥)، وهذا قول مجاهد وابن إسحاق (٦).
(١) ورد بلا نسبة في: "تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٨٩، والفخر الرازي ٢٠/ ١١٧، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٨، والخازن ٣/ ١٣٥.
(٢) في جميع النسخ: طلحة عن عمرو، وفي "تفسير السمرقندي" (٢/ ٢٥١) طلحة بن عمير -ولم أجد له ترجمة-، والصحيح المثبت كما في تفسير الثعلبي ٢/ ١٦٤ أ، ويؤيده أن طلحة هذا مشهور الرواية عن عطاء، وصفه الذهبي بصاحب عطاء. وطلحة بن عمرو: هو الحضرمي المكي، روى عن عطاء وسعيد بن جبير، وعنه: الثوري ووكيع، وهو ضعيف بل متروك كما قال أحمد والنسائي، مات سنة (١٥٢ هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٤/ ٤٧٨، و"ميزان الاعتدال" ٣/ ٥٤، و"الكاشف" ١/ ٥١٤، و"تقريب التهذيب" ص ٢٨٣ (٣٠٣٠).
(٣) أم المؤمنين، خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية -رضي الله عنها- أول امرأة تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان ذلك قبل البعثة بخمس عشرة سنة، وهي أول من أسلم على الإطلاق، وكانت امرأة موسرة، وهي أم أولاد النبي -صلى الله عليه وسلم- ومناقبها كثيرة معروفة، توفيت بعد البعثة بعشر سنين، وهي بنت خمس وستين سنة. انظر: "الاستيعاب" ٤/ ٣٧٩، و"أسد الغابة" ٧/ ٧٨، و"الإصابة" ٤/ ٢٨١.
(٤) الصَّقْل: مصدر صَقَلْتُ السيفَ والثوبَ، والصَّيْقَل: صَقال السيف، أي شَحَّاذُ السُّيوف وجلاَّؤها، والجمع: صياقل وصياقلة. انظر: (صقل) في: "جمهرة اللغة" ٢/ ٨٩٤، و"تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠٣٥، و"اللسان" ٤/ ٢٤٧٤.
(٥) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥١، بنحوه، والثعلبي ٢/ ١٦٤ أ، بنحوه.
(٦) "تفسير مجاهد" ص ٣٥٢، مختصرًا؛ يشير فيه ذكر خديجة -رضي الله عنها-، و"سيرة ابن =
198
وروي عن ابن عباس أنه قال: هذا كان قينًا (١) بمكة نصرانيًّا أعجمي اللسان اسمه بَلْعَام (٢).
وقال السدي: هو رجل نصراني كان بمكة، يقال له: أبو ميسرة، يتكلم بالرومية (٣).
= هشام"، بنحوه، دون ذكر خديجة -رضي الله عنها-. وأخرجه الطبري ١٤/ ١٧٨ - ١٧٩، عنهم بنحوه -دون ذكر خديجة -رضي الله عنها-، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٦، مختصرًا عن مجاهد، و"تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٨٩، عن مجاهد مختصرًا، وورد بنحوه منسوبًا إلى ابن إسحاق في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٤أ، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٤٤، عن ابن إسحاق، وابن عطية ٨/ ٥١٠، عن ابن إسحاق، و"القرطبي" ١٠/ ١٧٧، عن ابن إسحاق، والخازن ٣/ ١٣٥، عن ابن إسحاق، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤٧، وزاد نسبته إلى آدم بن أبي إياس وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب، عن مجاهد.
(١) قال الليث: القَيْنُ: الحَدّادُ، وقيل: كلُّ صانعٍ قَيْنٌ، وقيل: كل عامل بالحديد عند العرب قَيْن، والجمعُ قُيُون وأقْيَان، وقال الليث: والقَيْنُ والقَيْنَةُ: العبْدُ والأمَةُ. انظر: (قين) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٦٦، و"المحيط في اللغة" ٦/ ٣٥، و"اللسان" ٦/ ٣٧٩٨.
(٢) أخرجه الطبري ١٤/ ١٧٧، بنحوه من طريق مجاهد جيدة، ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٣ ب، بنحوه، والطوسي ٦/ ٤٢٧، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٤٤، وابن عطية ٨/ ٥١٠، وابن الجوزي ٤/ ٤٩٣، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٨، والخازن ٣/ ١٣٥، وأبي حيان ٥/ ٥٣٦، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤٧، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه، بسند ضعيف.
(٣) ورد في "تفسير الثعبلي" ٢/ ١٦٤ أ، بنصه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١١٧ بلا نسبة، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٨، عن ابن قتيبة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٤٧ وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن السدي، لكنه قال: واسمه: (أبو يسر)، وفي "الإصابة" ١/ ١٦٥: (أبو البشر) فعلها تصحفت من (أبو ميسرة).
199
وقال الكلبي: هو عايش -غلام حويطب بن عبد العزى-، ويسار -أبو فكيهة مولى ابن الحضرمي-، وكانا قد أسلما فأنزل الله تعالى ردًّا عليهم وتكذيبًا لهم فيما قالوا: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ﴾ (١).
معنى الإلحاد في اللغة: الميل، يقال: لَحَدَ وأَلْحَدَ؛ إذا مال عن القصد، ومنه يقال للعادل عن الحق: ملحد (٢)، وقراءة العامة ضم الياء من الإلحاد (٣) وهو أشهر اللغتين، وقرئ بفتح الياء من لحد (٤)، والأوْلى ضَم
(١) أخرج الطبري ١٤/ ١٧٧ نحوه من طرق عن عبد الله بن مسلم الحضرمي، لكنه قال: كان يقال لأحدهما: يسار، والآخر: جبر، وكانا يقرآن التوراة، وورد هذا الخبر في "الإصابة" ١/ ٢٢١، وعزاه إلى ابن أبي حاتم وعبد بن حميد، وقال: ولم يذكر أنهما أسلما. وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٧ب، أنه أبو فكيهة، و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٣، أنه عايش، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤٢٧ أنه عايش أو يعيش، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٧٨، عنهما. وهذه الأقوال في اسم البشر المعني -وقد بلغت تسعة عند ابن الجوزي- لاتعارض بينها -كما قال النحاس في معانيه-؛ لجواز أن يكونوا قد أومأوا إلى هؤلاء جميعًا؛ بسبب تخبطهم وحيرتهم في الطعن في القرآن، ولاحتمال مجالسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء كلهم لتعليمهم. انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٧، و"تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٩٢.
(٢) انظر: (لحد) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٢٤٢، و"المحيط في اللغة" ٣/ ٤١، و"اللسان" ٧/ ٤٠٠٥، و"التاج" ٥/ ٢٣٧.
(٣) أي: ﴿يُلْحِدُونَ﴾ من ألْحَدَ، قرأ بها: ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر. انظر: "السبعة" ص ٣٧٥، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٥٩، و"الحجة للقراء" ٥/ ٧٨، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٦، و"التيسير" ص ١٣٨، و"المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧٤٥.
(٤) أي ﴿يُلْحِدُونَ﴾ من لَحَدَ قرأ بها: حمزة والكسائي. انظر: المصادر السابقة.
200
الياء؛ لأنه لغة التنزيل (١)، يدل عليه قوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ [الحج: ٢٥]، والإلحاد قد يكون بمعنى: الإمالة، ومنه يقال: أَلْحَدْتُ له لَحْدًا إذا حفرته في جانب القبر مائلٍ عن الاستواء، وقَبْرٌ مُلْحَدٌ ومَلْحُودٌ (٢)، وفُسِّر الإلحاد في هذه الآية بالقولين، فقال الفراء: يُمِيلُون من الميل (٣).
وقال الزجاج: لسانُ الذي يميلُون القَوْلَ إليه أعجميٌّ (٤).
وقال ابن قتيبة: أي يُومِئون إليه ويزعمون أنه يُعلِّمك (٥).
وقوله تعالى: ﴿أَعْجَمِيٌّ﴾ قال أبو الفتح الموصلي: اعلم أن (ع ج م) إنما وضعت في كلام العرب للإبهام والإخفاء، وضد البيان والإيضاح، من ذلك قولهم: رجل أعْجم وامرأة عَجْماء، إذا كانا لا يُفصحان ولا يُبينان كلامهما، وكذلك (٦) العُجْمُ والعَجَمُ، وعَجَمُ الزبيب (٧) سُمّي لاستتارته وخفائه بما هو عَجَمٌ له، والعَجْماء: البهيمة؛ لأنها لا توضِّح عما في نفسها، ومن ذلك تسميتهم صلاتي الظهر والعصر العَجْماوتين؛ لما كانتا لا
(١) وكذلك فتح الياء لغة التنزيل؛ فالفتح والضم قراءتان سبعيتان، ليس احداهما بأولى من الأخرى، ولا فرق حقيقيًّا -في المعنى- بين القراءتين، قال الطبري: وهما عندي لغتان بمعنى واحد. "تفسير الطبري" ١٤/ ١٧٩.
(٢) ورد بنحوه في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٢٧، وانظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٤٥، والفخر الرازي ٢٠/ ١١٧، بنصه، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٣٣.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٣، بنحوه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٩ بنصه.
(٥) "الغريب" لابن قتيبة ٢/ ٢٥٠، وفيه (يميلون).
(٦) في جميع النسخ: (ولذلك) وهو تصحيف، والتصويب من المصدر، وبه يستقيم المعنى.
(٧) هو النَّوَى الذي في جوفه، الواحدة: عَجَمة، متل: قَصبة وقصب. انظر: "اللسان" (عجم) ٥/ ٢٨٢٥.
201
يُفْصَح فيهما بالقراءة، قال أبو علي: ومن ذلك: عَجَمْتَ العُودَ؛ إما لأنك لما أدخلتَه لتِعُضَّه (١) وقد أخفيته، وإما لأنك قد ضغطت بعض أجزائه بالعَجْمِ، وأدخلت بعضها في بعض فأخفيتها، وربما سمّت (٢) العرب الأخرسَ الأعجم؛ وعُجْمة الرمل (٣): أشدّه تراكمًا، سمي بذلك لتداخله واستبهام أمره على سُلاَّكِه، يقال: استعجمت الدارُ إذا صَمَّت فلم تجب سائلها، قال امرؤ القيس:
صَمَّ صَداها وعَفا رسمُها واستَعجمتْ عن مَنْطق السائلِ (٤)
وأما قولهم: أعْجمتُ الكتاب، فمعناه: أزلت عجمته واستعجامه بالإيضاح والتبين، وأَفْعَلْتُ قد يأتي والمراد به: السَّلْب؛ كقولهم: أشكيت، إذا أزلتَ ما يشكوه (٥)، وهذا الذي ذكرنا هو أصل معنى هذا الحرف (٦)، والعرب تسمي كل من لا يعرف لغته (٧) ولا يتكلم بلسانهم أعجم وأعجميًّا، قال كثير:
(١) في جميع النسخ (لبعضه)، والتصويب من المصدر.
(٢) في جميع النسخ (سميت)، والتصويب من المصدر.
(٣) أي كثرته، وقيل: آخره، وقيل: ما تعقَّد منه. انظر: "اللسان" (عجم) ٥/ ٢٨٢٥.
(٤) "ديوانه" ص١٣٣، وورد في "تهذيب اللغة" (صم) ٢/ ٢٠٥٩، (صدى) ٢/ ١٩٩٤، و"الأساس" ٢/ ١٠١، و"اللسان" (صمم) ٤/ ٢٥٠٢، (عجم) ٥/ ٢٨٢٧، (صدى) ٤/ ٢٤٢٢، وورد بلا نسبة في: "العين" (صدي) ٧/ ١٣٩؛ (الصَّدى): ما يرجع من صوت الجبل، و (صمَّ صداها): أي غدت مقفرة لا حياة بها ولا أنيس، وهو يصف دارًا درَسَتْ، (عفا رسمها): أمست وليس لها رسم ولا بها أثر.
(٥) "سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٦ - ٣٧، نقل طويل تَصرَّف فيه بالاختصار والتهذيب.
(٦) انظر: (عجم) في "العين" ١/ ٢٣٧، و"جمهرة اللغة" ١/ ٤٨٤، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٤٢، و"المحيط في اللغة" ١/ ٢٧٤، و"اللسان" ٥/ ٢٨٢٧.
(٧) هكذا في جميع النسخ، والأولى (لغتهم) حتى تنسجم مع السياق.
202
وما زال كتمانيك حتى كأنني بِرَدِّ جَوابِ السائِلي عنك أعجمُ (١)
قال الفراء وأحمد بن يحيى: الأعجم: الذي في لسانه عُجمة وإن كان من العرب، والأعجمي والعجمي: الذي أصله من العجم (٢).
قال ابن الأنباري: وقولهما هو الصحيح عندنا.
وقال أبو علي الفارسي: الأعجمي: الذي لا يُفصح من العرب كان أو من العجم، ألا تراهم أنهم قالوا: زياد الأعجم؛ لأنه كانت في لسانه عُجمة (٣) وكان عربيًّا (٤)، وقال (٥) لصلاة النهار عَجْمَاء أي: تُخفى فيه القراءة ولا تبَيَّن، وتُسمي العربُ من لا يتبين كلامه من أي صنف كان من الناس أعجم، ومنه قول الحِمَّاني (٦):
سَلُّومُ: لو أَصْبَحتِ وسْطَ الأَعْجمِ
(١) لم أجده في ديوانه، وورد في "الأغاني" ١٥/ ١٦٧، منسوبًا لنُصَيب بن رباح أبي محجن مولى عبد الملك (ت: ١٠٨ هـ)، وقد ورد في شعر نصيب بن رباح ص ١٢٣ وفيهما: (بي الكتمان) بدل (كتمانيك)، (بِرَجْع) بدل (بِردِّ).
(٢) لم أجده في معاني الفراء، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١١٨، بنصه عنهما، وورد نحوه غير منسوب في "المحتسب" ٢/ ١٢، و "تفسير ابن عطية" ٨/ ٥١١، قال ابن قتيبة: لا يكاد عوام الناس يفرقون بين العجمي والأعجمي، والعربي والأعرابي؛ فالأعجمي الذي لا يُفصح وإن كان نازلاً بالبادية، والعجمي: منسوب إلى العجم وإن كان فصيحًا، والأعرابي: هو البدوي، والعربي: منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدويًا. "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٩٤.
(٣) (عجمة) ساقطة من (أ)، (د)، وفي المخصص: (رُتَّةُ).
(٤) ورد في "المخصص" ٢/ ١٢١، بنصه، وانظر: "تفسير الرازي" ٢٠/ ١١٨ بنصه، والخازن ٣/ ١٣٥، بلا نسبة.
(٥) هكذا في جميع النسخ، والأظهر (يقال) أو (قيل).
(٦) هو أبو الأخْزر الجماني، ولم أقف على ترجمته.
203
بالرومِ أو بالتُّركِ أو بالديلم
إذًا لَزُرناكِ ولو بِسُلَّمِ (١)
قال: وسط الأعجم ولم يقل: وسط العجم؛ لأنه جعل كل من لا يتبين كلامه أعجم، فكأنه قال: وسط القبيل الأعجم، وينبغي أن يكون الأعجمي بالياء فيه للنسب، نسب إلى الأعجم الذي لا يُفْصِح، وهو في المعنى كالأعجمي، ويجوز أن يقال: رجل أعجمي فيراد به ما يراد بالأعجم بغير ياء النسب، كما يُقال: أحمر وأحمريّ، ودَوّارٍ ودَوَّارِي (٢).
ومعنى الآية هو (٣) أن الله تعالى قال: لسان هذا البشر الذي يزعمون
(١) ورد في "المخصص" ٢/ ١٢١ شطران، ١٦/ ١٠٢، و"شرح شواهد الإيضاح" ص ٤٤٠، وفيه حرف الجر (في) بدل الباء في الكلمات الثلاث، وورد الشطر الأول فقط في "اللسان" (وسط) ٨/ ٤٨٣٢، و"التاج" (وسط) ١٠/ ٤٤٥، وورد بلا نسبة في "اللسان" (عجم) ٥/ ٢٨٢٥، وورد في الاقتضاب باختلاف في الشطرين الأخيرين برواية:
في الروم أو فارسَ أو في الديلمِ
إذًا لزرناكِ ولو لم نسلمِ
(سَلُّومُ): منادى مرخم، أراد: ياسَلُّومة، (الدّيلم): الجماعة الكثيرة من الناس، وقيل: جيل من الناس، وقيل: هم من ولد ضَبَّةَ بن أُدد، قال ابن بري: وقوله: بِسُلم: أي لتسببنا إلى زيارَتِك بكل سبب، فضرب السُّلَّم مثلاً لذلك.
وقال ابن السيد: وهذا البيت يصحفه كثير من الناس فيرونه ولو بسلّم، ولا وجه لذلك؛ لأن السلّم لا يستعمل في قطع المسافات وإنما يستعمل في صعود العلالي المشرفات والمواضع المرتفعات، ولو قال قائل لصاحبه: لو كنت ببغداد لنهضت إليك ولو بسلم لم يكن له معنى يعقل، وقد يسمل السلَّم بمعنى السبب، وليس له هاهنا أيضًا وجه؛ لأنه كان يجب أن يقول: ولو بغير سبب يوجب النهوض. وانظر: "اللسان" (دلم) ٣/ ١٤١٥.
(٢) ورد نحوه في "المحتسب" ٢/ ١٢.
(٣) في (أ)، (د): (وهو) بزيادة الواو، ويستقيم الكلام بدونها.
204
أنه يعلمك أعجمي لا يُفصح ولا يتكلم بالعربية، فكيف يُتَعَلَّم عنه ما هو أعلى طبقات البيان؟! وهو قوله: ﴿وَهَذَا﴾ يعني القرآن، ﴿لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾، قال ابن عباس: يريد الذي نزل على محمد عربي مبين، أفصح ما يكون من العربية، وأبْيَنه لسان سعد بن بكر بن هوازن الذين أرضعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- (١)؛ واللسان بمعنى الكلام واللغة، وذكرنا هذا مستقصى عند قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ [إبراهيم: ٤]، ومعنى العربي واشتقاقه ذكرنا عند قوله: ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا﴾ [التوبة: ٩٧] وقال الفراء والزجاج في هذه الآية: يقال: عَرَبَ لِسَانُه عَرابَةً وعُروبةً (٢).
١٠٥ - قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ﴾ الآية. قال الكلبي: نافح الله تعالى بهذه الآية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودافع عنه حيث قالوا: تَقَوَّله واخترعه وأتى به من عند بشر وافتراه، فقال: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ﴾: المشركون، ثم سَمَّاهم الكاذبين، وحصر فيهم الكذب بقوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾، وقال أبو إسحاق: أي إنما يفتري الكذب الذين إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله كذَّبُوا بها، فهؤلاء أكذبُ الكَذَبَةِ (٣)، وفي الآية أبلغ زجر عن الكذب؛ حيث أخبر الله تعالى أنه إنما يفتري الكذب من لا يؤمن، ولذلك قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حين قيل له: (هل يَكْذِبُ المؤمن؟ قال: "لا"، ثم قرأ هذه الآية) (٤).
(١) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٤٥.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٠، بنحوه، وفيه (عرب الإنسان)، وهو خطأ وتصحيف ظاهر، ولم أجده في معاني الفراء، وانظر: "الرازي" ٢٠/ ١١٨، بنصه عنهما.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٩، بنصه.
(٤) جزء من حديث رواه عبد الله بن جراد، وطرفه: قلت: يا رسول الله، المؤمن يزني؟ =
205
وقال صاحب النظم في هذه الآية: أعلم الله أن الذي يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن بآيات الله، ثم عطف على هذا قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ وفائدة ذلك؛ أن قوله: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ﴾ فِعْلٌ وليس بنعت، وقوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ نعتٌ، والفعل قد يكون لازمًا وقد لا يكون، والنعت (١) لا يكون إلا دائمًا، يبين هذا أنه تعالى قال: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: ١٢١]، ولا يجوز أن يقال: إن آدم عاصٍ وغاوٍ؛ لأن النعت أبلغ من الفعل، ولهذا قال الله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ أي أن هذا نعت لازم لهم وعادة من عاداتهم، لا فِعْلٌ يزول عن قريب، وهذا كما تقول: كذبت وأنت كاذب، فيكون قولك: أنت كاذب، زيادة في الوصف بالكذب (٢).
= قال "قد يكون". وقد أخرجه بنحوه الثعلبي ٢/ ١٦٤ أ، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٤٤٦، والبغوي ٥/ ٤٥، وورد في "إحياء علوم الدين" ٣/ ١٣٥، و"تفسير الرازي" ٢٠/ ١٢٠، والخازن ٣/ ١٣٦، قال الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء": أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" بسند ضعيف، ورواه ابن أبي الدنيا في "كتاب الصمت" (ص ٢٤٣) مقتصرًا على الكذب، والسائل أبو الدرداء، والرواية التي أشار إليها العراقي أخرجها مالك عن صفوان بن سليم أنه قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيكون المؤمن جبانًا.. فقيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ فقال: "لا" موطأ مالك [شرح الزرقاني] باب ما جاء في الصدق ٤/ ٤٠٨، و"التمهيد" ١٦/ ٢٥٣، وقال: لا أحفظ هذا الحديث مسندًا بهذا اللفظ من وجه ثابت، وأخرجها ابن أبي الدنيا في "الصمت" ص ٢٤٨، عن ابن مسعود وسعد -رضي الله عنه- موقوفًا قالا: كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب. والحديث ضعيف.
(١) في (أ)، (د): (البعث).
(٢) ورد بنحوه مختصرًا في "تفسير البغوي" ٥/ ٤٥، و"الرازي" ٢٠/ ١١٩، و"القرطبي" ١٠/ ١٧٩.
206
١٠٦ - قوله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾ الآية. أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في عمار بن ياسر؛ أخذه المشركون فلم يتركوه حتى سَبَّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وذكر آلهتم بخير ثم تركوه، فلما أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما وراءك؟ قال: شَرٌّ يا رسول الله، ما تُرِكتُ حتى نِلتُ مِنْك، وذكرتُ آلهتم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنًا بالإيمان. قال: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت" (١).
واختلفوا في محل (مَنْ) مِن الإعراب، فقال الأخفش: هو ابتداء، وخبره محذوف مكتفى منه بخبر (مَنْ) الثانية في قوله: ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ (٢)؛ كقولك: من يأتينا فمن يحسن نكرمه (٣)، فجواب الأول محذوف قد كفى منه الثاني، وقال أبو إسحاق: (مَنْ) في موضع رفع على
(١) أخرجه ابن سعد ٣/ ٢٤٩ بنصه، وعبد الرزاق ٢/ ٣٦٠، بنحوه، والطبري ١٤/ ١٨١، بنحوه عن ابن عباس من طريق العوفي ضعيفة، وأخرجه بنحوه عن قتادة وأبي مالك وغيرهما، والحاكم ٢/ ٣٥٧ بنصه، وصححه وقال: على شرط الشيخين، والبيهقي: المرتد/المكره على الردة (٨/ ٢٠٨) بنصه، وورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٢، وهود الهواري ٢/ ٣٩٠، والثعلبي ٢/ ١٦٤ ب، عن ابن عباس، والطوسي ٦/ ٤٢٨، وانظر: "أسباب النزول" للواحدي ص ٢٨٨، عن ابن عباس، و"تفسير البغوي" ٥/ ٤٥، عن ابن عباس، والزمخشري ٢/ ٣٤٥، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٨٠، عن ابن عباس، والخازن ٣/ ١٣٦، وابن كثير ٢/ ٦٤٧، عن ابن عباس، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٤٨، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(٢) "معاني القرآن للأخفش" ٢/ ٦٠٨، بمعناه، وانظر: "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٤ ب، بنحوه بلا نسبة.
(٣) ورد بنصه في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٨٠، والثعلبي ٢/ ١٦٤ ب، والطوسي ٦/ ٤٢٨، ومعناه: من يحسن ممن يأتينا نكرمه.
207
البدل مِن الكاذبين (١)، ولا يجوز أن يكون رفعًا بالابتداء؛ لأنه لا خبر هاهنا للابتداء؛ لأن قوله: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾ ثم استثنى فقال: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ﴾: على الكفر، يكفر بلسانه وقلبه مطمئن (٢) بالإيمان (٣)، والقول الأول أظهر في معنى الآية؛ لأن (٤) هذه قصة مستأنفة، وكلام لا تعلق له بما تقدم، يدل عليه من التفسير ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية، قال: أخبر الله سبحانه أنه من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، فأما من أُكره فتكلم بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لِيَنْجُو بذلك من عدوه فلا حرج عليه؛ لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم (٥)، فجعل ابن عباس قوله: ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾ خبر قوله: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾، أي: فتحه ووسعه لقبول (٦) الكفر، وذكرنا معنى الشرح في سورة الأنعام (٧)، وانتصب صدرًا
(١) وتقديره: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، وقد رده الطبري، وقال: هذا قول لا وجه له، وحجته أن ذلك يقتضي تخصيص وصف افتراء الكذب بمن آمن ثم ارتد دون من نشأ على الكفر أصلاً، ودلل على ذلك أن الآية جاءت في سياق الرد على الذين نسبوا الكذب والافتراء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الآية السابقة، وهم الكفار الأصليون. انظر: "تفسير الطبري" ١٤/ ١٨١.
(٢) في (أ)، (د) زيادة (واو): (ومطمئن).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١٩، بتصرف يسير.
(٤) في (أ)، (د): (أن).
(٥) أخرجه الطبري ١٤/ ١٨٢ بنصه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، والبيهقي: المرتد/ المكره على الردة (٨/ ٢٠٩) بنصه، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٥٠، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٦) في (أ)، (د): (لقول)، والمثبت من (ش)، (ع) أصح.
(٧) آية [١٢٥].
208
على أول مفعول للشرح، والتقدير: ولكن من شرح بالكفر صدره، وحذف الهاء منه لأنه لا يُشْكِل بصدر غيره، إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره، فهو نكرة يراد بها المعرفة، ويدل عليها معنى الكلام، "وهذه الآية تدل على أنّ المُكْرَهَ على كلمة الكفر إذا تَلَفَّظ بها مُكْرَهًا لا يحكم بكفره إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان (١)، ولذلك أبطل الشافعي طلاق المكره وعتاقه وعقوده، ولم يجعل لها حكمًا (٢)، ودلّت الآية على أن حقيقة الكفر إنما تكون بالقلب دون اللسان (٣).
١٠٧ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا﴾، أي: ذلك الشرح وذلك الكفر (٤)، بأنهم أحبّوا الدنيا واختاروها على الآخرة، قال الكلبي: والمراد بقوله: ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ عبد الله بن سعد بن أبي سرح ومن ارتد عن الدين وطابت نفسه بالكفر (٥)، وذلك باستحبابهم الدنيا وبأن
(١) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٥ أ، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٤٦، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٨٢.
(٢) وهذا القول هو قول جمهور العلماء خلافًا للحنفية، وقد ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٢/ ١٦٥ أ، ونسبه أيضًا إلى بعض الصحابة ومالك والأوزاعي، انظر: بسط المسألة في "تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٢، و"المحلى" ٨/ ٣٣١، و"تفسير ابن العربي" ٣/ ١١٨٠، و"المجموع" ١٧/ ٦٥، و"المغني" ١٠/ ٣٥٠، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٨٤، و"رفع الحرج في الشريعة الإسلامية" ص ٢٤٦، و"الإكراه وأثره في التصرفات الشرعية" ص ١٩٦، و"عوارض الأهلية عند الأصوليين" ص ٤٩٦.
(٣) ذكره الثعلبي ٢/ ١٦٤ ب، بنحوه.
(٤) مطموسة في: (ش).
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٩٣، وورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٨ أ، والسمرقندى ٢/ ٢٥٢، وهود الهواري ٢/ ٣٩٠، وفي إدراج عبد الله بن أبي السرح مع الذين انشرحت صدورهم للكفر نظر؛ لأنه قد رجع إلى الإسلام وحسن =
الله لا يهديهم ولا يريد هدايتهم، ثم وصفهم بأنهم مطبوع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
١٠٨ - فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ﴾ الآية. والكلام في هذا مضى (١).
وقوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ قال ابن عباس: عما يراد بهم (٢)، ثم حكم لهم بالخسار وأكَّدَ ذلك،
١٠٩ - فقال: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ قال ابن عباس: يريد حقًا إنهم في الآخرة هم المغبونون (٣)، قال أبو إسحاق: (أنَّ) يصلح أن تكون في موضع رفع، على أَنّ (لا) رَدٌّ لكلام، والمعنى: وجب أنَّهُم، قال: ويجوز أن تكون في موضع نَصْبٍ على أن المعنى: جَرَمَ فِعْلُهُمْ هذا، ﴿أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ أي كَسَب (٤).
١١٠ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا﴾ قال المفسرون: نزلت في المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا بمكة، عَمَّار وصُهيب وبلال، ودونهم الذين عُذِّبُوا في الله وارتدوا على الكفر
= إسلامه، كما أن الآية التالية قد حكمت عليهم بالطبع على قلوبهم، ولا يليق هذا الوصف بمن أسلم ومنّ الله عليه بالهداية، ويؤيده أن الرواية وردت عن طريق الكلبي، وحسبك بهذا؛ فروايات الكلبي محكوم عليها بالضعف بل بالوضع.
(١) النساء [آية: ١٥٥].
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٢٤، وأبي حيان ٥/ ٥٤٠، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٣٩، والخازن ٣/ ١٣٧، بلا نسبة.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٩٣، و"تفسير البغوي" ٥/ ٤٧، بلا نسبة.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٠، بنصه تقريبًا.
210
وأعطوهم بعضَ ما أرادوا لِيَسْلَمُوا من شَرِّهم، ثم (هاجروا إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (١).
[قال ابن عباس: يريد الذين كانوا يُعَذَّبون بمكة، ﴿هَاجَرُوا) (٢) مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا﴾ قال: من بعد ما عُذِّبُوا، ﴿ثُمَّ جَاهَدُوا﴾: مع النبي -صلى الله عليه وسلم-] (٣)، ﴿وَصَبَرُوا﴾: على الدين والجهاد (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ إعادة وتكريرٌ لما ذكر في الآية؛ وذلك لتطاول الكلام، وأجيب كلاهما بجواب واحد، وهذا من القبيل الذي ذكرنا في قوله: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ﴾ الآية.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِهَا﴾: تلك الفتنة وتلك الفعلة التي فعلوها وهي تلفظهم بكلمة الكفر، ﴿لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وذلك أن الرخصة لم تكن نازلة في ذلك الوقت حين تلفظوا بالكفر تقية، وإنما نزلت بعد ذلك فأخبر
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٨٤، بنحوه عن ابن إسحاق، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٨، مختصرًا، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٢، بنحوه عن ابن عباس، والثعلبي ٢/ ١٦٥ أ، مفصلاً، والطوسي ٦/ ٤٣١، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٤٧، وابن الجوزي ٤/ ٤٩٧، عن ابن عباس، والفخر الرازي ٢٠/ ١٢٥، عن الحسن، والخازن ٣/ ١٣٧، وابن كثير ٢/ ٦٤٩، ولا يثبت هذا سببًا للنزول؛ لأن إسناده منقطع، أخرجه الطبري بسنده إلى ابن إسحاق، وهو ضعيف كما في "تقريب التهذيب" ص ٤٦٧ (٥٧٢٥).
(٢) ما بين القوسين ساقط من (ش)، (ع).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (د).
(٤) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٩٧، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٥٠، وعزاه إلى البيهقي في سننه -لم أجده- وابن مردويه، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٨ أ، والثعلبي ٢/ ١٦٥ أ، والسمرقندي ٢/ ٢٥٢، والبغوي ٥/ ٤٧، والخارن ٣/ ١٣٧.
211
الله تعالى بعد ذلك أنه قد غفر لهم ذلك، هذا قول عامة أهل التأويل (١).
وقال عطاء عن ابن عباس: ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا﴾ يريد من بعد ما خرجوا إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وصاروا عنده بالمدينة، غفر الله لهم مقامهم بمكة وتثبطهم بها، عفا الله ذلك عنهم (٢)، فعلى هذا الكناية في ﴿بَعْدِهَا﴾ تعود إلى الهجرة، ودلّ عليها: ﴿هَاجَرُوا﴾، والمغفرة لمقامهم بمكة وتخلفهم عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعد خروجه، وقرأ ابن عامر فَتنوا، بفتح الفاء (٣)، ومعنى هذا ﴿للذينَ هاجَروا مِن بعدِ ما فَتنُوا﴾ أنفسهم بإظهار ما أظهروا للتقية، وجعل ذلك فتنة؛ لأن الرخصة فيه لم تكن نزلت بعد (٤).
وذهب قوم من المفسرين إلى أن الآية نزلت في قوم من الذين كانوا يُعذِّبون المستضعفين بمكة، آمنوا وهاجروا إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (٥) فقال الله
(١) ورد مختصرًا في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٨ أ، والطبري ١٤/ ١٨٣، والثعلبي ٢/ ١٦٥ أ، والسمرقندي ٢/ ٢٥٣، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٤٧، وابن عطية ٨/ ٥٢٥، وابن الجوزي ٤/ ٤٩٨، والخازن ٣/ ١٣٧.
(٢) ورد مختصرًا غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٣، والزمخشري ٢/ ٣٤٥، وابن عطية ٨/ ٥٢٥، وابن الجوزي ٤/ ٤٩٩، والفخر الرازي ٢٠/ ١٢٦.
(٣) انظر: "السبعة" ص ٣٧٦، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٦٠، و"علل القراءات" ١/ ٣٠٩، و"الحجة للقراء" ٥/ ٧٩، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٦، و"التبصرة" ص ٤٦٦، و"التيسير" ص ١٣٨، و"المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧٤٥.
(٤) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٧٩، بنصه تقريبًا، لكنه قال: لأن الرخصة فيه لم تكن نزلت بعد، وقد تصحفت في المصدر (الرخصة) إلى (الرحمة). وورد بنحوه في "الكشف عن وجوه القراءات" ٢/ ٤١، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤٣١، وانظر: "المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧٤٥، و"تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٢٥.
(٥) ورد بنحوه في "إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٦١، و"الكشف عن وجوه =
212
تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الآية.
١١١ - قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ﴾ لآية. قال أبو إسحاق: ﴿يَوْمَ﴾ منصوب على أحد شيئين، على معنى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، ﴿يَوْمَ تَأْتِي﴾، ويجوز ذَكِّرْهم يوم، أو اذْكُر يوم؛ لأن معنى القرآن العِظة والإنْذَارُ والتَّذْكير (١).
وقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ أراد كلَّ إنسان وكلَّ واحد، ولقوله: ﴿تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا﴾ ولم يقل يُجَادَل عنها، قال المفسرون: وهذا يوم القيامة كل أحد لا يهمه إلا نفسه، فهو مخاصم ومحتج عن نفسه لا يتفرغ إلى غيره؛ وذلك أن لجهنم زفرة يقع كل أحد جاثيًا على ركبتيه، حتى إن إبراهيم ليدلي بالخُلَّة، فيقول: يارب، أنا خليلك إبراهيم، لا أسألك إلا نفسي (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ﴾ قال ابن عباس: يريد
= القراءات" ٢/ ٤١، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٥أ، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٢٥، ويفتقر هذا القول إلى دليل صحيح مسند.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢١، بتصرف يسير.
(٢) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٦٣)، بنحوه عن قتادة، والواحدي في تفسيره "الوسيط"، تحقيق سيسي ٢/ ٤٥٠، بنحوه عن كعب، وورد بنحوه في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢١، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٨، عن كعب، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٣، والثعلبي ٢/ ١٦٥ أ، عن كعب، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٤٨، عن كعب، وابن الجوزي ٤/ ٤٩٩، عن كعب، والفخر الرازي ٢٠/ ١٢٦، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٩٣، والخازن ٣/ ١٣٨، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٥١ وعزاه إلى ابن المبارك وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن كعب. والظاهر أن هذا الخبر من الإسرائيليات، خاصة أن موقوف على كعب؛ هو من مصادر الإسرائيليات.
ثوابها غير منتقص، والتقدير: ثواب ما عملت أو جزاء ما عملت، فحذف المضاف، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ قال: يريد لا ينقصون.
١١٢ - قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾ الآية. معنى ضَرْبِ المثلِ بيان المُشبَّه والمُشبَّه به، وهاهنا ذَكَرَ المُشبَّه به ولم يذكر المُشَبَّه لوضوحه عند المخاطبين، والآية عند عامة المفسرين: نازلة في أهل مكة وما امتُحِنوا به من الخوف والجوع، بعد الأمن والنعمة، بتكذيبهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وتقدير الآية: ضربَ اللهُ لقريتكم مَثَلاً، أي: بين الله لها شَبَهًا، ثم قال: ﴿قَرْيَةٍ﴾ فيجوز أن تكون القرية بدلاً من مثلًا؛ لأنها هي الممثل بها؛ فهي المثل، ويجوز أن يكون المعنى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾: مَثَلَ قرية، فحذف المضاف وهذا قول الزجاج (١).
والمفسرون كلهم قالوا: (أراد بالقرية مكة، يعنون أنه أراد مكة في تمثيلها بقرية صفتها ما ذُكِر (٢)؛ كما قالوا) (٣) في قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧]، أراد بالذي استوقد: المنافقين؛ أي أرادهم بهذا المثل، لا أنهم كانوا يستوقدون النار، ولكن أَشْبَه حالُهم حالَه، كذلك
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢١ بنصه.
(٢) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٦٠) بلفظه عن قتادة، والطبري ١٤/ ١٨٦ بلفظه عن ابن عباس [طريق العوفي] ومجاهد وقتادة وابن زيد، وورد بلفظه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٨ أ، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٠٩، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٣، وهود الهواري ٢/ ٣٩٢، والثعلبي ٢/ ١٦٥ ب، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢١٧، والطوسي ٦/ ٤٣٢، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٤٨، وابن عطية ٨/ ٥٢٦، وابن الجوزى ٤/ ٤٩٩، والفخر الرازى ٢٠/ ١٢٧، والخازن ٣/ ١٣٨، وابن كثير ٢/ ٦٤٩.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (ش)، (ع).
214
أشبهت حالُ مكة حالَ هذه القرية، والكلام في جميع صفات القرية جرى على القرية، والمُرادُ أهلُها؛ لأن الطمأنينة والأمن وإتيان الرزق حقيقتها لأهلها لا لها، يدل على هذا قوله في آخر الآية: ﴿بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون﴾، ولم يقل: بما صنعت.
وقوله تعالى: ﴿كَانَتْ آمِنَة﴾، أي: ذات أمن؛ يأمن فيها أهلها لا يُغَارُ عليهم، كما قال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٦٧]، وجاز وصفها بالأمن وإن كان لأهلها؛ لأنها مكانُ الأمن وظرفٌ له، والظروف من الأزمنة والأمكنة توصف بمحالها، كما يقال: يوم طيب وبارد وحار.
وقوله تعالى: ﴿مُطْمَئِنَّةً﴾، أي: قارة ساكنة بأهلها، لايحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق، وهو قوله: ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾؛ لأن الله جعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، فأرزاقهم تأتيهم في بلدهم، يُجْلَب إليها من كل بلد، كما قال تعالى: ﴿يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [القصص: ٥٧].
وقوله تعالى: ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّه﴾، الأنعم: جمع نِعْمة، مثل شِدَّة وأَشُدّ، هذا قول سيبويه (١)، وقال غيره: يجوز أن يكون جمع نُعْمَى؛ كما يقال: بؤسى وأبؤس (٢)، وأنشد:
(١) "الكتاب" ٣/ ٥٨٢، بلفظه.
(٢) قال الفراء في "المقصور والممدود" ص ٤١: باب ما يفتح فيمد ويضم فيقصر، ومَثَّلَ لذلك بقوله: وكذلك.. ، والنُّعمى والنَّعماء، والبؤسى والبأساء، وهي بالألف الممدودة أشهر منها بالمقصورة، وفي القرآن: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ﴾ [هود: ١٠]، وكذلك نقل الطبري عن جعفر أهل الكوفة -ولعله يقصد =
215
وعندي قروض الخير والشر كله فبُؤسِي لذي بُؤسَى ونُعْمَى بأنْعُمِي (١)
وكفرانهم بأنعم الله تكذيبهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ومخالفتهم أمر الله فيما يأمرهم به.
وقوله تعالى: ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ قال المفسرون: عذَّبهم اللهُ بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجِيَفَ والعظام المحرقة والعلهز (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَالْخَوْف﴾، قالوا: يعني من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ومن السرايا التي كان يبعثها إليهم فيطوفون بهم (٣).
= الفراء- أن أنعم جمع نعماء، مثل بأساء وأبؤس، لكنه استشهد بالبيت على أن أنعم جمع نُعْم كطُعْم، وهو قول أبي عبيدة وابن قتيبة؛ وردّ ابن قتيبة قول سيبويه، قائلاً: وليس قول من قال: إنه جمع نعمة بشيء؛ لأن فِعلة لا يجمع على أفعل. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٣٦٩، و"الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٠، و"تفسير الطبري" ١٤/ ١٨٦، وورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٥ ب، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٤٩، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٩٤.
(١) ورد غير منسوب في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٨٦.
برواية:
فَبُؤْسٌ لذي بؤسٍ ونُعْمٍ بأنْعُمِ
وورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٣٣، برواية:
فبؤس لدى بؤسي ونعمى بأنعم
(٢) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٨ ب، بمعناه، و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٤، بنحوه، والطبري ١٤/ ١٨٧، بنحوه، والثعلبي ٢/ ١٦٥ ب، بنحوه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢١٧، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٤٩، وابن الجوزي ٤/ ٥٠١، والفخر الرازي ٢٠/ ١٢٨، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٩٥، والخازن ٣/ ١٣٩، وابن كثير ٢/ ٦٤٩، قال الطبري: العلهز: الوبر يعجن بالدم والقُراد يأكلونه، قلت: والقراد: دويبة متطفلة.
(٣) ورد بنحوه في "الطبري" ١٤/ ١٨٧، والسمرقندي ٢/ ٢٥٣، والثعلبي ٢/ ١٦٥ ب، =
216
قال ابن قتيبة: وأصل الذَّوَاقِ بالفم، ثم قد (١) يُستعار فيوضع موضع الابتلاء والاختبار، تقول في الكلام: نَاظِرْ فُلانًا وذُقْ ما عنده، أي تعرَّف واختبر، واركب الفرسَ وذقه، وأنشد الشماخ في وصف قوس:
فذاقَ فأعْطَتْهُ من اللّين جَانبًا كفى (٢) ولَهَا أن يُغْرِقَ السَّهْمَ حَاجِزُ (٣)
يريد أنه راز (٤) القوس بالنزع ليعلم؛ ألَيِّنَةٌ هي أم صلبةٌ.
قال: ولباس الجوع والخوف: ما ظهر عليهم من سوء آثارهما بالضُّمْرِ والشُّحوب، ونَهْكَةِ (٥) البدن، وتغيّر الحال، وكُسُوف البال، فكما يقول: تَعَرَّفْتُ سوء أثرِ الخوف والجوع على فلان، وذقت بمعنى: تعرفتُ، واللِّبَاسُ بمعنى: سوء الأثر (٦)، كذلك تقول: ذقتُ لِبَاسَ الجوع والخوف،
= وانظر: البغوي ٥/ ٤٩، وابن الجوزي ٤/ ٥٠١، و"القرطبي" ١٠/ ١٩٤، والخازن ٣/ ١٣٩، وابن كثير ٢/ ٦٤٩، وهذا التفسير مشهور بين المفسرين، وهو من قبيل التفسير بالمثال، والآية عامة في كل زمان ومكان.
(١) ساقطة من (د).
(٢) في النسخ: لفي، ورواية الديوان وجميع المصادر (كفى)، وظاهر أنها تصحفت إلى (لفي).
(٣) "ديوانه" ص ١٩٠، وورد في "جمهرة أشعار العرب" ص ٢٩٩، و"الحيوان" ٥/ ١٧٩، و"الشعر والشعراء" ص ١٩٥، و"المعاني الكبير" ٢/ ١٠٤٢، و"الأساس" ١/ ٣٠٦، و"اللسان" (ذوق) ٣/ ١٨٩١، وفيه (النبل) بدل (السهم)، قال في اللسان: أي ولها حاجز يمنع من الإغراق؛ أي فيها لين وشدّة. وأغرقتُ النَّبل: إذا بلغت به غاية المدِّ في القوس. "المحيط في اللغة" (غرق) ٤/ ٥٢٨.
(٤) في (أ)، (د): (زار)، وفي المصدر: ذاق، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الصحيح الذي يؤدب المعنى، وهكذا في "المعاني الكبير". (راز) من الروز: التجربة، يقال: رُزْ ما عند فلان. "المحيط في اللغة" (روز) ٩/ ٨٤.
(٥) في (ش)، (ع): (وبهلكة)، من الهلاك، والمثبت أصح وموافق للمصدر.
(٦) في (أ)، (د): (الأتراء).
217
وأذاقني الله ذلك (١).
وقال أبو علي: ﴿لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ المعنى فيه: مقارنة (٢) الجوع لهم ومَسُّه إيّاهم؛ كمخالطة الذائق ما يذوقه، واللابس ما يَلْبَسُه، واتصاله بما وقع عليه الذوق، وكذلك لباس الجوع هو مَسُّه لهم كمَسّ الثوب للابسه، وأنشد لجرير:
وقد لَبِسَتْ بَعْدَ الزّبَيرِ مُجَاشعٌ ثيابَ التي حاضَتْ ولَمْ تَغْسلِ الدّمَا (٣)
يريد أن العار والسُّبَّة لحقتهم، واتصل بهم لغدرهم، فجعل ذلك لباسًا (٤)، فعلى ما ذكر ابن قتيبة معنى ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ عَرَّفَها سوءَ أثرهما، وعلى ما ذكر أبو علي، جعل الجوع والخوف تَمَسَّانها وتُلابِسَانِها.
وروي عن أبي (٥) عمرو أنه قرأ: ﴿وَالْخَوْف﴾ نصبًا (٦) بأنْ على الإذاقة (٧)، والوجه قراءة العامة على معنى: فأذاقهم الله لباس الجوع ولباس
(١) "تأويل مشكل القرآن" ص ١٦٤ - ١٦٥، نقل طويل تصرَّف فيه واختصره.
(٢) في (أ)، (د): مفارقة، والمثبت من: (ش)، (ع)، وفي المصدر: مقاربة، وهو أيضًا تصحيف.
(٣) "ديوانه" ص ٤٤٨، وورد في: "المعاني الكبير" ١/ ٥٩٣، و"تفسير ابن عطية" ٨/ ٥٢٨، وورد بلا نسبة في "تفسير أبي حيان" ٥/ ٥٤٣، و"الدر المصون" ٧/ ٢٩٥، وجرير هنا يهجو البَعِيث، ومجاشع: قبيلة الفرزدق والبعيث.
(٤) "الحجة للقراء" ٥/ ٨٠، بتصرف يسير.
(٥) في جميع النسخ: ابن، والصحيح المثبت، وهو أبو عمرو أحد القراء السبعة.
(٦) انظر: "السبعة" ص ٣٧٦، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٦٢، و"علل القراءات" ١/ ٣٠٩، و"الحجة للقراء" ٥/ ٨٠، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٥ ب، والطوسي ٦/ ٤٣٣، وابن عطية ٨/ ٥٢٩، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٩٤.
(٧) قال الثعلبي: ﴿وَالْخَوْفِ﴾ بالنصب بإيقاع أذاقها عليه، وذكر السمين أربعة أوجه =
218
الخوف، يدل عليه أن في حرف أُبي: لباسَ الخوف والجوع (١)، فقد جعل للخوف لباسًا كما جعل للجوع، وحَمْلُه على الخفض باللباس أولى من حمله على الإذاقة؛ لأن اللباس أقرب إليه، فحمله على الأقرب أولى، وليكونا محمولين على عامل واحد، كما كان في قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ [البقرة: ١٥٥]، الحمل على عامل واحد (٢).
وقوله تعالى: ﴿بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد بفعلهم بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم- حيث كذبوه وأخرجوه من مكة وما هموا به من قتله (٣).
قال الفراء: ولم يقل بما صنعت، ومثله في القرآن كثير، منه قوله: ﴿فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُون﴾ [الأعراف: ٤] ولم يقل: قائلة، فإذا قال: ﴿قَائِلُون﴾ ذهب إلى الرجال، وإذا قال: قائلة، فإنما يعني أيضًا أهلها، ومثله: ﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا﴾ إلى قوله: ﴿فَذَاقَتْ﴾ (٤) [الطلاق: ٨ - ٩].
١١٣ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ﴾ يعني أهل مكة، ﴿رَسُولٌ مِنْهُمْ﴾ يعني مِنْ نسبهم يعرفونه بأصله ونسبه، ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَاب﴾، قال ابن عباس: يعني الجوع الذي كان بمكة (٥)، وقال مجاهد: يعني القتل
= -غير هذا الوجه- في نصب ﴿وَالْخَوْفِ﴾. انظر: "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٥ ب، و"الدر المصون" ٧/ ٢٩٣.
(١) انظر: "تفسير أبي حيان" ٥/ ٥٤٤، وقال: وهذا عندي في مصحفه قبل أن يجمعوا على ما في سواد المصحف الموجود الآن، وعليه فهي قراءة شاذة.
(٢) "الحجة للقراء" ٥/ ٨٢، بنصه تقريبًا.
(٣) انظر: "تفسير الرازي" ٢٠/ ١٢٩ بنصه، وابن الجوزي ٤/ ٥٠١، بنحوه بلا نسبة.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٤، بنصه تقريبًا.
(٥) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٥٠١، والفخر الرازي ٢٠/ ١٣٠، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٨٧، بنحوه عن قتادة، وورد بلا نسبة في "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٩٥، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٤٥، ورجحه.
ببدر (١)؛ وهو اختيار الزجاج (٢).
١١٤ - قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ الآية.
قال ابن عباس: ﴿فَكُلُوا﴾: يا معشر المؤمنين، ﴿مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾، يريد من الغنائم (٣).
وقال الكلبي: إن رؤساء أهل مكة كَلَّمُوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- حين جُهِدوا، قالوا: عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان، وكانت المِيرَة (٤) قد قطعت عنهم بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأَذِن في الحَمْل إليهم، فَحُمِل إليهم الطعام (٥)، فقال الله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ الآية. والقول ما قاله ابن عباس، يدل عليه قوله بعد هذه الآية:
١١٥ - ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ وهذا خطاب للمسلمين لا لكفار
(١) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٣٤، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٥٠١، بنصه، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٨٧.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢١، بنحوه.
(٣) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٣٠، بنصه، والخازن ٣/ ١٣٩، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٤٥، وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٨ ب، بنحوه، و"تفسير الطبري" ١٤/ ١٨٨ بمعناه، و"تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٥٠١، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٩٥، وهذا من قبيل التفسير بالمثال، والآية عامة في جواز الأكل من كل طيب.
(٤) المِيرَةُ: جلب الطعام للبيع وللعيال، وهم يَمِيرون غيرهم ويَمْتَارون لأنفسهم. "المحيط في اللغة" (مير) ١٠/ ٢٨٥.
(٥) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٣٠، بنصه، والخازن ٣/ ١٣٩، بنحوه، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٤٥، بنصه، وعزياه للواحدي، ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٥، والثعلبي ٢/ ١٦٥ ب، والبغوي ٥/ ٤٩، وابن الجوزي ٤/ ٥٠١، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٩٥.
مكة، وهاتان الآيتان سبق تفسيرهما في سورة البقرة (١).
١١٦ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ﴾ الآية. قال مجاهد: يعني البحيرة والسائبة (٢).
وقال ابن عباس: يعني قولهم: ﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا﴾ (٣) [الأنعام: ١٣٩]، واختلفوا في وجه انتصاب الكذب؛ فقال الأخفش: جعل (ما تصف) اسمًا للفعل؛ كأنه قال: ولا تقولوا لوصف ألسنتِكم الكذب (٤)، ونحو هذا قال الكسائي (٥). والزجاج (٦)، سِوى أنْ قال صاحب النظم: واللام في (لِمَا) لامُ سبب وأجل، كما يقال: فعلت هذا لك، أي لأجلك وبسببك (٧)، والمعنى: ولا تقولوا لأجل وصفكم الكذب هذا حلال وهذا حرام؛ أي إنكم تُحِلُّون وتُحَرِّمون لأجل الكذب لا لغير، فليس لتحريمكم وتحليلكم معنى وسبب إلا الكذب فقط، فلا تفعلوا ذلك، هذا معنى قوله: إن دخول اللام في
(١) آية [١٧٢ - ١٧٣].
(٢) "تفسير مجاهد" ص ٣٥٤، بنصه، أخرجه الطبري ١٤/ ١٨٩ بنصه من طريقين، وورد في: "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١١٠، بنحوه، وانظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١٤٠، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٥٢، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم، وورد بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٥ب، والبغوي ٥/ ٤٩ - ٥/ ٥٠.
(٣) انظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١٤٠.
(٤) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٠٨، بنصه.
(٥) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٣١، وأبي حيان ٥/ ٥٤٥، و"الدر المصون" ٧/ ٢٩٧، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٤٧.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٢، بنصه.
(٧) انظر. "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٥٠٢، بنحوه عن ابن الأنباري.
221
(لِمَا) سبب لقوله: ﴿هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ﴾، وذكر وجهين آخرين في انتصاب الكذب؛ أحدهما: أن نصبه على نفي الخافض (١)، على تأويل لِمَا تصف ألسنتكم كذبًا؛ على جهة التفسير (٢) أو الحال، ثم ألحق به الألف واللام؛ كما قال الشاعر (٣):
وما قومي بِثَعْلَبةَ بنِ بَكْرٍ ولا بفَزَارة الشُّعْرِ الرِّقابَا (٤)
انتصب الرقاب على معنى التفسير هذا كلامه (٥)، والقول قول الأخفش والكسائي، والإشارة بقوله ﴿هَذَا﴾ و ﴿وَهَذَا﴾ إلى ما كانوا يحلونه ويحرمونه.
وقوله تعالى: ﴿لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾، وذلك أنهم كانوا ينسبون ذلك
(١) أي لما تصف ألسنتكم من الكذب. "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٩٦.
(٢) أي التمييز. انظر: "المعجم المفصل في النحو العربي" ١/ ٣٦٥.
(٣) هو الحارث بن ظالم (جاهلي).
(٤) ورد في "الكتاب" ١/ ٢٠١، و"البيان والتبيين" ٤/ ١٠٠٨، و"المقتضب" ٤/ ١٦١، و"الأغاني" ١١/ ١٢٣، و"الإنصاف" ١٠٩، ١١٠، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٣٩٨، و"شرح المفصل" ٦/ ٨٩، وفي بعض المصادر برواية: (الشُّعْرى رِقابا)، وفي جميع المصادر -ما عدا الإنصاف- (سعد) بدل (بكر)، قال في الانتصاف من الإنصاف: والمحفوظ (بثعلبة بن سعد)، وكذلك هو في نسب ثعلبة؛ فإنه ثعلبة بن سعد بن ذبيان، وفزارة هو ابن ذبيان أخو سعد بن ذبيان أبي ثعلبة، والشاعر في هذا البيت ينتفي من بني سعد بن ذبيان. (الشُّعْر): جمع أشعر، والشعرى مؤنث الأشعر، والأشعر: الكثير شعر القفا ومقدم الرأس، فهذا عندهم مما يتشاءم به، ويحمدون النّزع، وهو انحسار الشعر عن مقدم الرأس. والشاهد: أنه نصب الرقابا بقوله: (الشُّعْر) جمع أشعر، وهو هنا صفة مشبهة.
(٥) ذكر الواحدي أن صاحب النظم ذكر وجهين آخرين للنصب ولم يذكر إلا وجهًا واحدًا، وذكر السمين أربعة أوجه للنصب. انظر: "الدر المصون" ٧/ ٢٩٧.
222
التحريم إلى الله تعالى، ويقولون إنه أمَرَنا بذلك، وقوله: ﴿لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ بدل من قوله: ﴿لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ﴾؛ لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله، ففسر ذلك الوصف والكذب بالافتراء على الله، ثم أوعد المفترين، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾.
١١٧ - ثم بين أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم عن قريب، فقال: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾، قال الزجاج: المعنى: متاعهم متاع قليل، أي يَتَمتَّعون (١)، وقال ابن عباس: يريد متاع الدنيا قليل (٢)، وقيل: لهم متاع قليل ثم يردون إلى عذاب أليم (٣)، وهو قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (٤).
١١٨ - قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ قال السدي وقتادة: يعني ما ذَكر في سورة الأنعام: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ (٥) [الآيه: ١٤٦].
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٢، بتصرف يسير.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٣٢، ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الطبري" ٧/ ٦٥٨، وهود الهواري ٢/ ٣٩٣، والثعلبي ٢/ ١٦٥ ب، والبغوي ٥/ ٥٠.
(٣) ورد في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٨٩، بنحوه، والثعلبي ٢/ ١٦٥ ب، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٥٠، و"القرطبي" ١٠/ ١٩٦.
(٤) نقل الفخر الرازي هذا المقطع بنصه تقريبًا مع العزو للواحدي. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٣٢.
(٥) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ٢/ ٣٦٠، بنحوه عن قتادة، والطبري ١٤/ ١٨٩، بنحوه عن قتادة، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١١٠، بنحوه عن قتادة، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤٣٦، بنصه عن قتادة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٥٢، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٩٣، والثعلبي ٢/ ١٦٦ أ، والبغوي ٥/ ٥٠، وابن الجوزي في ٤/ ٥٠٣، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٩٧، والخازن ٣/ ١٤٠ وابن كثير ٢/ ٦٥١.
وقوله: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾، أي: بتحريم ما حرمنا عليهم، ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، ثم عطف على هذا بالمغفرة لمن تاب منهم ومن غيرهم بعد المعصية، فقال:
١١٩ - ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾، قال ابن عباس في (هذه الآية: يريد بـ ﴿السُّوءَ﴾: الشرك (١)، ﴿ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾: السوء، ﴿وَأَصْلَحُوا﴾، قال ابن عباس) (٢): يريد آمنوا وصدقوا وقاموا لله بفرائضه وانتهوا عن معاصيه (٣).
وقال أهل المعاني: شَرَطَ مع التوبة الإصلاح؛ للاستدعاء إلى الصلاح وترك الاغترار بما سلف من التوبة (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا﴾ أي من بعد تلك الجهالة (٥) ﴿لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
١٢٠ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ قال ابن مسعود وابن عباس في رواية الكلبي: مُعَلِّمًا للخير، وهو قول أكثر أهل التفسير (٦).
(١) انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٩٧، وأبي حيان ٥/ ٥٤٦، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٤٩، والتعميم أولى من هذا التخصيص.
(٢) ما بين القوسين ساقط من (د).
(٣) انظر: "تفسير أبي حيان" ٥/ ٥٤٦، بنحوه بلا نسبة.
(٤) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٣٧، بنصه تقريبًا.
(٥) ورد بلفظه في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٩٣، والثعلبي ٢/ ١٦٦ أ، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٥٠، وبمعناه قال السمرقندي ٢/ ٢٥٤، قال: من بعد السيئة، وفي هذا التفسير نظر؛ لأن المغفرة لا تحصل بعد تلك الجهالة أو السيئة، بل بعد التوبة من الجهالة والسيئة، لذلك قال الطبري وغيره ١٤/ ١٩٠: أي من بعد توبهم.
(٦) أخرجه الطبري ١٤/ ١٩١، بنحوه من طرق عن ابن مسعود، وورد بنحوه عن ابن =
224
قال ابن الأعرابي: يقال للرجل العالم: أُمَّة، والأُمَّةُ: الرجل الجامع للخير (١).
وقال ابن عباس في رواية (٢) الضحاك في قوله: ﴿كَانَ أُمَّةً﴾ قال: كان على الإسلام ولم يمكن في زمانه أحدٌ على الإسلام غيرُه (٣)، فلذلك قال الله تعالى: ﴿كَانَ أُمَّةً﴾.
وقال مجاهد: كان مؤمنًا وحده والناس كفار كلهم، وهو قول إبراهيم (٤)، وقال ابن قتيبة: أي إماما يَقْتَدِى به الناس؛ لأنه ومن اتبعه أُمَّة، فَسُمِّي أُمَّة؛ لأنه سبب الاجتماع (٥)، هذا وجه قول من قال: أُمَّةً: معلمًا للخير.
= مسعود في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١١٠، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٤، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢١٨ والطوسي ٦/ ٤٣٧، كذلك ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٩ أ، بنحوه، والثعلبي ٢/ ١٦٦أبلفظه، وانظر: بنحوه عن ابن مسعود في "تفسير البغوي" ٥/ ٥٠، والزمخشري ٢/ ٣٤٨، وابن عطية ٨/ ٥٤٠، وابن الجوزي ٤/ ٥٠٣، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٩٨، والخازن ٣/ ١٤١، وأبي حيان ٥/ ٥٤٧، عنهما، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٤٩، بنحوه عن ابن عباس.
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (أم) ١/ ٢٠٣، بنصه.
(٢) ساقطة من: (أ)، (د).
(٣) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٥٠٣، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٥٣، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٤، بنحوه بلا نسبة.
(٤) لم أجده في تفسير مجاهد، وورد عنه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١١١، بنصه، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٦ أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٥٠، والفخر الرازي ٢٠/ ١٣٤، والخازن ٣/ ١٤١، وأبي حيان ٥/ ٥٤٧، وابن كثير ٢/ ٦٥٢، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٥٣، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، ولم أقف عليه منسوبًا إلى إبراهيم.
(٥) "تأويل مشكل القرآن" ص ٤٤٥، بنصه.
225
ومن قال: أُمَّةً أي: مؤمنًا وحده؛ فلأنه اجتمع عنده من خلال الخير ما يكون مِثْلُه في أُمَّة، ومن هذا يقال: فلان أُمَّة وحْدَه، أي هو يقوم مقام أمة (١)، والكلام في وجوه الأمة ومعانيها قد تقدم (٢).
وقوله تعالى: ﴿قَانِتًا لِلَّه﴾ قال ابن عباس والجميع: مطيعًا لله (٣).
وقوله تعالى: ﴿حَنِيفًا﴾ قال ابن عباس: يريد أنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضَحَّى، هذه صفة الحنيفية (٤)، والقنوت والحنيفية مما تقدم القول فيه (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد أخلص لله التوحيد صبيًّا وكبيرًا (٦)، وذكرنا وجه حذف النون مِنْ يكن عند قوله: ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ﴾ (٧) في سورة هود [١٠٩].
١٢٢ - قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ قال علي بن أبي طلحة
(١) المصدر السابق بنصه.
(٢) سورة البقرة [١٢٨].
(٣) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٣٥، و"تنوير المقباس" ص ٢٩٥ و"الدر المنثور" ٤/ ٢٥٣، وعزاه إلى ابن المنذر، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ٢/ ٣٦٠، بنحوه عن قتادة، وورد بلفظه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٩ أ، و"تأويل مشكل القرآن" ص ٤٥٢، و"تفسير الطبري" ١٤/ ١٩٢، عن مجاهد، وهود الهواري ٢/ ٣٩٤، و"الماوردي" ٣/ ٢١٩، عن ابن مسعود، والطوسي ٦/ ٤٣٧، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٥٠، والخازن ٣/ ١٤١.
(٤) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٣٥، بنصه، والخازن ٣/ ١٤١، بلا نسبة.
(٥) سورة البقرة آية: [١٣٥، ٢٣٨].
(٦) انظر: "تفسير الخارن" ٣/ ١٤١، بنحوه بلا نسبة.
(٧) منها أنها حذفت لكثرة استعمال هذا الحرف، وهو قول سيبويه وجُلّ البصريين.
226
عن ابن عباس: يقول: الذكر الحسن (١)، وقال في رواية عطاء: يريد الصدق والوفاء والعبادة (٢).
وقال الحسن: النبوة (٣). وقال مجاهد: لسان صدق في الآخرين (٤).
وقال الكلبي: الثناء الحسن من بعده (٥).
وقال مقاتل: يعني الصلوات عليه مقرونًا بالصلاة على محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ وهو قول المتشهد: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم (٦)، وهذه الأقوال متقاربة وجملتها تعود إلى تنويه الله بِذِكْره في الدنيا بطاعته لربه، ومسارعته إلى مرضاته، وإخلاصه في عبادته، حتى صار
(١) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٥٠٤، وأبي حيان ٥/ ٥٤٧.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٣٦، بنصه بلا نسبة.
(٣) ورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢١٩، بلفظه، والطوسي ٦/ ٤٣٨، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٥٠٤، وأبي حيان ٥/ ٥٤٧، و"القرطبي" ١٠/ ١٩٨، بلا نسبة.
(٤) "تفسير مجاهد" ص ٣٥٤، بنحوه، أخرجه الطبري ١٤/ ١٩٣، بنحوه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١١١، بنحوه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢١٩، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٥٠٤، وأبي حيان ٥/ ٥٤٧، وابن كثير ٢/ ٦٥١، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٥٣ وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٥) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٥، وهود الهواري ٢/ ٣٩٤، والثعلبي ٢/ ١٦٦ أ، والبغوي ٥/ ٥١، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ١٩٨، والخازن ٣/ ١٤١، و"تنوير المقباس" ص ٢٩٥.
(٦) الخبر عن مقاتل بن حيان كما صرَّح البغوي وابن الجوزي؛ لذلك لم أجده في تفسير مقاتل بن سليمان، وقد ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٦ أ، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٥١، وابن الجوزي ٤/ ٥٠٤، والفخر الرازي ٢٠/ ١٣٦، بلا نسبة، والخازن ٣/ ١٤١ بلا نسبة.
227
إمامًا يُقْتَدَى به، قال قتادة: فليس من أهل دين إلا يتولونه ويرضون به (١).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وهو أيضًا كان في الدنيا من الصالحين، فلذلك قال: إن [من] (٢) بمعنى (مع)، وقال أهل المعاني: إنما قال: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، ولم يقل: في أعلى منازل الصالحين بحسب ما تقتضيه حاله من الفضل؛ لمدح من هو منهم، والترغيب في الصلاح ليكون صاحبُه في جَنْبِه إبراهيم، وناهيك بهذا الترغيب في الصلاح، وبهذا المدح لإبراهيم أن يُشَرَّفَ جُمْلة هو فيها، حتى يصير الاستدعاء إليه بأنه فيها (٣).
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ الآية. هذا يدل على أن دين محمد -صلى الله عليه وسلم- دين إبراهيم، وشريعته كشريعته؛ حيث أُمر باتباعه وأُمرنا باتباعه، وهو الأفضل بسبقه إلى القول بالحق والعمل به من غير تقصير، وفيه قال عبد الله بن عمرو: أُمر باتباعه في مناسك الحج كما علَّم جبريلُ إبراهيمَ عليهما السلام (٤).
(١) أخرجه الطبري ١٤/ ١٩٣، بنحوه، ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٦ أ، بنصه تقريبًا، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٩١، بنحوه، والطوسي ٦/ ٤٣٨، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٥١، والزمخشري ٢/ ٣٤٨، وابن الجوزي ٤/ ٥٠٤، والخازن ٣/ ١٤١، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٥٣، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) إضافة يقتضيها السياق ليستقيم المعنى، ولعلها سقطت.
(٣) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٣٨، بنصه تقريبًا.
(٤) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" ٣/ ٣١٧، مفصلًا عن عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والثعلبي ٢/ ١٦٦ أ، مفصلًا عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وانظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٩٨، بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٥٤، مفصلًا وزاد نسبته إلى عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب موقوفًا.
228
١٢٤ - قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ الآية. قال مجاهد: اختلفوا فيه واتبعوه وتركوا الجمعة (١).
وقال السدي: إن الله فرض على اليهود الجمعة فأبوا، وقالوا: يا موسى، إن الله لم يخلق يومًا أثقل علينا ولا أبغض إلينا من يوم الجمعة، فاجعل لنا يوم السبت، فلما جعل لهم السبت استحلوا منه ما حرم عليهم (٢).
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أمرهم موسى بالجمعة فقال: تفرغوا لله في كل سبعة أيام يومًا واحدًا فاعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئًا من صنعتكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا: لا نبغي إلا اليوم الذي فُرغ فيه من الخلق، يوم السبت، فجُعل عليهم السبت وشُدِّدَ عليهم فيه، ثم جاءهم عيسى بالجمعة، فقال النصارى: لا نريد أن يكون عِيدُهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد، هذا الذي ذكرنا هو قول أكثر المفسرين في هذه الآية (٣)، وهو معنى ما روى أبو هريرة أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله كتب الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع
(١) "تفسير مجاهد" ص ٣٥٥، بنصه، أخرجه الطبري ١٤/ ١٩٣ بنصه من طريقين، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٥ بنصه، وانظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ٦٥٢.
(٢) أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٥٤، بنحوه وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
(٣) ورد بنحوه منسوبًا إلى الكلبي في: "تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٩٥ وليس فيه الخبر عن عيسى عليه السلام، والثعلبي ٢/ ١٦٦ أ، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٥٢، وابن الجوزي ٤/ ٥٠٥، والفخر الرازي ٢٠/ ١٣٧، والخازن ٣/ ١٤١، وورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٩ أ، بنحوه، و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٤، بنحوه، والسمرقندي ٢/ ٢٥٥، بنحوه.
229
اليهود غدًا والنصارى بعد غد" (١) (٢).
وعلى هذا القول معنى قوله: ﴿عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، أي: اختلفوا فيه على نبيهم موسى؛ حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت، فاختلافهم في السبت كان اختلافًا على نبيهم في ذلك اليوم (٣)، أي لأجله لأنهم اختاروه ولم يختلفوا في اختياره، وهذا مما أشكل على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم: معنى الاختلاف في السبت أن بعضهم قال هو أعظم الأيام حرمة؛ لأن الله فرغ فيه من خلق الأشياء، وقال آخرون: لا بل الأحد؛ لأن الله ابتدأ خلق الأشياء فيه (٤)، وهذا غلط؛ لأن اليهود لم يكونوا فريقين في يوم السبت، وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان طويل.
وقال بعض المفسرين أيضًا: أكثر اليهود قالوا: نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق الأشياء، وكان شرذمة منهم يرغبون في الجمعة، فهذا
(١) في جميع النسخ: (غدًا)، وهو خطأ نحوي ظاهر.
(٢) ورد في جميع المصادر بزيادة، وطرفه: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" أخرجه أحمد (٢/ ٢٤٩، ٢٧٤، ٢٤١)، البخاري (٨٧٦) كتاب: الجمعة، باب: فرض الجمعة، ومسلم (٨٥٥) كتاب: الجمعة، باب: هداية هذه الأمة، والدارقطني (٢/ ٣)، والثعلبي ٢/ ١٦٦ ب، والبيهقي: الطهارة/ الغسل على من أراد الجمعة (١/ ٢٩٧، والبيهقي في "الدلائل" ٥/ ٤٧٥، والبغوي ٥/ ٥٢، والبغوي في شرح السنة: الجمعة/ فرض الجمعة ٤/ ٢٠٠، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٥، وهود الهواري ٢/ ٣٩٥، والخازن ٣/ ١٤١، وابن كثير ٢/ ٦٥٢.
(٣) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٩ أ، وهود الهواري ٢/ ٣٩٥.
(٤) ورد في "تفسير الطبري" ١٤/ ١٩٣، بنصه، والثعلبي ٢/ ١٦٦ أ، بنصه، و"تفسير الماوردى" ٣/ ٢٢٠، بنصه، والطوسي ٦/ ٤٣٨، بنصه.
230
اختلافهم (١)، وهذا القول أيضًا في الفساد كالأول، ولم يرو (٢) أحدٌ أن اليهود اختلفوا في اختيار السبت حتى مال بعضهم إلى الجمعة، ولكن لمّا أشكل على هؤلاء وجه اختلافهم في السبت تخبطوا واضطربوا حتى أتوا بما لا وجه له.
وفي الآية قولٌ ثانٍ، وهو ما رواه عطاء عن ابن عباس قال: ﴿عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، يريد تهاونوا وصادوا فيه وتعدوا (٣).
وقال قتادة: استحله بعضهم وحرمه بعضهم (٤).
وهذا قول سعيد بن جبير، وعلى هذا معنى اختلافهم في السبت: اختلافهم في استحلاله بالصيد فيه، وتحريمُه: ما ذكر الله تعالى قصتهم في سورة الأعراف [١٦٣] زمن داود، والوجه هو القول الأول؛ لأن السبت جعل عليهم من أول ما اختاروه لا من زمن داود -عليه السلام-، ومعنى فجعل عليهم: أي جعل ذلك اليوم عقوبة وتشديدًا عليهم، ولم يجعل لهم ذلك اليوم كما ذكر الكلبي: أنهم لما تركوا الجمعة وأرادوا السبت بَدَلَها، جعل عليهم السبت وشدّد عليهم فيه، والآية تدل على نسخ ما سبق من الشريعة
(١) انظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٤٨، وابن عطية ٨/ ٥٤٤، وأبي حيان ٥/ ٥٤٨، و"تفسير الألوسي" ١٤/ ٢٥٣.
(٢) في (ش)، (ع): (يروا) من الرؤية، والمثبت أصح من الرواية؛ كما هو السياق.
(٣) ورد غير منسوب في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٣٨، بمعناه.
(٤) أخرجه الطبري ١٤/ ١٩٤ بنصه، عن سعيد عن قتادة، ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١١٢، بنصه، عن سعيد عن قتادة، و"تفسير الثعلبى" ٢/ ١٦٦ ب، بنصه عن قتادة، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٥٢، عن قتادة، وابن الجوزي ٤/ ٥٠٥، عن قتادة، والخازن ٣/ ١٤٢، عن قتادة، وورد غير منسوب في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٣٩٥، بنصه.
231
في السبت بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-، حيث أخبر أن السبت جعل عليهم ولم يجعل علينا.
وذكر بعض أهل المعاني أن وجه اتصال معنى هذه الآية بمعنى الآية السابقة هو: أنه لمّا أُمر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- باتباع الحق، حذر من الاختلاف عليه فيه بما ذكر من حال الذين اختلفوا على نبيهم في السبت بما ليس لهم أن يختلفوا فيه، فشدد عليهم أمره وضيق (١).
وذكر أبو إسحاق القولين في هذه الآية فقال: جاء في التفسير أنهم أُمروا بأن يتخذوا الجمعة عيدًا، فخالفوا وقالوا: نريد يوم السبت، واختار القول الأول فقال: هو أدل على ما جاء في الاختلاف في السبت (٢).
١٢٥ - قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ قال ابن عباس: دين ربك (٣).
﴿بِالْحِكْمَةِ﴾ قال أهل التفسير: بالنبوة (٤)، ﴿وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ يعني مواعظ القرآن، ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي افتلهم عما هم عليه، غير فظ ولا غليظ القلب في ذلك، أي ألن لهم جانبك (٥)، ومعنى: {بِالَّتِي هِيَ
(١) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٣٨، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٠٠.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٣، بنصه.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٩٥، وورد بلفظه غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٩ أ، والسمرقندي ٢/ ٢٥٥، والثعلبي ٢/ ١٦٦ ب، والخازن ٣/ ١٤٢.
(٤) ورد بلفظه في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٣، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٥، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٢٠، والطوسي ٦/ ٤٤٠، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٥٠٦، والخازن ٣/ ١٤٣، وأبي حيان ٥/ ٥٤٩.
(٥) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٣، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٥٠٦.
أَحْسَنُ} بالكلمة التي هي أحسن.
قال مجاهد: أي أعرض عن أذاهم إياك كله (١)، قال: لا تقابلهم بسوء، وهذا قبل الأمر بالقتال.
وقال عطاء عن ابن عباس: ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ بلا إله إلا الله (٢)، كأنه قال: جادلهم بهذه الكلمة، ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ﴾ إلى آخرها، معناه: هو أعلم بالفريقين، فهو يأمرك فيهما بما فيه الصلاح.
١٢٦ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا﴾ الآية. هذه الآية فيها ثلاثة أقوال للمفسرين:
أحدها: وهو الذي عليه العامة، أنها نزلت لمّا قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حين نظر إلى حمزة وقد مُثِّلَ به: "والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك"، فنزل جبريل والنبيّ -صلى الله عليه وسلم- واقف بعد، بخواتيم سورة النحل، فصبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكفّر عن يمينه وأمسك عما أراد، هذا قول ابن عباس في رواية عطاء وأبي بن كعب والشعبي (٣)، وعلى هذا قالوا: سورة النحل كلها مكية إلا هذه الآيات
(١) "تفسير مجاهد" ص ٣٥٥ بنصه، أخرجه الطبري ١٤/ ١٩٤ بنصه من طريقين، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٥٥، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٥٠٦، بنصه، و"تنوير المقباس" ص ٢٩٥ بنصه.
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (٧/ ٣٦٦) بمعناه عن الشعبي، وأحمد ٥/ ١٣٥، بنحوه من طريقين عن أُبي، والترمذي كتاب: التفسير/النحل، بمعناه عن أُبي وحسنه، والنسائي في "التفسير" ١/ ٦٤١، بمعناه عن أُبي، والطبري ١٤/ ١٩٥، بنحوه عن عطاء بن يسار، إلا أن فيها: لنُمثلنَّ بثلاثين رجلاً منهم، والطبراني في "الكبير" ١١/ ٦٢، بنحوه عن ابن عباس، وفيه: لأمثلن بثلاثين، والحاكم: التفسير، النحل (٢/ ٣٥٩) بمعناه عن أبي وقال صحيح الإسناد، والبيهقي في "الدلائل" ٣١/ ٢٨٨ - ٢٨٩، بنحوه عن ابن عباس، وبمعناه عن أُبي، والواحدي =
233
الثلاث، فإنها نزلت بالمدينة (١).
القول الثاني: أن هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد حين كان المسلمون قد أمروا بقتال من يقاتلهم ولا يبدؤوا بالقتال، وهو قوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ [البقرة: ١٩٠]، وفي هذه الآية أُمروا أن يعاقبوا بمثل ما أصابهم من العقوبة ولا يزيدوا، فلما نزلت سورة برآءة نُسخت هذه الآية، كما نُسخ قولُه: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآية. وهذا قول ابن عباس والضحاك (٢).
= في "أسباب النزول" ص ٢٩١ بنحوه عن أبي هريرة وابن عباس، وورد بنحوه في "سيرة ابن هشام" ٣/ ٤٧، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١١٣ وقال: فأمَّا حديث أبي هريرة وابن عباس فإسنادهما ضعيف، وورد في: "تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٤، بنحوه عن الشعبي وعطاء، والسمرقندي ٢/ ٢٥٦، بنحوه عن ابن عباس، والطوسي ٦/ ٤٤٠، عن الشعبي وعطاء، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٥٠٧، عن ابن عباس وأُبي، وابن كثير ٢/ ٦٥٢ - ٦٥٣، عن عطاء بن يسار، وقال: وهذا مرسل، وفيه رجل مبهم لم يسم، كما ذكر أنه روي متصلاً وعزاه إلى البزار عن أبي هريرة، وقال: وهذا إسناد فيه ضعف؛ لأن صالحاً هو ابن بشير المري ضعيف عند الأئمة، وقال البخاري هو منكر الحديث، وأورده كذلك بنحوه عن الشعبي وأُبي، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٥٥، بمعناه وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه عن أبي بن كعب، وأورده بنحوه، ٤/ ٢٥٥، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس، والحديث يرتقي بكثرة طرقه إلى الحسن لغيره، وقد حسّنه الترمذي كما صححه الحاكم، وقال الألباني: حسن صحيح الإسناد. "صحيح سنن الترمذي" (٣١٢٩).
(١) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٦ ب، بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٢٥، والفخر الرازي ١٩/ ٢١٧.
(٢) أخرجه الطبري ١٤/ ١٩٦، بمعناه عن ابن عباس من طريق العوفي ضعيفة، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١١٢، عن الضحاك، و"تفسير الثعلبي" =
234
القول الثالث: أن هذه الآية نزلت في نهي المظلوم أن ينال من ظالمه أكثر مما نال منه، وهذا قول مجاهد وإبراهيم وابن سيرين وسفيان (١)؛ قال مجاهد في هذه الآية: لا تعتدوا (٢).
وقال ابن سيرين: يقول: إنْ أَخذَ رجلٌ منك شيئًا فخذ منه مثله (٣)، ونحوه لفظ إبراهيم.
وقال سفيان: لا تأخذ دينارًا مكان درهم (٤)، وعلى هذا القول: الآية محكمة (٥).
غير أن علي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه
= ٢/ ١٦٧ أ، عنهما، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٤١، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٥٣، عنهما، وابن الجوزي ٤/ ٥٠٨، عنهما، والخازن ٣/ ١٤٣، عنهما، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٥٦، وزاد نسبته إلى ابن مردويه عن ابن عباس، وقد مضى الرد على المبالغة في دعوى نسخ بعض الآيات بآية السيف عند آية [٨٥]، من الحجر ١/ ٣٥٩.
(١) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٧ أ، بنحوه عنهم، والطوسي ٦/ ٤٤١، بنحوه عنهم عدا سفيان.
(٢) "تفسير مجاهد" ٣٥٥، بلفظه، أخرجه الطبري ١٤/ ١٩٧ بلفظه من طريقين، وورد في: "تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٤، بمعناه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٢١ بمعناه، وانظر:"تفسير ابن كثير" ٢/ ٦٥٢، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٥٦، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(٣) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ٢/ ٣٦١ بنصه عنهما، والطبري ١٤/ ١٩٧، بنصه عنهما، وورد في: "تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٤، بمعناه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٢١، بمعناه، وانظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ٦٥٢، عنهما، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٥٦، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ٢/ ٣٦١ بمعناه، والطبري ١٤/ ١٩٧ بمعناه.
(٥) وهو ما رجحه الطبري في ١٤/ ١٩٧، والفخر الرازي ٢٠/ ١٤٣.
235
الآية وقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُم﴾ الآية، [البقرة: ١٩٤] وقوله: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ﴾ [الشورى: ٤١]، وقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ الآية، [الشورى: ٤١] بمكة، والمسلمون يومئذ قليل، ليس لهم سلطان يقهر المشركين، فأمر الله المسلمين أن يجازوا بمثل ما أتى إليهم أو يصبروا فهو أمثل، فلما هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وأعز الإسلام، أَمرَ المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى (١) سلطانهم، وأن لا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية، فقال: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ الآية. [الإسراء: ٣٣] يقول: ينصره السلطان حتى ينصفه من ظالمه، فمن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاص مسرف قد عمل بحمية الجاهلية ولم يرض بحكم الله (٢)، فعلى هذا نُسخ من الآية أن يتولى المظلوم أخذَ القصاص، بل يجب أن يرفع ذلك إلى السلطان حتى يعاقب خصمه بمثل ما عاقبه، ثم أخبر أن الصبر خير وأفضل، فقال: ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُم﴾، أي: عن المجازاة بالمُثْلَة، أو على ما يصيبكم من أذى المشركين، أو على ظلم من ظلمكم، ﴿لَهُوَ﴾، أي: الصبر، ﴿خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾.
١٢٧ - ثم أمر نبيه -عليه السلام- بالصبر عزمًا، فقال: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾، أي: بتوفيقه ومعونته، ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾، أي: على المشركين
(١) في (أ)، (د): (أي)، والمثبت هو الصحيح وموافق للمصادر.
(٢) أخرجه الطبري ٢/ ١٩٩، بنحوه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، والبيهقي في السنن: الجنايات/الولي لا يستبد بالقصاص دون الإمام (٨/ ٦١) بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ١/ ٣٧٣، بنصه وزاد نسبته إلى أبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم.
236
بإعراضهم عنك، وقيل: على قتلى (١) أُحد؛ فإنهم أفضوا إلى رحمة الله وكرامته (٢).
وقوله: ﴿وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُون﴾، قراءة العامة بفتح الضاد (٣)، واختاره أبو عبيد، وقال: لأن الضِّيق بالكسر في قلة المعاش والمساكن، وما كان في القلب فإنه الضَّيْق (٤).
وقال أبو عمرو: الضَّيْق، بفتح الضاد: الغَمُّ، والضِّيق، بالكسر: الشدة (٥)، ونحو هذا قال الفراء: الضَّيْق: ما ضاق عنه صدرك، والضَّيق: ما يكون في الذي يتسع؛ مثل الدار والثوب وأشباه ذلك (٦).
وقال أبو عبيدة: ضَيْق تخفيف ضَيِّق، مثل مَيِّت، يقال: أمر ضَيْق وضَيّق (٧).
وقال أبو الحسن الأخفش: الضيق: مصدر ضاق يضيق ضَيْقًا،
(١) في جميع النسخ: (قتل)، والصحيح المثبت.
(٢) انظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٥٥٠، وصوب الأول؛ وعليه يكون عود الضمائر على جهة واحدة، وذكر كذلك ابن الجوزي ٤/ ٥٠٨، الوجهين، ونسب الأول لابن عباس، وعزا الثاني للواحدي.
(٣) انظر: "السبعة" ص ٣٧٦، و"علل القراءات" ١/ ٣١٠، و"الحجة للقراء" ٥/ ٨٠، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٦، و"الكشف عن وجوه القراءات" ٢/ ٤١، و"التيسير" ص ١٣٩، و"تلخيص العبارات" ص ١١١، و"المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧٤٦.
(٤) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٧ أ، بنصه تقريبًا، وانظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١٤٤.
(٥) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٦٧ أ، بنصه، وفي "علل القراءات" ١/ ٣١١، عن أبي عمرو: والضَّيق الشيء الضَّيِّق، والضِّيق المصدر.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ١٥٥، بنصه، وانظر: "تهذيب اللغة" (ضيق) ٣/ ٢٠٨٢، بنصه.
(٧) "مجاز القرآن" ١/ ٣٦٩، بنحوه، وهو قول ابن قتيبة كذلك. انظر: "الغريب" لابن قتيبة ص ٢٤٩.
237
وضِيْقًا، لغتان في المصدر (١).
قال أبو علي: وينبغي أن يحمل ضيق هاهنا على أنه مصدر لا على ما قال أبو عبيدة؛ لأن فيه (٢) إقامة الصفة مقام الموصوف من غير ضرورة (٣)، ولأن المعنى: لا تكن في ضيق، أي لا يضق (٤) صدرك من مكرهم، كما قال: ﴿وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ [هود: ١٢]، وليس المعنى: ولا تَكُ في أمرٍ ضَيِّق (٥)، وقرأ ابن كثير في ﴿ضِيق﴾ بكسر الضاد (٦)، وهما لغتان كما قال أبو الحسن، فمن كسر في معنى من فتح (٧)، وذكرنا أبلغ وأتم من هذا في
(١) لم أجده في معانيه، وورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٨٠، بنحوه، وفي تفسيره "الوسيط"، تحقيق سيسي ٢/ ٤٦١، بنصه، وانظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٠٣.
(٢) أي في حمله على أنه مخفف من ضَيّق.
(٣) ودعواه هذه بينها ابن عطية؛ فقال: إن الصفة إنما تقوم مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف من نفس الصفة، كما تقول رأيت ضاحكًا فإنما تخصص الإنسان، ولو قلت رأيت باردًا لم يحسن كما قال سيبويه وضيق لا يخصص الموصوف، وقد أجاز الفخر الرازي إقامة الموصوف مقام الصفة في هذه الآية لفائدة، وهي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب، وصار كالقميص المحيط به، فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى. انظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٥٥١، والفخر الرازي ٢٠/ ١٤٣، وأبي حيان ٥/ ٥٥٠.
(٤) في جميع النسخ: (لا يضيق)، وهو خطأ نحوي، والتصويب من المصدر.
(٥) "الحجة للقراء" ٥/ ٨٠، بتصرف يسير.
(٦) انظر: "السبعة" ص ٣٧٦، و"علل القراءات" ١/ ٣١٠، و"الحجة للقراء" ٥/ ٧٩، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٦، و"الكشف عن وجوه القراءات" ٢/ ٤١، و"التيسير" ص ١٣٩، و"تلخيص العبارات" ص ١١١، و"المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧٤٦.
(٧) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٨٠، بنصه تقريبًا، وإليه ذهب ابن السِّكِّيت في "الإصلاح" ص ٣٢ فقال: ويقال في صدر فلان ضِيقٌ وضَيْق، ومكانٌ ضَيِّقٌ وضَيْقٌ، وكذلك ابن قتيبة في "أدب الكاتب" ص ٥٢٨، وقال السمرقندي ٢/ ٢٥٦: ومعناهما واحد؛ أي: لا يضق صدرك مما يقولون لك ويصنعون بك.
238
سورة النمل [آية: ٧٠].
١٢٨ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ قال ابن عباس: يريد خَافَوْني ولم يشركوا بي شيئًا، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ يريد موحدون، وقال الحسن: اتقوا الله فيما حرم عليهم وأحسنوا فيما افترض عليهم (١)، ونحوه قال الكلبي: اتقوا الفواحش والكبائر (٢).
﴿وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾: في العمل. وقال الزجاج في هذه الآية: قد وعدوا النصر (٣)، أي أن الله ناصرهم كما قال: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: ٤٠].
(١) أخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (٢/ ٣٦٤) بنصه، وأخرجه الطبري ١٤/ ١٩٨ بنصه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١١٤، بنحوه، وانظر: "الدر المنثور" ٤/ ٢٥٦، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) ورد بنصه غير منسوب في "تفسير الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٦١، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٠٣، و"تنوير المقباس" ص ٢٩٥.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٤، بنحوه.
239
سورة الإسراء
241
Icon