ﰡ
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾؛ أي (١): دنا واقترب ما وعدتم به أيها الكفرة؛ أي: أتى العذاب الموعود لكم أيها الكفرة ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾، أي: أمر الله ووقوعه، إذ لا خير لكم فيه، ولا خلاص لكم منه، واستعجالهم وإن كان بطريق الاستهزاء، لكنه حمل على الحقيقة، ونهوا عنه بضرب من التهكم.
الاستعجال طلب الشيء قبل حينه، وقيل أمر الله يوم القيامة، وعبَّر بالماضي عن المضارع لقرب وقوعه وتحققه، والحاصل (٢) أن النبي - ﷺ - لما أكثر من تهديدهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، ولم يروا شيئًا.. نسبوه إلى الكذب، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾؛ أي: قد حصل حكم الله بنزول العذاب من الأزل إلى الأبد، وإنما لم يحصل المحكوم به؛ لأنه تعالى خصص حصوله بوقت معين. ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾؛ أي: فلا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت، ولما قالت الكفرة: إنا سلمنا لك يا محمد صحة ما تقوله، من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا، إما في الدنيا، وإما في الآخرة إلا أنَّا نعبد هذه الأصنام، فإنها شفعاؤنا عند الله، فهي تشفع لنا عنده، فنتخلص من هذا العذاب المحكوم به، بسبب شفاعة هذه الأصنام، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: ﴿سُبْحَانَهُ﴾؛ أي: تنزيهًا له وتقديسًا عن الصاحبة والولد ﴿وَتَعَالَى﴾؛ أي: تبرأ وترفع ﴿عمَّا يُشْرِكُونَ﴾؛ أي: عن إشراكهم به غيره، أو عما يشركون به تعالى من الأصنام والأوثان، فنزه الله تعالى نفسه عن شركة الشركاء، وأن يكون لأحد أن يشفع عنده إلا بإذنه، وقرأ حمزة والكسائي: ﴿أَتَى﴾ بالإمالة ذكره في "زاد المسير".
(٢) المراح.
وعبارة "المراغي" هنا: ﴿أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾؛ أي: قرب عذاب المشركين وهلاكهم، أما إتيانه بالفعل وتحققه فمنوط بحكم الله النافذ، وقضائه الغالب على كل شيء، فهو يأتي في الحين الذي قدره وقضاه، ونظم سبحانه المتوقع في صورة المحقق، إيذانًا بأنه واجب الوقوع، والشيء إذا كان بهذه المثابة يسوغ في عرف التخاطب أن يعد واقعًا، ومعنى قوله: ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ لا تطلبوا حصوله قبل حضور الوقت المقدر في علمه تعالى.
وفي هذا (١): تهديد من الله لأهل الكفر به وبرسوله، وإعلامٌ منه لهم بقرب عذابهم وهلاكهم الذي لا بد منه، ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾؛ أي: تبرأ الله تعالى عن الشريك والشفيع الذي يدفع الضر عنكم، وفي هذا رد لمقالهم حين قالوا: لئن حكم الله علينا بإنزال العذاب في الدنيا أو في الآخرة.. لتشفعن لنا هذه الأصنام التي نعبدها من دونه.
وخلاصة هذا: أن تلك الجمادات الخسيسة التي جعلتموها شركاء لله وعبدتموها هي أحقر الموجودات، وأضعف المخلوقات، فكيف تجعلونها شريكةً لله في التدبير والشفاعة في الأرض والسموات.
وتقدير هذا الكلام: (٣) أنه تعالى ينزل الملائكة على من يشاء من عبيده، ويأمر الله ذلك العبد الذي نزلت عليه الملائكة بأن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله العالم واحد، كلفهم بمعرفة التوحيد وبالعبادة له، وبين أنهم إن فعلوا.. فازوا بخيري الدنيا والآخرة، وإن تمردوا.. وقعوا في شر الدنيا والآخرة، فبهذا
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (١): ﴿يُنَزِّلُ﴾ بإسكان النون وتخفيف الزاي، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: ﴿يُنَزِّلُ﴾ بالتشديد، وقرأ زيد بن علي والأعمش وأبو بكر: ﴿تُنَزَّلُ﴾ مشددًا مبنيًّا للمفعول ﴿المَلائِكَةُ﴾، وقرأ الجحدري كذلك إلا أنه خفَّف، وقرأ الحسن وأبو العالية والأعرج والمفضَّل عن عاصم ويعقوب: ﴿تَنَزَّلُ﴾ بفتح التاء مشددًا مبنيًّا للفاعل، وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿نُنزِّلُ﴾ بنون العظمة والتشديد، وقتادة بالنون والتخفيف، قال ابن عطية: وفيهما شذوذ كثير. انتهى.
وشذوذهما أن ما قبله وبما بعده ضمير غيبة، ووجه بأنه التفات. وقرىء ﴿ليُنْذرُوا أنَّه﴾ وقرأ يعقوب ﴿فاتَّقُوني﴾ بالياء، ذكره "النسفيُّ"، وفي الآية إيماء (٢) إلى أن الوحى من الله إلى أنبيائه لا يكون إلا بواسطة الملائكة، ويؤيد ذلك قوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ فقد بدأ بذكر الملائكة؛ لأنهم الذين يتلقون الوحي من الله بلا وساطة، وذلك الوحي هو الكتب، وهم يوصلون هذا الوحي إلى الأنبياء، لا جرم جاء الترتيب على هذا الوضع.
٣ - ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾؛ أي: خلق سبحانه وتعالى وأنشأ وأوجد العالم العلوي، وهو السموات، والعالم السفلي، وهو الأرض بما حوت على غير مثال سابق؛ أي: خلق الأجرام العلوية والآثار السفلية خلقًا متلبِّسًا ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالحكمة والمصلحة على نهج تقتضيه الحكمة، ولم يخلقهما عبثًا منفردًا بخلقهما لم يشركه في إنشائهما وإحداثهما شريك، ولم يعنه على ذلك معين ﴿تَعَالَى﴾ الله سبحانه عن ذلك، إذ ليس في قدرة أحد سواه أن ينشىء السموات والأرض، فلا تليق العبادة إلا له، تقدس سبحانه ﴿عمَّا يُشْرِكُونَ﴾؛ أي: عن إشراكهم أو عن
(٢) المراغي.
إِنَّما الْكَوْنُ خَيَالٌ | وَهْوَ حَقٌّ فِي الْحَقِيْقَهْ |
والمعنى: أي (٢) خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من نطفة؛ أي: من ماء مهين خلقًا عجيبًا في أطوار مختلفة، ثم أخرجه إلى ضياء الدنيا بعد ما تم خلقه، ونفخ فيه الروح، فغذاه ونماه ورزقه القوت، حتى إذا استقل ودرج نسي الذي خلقه خلقًا سويًّا من ماء مهين، بل خاصمه فقال: ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ وعبد ما لا يضر ولا ينفع ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (٥٥)﴾ وكان حقه والواجب عليه أن يطيع وينقاد لأمر الله، وأكثر ما ذكر الإنسان في القرآن في معرض الذم، أو مردفًا بالذم، ذكره أبو حيان في "البحر".
٥ - ولمَّا ذكر (٣) الله سبحانه وتعالى أنه خلق السموات والأرض، ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان.. ذكر بعده ما ينتفع به في سائر ضروراته، ولمَّا كان أعظم ضرورات الإنسان الأكل واللباس اللذين يقوم بهما بدن الإنسان.. بدأ بذكر الحيوان المنتفع به في ذلك، وهو الأنعام فقال: ﴿وَالْأَنْعَامَ﴾؛ أي: الإبل والبقر والغنم والمعز، جمع نعم، وهي الأجناس الأربعة، المسماة بالأزواج الثمانية، اعتبارًا للذكر والأنثى، فالخيل والبغال والحمير خارجة من الأنعام، وانتصابها بفعل مضمر يفسره قوله: ﴿خَلَقَهَا لَكُمْ﴾؛ أي: خلق الله سبحانه وتعالى الأنعام المذكورة لمنافعكم ومصالحكم يا بني آدم، وكذا سائر المخلوقات، فإنها خلقت لمصالح العباد ومنافعهم لا لها، يدل عليه قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ وقوله: ﴿سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وأمَّا الإنسان فقد خلق له تعالى كما قال: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ وقرىء: ﴿الأنعامُ﴾ بالرفع شاذًّا، كما ذكره
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
وقرأ الزهري وأبو جعفر (٢): ﴿دِفْءٌ﴾ بضم الفاء وشدِّها وتنوينها، ووجهه أنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء ثم حذفها ثم شدد الفاء إجراء للوصل مجرى الوقف، إذ يجوز تشديدها في الوقف، وقرأ زيد بن عليّ ﴿دفٌ﴾ بنقل الحركة وحذف الهمزة دون تشديد الفاء، وقال صاحب "اللوامح" قرأ ﴿دفٌ﴾ بضم الفاء من غير همزٍ، والفاء محركة بحركة الهمزة المحذوفة، ومنهم من يعوض من هذه الهمزة فيشدد الفاء، وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفًا.
وخص منفعة (٣) الأكل بالذِّكر مع دخولها تحت المنافع لأنها أعظمها، وقيل: خصها لأن الانتفاع بلحمها وشحمها تعدم عنده عينها، بخلاف غيره من المنافع التي فيها، وتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص للإشارة إلى أن الأكل منها هو الأصل، وغيره نادر،
٦ - ﴿وَلَكُمْ فِيهَا﴾؛ أي: في هذه الأنعام مع ما فُصِّل من أنواع المنافع ﴿جَمَالٌ﴾؛ أي: زينةٌ في أعين الناظرين إليها ووجاهة عندهم ﴿حِينَ تُرِيحُونَ﴾؛ أي: حين تردونها بالعشي من مسارحها إلى منازلها، التي تأوي إليها ﴿وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾؛ أي: وحين تخرجونها من مراحها إلى مسارحها بالغداة،
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
فيعظم أربابها في أعين الناظرين إليها، وقدم المَرَاح على السَّرَاح مع تأخرها في الوجود لأن الجمال فيها أظهر، وجلب السرور فيها أكمل، ففيها حضور بعد غيبه، وإقبال بعد إدبار، على أحسن ما يكون، إذ تكون ملأى البطون حافلة الضروع.
وفي "الخازن" (١): فإن قلت: لِمَ قدمت الإراحة على التسريح؟
قلتُ: لأن الجمال في الإراحة، وهو رجوعها إلى البيوت أكثر منها وقت التسريح؛ لأن النعم تقبل من المرعى ملأى البطون، حافلة الضروع، فيفرح أهلها بها، بخلاف تسريحها إلى المرعى، فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع من اللبن، ثم تأخذ في التفرق والانتشار للرعي في البرية، فثبت بهذا البيان أن التجمل في الإراحة أكثر منه من التسريح، فوجب تقديمه، وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري: ﴿حِيْنًا﴾ فيهما بالتنوين وفك الإضافة، وجعلوا الجملتين صفتين حذف منهما العائد، كقوله: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي﴾.
٧ - ﴿و﴾ هذه الأنعام ﴿تَحْمِلُ﴾ أيضًا ﴿أَثْقَالَكُمْ﴾؛ أي: أمتعتكم وأحمالكم، والمراد بها هنا الإبل خاصة، جمع ثقل بفتحتين وهو متاع المسافر ﴿إِلَى بَلَدٍ﴾ بعيدٍ غير بلدكم أيًّا ما كان، فيدخل فيه إخراج أهل مكة متاجرهم إلى اليمن ومصر والشام ﴿لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ﴾؛ أي: بالغي ذلك البلد الذي تقصدونه؛ أي: واصلين إليه بأنفسكم مجردين عن الأثقال لولا الإبل؛ لو لم تخلق الإبل فرضًا، والاستثناء في قوله (٢): ﴿إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ﴾؛ أي: إلا بتعب الأنفس، فضلًا عن استصحابها معكم؛ أي: عن أن تحملوها على ظهوركم إليه مفرغ من أعم الأشياء؛ أي: لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلا بكلفةٍ ومشقةٍ وجهدٍ شديدٍ وعناءٍ وتعبٍ، والشقُّ نصف الشيء، والمعنى على هذا: لم تكونوا بالغيه إلا
(٢) روح البيان.
وقد امتن الله (١) سبحانه على عباده بخلق الأنعام على العموم، ثم خص الإبل بالذكر لما فيها من نعمة حمل الأثقال دون البقر والغنم، ﴿إِنَّ رَبَّكُمْ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَرَءُوفٌ﴾؛ أي: عظيم الرأفة والرفق بكم ﴿رَحِيمٌ﴾؛ أي: عظيم الإنعام عليكم، ومن ثم أسبغ عليكم نعمه الجليلة، ويسر لكم الأمور الشاقة العسيرة، ومن رأفته ورحمته بكم أن خلق لكم الأنعام لمنافعكم ومصالحكم، كما قال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (٧٢)﴾.
وقال أبو حيان: وناسب (٢) الامتنانَ بهذه النعمة من حملها الأثقال الختم بصفة الرأفة والرحمة، لأن من رأفته تيسير هذه المصالح وتسخير الأنعام لكم اهـ.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿بِشِق﴾ بكسر الشين، وقرأ مجاهد والأعرج وأبو جعفر وعمر بن ميمون وابن أرقم: بفتحها، ورويت عن نافع وأبي عمرو، وهما مصدران معناهما المشقة، وقيل الشق بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم،
٨ - وقوله: ﴿وَالْخَيْلَ﴾ عطف على الأنعام؛ أي: وخلق الله سبحانه وتعالى لكم الخيل ﴿وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا﴾ تعليلٌ بمعظم منافعها، وإلا فالانتفاع بها بالحمل أيضًا مما لا ريب في تحققه ﴿و﴾ جعلها لكم ﴿زينة﴾ تتزينون بها إلى ما لكم فيها من منافع أخرى.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿وَالْخَيْلَ﴾ وما عطف بالنصب، عطفًا على قوله:
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
(٤) البحر المحيط.
والبغال جمع بغل وهو مركب من الفرس والحمار، ويقال أول من استنتجتها قارون، وله صبر الحمار وقوة الفرس، وهو مركب الملوك في أسفارهم، ومعبرة الصعاليك في قضاء أوطارهم، وعن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أنَّ البغال كانت تتناسل، وكانت أسرع الدواب في نقل الحطب لنار إبراهيم خليل الرحمن - عليه السلام - فدعا عليها فقطع الله نسلها، وهذه الرواية تستدعي أن يكون استنتاجها قبل قارون؛ لأن إبراهيم مقدم على موسى بأزمنة كثيرة، وإذا بخر البيت بحافر البغل الذكر.. هرب منه الفأر وسائر الهوام، كما في "حياة الحيوان"، وكان له - ﷺ - بغال ست، والحمير جمع حمار، وكان
وَلاَ يُقِيْمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ | إلا الأذَلَّانِ عِيْرُ الْحَيِّ وَالْوَتَدُ |
هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوْطٌ بِرُمَّتِهِ | وَذَا يُشَجُّ فَلاَ يَرْثِى لَهُ أَحَدُ |
فصلٌ في ذكر الاختلاف في لحوم الخيل
وقد استدل (٢) بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل، قائلين بأن التعليل بالركوب يدل على أنها مخلوقةٌ لهذه المصلحة دون غيرها، قالوا: ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام، فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل، قالوا: ولو كان أكل الخيل جائزًا.. لكان ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب؛ لأنه أعظم فائدة منه، وقد ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة وأصحابهما، والأوزاعي ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم، وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدثين وغيرهم إلى حل لحوم الخيل، ولا حجة لأهل القول الأول في التعليل بقوله: ﴿لِتَرْكَبُوهَا﴾؛ لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره،
(٢) الشوكاني.
وقال البغوي (٢): ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم، بل المراد منها: تعريف الله عباده نعمه، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته، والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أن السنَّة مبنية للكتاب، ولما كان نص الآية يقتضي أن الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة وكان الأكل مسكوتًا عنه.. دار الأمر فيه على الإباحة والتحريم، فوردت السنة بإباحة لحوم الخيل، وتحريم لحوم البغال والحمير فأخذنا بها جمعًا بين النصين، والله أعلم.
﴿وَيَخْلُقُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أيها العباد؛ أي: ما لا يحيط علمكم به من المخلوقات، غير ما عدده هنا من أنواع الحشرات والهوام في
(٢) الخازن.
والتعبير (١) هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة بالنسبة إلى ما ظهر؛ لأنه تعالى قد خلق ما لا يعلم به العباد،
٩ - وبعد أن شرح سبحانه دلائل وحدانيته، أرشد إلى أنه كفيل ببيان الطريق السوي لمن أراده، فقال: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾؛ أي: وعلى الله سبحانه وتعالى بموجب رحمته وبمقتضى وعده المحتوم، لا واجب عليه إذ لا يجب عليه شيءٌ، بيان قصد المسبيل؛ أي: بيان الطريق المستقيم، الموصل من سلكه إلى الحق والتوحيد بنصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام، وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، ونحو الآية قوله: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾، وقوله: ﴿هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾.
والقصد (٢): مصدر بمعنى اسم الفاعل، يقال: سبيل قصد وقاصد؛ أي: مستقيم، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: إلى سبيل القصد؛ أي: المستوي المستقيم، أو المعنى: وعلى الله قاصد السبيل؛ أي: هداية قاصد الطريق المستقيم، بموجب وعده المحتوم وتفضله الواسع.
﴿وَمِنْهَا﴾؛ أي: من السبل سبيل ﴿جَائِرٌ﴾؛ أي: طريق مائلٌ عن الاستقامة، معوج زائغ عن الحق، فالسبيل القاصد هو الإِسلام، والجائر منها هو غيره من الأديان الأخرى، سماويةً كانت كاليهودية والنصرانية، أو أرضية كالوثنية والمجوسية.
(٢) روح البيان.
ثم أخبر سبحانه: بأن الهداية والضلال بقدرته ومشيئته، فقال: ﴿وَلَوْ شَاءَ﴾ الله سبحانه وتعالى أن يهديكم إلى ما ذكر من التوحيد هدايةً موصلة إليه.. ﴿لَهَدَاكم﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿أَجْمَعِينَ﴾؛ أي: لفعل ذلك، ولكن لم يشأ؛ لأن مشيئته متابعة للحكمة الداعية إليها، ولا حكمة في تلك المشيئة؛ أي (٢): ولو شاء سبحانه لجعلكم كالنمل والنحل في حياتكم الاجتماعية، أو جعلكم كالملائكة مفطورين على العبادة وتقوى الله، فلا تتجه نفوسكم إلى المعصية، ولا تسعى إلى الشر، ولكنه شاء أن يجعلكم تعملون أعمالكم باختياركم، وتسعون إليها بعد بحثها وفحصها من سائر وجوهها، ثم ترجحون منها ما تميل إليه نفوسكم، وما ترون فيه الفائدة لكم، كما قال عز من قائل: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)﴾؛ أي: طريق الخير والشر ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾.
والمعنى (٣): ولو شاء أن يهديكم جميعًا إلى الطريق الصحيح والمنهج الحق.. لفعل ذلك، ولكنه لم يشأ، بل اقتضت مشيئته إراءة الطريق والدلالة، وأما الإيصال إليها بالفعل فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافرٌ، ولا يستحقُّ النار من المسلمين، وقد اقتضت المشيئة الربانية أنه يكون البعض مؤمنًا، والبعض كافرًا، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع.
فإن قلت (٤): لِمَ غير أسلوب الكلام في قوله: ﴿وَمِنْهَا جَائِرٌ﴾؟
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.
١٠ - وبعد أن ذكر سبحانه نعمته عليهم بتسخير الدواب والأنعام، شرع بذكر نعمته عليهم في إنزال المطر فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي أَنْزَلَ﴾ بقدرته القاهرة ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ إلى السحاب ومنه إلى الأرض ﴿مَاءً﴾ عذبًا؛ أي: نوعًا منه وهو المطر، وفي "بحر العلوم": تنكيره للتبعيض؛ أي: بعض الماء، فإنه لم ينزل من السماء الماء كله ﴿لَكُمْ﴾ أيها الآدميون ولكلِّ حيٍّ ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من ذلك الماء المنزل ﴿شَرَابٌ﴾؛ أي: ما تشربونه، والظرف (١) الأول وهو لكم خبرٌ مقدم لشرابٌ، والثاني حال منه، ومن تبعيضية، قال الخطيب: وإن قيل: ظاهر هذا أن شرابنا ليس إلا من المطر.. أجيب بأنه تعالى لم ينف أن نشرب من غيره، وبتقدير الحصر لا يمتنع أن يكون الماء العذب الذي تحت الأرض من جملة ماء المطر أسكن هناك، بدليل قوله تعالى في سورة المؤمنون: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ﴾، ﴿وَمِنْهُ﴾؛ أي: ومن ذلك المنزل ﴿شَجَرٌ﴾ فـ ﴿من﴾ ابتدائية؛ أي: ومنه وبسببه يحصل شجر ترعاه المواشي، والمراد به: ما ينبت من الأرض سواء كان له ساق أو لا ﴿فِيهِ﴾؛ أي: في ذلك الشجر ﴿تُسِيمُونَ﴾؛ أي: ترعون مواشيكم، قدم الشجر على الزرع وعلى ما بعده لحصوله بغير صنع من البشر.
وقرأ زيد بن علي (٢): ﴿تُسِيمُونَ﴾ بفتح التاء، فإن سمع متعديًا.. كان هو وأسام بمعنى واحد، وإن كان لازمًا.. فتأويله على حذف مضاف تسيمون؛ أي: تسيم مواشيكم لما ذكر.
والمعنى (٣): أي إن الذي خلق لكم الأنعام والخيل وسائر البهائم لمنافعكم
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
١١ - ثم استأنف (١) إخبارًا عن منافع الماء، فقال جوابًا لمن قال: هل له منفعة غير ذلك؟ ﴿يُنْبِتُ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿لَكُمْ﴾ أيها العباد؛ أي: ينبت لمصالحكم ومنافعكم ﴿بِهِ﴾؛ أي: بما أنزل من السماء ﴿الزَّرْعَ﴾ الذي هو أصل الأغذية وعمود المعاشر، قال في "بحر العلوم": الزرع كل ما استنبت بالبذر مسمى بالمصدر وجمعه زروع.
قال كعب الأحبار: لما أهبط الله تعالى آدم عليه السلام.. جاء ميكائيل بشيء من حيث الحنطة وقال: هذا رزقك ورزق أولادك، قم فاضرب الأرض، وابذر البذر، قال: ولم يزل الحب من عهد آدم إلى زمن إدريس كبيضة النعام، فلما كفر الناس.. نقص إلى بيضة الدجاجة، ثم إلى بيضة الحمامة، ثم إلى قدر البندقة، ثم إلى قدر الحمصة، ثم إلى المقدار المحسوس الآن، يقال: إن اليوم لا يأكل الحنطة ولا يشرب الماء، أما الأول: فلأن آدم عصى بالحنطة ربه، وأما الثاني: فلأن قوم نوح أهلكوا بالماء.
وقرأ أبو بكر (٢): ﴿نُنْبِتُ﴾ بنون العظمة، وقرأ الزهري ﴿نُنَبِّتُ﴾ بالتشدد، قيل للتكثير والتكرير، والذي يظهر أنه تضعيف التعدية، وقرأ أُبيٌّ: ﴿يَنْبُت﴾ من نبت، ورفع الزرع وما عطف عليه، ﴿و﴾ ينبت لكم بذلك الماء ﴿الزيتون﴾ الذي هو إدام من وجه، وفاكهة من وجه، قال في "إنسان العيون": شجرة الزيتون تعمِّر ثلاثة آلاف سنة، وهو جمع زيتونة، ويقال للشجرة نفسها: زيتونة، ﴿و﴾ وينبت لكم ﴿النخيل﴾ والنخيل والنخل بمعنى واحد، وهو اسم جمع، والواحدة نخلة كالثمرة والثمر، وفي الحديث: "أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من فضل طينة آدم، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم ابنة عمران، فأطعموا نسائكم الولَّد الرطب، فإن لم يكن رطب فتمرٌ"، كما في
(٢) البحر المحيط.
وخصص هذه الأنواع الأربعة بالذكر للإشعار بفضلها وشرفها، وفي "البحر": وخص (١) الأربعة بالذكر؛ لأنها أشرف ما ينبت، وأجمعه للمنافع، وبدأ بالزرع لأنه قوت أكثر العالم، ثم بالزيتون لما فيه من فائدة الاستصباح بدهنه، وهي ضرورية مع منفعة أكله، والائتدام به، وبدهنه والإطلاء بدهنه، ثم بالنخل لأن ثمرته من أطيب الفواكه، وقوت في بعض البلاد، ثم بالأعناب لأنها فاكهة محضة.
ثم عمَّم فقال (٢): ﴿و﴾ ينبت لكم ﴿من كل الثمرات﴾؛ أي: بعض كلها، وأتى بلفظ ﴿من﴾ التي للتبعيض؛ لأن كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أُنبت في الأرض بعضٌ من كلها للتذكرة.
ويحتمل كون المراد ﴿وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ التي يحتملها هذه النشأة الدنيوية، وترى بها، وهي الثمرات المتعارفة عند الناس بأنواعها وأصنافها، فتكون كلمة ﴿مِنْ﴾ صلة كما في قوله تعالى: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ على رأي الكوفية وهو
(٢) روح البيان.
والمعنى: أي ينبت لكم بالماء الذي أنزله من السماء زرعكم وزيتونكم ونخيلكم وأعنابكم، ومن كل الثمرات غير ذلك أرزاقًا لكم، وأقواتًا نعمةً منه عليكم، وحجة على من كفر به، ولما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل.. أعقبه بقوله: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ كذلك هنا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، ثم قال: ﴿وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ تنبيهًا على أن تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها مما لا يكاد يحصر، كما أنَّ تفصيل ما خُلق من باقي الحيوان لا يكاد يحصر، وختم ذلك تعالى بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إن في إنزال الماء، وإنبات ما فصل ﴿لَآيَةً﴾ عظيمة دالة على تفرده تعالى بالألوهية، لاشتماله على كمال العلم والقدرة والحكمة ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾؛ أي: لقوم يعتبرون مواعظ الله، ويتفكرون فيها، حتى تطمئن قلوبهم بها، وينبلج نور الإيمان فيها يضيء أفئدتهم، ويزكي نفوسهم، فإن (١) من تفكر في أن الحبة والنواة تقع في الأرض، وتصل إليها نداوة تنفذ فيها، فينشق أسفلها، فيخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض، وينشق أعلاها إن كانت منتكسة في الوقوع ويخرج منه ساق فينمو، ويخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار، على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطبائع، وعلى نواةٍ قابلةٍ لتوليد الأمثال على النمط المحرر لا إلى نهاية، مع اتحاد المواد واستواء نسبة الطبائع السفلية، والتأثيرات العلوية بالنسبة إلى الكل.. علم أن من هذه أفعاله وآثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال، فضلًا عن أن يشاركه أخس الأشياء في صفاته التي هي الألوهية، واستحقاق العبادة، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، والتفكر تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب، قالوا: الذكر طريق والفكر وسيلة المعرفة التي هي أعظم الطاعات، ولله (٢) در القائل:
تَأمَّلْ في رِياضِ الْوَرْدِ وَانْظُرْ | إلى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيْكُ |
(٢) المراغي.
عُيُوْنٌ مِنْ لُجَيْنٍ شَاخِصَاتٌ | عَلَى أَهْدَابِهَا ذَهَبٌ لسَبِيْكُ |
عَلَى قَضْبِ الزَبَرَّجَدِ شَاهِدَاتٌ | بِأنَّ اللهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيْكُ |
﴿وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ﴾ مبتدأ وخبر؛ أي: سائر النجوم في حركاتها وأوضاعها من التثليث والتربيع ونحوها مسخرات؛ أي: مذللات لله تعالى خلقها ودبرها كيف شاء، أو لما خلقت له ﴿بِأَمْرِهِ﴾؛ أي: بإرادته ومشيئته، وحيث لم يكن عود منافع النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من الملوين والقمرين، لم ينسب تسخيرها إليهم بأداة الاختصاص، بل ذكر على وجه يفيد كونها تحت ملكوته تعالى، من غير دلالة على شيء آخر، ولذلك عدل عن الجملة الفعلية الدالة على الحدوث، إلى الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار.
والمعنى (٢): أي ومن نعمه تعالى عليكم مضافةً إلى النعم التي سلف ذكرها أن سخر لكم الليل والنهار، يتعاقبان خلفةً، لمنامكم واستراحتكم وتصرفكم في معايشكم وسعيكم في مصالحكم، وسخر لكم الشمس والقمر يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالةً وخلافة، وأدائهما ما نيط بهما من تربية الأشجار والزرع وإنضاج الثمرات وتلوينها، إلى نحو ذلك من الآثار والمنافع التي ربطها سبحانه
(٢) المراغي.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ﴾ التسخير المتعلق بما ذكر مجملًا ومفصلًا ﴿لَآيَاتٍ﴾ باهرة ودلالات واضحة متكاثرة ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ حجج الله، ويفتحون عقولهم للنظر والاستدلال، ويفهمون ما نبههم إليه بها، ويعتبرون، وعبر هنا (١) بالعقل، وفي خاتمة الآية السابقة بالتفكر، من قبل أن الآثار العلوية متعددة، ودلالة ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمة على الوحدانية ظاهرة لا تحتاج إلا إلى العقل من غير تفكر ولا تأمل، بل تدرك بالبديهة، بخلاف الآثار السفلية من الزرع والنخيل والأعناب فهي تحتاج في دلالتها على وجود الصانع إلى فكر وتدبر ونظر شديد، وجمع الآيات هنا ليطابق قوله: ﴿مُسَخَّرَاتٌ﴾، وفي "البحر": وجمع (٢) الآيات هنا، وذكر العقل وأفرد فيما قبل، وذكر التفكر؛ لأن فيما قبل استدلالًا بإنبات الماء، وهو واحد وإن كثرت أنواع النبات، والاستدلال هنا متعدد، ولأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة، وقد ذكر لفظ الآية في هذه السورة سبع مرات، خمس بالإفراد، واثنتان بالجمع، قال الكرماني: ما جاء بلفظ الإفراد فلوحدة المدلول، وهو الله تعالى، وما جاء منها بلفظ الجمع فلمناسبة مسخرات اهـ.
والأوَلَى أن يقال: إن هذه المواضع الثلاثة التي أفرد الآية في بعضها وجمعها في بعضها، كل واحد منها يصلح للجمع باعتبار، وللأفراد باعتبار، فلم يجرها على طريقة واحدة افتنانًا وتنبيهًا على جواز الأمرين، وحسن كل واحد منهما.
فائدة: قال أهل العلم (٣): العقل جوهر مضيء، خلقه الله في الدماغ،
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
لاَ بَأسَ بِالْقَوْمِ مِنْ طُوْلٍ وَمِن عِظَمٍ | جِسْمُ الْبِغَالِ وَأحْلاَمُ الْعَصَافِيْرِ |
١٣ - وقوله: ﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ معطوف على الليل والنهار رفعًا ونصبًا؛ أي: وسخر لكم سبحانه وتعالى ما خلق لكم في الأرض، من عجائب الأمور ومختلف من حيوان ونبات ومعادن حالة كونه: ﴿مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾ وهيئات من خضرة وبياض وحمرة وسواد، وغير ذلك على اختلاف أجناسها وأشكالها ومنافعها وخواصِّها ﴿إنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الذي ذكر من التسخيرات ونحوها، أو إن في اختلاف ما في الأرض ﴿لآيَةً﴾ دالة على أن من هذا شأنه واحد لا شريك له ﴿لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ آلاء الله ونعمه، فيشكرونه على ما أنعم، ويخبتون إليه على ما تفضل به وأحسن، فإن ذلك غير محتاج إلا إلى تذكر ما عسى يفضل عنه من العلوم الضرورية.
وختم هذا بقوله (١): ﴿يَذَّكَّرُونَ﴾ ومعناه الاعتبار والاتعاظ، كأن علمهم بذلك سابق طرأ عليه النسيان، فقيل يذكرون؛ أي: يتذكرون ما نسوا من تسخير هذه المكونات في الأرض.
١٤ - وبعد أن ذكر أنواع النعم في البر شرع يفصل نعمه في البحر، فقال: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي سَخَّرَ﴾ وذلل لكم ﴿الْبَحْرَ﴾ العذب والملح، والبحر: الماء الكثير، أو الملح فقط؛ أي: جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والغوص والاصطياد.
قال بعضهم (٢): هذه البحور على وجه الأرض ماء السماء النازل وقت الطوفان، فإن الله تعالى أمر الأرض بعد هلاك القوم فابتلعت ماءها، وبقي ماء السماء لم تبتلعه الأرض، وأما البحر المحيط فغير ذلك، بل هو جزر عن الأرض حين خلق الله الأرض من زبده، ويجوز ركوب البحر بشرط علم السباحة وعدم دوران الرأس، وإلا فقد ألقى نفسه إلى التهلكة، وأقدم على ترك الفرائض، وذلك للرجال والنساء، كما قاله الجمهور، وكره ركوبه للنساء، لأن حالهن على الستر، وذا متعسر في السفينة، لا سيما في الزورق وهي السفينة الصغيرة.
امتن الله (٣) سبحانه وتعالى بتسخير البحر بإمكان الركوب عليه، واستخراج ما فيه من صيد وجواهر، لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده، مع
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
ثم ذكر العلة في تسخير البحر فقال: ﴿لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا﴾؛ أي: وهو تعالى الذي سخر لكم البحر لتصطادوا منه؛ أي: من حيوانه، فهو على حذف مضاف ﴿لَحْمًا﴾؛ أي: سمكًا طريًّا، أي: رطبًا؛ أي: سخر لكم لتأكلوا سمكًا رطبًا تصطادونه منه أي من حيوانه.
والتعبير (١) عن السمك باللحم مع كونه حيوانًا، لانحصار الانتفاع به في الأكل، وفي وصفه (٢) بالطراوة والرطوبة تنبيه إلى أنه ينبغي المسارعة إلى أكله، لأنه يسرع إليه الفساد والتغير، وقد أثبت الطب أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء، فسبحان الخبير بخلقه، وبما يضر استعماله وما ينفع، وفيه أيضًا إيماء إلى كمال قدرته تعالى في خلقه الحلو الطري في الماء المر الذي لا يشرب.
وقد كره العلماء أكل الطافي منه على وجه الماء، وهو الذي يموت حتف أنفه في الماء فيطفو على وجهه، لحديث جابر عن النبي - ﷺ -: "ما نضب عنه الماء فكلوا، وما لفظه فكلوا، وما طفا فلا تأكلوا". فالمراد منه ميتة البحر في الحديث: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" هو ما لفظه، لا ما مات فيه من غير سبب، ﴿و﴾ سخر لكم البحر أيضًا (﴿لتستخرجوا منه﴾؛ أي: من جواهره ﴿حِلْيَةً﴾؛ أي: زينة ﴿تَلْبَسُونَهَا﴾؛ أي: تتزينون أنتم ونساؤكم بها، والمراد بالحلية المذكور في الآية اللؤلؤ المخلوق في صدفه العائش في البحار، ولا سيما المحيط الهندي، والمرجان الذي ينبت في قيعانها، لقوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ فهما حلالان للرجال والنساء، ولا حاجة لما تكلَّفه جماعة
(٢) المراغي.
﴿وَتَرَى الْفُلْكَ﴾؛ أي: وتبصر أيها المخاطب السفن حالة كونها ﴿مَوَاخِرَ﴾؛ أي: جواري ﴿فِيهِ﴾؛ أي: في البحر؛ أي: لو حضرت أيها المخاطب لرأيت السفن جواري في البحر، تجري جريًا وتشقه شقًّا بحيزومها ومقدمها، مقبلة مدبرة، من قطر إلى قطر، ومن بلد إلى آخر، ومن إقليم إلى إقليم، لجلب ما هناك إلى هنا، وما هنا إلى هناك، ومن ثم قال: ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾؛ أي: لتطلبوا فضل الله ورزقه، بركوبه للتجارة، وهذا معطوف على ﴿تستخرجوا﴾ وما بينهما اعتراض، أو معطوف على علةٍ محذوفةٍ؛ أي: لتنتفعوا بذلك، ولتطلبوا من سعة رزقه بركوبه للتجارة، فإن تجارته أربح.
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾؛ أي (١): تعرفون حقوق نعمه الجليلة، فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد، ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر؛ لأنه أقوى في باب الإنعام، من حيث إنه جعل المهالك سببًا للانتفاع وتحصيل المعاش.
والمعنى (٢): أي ولتشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم، إذ جعل ركوب البحر مع كونه مظنة للهلاك سببًا للانتفاع وحصول المعاش، مع عدم الحاجة إلى الحل والترحال والاستراحة والسكون، ولله در القائل:
وَإنَّا لَفِي الدُّنْيَا كَرَكْبِ سَفِيْنَةٍ | نُظَنُّ وُقُوْفًا وَالزَّمَانُ بِنَا يَسْرِيْ |
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
١٥ - ثم أردف هذه النعم الموجبة للتوحيد الموجبة للاستدلال على المطلوب بنعمة أخرى، وآيةٍ أخرى فقال: ﴿وَأَلْقَى﴾ الله سبحانه وتعالى ونصب بقدرته القاهرة ﴿في الْأَرْضِ﴾ هي (١) كروية الشكل، محلها وسط العالم، وسميت بالأرض لأنها تأرض؛ أي: تأكل أجساد بني آدم.
﴿رَوَاسِيَ﴾؛ أي: جبالًا ثوابت من غير سبب ولا ظهير ولا معين، كأنهن حصيات قبضهن قابض بيده فنبذهن في الأرض، فهو تصوير لعظمته وتمثيلٌ لقدرته، وإن كل عسير، فهو عليه يسير.
أي (٢): وجعل فيها رواسي، بأن قال لها كوني فكانت، فأصبحت الأرض وقد أرسيت وأثبتت بالجبال، بعد أن كانت تمور مورًا، فلم يدر أحد مم خلقت، من رسا الشيء إذا ثبت جمع راسية والتاء للتأنيث على أنها صفة جبال، كراهية ﴿أَنْ تَمِيدَ﴾ وتتحرك الأرض ﴿بِكُمْ﴾ أيها العباد الأرضيون، على ما قاله البصريون، أو لئلا تميد بكم على ما قاله الكوفيون، والميد: الاضطراب والميل يمينًا وشمالًا، يقال: ماد الشيء يميد ميدًا إذا تحرك، ومنه سميت المائدة.
والمعنى: كراهية أن تميد بكم وتضطرب، وقد خلق الله الأرض مضطربة لكونها على الماء، ثم أرساها بالجبال، وهي ستة آلاف وست مئة وثلاثة وسبعون جبلًا، سوى التلول على ما قاله الجغرافيون، على جريان عادته في جعل الأشياء منوطة بالأسباب، فالأرض بلا جبال كاللحم بلا عظام، فكما أن وجود الحيوان وجسده إنما يستمسك بالعظم، فكذا الأرض إنما تقوم بالرواسي، ألا ترى أن سطيحًا الكاهن لم يكن في بدنه عظم سوى القفا، لكونه من ماء المرأتين، وكان
(٢) روح البيان.
وحاصل المعنى: أي (٢) وألقى سبحانه وتعالى في الأرض جبالًا ثوابت، لتقر الأرض ولا تضطرب بما عليها من الحيوان، فلا يهنأ لهم عيشٌ بسبب ذلك، كما قال: ﴿وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾ وما الأرض إلا كسفينةٍ على وجه البحر، فإذا لم يكن فيها أجرام ثقيلة.. تضطرب وتميل من جانب إلى جانب بأدنى الأسباب، وإذا وضعت فيها أجرام ثقيلة.. استقرت على حال واحدة، فكذا الأرض لو لم يكن عليها هذه الجبال لاضطربت.
﴿و﴾ جعل فيها ﴿أنهارًا﴾ تجري من مكان إلى آخر رزقًا للعباد، وهي تنبع في مواضع وهي رزق لأهل مواضع أخرى، فهي تقطع البقاع والبراري، وتخترق الجبال والآكام حتى تصل إلى البلاد التي سخر لأهلها أن تنتفع بها، كما يشاهد في نهر النيل إذ ينبع من أواسط أفريقية، ويمر بجبال ووهاد في السودان، ويستفيد منه الفائدة الكبرى أهل مصر دون سواها، وكل ذلك بتقدير اللطيف الخبير، وذكر الأنهار عقب الجبال، لأن معظم عيون الأنهار وأصولها تكون من الجبال كما في "الخازن" ﴿و﴾ كذلك جعل سبحانه وتعالى في الأرض ﴿سبلًا﴾ وطرقًا مختلفة، نسلك فيها من بلاد إلى بلاد أخرى، وقد تحدث ثلمة في الجبل لتكون ممرًا طريقًا، كما قال تعالى في وصف الجبال: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا...﴾ الآية، جمع سبيل، وهو الطريق وما وضح.
﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾؛ أي: لكي تهتدوا بها في أسفاركم إلى مقاصدكم
(٢) المراغي.
قال بعضهم (١): خذوا الطريق ولو دارت، واسكنوا المدن ولو جارت، وتزوجوا البكر ولو بارت؛ أي: ولو كانت البكر بورًا؛ أي: فاسدة هالكة لا خير فيها.
١٦ - ﴿و﴾ كذلك جعل سبحانه وتعالى في الأرض ﴿علامات﴾؛ أي: معالم ودلائل، يهتدي ويستدل بها السابلة في النهار، وهم القوم المختلفة على الطريق من جبال كبار وآكام صغار، وسهول ومياه وأشجار وريح، كما قال الإِمام الرازي: رأيت جماعة يشمون التراب وبواسطة ذلك الشم يتعرفون الطرقات، حتى إذا ضلوا الطريق، كانت تلك العلامات عونًا لهم، وهدتهم إلى السبيل السوي في البر والبحر.
﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ بالليل في البراري أو البحار، حيث لا علامة غيره، ولعل (٢) الضمير لقريش، فإنهم كانوا كثيري التردد للتجارة مشهورين بالاهتداء بالنجوم في أسفارهم، وصرف النظم عن سنن الخطاب، وتقديم النجم وإقحام الضمير للتخصيص، كأنه قيل: وبالنجم خصوصًا هؤلاء يهتدون، فالاعتبار بذلك ألزم لهم، والشكر عليه أوجب عليهم، والمراد بالنجم الجنس، أو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي، وذلك لأنها تعلم بها الجهات ليلًا لأنها دائرة حول القطب الشمالي، فهي لا تغيب، والقطب في وسط بنات نعش الصغرى، والجدي هو النجم السابع من بنات النعش الصغرى، والفرقدان هما النجمان الأولان من النعش الصغرى، وهما من النعش، والجدي من البنات، ويقرب من بنات نعش الصغرى بنات نعش الكبرى، وهي سبعة أيضًا أربعة نعش وثلاث بنات، وبإزاء الأوسط من البنات السهى: وهو كوكب خفي صغير كانت الصحابة - رضي الله عنهم - تمتحن فيه أبصارهم، كذا في "التكملة" لابن عساكر، وفي
(٢) روح البيان.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في طرقكم وقبلتكم، ثم كفوا، وتعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم. قيل: أول من نظر في النجوم والحساب إدريس النبي - عليه السلام - قال بعض السلف: العلوم أربعة: الفقه للأديان، والطب للأبدان، والنجوم للأزمان، والنحو للسان. وفي الآية إيماء إلى أن مراعاة النجوم أصل في معرفة الأوقات والطرق والقبلة، ويحسن أن نتعلم من علم الفلك ما يفيد تلك المعرفة، قال قتادة: إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء: لتكون زينةً للسماء، ومعالم للطرق، ورجومًا للشياطين، فمن قال غير ذلك، فقد تكلم بما لا علم له به.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَبِالنَّجْمِ﴾ بفتح النون وسكون الجيم على أنه اسم جنس، ويؤيد ذلك قراءة ابن وثاب ﴿وبالنجم﴾ بضم النون والجيم، ومراده النجوم فقصره بحذف الواو منه، أو هو جمع، كسقف وسقف، وفي "زاد المسير": وقرأ (٢) الحسن والضحاك وأبو المتوكل ويحيى بن وثاب: ﴿وبالنجم﴾ بضم النون وإسكان الجيم، وقرأ الجحدري ﴿وبالنجم﴾ بضم النون والجيم، وقرأ مجاهد: ﴿وبالنجوم﴾ بواو على الجمع.
(٢) زاد المسير.
١٧ - ثم لما عدد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته.. أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ﴾ وعبارة "الخازن" هنا: ولما ذكر الله (٢) عَزَّ وَجَلَّ من عجائب قدرته، وغرائب صنعته، وبديع خلقه، ما ذكر على الوجه الأحسن، والترتيب الأكمل، وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدمة كلها دالة على كمال قدرته تعالى ووحدانيته، وأنه تعالى هو المنفرد بخلقها جميعًا.. قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته، واشتغل بعبادة هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ولا تقدر على شيء: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ﴾ يعني: هذه الأشياء الموجودة المرئية بالعيان وهو الله تعالى الخالق ﴿كَمَنْ لَا يَخْلُقُ﴾ يعني هذه الأصنام العاجزة التي لا تخلق شيئًا ألبتةً؛ لأنها جمادات لا تقدر على شيء، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادتها، ويترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الله الخالق هذه الأشياء كلها، ولهذا المعنى ختم هذه الآية يقوله: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ يعني: هذا القدر ظاهر غير خاف على أحد، فلا يحتاج فيه إلى دقيق الفكر والنظر، بل مجرد التذكر فيه كفاية لمن فهم وعقل واعتبر بما ذكر انتهت.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ﴾ للاستفهام (٣) الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أبعد ظهور دلائل التوحيد تتصور المشابهة والمشاركة - فمن يخلق هذه المصنوعات العظيمة - وهو الله تعالى - كمن لا يخلق شيئًا منها - وهو الأصنام؟! وعبر عنها بمن التي للعقلاء لأنهم سموها آلهةً فأجريت مجرى العقلاء، أو للمشاكلة لأنه قابله بالخالق وجعله معه كقوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ﴾.
وفي "الكرخي": وهذا من عكس التشبيه، إذ مقتضى الظاهر أن يقال: أفمن
(٢) الخازن
(٣) روح البيان.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تلاحظون القدرة الباهرة للخالق سبحانه، والعجز الظاهر للأصنام، فلا تذكرون ذلك فتعرفون فساد ما أنتم عليه يا أهل مكة، فإنه بوضوحه بحيث لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر.
ومعنى الآية: أي أفمن (١) يخلق هذه الخلائق العجيبة التي عددناها عليكم، وينعم هذه النعم العظيمة.. كمن لا يخلق شيئًا ولا ينعم نعمًا صغيرة ولا كبيرة؟ أفلا تذكرون هذه النعم، وهذا السطان العظيم، والقدرة على ما شاء من الحكمة، وعجز أوثانكم وضعفها ومهانتها، وأنها لا تجلب إلى نفسها نفعًا ولا تدفع ضرًّا، فتعرفوا بذلك خطأ ما أنتم عليه من عبادتها، وإقراركم لها بالألوهية.
وخلاصة هذا: الإنكار عليهم، ورميهم بالجهل، وسوء التقدير، وقلة الشكر لمن أنعم عليهم بما لا يحصى من النعم، مع وضوح ذلك وقلة احتياجه إلى تدبر وتفكر وإطالة نظر، بل يكفي فيه تنبه العقل ليعلم أن العبادة لا تليق إلا للمنعم بكل هذه النعم، أما هذه الأصنام التي لا فهم لها ولا قدرة ولا اختيار، فلا تنبغي عبادتها ولا الاشتغال بطاعتها.
قال قتادة في الآية: الله هو الخالق الرازق، لا هذه الأوثان التي تعبد من دون الله، التي لا تخلق شيئًا، ولا تملك لأهلها ضرًّا ولا نفعًا اهـ.
١٨ - وبعد أن نبههم سبحانه إلى عظمته، ذكرهم بنعمه عليهم، وإحسانه إليهم فقال: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى الفائضة عليكم مما لم يذكر ﴿لَا تُحْصُوهَا﴾ أي (٢): لا تطيقوا إحصاءها وحصرها، وضبط عددها ولو إجمالًا، فضلًا عن القيام بشكرها، يقال: أحصاه؛ أي: عده كما في "القاموس"، وأصله
(٢) روح البيان.
والمعنى: لا توجد له غاية فتوضع له حصاة، وهذه الجملة تذكير إجمالي بنعمه تعالى، بعد تعداد طائفة منها، وكان الظاهر إيرادها عقبها تكملة لها، على طريقة قوله تعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذكره أبو السعود.
والمعنى: أي وإن تعدوا نعم الله تعالى لا تضبطوا عددها، فضلًا عن أن تستطيعوا القيام بشكرها، فإن العبد مهما أتعب نفسه في طاعته، وبالغ في شكران نعمه، فإنه يكون مقصرًا، فنعم الله تعالى كثيرة، وعقل المخلوق قاصر عن الإحاطة بها، ومن ثم فهو يتجاوز عن ذلك التقصير، وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَغَفُورٌ﴾؛ أي: لستور فيستر عليكهم تقصيركم في القيام بشكرها، ويتجاوز عنه، ﴿رَحِيمٌ﴾؛ أي: كثير الرحمة بكم، عظيم النعمة عليكم، لا يقطعها عنكم فيفيض عليكم نعمه مع استحقاقكم للقطع والحرمان، بسبب ما أنتم عليه من أصناف الكفر والعصيان، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها، ومن أفظع ذلك وأعظمه جرمًا المساواة بين الخالق والمخلوق، وتقديم (١) وصف المغفرة على نعت الرحمة لتقدم التخلية على التحلية.
قال بعض الحكماء (٢): إن أي جزء من البدن إذا اعتراه الألم نغص على الإنسان النعم، وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الألم، وهو سبحانه يدبر جسم الإنسان على الوجه الملائم له، مع أنه لا علم له بوجود ذلك، فكيف يطيق حصر نعمه عليه، أو يقدر على إحصائها، أو يتمكن من شكر أدناها انتهى.
واعلم (٣): أنه لو صرف جميع عمر الإنسان إلى الأعمال الصالحة، وإقامة الشكر.. لما كافىء نعمة الوجود، فضلًا عن سائر النعم، ولله در القائل:
لَوْ عِشْتُ ألْفَ عَامٍ | في سَجْدَةٍ لِرَبِّي |
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
شُكرًا لِفَضلِ يَوْمٍ | لَم أَقْضِ بِالتَّمَامِ |
وَالْعَامُ ألْفُ شَهرٍ | وَالشَّهْرُ أَلفُ يَوْمِ |
وَالْيَومُ أَلْفُ حِيْنِ | وَالْحِيْنُ ألفُ عَامِ |
الْعَفوُ يُرجَى مِن بَنِي آدمَ | فَكَيفَ لاَ يُرجَى مِنَ الرَّبِّ |
فَإنَّهُ أرْأفُ بِي مِنْهُمُ | حَسْبِي بِهِ حَسْبِي بِهِ حَسْبِي |
والمعنى: أي والله سبحانه وتعالى يعلم ما تسرونه في ضمائركم وتخفونه عن غيركم، وما تبدونه بألسنتكم وجوارحكم وأفعالكم، وهو محص ذلك كله عليكم، فيجازيكم به يوم القيامة، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء منكم بإساءته، وهو سائلكم عما كان منكم من الشكر في الدنيا على النعم التي أنعمها عليكم فيها، ما أحصيتم منها وما لم تحصوا.
قلت: فائدته أن المعنى المذكور في الآية المتقدمة أنهم لا يخلقون شيئًا فقط، والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئًا وأنهم مخلوقون كغيرهم، فكان هذا زيادةً في المعنى، وهو فائدة التكرار، ذكره في "الخازن".
والمعنى: والآلهة التي تعبدونها من دون الله لا تخلق شيئًا، بل هي مخلوقة، فكيف يكون إلهًا ما كان مصنوعًا، وغيره هو الذي دبر وجوده؟ ونحو الآية قوله تعالى: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦)﴾.
٢١ - ﴿أَمْوَاتٌ﴾ جمع ميت خبر ثان للموصول؛ أي: هي جمادات لا حياة فيها، ولم يقل موات؛ لأنهم صوروا على شكل من تحله الروح، وفي "القاموس": الموات كغراب وكسحاب ما لا روح فيه، وأرضٌ لا مالك لها ﴿غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ جمع حيّ ضدُّ الميت؛ أي: غير قابلين للحياة، كالنطفة والبيضة فهي أموات على الإطلاق، والمعنى؛ أي: هي أمواتٌ ولا تعتريها الحياة بوجه، فلا تسمع ولا
﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾؛ أي: وما تدري هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله متى تبعث عبدتها، فالضمير في يشعرون للأصنام، وفي يبعثون لعبدتها، وقيل: يجوز أن يكون الضمير في يبعثون للآلهة؛ أي: وما تشعر هذه الأصنام أيان تبعث، ويؤيد ذلك ما روي أن الله يبعث الأصنام، ويخلق لها أرواحًا معها شياطينها، فيؤمر بالكل إلى النار، ويدل على هذه قوله: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ ولا يخفى ما في ذلك من التهكم بها، لأن شعور الجماد بالأمور الظاهرة بديهي الاستحالة لدى كل أحد، فكيف بما لا يعلمه إلا العليم الخبير، كما أن فيه تهكمًا بالمشركين من قبل أن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ليجازوهم على عبادتهم إياهم، وفيه تنبيه إلى أن البعث من لوازم التكليف؛ لأنه جزاء على العمل من خير أو شر، وأن معرفة وقته لا بد منه في الألوهية.
وقرأ الجمهور (٢) بالتاء من فوق في: ﴿تُسرون﴾ و ﴿تعلنون﴾ و ﴿تدعون﴾، وهي قراءة مجاهد والأعرج وشيبة وأبي جعفر وهبيرة عن عاصم، على معنى قل لهم، وقرأ عاصم في مشهوره ﴿يَدْعون﴾ بالياء من تحت، وبالتاء في السابقتين، وقرأ الأعمش وأصحاب عبد الله ﴿يَعْلَمُ الذي تُبدون وما تكتمون﴾ و ﴿تدعون﴾ بالتاء من فوق في الثلاثة، وقرأ طلحة ﴿ما يُخفون﴾ و ﴿ما يُعلنون﴾ و ﴿تدعون﴾ بالتاء من فوق، وهاتان القراءتان مخالفتان لسواد المصحف، والمشهور: ما روي عن الأعمش وغيره، فوجب حملها على التفسير لا على أنها قرآنٌ، وقرأ محمد اليمانيُّ ﴿يُدْعون﴾ بضم الياء وفتح العين مبينًا للمفعول، وقرأ أبو عبد الرحمن
(٢) البحر المحيط.
٢٢ - ولمَّا أبطل (١) طريق عبدة الأصنام، وبين فساد مذهبهم.. صرح بالمدعى، ولخص النتيجة بعد إقامة الحجة فقال: ﴿إِلَهُكُمْ﴾؛ أي: معبودكم الذي يستحق العبادة، وإفراد الطاعة له دون سائر الأشياء ﴿إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾؛ أي: معبود واحد، لا تصلح العبادة إلا له، فأفردوا له الطاعة، وأخلصوا له العبادة، ولا تجعلوا معه شريكًا سواه، ثم ذكر الأسباب التي لأجلها أصر الكفار على الشرك وإنكار التوحيد فقال: ﴿فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ وأحوالها من البعث والجزاء وغير ذلك؛ أي: فالذين لا يصدقون بوعد الله ووعيده، ولا يقرون بالمعاد إليه بعد الممات ﴿قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ﴾؛ أي: جاحدة لما قصصناه عليكم من قدرة الله وعظمته، وجزيل نعمه عليهم، وأن العبادة لا تصلح إلَّا له، والألوهية ليست لشيء سواه، فلا يؤثر فيها وعظ ولا ينجع فيها تذكير ﴿وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ عن قبول الحق، متعظمون عن الإذعان للصواب، مستمرون على الجحد، تقليدًا لما مضى عليه آباؤهم من الشرك به، كما حكى سبحانه عنهم قولهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾، ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ وقال: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)﴾ والمعنى؛ أي: وهم قوم لا يزال الاستكبار عن اعتراف الوحدانية والتعظيم عن قبول الحق دأبهم، كما أن الإنكار سجيتهم.
٢٣ - ثم ذكر وعيدهم على أعمالهم فقال: ﴿لَا جَرَمَ﴾ كلمة مركبة من كلمتين حرفٍ وفعلٍ، فقد ركبت لا مع جرم وجعل كلمةً واحدة، وتلك الكلمة مصدر بمعنى حقًّا، أو فعل بمعنى حقَّ وثبت، وقوله ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ إلخ فاعل بفعل ذلك المصدر المأخوذ من لا جرم، وذلك المصدر منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: حقَّ حقًّا وثبت ثبوتًا ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ عنك من أقوالهم وأفعالهم ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ من ذلك؛ أي: حق وثبت أن الله يعلم ما
وقرأ عيسى الثقفي: ﴿إنَّ﴾ بكسر الهمزة على الاستئناف والقطع عما قبله، والمعنى (١): أنه لا يحب جنس المستكبرين، سواء كانوا مشركين أو مؤمنين، والاستكبار رفع النفس فوق قدرها وجحود الحق، والفرق بين المتكبر والمستكبر أن التكبر عام لإظهار الكبر الحق، كما في أوصاف الله تعالى، فإنه جاء في أسمائه الحسنى الجبَّار المتكبر، وفي قوله عليه السلام: "التكبُّر على المتكبر صدقةٌ"، ولإظهار الكبر الباطل كما في قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾، والاستكبار إظهار الكبر باطلًا كما في قوله تعالى في حق إبليس ﴿اسْتَكْبَرَ﴾ ومنه ما في هذا المقام.
أخرج مسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"، فقال رجل: يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، فقال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمص الناس".
وفي "الصحيح": "إن المتكبرين أمثال الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم" وقال العلماء: كل ذنب يمكن ستره وإخفاؤه إلا التكبر، فإنه فسق يلزمه الإعلان، وهو أصل العصيان كله ذكره القرطبي، وحكى أنه (٢) افتخر رجلان عند موسى - عليه السلام - بالنسب والحسب، فقال أحدهما: أنا فلان
(٢) روح البيان.
وَلاَ تَمْشِ فَوْقَ الأرْضِ إلا تَوَاضُعًا | فَكَمْ تَحْتَهَا قومٌ هُمُ مِنْكَ أَرفَعُ |
فَإِنْ كُنْتَ في عِزٍّ وَحِرْزٍ وَرِفْعَةٍ | فَكَمْ مَات مِنْ قَوْمٍ هُمُ مِنْكَ أَمْنَعُ |
الإعراب
﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)﴾.
﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع ﴿لاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾: جازم وفعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، ﴿سُبْحَانَهُ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أسبحه سبحانًا، أو سبحوه سبحانًا، والجملة مستأنفة، ﴿وَتَعَالَى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة معطوفة على جملة التسبيح، ﴿عَمَّا﴾ ﴿عَنْ﴾: حرف جر، ﴿ما﴾ اسم موصول، أو موصوفة في محل الجر بـ ﴿عَنْ﴾، أو ﴿ما﴾ مصدرية، ﴿يُشْرِكُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: عمَّا يشركونه به من الأصنام، أو صلةٌ ﴿ما﴾ المصدرية، تقديره: عن إشراكهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَعَالَى﴾ أو بـ ﴿سُبْحَانَهُ﴾ على سبيل التنازع، ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾،
﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾: فعل ومفعول به، ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور، صفة لمصدر محذوف، تقديره: خلقًا متلبسًا بالحق والحكمة، لا بالعبث، أو في محل النصب حال من فاعل ﴿خَلَقَ﴾؛ أي: حالة كونه محقًّا، ﴿تعالى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب حال ثانية من فاعل ﴿خَلَقَ﴾؛ أي: خلق السموات حالة كونه متعاليًا عن النقائص، ﴿عَمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَعَالَى﴾، وجملة ﴿يُشْرِكُونَ﴾ صلةٌ لـ ﴿ما﴾، أو صفةٌ لها، أو صلة ﴿ما﴾ المصدرية، كما مر آنفًا ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة مستأنفة، ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾، ﴿فَإذَا﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب ﴿إذا﴾: حرف مفاجأة ﴿هُوَ خَصِيمٌ﴾: مبتدأ وخبر ﴿مُبِينٌ﴾: صفة ﴿خَصِيمٌ﴾، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾.
﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦)﴾.
﴿وَالْأَنْعَامَ﴾: مفعول بفعل محذوف وجوبًا يفسره المذكور بعده، تقديره: وأوجد الأنعام، والجملة مستأنفة، ﴿خَلَقَهَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة الفعلية جملة مفسرة، لا محلَّ لها من الإعراب. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿خَلَق﴾ ﴿فِيهَا﴾: خبر مقدم، ﴿دِفْءٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب حالٌ من ﴿الْأَنْعَامَ﴾، أو من الضمير المنصوب، ﴿وَمَنَافِعُ﴾: معطوف على ﴿دِفْءٌ﴾ ﴿وَمِنْهَا﴾: متعلق بما بعده، وجملة ﴿تَأْكُلُونَ﴾ في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فِيهَا دِفْءٌ﴾. ﴿وَلَكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿فِيهَا﴾ جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، أو حال من ﴿جَمَالٌ﴾، ﴿جَمَالٌ﴾: مبتدأ مؤخر،
﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٧)﴾.
﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الأنعام﴾، والجملة مستأنفة، ﴿إِلَى بَلَدٍ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تحمل﴾. ﴿لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ﴾: جازم وفعل ناقص واسمه وخبره ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ ﴿بَلَدٍ﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿بِشِقِّ الْأَنْفُسِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، حال من الضمير المستكن في ﴿بَالِغِيهِ﴾ مشقوقًا عليكم. ﴿إِنَّ رَبَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَرَءُوفٌ﴾ خبره، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿رَحِيمٌ﴾: صفة ﴿رؤوف﴾، أو خبر ثان، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨)﴾.
﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ﴾ معطوفات على ﴿الأنعام﴾. ﴿لِتَرْكَبُوهَا﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل ﴿تركبوها﴾: فعل وفاعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿خَلَق﴾؛ أي: وخلق الخيل والبغال والحمير لركوبكم إياها، ﴿وَزِينَةً﴾: مفعول (١) مطلق لفعل محذوف، معطوف على ﴿لِتَرْكَبُوهَا﴾؛ أي: وخلقها لتركبوها، ولتتزينوا بها زينة، ويجوز أن يكون مفعولًا لأجله؛ أي: وللزينة، وقيل التقدير: وجعلها زينةً، ويقرأ بغير واو، وفيه الوجوه المذكور، وفيها وجهان آخران:
والثاني: أن تكون حالًا من الهاء؛ أي: لتركبوها تزينًا بها، ﴿وَيَخْلُقُ مَا﴾: فعل ومفعول، وفاعل ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿لَا تَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط المفعول المحذوف؛ أي: ما لا تعلمونه.
﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)﴾.
﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾: خبر مقدم، ﴿قَصْدُ السَّبِيلِ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والمعنى: وعلى الله بيان السبيل القصد وهو الإِسلام، والقصد بمعنى المقصود كما في "الجَمَل"، ﴿وَمِنْهَا﴾: خبر مقدم، ﴿جَائِرٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، وهو صفة لموصوف محذوف؛ أي: ومنها سبيل جائر، والسبيل: تذكر وتؤنث، ﴿وَلَوْ﴾: حرف شرط، ﴿شَاءَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾، ﴿لَهَدَاكُمْ﴾ ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾، ﴿هداكم﴾: فعل ومفعول، وفعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾. ﴿أَجْمَعِينَ﴾ تأكيد لضمير المفعول، والجملة جواب ﴿لو﴾، وجملة ﴿لو﴾ مستأنفة.
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠)﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة، ﴿أَنْزَلَ﴾: فعل ماضي، وفاعله ضمير يعود على الموصول، ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾، ﴿مَاءً﴾: مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾ أو صفة لـ ﴿مَاءً﴾، ﴿مِنْهُ﴾: خبر مقدم، ﴿شَرَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب صفة لـ ﴿مَاءً﴾ أو مستأنفة و ﴿من﴾ في قوله: ﴿منه﴾ ابتدائية، ويصح أن يكون ﴿لَكُمْ﴾ خبرًا مقدمًا لـ ﴿شَرَابٌ﴾، ﴿وَمِنْهُ﴾: حال من الضمير المستكن في الخبر كما في "روح البيان" و ﴿مِنْ﴾ فيه
﴿يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)﴾.
﴿يُنْبِتُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُنْبِتُ﴾ وكذا تعلق به قوله ﴿بِهِ﴾، أي: بسببه، ﴿الزَّرْعَ﴾: مفعول به، ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ﴾: معطوفات على الزرع. ﴿وَمِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿مِنْ﴾ زائدةٌ على رأي الكوفيين، ﴿كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾: معطوف على ﴿الزَّرْعَ﴾، أو ﴿وَمِنْ﴾ اسم بمعنى بعض معطوف على ﴿الزَّرْعَ﴾ على رأي البصريين، ﴿كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ مضاف إليه كذا في "روح البيان". ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبرها مقدم، ﴿لَآيَةً﴾: اسمها مؤخر، و ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، ﴿لِقَوْمٍ﴾: جار ومجرور صفةٌ ﴿لَآيَةً﴾، وجملة ﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾: صفة لـ ﴿لِقَوْمٍ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة.
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)﴾.
﴿وَسَخَّرَ﴾: فعل ماض، وفعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿لَكُمُ﴾: متعلق به، ﴿اللَّيْلَ﴾: مفعول به، ﴿وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾: معطوفات على ﴿اللَّيْلَ﴾، ﴿وَالنُّجُومُ﴾ عل قراءة النصب معطوف على ﴿اللَّيْلَ﴾ أيضًا، ﴿مُسَخَّرَاتٌ﴾: حال من الجميع، ﴿بِأَمْرِهِ﴾: متعلق بـ ﴿مُسَخَّرَاتٌ﴾، وعلى قراءة الرفع ﴿النجوم﴾: مبتدأ، ﴿مُسَخَّرَاتٌ﴾، خبره، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبرها مقدم لـ ﴿لَآيَاتٍ﴾ اسمها مؤخر، و ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، ﴿لِقَوْمٍ﴾: صفة لـ ﴿لَآيَاتٍ﴾، وجملة ﴿يَعْقِلُونَ﴾ صفة لـ ﴿لِقَوْمٍ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة.
﴿وَمَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب معطوفة على ﴿اللَّيْلَ﴾ على ما ذكره الزمخشري، أو منصوب بفعل محذوف تقديره: وخلق لكم ما ذرأ لكم، على ما ذكره أبو البقاء، ﴿ذَرَأَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ ﴿لكم﴾: متعلق به، وكذا يتعلَّق به قوله: ﴿في الأرض﴾، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: وما ذرأ لكم في الأرض ﴿مُخْتَلِفًا﴾ حال من ما الموصولة، أو من العائد المحذوف، ﴿أَلْوَانُهُ﴾: فاعل ﴿مُخْتَلِفًا﴾، ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبرها مقدم، ﴿لَآيَةً﴾: اسمها، ﴿لِقَوْمٍ﴾: صفة ﴿لَآيَةً﴾، ﴿يَذَّكَّرُونَ﴾: صفة لـ ﴿لِقَوْمٍ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة.
﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، ﴿سَخَّرَ الْبَحْرَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، ﴿لِتَأْكُلُوا﴾ ﴿اللام﴾: لام كي، ﴿تأكلوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تأكلوا﴾ و ﴿من﴾ لابتداء الغاية، ﴿لَحْمًا﴾: مفعول به، ﴿طَرِيًّا﴾: صفة ﴿لَحْمًا﴾، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لأكلكم منه، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿سَخَّرَ﴾، ﴿وَتَسْتَخْرِجُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿تأكلوا﴾، ﴿مِنهُ﴾: متعلق به، ﴿حِلْيَةً﴾: مفعول به، ﴿تَلْبَسُونَهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صفة لـ ﴿حِلْيَةً﴾، ﴿وَتَرَى الْفُلْكَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المخاطب، ﴿مَوَاخِرَ﴾: حال من ﴿الْفُلْكَ﴾ لأن رأى هنا بصرية تتعدى لمفعول واحد ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿مَوَاخِرَ﴾ والجملة الفعلية معترضة، لاعتراضها بين
﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)﴾:
﴿وَأَلْقَى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللهِ﴾، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿سَخَّرَ﴾، أو مستأنفة، ﴿رَوَاسِيَ﴾: صفة لمفعول محذوف؛ أي: جبالًا رواسي، ولم ينون لأنه اسم لا ينصرف، لكونه على زنة مفاعل، ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿تَمِيدَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَن﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿الْأَرْضِ﴾، ﴿بِكُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر الواقع مفعولًا لأجله، والتقدير: وألقى في الأرض رواسي خشية ميدها وتحركها بكم، ﴿وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا﴾: معطوفان على ﴿رَوَاسِيَ﴾، ولكنه على تأويل ﴿ألقى﴾ بمعنى خلق، ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿تَهتَدُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿لعلَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿وَعَلَامَاتٍ﴾: معطوف على ﴿رَوَاسِيَ﴾ أيضًا، ﴿وَبِالنَّجْمِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَهْتَدُونَ﴾، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَهْتَدُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٧)﴾.
﴿أَفَمَن﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتتصور المشابهة والمشاركة بين الخالق وغيره بعد ظهور الدلائل، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، ﴿يَخلُقُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة صلة الموصول،
﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (١٩)﴾.
﴿وَإِن﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِن تعدوا نعمة الله﴾: جازم وفعل وفاعل ومفعولي ومضاف إليه، مجزوم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿لَا تُحْصُوهَا﴾: ناف وفعل وفاعل ومفعول، مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَغَفُورٌ﴾: خبره، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿رَحِيمٌ﴾: صفة ﴿غفور﴾ أو خبر ثان، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾ خبره، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿مَا﴾: اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل النصب مفعول به؛ لأنَّ علم هنا بمعنى عرف، ﴿تُسِرُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: يعلم ما تسرون، ﴿وَمَا تُعْلِنُونَ﴾: معطوف على ﴿مَا تُسِرُّونَ﴾، ويجري فيه من الإعراب ما جرى فيه.
﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ، ﴿يَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، العائد محذف تقديره: والأصنام الذين يدعونهم ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور، حال من فاعل ﴿يَدْعُونَ﴾؛ أي: حالة كونهم متجاوزين الله في دعائهم إلى
﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢)﴾.
﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ﴾: مبتدأ وخبر، ﴿وَاحِدٌ﴾: صفة لازمة له والجملة مستأنفة، ﴿فَالَّذِينَ﴾: مبتدأ أول، و ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿بِالْآخِرَةِ﴾: متعلق به، ﴿قُلُوبُهُمْ﴾: مبتدأ ثان، ﴿مُنْكِرَةٌ﴾: خبر له، وجملة الثاني خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة ﴿وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من ضمير ﴿قُلُوبُهُمْ﴾؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه.
﴿لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)﴾.
﴿لَا جَرَمَ﴾: اسم مركب تركيب خمسة عشر، وبعد التركيب صار معناها معنى فعلٍ، وهو حق، فإذًا نقول في إعرابها: ﴿لَا جَرَمَ﴾: فعل ماض بمعنى حق مبني على الفتح، ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ ﴿لَا جَرَمَ﴾، والتقدير: حق وثبت علم الله، ما يسرون وما يعلنون ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿يَعْلَمُ﴾، وجملة ﴿يُسِرُّونَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يسرونه، ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ معطوف على ﴿مَا يُسِرُّونَ﴾، ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللهَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة
وفي "الشهاب": في هذه اللفظة أعني ﴿لَا جَرَمَ﴾ خلاف بين النحاة، فذهب الخليل وسيبويه والجمهور إلى أن ﴿جرم﴾ اسم مركب مع ﴿لا﴾ تركيب خمسة عشر، وبعد التركيب صار معناها معنى فعلٍ، وهو حق، وما بعدها مرتفع بالفاعلية بمجموع لا جرم لتأويله بالفعل، أو بمصدر قائم مقامه، وهو حقًّا على ما ذكره أبو البقاء، وقيل: هو مركب أيضًا - كلا رجل - وما بعدها خبر، ومعناها لا محالة ولا بد، وقيل: إنه على تقدير جارٍّ؛ أي: من أن الله إلخ انتهى.
وقيل: إن لا نافية لكلام مقدر تكلم به الكفرة، وجرم بمعنى حق ووجب اهـ: "زاده"، وقد تقدم لها مزيد بسط في سورة هود فراجعه.
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾؛ أي: قرب ودنا، ويقال في مجرى العادة لما يجب وقوعه: قد أتى وقد وقع، فيقال لمن طلب مساعدة حان مجيؤها: جاءك الغوث، و ﴿أَمْرُ اللَّهِ﴾: عذابه للكافرين أو يوم القيامة.
﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ الاستعجال طلب الشيء قبل وقته، كما في "الخازن"، وهو من استفعل السداسي.
﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ﴾: الوحي، وهو قائم في الدين مقام الروح من الجسد، فهو محيي القلوب التي أماتها الجهل.
﴿أَنْ أَنْذِرُوا﴾ والإنذار (١) الإعلام، خلا إنه مختص بإعلام المحذور، من نذر بالشيء من باب فرح إذا علمه فحذره، وأنذره بالأمر إنذارًا إذا أعلمه وحذره وخوفه في إبلاغه، كذا في "القاموس"؛ أي: أعلموا الناس أيها الأنبياء.
﴿فَاتَّقُونِ﴾؛ أي: خافوا عقابي، لمخالفة أمري وعبادة غيري.
﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: غير آدم، ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ والنطفة القطرة من الماء،
وفي "المصباح" نطف (١) الماء ينطف - من باب قتل - سال، وقال أبو زيد: نطفت القربة تنطف وتنطف نطفانًا إذا قطرت، والنطفة ماء الرجل والمرأة، وجمعها نطف ونطاف، مثل برمة وبرم وبرام، والنطفة أيضًا الماء الصافي قل أو كثر، ولا فعل للنطفة؛ أي: لا يستعمل لها فعل من لفظها اهـ.
وفي "المختار": أن نطف من باب قتل وضرب اهـ، والمراد (٢) بالنطفة هنا مادة التلقيح.
﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ والخصيم بمعنى المخاصم، كالخليط بمعنى المخالط، والعشير بمعنى المعاشر، والمراد به هنا المنطيق المجادل عن نفسه المنازع للخصوم، والمبين المظهر للحجة، أو المفصح عما في ضميره بمنطقه.
﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ قال الجوهري: والنعم واحد الأنعام، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل اهـ. الدفءُ: السخانة، والمراد به هنا ما يستدفأ به من الأكسية المتخذة من أصوافها وأوبارها وأشعارها.
﴿وَمَنَافِعُ﴾ والمراد بها درها وركوبها، والحرث بها، وحملها للماء ونحو ذلك.
﴿جَمَالٌ﴾ والجمال ما يتجمل به ويتزين، والجمال الحسن، والمعنى هنا: لكم فيها تجمل وتزين عند الناظرين إليها، قال في "القاموس": الجمال الحسن في الخلق والخلق، وتجمل: تزين، وجمله: زينه، وفي الحديث (٣): "جمال الرجل فصاحة لسانه"، وفي حديث آخر: "الجمال صواب المقال، والكمال حسن الفعال".
﴿حِينَ تُرِيحُونَ﴾ من الإراحة، وهي رد المواشي بالعشي إلى مراحها؛ أي: مأواها بالليل؛ أي: تردونها بالعشي؛ أي: آخر النهار من المرعى إلى مراحها
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
﴿تَسْرَحُونَ﴾؛ أي: تخرجونها غدوة؛ أي: أول النهار من حظائرها ومبيتها إلى مسارحها ومراعيها، من سرح الراعي الإبل إذا رعاها وأرسلها في المرعى، من باب قطع وخضع، وفي "المصباح": سرحت الإبل سرحًا من باب نفع وسروحًا أيضًا، رعت بنفسها وسرحتها يتعدى ولا يتعدى، وسرَّحتها بالتثقيل مبالغة وتكثير اهـ.
﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ﴾ والأثقال (١) جمع ثقل بفتح الثاء والقاف، كأسباب وسبب، أو جمع ثقل بكسر فسكون كحمل وأحمال، وهو متاع المسافر من طعام وغيره وما يحتاج إليه من آلاته، وسُمِّي ثقلًا لأنه يثقل الإنسان حمله، وقيل المراد أبدانهم.
﴿إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ﴾ والشق بالكسر والفتح الكلفة والمشقة، وشق الأنفس مشقتها وتعبها، وقال الجوهري الشق المشقة ومنه قوله تعالى: ﴿لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ﴾، وحكى أبو عبيدة: بفتح الشين وهما بمعنًى، ويجوز أن يكون المفتوح مصدرًا من شققت عليه أشق شقًّا، والمكسور بمعنى النصف، يقال أخذت شق الشاة وشقة الشاة، ويكون المعنى على هذا في الآية؛ أي: لم تكون بالغيه إلَّا بذهاب نصف النفس من التعب.
﴿وَالْخَيْلَ﴾ اسم جنس لا واحد له من لفظه، بل من معناه وهو فرس، وقيل جمع خائل كضان جمع ضائن، وسميت خيلًا لاختيالها في مشيها.
﴿وَالْبِغَالَ﴾ جمع بغل، وهو متولد بين الخيل والحمار.
﴿قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ والقصد الاستقامة، يقال سبيل قصدٌ وقاصدٌ إذا أداك إلى مطلوبك، وفي "السمين": والقصد مصدر يوصف به، فهو بمعنى قاصد، يقال سبيل قصد وقاصد؛ أي: مستقيم، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه اهـ.
﴿وَمِنْهُ شَجَرٌ﴾ والمراد بالشجر هنا مطلق النبات، سواء كان له ساق أم لا اهـ "شيخنا"، فالشجر في الأصل ما له ساق قوي، والنجم ما لا ساق له قوي.
﴿تُسِيمُونَ﴾؛ أي: ترعون دوابكم من أسام الماشية، ويقال سومها، إذا جعلها ترعى، وفي "الخازن": تقول أسمت السائمة إذا خليتها ترعى، وسامت إذا رعت حيث شاءت اهـ ويقال: سامت السائمة تسوم سومًا رعت فهي سائمة، وأسمتها؛ أي: أخرجتها إلى الرعي، فأنا مسيم وهي مسامة وسائمة، وأصل السوم الإبعاد في المرعى، قال أخذ من السومة وهي العلامة؛ لأنها تؤثر في الأرض علامات برعيها.
﴿النَّخِيلَ﴾ والنخل بمعنى واحد، وهو اسم جمع والواحدة نخلة كالثمرة والثمر.
﴿الأعناب﴾ جمع الأعناب للإشارة إلى ما فيها من الاشتمال على الأصناف المختلفة.
﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ﴾ يقال ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءًا خلقهم، فهو ذارىء، ومنه الذرية وهي نسل الثقيلين.
﴿مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾؛ أي: أصنافه ﴿لَحْمًا طَرِيًّا﴾ وفي "السمين": الطراوة ضد اليبوسة؛ أي: غضًّا طريًّا، ويقال طريت كذا؛ أي: جددته اهـ، وفي "المصباح": طرو الشيء بالواو وزان قرب فهو طرىء؛ أي: غض بين الطراوة، وطرىء وزان تعب، فهو طرىء بين الطراوة، وطرأ فلان علينا يطرأ مهموزًا بفتحتين طروًّا أطلع، فهو طارئ، وطرأ الشيء يطرأ أيضًا طرآنًا مهموزًا حصل بغتة فهو طارئ، وأطريت العسل بالياء طراء عقدته، وأطريت فلانًا مدحته بأحسن ما فيه، ويقال بالغت في مدحه، وجاوزت الحد، وقال السرقسطي: في باب الهمز والياء: أطرأته مدحته وأطريته أثنيت عليه اهـ.
﴿حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ وفي "المصباح": حلي الشيء بعيني وبصدري يحلى - من باب تعب - حلاوةً، إذا حسن عندي وأعجبني، وحليت المرأة حليًّا ساكن اللام
﴿مَوَاخِرَ﴾؛ أي: ترى السفن شواق للماء تدفعه. بصدرها، ومخر السفينة شقها الماء بصدرها، قال الجوهري: مخر السابح إذا شق الماء بصدره، ومخر الأرض شقها للزراعة، قال ابن جرير: المخر في اللغة صوت هبوب الريح ولم يقيد بكونه في ماء اهـ.
وفي "المختار": مخرت السفينة من باب قطع ودخل إذا جرت تشق الماء مع صوت، ومنه قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ﴾؛ أي: جواري.
﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾؛ أي: جبالًا ثوابت، يقال رسا يرسو إذا ثبت وأقام.
﴿أنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾؛ أي: أن تميل بكم، وفي "المختار": ماد الشيء يميد ميدًا من باب باع، ومادت الأغصان والأشجار تمايلت، وماد الرجل تبختر اهـ.
﴿وَعَلَامَاتٍ﴾ جمع علامة ففي "المصباح": وأعلمت على كذا بالألف من الكتاب وغيره جعلت عليه علامة، وأعلمت الثوب جعلت له علمًا من طراز وغيره، وهو العلامة، وجمع العلم أعلام مثل سبب وأسباب، وجمع العلامة علامات، وعلمت له علامة بالتشديد وضعت له أمارة يعرفها اهـ.
﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ يقال شعر به كنصر وكرم شعرًا وشعورًا علم به وفطن له وعقله، وأيان مركب من أي التي للاستفهام وأن بمعنى الزمان، فلذلك كان بمعنى متى؛ أي سؤالًا عن الزمان كما كان أين سؤالًا عن المكان، فلما ركِّبا وجعلا اسما واحدًا بنيا على الفتح كبعلبك، ذكره في "روح البيان".
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي في قوله: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ إشعارًا بتحقق وقوعه.
ومنها: الالتفات من الخطاب في قوله: ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ إلى الغيبة في قوله: ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ تحقيرًا لشأنهم وحطًّا لدرجتهم عن رتبة الخطاب.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿بِالرُّوحِ﴾ حيث شبه الوحي بمعنى الموحى به الذي من جملة التوحيد بالروح، بجامع أن الروح به إحياء الجسد، والوحي به إحياء القلوب من الجهالات، فاستعير له لفظ الروح على طريقة الاستعارة التصريحية.
ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ إلى الخطاب في قوله: ﴿فَاتَّقُونِ﴾ مخاطبةً لهم بما هو المقصود، وإيماء إلى أن التقوى هي المقصود من الإنذار.
ومنها: التعبير بآخر الأمر عن أوله في قوله: ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ ويسمى مجاز الأول كقوله: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾.
ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾ إلى الخطاب في قوله: ﴿خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ فيقضي أن المخاطب مطلق بني آدم، المندرجين تحت الإنسان تأمل.
ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: ﴿وَمَنَافِعُ﴾.
ومنها: القصر في قوله: ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ فيكون القصر فيه إضافيًّا إلى سائر الحيوانات، حتى لا ينتقض بمثل الخبز ونحوه من المأكولات المعتادة.
ومنها: الطباق بين: ﴿تُرِيحُونَ﴾ ﴿تَسْرَحُونَ﴾.
ومنها: صفة المبالغة في قوله: ﴿خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾.
ومنها: الإسناد إلى العام في قوله: ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ﴾؛ أي: الأنعام مرادًا به الخاص وهو الإبل.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ﴾ لأنه حقيقة في النصف والجانب، فاستعير للمشقة والتعب، كما تقول: لن تناله إلا بقطعة من كبدك على المجاز.
ومنها: الإجمال بعد التفصيل في قوله: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿وَمِنْهُ شَجَرٌ﴾ لأن المراد بالشجر هنا مطلق النبات سواء كان له ساق أْم لا، وهو حقيقة فيما كان له ساق.
ومنها: التعميم بعد التخصيص في قوله: ﴿وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾.
ومنها: الإسناد العقلي في قوله: ﴿قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ لما فيه من إسناد حال السالك وهو القصد إلى السبيل، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه، كما ذكره في "روح البيان".
ومنها: تنكير ماء في قوله: ﴿مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ للدلالة على التبعيض، أي: بعض الماء، فإنه لم ينزل من السماء الماء كله.
ومنها: الطباق بين: ﴿اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ في قوله: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾.
ومنها: التفنن في قوله: ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، وفي قوله: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، وفي قوله: ﴿لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ كما مر في مبحث التفسير.
ومنها: التلويح في قوله: ﴿لَحْمًا طَرِيًّا﴾ المراد به السمك، عبر عنه باللحم مع كونه حيوانًا، للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل كما في "الإرشاد"، وللإيذان بعدم احتياجه للذبح كسائر الحيوانات غير الجراد.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾؛ أي: يلبسها نساؤكم لكم، فهي حلية لكم، بهذا الاعتبار كذا قالوا.
ومنها: الاستعارة التبعية في قوله: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ لأن لعل فيهما مستعار لمعنى الإرادة كما في "روح البيان".
ومنها: الإلتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: ﴿وبالنجم هم يهتدون﴾ لإفهام العموم لئلا يظن أن المخاطب مخصوص وليس كذلك، والمعنى: بالنجم هم؛ أي: أهل الأرض كلهم لا خصوص قريش.
ومنها: التشبيه المقلوب في قوله: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ﴾ لأن حق العبارة أن يقال أفمن لا يخلق كمن يخلق.
ومنها: الاستفهام الإنكاري فيه.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾.
ومنها: جمع المؤكدات وصفة المبالغة في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ تأكيدًا لسفاهة من عبد الأصنام، ومثله: ﴿لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿تُسِرُّونَ﴾ و ﴿تُعْلِنُونَ﴾.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿أفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ﴾.
ومنها: الجناس الناقص في قوله: ﴿لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾.
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٣٤) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (٣٩) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤)...﴾
قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٢) بين أحوال المكذبين بالله ورسوله، الذين ينكرون وحيه ويقولون إن محمدًا قد لفق أساطير الأولين وتراهاتهم، ونقلها للناس، وادعى أنها من رب الأرض والسموات، وذكر ما سينالهم من النكال والوبال، إذ يدخلون جهنم خالدين فيها كفاء ما اجترحت أيديهم من الآثام وكسبته من المعاصي.. أردف ذلك بوصف المؤمنين الذين إذا سئلوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا، وذكر ما أعده لهم من الخير والسعادة في جنات تجري من تحتها الأنهار جزاءً وفاقًا لما أحسنوا من العمل، وأتوا به من جميل الصنع.
قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٣): أنه تعالى لما ذكر طعن الكفار في القرآن بقولهم أساطير الأولين، ثم أتبع ذلك بوعيدهم وتهديدهم، ثم وَعَدَ من وصف القرآن بالخيرية.. بين أن أولئك الكفرة لا يرتدعون من حالهم إلا أن تأتيهم الملائكة بالتهديد، أو أمر الله بعذاب الاستئصال.
وعبارة "المراغي" هنا: مناسبة هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر (١) أن هؤلاء المشركين لا يزدجرون إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد والوعيد، أو أتاهم عذاب الاستئصال، كما حدث لمن قبلهم من الأمم جزاء استهزائهم برسل الله تعالى.. قفى على ذلك ببيان أنهم طعنوا في إرسال الأنبياء جملة، وقالوا إنا مجبورون على أعمالنا فلا فائدة من إرسالهم، فلو شاء الله أن نؤمن به ولا نشرك به شيئًا ونحل ما أحله ولا نحرم شيئًا مما حرمنا... لكان الأمر كما أراد، لكنه لم يشأ إلا ما نحن عليه، فما يقوله الرسل إنما هو من تلقاء أنفسهم، لا من عند الله تعالى.
وقد رد الله عليهم مقالهم، بأنه كلام قد سبق بمثله المكذبون من الأمم السالفة، وما على الرسل إلا التبليغ، وليس عليهم الهداية، ولم يترك الله أمةً دون أن يرسل إليها هاديًا يأمر بعبادته، وينهاهم عن الضلال والشرك، فمنهم من استجاب دعوته، ومنهم من أضلَّه الله على علم، فحقت عليهم كلمة ربك، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ثم أمرهم بالضرب في الأرض ليروا آثار أولئك المكذبين، الذين أخذوا بذنوبهم، ثم ذكر رسوله بأن الحرص على إيمانهم لا ينفعك شيئًا، فإن الله لا يخلق الهداية جبرًا وقسرًا فيمن يختار الضلالة لنفسه،
قوله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) حجتهم، وقولهم إنه لا حاجة إلى الأنبياء جميعًا لأنا مجبورون فيما نفعل، وأنه لو شاء الله أن نهتدي لكان دون حاجة إلى إرسال الأنبياء، ورده عليهم بأن الحاجة إليهم إنما هي في تبليغ ما أمر به وترك ما نهى عنه، ولا يلزمون أحدًا بإيمانٍ ولا كفرٍ... أردف هذا بشبهة أخرى لهم، إذ قالوا إنما نحتاج إلى الأنبياء لو كان لنا عودة إلى حياة جديدة بعد الموت فيها ثواب وعقاب، ولكن العودة إلى حياة أخرى غير ممكنة ولا معقولة، ذاك أن الجسم إذا تفرق وذهبت أجزاؤه كل مذهب.. امتنع أن يعود بعينه ليحاسب ويعاقب، فرد الله عليهم ما قالوا بأن هذا ممكن وقد وعد عليه وعدًا حقًّا، وأنه فعل ذلك ليميز الخبيث من الطيب، والعاصي من المطيع، وأيضًا فإيجاده تعالى للأشياء لا يتوقف على سبق مادة ولا آلةٍ، بل يقع ذلك بمحض قدرته ومشيئته، وليس لقدرته دافعٌ ولا مانعٌ.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤)﴾ الآية، قيل سبب نزولها (٢): أن النضر بن الحارث سافر من مكة إلى الحيرة، وكان قد اتخذ كتب التواريخ والأمثال، فجاء إلى مكة فكان يقول إنما يحدث محمد بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه فنزلت الآية.
قوله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ...﴾ الآية، سبب نزولها (٣): ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عن أبي العالية قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين، فأتاه يتقاضاه، فكان فيما يتكلم به:
(٢) البحر المحيط.
(٣) لباب النقول.
وأخرج (١) هؤلاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "قال الله: سبَّني ابن آدم، ولم يكن ينبغي له أن يسبني، وكذبني ولم يكن ينبغي له أن يكذبني، فأما تكذيبه إياي فقال: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾، وقلت: ﴿بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾، وأما سبه إياي فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾، وقلت: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٢٤ - ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ روي أنه اجتمعت (٢) قريش فقالوا: إن محمدًا رجل حلو اللسان، إذا كلم رجلًا.. ذهب بقلبه، فانظروا ناسًا من أشرافكم، فابعثوهم في كل طريق مكة على رأس ليلة أو ليلتين، فمن جاء يريده.. ردوه عنه، فخرج ناس منهم من كل طريق، فكان إذا جاء وافد من القوم ينظر ما يقول محمد فنزل بهم.. قالوا له: هو رجل كذاب ما يتبعه إلا السفهاء والعبيد، ومن لا خير فيه، وأما أشياخ قومه وأخيارهم فهم مفارقوه، فيرجعه أحدهم، وإذا كان الوافد ممن هداه الله.. يقول: بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم.. رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل فأنظر ما يقول، فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ما يقول لهم فيقولون خيرًا، فذلك قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء المشركين المستكبرين المقتسمين طرق مكة من قبل الوفود، أو وفود الحاج في الموسم. ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾؛ أي: أي شيء أنزل ربكم على محمد - ﷺ -، أو ما الذي أنزل ربكم على محمد ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال أولئك المشركون المقتسمون طرق مكة للوافدين الذين سألوهم عن محمد وعما أنزل عليه: {أَسَاطِيرُ
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): برفع ﴿أَسَاطِيرُ﴾ فاحتمل أن يكون التقدير: المذكور أساطير أو المنزل أساطير، وقرىء شاذًا: ﴿أساطير﴾ بالنصب على معنى ذكرتم أساطير، أو أنزل أساطير، على سبيل التهكم والسخرية؛ لأن التصديق بالإنزال ينافي أساطير، وهم يعتقدون أنه ما نزل شي، ولا أنَّ ثم منزلٌ.
والمعنى: أي (٢) وإذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين أي شيء أنزله ربكم؟ قالوا: لم ينزل شيئًا إنما الذي يتلى علينا أساطير الأولين؛ أي: هو مأخوذ من كتب المتقدمين، ونحو الآية قوله حكاية عنهم: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥)﴾ وكانوا يفترون على الرسول - ﷺ - أقوالًا مختلفة، فتارة يقولون: إنه ساحرٌ، وأخرى إنه شاعر أو كاهن، وثالثة إنه مجنون، ثم قر قرارهم على ما اختلقه زعيمهم الوليد بن المغيرة المخزومي كما حكى عنه الكتاب الكريم:
﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤)﴾؛ أي: ينقل ويحكى، فتفرقوا معتقدين صحة قوله، وصدق رأيه، قبحهم الله تعالى.
وكان المشركون يقتسمون مداخل مكة، ينفرون عن رسول الله - ﷺ -، إذا سألهم وفود الحاج يقولون هذه المقالة،
٢٥ - ثم بين عاقبة أمرهم فقال: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ﴾؛ أي: قالوا (٣) هذه المقالة لكي يحملوا أوزارهم وآثامهم الخاصة بهم، وهي أوزار ضلالهم ﴿كَامِلَةً﴾ لم يكفر منها شيءٌ بمصيبة أصابتهم في الدنيا،
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
قال الإِمام الرازي: وقوله: ﴿كَامِلَةً﴾ يدل (٢) على أنه سبحانه وتعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين، إذ لو كان هذا المعنى حاصلًا في حق الكل.. لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفاء بهذا التكميل فائدة، ﴿و﴾ ليحملوا ﴿من أوزار الذين يضلونهم﴾؛ أي (٣): بعض أوزار من ضل بإضلالهم، وهو وزر الإضلال والتسبب للضلال؛ لأنهما شريكان، هذا يضله وهذا يطاوعه، فيتحاملان الوزر، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - ﷺ - قال: "من دعا إلى هدى.. كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة.. كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا" أخرجه مسلم، ومعنى الآية والحديث (٤): أن الرئيس أو الكبير إذا سنَّ سنة حسنة أو قبيحة فتبعه عليها جماعة، فعملوا بها.. فإن الله سبحانه وتعالى يعظم ثوابه أو عقابه، حتى يكونه ذلك الثواب أو العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء، لأن ذلك ليس بعدلٍ، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨)﴾، وقوله: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩)﴾.
قال الواحديُّ: ولفظة ﴿مِنْ﴾ (٥) في قوله: ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ﴾
(٢) الفخر الرازي.
(٣) روح البيان.
(٤) الخازن.
(٥) الواحدي.
وقوله: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ حال من الفاعل؛ أي: يضلونهم غير عالمين بأن ما يدعون إليه طريق الضلال، وبما يستحقونه من العذاب الشديد في مقابلة الإضلال، أو من المفعول؛ أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضلالٌ.
وفائدة (١) التقييد بهذا الإشعار بأن مكرهم لا يروج عند ذوي لب، وإنما يتبعهم الأغبياء، والتنبيه على أن جهلهم ذلك لا يكون عذرًا، إذ كان يجب عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين المحق الحقيق بالاتباع وبين المبطل، ﴿أَلَا﴾ حرف تنبيه ﴿سَاءَ﴾ من أفعال الذم بمعنى بئس، والضمير الذي فيه يجب أن يكون مبهمًا يفسره ﴿مَا يَزِرُونَ﴾ والمخصوص بالذم محذوف؛ أي: بئس شيئًا يزرونه؛ أي: يحملونه، والمخصوص بالذم فعلهم ففيه وعيدٌ وتهديد لهم.
واعلم: أنه لا يحمل أحدٌ وزر أحد، إذ كل نفس تحمل ما اكتسب هي، لا ما كسبت غيرها، إذ ليس ذلك من مقتضى الحكمة الإلهية، وأما حمل وزر الإضلال فهو حمل وزر نفس؛ لأنه مضاف إليه لا إلى غيره، فعلى العاقل أن يجتنب من الضلال والإضلال في أمور الشريعة، فمن حمل القرآن على الأساطير، ودعا الناس إلى القول بها، فقد ضل وأضل، وكذا في جميع أمور الشريعة.
٢٦ - ثم بين لهم أن غائلة مكرهم عائدةٌ إليهم، ووبال ذلك لاحقٌ بهم، كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم من العذاب ما أصابهم بتكذيبهم لرسلهم، فقال: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: من قبل كفار قريش، والمكر الخديعة؛ أي: قد مكر أهل مكة بمحمد - ﷺ -، كما مكر الذين من قبلهم بأنبيائهم، وصار المكر سببًا لهلاكهم لا لهلاك غيرهم؛ لأن من حفر لأخيه جبًّا وقع فيه منكبًا، وفي هذا وعيد للكفار المعاصرين له - ﷺ -، بأن مكرهم سيعود
قال في "المدارك": الجمهور عل أن المراد به - نمروذ بن كنعان - وكان من أكبر ملوك أهل الأرض في زمن إبراهيم عليه السلام، حين بنى الصرح ببابل، وكان قصرًا عظيمًا طوله خمسة آلاف ذراع، وعرضه فرسخان ليقاتل عليه من في السماء بزعمه، ويطلع على إله إبراهيم عليه السلام، فهبت ريح فقصفت وألقت رأسه في البحر، وخر عليهم الباقي فأهلكهم وهم تحته، ولما سقط تبلبلت ألسنة الناس من الفزع، فتكلموا يومئذ بثلاثة وسبعين لسانًا، فلذلك سميت بابل، وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية، وهذا قول مردود؛ لأن التبلبل يوجب الاختلاط والتكلم بشيء غير مستقيم، فأما أن يوجب إحداث لغات مضبوطة الحواشي فباطل، وإنما اللغات تعليم من الله تعالى.
قلت (١): هكذا ذكره البغوي، وفي هذا نظر؛ لأن صالحًا عليه السلام كان قبلهم، وكان يتكلم بالعربية، وكان أهل اليمن عربًا منهم جرهم، الذي نشأ إسماعيل بينهم، وتعلم منهم العربية، وكانت قبائل من العرب قديمة قبل إبراهيم عليه السلام، مثل طسم وجديس وكل هؤلاء عرب تكلموا في قديم الزمان بالعربية، ويدل على صحة هذا قوله: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ الله أعلم، وقيل حمل قوله: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ على العموم أولى، فتكون الآية عامة في جميع الماكرين المبطلين، الذين يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالغير.
﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ﴾؛ أي: أتى أمر الله، وهو الريح التي أخربت بنيانهم، قال المفسرون: أرسل الله ريحًا فألقت رأس الصرح في البحر، وخر عليهم الباقي فهلكوا والبنيان (٢) البناء والجمع أبنية، والقواعد جمع قاعدة، وقواعد البيت أساسه وأساطينه وسواريه، ما سيأتي في مباحث التصريف؛ أي: قصد الله سبحانه وتعالى وأراد تخريب بنائهم من جهة أصوله وأساسه، وأتاه أمره وحكمه وبأسه، أو من جهة الأساطين والسواري التي بنوا عليها بأن ضعفت وزلزلت،
(٢) روح البيان.
هذا (٢) إذا حملنا تفسير الآية على القول الأول، وهو ظاهر اللفظ، وإن حملنا تفسير الآية على القول الثاني، وهو حملها على العموم.. كان المعنى أنهم لما رتبوا منصوبات ليمكروا بها أنبياء الله تعالى، وأهل الحق من عباده.. أهلكهم الله تعالى، وجعل هلاكهم مثل هلاك قوم بنوا بنيانًا شديدًا ودعموه، فانهدم ذلك البنيان وسقط عليهم سقف بنيانهم، فأهلكهم، شبهت حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكايد، وإبطاله تعالى تلك الحيل، وجعله تعالى إياها أسبابًا لهلاكهم، بحال قوم بنوا بنيانًا وعمدوه بالأساطين، فضعضعت تلك الأساطين، فسقط عليهم السقف، فهلكوا، فو مثل ضربه الله تعالى لمن مكر بآخر فأهلكه الله بمكره، ومنه المثل السائر على ألسنة الناس: من حفر لأخيه قليبًا وقع فيه قريبًا.
﴿وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ﴾، أي: وجاءهم الهلاك بالريح ﴿مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بإتيانه منه، بل يتوقعون إتيان مقابله مما يريدون ويشتهون، أو أنهم اعتمدوا على منصوباتهم، ثم تولد البلاء منها بأعيانها.
والمعنى: أن هؤلاء الماكرين القائلين للقرآن العظيم أساطير الأولين سيأتيهم في الدنيا من العذاب مثل ما أتاهم، من جهة لا تخطر ببالهم.
وخلاصة ذلك: أن الله تعالى أحبط أعمالهم، وجعلها وبالًا عليهم ونقمة لهم.
(٢) الخازن.
٢٧ - وبعد أن بين سبحانه ما حل بأصحاب المكر في الدنيا من العذاب والهلاك.. بين حالهم في الآخرة فقال: ﴿ثُمَّ﴾ بعد ما عجل لهم العذاب في الدنيا إن ربك: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ﴾ ويذلهم ويهينهم بعذاب أليم؛ أي (٢): يذل أولئك المفترين والماكرين والذين من قبلهم جميعًا بعذاب الخزي على رؤوس الأشهاد. وفيه (٣) إشهار بأن العذاب يحصل لهم في الدنيا والآخرة، لأن الخزي هو العذاب مع الهوان، وأصل الخزي ذل يستحيى منه، وثم لتفاوت ما بين الجزاءين ﴿وَيَقُولُ﴾ لهم حين ورودهم عليه، على سبيل الاستهزاء والسخرية والتوبيخ، والفضيحة لهم، فهو إلى آخره بيان للإخزاء ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ﴾ تزعمون في الدنيا أنهم شركائي، وكنتم ﴿تُشَاقُّونَ﴾؛ أي: تخاصمون الأنبياء والمؤمنين ﴿فِيهِمْ﴾؛ أي: في شأنهم، بأنهم شركاء أحقاء، حين بينوا لكم بطلانها، وهلا تحضرونهم اليوم ليدفعوا عنكم ما يحل بكم من العذاب، فقد كنتم تعبدونهم في الدنيا وتتولونهم، والولي ينصر وليه، والمراد من المشاقة فيهم مخاصمة الأنبياء وأتباعهم في شأنهم، وزعمهم أنهم شركاء حقًّا، حين بينوا لهم ذلك، والمراد بالاستفهام عن ذلك الاستهزاء والتبكيت والتوبيخ والاحتقار لشأنهم، إذ كانوا يقولون: إن صح ما تدعون إليه من عذابنا فالأصنام تشفع لنا، والاستفسار عن مكانهم لا يوجب غيبتهم حقيقةً، بل يكفي ذلك عدم حضورهم بالعنوان الذي كانوا يزعمون أنهم متصفون به، من عنوان الإلهية، فليس هناك
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
وقرأ الجمهور (١): شركائي ممدودًا مهموزًا مفتوح الياء، وقرأت فرقة كذلك تسكنها، فسقط في الدرج لالتقاء الساكنين، والبزي عن ابن كثير بخلاف عنه مقصورًا، وفتح الياء هنا خاصةً بوزن هداي، وروي عنه ترك الهمز في القصص، وقرأ الجمهور ﴿تشاقون﴾ بفتح النون، وقرأ نافع بكسرها، ورويت عن الحسن، ولا يلتفت إلى تضعيف أبي حاتم هذه القراءة، وقرأت فرقة بتشديدها، أدغم نون الرفع في نون الوقاية.
ثم ذكر مقال الأنبياء والمرسلين في شأنهم يوم القيامة بقوله: ﴿قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ من أهل الموقف، وهم الأنبياء - صلوات الله عليهم - والمؤمنون الذين أوتوا علمًا بدلائل التوحيد، وكانوا يدعونهم في الدنيا إلى التوحيد، فيجادلونهم ويتكبرون عليهم؛ أي: يقولون توبيخًا لهم وإظهارًا للشماتة بهم ﴿إِنَّ الْخِزْيَ﴾؛ أي: الفضيحة والذل والهوان ﴿اليوم﴾ في هذا اليوم، الذي يفصل فيه القضاء، متعلق بالخزي، وإيراده (٢) للإشعار بأنهم كانوا قبل ذلك في عزة وشقاق.
﴿وَالسُّوءَ﴾؛ أي: العذاب ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ باللهِ تعالى وبآياته ورسله، وهو قصر للجنس الادّعائي، كأن ما يكون من الذل وهو العذاب لعصاة المؤمنين لعدم بقائه، ليس من ذلك الجنس، ومرادهم بهذه المقالة الشماتة، وزيادة الإهانة للكافرين وفي ذلك إعظام للعلم، إذ لا يقول ذلك إلا أهله.
٢٨ - ثم بين الكافرين الذين يستحقون هذا العذاب، هم الذين استمر كفرهم إلى أن تتوفاهم الملائكة وهم ظالموا أنفسهم، فقال: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ والموصول في محل الجر على أنه نعت للكافرين، وفائدة هذا النعت تخصيص الخزي والسوء بمن استمر كفره إلى حين الموت، دون من آمن منهم، ولو في آخر عمره؛ أي: إن الخزي والسوء على الكافرين الذين استمروا على الكفر حتى تقبض ملائكة الموت أرواحهم؛ أي: عزرائيل وأعوانه حالة كونهم {ظَالِمِي
(٢) روح البيان.
ثم ذكر حالهم حينئذٍ من الخضوع والمذلة فقال: ﴿فَأَلْقَوُا السَّلَمَ﴾ عطف على قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ﴾ والسلم بالتحريك الاستسلام؛ أي: فيلقون الاستسلام والانقياد في الآخرة، حين عاينوا العذاب، ويتركون المشاقة والمخاصمة، وينزلون عما كانوا عليه في الدنيا من التكبر، والعلو وشدة الشكيمة قائلين: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ﴾ في الدنيا ﴿مِنْ سُوءٍ﴾؛ أي: من شرك، قالوا ذلك منكرين لصدوره عنهم قصدًا لتخليص نفوسهم من العذاب؛ أي: أسلموا (٢) وأقروا لله بالعبودية، حين عاينوا العذاب عند الموت، قائلين ما كنا نشرك بربنا أحدًا، وهم قد كذبوا على ربهم واعتصموا بالباطل رجاء النجاة، ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾.
﴿بَلَى﴾ رد عليهم من قبل الله تعالى، أو من قبل الملائكة، أو من قبل أولي العلم، وإثبات لما نفوه؛ أي: فتقول الملائكة بلى كنتم تعملون أعظم الشرك وأقبح الآثام و ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا من الشرك، فهو يجازيكم عليه، وهذا أوانه فلا يفيدكم إنكاركم وكذبكم على أنفسكم
٢٩ - والفاء في قوله: ﴿فَادْخُلُوا﴾ للتعقيب ﴿أَبْوَابَ جَهَنَّمَ﴾؛ أي: كل صنف بابه المعدُّ له؛ أي: فادخلوا طبقات جهنم، وذوقوا ألوانًا من العذاب، بما دنستم به أنفسكم من الإشراك بربكم، واجتراحكم عظيم الموبقات والمعاصي، حالة كونكم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أبدًا إن (٣) أريد بالدخول حدوثه.. فالحال مقدرة، وإن أريد مطلق الكون فيها.. فمقارنة، والفاء في قوله ﴿فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ عن قبول
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
وذكرهم بعنوان (٢) التكبر للإشعار بعلته لثوابهم وإقامتهم فيها، والمراد المتكبر عن التوحيد، أو كل متكبر من المشركين والمسلمين.
فائدة: قال الشيخ علي السمرقندي في تفسيره المسمى بـ "بحر العلوم": التكبر ينقسم على ثلاثة أقسام: التكبر على الله تعالى، وهو أخبث أنواع الكبر وأقبحها، وما منشأه إلا الجهل المحض، ثم التكبر على الرسل من تعزز النفس، وترفعها عن الانقياد لبشر مثل سائر الناس، وهذا كالتكبر على الله تعالى في الوقاحة واستحقاق العذاب السرمديِّ، والثالث التكبر على العباد، وهو بأن يستعظم نفسه، ويستحقر غيره، فيأبى عن الانقياد لهم، ويدعوه إلى الترفع عليهم، فيزدريهم ويستصغرهم ويستنكف عن مساواتهم، وهو أيضًا قبيح، وصاحبه جاهل كبير يستأهل سخطًا عظيمًا لو لم يتب، وإن كان دون الأولين للدخول تحت عموم قوله: ﴿مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾، وأيضًا من تكبر على أحد من عباد الله فقد نازع الله في ردائه وفي صفةٍ من صفاته، قال أبو صالح حمدان بن أحمد القصار - رحمه الله تعالى -: من ظن أن نفسه خيرٌ من نفس فرعون فقد أظهر الكبر.
٣٠ - ثم أتبع أوصاف الأشقياء بأوصاف السعداء فقال: ﴿وَقيِلَ﴾ روي (٣) أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام موسم الحج من يأتيهم بخبر النبي - ﷺ -، فإذا جاء الوافد كفه المقتسمون الذين اقتسموا طرق مكة، وأمروه بالانصراف، وقالوا: إن
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال المتقون في جواب سؤال الوافد: أنزل ربنا ﴿خَيْرًا﴾.
وهو اسم جامع لكل خير ديني ودنيوي وأخروي ظاهري معنوي، وفي تطبيق الجواب بالسؤال إشارة إلى أن الإنزال واقع، وأنه نبي حق، وقرأ زيد بن علي ﴿خَيْرٌ﴾ بالرفع: أي: المُنْزَلُ خيرٌ، كما في "البحر".
قال الثعلبي: فإن (١) قيل: لم ارتفع الجواب في قوله: ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وانتصب في قوله: ﴿خَيْرًا﴾؟ فالجواب أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل، فكأنهم قالوا: الذي يقوله محمد هو أساطير الأولين، والمؤمنون آمنوا بالنزول فقالوا: أنزل خيرًا اهـ.
والمعنى: أي وقيل للذين خافوا عقاب ربهم: أي شيء أنزله ربكم؟ قالوا: أنزل خيرًا وبركة ورحمة لمن اتبع دينه، وآمن برسوله، وقوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ قيل: هذا من كلام الله عن وجل، وقيل: هو حكاية لكلام الذين اتقوا، فيكون على هذا بدلًا من ﴿خَيْرًا﴾ وعلى الأول يكون كلامًا مستأنفًا مسوقًا للمدح للمتقين.
والمعنى: للذين أحسنوا أعمالهم وأخلصوا، وقالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإنه أحسن الحسنات وأسُّ الديانات.
﴿فِي هَذِهِ﴾ الدار ﴿الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾؛ أي: مثوبة حسنة مكافأة فيها بإحسانهم، وهي عصمة الدماء والأموال، واستحقاق المدح والثناء والظفر على الأعداء ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ﴾؛ أي: ولثوابهم فيها ﴿خَيْرٌ﴾ مما أوتوا في الدنيا من المثوبة، أو
﴿وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: وعزة الله وجلاله لنعم وحسن دار المتقين دار الآخرة، فالمخصوص بالمدح محذوف لدلالة ما قبله عليه، وقال الحسن: دار المتقين الدنيا لأنهم منها يتزودون للآخرة، والقول (٢) الأول أولى، وهو قول جمهور المفسرين؛
٣١ - لأن الله فسر هذه الدار بقوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ عدن علم على طبقة من طبقات الجنة الثمانية؛ أي: لهم بساتين عدن حال كونهم ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ حال كونها ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت منازلها وأشجارها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة على أن يكون المنبع فيها بشهادة مِنْ، ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الجنات حال من المبتدأ المؤخر، وهو قوله ﴿مَا يَشَاءُونَ﴾ ويحبون من أنواع المشتهيات، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، قال البيضاوي: في تقديم الظرف تنبيهٌ (٣) على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة اهـ.
قال بعضهم: إن قلت (٤) هل يجوز للمرء أن يشتهي في الجنة اللواطة، وقد ذهب إليه من لا وقوف له على جلية الحال؟
فالجواب: أن الاشتهاء المذكور مخالف لحكمة الرب الغفور، ولو جاز هو.. لجاز نكاح الأمهات فيها، على تقدير الاشتهاء، وإنه مما لا يستريب عاقل في بطلانه، ألا ترى أن المذكور وكذا الزنى واللواطة والكذب ونحوها، كان حرامًا مؤبدًا في الدنيا في جميع الأديان، لكونه مما لا تقتضي الحكمة حله، بخلاف الخمر ونحوها، ولذا كانت هي أحد الأنهار الجارية فيها، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن لا يستطيب ما استخبثته الطباع السليمة.
﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك الجزاء الأوفى ﴿يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ﴾ والمراد بالمتقين كل من يتقي الشرك، وما يوجب النار من المعاصي، والموصول في
(٢) الخازن.
(٣) بيضاوي.
(٤) روح البيان.
وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن (٢): ﴿جنات عدن﴾ بالنصب على الاشتغال؛ أي: يدخلون جنات عدن يدخلونها، وهذه القراءة تقوي إعراب جنات عدن بالرفع على أنه مبتدأ، ويدخلونها الخبر، وقرأ زيد بن عليّ: ﴿ولِنعْمَةُ دارِ﴾ بتاءِ مضمومةٍ، ودارٍ مخفوضٍ بالإضافة، فيكون نعمة مبتدأ وجنات الخبر.
وقرأ السلمي: ﴿تدخلونها﴾ بتاء الخطاب، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع: ﴿يدخلونها﴾ بياء على الغيبة، والفعل مبني للمفعول، ورويت عن أبي جعفر وشيبة.
وقرأ الأعمش وحمزة (٣):) ﴿تَتَوَفَّاهُمُ﴾ في هذا الموضع، وفي الموضع الأول بالياء التحتية، وقرأ الباقون: لمثناة الفوقية، واختار القراءة الأولى أبو عبيد مستدلًا بما روي عن ابن مسعود أنه قال: إن قريشًا زعموا أن الملائكة إناث فذكروهم أنتم.
وجملة قوله: ﴿يَقُولُونَ﴾ حالٌ من الملائكة؛ أي: حالة كون الملائكة قائلين لهم على وجه التعظيم والتبشير ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمُ﴾ لا يحيق بكم بعد مكروه، ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ التي أعدها لكم ربكم، ووعدكموها، والمراد دخولهم له في وقته، ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بسبب (٤) ثباتكم على التقوى والطاعة والعمل وإن لم يكن موجبًا للجنة؛ لأن الدخول فيها محض فضل الله إلا أن الباء دلت على أن الدرجات إنما تنال بالأعمال وصدق الأحوال، فإن المراد من دخول
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
وفي "تفسير المراغي": والمراد (١) من قوله: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ البشارة بالدخول فيها بعد البعث، إذا أريد الدخول بالأرواح والأبدان، فإن أريد الدخول بالأرواح فحسب، كان ذلك حين التوفي كما يشير إليه قوله - ﷺ -: "القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار"، أخرج ابن جرير والبيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال: "إذا أشرف العبد المؤمن على الموت.. جاءه ملك الموت، فقال: السلام عليك يا وليَّ الله، الله يقرأ عليك السلام، وبشره بالجنة"، ٣٣ - ٣٣ والاستفهام في قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ إنكاري؛ أي: ما ينتظر كفار مكة الذين قالوا إن القرآن أساطير الأولين ﴿إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾، أى: ملك الموت وأعوانه لقبض رواحهم بالتهديد والتعذيب، لمواظبتهم على الأسباب الموجبة له المؤدية إليه، فكأنهم يقصدون إتيانه ويترصدون لوروده، وليس المراد أنهم ينتظرون ذلك حقيقةً لأنهم لا يصدقونه ﴿أَوْ﴾ إلا أن ﴿يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾، أي: عذابه في الدنيا المستأصل لهم، كما فعل بأسلافهم من الكفار، فيرسل عليهم الصواعق، أو يخسف بهم الأرض، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، وهذا تهديد لهم على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا.
وخلاصة هذا: حثهم على الإيمان بالله ورسوله، والرجوع إلى الحق قبل أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم من السالفين المكذبين لرسلهم.
وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وخلف (٢): ﴿إلا أن يأتيهم الملائكة﴾ بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية.
ثم ذكر أنهم ليسوا بأول من كذب بالرسل فقال: ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل فعل هؤلاء من الشرك والظلم والتكذيب والاستهزاء ﴿فَعَلَ الَّذِينَ﴾ خلوا ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الأمم فأصابهم العذاب المعجل.
﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ بذلك، فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم {وَلَكِنْ كَانُوا
(٢) الشوكاني.
والمعنى (١): أي وما ظلمهم الله تعالى بإنزال العذاب بهم؛ لأنه أعذر إليهم، وأقام حججه عليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه، ولكن ظلموا أنفسهم بمخالفة الرسل وتكذيبهم ما جاؤوا به.
٣٤ - ثم أعقبه بذكر ما ترتب على أعمالهم فقال: ﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾ معطوف على قوله: ﴿فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وما بينهما اعتراض، وقيل (٢) في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله... إلخ.
والمعنى: فأصابهم بحكم عدل جزاء سيئات أعمالهم، أو جزاء أعمالهم السيئة، على طريقة تسمية المسبب باسم سببه، إيذانًا بفظاعته، لا على حذف لمضاف، فإنه يوهم أن لهم أعمالًا غير سيئاتهم، ﴿وَحَاقَ بِهِمْ﴾؛ أي: أحاط بهم ونزل من الحيق الذي هو إحاطة الشر كما في "القاموس"؛ أي: نزل بهم على وجه الإحاطة.
﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ من العذاب الموعود؛ أي: نزل بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون أو عقاب استهزائهم.
٣٥ - ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ بالله من أهل مكة، فعبدوا الأصنام والأوثان من دونه تعالى، معتذرين عما هم عليه من الشرك محتجين بالقدر ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى عدم عبادتنا لشيءٍ غيره ﴿مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: ما عبدنا من دونه شيئًا من الأصنام ﴿نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا﴾ الذين اقتدينا بهم في ديننا ﴿وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: ولو شاء الله تعالى عدم تحريمنا شيئًا من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.. ما حرمنا من دونه شيئًا من ذلك.
والمعنى: ما نعبد هذه الأصنام إلا لأنه قد رضي عبادتنا لها، ولا حرمنا ما
(٢) الشوكاني.
والخلاصة (١): فإشراكنا بالله الأوثان وتحريمنا الأنعام والحرث بمشيئته تعالى، وهو راضٍ بذلك، وحينئذٍ فلا فائدة في مجيئك إلينا، بالأمر والنهي في إرسالك إلينا، وقد رد الله تعالى عليهم شبهتهم بقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك الفعل الشنيع ﴿فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الأمم، فأشركوا بالله، وحرموا حله، وعصوا رسله، وجادلوهم بالباطل حين نبهوهم على الخطأ، وهدوهم إلى الحق.
واستن هؤلاء سنتهم، وسلكوا سبيلهم في تكذيب الرسول، واتباع أفعال آبائهم الضلال.
ثم بين خطاهم فيما يقولون ويفعلون فقال: ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾؛ أي: فهل (٢) على الرسل الذين أمروا بتبليغ رسالات ربهم، من أمره ونهيه، إلا إبلاغ الرسالة، وإيضاح طريق الحق، وإظهار أحكام الوحي، التي منها أن مشيئة الله تعالى تتعلق بهداية من وجه همته إلى تحصيل الحق، كما قال ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ وليس من وظيفتهم إلجاء الناس إلى الإيمان شاؤوا أو أبوا، فإن ذلك ليس من شأنهم، ولا من الحكمة التي عليها مدار التكليف، حتى يستدل بعدم ظهور آثارها على عدم حقية الرسل أو على عدم تعلق مشيئة الله بذلك.
والاستفهام في قوله: ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ﴾ إنكاري؛ أي: ليست (٣) وظيفتهم إلا تبليغ الرسالة تبليغًا واضحًا، وإطلاع الخلق على بطلان الشرك وقبحه، لا إلجاءهم إلى قبول الحق، وتنفيذ قولهم عليهم شاؤوا أو أبوا.
وقصارى ذلك (٤): أن الثواب والعقاب لا بُدَّ فيهما من أمرين، تعلق مشيئته
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
ثم بين سبحانه أن بعثة الرسل أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها، وجعلت سببًا لهدى من أراد الله هدايته، وزيادة ضلال من أراد ضلاله، كالغذاء الصالح ينفع المزاج السوي ويقويه، ويضر المزاج المنحرف ويفنيه، فقال:
٣٦ - ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا في كل أمة من الأمم التي سلفت قبلكم ﴿رَسُولًا﴾ خاصًّا بهم، كما بعثناك في هؤلاء لإقامة الحجة عليهم، ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، و ﴿أن﴾ في قوله: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ إما مصدرية (١)؛ أي: بعثنا بأن اعبدوا الله، أو مفسرة لأن في البعث معنى القول؛ أي: قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله وحده لا شريك له، ﴿وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾؛ أي: واتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم وكل من دعا إلى الضلال، أو واحذروا أن يغويكم الشيطان ويصدكم عن سبيل الله فتضلوا، والطاغوت هو الشيطان، وكل ما يدعو إلى الضلالة، وذلك لإلزام الحجة، وقطع المعذرة، مع علمه أن منهم من لا يأتمر بالأوامر ولا يؤمن، و ﴿الفاء﴾ في قوله: ﴿فَمِنْهُمْ﴾ فاء (٢) الفصيحة؛ أي: فبلغوا ما بعثوا به من الأمر، بعبادة الله وحده، واجتناب الطاغوت، فتفرقوا، فمنهم؛ أي: فمن هذه الأمم التي بعث الله إليها رسله، ﴿مَنْ هَدَى اللَّهُ﴾؛ أي: أرشده إلى دينه وتوحيده وعبادته، واجتناب الطاغوت، أو خلق (٣) فيه الاهتداء إلى الحق الذي هو عبادته واجتناب الطاغوت، بعد صرف قدرتهم واختيارهم الجزئي إلى تحصيله ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾؛ أي: وجبت وثبتت عليه الضلالة إلى حين الموت، لعناده وإصراره على الكفر، وعدم صرف قدرته، فلم يخلق فيه الاهتداء، ولم يرد أن يطهر قلبه.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وإجمال القول (٢): أن المشيئة الشرعية للكفر منتفية؛ لأنه تعالى نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، والمشيئة الكونية وهي تمكين عباده من الكفر، وتقديره لهم بحسب اختيارهم وصرف همتهم إلى تحصيل أسبابه، لا حجة لهم فيها، لأنه تعالى خلق النار وجعل أهلها من الشياطين وأهل الكفر، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حجةٌ ناصعةٌ وحكمة بالغة.
ثم بين سبحانه أنه أنكر على عباده المكذبين كفرهم بإنزال العقوبة بهم في الدنيا بعد إنذار الرسل فقال: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾؛ أي: فممن بعثنا فيهم رسلنا من هداه الله، ووفقه لتصديقهم وقبول إرشادهم، والعمل بما جاؤوا به، ففازوا وأفلحوا ونجوا من عذابه، ومنهم من جاروا عن قصد السبيل، فكفروا بالله، وكذبوا وسله، واتبعوا الطاغوت، فأهلكهم بعقابه، وأنزل بهم شديد بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
و ﴿الفاء﴾ في قوله: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ فاء الفصيحة؛ أي: إذا عرفتم التفريق المذكور، وأردتم معرفة عاقبة من حقت عليهم الضلالة.. فأقول لكم سيروا وسافروا يا معشر قريش، إذ الكلام معهم في أكناف الأرض ونواحيها ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾؛ أي: كيف كان آخر أمر المكذبين لرسلهم، من عاد وثمود، ومن سار بسيرتهم ممن حقت عليهم الضلالة، لعلكم تعتبرون
(٢) المراغي.
والمعنى (٢): أي فسيروا في الأرض التي كان يسكنها القوم الظالمون، والبلاد التي كانوا يعمرونها، كديار عاد وثمود ومن سار سيرتهم، ممن حقت عليهم الضلالة، وانظروا إلى آثار سخطنا عليهم، لعلكم تعتبرون بما حل بهم.
ثم خاطب سبحانه رسوله - ﷺ - مسليًا له على ما يراه من جحود قومه، وشديد إعراضهم، ومبالغتهم في عنادهم، مع أسفه عليهم، وعظيم رغبته في إيمانهم، ومبينًا أن الأمر بيد الله، وليس له من الأمر شيءٌ فقال: ﴿إِنْ تَحْرِصْ﴾ يا محمد ﴿عَلَى هُدَاهُمْ﴾؛ أي: على هداية قومك؛ أي: إن تطلب هداية قريش بجهدك.. لا ينفعهم حرصك على إيمانهم وهدايتهم، إذا كان الله تعالى يريد إضلالهم بسوء اختيارهم، وتوجيه عزائمهم إلى عمل المعاصي والإشراك بربهم، وجملة قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾ معللة لجواب الشرط الذي قدرناه؛ أي: لأنه تعالى لا يخلق الهداية قسرًا فيمن يخلق فيه الضلالة لسوء اختياره، ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾؛ أي: وما لهم ناصرٌ ينصرهم من الله إن إراد عقوبتهم، كما قال: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾؛ أي: وليس لهم أحدٌ يعينهم على مطلوبهم في الدنيا والآخرة من دفع العذاب عنهم.
ومجمل القول (٣): أنَّ من اختار الضلالة ووجه همته إلى تحصيل أسبابها، فالله سبحانه لا يخلق فيه الهداية قسرًا وإلجاءً؛ لأن مدار الإيمان والكفر الاختيار لا الإلجاء والاضطرار.
٣٧ - وقرأ النخعي (٤): ﴿وإن﴾ بزيادة واو وهو والحسن وأبو حيوة ﴿تَحْرِصْ﴾ بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة، وقرأ الجمهور بالكسر مضارع حرص
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
وإذا ثبت أن هدى لازم بمعنى اهتدى.. لم تكن ضعيفةً؛ لأنه أدخل على اللازم همزة التعدية، فالمعنى لا يجعل مهتديًا من أصله، وفي مصحف أبي: ﴿لا هادي لمن أضلَّ﴾، وقال الزمخشري: وفي قراءة أبيٍّ فإن الله لا هادي لمن يضل، ولمن أضل، وقرىء يضل بفتح الياء.
٣٨ - ثم ذكر عناد قريش وإنكارهم للبعث فقال: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ﴾؛ أي: حلف الذين أشركوا ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾؛ أي: غاية أيمانهم، وإذا حلف الرجل بالله.. فقد حلف جهد يمينه، فإن الكفار كانوا يحلفون بآبائهم وآلهتهم، فإذا كان الأمر عظيمًا.. حلفوا باللهِ تعالى، وهذا عطف على قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ إعلامًا بأنهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث وقوله: ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ مصدر في موضع الحال وقوله: ﴿لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾ من عباده مقسم عليه؛ أي: حلف (١) هؤلاء المشركون بالله حالة كونهم جاهدين ومبالغين في أيمانهم، حتى بلغوا غاية شدتها ووكادتها، قائلين: لا يبعث الله يوم القيامة من يموت من عباده، فإنهم يجدون في تقولهم أن الشيء إذا صار عدمًا محضًا لا يعود بعينه، بل العائد يكون شيئًا آخر، ولقد رد الله تعالى عليهم أبلغ ردّ بقوله: ﴿بَلَى﴾ إثباتٌ
وقرأ الضحاك (٢): ﴿بلى وعد عليه حق﴾ والتقدير: بعثهم وعد عليه حق، وحق صفة لوعد، والمعنى؛ أي: بلى (٣) سيبعثه الله بعد مماته، وقد وعد ذلك وعدًا حقًّا لا بد منه، ولكن أكثر الناس لجهلهم بشؤون الله وصفات كماله، من علم وقدرة وحكمة ونحوها، يعلمون أن وعد الله لا بد من نفاذه، وأنه باعثهم بعد مماتهم يوم القيامة أحياء، ومن قبل هذا جرؤوا على مخالفة الرسل، ووقعوا في الكفر والمعاصي.
٣٩ - ثم ذكر سبحانه الحكمة في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد فقال: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ﴾ و ﴿اللام﴾ متعلقة بـ ﴿يبعثهم﴾ المقدر بعد بلى، أي: بلى يبعث الله كل من يموت مؤمنًا كان أو كافرًا، ليبين لمنكري البعث، وقوله: ﴿الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ في موضع نصب على أنه مفعول يبين؛ أي: ليبين للمشركين الذين ينكرون البعث الأمر الذي يختلفون فيه مع المؤمنين، من أمر الدين بتعذيبهم، وإثابة المؤمنين، مما جاءت به الرسل وخالفتهم فيه أممهم، فيمتاز الخبيث من
(٢) الفتوحات.
(٣) المراغي.
٤٠ - ثم أخبر سبحانه عن كامل قدرته، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء فقال: ﴿إِنَّمَا﴾ و ﴿ما﴾ فيه كافة ﴿قَوْلُنَا﴾ مبتدأ ﴿لِشَيْءٍ﴾؛ أي: أي شيء كان مما عز وهان، متعلق بـ ﴿قَوْلُنَا﴾ على أن اللام للتبليغ، كهي في قولنا: قلت له قم فقام، فإن قلت: فيه دليل على أن المعدوم شيءٌ؛ لأنه سماه شيئًا قبل كونه.
قُلْتُ: التعبير عنه بذلك باعتبار وجوده عند تعلق مشيئته تعالى، لا أنه كان شيئًا قبل ذلك. وفي "التأويلات النجمية": في الآية دلالة على أن المعدوم الذي في علم الله إيجاده شيء، بخلاف المعدوم الذي في علم الله عدمه أبدًا، ﴿إِذَا أَرَدْنَاهُ﴾ ظرف لـ ﴿قَوْلُنَا﴾؛ أي: وقت إرادتنا لوجوده ﴿أَنْ نَقُولَ لَهُ﴾ خبر المبتدأ ﴿كُن﴾؛ أي: احدث وابرز من العدم إلى الوجود، لأنه من كان التامة بمعني الحدوث التام، ﴿فَيَكُونُ﴾ ذلك الشيء ويحدث، عطف على مقدر؛ أي: فنقول ذلك فيكون، أو جواب لشرط محذوف؛ أي: فإذا قلنا ذلك.. فهو يكون ويحدث عقيب ذلك، وهذا الكلام مجازٌ عن سرعة الإيجاد وسهولته على الله، وليس هناك قول ولا مقول له، ولا آمر ولا مأمور، حتى يقال إنه يلزم أحد
والمعنى: أي (١) إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت. فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائه ولا بعثه؛ لأنا إذا أردنا ذلك.. فإنما نقول له كن فيكون، لا معاناة فيه ولا كلفة علينا، ونحو الآية قوله: ﴿فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وقوله: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)﴾، وقوله: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾.
وخلاصة هذا: أنه تعالى مثل حصول المقدورات وفق مشيئته، وسرعة حدوثها حين إرادته سرعة حصول المأمور حين أمر الآمر، وقوله دون هوادة ولا تراخ، ولكن العباد (٢) خوطبوا بذلك على قدر عقولهم، ولو أراد الله خلق الدنيا وما فيها في قدر لمح البصر.. لقدر على ذلك، فالمعنى: إنما إيجادنا لشيء عند تعلق إرادتنا به أن نوجده في أسرع ما يكون، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وحمزة ﴿فَيَكُونُ﴾ رفعًا، وكذلك في كل القرآن، وقرأ ابن عامر والكسائي: ﴿فيكون﴾ نصبًا، قال مكيٌّ بن إبراهيم: من رفع قطعه عما قبله.
والمعنى: فهو يكون، ومن نصب عطفه على يقول. والله أعلم.
الإعراب
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥)﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿قِيلَ﴾ فعلٌ ماض مغير الصيغة، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به، ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾: نائب فاعل محكي، وإن شئت قلت: ﴿مَاذَا﴾: اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا، ﴿أَنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب
(٢) المراح.
﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦)﴾.
﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار
﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿يوم القيامة﴾ ظرف متعلق بما بعده، ﴿يخزيهم﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ ﴿وَيَقُولُ﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿يُخْزِيهِمْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ﴾: إلى قوله: ﴿قَالَ الَّذِينَ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿أَيْنَ﴾ اسم استفهام للاستفهام التوبيخي في محل الرفع خبر مقدم وجوبًا، ﴿شُرَكَائِيَ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ ﴿يقول﴾ ﴿الَّذِينَ﴾ في محل الرفع صفة لـ ﴿شُرَكَائِيَ﴾: ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تُشَاقُّونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾ ﴿فِيهِمْ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تُشَاقُّونَ﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول، ﴿قَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿أُوتُوا الْعِلْمَ﴾: فعل مغير ونائب فاعل ومفعول ثان؛ لأن أتى هنا بمعنى أعطى يتعدى لمفعولين، أولهما صار نائب فاعل، لـ ﴿أُوتُوا﴾ والأصل قال الذين آتاهم الله العلم، والجملة الفعلية صلة الموصول، ﴿إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ﴾ إلى قوله: ﴿فَأَلْقَوُا السَّلَمَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّ الْخِزْيَ﴾: ناصب واسمه،
﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)﴾.
﴿فَادْخُلُوا﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب، ﴿ادخلوا﴾: فعل وفاعل، ﴿أَبْوَابَ جَهَنَّمَ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ادخلوا﴾، أو منصوب على التشبيه بالمفعول به، والجملة معطوفة على الجواب تقديره: بلى كنتم تعملون أشد الشرك وأقبح الآثام فادخلوا أبواب جهنم، ﴿خَالِدِينَ﴾: حال مقدرة من فاعل ﴿ادخلوا﴾ ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾، ﴿فَلَبِئْسَ﴾ الفاء}: حرف عطف وتعقيب، ﴿اللام﴾؛ موطئة للقسم، ﴿بئس مثوى المتكبرين﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف، وجملة القسم معطوفة على جملة قوله:
﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠)﴾.
﴿وَقِيلَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿قيل﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لِلَّذِينَ﴾: متعلق به، ﴿اتَّقَوْا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾ نائب فاعل محكي لـ ﴿قيل﴾، وجملة ﴿قيل﴾ مستأنفة، وإن شئت قلت: ﴿مَاذَا﴾: اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا، ﴿أَنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قيل﴾، وإن شئت قلت ﴿مَاذَا﴾ مبتدأ وخبر، وجملة ﴿أَنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾ صلة لـ ﴿ذا﴾ الموصولة، كما مر نظيره فراجعه، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، الجملة مستأنفة، ﴿خَيْرًا﴾: مفعول لفعل محذوف تقديره: أنزل خيرًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول قالوا، ﴿لِلَّذِينَ﴾ جار ومجرور خبر مقدم، ﴿أَحْسَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصولة ﴿فِي هَذِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَحْسَنُوا﴾، ﴿الدُّنْيَا﴾: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عنه ﴿حَسَنَةٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل النصب بدل من ﴿خَيْرًا﴾، أو جملة مفسرة له ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ﴾: مبتدأ ومضاف إليه، و ﴿اللام﴾ حرف ابتداء ﴿خَيْرٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ ﴿وَلَنِعْمَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم المحذوف، ﴿نِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف، والتقدير: والله لنعم دار المتقين، وجملة القسم معطوفة على الجملة التي قبلها، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: هي.
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١)﴾.
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ مبتدأ ومضاف إليه، والخبر محذوف تقديره: لهم جنات عدن، والجملة مستأنفة، وفيه أوجه أخر تركناها خوف الإطالة، ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾: فعل
﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب صفة لـ ﴿الْمُتَّقِينَ﴾. ﴿تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿طَيِّبِينَ﴾ حال من المفعول في ﴿تَتَوَفَّاهُمُ﴾، ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾ ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمُ﴾ إلى آخر الآية: مقولٌ محكي لـ ﴿يَقُولُونَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿سَلَامٌ﴾: مبتدأ سوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض الدعاء، ﴿عَلَيْكُمُ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول القول، ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾: فعل وفاعل مفعول، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ادْخُلُوا﴾، و ﴿الباء﴾ سببية، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ خبره، وجعله ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تعملونه، ويصح أن تكون مصدريةً؛ أي: بعملكم.
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣)﴾.
﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٣٤)﴾.
﴿فَأَصَابَهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب، ﴿أَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا﴾: فعل ومفعول وفاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وما بينهما اعتراض اهـ "سمين "، وجملة ﴿عَمِلُوا﴾ صلةٌ لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، ﴿وَحَاقَ﴾: فعل ماض، ﴿بِهِمْ﴾: متعلق به، ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أصابهم﴾، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِهِ﴾: متعلق بما بعده، وجملة ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿أَشْرَكُوا﴾: فعل وفاعل،
﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف، ﴿فَعَلَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: صلة الموصول، والجملة مستأنفة، والتقدير: فعل الذين من قبلهم فعلًا مثل فعل هؤلاء المشركين، ﴿فَهَلْ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت فعل هؤلاء، وفعل الذين من قبلهم، وأردت بيان ما على الرسل.. فأقول لك: هل على الرسل، ﴿هَلْ﴾؛ حرف استفهام، للاستفهام الإنكاري، ﴿عَلَى الرُّسُلِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿الْبَلَاغُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿المبين﴾: صفة لـ ﴿الْبَلَاغُ﴾ والجملة الاستفهامية في محل النصب مقولٌ لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿بَعَثْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿فِي كُلِّ أُمَّةٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه،
﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾.
﴿فَسِيرُوا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم التفريق المذكور، وأردتم معرفة حال من حقت عليه الضلالة.. فأقول لكم ﴿سيْروا﴾: فعل وفاعل، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿سيروا﴾، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿فَانْظُرُوا﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب، ﴿انظروا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿سيروا﴾، ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم عليها، وهي معلقة لـ ﴿انظروا﴾ عن العمل فيما بعده، ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ فعل ناقص واسمه ومضاف إليه، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل النصب مفعول ﴿انظروا﴾.
﴿إِنْ﴾: حرف شرط، ﴿تَحْرِصْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على محمد، ﴿عَلَى هُدَاهُمْ﴾: متعلق به، وجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية محذوف، تقديره: فلا ينفعهم حرصك، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ ﴿الفاء﴾ تعليلية للجواب المحذوف، ﴿إن الله﴾: ناصب واسمه، ﴿لَا يَهْدِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَهْدِي﴾ ﴿يُضِلُّ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: من يُضِلُّهُ ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿ما﴾: حجازية أو تميمية ﴿لَهُمْ﴾: خبر ﴿ما﴾ مقدم، أو خبر المبتدأ، ﴿مِنْ نَاصِرِينَ﴾: اسمها مؤخر، أو مبتدأ مؤخر، و ﴿مِنْ﴾ زائدة، والجملة معطوفة على جملة ﴿إن﴾.
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨)﴾.
﴿وَأَقْسَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿أقسموا﴾ ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾: منصوب على المصدرية، واقع موقع الحال، كما مر في مبحث التفسير، ﴿لَا يَبْعَثُ اللَّهُ من﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف، واقع حالًا من فاعل ﴿أقسموا﴾؛ أي: وأقسموا باللهِ جهد أيمانهم قائلين ﴿لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾ ﴿يَمُوتُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة صلة الموصول، ﴿بَلَى﴾: حرف جواب لإثبات ما بعد النفي، نائب عن الجواب المحذوف، تقديره: بلى يبعثه الله تعالى، والجملة المحذوفة مستأنفة، ﴿وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾: مصدران مؤكدان منصوبان بفعلهما المقدر، تقديره: وعد ذلك وعدًا، وحق ذلك حقًّا، ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور صفةٌ
﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (٣٩)﴾.
﴿لِيُبَيِّنَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يبين﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كَي، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ ﴿لَهُمُ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لتبيينه لهم، الجار والمجرور متعلق بالجواب المقدر بعد بلى؛ أي: بلى يبعثهم الله لتبيينه لهم، ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول يبين، ﴿يَخْتَلِفُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿فِيهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول، ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: ولعلم الذين كفروا، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ﴾، ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿كَانُوا كَاذِبِينَ﴾ فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿أنَّ﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿علم﴾.
﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾ ﴿إن﴾: حرف نصب، و ﴿ما﴾: كافة، ﴿قَوْلُنَا﴾: مبتدأ أو مضاف إليه، ﴿لِشَيْءٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَوْلُنَا﴾، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في حل النصب على الظرفية، مبني على السكون، ﴿أَرَدْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾ تقديره: وَقْتَ إرادتنا إياه، والظرف متعلق بـ ﴿قَوْلُنَا﴾، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿نَقُولَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، وفعله ضمير يعود على ﴿اللهُ﴾ ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نَقُولَ﴾، ﴿كُنْ﴾: مقول محكي لـ ﴿نَقُولَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿كُنْ﴾: فعل أمر تام بمعنى أحدث، وفاعله ضمير يعود على
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ الأساطير جمع أسطورة، كأحاديث جمع أُحدوثة، وأضاحيك جمع أضحوكة، وأعجايب جمع أعجوبة، وأراجيح جمع أرجوحة، وهي الأكاذيب والأباطل والترهات، وقال في "القاموس": الأساطير الأحاديث التي لا نظام لها، جمع إسطار وإسطير بكسرهما وأسطور، وبالهاء في الكل اهـ. ﴿أَوْزَارَهُمْ﴾ والأوزار الآثام، واحدها وزر كأحمال وحمل، والوزر الثقل والحمل الثقيل، ﴿سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾؛ أي: بئس شيئًا يحملونه، ﴿قَدْ مَكَر﴾ والمكر صرف غيرك مما يريده بحيلة، ويراد به هنا مباشرة الأسباب وترتيب المقدمات.
﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِد﴾؛ أي: أهلكه وأفناه، كما يقال أتى عليه الدهر، والبنيان البناء يجمع على أبنية، والقواعد جمع قاعدة، وقواعد البيت أساسه، أو أساطينه ودعائمه وعمده، ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ﴾ والسقف يجمع على سقوف، وهو القياس، وعلى سُقُفٍ وسُقْفٍ، وفُعَلٌ وفُعْلٌ، محفوظان في فَعْلٍ، وليسا مقيسين فيه، ﴿تُشَاقُّونَ فِيهِمْ﴾؛ أي: تخاصمون وتنازعون الأنبياء وأتباعهم في شأنهم، وأصله أن كلا من المتخاصمين في شق وجانب غير شق الآخر، وعبارة "الخازن": المشاقة عبارة عن كون كل واحد من الخصمين في شقِّ غير شق صاحبه، والمعنى: ما لهم لا يحضرون معكم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم من العذاب والهوان اهـ. وأصل الخزي ذل يستحي منه، وأصل ﴿تُشَاقُّونَ﴾ تشاققون بوزن تفاعلون، ﴿فَأَلْقَوُا السَّلَمَ﴾ والسلم بالتحريك الاستسلام؛ أي: فيلقون
﴿مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ المثوى المنزل والمقام، ﴿وَحَاقَ بِهِمْ﴾؛ أي: وأحاط بهم جزاؤه ونزل، من الحيق الذي لا يستعمل إلا في الشر، كما في "القاموس": الحَيْقُ ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله، والمراد أن أصل معناه الإحاطة مطلقًا، لكنه خص في الاستعمال بإحاطة الشر، فلا يقال حاقت به النعمة، بل النقمة اهـ. "شهاب"، وفي "المختار": حاق به الشي أحاط به، وبابه باع ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ اهـ.
﴿إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ والبلاغ اسم مصدر بمعنى الإبلاغ اهـ "شهاب"؛ أي: ليست وظيفتهم إلا تبليغ الرسالة تبليغًا واضحًا، ﴿وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ والطاغوت فعلوت من الطغيان، كالجبروت الملكوت من الجبر والملك، وأصله طغيوت فقدم اللام على العين، وتاؤه زائدة دون التأنيث، واختلف في الطاغوت، فقال بعضهم كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، وقال الحسن: الطاغوت الشيطان، والمراد من اجتنابه اجتناب ما يدعوا إليه مما نهي عنه شرعًا، ولما كان ذلك الارتكاب بأمر الشيطان ووسوسته سمي ذلك عبادة للشيطان اهـ. "زاده"، وهو من الطغيان يذكر ويؤنث اهـ "مصباح"، ويقع على الواحد كقوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾، وعلى الجمع كقوله تعالى: ﴿أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ﴾ والجمع الطواغيت اهـ "مختار"، ومن إطلاقه على الجمع ما هنا، والحاصل: أنَّ الطاغوت كلُّ ما عبدُ من دون الله تعالى، من شيطان وكاهن وصنم، وكل من دعا إلى ضلال.
﴿مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾ حقت وجبت وثبتت بالقضاء السابق في الأزل لإصراره على الكفر والعناد، ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ﴾ في "المصباح": حرص عليه حرصًا من باب ضرب إذا اجتهد، والاسم الحرص بالكسر، وحرص على الدنيا من باب شرب أيضًا، وحرص حرصًا من باب تعب لغة إذا رغب رغبة مذمومة اهـ. وفي "السمين": قرأ العامة: ﴿إِنْ تَحْرِصْ﴾ بكسر الراء مضارع حرص بفتحها،
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ الإقسام والقسم محركة اليمين بالله، وسمي الحلف قسمًا لأنه يكون عند انقسام الناس إلى مصدَّق ومكذب، والجهد بفتح الجيم المشقة، وبضمها الطاعة، يقال جهد الرجل في كذا - كمنع - جدَّ فيه وبالغ واجتهد، وجهد أيمانهم؛ أي: غاية اجتهادهم فيها، وبلى كلمة جوابٍ كنعم لكنها لا تقع إلا بعد النفي، فتثبت ما بعده، ﴿وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾؛ أي: وعد ذلك وعدًا عليه حقًّا؛ أي: ثابتًا متحققًا لا شك فيه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق بين ﴿أَوْزَارَهُمْ﴾ وبين ﴿يَزِرُونَ﴾.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦)﴾ شبهت حال أولئك الماكرين بحال قوم بنوا بنيانًا شديد الدعائم فانهدم ذلك البنيان، وسقط عليهم فأهلكهم، بطريق الاستعارة التمثيلية، ووجه الشبه أن ما عدوه سببًا لبقائهم عاد سببًا لفنائهم، كقولهم: من حفر حفرة لأخيه سقط فيها.
ومنها: القصر في قوله: ﴿إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ وهو قصر للجنس الادعائي، كأن ما يكون من الذل - وهو العذاب - لعصاة المؤمنين لعدم بقائه ليس من ذلك الجنس.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿قَالُوا خَيْرًا﴾؛ أي: قالوا: أنزل خيرًا.
ومنها: الجناس المغاير بين ﴿أحسنوا﴾ و ﴿حسنة﴾ في قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾.
ومنها: الجناس أيضًا بين ﴿اتَّقَوْا﴾ و ﴿الْمُتَّقِينَ﴾ في هذه الآية.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾؛ أي: جزية أعمالهم السيئة على طريقة تسمية المسبب باسم سببه، إيذانًا بفظاعته، لا على حذف مضاف، فإنه يوهم أنَّ لهم أعمالًا غير سيئاتهم، ذكره في "روح البيان".
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ ﴿وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿هَدَى اللَّهُ﴾ و ﴿حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾، وفي قوله: ﴿لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ﴾ لأن الأوزار حقيقة في الأحمال الثقيلة، فاستعاره للآثام.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ﴾ لأنه كناية عن إرادة تخريبه.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ لأن السقف لا يخرُّ إلا من فوق.
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾ وبين قوله: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾.
ومنها: الجناس المماثل بين قوله: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾ وبين قوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، وفي قوله: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ لأنه مجاز عن سرعة الإيجاد وسهولته على الله، وتمثيل الغائب، وهو تأثير قدرته في المراد بالشاهد،
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ...﴾ الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما
وقال ابن عطية (٢): لما ذكر الله كفار مكة الذين أقسموا بالله بأنَّ الله لا يبعث من يموت، ورد على قولهم.. ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح في سبب الآية، لأن هجرة المدينة ما كانت إلا بعد وقت نزول الآية انتهى، والظاهر أن الذين هاجروا عام في المهاجرين كائنًا ما كانوا فيشمل أولهم وآخرهم.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٣) ما قاله المشركون من أنهم لا حاجة لهم إلى الأنبياء؛ لأن الحاجة إليهم إنما تدعو لو كانت هناك حياةٌ أخرى يحاسبون فيها، وهم لا يصدقون بها، وليس من المعقول أن تكون.. أردف ذلك بشبهة أخرى لهم، إذ قالوا: هب الله أرسل رسولًا، فليس من الجائز أن يكون بشرًا، فالله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحدًا من البشر، فلو بعث إلينا رسولًا لبعثه ملكًا، ثم أجاب عن هذه الشبهة: بأن سنة الله أن يبعث رسله من البشر، وإن كنتم في شكٍّ من ذلك فاسألوا أهل الكتاب عن ذلك، ثم هدّدهم أن يخسف بهم الأرض كما خسف بقارون، أو يأتيهم بعذاب من السماء فيهلكهم بغتة كما فعل بقوم لوط، أو يأخذهم وهم يتقلبون في أسفارهم ومعايشهم، أو
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) قدرته على تعذيب الماكرين، وإهلاكهم بأنواع من الأخذ.. ذكر تعالى طواعية ما خلق من غيرهم، وخضوعه ضد حال الماكرين لينبههم على أنه ينبغي بل يجب عليهم أن يكونوا طائعين منقادين لأمره.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (٢) في الآيات السالفة أنَّ كل ما سواه من جماد وحيوان وإنس وجن وملك منقادٌ له، وخاضعٌ لسلطانه.. أتبع ذلك بالنهي عن الشرك به، وبين أن كل ما سواه فهو ملكه، وأنه مصدر النعم كلِّها، وأن الإنسان يتضرع إليه إذا مسه التفسير، فإذا كشفه عنه.. رجع إلى كفره، وأنَّ الحياة الدنيا قصيرة الأمد، ثم يعلم الكفار بعدئذٍ ما يحل بهم من النكال والوبال جزاءً لهم على سيء أعمالهم، وقبيح أقوالهم، وعبارة أبي (٣) حيَّان: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر انقياد ما في السموات وما في الأرض لما يريده تعالى منها، فكان هو المتفرد بذلك.. نهى أن يشرك به، ودلَّ النهي عن اتخاذ إلهين على النهي عن اتخاذ آلهة، ولمَّا كان الاسم الموضوع للإفراد والتثنية قد يتجوز فيه، فيراد به الجنس، نحو: نعم الرجل زيدٌ، ونعم الرجلان الزيدان، أكد الموضوع لهما بالوصف، فقيل: إلهين اثنين، وقيل إلهٌ واحدٌ، ولمَّا نهى عن اتخاذ الإلهين واستلزم النهي عن اتخاذ آلهة.. أخبر تعالى أنه إله واحد، كما قال: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ بأداة الحصر، وبالتأكيد بالوحدة، ثم أمرهم بأن يرهبوه، والتفت من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ في الرهبة.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (٢): أن الله سبحانه وتعالى لما حكى عن الكفار عظيم ما ارتكبوه من الكفر، ونسبة التوالد له.. بيّن تعالى أنه يُمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهارًا لفضله ورحمته.
وعبارة "المراغي": مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما حكى (٣) عن المشركين عظيم كفرهم وقبيح أفعالهم.. بين هنا حلمه بخلقه مع ظلمهم، وأنه يمهلهم بالعقوبة إظهارًا لفضله ورحمته، ولو أخذهم بما كسبت أيديهم ما ترك على ظهر الأرض دابة، أما الظالم فبظلمه، وأما غيره فبشؤمه كما قال سبحانه: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ لكنه سبحانه يحلم ويستر وينظر إلى أجل مسمى، ثم سلى رسوله - ﷺ - على ما كان يناله من أذى عشيرته بأن قومه ليسوا ببدع في الأمم، فقد أرسلنا رسلًا إلى أمم من قبلك فكذبوهم، ذلك بهم أسوة، فلا يحزننك تكذيبهم، ولا تبخع نفسك عليهم أسى وحسرة.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ...﴾ الآية، سبب نزولها (٤): ما أخرجه ابن جرير عن داود بن أبي هند قال: نزل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ إلى قوله: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ في أبي جندل بن سهيل.
وقال ابن الجوزي (٥): قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ﴾ اختلفوا فيمن نزلت فيه على ثلاثة أقوال:
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) لباب النقول.
(٥) زاد المسير.
والثاني: أنها نزلت في أبي جندل بن سهيل بن عمرو، قاله داود بن أبي هند.
والثالث: أنهم جميع المهاجرين أو أصحاب رسول الله - ﷺ -، قاله قتادة.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا...﴾ الآية، قال (١) المفسرون في سبب نزول هذه الآية هذه لما أنكر مشركو قريش نبوة محمَّد - ﷺ -، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا فهلا بعث إلينا ملكًا.. نزلت هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): أنَّ رجلًا من المسلمين دعا الله في صلاته ودعا الرحمن، فقال رجل من المشركين: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربًّا واحدًا، فما بال هذا يدعو ربين اثنين، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
التفسير وأوجه القراءة
٤١ - ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾؛ أي: فارقوا أهاليهم وديارهم وأوطانهم، من مكة إلى الحبشة أو إلى المدينة ﴿فِي اللَّهِ﴾؛ أي: في شأن الله ورضاه وفي حقه والتمكين من طاعته، وقيل: ﴿فِي﴾ بمعنى اللام مع حذف مضاف؛ أي: لإظهار دين الله ونصرته ﴿مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ وعذِّبوا وأُهينوا في مكة ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾؛ أي: لننزلنهم ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ تبوئةً ﴿حَسَنَةً﴾؛ أي: تنزيلًا طيبًا في أرض طيبة كريمة، فهو صفة لمصدر محذوف، أو مبأة حسنه ومنزلًا طيبًا، وهي المدينة المنورة حيث آواهم أهلها ونصروهم، يقال (٣) بوَّاه منزلًا أنزله، والمباءة المنزل، فهي منصوبة على الظرفية، أو على أنها مفعول ثان من كان لنبوئنهم بمعنى لنعطينهم، وهم (٤)
(٢) زاد المسير.
(٣) روح البيان.
(٤) المراح.
والمعنى: أي (١) والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم وذهبوا إلى بلاد أخرى احتسابًا لأجر الله ونيلًا لمرضاته، أو بعد ما نالهم أو الكفار أو أذى في أنفسهم وأموالهم، لنسكننهم في الدنيا مساكن حية يرضونها، إذ هم لمَّا تركوا مساكنهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله.. عوَّضهم الله خيرًا منها في الدنيا، فمكَّن لهم في البلاد، وحكَّمهم في رقاب العباد، وصاروا أمراء وحكامًا، وكان كل منهم للمتقين إمامًا.
ثم أخبر سبحانه أنَّ ثوابه لهم في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا، فقال: ﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ﴾ المعد لهم في مقابلة الهجرة ﴿أَكْبَرُ﴾ مما يعجل لهم في الدنيا؛ أي: ولثواب الله إياهم على هجرتهم من أجله في الآخرة أكبر وأعظم من الأجر الكائن في الدنيا؛ لأنَّ ثوابه إياهم هنالك الجنة، التي لا يفنى
والمعنى: لو كان المهاجرون يعلمون ما أعدَّ الله لهم في الآخرة.. لزادوا في الجد والاجتهاد والصبر على ما أصابهم من أذى المشركين.
٤٢ - هؤلاء المهاجرون هم ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على أذية الكفار، ومفارقة الأهل والوطن، وعلى المجاهدة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ﴾ خاصة ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾؛ أي: يعتمدون في أمورهم، منقطعين إليه، معرضين عما سواه، مفوضين الأمر كله إليه تعالى، والتعبير (٢) بصيغة المضارع لاستحضار صورة توكلهم البديعة، وجملة التوكل معطوفة على الصلة أو في محل النصب على الحال.
والمعنى: أي (٣) هؤلاء هم الذين صبروا على ما نالهم من أذى قومهم ولم يرجعوا القهقرى، وعلى مفارقة الوطن المحبوب، لا سيما حرم الله المحبوب لكل قلب مؤمن، فكيف لمن كان مسقط رأسه، وعلى بذل الروح في ذات الله، وعلى احتمال الغربة بين ناس لم تجمعهم بهم ألفة نسبٍ ولا جوارٍ في دار، وقد فوضوا أمرهم إلى ربهم الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة، وأعرضوا عن كل ما سواه.
٤٣ - وسبب قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ﴾؛ لأن مشركي قريش لما بلَّغهم النبي - ﷺ - الرسالة، ودعاهم إلى عبادة الله تعالى.. أنكروا ذلك، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، ولو أراد أن يبعث إلينا رسولًا.. لبعث من الملائكة الذين عنده، فنزل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ﴾ يا محمَّد إلى الأمم الماضية رسلًا للدعوة إلى توحيدنا، ﴿إِلَّا رِجَالًا﴾؛ أي: إلا ذكورًا بالغين آدميين لا نساءً، إذ مبنى أحوالهن على الستر، والنبوة تقتضي الظهور، ولا صبيانًا لعدم
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
والمعنى (٢): أي وما أرسلنا من قبلك رسلًا إلى أممهم للدعوة إلى توحيدنا والانتهاء إلى أمرنا إلا رجالًا من بني آدم نوحي إليهم لا ملائكة، ومجمل القول: إنا لم نرسل إلى قومك إلا مثل الذين كنا نرسلهم إلى من قبلهم من الأمم؛ أي: رسلًا من جنسهم وعلى منهاجهم، روى الضحاك عن ابن عباس: الله لمَّا بعث محمدًا - ﷺ -. أنكر العرب ذلك وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، فأنزل الله: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾ الآية، ونحو الآية قوله: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾، وقوله: ﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٣٤)﴾، وقوله: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿يُوحَى﴾ بالياء وفتح الحاء، وقرأت فرقة: بالياء وكسرها، وقرأ عبد الله والسلمي وطلحة وحفص عن عاصم: بالنون وكسرها.
ولمَّا (٤) كان كفار مكة مقرين بأن اليهود والنصارى هم أهل العلم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل.. صرف الخطاب إليهم، وأمرهم أن يرجعوا إلى أهل الكتاب، فقال: ﴿فَاسْأَلُوا﴾ يا معشر قريش إن شككتم في ذلك ﴿أَهْلَ الذِّكْرِ﴾؛ أي: أهل العلم بذلك؛ أي: علماء أهل الكتاب، ليخبروكم أن الله تعالى لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشرًا، وكانوا يشاورونهم في بعض الأمور، ولذلك أحالهم إلى هؤلاء للإلزام؛ أي: فإذا أخبروكم بذلك.. زالت الشبهة من
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) الشوكاني.
والمعنى: أي فاسألوا (١) أهل الكتب السابقة من اليهود والنصارى، أبشرًا كانت الرسل إليهم أم ملائكةً؟ فإن كانوا ملائكةً.. أنكرتم، وإن كانوا بشرًا فلا تنكروا أن يكون محمد - ﷺ - رسولًا،
٤٤ - وقوله: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾ متعلق بمحذوف على أنه صفة لرجالًا؛ أي: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا متلبسين بالمعجزات الباهرة، الدالَّة على صدق من يدعي الرسالة، كعصا موسى، وناقة صالح، ومتلبسين بالكتب المشتملة على التكاليف الشرعية، التي يبلغونها من الله تعالى إلى العباد، كالتوراة والإنجيل، والبينات جمع بينة، وهي المعجزة الواضحة، والزبير جمع زبور، وهو الكتاب بمعنى المزبور؛ أي: المكتوب.
أي: وما أرسلنا رسلًا من قبلك إلا رجالًا متلبسين بالأدلة والحجج، التي تشهد لهم بصدق نبوتهم، وبالكتب التي تشمل على التكاليف والشرائع التي يبلغونها من الله إلى العباد.
وقيل: في الكلام (٢) تقديم وتأخير، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبير إلا رجالًا، وقيل: يتعلق بمحذوف دلَّ عليه المذكور؛ أي: أرسلناهم بالبينات والزبر، وقيل: متعلق بتعلمون على أنه مفعوله والباء زائدة؛ أي: إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبير، وقيل: متعلق بنوحي؛ أي: نوحي إليهم بالبينات والزبر، وقيل: منصوب بتقدير: أعني، والباء زائدة.
﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾؛ أي: وأنزلنا عليك يا محمَّد القرآن منجمًا في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع، وإنما سمّاه ذكرًا لأن فيه مواعظ وتنبيهًا للغافلين؛ يعني: أنه سبب (٣) الذكر، فأطلق عليه اسم المسبب، ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ كافةً العرب والعجم ﴿مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع، وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب، حسب أعمالهم الموجبة لذلك
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
والمعنى: أي (١) وأنزلنا إليك القرآن تذكيرًا وعظةً للناس، لتُعرِّفهم ما أنزل إليهم من الأحكام والشرائع، وأحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب جزاء عنادهم مع أنبيائهم وتبين لهم ما أشكل عليهم من الأحكام، وتفصل لهم ما أجمل بحسب مراتبهم في الاستعداد والفهم لأسرار التشريع، ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾؛ أي: وتوقعًا منك وانتظارًا لتفكرهم في هاتيك الأسرار والعبر، وإبعادًا لهم عن سلوك سبيل الغابرين من المكذبين، حتى لا يصيبهم مثل ما أصابهم.
٤٥ - ثم حذرهم وخوفهم مغبة ما هم فيه من العصيان والكفر فقال: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ﴾ والهمزة (٢) فيه للاستفهام التوبيخي التقريعي المضمن للإنكار داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف المنسحب عليه النظم الكريم؛ أي: أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه، الذي من جملته أنباء الأمم المهلكة بفنون العذاب، ولم يتفكروا في ذلك؛ أي: ألم يتفكروا ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ﴾ اهـ "أبي السعود". والتقدير: أيُعْرِضُ الذين فعلوا المكرات السيئات برسول الله - ﷺ - في دار الندوة من تقييده أو قتله، أو إخراجه من مكة كما ذكر في الأنفال، ومكروا بأصحابه حين راموا صدهم عن الإيمان عن التذكر في هذا الذكر المشتمل على أنباء الأمم المهلكة؛ أي: أأعرض هؤلاء الماكرون عن التفكر فيه فأمنوا ﴿أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ﴾؛ أي: أن يغور الله بهم الأرض، حتى يدخلوا فيها إلى الأرض السفلى، كما فعل بقارون وأصحابه، والإنكار (٣) موجه إلى المعطوفين معًا.
وذكر بعضهم أن الكركي لا يطأ الأرض بقدميه بل بإحداهما، فإذا وطئها.. لم يعتمد عليها خوفًا أن تخسف الأرض، فإذا لم يأمن الطير من الخسف.. فما
(٢) أبي السعود.
(٣) روح البيان.
﴿أَوْ﴾ أمنوا أن ﴿يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ﴾؛ أي: عذاب الاستئصال ﴿مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ به؛ أي: من جهة لا تخطر ببالهم، فيهلكهم بغتةً كما فعل بقوم لوط وغيرهم،
٤٦ - ﴿أَوْ﴾ أمنوا أن ﴿يَأْخُذَهُمْ﴾ الله سبحانه بالعقوبة ﴿فِي تَقَلُّبِهِمْ﴾؛ أي: في حالة تحركهم في أسفارهم إقبالًا وإدبارًا، فهو حال أو المفعول؛ أي: حالة كونهم متقلِّبين في أسفارهم، والتقلب الحركة إقبالًا وإدبارًا اهـ "شهاب"، فإنَّه سبحانه (١) وتعالى قادر على أن يهلكهم في السفر، كما يهلكهم في الحضر، وهم لا يفوتونه بسبب ضربهم في الأرض، وبعدهم عن الأوطان، وقيل: المراد في حال تقلبهم في قضاء أوطارهم بوجود الحيل، فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم، وقيل: في حال تقلبهم في الليل على فرشهم، وقيل: في حال إقبالهم وإدبارهم، وذهابهم ومجيئهم بالليل والنهار، وقيل غير ذلك.
﴿فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾؛ أي: فإذا أخذهم بالعقوبة بأيِّ سبب وفي أيِّ حالةٍ.. فما هم بناجين من عذاب الله القهار، سابقين قضاءه بالهرب والفرار على ما يوهمه التقلب والسير في الديار.
٤٧ - ﴿أَوْ﴾ أمنوا أن ﴿يَأْخُذَهُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى بالعذاب حالة كونهم ﴿عَلَى تَخَوُّفٍ﴾ وتوقع؛ أي: مخافة من وقوع العذاب، بأن يكونوا متوقعين للعذاب حذرين منه، غير غافلين عنه، بأن يهلك قومًا قبلهم فيتخوفوا، فيأتيهم الله به وهم متخوفون، وقيل: معنى ﴿عَلَى تَخَوُّفٍ﴾؛ أي: على تنقصٍ، قال ابن الأعرابي: أي تنقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات.
والمعنى (٢): أو يأخذهم على أن ينقصهم شيئًا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا، ولا يهلكهم في حالة واحدة، فيكون المراد مما قبله عذاب الاستئصال، ومنه الأخذ شيئًا فشيئًا، والمراد بذكر الأحوال الثلاث بيان قدرة الله تعالى على إهلاكهم بأيِّ وجهٍ كان، لا الحصر فيها.
(٢) روح البيان.
وحاصل المعنى: أي (٢) أفأمن الذين مكروا برسول الله - ﷺ - من أهل مكة وراموا صد أصحابه عن الإيمان بالله تعالى أن يصيبهم بعقوبة من عنده:
١ - إمَّا بأن يخسف بهم الأرض، ويبيدهم من صفحة الوجود، كما فعل بقارون من قبل.
٢ - وإما بأن يأتيهم بعذاب من السماء فجأة من حيث لا يشعرون، كما صنع بقوم لوط.
٣ - وإمَّا بأن يأخذهم بعقوبة وهم في أسفارهم يكدحون في الأرض ابتغاء الرزق، وما هم بممتنعين عليه فائتين له بالهرب والفرار كما قال: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)﴾ وقال - ﷺ -: "إن الله تعالى لَيُمْلِي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْهُ".
٤ - وإمَّا بأن يخيفهم أوَّلًا، ثم يعذبهم بعد ذلك، بأن يهلك طائفة فتخاف التي تليها، حتى يأتي عليهم جميعًا، ويكون هذا أشد عليهم إيلامًا ووحشة، وختم الآية بما ختم به لبيان أنه لم يأخذهم بعذاب معجل، بل أخذهم بحالات يخاف منها كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل، وفي ذلك امتداد وقت ومهلة يمكن فيها تلافي التقصير، وهذا من آثار رحمته بعباده.
٤٨ - ثم ذكر آثار قدرته على خلقه فقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ الهمزة (٣) فيه للإنكار المضمن للتوبيخ، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والرؤية هي البصرية المؤدِّية إلى التفكر، والضمير لكفار مكة؛ أي: ألم ينظروا
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
والحاصل: أن الهمزة في: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ للإنكار، كما مرَّ آنفًا، وهي داخلة في الحقيقة على النفي، وإنكار النفي نفيٌ له، ونفي النفي إثبات.
والمعنى: قد رأى هؤلاء الذين مكروا السيئات من أهل مكة أمثال هذه الصنائع، فما لهم لم يتفكروا فيه، ليظهر لهم كمال قدرته تعالى وقهره، فيخافوا منه حالة كون تلك الظلال ﴿سُجَّدًا لِلَّهِ﴾؛ أي: ساجدين لله، دائرين على مراد الله تعالى في الامتداد والتقلص وغيرهما، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيُّؤ، وقوله: ﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ حال من الضمير المستتر في ﴿سُجَّدًا﴾، فهي حال متداخلة؛ أي: خاضعون صاغرون من الدخور وهو الصغار والذل؛ أي: والحال أن أصحابها من الأجرام داخرة؛ أي: صاغرة منقادة لحكمه تعالى، ووصفها بالدخور مغن عن وصف ظلالها به؛ أي: ألم ينظر (٣) أهل مكة ولم يروا بأبصارهم إلى جسم قائم له ظل من جبل وشجر وبناء يرجع ظلاله من المشرق ومن المغرب واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد، وهم داخرون؛ أي: منقادون لقدرة الله تعالى وتدبيره، ولما وصفت الظلال بالانقياد لأمره
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
والخلاصة: أي (١) ألم ينظر هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من الأجسام القائمة كالأشجار والجبال، التي تتفيَّأ ظلالها وترجع من موضع إلى موضع عن اليمين والشمائل، فهي في أوَّل النهار على حالٍ، ثم تتقلص، ثم تعود إلى حال أخرى في آخر النهار، مائلةً من جانب إلى جانب ومن ناحيةٍ إلى أخرى صاغرة منقادة لربها خاضعة لقدرته.
وقرأ السُّلمي والأعرج والأخوان حمزة والكسائي (٢): ﴿أولم تروا﴾ بتاء الخطاب إما على العموم للخلق استؤنف به الإخبار، وإما على معنى قل لهم، إذا كان خطابًا خاصًّا، وقرأ باقي السبعة: بالياء على الغيبة، واحتمل أيضًا أن يعود الضمير على الذين مكروا، واحتمل أن يكون إخبارًا عن المكلفين، والأول أظهر لتقدم ذكرهم، وقرأ أبي عمرو وعيسى ويعقوب: ﴿تَتَفَيّؤُ﴾ بالتاء على التأنيث، وباقي السبعة بالياء.
وقرأ الجمهور: ﴿ظِلَالُهُ﴾ جمع ظل، وقرأ عيسى: ﴿ظُلَلُه﴾ جمع ظُلَّة، كحُلَّةٍ وحُلَلٍ، والرؤية هنا رؤية القلب التي يقع بها الاعتبار، ولكنها بواسطة رؤية العين.
٤٩ - ثم ذكر ما هو كالدليل لما سلف فقال: ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى وحده لا لغيره، فالقصر (٣) فيه قصر قلب وإفراد كما سيأتي في مبحث البلاغة، ﴿يَسْجُدُ﴾؛ أي: يخضع وينقاد، قال العلماء: السجود على نوعين سجود طاعة وعبادةٍ كسجود المسلم، وسجود انقياد وخضوع كسجود الظلال. ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من العلويات قاطبةً، ودخل فيه الشمس والقمر والنجوم ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ كائنًا ما كان ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ بيان لما في الأرض؛ أي: من كل دابة تدب عليها، فإن قوله تعالى:
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
والمعنى: أي ولله (٢) يخضع ما في السموات وما في الأرض مما يدب عليها، وكذلك ملائكته الذين في السماء، وهم لا يستكبرون عن التذلل والخضوع له،
٥٠ - ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ﴾؛ أي: مَالِكَ أمرهم، والجملة حال من الضمير في: ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ﴾، حال من ربهم؛ أي: يخافونه تعالى خوف هيبةٍ وإجلال، وهو فوقهم بالقهر لقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه﴾، أو يخافون أن يرسل عليهم عذابًا من فوقهم، فهو متعلق بـ ﴿يَخَافُونَ﴾ ﴿وَيَفْعَلُونَ﴾؛ في: الملائكة ﴿مَا يُؤْمَرُونَ﴾؛ أي: ما يأمرهم الخالق به من الطاعات والتدبيرات، من غير تثاقل عنه وتوانٍ فيه، فبواطنهم وظواهرهم مبرأة من الأخلاق الفاسدة والأفعال الباطلة، وفيه أن الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وبين الخوف والرجاء.
(٢) المراغي.
والمعنى: أي (٢) يخاف هؤلاء الملائكة والدواب التي في الأرض ربهم، الذي هو من فوقهم بالقوة والقهر، أن يعذبهم إن عصوه، ويفعلون ما أمرهم به، فيؤدون حقوقه ويجتنبون سخطه، ونحو الآية قوله: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾.
ومجمل القول: أنه تعالى نبه إلى أنه لعظمته وكبريائه تدين له المخلوقات بأسرها، جمادها ونباتها وحيوانها، ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة، وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند قراءتها وسماعها.
٥١ - ولما بين سبحانه أن مخلوقاته السماوية والأرضية منقادة له خاضعة لجلاله.. أتبع ذلك بالنهي عن الشرك بقوله: ﴿وَقَالَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى لجميع المكلفين ﴿لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ تأكيد لما فهم من إلهين من التثنية، يعني نفسه والأصنام ﴿إِنَّمَا هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾؛ أي: معبود واحد لا شريك له في ذاته وصفاته، ولا شبيه له في أفعاله.
وقد قيل (٣): إن التثنية في إلهين قد دلت على الاثنينية، والإفراد في إله قد دل على الوحدة، فما وجه وصف إلهين باثنين، ووصف إله بواحد؟
فقيل في الجواب: إن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين، إنما هو واحد إلهٌ، وقيل: إن التكرير لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك، وقيل: إن فائدة زيادة اثنين هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدد لا إلى الجنسية، وفائدة زيادة واحد دفع توهم أن المراد إثبات الإلهية دون الوحدانية، مع
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
وعبارة "النسفي" هنا: فإن قلت (١): إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا: عندي رجال ثلاثة، لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص، فأما رجل ورجلان فمعدودان فيهما دلالة على العدد؛ فلا حاجة إلى أن يقال رجل واحد ورجلان اثنان.
قلتُ: الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دالٌ على شيئين، على الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أن المعني به منهما هو العدد.. شفع بما يؤكد، فدل به على القصد إليه والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت إنما هو إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن، وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية.
﴿فَإِيَّايَ﴾ لا غيري ﴿فَارْهَبُونِ﴾؛ أي: فخافون؛ أي: إن كنتم راهبين شيئًا.. فارهبوني لا غيري، فإني ذلك الواحد الذي يسجد له ما في السموات والأرض، فالفاء واقعة في جواب شرط محذوف.
والمعنى: أي (٢) وقال الله سبحانه لعباده لا تتخذوا لي شريكًا ولا تعبدوا سواي، فإنكم إذا عبدتم معي غيري.. جعلتموه لي شريكًا، ولا شريك لي إنما هو إله واحد ومعبود واحد، وأنا ذاك، فاتقوني وخافوا عقابي بمعصيتكم إياي بإشراككم بي غيري، أو عبادتكم سواي.
وإنَّما ذكر (٣) العدد مع أن صيغة التثنية مغنية عنه للدلالة على أنَّ المنهي عنه هي الاثنينية، وإنها منافية للألوهية، كما أن وصف الإله بالوحدة في قوله: ﴿إنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ للدلالة على أنَّ المقصود إثبات الواحدانية، وأنها من لوازم الألوهية، أما الألوهية فغير منكرة ولا منازع فيها، كما مر ذلك آنفًا عن الشوكاني والنسفي.
والخلاصة: أنه تعالى أخبر أنه لا إله إلا هو، وأنه لا تنبغي العبادة إلا له وحده.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
والمعنى: أي فبعد (٢) أن علمتم هذا ترهبون غير الله، وتحذرون أن يسلبكم نعمةً، أو يجلب لكم أذى، أو ينزل بكم نقمة إذا أنتم أخلصتم العبادة لربكم، وأفردتم الطاعة له، وما لكم نافع سواه، وإجمال ذلك أنكم بعد أن عرفتم أن إله العالم واحد، وعرفتم أن كل ما سواه فهو في حاجة إليه في وجوده وبقائه، كيف يعقل أن يكون لامرىء رغبة أو رهبةً من غيره تعالى.
٥٣ - ولما بين أن الواجب أن لا يتقى غير الله.. ذكر أنه يجب أن لا يشكر إلا هو فقال: ﴿وَمَا بِكُمْ﴾؛ أي: أي شيء يلابسكم ويصاحبكم ﴿مِنْ نِعْمَةٍ﴾؛ أي: نعمة كانت على اختلاف أنواعها كالغنى وصحة الجسم والخصب ونحوها ﴿فَمِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: فهي من قبل الله تعالى، فـ ﴿ما﴾ شرطية (٣) أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط باعتبار الإخبار دون الحصول، فإن ملابسة النعمة بهم سبب للإخبار بأنها منه تعالى، لا لحصولها منه، والنعمة (٤) إما دينية، وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإما دنيوية نفسانية، أو بدنية أو خارجية، كالعادات
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) الشوكاني.
ثم بين تلون الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال: ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ﴾؛ أي: الفقر والبلاء في جسدكم والقحط ونحوها مساسًا يسيرًا، ﴿فَإِلَيْهِ﴾؛ أي: فإلى الله لا إلى غيره ﴿تَجْأَرُونَ﴾؛ أي: تتضرعون في كشفه، فلا كاشف له إلا هو، والجؤار (١): رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة، ﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ﴾ الله تعالى ﴿الضُّرَّ﴾ الذي نزل بكم وأزاله ﴿عَنْكُمْ﴾؛ أي: إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضر، ﴿إِذَا فَرِيقٌ﴾؛ أي: جماعة ﴿مِنْكُمْ﴾ وهم كفاركم ﴿بِرَبِّهِمْ﴾ الذي كشف عنهم الضر ﴿يُشْرِكُونَ﴾ فيجعلون معه إلهًا آخر من صنم أو نحوه، والآية مسوقة للتعجيب من فعل هؤلاء، حيث يضعون الإشراك باللهِ الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضر مكان الشكر له، و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿لِيَكْفُرُوا﴾ بعبادة غيره ﴿بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: بما أعطيناهم من نعمة كشف الضر عنهم ﴿لام﴾ كي؛ أي: لكي يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضر، حتى (٢) كأنَّ هذا الكفران منهم الواقع في موضع الشكر الواجب عليهم غرضٌ لهم، ومقصد من مقاصدهم، وهذا غاية في العتو والعناد ليس وراءها غاية، ففي ﴿اللام﴾ استعارة تبعية كما سيأتي، وقوله: ﴿لِيَكْفُرُوا﴾ من الكفران، وقيل: ﴿اللام﴾ للعاقبة، يعني: ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلا هذا الكفران.
ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والترهيب ملتفتًا من الغيبة إلى الخطاب: ﴿فَتَمَتَّعُوا﴾ بما أنتم فيه من ذلك بقية آجالكم؛ أي: فعيشوا وانتفعوا بمتاع الحياة الدنيا أيامًا قليلةً، وهو أمر تهديد ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عاقبة أمركم، وما يحل بكم في هذه الدار، وما تصيرون إليه في الدار الآخرة.
وحاصل معنى الآيات (٣): أي ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ﴾ في أبدانكم من عافيةٍ
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
أحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوْبَهُمُ | فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ |
٥٤ - ﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ﴾؛ أي: ثم إذا وهب لكم ربكم العافية، ورفع عنكم ما أصابكم من مرض في أبدانكم، أو شدةٍ في معاشكم بتفريج البلاء عنكم.. إذا جماعة منكم يجعلون لله شريكًا في العبادة، فيعبدون الأوثان، ويذبحون لها الذبائح شكرًا لغير من أنعم بالفرج وأزال من الضر.
٥٥ - ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: قيضنا لهم ذلك لتكون عاقبة أمرهم أن يجحدوا نعم الله عليهم، وأنه هو المسدي لها، وأنه هو الكاشف للنقم عنهم، وقد فعلوا ذلك لسوء استعدادهم وخبث طويتهم، وبما ران على قلوبهم من الكفر والعصيان، فجحدوا فضل الملك الديان، وإحسان صاحب الطول والإحسان، ثم توعدهم على سوء صنيعهم، وأبان لهم عاقبة أمرهم فقال: ﴿فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: فتمتعوا في هذه الحياة الدنيا إلى أن توافيكم آجالكم، وتبلغوا الميقات الذي وقت لحياتكم وتمتعكم فيها، وبعدئذٍ ستصيرون إلى ربكم فتعلمون عند لقائه وبال ما كسبت أيديكم، وسوء مغبة أعمالكم، وتندمون حين لا ينفع الندم.
وقرأ أبو العالية (١): ﴿فَيُمْتَعُوا﴾ بالياء من تحت مضمومة مبنيًّا للمفعول
٥٦ - ثم حكى سبحانه نوعًا آخر من قبائح أعمالهم ﴿وَيَجْعَلُونَ﴾؛ أي: كفار مكة بعد ما وقع منهم الجؤار إلى الله سبحانه في كشف الضر عنهم، وبعد ما يعقب كشفه عنهم من الكفر منهم بالله والإشراك به ﴿لِمَا لَا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي للأصنام التي لا يعلم الكفار حقيقتها وقدرها الخسيس، ويعتقدون فيها أنها تنفع وتضر، وتشفع عند الله تعالى، وقيل: المعنى: أنهم؛ أي: الكفار يجعلون للأصنام وهم - أي الأصنام - لا يعلمون شيئًا لكونهم جمادات، ففاعل يعلمون على هذا هي الأصنام، وأجراها مجرى العقلاء في جمعها بالواو والنون جريًا على اعتقاد الكفار فيها.
وحاصل المعنى: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعقل شيئًا ﴿نَصِيبًا﴾؛ أي: حظًّا وجزءًا ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾؛ أي: من الأموال التي رزقناهم إياها من الزرع والأنعام وغيرهما تقربًا إليها، ﴿فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا﴾ وهي؛ أي: الأصنام لا تشعر أجعلوا لها نصيبًا وحظًّا في أنعامهم وزروعهم أم لا، ﴿تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ﴾ أيها الكفار يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريع ﴿عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾ في الدنيا، وتختلقونه من الكذب على الله تعالى بأنها آلهة حقيقة بأن يتقرب إليها؛ أي: أقسم لأسألنكم عما افتريتموه واختلقتموه من الباطل، ولأعاقبنكم على ذلك عقوبة تكون كفاء كفرانكم نعمي وافترائكم عليَّ، ونحو الآية: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)﴾.
٥٧ - ثم ذكر نوعًا آخر من قبائحهم فقال: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْبَنَاتِ﴾؛ أي: وينسب بعض الكفار البنات إلى الله سبحانه، ويقولون: الملائكة بنات الله، وهم خزاعة وكنانة، وإنَّما (١) أطلقوا لفظ البنات على الملائكة
والمعنى: أي (١) ولقد بلغ من جهل هؤلاء المشركين وعظيم أباطيلهم أنهم يجعلون لمن خلقهم، ودبر شؤونهم، واستحق شكرهم على جزيل نعمائه البنات، إذ قالت خزاعة: الملائكة بنات الله، كما قال عزَّ اسمه: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾ وعبدوها مع الله، وقد أخطؤوا في ذلك خطأ كبيرًا، وضلوا ضلالًا بعيدًا، إذ نسبوا إليه الأولاد، ولا أولاد له، وأعطوه منها أخسها وهي البنات، وهم لا يرضونها لأنفسهم، بل لا يرضون إلا البنين، كما قال تعالى: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢)﴾، وقال: ﴿أألَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤)﴾.
٥٨ - قال ابن عباس: يقول سبحانه: تجعلون لي البنات ترضونهن لي ولا ترضونهن لأنفسكم، ثم ذكر سبحانه كراهتهم للإناث التي جعلوها لله سبحانه فقال: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ﴾؛ أي: أحد هؤلاء الذين جعلوا لله البنات، ﴿بِالْأُنْثَى﴾؛ أي: بولادة أنثى؛ أي: أُخبر بولادة أنثى له ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ﴾؛ أي: صار وجهه ﴿مُسْوَدًّا﴾؛ أي: متغيِّر (٢) اللون بما يحصل له من الغم وانكسار القلب، وليس المراد السواد الذي هو ضد البياض، بل المراد الكناية بالسواد عن الانكسار
(٢) الشوكاني.
وجملة قوله: ﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ في محل نصب على الحال؛ أي: ظل وجهه مسودًّا، والحال أنه مملوء غضبًا على المرأة، لأجل ولادتها الأنثى، ومن هنا (١) أخذ المعبرون من رأى أو روئي له أن وجهه اسودَّ، فإن امرأته تلد أنثى، أو ممتلىءٌ من الغم غيظًا وخنقًا، قال الأخفش: هو الذي يكظم غيظه ولا يظهره،
٥٩ - ﴿يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ﴾؛ أي: يتغيب ويختفي ويستتر من قوله، ﴿مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ﴾؛ أي: من أجل سوء المبشر به، ومن أجل تعييرهم له بها، والتعبير عنها بـ ﴿ما﴾ لإسقاطها عن درجة العقلاء؛ أي: يختفي (٢) منهم من أجل كراهية الأنثى التي بشر وأخبر بها، من حيث كونها لا تكتسب، وكونها يخاف عليها الزنا، وكان الرجل في الجاهلية إذا ظهر آثار الطلق بأمرته.. اختفى عن القوم، إلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكرًا.. فرح به، وإن كان أنثى.. حزن ولم يظهر للناس أيَّامًا، يدبر فيها ماذا يصنع بها، وذلك قوله تعالى: ﴿أَيُمْسِكُهُ﴾ تذكير الضمير باعتبار لفظ ﴿ما﴾؛ أي: أيمسك ذلك المولود ويتركه ﴿عَلَى هُونٍ﴾؛ أي: مع ذُلٍّ وتعيير يلحقه بسببها؛ أي: يحفظ ما بشر به من الأنثى، ويتركه بلا دفْنٍ مع رضاه بذل نفسه، فقوله: ﴿عَلَى هُونٍ﴾ إمَّا (٣) حال من الفاعل؛ أي: يمسكها مع رضاه بهوان نفس، أو من المفعول، أي: يمسكها مهانة ذليلة للعمل والاستقاء والخدمة، ﴿أَمْ يَدُسُّهُ﴾ ويخفيه ﴿فِي التُّرَابِ﴾ بالوأد؛ أي: دفنها حية؛ أي: إذا بشر حدهم بالأنثى.. يكون مترددًا بين أمرين، إما أن يمسكه على هون، وإما أن
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
والمعنى: أي وإذا (٢) بشر أحد هؤلاء الذين جعلوا لله البنات بولادة أنثى.. ظل وجهه مسودًا كئيبًا من الهم، ممتلئًا غيظًا وخنقًا من شدة ما هو فيه من الحزن، يتوارى من الناس خجلًا واستحياءً، ولا يود أن يراه أحد من مساءته بما بشِّر بها، ويدور بخلده أحد أمرين: إما أن يمسكها ويبقيها بقاء ذلة وهوان، فلا يورثها ولا يعني بها، بل يفضل الذكور عليها، وإما أن يدسها في التراب، ويدفنها وهي حية، وذلك هو الوأد المذكور، في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)﴾.
ومعنى قوله: ﴿أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾؛ أي: بئس (٣) ما قالوا، وبئس ما قسموا، وبئس ما نسبوه إليه، فإنهم بالغوا في استنكاف من البنت من وجوه:
١ - اسوداد الوجه.
٢ - الاختفاء من القوم من شدة نفرتهم منها.
٣ - أنهم يقدمون على قتلها ووأدها خشية العار، أو خوف الجوع والفقر.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
٦٠ - ثم جعل تذييلا لما تقدم قوله: ﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾؛ أي: للذين لا يصدقون بالمعاد والثواب والعقاب من المشركين الذين ذكرت قبائحهم ﴿مَثَلُ السَّوْءِ﴾؛ أي: الصفة القبيحة من حاجتهم إلى الولد ليقوم مقامهم بعد موتهم، وتفضيلهم للذكور للاستظهار بهم، ووأدهم للبنات خشية العار أو الفقر، وذلك يومئ إلى العجز والقصور والشح البالغ أقصى غاية.
﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾؛ أي: الصفة العليا العجيبة الشأن، وهي صفة الألوهية المنزهة عن صفات المخلوقين، وهي أنه الواحد المنزه عن الولد، وأنه لا إله إلَّا هو، وله صفات الكمال والجلال من القدرة والعلم والإرادة ونحو ذلك، ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾؛ أي: المنيع الذي لا يغالب، فلا يضره نسبتهم إليه ما لا يليق به، ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة البالغة.
٦١ - ثم لمَّا حكى سبحانه عن القوم عظيم كفرهم.. بين سعة كرمه وحلمه، حيث لم يعاجلهم بالعقوية، ولم يؤاخذهم بظلمهم فقال: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ﴾ فاعل هنا بمعنى فعل؛ أي: ولو أخذ الله سبحانه وتعالى ﴿النَّاسَ﴾؛ أي: الكفار أو جميع العصاة ﴿بِظُلْمِهِمْ﴾؛ أي: بسبب كفرهم ومعاصيهم.. ﴿مَا تَرَكَ عَلَيْهَا﴾؛ أي: على الأرض المدلول عليها بالناس، وبقوله: ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾؛ لأنها ما يدب على الأرض، وتقول العرب (٢): فلان أفضل من عليها، وفلان أكرم من تحتها، فيردون الكناية إلى الأرض والسماء من غير سبق ذكر، لظهور الأمر بين يدي كل
(٢) روح البيان.
والمعنى: أي ولو يؤاخذ الله كفار بني آدم وعصاتهم بكفرهم ومعاصيهم.. ما ترك على ظهر الأرض دابةً تدب عليها، بل أهلكها بالكلية، بشؤم ظلم الظالمين، كقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ فهلاك الدواب بآجالها، وهلاك الناس عقوبة.
وأخرج البيهقي وغيره عن أبي هريرة أنه سمع رجلًا يقول: إنّ الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: لا والله، بل إن الحبارى في وكرها لتموت من ظلم الظالم.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: لو عذب الله الخلائق بذنوب بني آدم.. لأصاب العذاب جميع الخلائق، حتى الجُعْلان في جحرها، ولأمسكت السماء عن الإمطار، ولكن أخرهم بالعفو والفضل، ثم تلا هذه الآية.
﴿وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ﴾؛ أي: ولكن بحلمه يؤخر هؤلاء الظلمة الكفرة، فلا يعاجلهم بالعقوبة، بل يمهلهم ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ أي: إلى أجل معين معلوم، سماه الله وعينه لعذابهم أو لأعمارهم؛ كي يكثر عذابهم، أو يتوالدوا ويتناسلوا ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾ المسمى ﴿لَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ عن ذلك الأجل؛ أي: لا يستأخرون، وصيغة استفعل هنا للإشعار بعجزهم عنه مع طلبهم له، ﴿سَاعَةً﴾؛ أي: أقصر وقت، وهو مثل في القلة، ﴿وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ عليه ساعة؛ أي: لا يتقدمون عليه، وإنما (١) تعرض لذكره مع أنه لا يتصور الاستقدام عند مجيء الأجل مبالغة في عدم الاستئخار بنظمه في سلك ما يمتنع.
والمعنى: فإذا جاء الوقت الذي وقت لهلاكهم.. لا يتأخرون عن الهلاك ساعة فيمهلون، ولا يتقدمون قبله، حتى يستوفوا أعمارهم،
٦٢ - ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّه﴾ سبحانه
والمعنى: ويكذبون (١) فيما يدعون، إذ يزعمون أن لهم العاقبة الحسنى عند الله، وهي الجنة على تقدير وجودها، فقد روي أنهم قالوا إن كان محمدٌ صادقًا في البعث.. فلنا الجنة بما نحن عليه، فرد الله عليهم مقالهم بقوله: ﴿لَا جَرَمَ﴾؛ أي: حق وثبت ﴿أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾؛ أي: كون عذاب النار لهم بدل ما جعلوه لأنفسهم من الحسنى، ﴿و﴾ لا جرم ﴿أنهم مفرطون﴾؛ أي: مقدمون إلى النار معجلون إليها، أو متروكون منسيون فيها. وقرأ (٢) الحسن ومجاهد: ﴿باختلاف ألسنتْهم﴾ بإسكان التاء، وهي لغة تميم، جمع لسانًا المذكر، نحو حمار وأحمرة، وفي التأنيث ألسن كذراع وأذرع، وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام: ﴿الكذب﴾ بضم الكاف والذال والباء صفة للألسن، جمع كذوب كصبور وصبر، وهو مقيس، أو جمع كاذب كشارفٍ وشرفٍ، ولا ينقاس وعلى هذه القراءة ﴿أنَّ لهم﴾ مفعول تصف، وقر الحسن وعيسى بن عمر: ﴿إنَّ لهم﴾ بكسر الهمزة، وإنَّ جواب قسم أغنت عنه لا جرم، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وأبو رجاء وشيبة ونافع وأكثر أهل المدينة: ﴿مُفْرِطُونَ﴾ بكسر الراء، من أفرط حقيقةً؛ أي: متجاوزين الحد في معاصي الله، وباقي السبعة والحسن والأعرج وأصحاب ابن عباس ونافع في رواية: بفتح الراء، من أفرطته إلى كذا قدمته، معدى بالهمزة، من فرط إلى كذا تقدم إليه، وقرأ أبو جعفر: ﴿مفرَّطون﴾ مشدد من
(٢) البحر المحيط.
٦٣ - ثم بين (١) سبحانه أنَّ هذا الصنيع الذي صدر من قريش قد حدث مثله من الأمم السالفة في حق أنبيائهم، فقال مسلِّيًا رسوله على ما كان يناله من الغم بسبب جهالاتهم: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾؛ أي: والله لقد أرسلنا رسلًا من قبلك إلى أممهم بمثل ما أرسلناك به إلى أمتك من الدعاء إلى توحيد الله تعالى، وإخلاص العبادة له، وخلع الأنداد والأوثان ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾؛ أي: فحسن لهم الشيطان أعمالهم القبيحة، من الكفر بالله والتكذيب بالرسل وعبادة الأوثان، فكذبوا رسلهم، وردوا عليهم ما جاءوا به من عند ربهم، وما كان ناصرهم فيما اختاروا إلا الشيطان، ﴿فَهُوَ﴾؛ أي: الشيطان ﴿وَلِيُّهُمُ﴾؛ أي: ناصرهم وقرينهم ومتولي أمورهم ﴿الْيَوْمَ﴾؛ أي: في الدنيا بإغوائهم وإضلالهم، وبئس الناصر والقرين، ﴿وَلَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، هو عذاب النار حين ورودهم إلى ربهم، إذ لا تنفعهم إذ ذاك ولاية الشيطان، كما لا تنفعهم في الدنيا، وعبارة "الشوكاني" هنا: ويحتمل (٢) أن يكون اليوم عبارة عن زمان الدنيا، فيكون المعنى: فهو قرينهم في الدنيا، ويحتمل أن يكون اليوم عبارة عن يوم القيامة وما بعده، فيكون للحال الآتية، ويكون الولي بمعنى الناصر، والمراد نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه، لأن الشيطان لا يتصور منه النصرة أصلًا في الدار الآخرة، وإذا كان الناصر منحصرًا فيه.. لزم أن لا نصرة من غيره، ويحتمل يراد باليوم بعض زمان الدنيا، وهو على وجهين:
الأول: أن يراد البعض الذي قد مضى، وهو الذي وقع فيه التزيين من الشيطان للأمم الماضية، فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية.
والثاني: أن يراد البعض الحاضر، وهو وقت نزول الآية، والمراد تزيين
(٢) الشوكاني.
الإعراب
﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. ﴿هَاجَرُوا﴾: فعل وفاعل، وجملة ﴿هَاجَرُوا﴾ صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. ﴿فِي اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلقان بالفعل ﴿هَاجَرُوا﴾ وحرف الجر ﴿فِي﴾ للتعليل؛ أي: لإقامة دين الله ﴿مِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور متعلقان بحال ﴿مَا﴾ مصدرية. ﴿ظُلِمُوا﴾: فعل وفاعل و ﴿مَا﴾ المصدرية مؤولة مع مدخولها بمصدر مضاف إلى بعد؛ أي: من بعد ظلمهم بالأذى من أهل مكة ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾ اللام: موطئة للقسم ﴿نبوئنهم﴾: فعل ومفعول به، وجملة ﴿نبوئنهم﴾ خبر اسم الموصول ﴿وَالَّذِينَ﴾. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: جار ومجرور متعلقان بحال ﴿حَسَنَةً﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: ثبوته حسنة، فهي نائب مفعول مطلق، ولك أن تقربها مفعولًا ثانيًا لـ ﴿نبوئنهم﴾ لتضمن معناه نعطينهم، فتكون صفة لمحذوف، أي: دارًا حسنة ﴿وَلَأَجْرُ﴾: ﴿الواو﴾ حالية، و ﴿اللام﴾ للابتداء ﴿أجر﴾: مبتدأ ﴿الْآخِرَةِ﴾: مضاف إليه ﴿أَكْبَرُ﴾: خبر ﴿لَوْ﴾ شرطية ﴿كَانُوا﴾ ماض ناقص، والواو اسمها وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾، وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف، تقديره: لوافقوهم في الدين، وجملة ﴿لَوْ﴾ مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم الذين، والجملة مستأنفة، وجملة ﴿صَبَرُوا﴾ صلة الموصول، ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ﴾: متعلق بما بعده، وجملة ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾ معطوف على ﴿صَبَرُوا﴾.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣)﴾.
﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)﴾.
﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿رِجَالًا﴾ ﴿وَالزُّبُرِ﴾: معطوف على البينات؛ أي: رجالًا متلبسين بالبينات الزبر، وهذا أحسن الأعاريب فيه، السالم من الاعتراض كما ذكره الزمخشري، ﴿وَأَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، ﴿الذِّكْرَ﴾ مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا﴾ ﴿لِتُبَيِّنَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿تبين﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق به، ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿تبين﴾ مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لتَبِيينِكَ للناس، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أنزلنا﴾ ﴿نُزِّلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿نُزِّلَ﴾، وجملة ﴿نُزِّلَ﴾ صلةٌ لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، ﴿وَلَعَلَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿لعل﴾ في محل جر بلام التعليل المقدرة، تقديره: ولإرادة تفكرهم فيه؛ لأن
﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥)﴾.
﴿أَفَأَمِنَ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾ عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم يتفكروا في الذكر فَأَمِنَ الذين مكروا السيئات إلخ، ﴿أمن الذين﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على الجملة المحذوفة، ﴿مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، ﴿أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ﴾: ناصب وفعل وفاعل ﴿بِهِمُ﴾: متعلق به، ﴿الْأَرْضَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا به لأمن؛ أي: أفامنوا خسف الله تعالى بهم الأرض، ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتنويع ﴿يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ﴾: فعل ومفعول وفاعل معطوف على ﴿يَخْسِفَ﴾ والتقدير: أو إتيان العذاب إياهم. ﴿مِنْ حَيْثُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَأْتِيَهُمُ﴾ ﴿حَيْثُ﴾ مضاف وجملة ﴿لَا يَشْعُرُونَ﴾ في محل الجر مضاف إليه لحيث.
﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٤٧)﴾.
﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿يَخسِفَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْعَذَابُ﴾، ﴿فِي تَقَلُّبِهِمْ﴾: جار ومجرور، حال من ضمير المفعول؛ أي: أو يأخذهم حال كونهم متقلبين في أسفارهم ﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: واقعة في جواب شرط مقدر، تقديره: فإذا أخذهم بالعقوبة بأي سبب ﴿ما﴾: حجازية، ﴿هُم﴾: اسمها، ﴿بِمُعْجِزِينَ﴾: خبرها، والجملة الاسمية جواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿يَخسِفَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ ﴿عَلَى تَخَوُّفٍ﴾: جار ومجرور، حال من ضمير المفعول، تقديره: حالة كونهم خائفين، ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: تعليلية لمحذوف تقديره:
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (٤٨)﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾ عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم يتفكروا ولم يروا، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿لم يروا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾، ﴿إِلَى مَا﴾: جار ومجرور متعلق به، ضمنه معنى نظر فعداه بـ ﴿إِلَى﴾ ﴿خَلَقَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: إلى ما خلقه الله، ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور، حال من ﴿مَا﴾ أو من الضمير المحذوف، ﴿يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صفة لـ ﴿شَيْءٍ﴾، ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ﴾: متعلق بـ ﴿يَتَفَيَّأُ﴾ ﴿سُجَّدًا﴾: حال من الظلال، ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿سُجَّدًا﴾ ﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من الضمير المستتر في ﴿سُجَّدًا﴾، فهي حال متداخلة.
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠)﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾ الواو: استئنافية، ﴿لله﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَسْجُدُ﴾ ﴿يَسْجُدُ مَا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور، صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾: حال من ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾: معطوف على ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ عطف خاص على عام، ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾. ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من ضمير ﴿يَسْتَكْبِرُونَ﴾ {مِنْ
﴿* وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢)﴾.
﴿وَقَالَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ﴾: إلى آخر الآيات مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ﴾: جازم وفعل وفاعل ومفعول، واتخذ هنا يتعدى إلى مفعول واحد، لأنه بمعنى لا تعبدوا، ﴿اثْنَيْنِ﴾: صفة مؤكدة لـ ﴿إِلَهَيْنِ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾، ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، ﴿هُوَ إِلَهٌ﴾: مبتدأ وخبر، ﴿وَاحِدٌ﴾: صفة ﴿إِلَهٌ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿فَإِيَّايَ﴾ ﴿الفاء﴾: واقعة في جواب شرط محذوف تقديره: إن كنتم راهبين شيئًا فإياي فارهبون، ﴿إياي﴾: ضمير نصب منفصل في محل النصب بفعل محذوف وجوبًا يفسره المذكور بعده، تقديره: فإياي ارهبوا، والجملة المحذوفة جواب الشرط المحذوف، وجملة الشرط المحذوف في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿فَارْهَبُونِ﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، و ﴿النون﴾: نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، ﴿وَلَهُ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾ على كونها مقول ﴿قال﴾، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، و ﴿وَلَهُ الدِّينُ﴾: خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقول ﴿قال﴾، ﴿وَاصِبًا﴾: حال من ﴿الدِّينُ﴾ ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ﴾ ﴿الهمزة﴾: فيه للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف،
﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (٥٣)﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿ما﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، ﴿بِكُم﴾: جار ومجرور صلة ﴿ما﴾ الموصولة؛ أي: وما وصل بكم، ﴿مِنْ نِعْمَةٍ﴾: جار ومجرور حال من ﴿ما﴾ أو من الضمير المُسْتَكِنِ في الظرف، ﴿فَمِنَ اللَّهِ﴾ ﴿الفاء﴾: زائدة في الخبر لشبه المبتدأ بأسماء الشروط في العموم ﴿من الله﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على الجمل التي قبلها، على كونها مقول ﴿قال﴾ ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿مَسَّكُمُ الضُّرُّ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ ﴿إذا﴾، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ﴿فَإِلَيْهِ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِذَا﴾ جوازًا، ﴿إليه﴾: متعلق بما بعده، وجملة ﴿تَجْأَرُونَ﴾ جواب ﴿إِذَا﴾، وجملة ﴿إِذَا﴾ في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها مقول ﴿قال﴾.
﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿إذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿كَشَفَ الضُّرَّ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به ﴿عَنْكُمْ﴾: متعلق به، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذَا﴾ إليها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ولكن ما بعد ﴿إِذَا﴾ الفجائية لا يعمل فيما قبلها، وفي "السمين": وفي الآية دليل على أن إذا الشرطية لا تكون معمولة لجوابها، لأن ما بعد إذا الفجائية لا يعمل فيما قبلها اهـ. ﴿إذَا﴾: حرف فجأة رابطة الجواب بالشرط وجوبًا، ﴿فَرِيقٌ﴾: مبتدأ، ﴿مِنْكُمْ﴾: صفته، ﴿بِرَبِّهِمْ﴾: متعلق بما بعده، وجملة ﴿يُشْرِكُونَ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ والجملة الاسمية جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها، على كونها مقول
﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)﴾.
﴿لِيَكفُرُوا﴾ ﴿اللام﴾: لام كي، ﴿يكفروا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لكفرانهم بما أعطيناهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُشْرِكُونَ﴾ ﴿آتَيْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف تقديره: إياه، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، ﴿فَتَمَتَّعُوا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب إذا المقدرة، تقديره: إذا عرفت يا محمَّد حالهم هذا وأردت بيان ما تقول لهم.. فأقول لك قل لهم تمتعوا إلخ ﴿تمتعوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿فَسَوْفَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿سوف﴾: حرف استقبال وتنفيس، ﴿تَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، ومفعوله محذوف تقديره: عاقبة ما تصيرون إليه، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿تمتعوا﴾.
﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧)﴾.
﴿وَيَجْعَلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وفي "أبي السعود": لعلها معطوفة على ما سبق بحسب المعنى: يفعلون ما يفعلون من اللجوء إلى الله تعالى عند مس الضر، ومن الإشراك به عندك كشفه ويجعلون إلخ اهـ، ﴿لِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يجعلون﴾، ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، والمفعول محذوف تقديره: للأصنام التي لا تعلم عبادتهم إياها، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، ﴿نَصِيبًا﴾: مفعول ﴿يجعلون﴾، ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور، صفة لـ ﴿نَصِيبًا﴾، ﴿رَزَقْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما رزقناهم إياه، ﴿تَاللَّهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم بالله، وجملة القسم المحذوف مستأنفة، ﴿لَتُسْأَلُنَّ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿تسألن﴾: فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع
﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨)﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿بُشِّرَ أَحَدُهُمْ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿إذا﴾، ﴿بِالْأُنْثَى﴾ متعلق بـ ﴿بُشِّرَ﴾، ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا﴾ فعل ناقص واسمه وخبره، ﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من ضمير ﴿وَجْهُهُ﴾، وجملة ﴿ظَلَّ﴾ جواب ﴿إذا﴾ وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة.
﴿يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)﴾.
﴿يَتَوَارَى﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿أَحَدُهُمْ﴾، والجملة مستأنفة، أو في حل النصب حال من ضمير ﴿وَجْهُهُ﴾، ﴿مِنَ الْقَوْمِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَتَوَارَى﴾، وكذا يتعلق به قوله: ﴿مِنْ سُوءِ﴾ فلا يعترض بامتناع تعلق حرفي جر متحدي اللفظ بعامل واحد لاختلاف معناهما، فإن الأولى
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿لو﴾: حرف شرط، ﴿يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، ﴿بِظُلْمِهِمْ﴾: متعلق به، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾، ﴿مَّا﴾:
﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾.
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنه يؤخرهم إلى أجل مسمى وأردت بيان حالهم وقت مجيء الأجل.. فأقول لك إذا جاء أجلهم، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، ﴿لَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾، وجملة ﴿إذا﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿سَاعَةً﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿يَسْتَأْخِرُونَ﴾، وجملة ﴿وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ معطوفة على جملة ﴿لَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾.
﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)﴾.
﴿وَيَجْعَلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني لـ ﴿جعل﴾ ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول أول لـ ﴿جعل﴾، وجملة ﴿يَكْرَهُونَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: يكرهونه، ﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ﴾: فعل وفاعل، ﴿الْكَذِبَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿يجعلون﴾، ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب، ﴿لَهُمُ﴾: خبرها مقدم، ﴿الْحُسْنَى﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر منصوب على كونه بدلًا من المفعول أعني ﴿الْكَذِبَ﴾؛ أي: وتصف ألسنتهم الكذب كون الحسنى لهم، أو مرفوع على كونه خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: وهو كون الحسنى لهم، ﴿لَا جَرَمَ﴾: مركب مزجي بمعنى حق كما في
﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣)﴾،
﴿تَاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بفعل قسم محذوف، وجملة القسم مستأنفة، ﴿لَقَدْ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة لقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب القسم، ﴿إِلَى أُمَمٍ﴾: متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿أُمَمٍ﴾، ﴿فَزَيَّنَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿زين﴾: فعل ماض، ﴿لَهُمُ﴾: متعلق به، ﴿الشَّيْطَانُ﴾: فاعل، ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة مفرَّعة على جملة ﴿زيّن﴾، ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿وَلَهُمْ﴾، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ﴾: خبر ومبتدأ، ﴿أَلِيمٌ﴾: صفة ﴿عَذَابٌ﴾، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾: نافية، ﴿أَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق به، ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء من أعم العلل، ﴿لِتُبَيِّنَ﴾ ﴿اللام﴾ لام كي، ﴿تبين﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، ﴿لَهُمُ﴾: متعلق به، ﴿الَّذِي﴾: مفعول به، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، والتقدير: وما أنزلنا عليك الكتاب لعلة من العلل إلا لتبيينك لهم الذي اختلفوا فيه، ﴿اخْتَلَفُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿فِيهِ﴾: متعلق به، ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾: معطوفان على محل ﴿لِتُبَيِنَ﴾، ﴿لِقَوْمٍ﴾: تنازع فيه ﴿هدى ورحمة﴾، وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ صفة لـ ﴿قومٍ﴾.
﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾؛ أي: لننزلنهم (١) في الدنيا مباءة حسنة، وهي المدينة المنورة، يقال بوأه منزلًا أنزله فيه، والمباءة المنزل، فهي منصوبة على الظرفية، أو على أنها مفعول ثان إن كان لنبوأنهم في معنى لنعطينهم، ﴿أَهْلَ الذِّكْرِ﴾؛ أي: علماء أهل الكتاب ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾ البينات جمع بينة، وهي المعجزات الدالة على صدق الرسول، والزبر جمع زبور بمعنى مزبور؛ أي: مكتوب، كرسل جمع رسول، وهي كتب الشرائع والتكاليف التي يبلغها الرسل إلى العباد، ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾؛ أي: القرآن سمي به لأنه تذكير وتنبيه للغافلين، ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: لتوضح لهم ما خفي عليهم من أسرار التشريع بيانًا شافيًا، وصيغة التفعيل في الفعلين يدل على تكرار البيان والنزول كما هو كذلك، ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ والتفكر تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب.
﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ﴾ والمكر السعي بالفساد خفية، والسيئات جمع سيئة، وهي الأعمال التي تسوؤهم عاقبتها، ﴿يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ﴾؛ أي: يغورها ويزيلها من الوجود وهم على سطحها، يقال: خسف (٢) المكان يخسف خسوفًا ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفًا؛ أي: غاب به فيها، ومنه قوله: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾، وخسف هو في الأرض وخسف به، ﴿تَقَلُّبِهِمْ﴾؛ أي: في أسفارهم وسيرهم في البلاد البعيدة، للسعي في أرزاقهم، كما قال: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦)﴾ وفي "القاموس": تقلب في الأمور تصرف كيف شاء انتهى، ﴿بِمُعْجِزِينَ﴾؛ أي: بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار، ﴿عَلَى تَخَوُّفٍ﴾ والتخوف التنقص، من قولهم: تخوفت الشيء إذا تنقصته، والمراد أنه ينقص أموالهم وأنفسهم قليلًا حتى يأتي عليها الفناء جميعًا، قال في "القاموس" تخوف الشيء تنقصه، ومنه {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى
(٢) الشوكاني.
تَخَوَفَّهَا نُزوْليْ وَارْتِحَالِيْ
أي: تَنَقَّص لحمَها وشحمَها.
ولقي رجل أعرابيًّا فقال: يا فلان ما فعل دَينك؟ فقال: تخوفته، يعني تنقصته.
﴿يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ﴾؛ أي: ينتقل من جانب إلى آخر، وفي "السمين": والتفيُّؤ (١) تفعل من فاء يفيء إذا رجع، وفاء قاصر فإذا أريد تعديته عدي بالهمزة، كقوله تعالى: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ أو بالتضعيف نحو فيأ الله الظل فتفيأ، وتفيأ مطاوع فيَّأ، فهو لازمٌ، واختلف في الفيء، فقيل هو مطلق الظل سواء كان قبل الزوال أو بعده، وهو الموافق لمعنى الآية هنا، وقيل ما كان قبل الزوال فهو ظلٌ فقط، وما كان بعده فهو ظل وفيء، فالظل أعم، وقيل بل يختص الظل بما كان قبل الزوال، والفيء بما بعده، فالفيء لا يكون إلا بالعشي، وهو ما انصرفت عنه الشمس، والظل ما يكون بالغداة، وهو ما لم تنله اهـ.
﴿عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ﴾ واليمين والشمائل جانبا الشيء الكثيف من الجبال والأشجار وغيرها، والشمائل جمع شمال بالكسر ضد اليمين، وبالفتح الريح التي مهبها بين مطلع الشمس وبنات نعش، أو من مطلع الشمس إلى مسقط النسر الطائر، كما في "القاموس".
﴿سُجَّدًا لِلَّهِ﴾ جمع ساجد كشاهد وشهد وراكع وركع، وفي المختار": سجد إذا خضع، ومنه سجود الصلاة، وهو وضع الجبهة على الأرض، وبابه دخل اهـ، والمراد بالسجود هنا الانقياد والخضوع، من قولهم: سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل، ومنه قوله:
وَاسْجُدْ لِقِرْدِ السُّوْءِ في زَمَانِهِ
﴿وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا﴾؛ أي: ثابتًا واجبًا دائمًا لا يزول، والدين هو الطاعة والإخلاص وقال الفراء: ﴿وَاصِبًا﴾ معناه دائمًا، ومنه قول الدُّؤلي:
لاَ أَبْتَغِيْ الْحَمْدَ الْقَلِيلَ بَقَاؤُهُ | بِذَمٍّ يَكُوْنُ الدَّهْرَ أجْمَعَ وَاصِبَا |
﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ﴾ والضر المرض والبلاء والحاجة والقحط، وكل ما يتضرر به الإنسان، ﴿تَجْأَرُونَ﴾ من جأر يجأر جؤارًا، وأصل الجؤار صياح الوحش، ثم استعمل في رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة، وفي "الفتوحات": الجؤار بوزن زكام رفع الصوت بالدعاء في كشف المضار، وفي "القاموس": جأر - كمنع - جأرًا وجؤارًا بوزن غراب، رفع صوته بالدعاء، وتضرع واستغاث، والبقرة والثور صاحا، والنبات جؤارًا طال، والأرض طال نبتها اهـ.
﴿ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا﴾؛ أي: صار من الظلول بمعنى الصيرورة، كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة بمعناها، أو هو بمعناه يقال ظل يفعل كذا إذا فعله نهارًا؛ أي: دام النهار كله مسودًّا؛ لأن أكثر الوضع يتفق بالليل، ويتأخر إخبار المولود إلى النهار، وخصوصًا بالأنثى، فيظل نهاره مسودًّا، واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام والتشوير.
﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ في "المصباح": كظمت الغيظ كظمًا - من باب ضرب - وكظومًا، إذا أمسكت على ما في نفسك منه على صفح أو غيظ، وفي التنزيل:
﴿يَتَوَارَى﴾؛ أي: يختفي ويتغيب، وقد كان من عادتهم في الجاهلية أن يتوارى الرجل حين ظهور آثار الطلق بامرأته، فإن أخبر بذكر.. ابتهج، وإن أخبر بأنثى.. حزن وبقي متواريًا أيامًا يدبر فيها ما يصنع، ﴿هُونٍ﴾؛ أي: يحفظه ويحبسه، كقوله: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾، ﴿هُونٍ﴾ الهون الهوان والذل بلغة قريش، وحكي عن الكسائي: أنه البلاء والشدة، قالت الخنساء:
نُهِيْنُ النُّفُوْسَ وَهَوْنُ النُّفُوْسِ | يَوْمَ الْكَرِيهَةِ أبْقَى لَهَا |
﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾؛ أي: الصفة العليا، وهي أنه لا إله إلا هو، وأن له جميع صفات الجلال والكمال، ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ﴾ فاعل هنا بمعنى فعل الثلاثي؛ أي: أخذ، ﴿لَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾؛ أي: لا يتأخرون، وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم عنه مع طلبهم له، ﴿سَاعَةً﴾؛ أي: أقصر وقت، وهي مثل في قلة المدة كما مر، ﴿لَا جَرَمَ﴾: تركيب مزجي من ﴿لا﴾ و ﴿جَرَم﴾، ومعناه الفعل؛ أي: حق وثبت، ﴿وَأَنَهُم مُفْرَطُونَ﴾؛ أي: مقدمون إلى النار معجلون إليها، من أفرطته إذا قدمته في طلب الماء، أو متروكون في النار، من أفرطت فلانًا خلفي إذا خلفته ونسيته خلفك، والفارط هو الذي يتقدم إلى الماء، والفُرَّاط المتقدمون في طلب الماء، والوُرَّاد المتأخرون، ومنه - ﷺ -: "أنا فرطكم على الحوض"؛ أي: متقدَّمكم، قال القطاميُّ:
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التعبير عن الماضي بصيغة المضارع في قوله: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ لاستحضار صورة توكلهم البديعة، وفيه ترغيب لغيرهم في طاعة الله عز وجل.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ﴾.
ومنها: قصر القلب أو الإفراد في قوله: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ﴾؛ أي: له تعالى وحده لا لغيره استقلالًا واشتراكًا.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ و ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ زيادة في التعظيم والتبجيل للملائكة الأطهار.
ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله ﴿وَقَالَ اللَّهُ﴾ إلى التكلم في قوله: ﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ لتربية المهابة والرهبة في القلوب مع إفادة القصر؛ أي: لا تخافوا غيري؛ لأنه أبلغ في الرغبة من قوله: فإيّاه فارهبوه، فإن الترهيب في التكلم المنتقل إليه أزيد، ثم التفت من التكلم إلى ضمير الغيبة في قوله: ﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ...﴾ إلخ كما في "الكرخي".
ومنها: إيراد الصيغة الخاصة بالعقلاء في غيرهم في قوله: ﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ لأن الدخور من خصائصهم تنزيلًا له منزلتهم.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿يَسْتَقْدِمُونَ﴾ و ﴿يَسْتَأْخِرُونَ﴾.
ومنها: الاعتراض في قوله: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧)﴾ فلفظة سبحانه معترضة لتعجيب الخلق من هذا الجهل القبيح.
ومنها: التهديد والوعيد في قوله: ﴿فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ﴾ لأنه كناية عن كونها كاذبة، قال الشهاب: وهذا من بليغ الكلام وبديعه؛ أي: ألسنتهم كاذبة كقولهم: عينها تصف السحر؛ أي: ساحرة، وقدها يصف الهيف؛ أي: هيفاء.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله: ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ فإن لفظ اثنين تأكيد لما فهم من
ومنها: الحصر في قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ لأن لعل هنا مستعارٌ لمعنى الإرادة.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ﴾، وفي قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾.
ومنها: الطباق بين النعمة والضر في قوله: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ﴾.
ومنها: التأكيد بالقسم في قوله: ﴿تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا﴾ لأن اسوداد الوجه كناية عن شدة الاغتمام.
ومنها: إضافة الموصوف إلى صفته في قوله: ﴿مَثَلُ السَّوْءِ﴾، لأن معناه الصفة السؤى.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ﴾ إن أريد باليوم زمن تزيين الأعمال للأمم الماضية، حيث عبر عن الزمن الماضي بلفظ اليوم الموضوع للزمن الحاضر، ويمكن كونه من حكاية الحال الآتية كما مَرَّ في مبحث التصريف.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما وعد (١) المؤمنين بجنات تجري من تحتها
وقال ابن عطية: مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما أمره بتبيين (١) ما اختلف فيه.. قص العبر المؤدية إلى بيان أمر الربوبية، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وهي في غاية الظهور، ولا يختلف فيها عاقل انتهى.
وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة الأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد، ولذلك ختم بقوله: ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: يصدقون، والتصديق محله القلب، فكذا إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسببٌ لبقائها، ثم أشار بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن كما قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها، كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتًا بالجهل، وكذلك ختم بقوله: ﴿يَسْمَعُونَ﴾ هذا التشبيه المشار إليه والمعنى سماع إنصاف وتدبر، ولملاحظة هذا المعنى والله أعلم لم يختم بقوم يبصرون وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد.
ولمَّا ذكر إحياء الأرض بعد موتها.. ذكر ما ينشأ عن المطر، وهو حياة الأنعام التي هي مألوف العرب بما يتناوله من النبات الناشىء عن المطر، ونبَّه على العبرة العظيمة، وهو خروج البن من بين فرث ودم.
(٢) البحر المحيط.
فَاسْتَعْجَلُوْنَا وَكَانُوْا مِنْ صحَابَتِنَا | كَمَا تَعجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ |
ومِن الدَّليلِ على القَضَاءِ وكَوْنِه | بُؤْسُ اللَّبِيب وطِيْبُ عَيْشِ الأحْمِق |
قوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لمَّا (٢) بين دلائل التوحيد البيان الشافي فيما سلف. أردف ذلك الرد على عابدي
(٢) المراغي.
أوَّلهما: العبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، والحر الكريم الغني الكثير الإنفاق سرًّا وجهرًا، ولفت النظر إلى أنهما هل يكونان في نظر العقل سواء مع تساويهما في الخلق والصورة البشرية، وإذا امتنع ذلك فكيف ينبغي أن يسوى بين القادر على الرزق والإفضال والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على النفع والضر.
والثاني: مثل رجلين أحدهما: أبكم عاجز لا يقدر على تحصيل خير وهو عبءٌ ثقيلٌ على سيده، وثانيهما: حول قلب ناطق كامل القدرة، أيستويان لدى أرباب الفكر أو استوائهما في البشرية، وإذًا فكيف يدور بخلد عاقل مساواة الجماد برب العالمين في الألوهية والعبادة.
وقال أبو حيان: مناسبة ضرب هذا المثل (١): أنه لما بين تعالى ضلالهم في إشراكهم بالله تعالى غيره، وهو لا يجلب نفعًا ولا ضرًّا لنفسه ولا لعابده.. ضرب لهم مثلًا قصة عبدٍ في ملك غيره عاجز عن التصرف، وحر غني متصرف فيما آتاه الله، فإذا كان هذان لا يستويان عندكم، مع كونهما من جنس واحد ومشتركين في الإنسانية، فكيف تشركون بالله وتسوون به من هو مخلوق له مقهور بقدرته من آدمي وغيره، مع تباين الأوصاف، وأن موجد الوجود لا يمكن أن يشبهه شيء من خلقه، ولا يمكن لعاقل أن يشبِّه به غيره.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله (٢) سبحانه وتعالى لمَّا مثل نفسه عَزَّ وَجَلَّ بمن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، ومستحيل أن يكون كذلك إلَّا إذا كان كامل العلم والقدرة.. أردف ذلك بما يدل على كمال علمه، فأبان أن العلم بغيوب السموات والأرض ليس إلا له، وبما يدل على كمال قدرته، فذكر أن قيام الساعة في السرعة كلمح البصر أو أقرب، ثم عاد إلى ذكر الدلائل على توحيده، وأنه الفاعل المختار، فذكر منها خلق الإنسان في أطواره المختلفة، ثم الطير المسخّر بين
(٢) المراغي.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا...﴾ الآية، أخرج (١) ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا﴾ قال نزلت في رجل من قريش وعبده، وفي قوله: ﴿رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ﴾ قال: نزلت في عثمان ومولى له، كان يكره الإِسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما قوله تعالى:
﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (٢): أنَّ كفار مكة سألوا رسول الله - ﷺ - متى الساعة، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل، وقال ابن السائب: المراد بالغيب ها هنا قيام الساعة.
التفسير وأوجه القراءة
٦٥ - ﴿وَاللهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾ إلى السحاب ومنه إلى الأرض ﴿مَاءً﴾ أي نوعًا خاصًّا من الماء، وهو المطر ﴿فَأَحْيَا بِهِ﴾؛ أي: بسبب المطر ﴿الْأَرْضَ﴾ بأنواع النباتات ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ ويبسها؛ أي: بعد أن كانت يابسة لا حياة بها، وما تفيده (٣) الفاء من التعقيب العادي لا ينافيه ما بين المعطوفين من المهملة، لأن التعقيب في كل شيء بحسبه.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إن في إنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض الميتة به ﴿لَآيَةً﴾؛ أي: لعلامة دالة على وحدانيته تعالى، وعلمه وقدرته وحكمته، إذ الأصنام وغيرها لا تقدر على شيء ﴿لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ هذا التذكير ونظائره سماع تفكر وتدبر وإنصاف، فكأن من ليس كذلك أصم لا يسمع، فالمراد سمع القلوب
(٢) زاد المسير.
(٣) روح البيان.
وقال بعضهم: ﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾؛ أي: قرآنًا وهو سبب حياة المؤمنين فأحيا به القلوب الميتة بالجهل ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ القرآن بسمع يسمع به كلام الله من الله، فإن الله تعالى متكلم بكلام أزلي أبدًا، ولا يسمع كلامه إلا من أكرمه الله بسمع يسمع كلامه، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾.
وعلامة (١) السامعين لكلام الله تعالى المتحقِّقين في سماعهم انقيادهم إلى كل عمل مقرب إلى الله تعالى من جهة سماعه؛ أعني من التكليف المتوجه على الأذن من أمر أو نهي كسماعه للعلم، والذكر والثناء على الحق تعالى، والموعظة الحسنة والقول الحسن، ومن علامتهم أيضًا التصامم عن سماع الغيبة والبهتان، والسوء من القول، والخوض في آيات الله، والرفث والجدال، وسماع القينات والملاهي، وكل محرم حجر الشارع عليك سماعه، نسأل الله تعالى أن يحفظنا في أسماعنا وأبصارنا وجوارحنا من كل ما يبعدنا عن الله تعالى.
والحاصل (٢): أنَّ الله سبحانه وتعالى نبَّه عباده إلى الحجج الدالة على توحيده، وأنه لا تنبغي الألوهية إلا له، ولا تصلح العبادة لشيء سواه، فبين أن ذلك المعبود هو الذي أنزل من السماء مطرًا، فأنبت به أنواعًا مختلفة من النبات في أرض ميتة يابسة، لا زرع فيها ولا عشب، إن في ذلك الإحياء بعد الموت لدليلًا واضحًا وحجةً قاطعة على وحدانيته تعالى، وعلمه وقدرته لمن يسمع هذا القول سماع تدبر وفهم لما يسمع، إذ لا عبرة بسماع الآذان، فهو بسماع الحيوان أشبه.
٦٦ - وبعد ذكر نزول الماء من السماء.. ذكر خروج اللبن من الضرع، وفيه أكبر الأدلة على قدرة القادر فقال: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ﴾، أيها الناس ﴿فِي الْأَنْعَامِ﴾ جمع نعم بالتحريك، وهي الأنواع الأربعة التي هي الإبل والبقر والضأن والمعز، ﴿لَعِبْرَةً﴾؛
(٢) المراغي.
وقرأ ابن مسعود (٢) بخلاف عنه، والحسن وزيد بن علي وابن عامر وأبو بكر ونافع وأهل المدينة: ﴿نَسْقِيكم﴾ هنا وفي: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)﴾ بفتح النون، مضارع سقى يسقي، وهي لغة قريش، وباقي السبعة بضمها، من أسقى يسقي وهي لغة حمير، وجميع القراء على هاتين القراءتين، وقرأ أبو جعفر: ﴿يُسْقِيكم﴾ بياء مضمومة، والضمير عائد على الله، وقرأت فرقة بالتاء مفتوحة، منهم أبو جعفر، على أن الضمير راجع إلى الأنعام، وهاتان القراءتان ضعيفتان، وقال الزجاج (٣): سقيته وأسقيته بمعنى واحد، وفي "الأسئلة المقحمة": يقال أسقيته إذا جعلت له سقيًا دائمًا، وسقيته إذا أعطيته شربةً، وقيل: إذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقي.. يقال سقيته، وإذا كان بمجرد عرضه عليه وتهيئته له.. قيل: أسقاه، وقوله: ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ﴾ ﴿مِنْ﴾ ابتدائية متعلقة بـ ﴿نُسقيكم﴾ لأن بين الفرث والدم مبدأ الإسقاء، والفرث وكذا الثفل بضم الثاء المثلثة وسكون الفاء فضالة العلف وووثه في الكرش، والكرش - وزان كبد - للحيوان بمنزلة
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
قال في "الكواشي" (١): المعنى خلق الله اللبن في مكان وسط بين الفرث والدم، وذلك أن الكرش إذا طبخت العلف.. صار أسفله فرثًا، وأوسطه لبنًا خالصًا لا يشوبه شيء، وأعلاه دمًا، وبينه وبينهما حاجزٌ من قدرة الله تعالى، لا يختلط أحدهما بالآخر بلون ولا طعم ولا رائحة، مع شدة الإتصال، ثم تسلط الكبد على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها: فتجري الدم في العروق، واللبن في الضروع، ويبقى الفرث في الكرش، ثم ينحدر.
فإن قلت (٢): إن الدم واللبن لا يتولدان في الكرش، إذ البهائم إذا ذبحت لم يوجد في كرشها لبنٌ ولا دم.
قلتُ: المراد كان أسفله مادة الفرث، وأوسطه مادة اللبن، وأعلاه مادة الدم، فالمنحدر إلى الضروع مادة اللبن لا مادة الدم، وقول بعضهم: إن الدم ينحدر إلى الضروع فيصير لبنًا ببرودة الضرع، بدليل أن الضرع إذا كانت فيه آفة.. يخرج منه الدم مكان اللبن، مدفوعٌ بأنه يجوز أن يتلون اللبن بلون الدم بسبب الآفة، وهو اللائح بالبال، ومن بلاغات الزمخشري:
كما يحدث بين الخبيثين ابنٌ لا يؤبن | الفرث والدم يخرج منهما اللبن |
(٢) روح البيان.
ومعنى الآية (١): أي وإن لكم أيها الناس لعظةً في الأنعام دالة على باهر قدرتنا، وبديع صنعنا، وواسع فضلنا ورحمتنا بعبادنا، فإننا نسقيكم مما في بطونها من اللبن الخالص من شائبات المواد الغريبة، السهل التناول اللذيذ الطعم، وهو متولد من بين فرث ودم.
فإنَّ الله جلت قدرته جعل الحيوان يتغذى بما يأكل من نبات ولحوم ونحوهما، حتى إذا هضم المأكول.. تحول بإذنه تعالى عصارةً نافعة للجسم، وفضلات تطرد إلى الخارج، ومن هذه العصارة يتكون الدم الذي يسري في عروق الجسم لحفظ الحياة، وبعض هذا الدم يذهب إلى الغدد التي في الضرع، فتحولها إلى لبن، وهكذا في الجسم غددًا أخرى كالغدد الأنفية للمخاط، والغدد المنوية التي تحول الدم إلى مادة التلقيح، والغدد العينية للدمع، والغدد الفموية للبصاق.
٦٧ - وبعد أن ذكر سبحانه اللبن، وبين أنه جعله شرابًا سائغًا للناس، ثلث بذكر ما يتخذ من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب فقال: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ﴾ متعلق بمحذوف دل عليه ما قبله، ونسقيكم أيها الناس من ثمرات النخيل والأعناب؛ أي: من عصيرهما، ونطعمكم من ثمارهما، وقوله: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا﴾ كلام مستأنف مسوق لبيان ذلك الإسقاء والإطعام، والتقدير: أي وذلك الإسقاء والإطعام أنكم تتخذون منه؛ أي: مما ذكر من ثمرات النخيل والأعناب، أو من عصيرهما سكرًا؛ أي: خمرًا وتكرير ﴿منه﴾ تأكيد للظرف الأول، وتذكير الضمير نظرًا إلى كونه بمعنى المذكور، أو لكونه راجعًا إلى المضاف المحذوف، كما قدرناه، وقال في "القاموس": السكر محركة الخمر،
قلت: قال العلماء في الجواب عن هذا: إنَّ هذه السورة مكية وتحريم الخمر إنما نزل في سورة المائدة وهي مدنية، فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة، وهذا الجواب أولى ما قيل في هذا المقام.
أي: وذلك الإسقاء والإطعام أنكم تتخذون وتجعلون مما ذكر سكرًا وخمرًا، ﴿و﴾ تتخذون من ثمارها ﴿رزقًا حسنًا﴾؛ أي: طيبًا كالتمر والزبيب والدبس والخل.
قال بعضهم (٢): انظر إلى الإخبار عن نعمة اللبن ونعمة السكر والرزق الحسن، لما كان اللبن لا يحتاج إلى معالجة الناس.. أخبر عن نفسه بقوله: ﴿نُسْقِيكُمْ﴾، ولما كان السكر والرزق الحسن.. يحتاج إلى معالجة من الناس قال: ﴿تَتَّخِذُونَ﴾، فأخبر عنهم باتخاذهم منه السكر والرزق، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الإسقاء والإطعام ﴿لَآيَةً﴾ باهرة على قدرته تعالى ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾؛ أي: يستعملون عقولهم في الآيات بالنظر والتأمل، فيعلمون أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى، ولما كان مفتتح الكلام: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً﴾.. ناسب الختم بقوله: ﴿يَعْقِلُونَ﴾ لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول، كما قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ ذكره في "البحر".
٦٨ - ولمَّا ذكر (٣) الله سبحانه وتعالى دلائل قدرته وعجائب صنعته الدالة على وحدانيته، من إخراج اللبن من بين فرث ودم، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب.. ذكر في هذه الآية إخراج العسل الذي جعله الله تعالى شفاء للناس من دابة ضعيفة وهي النحلة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ﴾ يا محمَّد ﴿إِلَى النَّحْلِ﴾؛ أي: إلى ذباب العسل وزنبوره؛ أي: ألهمها وقذف في قلبها
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
والخطاب فيه للنبي - ﷺ -، والمراد به كل فرد من الناس ممن له عقل وتفكر، يستدل به على كمال قدرة الله ووحدانيته، وأنه الخالق لجميع الأشياء المدبر لها بلطيف حكمته وقدرته.
وأصل الوحي الإشارة السريعة، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد، ويقال الكلمة الإلهية التي يلقيها الله تعالى إلى أنبيائه وحيٌ، وإلى أوليائه إلهامٌ، وتسخير الطير لما خلق له وحي، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾؛ أي: أنه تعالى سخَّرها لما خلقها له، وألهمها رشدها وقدر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة، التي يعجز عنها العقلاء من البشر، وذلك أن النحل تبني بيوتًا على شكل مسدس من أضلاع متساوية، لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها، ولو كانت البيوت مدورة أو مثلثة أو مربعة أو غير ذلك من الأشكال.. لكان فيما بينها خلل، ولما حصل المقصود، فألهمها الله سبحانه وتعالى أن تبنيها على هذا الشكل المسدس، الذي لا يحصل فيه خلل وفرجة خالية ضائعة.
وألهمها الله تعالى أيضًا أن تجعل عليها أميرًا كبيرًا نافذ الحكم فيها، وهي تطيعه وتمتثل أمره، ويكون هذا الأمير أكبرها جثة وأعظمها خلقة، ويسمى يعسوب النحل يعني ملكها، كذا حكاها الجوهري، وألهمها (١) الله سبحانه وتعالى أيضًا أن جعلت على باب كل خلية بوابًا، لا يمكن غير أهلها من الدخول إليها، وألهمها الله تعالى أيضًا أنها تخرج من بيوتها وتدور وترعى ثم ترجع إلى بيوتها ولا تضل عنها، ولما امتاز هذا الحيوان الضعيف بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والفطنة.. دل ذلك على الإلهام الإلهي، فكان ذلك شبيهًا بالوحي، فلذلك قال تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ وقرأ ابن وثاب: ﴿النَّحل﴾
أي: وألهم (١) ربك النحل، وألقى في روعها وعلَّمها أعمالًا يتخيل منها أنها ذوات عقول، وقد تتبع علماء المواليد أحوالها، وكتبوا فيها المؤلفات بكل اللغات، وخصصوا لا مجلات تنشر أطوارها وأحوالها، وقد وصلوا من ذلك إلى أمور:
١ - أنها تعيش جماعات كبيرة، قد يصل عدد بعضها نحو خمسين ألف نحلة، وتسكن كل جماعة منها في بيت خاص يسمى خلية.
٢ - أن كل خلية يكون فيها نحلة واحدة كبيرة تسمى الملكة أو اليعسوب، وهي أكبرهم جثة، وأمرها نافذٌ فيهم، وعدد يتراوح بين أربع مئة نحلة وخمس مئة يسمى الذكور، وعدد آخر من خمسة عشر ألفًا إلى خمسين ألف نحلة، ويسمى الشغالات أو العاملات.
٣ - تعيش هذه الفصائل الثلاث في كل خلية عيشةً تعاونية على أدق ما يكون نظامًا، فعلى الملكة وحدها وضع البيض الذي يخرج منه نحل الخلية كلها، فهي أم النحل، وعلى الذكور تلقيح الملكات، وليس لها عمل آخر، وعلى الشغالة خدمة الخلية، وخدمة الملكات، وخدمة الذكور، فتنطلق في المزارع طول النهار لجمع رحيق الأزهار، ثم تعود إلى الخلية فتفرز عسلا يتغذى به سكان الخلية صغارًا وكبارًا، وتفرز الشمع الذي تبني به بيوتًا سداسية الشكل، تخزن في بعضها العسل، وفي بعض آخر منها تربي صغار النحل، ولا يمكن المهندس الحاذق أن يبني مثل هذه البيوت حتى يستعين بالآلات كالمسطرة والفرجار، قال الجوهري: ألهمها الله تعالى أن تبني بيوتها على شكل سداس حتى لا يحصل فيه خللٌ ولا فرجةٌ ضائعة، كما عليها أن تنظف الخلية، وتخفق بأجنحتها لتساعد على تهويتها، وعليها أيضًا الدفاع عن الملكة وحراستها من الأعداء، كالنمل والزنابير وبعض الطيور.
و ﴿مِنَ﴾ (٢) للتبعيض، لأنها لا تبني في كل جبل، وكذا قوله: ﴿وَمِنَ الشَّجَرِ﴾ لأنها لا تبني في كل شجر، وكذا في قوله: ﴿وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ لأنها لا تبني في كل ما يعرشه الناس؛ أي: يرفعه من الأماكن لتعسل فيها، وهذا إذا كان لملاكٍ، وقال بعضهم: ومما يعرشون من كرم أو سقفٍ أو جدران أو غير ذلك، والظاهر أن ﴿مِنَ﴾ بمعنى في، إذ لا معنى لكونها تبني من بناء الناس، بل الظاهر أنها تبني في بنائهم، ويكون المراد من بنائهم الكوار، ومن بنائها بيتها الذي تمج فيه العسل، فإن المشاهد أنها تبني لها بيتًا داخل الخلية من الشمع، ثم تمج فيه العسل شيئًا فشيئًا.
والمعنى: أي اجعلي لك بيوتًا في الجبال تأوين إليها، أو في الشجر، أو فيما يعرش الناس ويبنون من البيوت والسقف والكروم ونحوها، وقرأ السلمي وعبيد بن نضلة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: بضم الراء في ﴿يعرشون﴾، وباقي السبعة: بكسرها، وهما لغتان، يقال يعرش بالكسر، ويعرش بالضم، مثل يعكف ويعكف ذكره في "البحر".
٦٩ - ولما كان أهم شيء للحيوان بعد الراحة من هم المقيل الأكل ثنى به، ولما كان عامًّا في كل ثمر.. ذكره بحرف التراخي، إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسره لها، فقال: ﴿ثُمَّ كُلِي﴾، وأشار إلى كثرة الرزق بقوله: ﴿مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ فيها للتكثير؛ أي: ثم كلي أيتها النحل من كل ثمرة تشتهينها حلوة أو حامضة أو مرة، أو غير ذلك، فهو عام مخصوص بالعادة.
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أي فاسلكي الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها وتدخلي فيها لطلب الثمار، ولا تعسر عليك، وإن توعرت، ولا تضلي عن العودة منها وإن بعدت.
وبعد أن خاطب النحل أخبر الناس بفوائدها، لأن النعمة لأجلهم، فقال: ﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا﴾؛ أي: من بطون النحل بالقيء ﴿شَرَابٌ﴾؛ أي: عسلٌ لأنه مشروب، وذلك أن النحل تأكل الأجزاء اللطيفة الطلية الحلوة الواقعة على أوراق الأشجار والأزهار، وتمص من الثمرات الرطبة والأشياء العطرة، ثم تقيء في بيوتها ادخارًا للشتاء، فينعقد عسلًا بإذن الله تعالى.
أي: يخرج من بطونها عسلٌ ﴿مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾ من أبيض (٢) وأخضر وأصفر وأسود، بسبب اختلاف سنَّ النحل، فالأبيض يلقيه شباب النحل، والأصفر كهولها، والأحمر شيبها، وقد يكون الاختلاف بسب اختلاف لون النور، قال حكيم يونان لتلامذته: كونوا كالنحل في الخلايا وهي بيوتها، قالوا: وكيف النحل في خلاياها؟ قال: إنها لا تترك عندها بطالًا إلا نفته وأقصته عن الخلية، لأنه يضيق المكان ويفني العسل، وإنما يعمل النشيط لا الكسل، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: مثل المؤمن النحلة تأكل طيِّبا وتصنع طيّبًا، ووجه المشابهة
(٢) روح البيان.
وجمهور المفسرين (١) على أنَّ العسل يخرج من أفواه النحل، وقيل: من أسفلها، وقيل: لا يدرى من أين يخرج منها، ﴿فِيهِ﴾؛ أي: في ذلك الشراب الخارج من بطون النحل وهو العسل ﴿شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾؛ أي: شفاءٌ وعافيةٌ لهم من الأوجاع التي يعرف شفاؤها منه، يعني أنَّ العسل من جملة الأشفية المشهورة النافعة لأمراض الناس، وليس المراد أنه شفاء كل مرض، كما قال في "حياة الحيوان": قوله: ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ لا يقتضي العموم لكل علة، وفي كل إنسان، لأنه نكرةٌ في سياق الإثبات، بل المراد أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في حال دون حال.
وللعسل أسماء كثيرة (٢)، منها الحافظ الأمين؛ لأنه يحفظ ما يودع فيه، فيحفظ الميت أبدًا، واللحم ثلاثة أشهر، والفاكهة ستة أشهر، وكل ما أسرع إليه الفساد إذا وضع في العسل.. طالت مدة مقامه، وكان - ﷺ - يحب الحلواء والعسل.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إن في إخراج الله سبحانه وتعالى من بطون النحل الشراب المختلف الألوان، الذي فيه شفاء للناس ﴿لَآيَةً﴾؛ أي: لحجةً ظاهرة دالة على القدرة الربانية ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في ذلك فيعتبرون ويستدلون بما ذكرنا على وحدانيتنا وقدرتنا؛ أي: لدلالةً واضحة على أن من سخّر النحل وهداها لأكل الثمرات التي تأكلها، واتخاذها البيوت في الجبال والشجر والعروش، وأخرج من بطونها أخرج مما فيه شفاء للناس، هو الواحد القهار، الذي ليس
(٢) روح البيان.
فصل
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري: أنَّ رجلًا جاء إلى رسول الله - ﷺ -، فقال: إنَّ أخي استطلق بطنه، فقال له رسول الله - ﷺ -: "اسْقِه عسلًا" فسقاه عسلًا ثم جاء فقال: يا رسول الله سقيته عسلًا فما زاده إلا استطلاقًا، قال: "اذهب اسقه عسلًا" فذهب فسقاه عسلًا ثم جاء فقال: يا رسول الله ما زاده ذلك إلا استطلاقًا، فقال رسول الله - ﷺ -: "صدق الله، وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلًا" فذهب فسقاه عسلًا فبرىء كأنما نُشِط من عقال.
وعلل (١) هذا بعض الأطباء الماضين، قال: كان لدى هذا الرجل فَضُلاتٌ في المعدة، فلما سقاه عسلًا.. تحللت فأسرعت إلى الخروج فزاد إسهاله، فاعتقد الأعرابي أنّ هذا يضره، وهو فائدة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحلل والدفع، وكلما سقاه حدث مثل هذا، حتى اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن، فاستمسك بطنه، وصلح مزاجه، وزالت الآلام والأسقام بإرشاده عليه السلام.
وروى البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ -: "الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسلٍ، أو كيَّة بنار، وأنهى أمتي عن الكَيّ".
وروي عن (٢) عوف بن مالك أنه مرض فقال ائتوني بماء فإن الله تعالى قال: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾ ثم قال ائتوني بعسل، وقرأ الآية، ثم قال ائتوني بزيت من شجرة مباركة، فخلط الجميع ثم شربه فشفي، وكان بعضهم يكتحل بالعسل، ويتداوى به من كل سقم، وإذا خلط العسل الذي لم يصبه ماء ولا نار ولا دخان بشيء من المسك واكتحل به.. نفع من نزول الماء في العين،
(٢) روح البيان.
كيف يتكون العسل؟ تمتص (١) الشغالة رحيق الأزهار فينزل ويجتمع في كيسٍ في بطنها، وهناك يمتزج بعصارة خاصة فيتحول إلى عسل، ولله در أبي العلا إذ يقول:
وَالنَّحْلُ يَجْنِي الْمُرَّ مِنْ زَهْرِ الرُّبَا | فيَعُودُ شَهْدًا فِيْ طَرِيْقِ رُضَابِهِ |
شمع النحل: تفرز الشغالة صفحات رقيقة صلبة من الشمع، تخرجها من بين حلقات بطنها، ثم تمضغها بفيها حتى تلين ويسهل تشكيلها بحسب ما تريد، فتستعملها في بناء بيوتها السداسية الشكل.
فوائد النحل:
١ - نأخذ منها العسل الذي هو غذاءٌ لذيذ الطعم، يحوي مقدارًا كبيرًا من المواد المفيدة للجسم.
٢ - نأخذ منها الشمع الذي تصنع منه شموع الإضاءة.
٣ - تساعد على تلقيح الأزهار فتكون سببًا في زيادة الثمار وجودة نوعها.
وقال الزجاج: سميت نحلًا لأن الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج منها، إذ النحلة العطية، وكفاها شرفًا قول الله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ وكلُّ ذباب في النار إلا ذباب العسل.
قال القشيري (١) - رحمه الله -: إنَّ الله تعالى أجرى سنته بأن يخفي كل عزيز في شيء حقير، جعل الإبريسم في الدود، وهو أصغر الحيوانات وأضعفها، والعسل في النحل وهو أضعف الطيور، وجعل الدر في الصدف وهو أوحش حيوان من حيوانات البحر، وأودع الذهب والفضة والفيروزج في الحجر، وكذلك أودع المعرفة والمحبة في قلوب المؤمنين، وفيهم من يخطيء، وفيهم من يعصي، ومنهم من يعرف، ومنهم من يجهل أمره اهـ.
وإنما (٢) خص سبحانه وتعالى النحل بالوحي، وهو الإلهام والرشد من بين سائر الحيوانات، لأنها أشبه شيء بالإنسان، لا سيما بأهل الخلوة والاعتزال، فإن من دأبهم وهجيراهم أن يتخذوا من الجبال بيوتًا اعتزالًا عن الخلق وتبتلًا إلى الله تعالى، كما كان حال النبي - ﷺ -، كذلك حيث كان يتحنث إلى حراء أسبوعًا وأسبوعين وشهرًا، وإن من شأنهم النظافة في الموضع والملبوس والمأكول، كذلك النحل من نظافتها تضع ما في بطنها على الحجر الصافي، أو على خشب نظيف، لئلا يخالطه طين أو تراب، ولا تقعد على جيفة ولا على نجاسة، احترازًا عن التلوث، كما يحترز الإنسان عنه، وثمرات البدن الأعمال الصالحة، وثمرات النفوس الرياضات والمجاهدات ومخالفة الهوى، وثمرات
(٢) روح البيان.
٧٠ - ولمَّا ذكر سبحانه بعض أحوال الحيوان، وما فيها من عجائب الصنعة الباهرة، وخصائص القدرة القاهرة.. أتبعه بعجائب خلق الإنسان وما فيه من العبر فقال: ﴿وَاَللهُ﴾ المحيط بكل شيء علمًا وقدرة ﴿خَلَقَكُمْ﴾؛ أي: أوجدكم وأخرجكم من العدم إلى الوجود، ولم تكونوا شيئًا، ﴿ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ﴾؛ أي يقبض أرواحكم عند انقضاء آجالكم، على اختلاف الأعمار صبيانًا وشبانًا وكهولًا، فلا يقدر الصغير على أن يؤخر، ولا الكبير على أن يقدم، وقوله: ﴿وَمِنْكُمْ﴾ معطوف على مقدر، تقديره: فمنكم من يموت حال قوته، ومنكم ﴿مَنْ يُرَدُّ﴾ ويعاد قبل وفاته ﴿إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾؛ أي: إلى أخسه وأردئه وأحقره، وهو الهرم والخرف، الذي يعود فيه كهيئته الأولى في أوان طفوليته، ضعيف البنية ناقص القوة والعقل وقليل الفهم، وليس له حد معلوم في الحقيقة؛ لأنه رب ابن ستين انتهى إلى أرذل العمر، ورب ابن مئة لم يرد إليه، وقال قتادة: إذا بلغ تسعين سنة.. يتعطل عن العمل والتصرف والاكتساب والحج والغزو ونحوها، ولذا دعا محمَّد بن علي الواسطي لنفسه فقال:
يَا رَبِّ لاَ تُحْيِنيْ إلى زَمَنٍ | أَكُوْنُ فِيْهِ كَلًّا عَلَى أَحَدٍ |
خُذْ بِيَدِيْ قَبْل أن أقُوْلَ لِمَنْ | ألْقَاهُ عِنْدَ الْقِيَامِ خُذْ بِيَدِي |
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ
والمعنى (٢): أي والله سبحانه وتعالى أوجدكم أيها الناس، ولم تكونوا شيئًا أنتم ولا آلهتكم التي تعبدونها من دون الله تعالى، ثم وقت أعماركم بآجال مختلفة، فمنكم من تعجل وفاته، ومنكم من يهرم ويصير إلى أرذل العمر وأخسه، فتنقص قواه، وتفسد حواسه، ويكون في عقله وقوته كالطفل كما قال: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾.
أخرج البخاري وابن مردويه عن أنس بن مالك أن رسول الله - ﷺ - كان يقول في دعائه: "أعوذ بك من البخل والكسل، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات".
وثبت أنه - ﷺ - كان يتعوذ باللهِ أن يرد إلى أرذل العمر.
ثم علل سبحانه رد من يرده إلى أرذل العمر بقوله: ﴿لِكَيْ لَا يَعْلَمَ﴾ ذلك المردود ﴿بَعْدَ عِلْمٍ﴾ كان قد حصل له ﴿شَيْئًا﴾ من العلم، لا كثيرًا ولا قليلًا، أو شيئًا من المعلومات، إذا كان العلم هنا بمعنى المعلوم، وقيل: المراد بالعلم هنا العقل، وقيل: المراد لئلا يعلم زيادة على علمه الذي قد حصل له قبل ذلك، فاللام في لكيلا جارة للمصدر، دخلت على كي الناصبة، وهي متعلقة بيرد.
والمعنى (٣): أي ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في نقصان العقل وسوء الفهم، وفي النسيان؛ أي: وإنما (٤) رده إلى أرذل العمر ليعود جاهلًا كما كان حين طفولته وصباه، لا يعلم شيئًا مما كان يعلمه في شبابه؛ لأن، الكبر قد أضعف عقله وأنساه، فلا يعلم شيئًا مما كان يعلم، وقد انسلخ من عقله بعد أن كان كامل العقل.
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
(٤) المراغي.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ﴾، بمقادير أعماركم ﴿قَدِيرٌ﴾ على كل شيء، يميت الشاب النشيط، ويبقي الهرم الفاني.
والمعنى: أي إن الله (١) سبحانه عليم بكل شيء، فيعلم وجه الحكمة في الخلق والتوفي، والرد إلى أرذل العمر، ولا ينسى شيئا من ذلك، وهو قدير على كل شيء، فلا يعجزه شيء أراده.
ومجمل القول: أن ما يعرض في الهرم من ضعف القوة والقدرة وانتفاء العلم يتنزه عن مثله المولى سبحانه جلَّ شأنه، فهو كامل العلم، تامُّ القدرة، لا يتغير شيءٌ منهما بمرور الأزمنة، كما يتغير علم البشر وقدرتهم.
٧١ - ولمَّا ذكر سبحانه تفاوت الناس في الأعمار.. ذكر تفاوتهم في الأرزاق فقال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وحده ﴿فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ﴾؛ أي: فاوت بينكم في الرزق، كما فاوت بينكم في الذكاء والبلادة، والحسن والقبح، والصحة والسقم، وقوة البدن وضعفه، فجعلكم متفاوتين فيه، فوسع على بعض عباده، حتى جعل له من الرزق ما يكفي أُلوفًا مؤلفة من بني آدم، وضيقه على بعض عباده، حتى صار لا يجد القوت إلا بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها، والرزق (٢) ما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان من المطعومات والمشروبات، وفيه تنبيه على أن غنى المكثر ليس من كياسته ووفور عقله وكثرة سعيه، ولا فقر المقل من بلادته نقصان عقله وقلة سعيه، بل من الله تعالى ليس إلا:
كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ | وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقًا |
(٢) روح البيان.
كَمْ مِنْ قوِيٍّ قوِيٌّ فِيْ تَقَلُّبهِ | مُهَذَّبُ الرَّأي عَنْهُ الرِّزْقُ مُنْحَرِفُ |
وَمِنْ ضَعِيْفٍ ضَعِيفُ العَقْلِ مُخْتَلِطٌ | كَأَنَّهُ مِنْ خلِيج الْبَحْرِ يَغْتَرِفُ |
والحاصل: أنهم لا يجعلون ما رزقناهم من الأموال وغيرها شركةً بينهم وبين مماليكهم، بحيث لا يرضون بمساواة مماليكهم لأنفسهم، وهم أمثالهم في البشرية والمخلوقية، فما بالهم كيف جعلوا مماليكه تعالى ومخلوقاته شركاء له، مع كمال علوه، فأين التراب ورب الأرباب.
أي: فما الذين (٣) فضلوا بالرزق وهم الموالي بجاعلي رزقهم من الأموال وغيرها شركةً بينهم وبين مماليكهم، بحيث يساوونهم في التصرف فيها، ويشاركونهم في تدبيرها.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
ونحو الآية قوله: ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي التقريعي المضمن للإنكار (١)، وداخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أبعد علمهم بأن الرازق هو الله تعالى يشركون به، فيجحدون نعمته، حيث يتخذون له شركاء، فإن الإشراك يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم، ويجحدوا أنه من عند الله تعالى، أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج بعد ما أنعم الله عليهم بإيضاحها، فالله تعالى يدعو عباده بهذه الآية إلى التوحيد، ونفي الشرك، حتى يتخلصوا من الشرك والظلمات، ويتشرفوا بالتوحيد والأنوار العاليات.
وقرأ الجمهور: ﴿يَجحَدُونَ﴾ بالياء على الغيبة، وقرأ أبو (٢) بكر عن عاصم وأبو عبد الرحمن والأعرج بخلاف عنه: ﴿تجحدون﴾ بالتاء على الخطاب، وقراءة الغيبة أولى لأنها ظاهر السّياق.
والمعنى على قراءة الخطاب: أنكم أيها المالكون لستم برادي رزقكم على مماليككم، بل أنا الذي أرزقكم وإياهم، فلا تظنوا أنكم تعطونهم شيئًا، وإنما هو رزقي أجريه على أيديكم، أنتم وهم جميعًا سواء لا مزية لكم على مماليككم.
(٢) البحر المحيط.
قلت: إنهم وإن خلقوا من نار.. فليسوا بباقين على عنصرهم الناري، بل قد استحالوا عنه بالأكل والشرب والتوالد والتناسل، كما استحال بنو آدم عن عنصرهم الترابي بذلك، على أن الذي خلق من نار هو أبو الجن، كما خلق آدم أبو الإنس من تراب، وأما كل واحد من الجن غير أبيهم فليس مخلوقًا من النار، كما أن كل واحد من بني آدم ليس مخلوقًا من تراب، وذكروا أيضًا جواز المناكحة بين الإنسان وإنسان البحر، كما قال في "حياة الحيوان" إن في بحر الشام في بعض الأوقات من شكله شكل إنسان، وله لحيةٌ بيضاء، يسمونه شيخ البحر، فإذا رآه الناس.. استبشروا بالخصب.
قال الأطباء (٢): والتفاوت بين الذكر والأنثى، أنَّ الذكر أسخن مزاجًا، والأنثى أكثر رطوبة، فالمني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الرجل، ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم.. كان الولد ذكرًا تامًّا في الذكورة، وإن انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل، ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر من
(٢) المراح.
﴿وَجَعَلَ لَكُمْ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾؛ أي: من نسائكم وزوجاتكم؛ أي: جعل لكم منكم من زوجه لا من زوج غيره ﴿بَنِينَ﴾ وبنات، ولم يذكر (١) البنات لكراهتهم لهن، فلم يمتن عليهم إلا بما يحبونه، ﴿وَحَفَدَةً﴾ جمع حافد وحفيد، والحفيد ولد الابن ذكرًا كان أو أنثى، وولد البنت كذلك، وتخصيصه بولد الذكر، وتخصيص ولد الأنثى بالسبط، عرف طارىءٌ على أصل اللغة، والمعنى؛ أي: جعل لكم من زوجاتكم بنين وحفدة؛ أي: أولاد البنين ذكروًا كانوا أو إناثًا، وأولاد البنات كذلك، فيعم كل من المضاف والمضاف إليه لما هو معلوم أنَّ لفظ الولد يعم الذكر والأنثى، بخلاف لفظ الابن اهـ. شيخنا، وسيأتي البسط في معنى الحفيد في مباحث التصريف.
والمعنى: أي والله سبحانه جعل لكم أزواجًا من جنسكم تأنسون بهن، وتقوم بهن جميع مصالحكم، وعليهن تدبير معايشكم، وجعل لكم منهن بنين وحفدةً؛ أي: أولاد أولاد يكونون زهرة الحياة الدنيا وزينتها، وبهم التفاخر والتناصر والمساعدة لدى البأساء والضراء، ﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾؛ أي: من لذيذ المطاعم والمشارب، وجميل الملابس والمساكن ما تنتفعون به إلى أقصى الحدود وأبعد الغايات، كالعسل ونحوه، و ﴿مِن﴾ للتبعيض، لأن كل الطيبات في الجنة، وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيكفرون باللهِ الذي شأنه ذلك المذكور، فيؤمنون بالباطل حيث حرموا على أنفسهم طيبات
﴿وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ﴾؛ أي: وبإنعام الله عليهم بتحليل الطيبات وتحريم الخبائث ﴿يَكْفُرُونَ﴾؛ أي: يجحدون، أو المراد (٢) بالباطل الأصنام وما يفضي إلى الشرك، وبنعمة الله الإِسلام والقرآن وما فيه من التوحيد والأحكام، وذكر الجملة الأخيرة هنا بزيادة (٣) هم فيها، وفي العنكبوت بدونها؛ لأنَّ ما هنا اتصل بقوله: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ إلخ، وهو بالخطاب، ثم انتقل إلى الغيبة فقال: ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ فلو ترك هم لالتبست الغيبة بالخطاب، بأن تبدل الياء تاءً اهـ "كرخي".
وقرأ الجمهور (٤): ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ بالياء، وهو توقيف للرسول - ﷺ - على إيمانهم بالباطل، ويندرج في التوقيف المعطوف بعدها، وقرأ السلمي: بالتاء ورويت عن عاصم، وهو خطاب إنكار وتقريع لهم.
٧٣ - ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه تعالى ﴿مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا﴾؛ أي: أصنامًا لا تقدر رزقًا لهم وإعطاءً شيئًا من خزائن السموات والأرض، فلا تقدر على إنزال القطر من السموات لإحياء الميت من الأرضين، ولا تملك لهم رزقًا منها، فلا تقدر على إخراج شيء من نباتها ولا ثمارها، ولا على شيء مما ذكر في سالف
(٢) روح البيان.
(٣) الفتوحات.
(٤) البحر المحيط.
و ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿مَا لَا يَمْلِكُ﴾ عبارة (٢) عن الأصنام، فهي مفردة لفظًا جمع معنىً، فقوله: ﴿لَا يَمْلِكُ﴾ فيه مراعاة لفظها، وقوله: ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ فيه مراعاة معناها، وهو معطوف على ﴿لَا يَمْلِكُ﴾ فهو من الصلة، وجمع جمع العقلاء في قوله: ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ بناء على زعمهم الباطل، وقيل يجوز أن يكون الضمير في ﴿يَسْتَطِيعُونَ﴾ للكفار؛ أي: لا يستطيع هؤلاء الكفار مع كونهم أحياءً متصرفين فكيف بالجمادات التي لا حياة لها ولا تستطيع التصرف.
وقوله: ﴿رِزْقًا﴾ مفعول ﴿يَمْلِكُ﴾، وهو اسم مصدر بمعنى الإعطاء، و ﴿شَيْئًا﴾ مفعوله؛ أي: ما لا يملك ولا يقدر رزقًا وإعطاءً لهم شيئًا من أرزاق السموات والأرض،
٧٤ - وبعد أن بين ضعفها وعجزها رتب على ذلك ما هو النتيجة له فقال: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾؛ أي: فلا (٣) تجعلوا أيها المشركون لله سبحانه وتعالى الأمثال والأشباه، ولا تشبهوه بخلقه، فإنه لا مثيل له ولا شبيه، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في معنى الآية: أي لا تجعلوا معي إلهًا غيري فإنه لا إله غيري، ثم هددهم على عظيم جرمهم، وكبير ما اجترحوا من الكفر والمعاصي فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَعْلَمُ﴾ كنه ما تفعلون من الإجرام وعظيم الآثام، وهو معاقبكم عليه أشد العقاب ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ حقيقته ولا مقدار عقابه، ومن ثم صدر ذلك منكم، وتجاسرتم عليه، ونسبتم إلى الأصنام ما لا يصدر منها، ولا هي منه في قليل ولا كثير، وقال الزجاج (٤): لا تجعلوا لله
(٢) الفتوحات.
(٣) المراغي.
(٤) الشوكاني.
٧٥ - وبعد أن نهاهم سبحانه عن الإشراك أعقبه بمثل يكشف عن فساد ما ارتكبوه من الحماقات والجهالات فقال: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾ وضرب المثل (١) تشبيه حال بحال، وقصةٍ بقصةٍ؛ أي: ذكر سبحانه وأورد شيئًا يستدل به على تباين الحال بين جناب الخالق سبحانه، وبين ما جعلوه شريكًا له من الأصنام، وليس المراد حكاية ضرب الماضي، بل المراد إنشاؤه بما ذكر عقيبه؛ أي: ذكر لكم شيئًا تميزون به بين الخالق والمخلوق الذي أشركتموه به من الأصنام، ﴿عَبْدًا مَمْلُوكًا﴾ بدل من مثلًا، وتفسيرٌ له، والمثل في الحقيقة حالة العبد العارضة له من المملوكية والعجز التام، وبحسبها جعل نفسه مثلًا، ووصفه بالمملوكية ليخرج عنه الحُرُّ لاشتراكهما في كونهما عبدًا لله تعالى ﴿لَا يَقْدِرُ﴾ ذلك العبد ﴿عَلَى شَيْءٍ﴾ من التصرفات، وصفه بعدم القدرة ليميزه عن المكاتب والمأذون له، اللذين لهما التصرف في الجملة ﴿وَمَنْ رَزَقْنَاهُ﴾ ﴿مَنْ﴾ نكرةٌ موصوفةٌ أو موصولة معطوفة على ﴿عَبْدًا﴾، كأنه قيل وحرًّا رزقناه بطريق الملك ليطابق عبدًا ﴿مِنَّا﴾؛ أي: من جانبنا الكبير المتعال وجهتنا ﴿رِزْقًا حَسَنًا﴾؛ أي: حلالًا طيبًا، أو مستحسنًا عند الناس مرضيًّا، لكونه رزقًا كثيرًا مشتملًا على أشياء مستحسنة نفيسة، تروق الناظرين إليها، والفاء في قوله: ﴿فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ﴾ لترتيب (٢) الإنفاق على الرزق؛ أي: فذلك الحر ينفق منه؛ أي: من ذلك الرزق الحسن ﴿سِرًّا وَجَهْرًا﴾؛ أي: في حال السر وفي حال الجهر، والمراد بيان عموم الإنفاق للأوقات، وتقديم السر على الجهر مشعر بفضيلته عليه، وأن الثواب فيه أكثر، والاستفهام في قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ﴾ للإنكار، وجمع (٣) الضمير للإيذان بأن المراد مما ذكر من اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين، لا فردان متعينان منهما؛
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وحاصل المعنى (١): أنه كما لا يستوي عندكم عبدٌ مملوك لا يقدر من أمره على شيء، ورجل حر قد رزقه الله تعالى رزقًا حسنًا، فهو ينفق منه، كذلك لا يستوي الرب الخالق الرازق والجمادات من الأصنام التي تعبدونها، وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع، وقيل: المراد بالعبد المملوك في الآية هو الكافر المحروم من طاعة الله وعبوديته، والآخر هو المؤمن، والغرض أنهما لا يستويان في الرتبة والشرف، وقيل: العبد هو الصنم، والثاني عابد الصنم، والمراد: أنهما لا يستويان في القدرة والتصرف؛ لأن الأول جماد، والثاني إنسان.
والخلاصة: أي إنَّ مثلكم (٢) في إشراككم بالله الأوثان، مثل من سوى بين عبدٍ مملوك عاجز عن التصرف وحرٍ مالك مالًا ينفق منه كيف يشاء، ويتصرف فيه كما يريد، والفطرة السليمة تشهد بأنهما ليسا مستوين في التبجيل والاحترام، مع استوائهما في الخلق والصورة، فكذلك لا ينبغي لعاقل أن يسوي بين الإله القادر على الرزق والإفضال والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء ألبتة.
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ اعتراض (٣)؛ أي: كل الحمد لله سبحانه وتعالى وحده؛ لأنه معطي جميع النعم، لا يستحقه أحد غيره، فضلًا عن استحقاق العبادة، فكيف تستحق الأصنام منه شيئًا، ولا نعمة منها أصلًا لا بالأصالة ولا بالتوسط، وقيل: أراد الحمد لله على ما أنعم به على أوليائه من نعمة التوحيد، وقيل: أراد قُلْ الحمد لله، والخطاب لمحمد - ﷺ -، أو
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
ونفي العلم (١) عنهم إما لكونهم من الجهل بمنزلة لا يفهمون بسببها ما يجب عليها، أو يتركون الحق عنادًا مع علمهم به، فكانوا كمن لا علم له، وخص الأكثر بنفي العلم إما لكونه يريد الخلق جميعًا وأكثرهم المشركون، أو ذكر الأكثر وهو يريد الكل، أو المراد: أكثر المشركين لأن فيهم من يعلم ولا يعمل بموجب العلم.
والمعنى: أي الحمد الكامل لله خالصًا دون ما تدعون من دونه من الأصنام، فإيَّاه فاحمدوا دونها، ما الأمر كما تفعلون، ولا القول كما تقولون، فليس للأوثان عندكم من يد ولا معروف فتحمد عليه، إنما الحمد لله، ولكن أكثر هؤلاء الكفار الذين يعبدونها لا يعلمون أن الحمد لله وحده، فهم بجهلهم بما يأتون وما يذرون يجعلونها لله شركاء في العبادة والحمد.
٧٦ - ثم ضرب مثلًا أخر يدل على ما يدل عليه المثل الأول على وجه أظهر وأوضح، فقال: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾ آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على أوضح وجه وأظهره، و ﴿رَجُلَيْنِ﴾ بدل من مثلًا، ولكن على حذف مضاف؛ أي: مثل رجلين؛ أي: بين الله صفة رجلين ﴿أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ﴾ وهو من ولد أخرس، ولا بد أن يكون أصمَّ ﴿لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ من الكلام؛ أي: لا يقدر (٢) على شيء من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره، بحدس أو فراسة لقلة فهمه، وسوء إدركه، وعدم قدرته على النطق ﴿كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ﴾؛ أي: ثقيل على وليه وقرابته، وعيال على من يلي أمره ويعوله، ووبالٌ على إخوانه، وقد يسمى اليتيم كلًّا لثقله
(٢) روح البيان.
والمعنى: أي (٣) ضرب الله سبحانه مثلًا لنفسه والآلهة التي يعبدونها من دونه، مثل رجلين أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم، فلا يقدر على شيء
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
وقرأ عبد الله وعلقمة وابن وثاب ومجاهد وطلحة (١): ﴿يُوَجِّهْ﴾ بهاء واحدة ساكنة مبنيًّا للمفعول، ونائب فاعله ضمير يعود على الأبكم، وعن عبد الله أيضًا: ﴿يُوَجِّهْهُ﴾ بهائين بتاء الخطاب، والجمهور: بالياء والهائين، وعن علقمة وطلحة: ﴿يُوَجِّهْهُ﴾ بكسر الجيم وهاءٍ واحدة مضمومة، قال صاحب "اللوامح": فإن صح ذلك فإن الهاء التي هي لام الفعل محذوفة فرارًا من التضعيف، لأن اللفظ به صعب مع التضعيف.
٧٧ - ولما فرغ سبحانه وتعالى من ذكر المثلين.. مدح نفسه بقوله: ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى خاصة لا لأحد غيره استقلالًا ولا إشراكًا، وكان كفار قريش يستعجلون وقوع القيامة استهزاءً، فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ أي: ولله سبحانه لا لغيره ﴿غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: علم ما غاب عن العباد فيهما، قال في "الإرشاد": فيه إشعار بأن علمه سبحانه حضوري، فإن تحقق الغيوب في أنفسها علم بالنسبة إليه تعالى، ولذلك لم يقل: علم غيب السموات والأرض.
وقد أخبر (٢) سبحانه وتعالى في هذه الآية عن كمال علمه، وأنه عالم بجميع الغيوب، فلا تخفى عليه خافية، ولا يخفى عليه شيء منها، وقيل: الغيب
(٢) الخازن.
وحاصل معنى الآية: أي ولله سبحانه علم ما غاب عن أبصاركم في السموات والأرض، مما لا اطلاع لأحد عليه إلا أن يطلعه الله، والمراد به جميع الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين، التي لا سبيل إلى إدركها حسًّا ولا إلى فهمها عقلًا ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ﴾؛ أي: وما شأنها في سرعة المجيء إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، أو هو أقرب من هذا وأسرع، لأنه إنما يكون بقول كن، ونحو الآية قوله: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)﴾؛ أي: فيكون ما يريد كطرف العين.
(٢) أبو السعود.
(٣) الخازن.
٧٨ - ثم ذكر سبحانه مننه على عباده بإخراجه إيَّاهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، ثم رزقهم السمع والأبصار والأفئدة فقال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى وحده ﴿أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ حالة كونكم ﴿لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾؛ أي: حالة (١) كونكم غير عالمين شيئًا أصلًا من أمور الدنيا والآخرة، ولا مما كانت أرواحكم تعلم في عالم الأرواح، ولا مما كانت ذراتكم تعلم من فهم خطاب ربكم إذ قال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾، ولا مما علمت إذ قالت بالجواب بلى، ولا مما تعلم الحيوانات حين ولادتها من طلب غذائها، ومعرفة أمها، والرجوع إليه، والاهتداء إلى ضروعها، وطريق تحصيل اللبن منها، ومشيها خلفها، وغير ذلك مما تعلم الحيوانات، وتهتدي إليه، ولا يعلم الطفل منه شيئًا ولا يهتدي إليه، وهنا تم الكلام (٢)، لأن الإنسان خلق في أول الفطرة ومبدئها خاليًا عن العلم والمعرفة، لا يهتدي سبيلًا، ثم ابتدأ فقال: ﴿وَجَعَلَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَكُمُ﴾ أيها الناس ﴿السَّمْعَ﴾ يعني أن الله سبحانه وتعالى إنما أعطاكم هذه الحواس لتنتقلوا بها من الجهل إلى العلم، فجعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص الكتاب والسنة، وهي الدلائل السمعية لتستدلوا بها على ما يصلحكم في أمر دينكم، وقدم السمع على البصر لما أنه طريق تلقي الوحي، ولذا ابتلي بعض الأنبياء بالعمى دون الصمم، كشعيب عليه السلام، أو لأن إدراكه أقدم من إدراك البصر، ألا ترى أن الوليد يتأخر انفتاح عينيه عن السمع، وإفراده باعتبار كونه مصدرًا في الأصل، ﴿و﴾ جعل لكم
(٢) الخازن.
قال في "بحر العلوم": استعملت في هذه الآيات وفي سائر آيات وردت فيها في الكثرة؛ لأن الخطاب في جعل لكم، وأنشأ لكم عام، والمعنى: جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة، بأن تحسوا بمشاعركم جزئيات الأشياء، وتدركوها بأفئدتكم، فتتنبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرر الإحساس، فيحصل لكم علومٌ بديهية، تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل الكسبية.
واعلم: أن قوله: ﴿وَجَعَلَ﴾ عطف على ﴿أَخْرَجَكُمْ﴾، وليس فيه دلالة على تأخر الجعل المذكور عن الإخراج، لما أن مدلول الواو وهو الجمع مطلقًا لا الترتيب، على أن أثر ذلك الجعل لا يظهر قبل الإخراج كما في "الإرشاد"، ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾؛ أي: لكي تشكروا الله تعالى على نعمة هذه الآلات، وشكرها استعمالها فيما خلقت لأجله، من استماع كلام الله تعالى، وأحاديث رسوله - ﷺ -، وحكم أوليائه، وما ليس فيه ارتكاب منهي، ومن النظر إلى آيات الله سبحانه، والاستدلال بها على وجوده ووحدته وعلمه وقدرته، فمن استعملها في غير ما خلقت لأجله.. فقد كفر جلائل نعم الله تعالى، وخان في أماناته.
وقرأ حمزة (٢): ﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾ بكسر الهمزة والميم هنا، وفي النور والزمر والنجم، والكسائي: بكسر الهمزة فيهن، والأعمش: بحذف الهمزة وكسر الميم، وابن أبي ليلى: بحذفها وفتح الميم، قال أبو حاتم: حذف الهمزة رديء، ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب. انتهى، وإنما كانت أصوب لأن كسر الميم إنما هو لاتباعها حركة الهمزة، فإذا كانت الهمزة محذوفة.. زال الاتباع بخلاف قراءة
(٢) البحر المحيط.
ومعنى الآية: أي والله (١) جعلكم تعلمون ما لا تعلمون، بعد أن أخرجكم من بطون أمهاتكم، فرزقكم عقولًا تفقهون بها، وتميزون الخير من الشر، والهدى من الضلال، والخطأ من الصواب، وجعل لكم السمع الذي تسمعون به الأصوات، فيفقه بعضكم عن بعض ما تتحاورون به فيما بينكم، والأبصار التي تبصرون بها الأشخاص، فتتعارفون وتميزون بعضها من بعض، والأشياء التي تحتاجون إليها في هذه الحياة، فتعرفون السبل وتسلكونها للسعي على الأرزاق والسِّلع، لتختاروا الجيد، وتتركوا الردي، وهكذا جميع مرافق الحياة ووجوهها، ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾؛ أي: إرادة أن تشكروه باستعمال نعمه فيما خلقت لأجله، وتتمكنوا بها من عبادته تعالى، وتستعينوا بكل جارحة وعضو على طاعته.
٧٩ - ثم ذكر سبحانه دليلًا آخر على كمال قدرته فقال: ﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ﴾ والاستفهام فيه تقرير (٢) لمن ينظر إليهن، وتعجيب من شأنهن، والطير جمع طائر؛ أي: ألم ينظر هؤلاء المشركون من قومك بأبصارهم إلى الطير ليستدلوا بها على قدرة الله تعالى حالة كونها ﴿مُسَخَّرَاتٍ﴾؛ أي: مذللات للطيران بما خلق الله لهن من الأجنحة والأسباب المساعدة لهن، كرقة (٣) قوام الهواء، وإلهامها بسط الجناح وقبضه، كما يفعل السابح في الماء ﴿فِي جَوِّ السَّمَاءِ﴾؛ أي: مذلَّلات للطيران في الهواء، بين السماء والأرض، وإضافته إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر، والجو الفضاء الواسع بين السماء والأرض، وهو الهواء، قال كعب الأحبار: إن (٤) الطير ترتفع في الجو مسافة اثني عشر ميلًا، ولا ترفع فوق ذلك ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ﴾ في الجو عن السقوط ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾ عَزَّ وَجَلَّ بقدرته الباهرة، فإن ثقل أجسادها مع رقة الهواء يقتضي سقوطها، إذ لا علاقة من فوقها، ولا دعامة من تحتها تمسكها، ولو سلبها ما أعطاها من قوة الطيران.. لم تقدر على النهوض
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) الخازن.
وقرأ ابن عامر وحمزة وطلحة والأعمش وابن هرمز (١): ﴿ألم تروا﴾ بتاء الخطاب، وباقي السبعة: بالياء، قال ابن عطية: واختلف عن الحسن وعيسى الثقفي وعاصم وأبي عمرو.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ التسخير على تلك الصفة ﴿لَآيَاتٍ﴾ ظاهرات تدل على وحدانية الله سبحانه وقدرته الباهرة ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ بالله سبحانه، وبما جاءت به رسله من الشرائع، التي شرعها الله تعالى على ألسنتهم - عليهم الصلاة والسلام - أو لقوم يصدقون أنَّ إمساكهن من الله تعالى، فإنه تعالى أعطى الطير جناحًا يبسطه مرة ويكسره مرةً أخرى وأذنابًا خفيفة، وخلق الهواء خلقة رقيقة، يسهل الطيران بسبب خرقه، ولولا ذلك لما أمكن الطيران.
والمعنى: أن في (٢) ذلك التسخير في الجو والإمساك فيه لدلالات على أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه لا حظَّ للأوثان والأصنام في الألوهية لمن يؤمن باللهِ، ويقر بوجدان ما تعاينه أبصارهم، وتحسه حواسهم، وخصص هذه الآيات بالمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بها، وإن كانت هي آيات لجميع العقلاء.
الإعراب
﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥)﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿أَنْزَلَ﴾ خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾، ﴿مَاءً﴾: مفعول به لـ ﴿أَنْزَلَ﴾، ﴿فأحيا﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب، ﴿أحيا﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿أَنْزَلَ﴾، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ
(٢) المراغي.
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (٦٦)﴾.
﴿وَإِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور، خبرها مقدم على اسمها، ﴿فِي الْأَنْعَامِ﴾: متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، ﴿لَعِبْرَةً﴾: اسمها مؤخر و ﴿اللام﴾ فيه حرف ابتداء وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة، ﴿نُسْقِيكُمْ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، لأنها تفسيرٌ لـ ﴿لَعِبْرَةً﴾، كأنه قيل: كيف العبرة؟ فقيل: نسقيكم.. إلخ، ويجوز (١) أن تكون خبرًا لمبتدأ محذوف، والجملة جواب لذلك السؤال؛ أي: هي؛ أي: العبوة نسقيكم، ويكون كقوله: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور حال من ﴿لَبَنًا﴾ الآتي، ﴿فِي بُطُونِهِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿نُسْقِيكُمْ﴾، ﴿وَدَمٍ﴾: معطوف على ﴿فَرْثٍ﴾، ﴿لَبَنًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿نُسْقِيكُمْ﴾، ﴿خَالِصًا﴾: صفة أولى لـ ﴿لَبَنًا﴾، ﴿سَائِغًا﴾: صفة ثانية له، ﴿لِلشَّارِبِينَ﴾: متعلق بـ ﴿سَائِغًا﴾.
﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)﴾.
﴿وَمِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف دل عليه السياق، تقديره: ونسقيكم من ثمرات النخيل ونطعمكم منها، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة ﴿نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ﴾.
﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا﴾.
﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿إِلَى النَّحْلِ﴾: متعلق به، ﴿أَنِ﴾: حرف مصدر أو تفسير، ﴿اتَّخِذِي﴾: فعل وفاعل، في محل النصب بـ ﴿أَنِ﴾ المصدرية، مبني على حذف النون، ﴿مِنَ الْجِبَالِ﴾: متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني، ﴿بُيُوتًا﴾: مفعول لـ ﴿اتَّخِذِي﴾، وجملة ﴿اتَّخِذِي﴾ مع ﴿أَنِ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: وأوحى ربك إلى النحل باتخاذها من الجبال بيوتًا، أو جملة مفسرة للإيحاء لا محل لها من الإعراب، ﴿وَمِنَ الشَّجَرِ﴾: معطوف على قوله: ﴿مِنَ الْجِبَالِ﴾، وكذا قوله: ﴿وَمِمَّا﴾: معطوف عليه، ﴿يَعْرِشُونَ﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ومما يعرشونه. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف ﴿كُلِي﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿اتَّخِذِي {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾: متعلق به، ﴿فَاسْلُكِي﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿كُلِي﴾. ﴿سُبُلَ رَبِّكِ﴾ ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿اسلكي﴾، ﴿ذُلُلًا﴾: حال من السبل، أو من الضمير في ﴿اسْلُكِي﴾؛ أي: حالة كون النحل منقادة لأربابها.
﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
﴿يَخْرُجُ﴾: فعل مضارع، ﴿مِنْ بُطُونِهَا﴾: متعلق به، ﴿شَرَابٌ﴾ فاعل، ﴿مُخْتَلِفٌ﴾ صفة أولى لـ ﴿شَرَابٌ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، أو حال
﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠)﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿خَلَقَكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿خَلَقَكُمْ﴾، ﴿وَمِنْكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة محذوف، تقديرها: فمنكم من يبقى على قوة جسده وعقله حتى يموت ومنكم من يُرَد ﴿يُرَدُّ﴾ مضارع مغير الصيغة ﴿إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يُرَدُّ﴾، ﴿لِكَيْ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿كي﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَعْلَمَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿كي﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿بَعْدَ عِلْمٍ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يَعْلَمَ﴾، ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به لـ ﴿يَعْلَمَ﴾ أو للمصدر على سبيل التنازع، والجملة الفعلية مع ﴿كي﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لعدم علمه شيئًا، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُرَدُّ﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ﴾: ناصب واسمه وخبره، ﴿قَدِيرٌ﴾: خبر ثان لـ ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١)﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿فَضَّلَ بَعْضَكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، ﴿عَلَى بَعْضٍ﴾: متعلق بـ ﴿فَضَّلَ﴾، وكذا يتعلق به قوله: ﴿فِي الرِّزْقِ﴾،
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿جَعَلَ﴾ في محل الرفع خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿لَكُم﴾: متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾: حال من ﴿أَزْوَاجًا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿أَزْوَاجًا﴾: مفعول أول لـ ﴿جعل﴾. ﴿وَجَعَلَ﴾: فعل ماض، معطوف على ﴿وَجَعَلَ﴾ الأول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، ﴿لَكُم﴾: في محل المفعول الثاني له، ﴿مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾: حال من ﴿بَنِينَ﴾، ﴿بَنِينَ﴾: مفعول أول لـ ﴿جعل﴾ ﴿وَحَفَدَةً﴾: معطوف عليه، ﴿وَرَزَقَكُمْ﴾: فعل ومفعول، معطوف على ﴿جَعَلَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ ﴿مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾: متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني، ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿بالباطل﴾: جار ومجرور متعلق بما بعده، ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: فعل
﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣)﴾.
﴿وَيَعْبُدُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من فاعل ﴿يعبدون﴾؛ أي: حالة كونهم متجاوزين الله، ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿يَعْبُدُونَ﴾، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَمْلِكُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَمْلِكُ﴾، ﴿رِزْقًا﴾: مفعول ﴿يَمْلِكُ﴾، وجملة ﴿يَمْلِكُ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، ﴿مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿رِزْقًا﴾ لأنه اسم مصدر بمعنى إعطاءً، ﴿شَيْئًا﴾: مفعول ﴿رِزْقًا﴾ لأنه مصدر يعمل عمل الفعل، ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على جملة ﴿لَا يَمْلِكُ﴾ على كونها صلة الموصول.
﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧٤)﴾.
﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم إنعام الله عليكم بهذه النعم المذكورة، وعجز الأصنام عنها، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم لا تضربوا لله الأمثال، ﴿لَا تَضْرِبُوا﴾: فعل وفاعل وجازم، ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق به، ﴿الْأَمْثَالَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾ خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿وَأَنْتُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا تَعْلَمُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾.
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٧٥)﴾.
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)﴾.
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَضَرَبَ﴾ الأول، ﴿رَجُلَيْنِ﴾: بدل من ﴿مَثَلًا﴾، ﴿أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب صفة ﴿رَجُلَيْنِ﴾، ﴿لَا يَقْدِرُ﴾: فعل مضارع ﴿عَلَى شَيْءٍ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على ﴿أَبْكَمُ﴾ والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿أَبْكَمُ﴾، ﴿وَهُوَ كَلٌّ﴾: مبتدأ وخبر، ﴿عَلَى مَوْلَاهُ﴾: متعلق بـ ﴿كَلٌّ﴾ والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿يَقْدِرُ﴾ ﴿أَيْنَمَا﴾: اسم شرط جازم يجزم فعلين في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على الفتح، والظرف متعلق بفعل الشرط، ﴿يُوَجِّهْهُ﴾: فعل مضارع ومفعول به، مجزوم بـ ﴿أَيْنَمَا﴾ على كونه جواب شرطٍ لها؛ وفاعله ضمير يعود على الأبكم.
﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧)﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿غَيْبُ السَّمَاوَاتِ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿وَمَاَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ما﴾: نافية مهملة لانتقاض نفيها بإلا، ﴿أَمْرُ السَّاعَةِ﴾: مبتدأ ومضاف إليه ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، ﴿أَوْ﴾: حرف عطف بمعنى بل الإضرابية، ﴿هُوَ أَقْرَبُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بما بعده ﴿قَدِيرٌ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨)﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿أَخْرَجَكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، ﴿مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أخرج﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة عل جملة ﴿أخرج﴾. ﴿لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾
﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)﴾.
﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾ ﴿الهمزة﴾ فيه للاستفهام التقريري التعجبي، ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿يَرَوْا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾، ﴿إِلَى الطَّيْرِ﴾: متعلق به، عداه بإلى لتضمينه معنى النظر، والجملة جملة إنشائية مستأنفة، ﴿مُسَخَّرَاتٍ﴾: حال من ﴿الطَّيْرِ﴾، ﴿فِي جَوِّ السَّمَاءِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿مُسَخَّرَاتٍ﴾. ﴿مَا﴾: نافية ﴿يُمْسِكُهُنَّ﴾: فعل ومفعول ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿اللَّهُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال ثانية من ﴿الطَّيْرِ﴾، ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبرها مقدم، ﴿لَآيَاتٍ﴾: اسمها مؤخر، و ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، ﴿لِقَوْمٍ﴾: صفة ﴿آيات﴾، وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ صفة لـ ﴿لِقَوْمٍ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ والمراد بحياة الأرض إنباتها الزرع والشجر، وإخراجها الثمر ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ﴾ قال الفراء والزجاج: النعم والأنعام واحد، يذكر ويؤنث، ولهذا تقول العرب: هذه نعم وارد، ورجحه ابن العربي فقال: إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، وقد جاء بالوجهين هنا، وفي سورة النور.
ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان (١):
والثاني: وأن يكون اسمًا مفردًا مقتضيًا لمعنى الجمع، كنعم، فإذا ذكر فكما يذكر نعم في قوله:
في كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُوْنَهُ | يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وَيُنْتِجُوْنَهُ |
﴿لَعِبْرَةً﴾ والعبرة الاعتبار والعظة، وهو مصدر بمعنى العبور، أطلق على ما يعبر به إلى العلم مبالغة في كونه سببًا للعبور اهـ "زاده"، وفي "الشهاب": وأصل (١) معنى العبر والعبور التجاوز من محل إلى آخر، فإطلاق العبرة على ما يعتبر به لما ذكر، لكنه صار حقيقة في عرف اللغة اهـ.
﴿نُسْقِيكُمْ﴾ قال الزجاج: سقيته وأسقيته بمعنى واحد اهـ. كما مر ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ﴾ والفرث كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش اهـ. وإذا خرج من الكرش لا يسمى فرثًا اهـ. "خازن" بل يسمى روثًا، ﴿خَالِصًا﴾؛ أي: مصفى من كل ما يصحبه من مواد أخرى، ﴿سَائِغًا﴾؛ أي: سهل المرور في الحلق، يقال: ساغ الشراب في الحلق وأساغه صاحبه، قال تعالى: ﴿وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾.
﴿سَكَرًا﴾ والسَّكر بفتحتين فيه أقوال (٢):
أحدها: أنه من أسماء الخمر.
الثاني: أنه في الأصل مصدر، ثم سمي به الخمر، يقال سكر - من باب طرب وفرح - يسكر سكرًا بفتحتين، وسكرًا بضم فسكون.
الثالث: أنه اسمٌ للخلِّ بلغة الحبشة، قاله ابن عباس.
الرابع: أنه اسم للعصير ما دام حلوًا، كأنه سمي بذلك لمآله لذلك لو ترك، وفي "القاموس": السكر محركة: الخمر، ونبيذ يتخذ من التمر، وقال بعضهم: السكر الخمر، والرزق الحسن الخل، الرُّب الطلاء الخاشر، والتمر والزبيب ونحو ذلك.
(٢) الفتوحات.
﴿رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ رزق السماء المطر، ورزق الأرض النبات والثمار التي تخرج منها، ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾؛ أي: لا تجعلوا له الأنداد والنظراء، فهو كقوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾، وضرب (١) المثل للشيء ذكر الشبيه له، ليوضح حاله المبهمة، ويزيل ما عرض من الشك في أمره، ﴿أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ﴾ والبكم محركًا الخرس، وهو إمَّا ناشيءٌ من صمم خلقي، وإما لسبب عارض، ولا علة في أذنيه فهو يسمع لكن لسانه معتقل لا يطيق الكلام، فكل من ولد غير سميع فهو أبكم؛ لأن الكلام بعد السماع، ولا سماع له، وليس كل أبكم يكون أصم صممًا طبيعيًّا، فإن بعض البكم لا يكونون صمًّا، وفي "القاموس" (٢): البكم محركًا الخرس كالبكامة، أو مع عيٍّ وبله، أو أن يولد ولا ينطق ولا يسمع ولا يبصر، وبكم كفرح فهو أبكم وبكيمٌ، والجمع بكم، وبكم ككرم امتنع عن الكلام تعمدا اهـ. والكل الغليظ الثقيل، من قولهم: من كَلَّتِ
(٢) القاموس.
﴿أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ﴾؛ أي: يرسله في وجهٍ معين من الطريق، يقال وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛ أي: طريق عادل غير جائرٍ، ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ﴾ والساعة الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سميت بذلك لأنها تفجأ الإنسان في ساعة ما، فيموت الخلق بصيحة واحدة، ولمح البصر: رجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، وفي "الخازن": لمح البصر انطباق جفن العين وفتحه، والجفن طرف العين اهـ. وفي "البيضاوي": ﴿إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾؛ أي: إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها اهـ. وهذا يقتضي أنَّ اللمح معناه إغماض العين، والذي في كتب اللغة أنَّ معناه فتح العين والإبصار بها، ففي "المصباح": لمحت الشيء لمحًا من باب نفع نظرت إليه باختلاس البصر، وألمحته بالألف لغةٌ، ولمحته بالبصر صوبته إليه، ولمح البصر امتد إلى الشيء اهـ.
﴿وَالْأَفْئِدَةَ﴾ واحدها فؤاد، وهي القلوب التي هيأها الله تعالى للفهم وإصلاح البدن، والجو: الفضاء بين السماء والأرض.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ حيث (١) شبه تهييج القوى النامية في الأرض وإحداث نضارتها بالنباتات بالإحياء، وهو إعطاء الحياة، وهي صفةٌ تقتضي الحس والحركة، وشبه يبوستها بعد نضارتها بالموت بعد الحياة، فاشتق منه أحيا بمعنى أحدث نضارتها على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الطباق في هذه الآية بين: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ وبين ﴿مَوْتِهَا﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾ حيث (١) شبه ما تبنيه لتعسل فيه ببناء الإنسان بجامع الحفظ في كل، فاستعار لفظ بيت على طريقة الاستعارة التصريحية الأصلية.
ومنها: الجناس الناقص بين ﴿كُلِي﴾ و ﴿كُلّ﴾ في قوله: ﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾.
ومنها: الإضافة في قوله: ﴿سُبُلَ رَبِّكِ﴾ إشارةٌ إلى كمال عنايته وعظيم إحسانه في تربيتها وإرشادها.
ومنها: الالتفات (٢) من الخطاب إلى الغيبة في قوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا﴾ ولو جاء على الكلام الأول لقيل من بطونك.
ومنها: مجاز الأول في قوله: ﴿شَرَابٌ﴾؛ أي: عسل يؤول إلى كونه مشروبًا للناس.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿شِفَاءٌ﴾ إشعارًا بالتبعيض، لأنه إنما يكون شفاءً لبعض الأمراض كالأمراض البلغمية، ويجوز أن يكون للتعظيم كما في "البيضاوي".
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ في مواضع عديدة اعتناءً بمقتضى السياق.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾.
ومنها: الاستفهام التوبيخي التقريعي في قوله: ﴿أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾.
(٢) الجمل.
ومنها: الطباق بين ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ و ﴿يَكْفُرُونَ﴾ في قوله: ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وفي قوله: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا﴾، وقوله: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ﴾.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ﴾ فالآية تمثيل للصنم بالأبكم الذي لا ينتفع منه بشيء أصلًا مع القادر السميع البصير، فشتان ما بين الرب والصنم.
ومنها: الطباق بين ﴿سِرًّا وَجَهْرًا﴾.
ومنها: الإتيان بضمير الجمع في قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ﴾ نظرًا إلى تعدد أفراد كل فريق، لأن مقتضى السياق أن يقال: هل يستويان بضمير التثنية.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ قال الزجاج: ليس المراد أن الساعة تأتي في لمح البصر، أو في زمن أقرب منه، بل المراد بيان سرعة تأثير القدرة متى تعلقت الإرادة بشيء اهـ.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٨٠) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه
وقصارى هذا: أنه امتن على عباده فبدأ بما يخص المقيمين بقوله: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾، ثم بما يخص المسافرين منهم ممن لهم قدرة على ضرب الخيام بقوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا﴾، ثم بمن لا قدرة لهم على ذلك ولا يأويهم إلا الظلال بقوله: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا﴾، ثم بما لا بد منه لكل أحد بقوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ...﴾ إلخ، ثم بما لا غنى عنه في الحروب بقوله: ﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾.
وقال أبو حيان (٢): مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر ما مَنَّ به عليهم من خلقهم، وما خلق لهم من مدارك العلم.. ذكر هنا ما امتن به عليهم مما ينتفعون به في حياتهم من الأمور الخارجة عن دوابهم، من البيوت التي يسكنونها، من الحجر والمدر والأخشاب وغيرها.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر (٣) حال هؤلاء المشركين، وأنهم عرفوا نعمة الله، ثم أنكروها.. قفى على ذلك بوعيدهم، فذكر حالهم يوم القيامة، وأنهم يكونون أذلاء لا يؤذن لهم في الكلام لتبرئة أنفسهم، ولا يمهلون، بل يؤخذون إلى العذاب بلا تأخير، وإذا رأوا معبوداتهم من الأصنام والأوثان والملائكة والأدميين.. قالوا: هؤلاء معبوداتنا، فكذبتهم تلك المعبودات، واستسلموا لربهم، وانقادوا له، وبطل ما كانوا يفترونه، ثم ذكر ذلك اليوم،
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما بالغ في الوعد للمتقين والوعيد للكافرين، وعاد وكرر في الترهيب والترهيب إلى أقصى الغاية.. أردف ذلك ذكر هذه الأوامر التي جمعت فضائل الأخلاق والآداب، وضروب التكاليف التي رسمها الدين، وحث عليها، لما فيها من إصلاح حال النفوس، وصلاح حال الأمم والشعوب، ثم ضرب الأمثال لمن يحيد عنها وينفر من فعلها، ثم أبان أن أمر الهداية والإضلال بيده، وأنه قد قدَّر بحسب استعداد النفوس للصلاحِ والغواية، وأنه سيجازي يوم القيامة كل نفس بما كسبت: ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حذر من نقض العهود والأيمان على الإطلاق.. حذر في هذه الآية من نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها، وهي نقض عهد رسول الله - ﷺ - على الإيمان به واتباع شرائعه جريًا وراء خيرات الدنيا وزخارفها، وأبان لهم أنَّ كل ذلك زائلٌ، وما عند الله باقٍ لا ينفد، ثم هو بعد يجزيهم الجزاء الأوفى.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (١) ابن أبي حاتم عن مجاهد أن أعرابيًّا أتى النبي - ﷺ - فسأله، فقرأ عليه: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾ قال الأعرابي: نعم، ثم قرأ عليه: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ﴾ قال:
قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن جرير عن بريدة قال: نزلت هذه الآية في بيعة النبي - ﷺ -.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي حفص قال: كانت سعيدة الأسدية مجنونة تجمع الشعر والليف، فنزلت هذه الآية ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٨٠ - ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿جَعَلَ لَكُمْ﴾ أيها الناس ﴿مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدر، وهو تبيين لذلك المجعول المبهم في الجملة ﴿سَكَنًا﴾ فعل (١) بمعنى مفعول، كالقبض والنقض بمعنى المقبوض والمنقوض؛ أي: موضعًا تسكنون فيه وقت إقامتكم؛ أي: والله سبحانه وتعالى هو الإله الذي جعل لكم أيها الناس من بيوتكم التي هي من الحجر والمدر مسكنًا تقيمون فيه، وأنتم في الحضر، ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ﴾ سبحانه ﴿مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ﴾ جمع نعم بالفتح، وهو مخصوص بالأنواع الأربعة التي هي الإبل والبقر والضأن والمعز ﴿بُيُوتًا﴾ أخر مغايرة لبيوتكم المعهودة، وهي الخيام والقباب والأخبية والفساطيط من الأنطاع والأدم.
واعلم (٢): أنَّ المساكن على قسمين:
أحدهما: ما لا يمكن نقله من مكان إلى مكان آخر، وهي البيوت المتخذة من الحجارة والخشب ونحوهما.
والقسم الثاني: ما يمكن نقله من مكان إلى مكان آخر، وهي الخيام
(٢) الخازن.
﴿و﴾ تستخفونها ﴿وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ﴾؛ أي: وقت نزولكم في الضرب والبناء؛ أي: وجعل لكم قبابًا وفساطيط من جلود الأنعام وأشعارها وأصوافها وأوبارها، تستخفون حملها يوم ترحالكم من دوركم وبلادكم، وحين إقامتكم بها، وذلك (٢) أن بعض الناس كالسودان يتخذون خيامهم من الجلود، اهـ شيخنا. وفي "البيضاوي": ويجوز أن يتناول المتخذة من الصوف والوبر والشعر، فإنها من حيث إنها نابتةٌ على جلودها، يصدق عليها أنها من جلودها اهـ.
﴿و﴾ جعل لكم ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا﴾ جمع صوف ووبر وشعر، والكنايات راجعة إلى الأنعام، وإنما (٣) ذكر الأصواف والأوبار والأشعار، ولم يذكر القطن والكتان، لأنهما لم يكونا ببلاد العرب اهـ "كرخي"؛ أي: وجعل سبحانه لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز ﴿أَثَاثًا﴾؛ أي: ما يتمتع به في البيت خاصةً من الفرش والبسط والغطاء والوطاء، ﴿وَمَتَاعًا﴾؛ أي: جميع ما تتمتعون به في البيت وخارجه من الفرش والأكسية واللباس والحبال والدلاء والإناء، فعطفه على ما قبله من عطف العام على الخاص، وقيل (٤): إن الأثاث ما يكتسي به الإنسان، ويستعمله من الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به، وفي "السمين": وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد، وجمع بينهما لاختلاف لفظيهما اهـ. ومعنى ﴿إِلَى حِينٍ﴾؛ أي: إلى أن تقضوا أوطاركم منه، أو إلى أن يبلى ويفنى، أو إلى الموت أو إلى القيامة.
(٢) الفتوحات.
(٣) الفتوحات.
(٤) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: إتمامًا مثل إتمامنا عليكم هذه النعم التي تقدمت ﴿يُتِمُّ﴾ سبحانه وتعالى ﴿نِعْمَتَهُ﴾ الظاهرة والباطنة ﴿عَلَيْكُمْ﴾ يا معشر قريش ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ تتفكرون فيها وتنظرون إليها، و ﴿تُسْلِمُونَ﴾؛ أي: تستسلمون لأوامرنا، وتنقادون لرسولنا فيما يأمركم به وينهاكم عنه؛ أي: أتمها عليكم، وأعطاها لكم تامة، إرادة أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرة والباطنة، والأنفسية والآفاقية، فتعرفوا حق منعمها فتؤمنوا به وحده، وتذروا ما كنتم به تشركون، وتنقادوا لأمره.
والمعنى: أي كما (١) خلق هذه الأشياء لكم، وأنعم بها عليكم، يتم نعمة الدنيا والدين عليكم، ويجعلكم ملوكًا وأمراء فيما تفتحون من البلاد والأصقاع، ويجعل رائدكم فيما تعملون وجه الله، وإصلاح الأمم والشعوب كما قال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾.
﴿لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾؛ أي: توقعًا للنظر فيما أسبغ عليكم من النعم، فتعرفون حق المنعم بها، فتؤمنون به وحده، وتذرون ما أنتم به مشركون، فتسلمون من عذابه، فإن العاقل إذا أسدي إليه المعروف.. شكر من أنعم به عليه.
وقرأ ابن عباس (٢): ﴿تتم﴾ بتاء مفتوحة ﴿نعمته﴾ بالرفع، أسند التمام إليها اتّساعًا، وعنه ﴿نِعْمَتَهُ﴾ جمعًا، وقرأ ﴿لعلكم تسلمون﴾ بفتح التاء واللام، من السلامة والخلاص، فكأنه تعليل لوقاية السرابيل من أذى الحرب، أو تسلمون من الشرك وأما ﴿تسلمون﴾ في قراءة الجمهور فمعناه: تؤمنون، أو تنقادون إلى النظر في نعم الله تعالى المفضي إلى الإيمان والانقياد.
٨٢ - وبعد أن عدد ما أنعم به عليهم من النعم.. ذكر ما يتبع معهم إذا هم أصرُّوا على عنادهم واستكبارهم، ولم تنفعهم الذكرى فقال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾، فعل
(٢) البحر المحيط.
والمعنى: أي فإن (٢) استمروا على إعراضهم ولم يقبلوا ما أُلْقِي إليهم من البينات.. فلا يضيرك ذلك، ولا تبخع نفسك عليهم أسى وحسرة، فإنك قد أديت رسالتك كاملة غير منقوصة، وما هي إلا البلاغ الموضِّح لمقاصد الدين، وبيان أسراره وحكمه، وقد فعلته بما لا مزيد عليه، وجملة القول: إتهم إن أعرضوا وتولوا.. فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم، فإنما عليك البلاغ فحسب، وصرف الخطاب إلى رسول الله - ﷺ - تسلية له،
٨٣ - ثم بين أن سبب هذا التولي والإعراض لم يكن الجهل بهذه النعم، بل كان العتو والاستكبار والإنكار لها، فقال: ﴿يَعْرِفُونَ﴾؛ أي: يعرف بعض المشركين ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ المعدودة في هذه السورة، ويعترفون ويقرون بأن هذه النعم كلها من الله تعالى ﴿ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾ بأفعالهم، حيث يعبدون غير منعمها، أو بقولهم إنها بشفاعة آلهتنا، أو بسب كذا، والمعنى (٣): ثم استبعاد الإنكار بعد حصول المعرفة.
أي: إنهم يعرفون أنَّ هذه النعم كلها من الله تعالى، ثم هم ينكرونها بأفعالهم، إذ لم يخصوا المنعم بها بالعبادة والشكر، بل شكروا غيره معه، إذ قالوا: إن هذه النعم إنما حصلت بشفاعة هذه الأصنام، ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾؛ أي؛ المنكرون بقلوبهم، غير المعترفين بما ذكر من النعم، أو الكافرون بالله، وأقلهم الجاهلون، وعبر (٤) هنا بالأكثر عن الكل، أو أراد بالأكثر العقلاء دون
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) الشوكاني.
والمعنى: أي إن (١) أكثرهم جاحدٌ معاند يعلم صدق الرسول ولا يؤمن به، عتوًا واستكبارًا، وقليل منهم كان يجهل صدقه، ولم يظهر له كونه نبيًّا حقًّا من عند الله، لأنه لم ينظر في الأدلة النظر الصحيح، الذي يؤدي إلى الغاية، أو لم يعرف الحق لنقص في العقل، فهو لا يسلك سبيله، أو لم يصل إلى حد التكليف، فلا تقوم عليه حجة.
٨٤ - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمه على الكافرين وإنكارهم لها، وذكر أن أكثرهم كافرون.. أتبعه بذكر الوعيد لهم في الآخرة فقال: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ﴾؛ أي: نحيي ونخرج من القبور، ويرجع إلى معنى نجيء ونأتي كما سيأتي، وهو يوم القيامة؛ أي: واذكر يا محمَّد لهؤلاء المشركين قصة يوم نحشر ﴿مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾؛ أي: قصة يوم نأتي من كل أمة من الأمم بشهيد ورسول، يشهد لهم بالإيمان لمن آمن منهم، ويشهد عليهم بالكفر والمعاصي على من كفر، ﴿ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ منهم من الاعتذار، وفي كثرة الكلام، ليظهر لهم كونهم آيسين من رحمته تعالى، إذ لا عذر لهم، و ﴿ثم﴾ هنا (٢) للدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع من الاعتذار المنبىء عن الإقناط الكلي، وهو عندما يقال لهم: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء - عليهم السلام - فهي للتراخي الرتبي، والعذر في الأصل تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه، بأن يقول: لم أفعل، أو فعلت لأجل كذا، أو فعلت ولا أعود، ﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾؛ أي: ولا الكفار يسترضون فيه؛ أي: لا يطلب منهم إرضاء ربهم بالتوبة والطاعة؛ أي: لا يطلب منهم العتبى؛ أي: الرجوع إلى طاعة الله تعالى؛ أي: لا يقال لهم أرضوا
(٢) روح البيان.
وحاصل المعنى: أي وخوِّف أيها الرسول هؤلاء المشركين، يوم نبعث من كل أمةٍ شاهدًا عليها بما أجابت داعي الله، وهو رسولها الذي أرسل إليها، إما بالإيمان وطاعة الله، وإما بالكفر والعصيان.
﴿ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: ثم لا يسمع كلام الكافرين بعد شهادة أنبيائهم، ولا يلتفت إليه، إذ في تلك الشهادة ما يكفي للفصل في أمرهم والقضاء عليهم، والله عليم بما كانوا يفعلون، ولكن في تلك الشهادة تأنيبٌ لهم، وتوبيخ على ما اجترحوا من الفسوق والعصيان والكفر بربهم الذي أنعم عليهم، ونحو الآية قوله: ﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦)﴾.
﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾؛ أي: ولا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم؛ أي: غضبه بالتوبة وصالح العمل، فالآخرة دار جزاءٍ لا دار عملٍ، والرجوع إلى الدنيا ما لا يكون بحال.
٨٥ - ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بالكفر ﴿الْعَذَابَ﴾؛ أي: العذاب الذي يستوجبونه بظلمهم، وهو عذاب جهنم بعد شهادة الشهداء عليهم.. صاحوا وطلبوا من مالك الخازن تخفيف العذاب، ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ﴾ ذلك العذاب بعد الدخول ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾؛ أي: لا يمهلون قبله ليستريحوا، فعذابهم يكون دائمًا لأن التوبة هناك غير موجودة.
ونحو الآية قوله: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (٥٣)﴾ وقوله: ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (١٢) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (١٣) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (١٤)﴾. الثبور: الهلاك.
٨٦ - ثم أخبر سبحانه عن إلقاء المشركين تبعة أعمالهم على معبوداتهم فقال: ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾؛ أي: إذا أبصروا يوم القيامة ﴿شُرَكَاءَهُمْ﴾؛ أي: الأصنام التي يسمونها شركاء الله تعالى، وأوثانهم التي عبدوها.. ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال المشركون يا ﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ﴾ الأصنام ﴿شُرَكَاؤُنَا﴾؛ أي: آلهتنا التي جعلناها شركاء لك في الدنيا ﴿الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو﴾ هم ونعبدهم ﴿مِنْ دُونِكَ﴾؛ أي: متجاوزين عبادتك؛ أي: هؤلاء الذين كنا نقول: إنهم شركاء الله في المعبودية، وهذا (١) اعترافٌ بأنهم كانوا مخطئين في ذلك، والتماس بتوزيع العذاب بينهم.
أي: وإذا رأى هؤلاء المشركون بالله يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دونه من الأوثان والآلهة التي عبدوها.. قالوا: هؤلاء شركاؤنا في الكفر بك، والذين كنا ندعوهم آلهةً من دونك، وربما يكونون قد قالوا هذه المقالة طمعًا في توزيع العذاب بينهم، أو إحالة الذنب عليهم، تعللًا بذلك واسترواحًا، مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة، ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه.
أي: فبادر (١) شركاؤهم بالجواب إلى المشركين بقولهم: إنكم لكاذبون في قولكم إنا نستحق العبادة، وإنكم عبدتمونا حقيقةً، بل إنما عبدتم أهواءكم.
والمعنى: أنه تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام حتى تقول هذا القول، والمقصود (٢) من إعادتها وبعثها أن تكذب الكفار، ويراها الكفار، وهي في غاية الذلة والحقارة فيزدادون بذلك غمًّا وحسرةً.
ونحو الآية قوله: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (٦)﴾ وقوله: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢)﴾.
٨٧ - ﴿وَأَلْقَوْا﴾ أي: المشركون ﴿إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾؛ أي: الاستسلام والانقياد لحكمه بعد الاستكبار عنه في الدنيا؛ أي: أسرع (٣) المشركون إلى الله يومئذٍ؛ أي يوم إذ تخاصموا مع آلهتهم، وهو يوم القيامة؛ أي: أسرعوا إلى الله بالانقياد والاستسلام لحكمه، فأقروا بالبراءة عن الشركاء، وبربوبية الله، بعد أن كانوا في الدنيا متكبرين عنه، لما عجزوا عن الجواب، لكن الانقياد في هذا اليوم لا ينفعهم، لانقطاع التكليف.
وروى يعقوب عن أبي عمرو: ﴿السلم﴾ بسكون اللام، وقرأ مجاهد: بضم
(٢) الخازن.
(٣) المراح.
فالجواب: أن المثبت لهم هنا النطق بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم لها، والمنفي عنهم في الكهف النطق بالإجابة إلى الشفاعة لهم، ودفع العذاب عنهم، فلا تنافي اهـ "كرخي".
﴿وَضَلَّ﴾؛ أي: ضاع وبطل وذهب وزال ﴿عَنْهُمْ﴾؛ أي: عن المشركين ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾؛ أي: افتراؤهم من أنَّ لله شركاء أنهم ينصرونهم ويشفعون لهم، وذلك حين كذَّبوهم وتبرؤوا منهم، أو ذهب (٢) وغاب عنهم ما كانوا يعبدونه افتراءً على الله، فلا ناصر لهم ولا معين ولا شفيع، ولا ولي مما كانوا يزعمونه في الدنيا، كما قال تعالى حكايةً عنهم: ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾.
٨٨ - وبعد أن ذكر عذاب المضادِّين.. بيّن عذاب الضالين المضلين فقال: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في أنفسهم ﴿وَصَدُّوا﴾؛ أي: منعوا غيرهم ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: عن طريق الحق، وهي طريق الإِسلام والإيمان بأن منعوهم من سلوكها، وحملوهم على الكفر ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَابًا﴾ بحيَّاتٍ (٣) وعقارب وجوع وعطش وزمهرير وغير ذلك ﴿فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ بالنار، فيخرجون من النار إلى الزمهرير، فيبادرون من شدة البرد إلى النار.
أي (٤): زادهم الله عذابًا لأجل الإضلال لغيرهم، فوق العذاب الذي استحقوه لأجل ضلالهم، وقيل: زدنا القادة عذابًا فوق عذاب أتباعهم؛ أي: أشد منه، وقيل: إن هذه الزيادة هي إخراجهم من النار إلى الزمهرير، وقيل غير ذلك، ﴿بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ﴾؛ أي: بسبب إفسادهم بذلك الصد.
والمعنى: أي (٥) الذين جحدوا نبوتك، وكذبوك فيما جئتم به من عند
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
(٤) الشوكاني.
(٥) المراغي.
وخلاصة ذلك: أنهم يعذبون عذابين، عذابًا على الكفر، وعذابًا على الإضلال وصد الناس عن اتباع الحق، وفي الآية دليلٌ على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم فيها.
٨٩ - ثم خاطب سبحانه عبده ورسوله محمدًا - ﷺ - فقال: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ﴾؛ أي: واذكر يا محمَّد لقومك قصة يوم نبعث ونحشر ﴿فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾؛ أي: نبيًّا يشهد ﴿عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: من (١) جنسهم، إتمامًا للحجة وقطعًا للمعذرة، لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم، ولوط - عليه السلام - لمَّا تأهل فيهم وسكن فيما بينهم.. كان منهم، وفي قوله: ﴿عَلَيْهِمْ﴾ إشعارٌ بأن شهادة أنبيائهم على الأمم تكون بمحضرٍ منهم، وهذا تكرير لما سبق لزيادة التهديد اهـ "أبو السعود"، وعبارة "الخطيب": ثم كرر سبحانه وتعالى التحذير من ذلك اليوم على وجهٍ يزيد على ما أفهمته الآية السابقة، وهو أن الشهادة تقع على الأمم لا لهم، وتكون بحضرتهم، فقال: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ﴾ إلخ اهـ، وقيل معنى: ﴿شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: أعضاؤهم (٢) فالله تعالى ينطق عشرةً من أعضاء الإنسان حتى إنها تشهد عليه، وهي العينان والأذنان والرجلان واليدان والجلد واللسان.
وقوله: ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ معطوف على ﴿نبعث﴾: أي: واذكر يوم جئنا بك يا محمَّد، وهو يوم القيامة؛ أي: يوم نأتي بك حالة كونك ﴿شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ﴾؛ أي: على قومك وأمتك، بما أجابوك وبما عملوا فيما أرسلناك به إليهم، وعبر بالماضي إشارةً إلى تحقق وقوعه، وتم الكلام هنا، ثم استأنف بقوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ﴾ يا محمَّد ﴿الْكِتَابَ﴾ الكامل في الكتابية، الحقيق بأن يخص به اسم الجنس، وهو القرآن الكريم؛ أي: نزلناه عليك في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع، كما يفيده صيغة التفعيل، حالة كونه: ﴿تِبْيَانًا﴾؛ أي: بيانًا بليغًا،
(٢) المراح.
﴿و﴾ حالة كونه ﴿هدى﴾ للعباد؛ أي: هاديًا لهم من طريق الضلال إلى طريق الرشاد، ﴿و﴾ حالة كونه ﴿رحمة﴾ للعالمين إنسهم وجنهم، فإنَّ حرمان الكفرة من مغانم آثار الكتاب من تفريطهم، لا من جهة الكتاب، ﴿وبشرى﴾؛ أي: بشارةً بالجنة ﴿للمسلمين﴾ خاصة؛ لأنهم المنتفعون بذلك، فهو متعلق بالبشرى، وهو متعلق من حيث المعنى بهدىً ورحمةً أيضًا.
والمعنى (٤): أي ونزلنا عليك أيها الرسول هذا القرآن تبيانًا لكل ما بالناس إليه حاجةٌ، من معرفة الحلال والحرام، والثواب والعقاب، والهدى من الضلالة، ورحمة لمن صدق به وعمل بما فيه من حدود الله وأمره ونهيه، فأحل حلاله وحرم حرامه، وبشرى لمن أطاع الله وأناب إليه بجزيل الثواب في الآخرة وعظيم الكرامة.
(٢) روح البيان.
(٣) الفتوحات.
(٤) المراغي.
٩٠ - ثم لما ذكر سبحانه أن في القرآن تبيان كل شيء.. ذكر عقبه آيةً جامعة لأصول التكليف كلها تصديقًا لذلك فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَأْمُرُ﴾ كُمْ في هذا الكتاب الكريم الذي أنزله إليك أيها الرسول ﴿بِالْعَدْلِ﴾؛ أي: بالإنصاف، وهو قبول الحق والعمل به، ولا إنصاف أعظم وأجمل من الاعتراف بمن أنعم علينا بنعمه، والشكر له على إفضاله، وحمده وهو أهل للحمد، ومنع ذلك عمن ليس له بأهل، فالأوثان والأصنام لا تستحق شيئًا منه، فمن الجهل عبادتها وحمدها، وهي لا تنعم فتشكر، ولا تنفع فتعبد، ومن ثم وجب أن نشهد أن لا إله إلا الله وحده.
(٢) المراغي.
﴿و﴾ يأمركم بـ ﴿الإحسان﴾ إلى من أساء إليكم، وأعلى مراتب الإحسان الإحسان إلى المسيء، وقد أمر به النبي - ﷺ -، وروي عن الشعبي أنه قال: قال عيسى ابن مريم - عليه السلام -: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك. ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك، وقد صح من حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي - ﷺ - قال: "الإحسان أن تبعد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وفي "الشوكاني": وقد اختلف (١) أهل العلم في تفسير العدل والإحسان، فقيل العدل لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض، وقيل: العدل الفرض والإحسان النافلة، وقيل: العدل استواء العلانية والسريرة، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية، وقيل: العدل الإنصاف والإحسان التفضل، والأول تفسير العدل بالمعنى اللغوي وهو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، فمعنى أمره سبحانه بالعدل أن يكون عباده في الدين على حالة متوسطة، ليست بمائلة إلى جانب الإفراط، وهو الغلو المذموم في الدين، ولا إلى جانب التفريط، وهو الإخلال بشيء مما هو من الدين، وأما الإحسان فمعناه اللغوي يرشد إلى أنه التفضل بما لم يجب، كصدقة التطوع، ومن الإحسان فعل ما يثاب عليه العبد مما لم يوجبه الله تعالى في العبادات وغيرها وقد صح عن النبي - ﷺ - أنه فسَّر الإحسان بأن يعبد الله العبدُ حتى كأنه يراه، كما مر آنفًا من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وهذا هو معنى الإحسان شرعًا انتهى.
﴿وَيَنْهَى﴾ كم سبحانه وتعالى ﴿عَنِ الْفَحْشَاءِ﴾؛ أي: عن الذنوب المفرطة في القبح، قولًا أو فعلًا، كالكذب والبهتان، والاستهانة بالشريعة، والزنى واللواطة ونحوها، وقيل: الفحشاء هي الغلو في الميل إلى القوة الشهوانية، كالزنا وشرب الخمر والسرقة والطمع في مال الناس، ﴿و﴾ عن ﴿المنكر﴾؛ أي: وعما تنكره النفوس الزاكية والعقول الكاملة السليمة، ولا ترتضيه من المساويء الناشئة من الغضب، كالضرب والقتل والتطاول على الناس، وفي "التأويلات": المنكر كل ما ينكر به عليك، من إضلال أهل الحق وإغوائهم، وإحداث البدع وإثارة الفتن، كما في أهالي هذا الزمان خصوصًا أصحاب الملاهي، ﴿و﴾ عن ﴿البغي﴾ والظلم والاستيلاء على الناس، والتعدي على حقوقهم، والتطاول عليهم بلا سبب، وتجسس عيوبهم، وغيبتهم، والطعن عليهم، والتجاوز من الحق إلى الباطل ونحو ذلك.
﴿يَعِظُكُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى، يذكركم بما ذكره في هذه الآية من الأوامر الثلاثة والنواهي الثلاثة، فإنها كافيةٌ في باب الوعظ والتذكير، ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾؛ أي: لإرادة أن تتعظوا، فتأتمروا بالأوامر، وتنتهوا عن المناهي، فتعملوا بما فيه رضاه سبحانه وتعالى، وما فيه صلاحكم في دنياكم وآخرتكم.
وقد أمر (٢) الله سبحانه في هذه بثلاثة أشياء، ونهى عن ثلاثة أشياء، وجمع في هذه الأشياء الستة علم الأولين والآخرين، وجميع الخصال المحمودة والمذومة، ولذلك قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: هي أجمع آية في القرآن للخير والشر، ولذا يقرؤها كل خطيب على المنبر في آخر كل خطبة، لتكون عظةً جامعة لكل مأمور ومنهي، كما في "المدارك"، وقال السيوطي في "كتاب الوسائل إلى معرفة الأوائل": أول من قرأ في آخر الخطبة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ إلخ عمر بن عبد العزيز، ولزمها الخطباء إلى عصرنا هذا، وكان النبي - ﷺ - يقرأ: يقرأ في آخر الخطبة، وكان عمر بن الخطاب يقرأ: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)﴾ إلى قوله: ﴿مَا أَحْضَرَتْ﴾، وكان عثمان بن عفان يقرأ آخر سورة النساء ﴿يَسْتَفتونَكَ﴾ الآية، وكان علي بن أبي طالب يقرأ: الكافرون والإخلاص، ذكر ذلك ابن الصلاح، وأول من قرأ في الخطبة: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ الآية المهديُّ العباسيُّ، وعليه العمل في هذا الزمان؛ أي: في الخطب المطولة.
٩١ - وبعد أن ذكر المأمورات والمنهيات بطريق الإجمال في الآية الأولى.. ذكر
(٢) روح البيان.
﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾؛ أي: والحال أنكم قد جعلتم الله سبحانه وتعالى شاهدًا ورقيبًا عليكم، لأن (٢) الكفيل مراعٍ لحال المكفول به مهيمن عليه، فإن (٣) حلف باللهِ فقد جعل الله كفيلًا بالوفاء بسبب ذلك الحلف؛ أي: لا تنقضوا الأيمان وقد قلتم الله شاهدٌ علينا بالوفاء، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ من النقض والوفاء، فيجازيكم على ذلك، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وفي هذا ترغيب وترهيب، والمعنى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾؛ أي: وأوفوا (٤) بميثاق الله إذا واثقتموه، وعقده إذا عاقدتموه، فأوجبتم به على أنفسكم حقًّا لمن عاقدتموه وواثقتموه عليه، ويدخل في ذلك كل
(٢) النسفي.
(٣) المراح.
(٤) المراغي.
﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾؛ أي: ولا تخالفوا ما عاقدتم فيه الأيمان، وشددتم فيه على أنفسكم، فتحنثوا فيه وتكذبوا، وتنقضوه بعد إبرامه، وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه راعيًا يرعى الموفي منكم بالعهد، والناقض له بالجزاء عليه، ثم وعد وأوعد فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ في العهود التي تعاهدون الله الوفاء بها، والأيمان التي تؤكدونها على أنفسكم، أتبُّرون فيها، أم تنقضونها، وهو محصٍ ذلك كله عليكم، وسائلكم عنه، وعما عملتم فيه، فاحذروا أن تلقوه وقد خالفتم أمره ونهيه، فتستوجبوا منه ما لا قبل لكم به من أليم عقابه.
أخرج ابن جرير عن مزيدة بن جابر (١): أنَّ الآية نزلت في بيعة النبي - ﷺ -، كان من أسلم يبايع على الإِسلام، فقال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾، فلا تحملنكم قلة محمَّد وأصحابه، وكثرة المشركين، أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإِسلام، وإن كان في المسلمين قلة وفي المشركين كثرة.
٩٢ - ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض مع ضرب المثل فقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا﴾ أيها المؤمنون في نقض العهد ﴿كَالَّتِي﴾؛ أي: كالمرأة التي ﴿نَقَضَتْ﴾؛ أي: حلت وفكت، والنقض في البناء والحبل وغيره ضد الإبرام، كما في "القاموس" ﴿غَزلَهَا﴾؛ أي: مغزولها؛ أي: ما غزلته وفتلته من صوف وقطن وغيرهما، ﴿مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ متعلق بنقض؛ أي: حلته وفكته من بعد إبرام ذلك الغزل وإحكامه، فجعلته ﴿أَنْكَاثًا﴾ حال من غزلها، جمع نكث بمعنى منكوث، كحمل وأحمال؛ أي: منكوثًا، وهو كل ما ينكث فتله؛ أي: يحل غزلًا كان أو حبلًا، والمعنى جعلته طاقات نكثت فتلها؛ أي: ولا تكونوا أيها المؤمنون في نقضكم أيمانكم
قال السُّدِّي: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت غزلًا.. نقضته بعد إبرامه، وقال الكلبي ومقاتل: هي ريطة (١) - بفتح الراء والطاء المهملتين بينهما تحتية ساكنة - بنت عمرو بن سعد القرشية المكية، وكانت خرقاء حمقاء بها وسوسةٌ، وكانت قد اتخذت مغزلًا قدر ذراع، وسنارةً مثل الأصبع، وهي بكسر السين الحديدة في رأس المغزل، وفلكةً عظيمة على قدرها، وكانت تغزل الغزل من الصوف أو الشعر أو الوبر، وتأمر جواريها بالغزل، فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار، فإذا انتصف النهار.. أمرتهن بنقض جميع ما غزلت، فكان هذا دأبها، والمعنى: إن هذه المرأة لم تكف عن العمل، ولا حين عملت كفت عن النقض، فكذلك من نقض العهد، لا تركه ولا حين عاهد وفى.
والخلاصة (٢): أنه تعالى شبه حال الناقض للعهد بحال من تنقض غزلها بعد فتله وإبرامه، تحذيرًا للمخاطبين وتنبيهًا إلى أنَّ هذا ليس من فعل العقلاء، وصاحبه في زمرة الحمق من النساء، وجملة قوله: ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ حال من (٣) الضمير في: ﴿لا تكونوا﴾؛ أي: لا تكونوا مشابهين بامرأةٍ شأنها هذا، حال كونكم متخذين أيمانكم دخلا ومفسدةً وخديعة بينكم، بسبب ﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ﴾؛ أي: جماعة قريش ﴿هِيَ أَرْبَى﴾؛ أي: أزيد عَددًا وعُددًا وأوفر مالًا ﴿مِنْ أُمَّةٍ﴾ أي: من جماعة المؤمنين.
أي: ولا تكونوا (٤) كالتي نقضت غزلها، حالة كونكم تجعلون أيمانكم - التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتم - خديعةً وغرورًا، ليطمئنوا إليكم وأنتم مضمرون لهم الغدر، وترك الوفاء بالعهد، والنقلة إلى غيرهم من أجل أنهم أكثر منهم عَددًا وعُددًا وأعز نفرًا، بل عليكم بالوفاء بالعهود والمحافظة
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعز نفرًا، فينقضون حلف هؤلاء، ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز نفرًا، فنهوا عن ذلك، وقيل: هو تحذير للمؤمنين أن يغتروا بكثرة قريش وسعة أموالهم، فينقضوا بيعة النبي - ﷺ -، والظبي وإن كان واحدًا فهو خير من قطيع الخنزير.
ومحل ﴿هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ نصب على كونه خبر كان، وفي "المدارك": ﴿هِيَ أَرْبَى﴾ مبتدأ وخبر في موضع الرفع صفة لأمة، و ﴿أُمَّةٍ﴾: فاعل ﴿تكون﴾ وهي تامة، كما سيأتي في مبحث الإعراب إن شاء الله تعالى.
﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ﴾؛ أي: بأن تكون أمة هي أربى من أمة؛ أي: يعاملكم بذلك معاملة من يختبركم لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله، أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم، وقلة المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال، والضمير في ﴿بِهِ﴾ إما عائد على المصدر المنسبك من ﴿أَنْ تَكُونَ﴾ أو على الوفاء بالعهد.
ثم أنذر وحذر من خالف الحق وركن إلى الباطل فقال: ﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي ليبينن لكم ربكم يوم القيامة إذا وردتم عليه، لمجازاة كل فريق منكم على عمله في الدنيا، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته ﴿مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ في الدنيا من إقرار المؤمن بوحدانية ربه، ونبوة نبيه، والوحي إلى أنبيائه، وتكذيب الكافر بذلك كله، وهذا إنذار وتخويف من مخالفة ملة الإِسلام ودين الحق، فإنها مؤدية إلى العذاب الأبدي.
٩٣ - وبعد أن أبان أنه كلَّفهم بوفاء العهد، وتحريم نقضه.. أتبعه ببيان أنه قادر على جمعهم على هذا الوفاء، وعلى سائر أبواب الإيمان فقال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى مشيئة قسر وإلجاء، ﴿لَجَعَلَكُمْ﴾ أيها الناس ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ متفقة على الإِسلام ﴿وَلَكِنْ﴾ لم يشأ ذلك لكونه مزاحمًا للحكمة الإلهية، بل شاء اختلافكم لحكمة لا يعلمها إلا هو، ولذلك ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ إضلاله بخذلانه إياه عدلًا منه، ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ هدايته بتوفيقه إياه فضلًا منه، وذلك مما
والمعنى: أي (١) ولو شاء الله سبحانه وتعالى لجعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة، ولم يجعل لهم اختيارًا فيما يفعلون، فكانوا في حياتهم الاجتماعية أشبه بالنمل والنحل، وفي حياتهم الروحية أشبه بالملائكة، مفطورين على طاعة الله، واعتقاد الحق، وعدم الميل إلى الزِّيغ والجور، لكنه تعالى خلقهم كاسبين لا ملهمين، وعاملين بالاختيار لا مفطورين، وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم، فللإنسان اختيار أوتيه بحسب استعداده الأزلي، وهو مجبور فيه، والثواب والعقاب يترتبان على هذا الاختيار، الذي يشاهد، وتكون عاقبته الجنة أو النار.
﴿و﴾ عزتي وجلالي ﴿لتسألن﴾ جميعا أيها الناس يوم القيامة سؤال محاسبة ومجازاة، لا سؤال استفهام واستفسار ﴿عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا من الوفاء والنقض ونحوهما، فتجزون به، فيجازى المحسن بإحسانه، ويعقاب المسيء بإساءته، أو يغفر له،
٩٤ - ثم لما نهاهم (٢) سبحانه عن نقض مطلق الأيمان. نهاهم عن نقض أيمان مخصوصة، فقال: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ﴾؛ أي: ولا تجعلوا أيمانكم أيها المؤمنون ﴿دَخَلًا﴾؛ أي: مكرًا وخديعة وغدرًا ﴿بَيْنَكُمْ﴾ فتغروا بها الناس، فيسكنوا إلى أيمانكم ويأمنوا إليكم، ثم تنقضونها، وإنما كرر (٣) هذا المعنى تأكيدًا عليهم، وإظهارًا لعظم أمر نقض العهد.
قال المفسرون: وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله - ﷺ - على الإِسلام، نهاهم عن نقض عهده، لأن الوعيد الذي بعده، وهو قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ لا يليق بنقض عهد غيره، إنما يليق بنقض عهد رسول الله - ﷺ - على الإيمان به وبشريعته ﴿فَتَزِلَّ﴾ نصب في جواب النهي؛ أي: فتسقط ﴿قَدَمٌ﴾؛ أي: أقدامكم أيها المؤمنون عن محجة الحق ﴿بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ عليها، ورسوخها فيها بالإيمان، وإفراد (٤) القدم وتنكيرها للإيذان بأن زلل قدم واحدة أي قدم كانت
(٢) الشوكاني.
(٣) الخازن.
(٤) روح البيان.
﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾؛ أي: العذاب السيء في الدنيا ﴿بِمَا صَدَدْتُمْ﴾؛ أي: بصدودكم وخروجكم أو بصدكم ومنعكم غيركم ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ الذي ينتظم بالوفاء بالعهود والإيمان، فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنةً لغيره، ﴿وَلَكُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾؛ أي: شديد بنقضكم العهد.
ومعنى الآية: أي (١) ولا تجعلوا أيمانكم خديعة تغرون بها الناس، والمراد نهي المخاطبين بذلك الخطاب عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها، ذلك أنهم بايعوا رسول الله - على الله عليه وسلم - على الإِسلام.
وحلفوا على ذلك أوكد الإيمان، ثم نقضوا ما فعلوا لقلة أهله وكثرة أهل الشرك، فنهوا عن ذلك.
قوله: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ الآية؛ أي: إنكم بعملكم هذا النقض تكونون قد وقعتم في محظورات ثلاثة:
١ - أنكم تضلون وتبعدون عن محجة الحق والهدى بعد أن رسخت أقدامكم فيها.
٢ - أنكم تكونوا قدوة لسواكم، وتستنون سنةً لغيركم فيها صد عن سبيل الحق، ويكون لكم بها سوء العذاب في الدنيا بالقتل والأسر وسلب الأموال والجلاء عن الديار.
٣ - أنكم ستعاقبون في الآخرة أشد العقاب جزاء ما اجترحتم من مجانفة الحق والإعراض عن أهله، والدخول في زمرة أهل الشقاء والضلال.
٩٥ - ثم أكد هذا التحذير بقوله: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ﴾؛ أي: لا تأخذوا بمقابلة عهده تعالى وبيعة رسوله - على الله عليه وسلم - ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، من الدنيا؛ أي: لا تستبدلوا بها عوضًا يسيرًا؛ أي: لا تأخذوا في مقابلة نقضه عوضًا حقيرًا، وهو ما كانت قريش يعدون
والمعنى: أي ولا تأخذوا في مقابلة نقض العهد عوضًا يسيرًا من الدنيا، وقد كان هذا حال قوم ممن أسلموا بمكة، زين لهم الشيطان أن ينقضوا ما بايعوا رسول الله - ﷺ -، جزعًا مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم للمؤمنين وإيذائهم لهم، ولما كانوا يعدونهم به من البذل والعطاء إن هم رجعوا إلى دينهم، فنبههم الله تعالى بهذه الآية، ونهاهم عن أن يتبدلوا الخير العميم والنعيم المقيم في الآخرة بما وعدوهم به من عرض الدنيا وزينتها.
ثم بين سبحانه قلة ما أخذوا وعظيم ما تركوا بقوله: ﴿إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾؛ أي: إن ما خبأه الله لكم وادخره من جزيل الأجر والثواب هو خير لكم من ذلك العرض القليل في الدنيا، إن كنتم من ذوي العقول الراجحة والأفكار الثاقبة، التي تزن الأمور بميزان الفائدة، وتقدر الفرق بين العوضين.
٩٦ - ثم بين وجه خيريته ورجاحة شأنه بقوله: ﴿مَا عِنْدَكُمْ﴾ أيها الناس من أعراض الدنيا وإن كثرت ﴿يَنْفَدُ﴾؛ أي: يفنى وينقضي ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى من خزائن رحمته الدنيوية والآخروية ﴿بَاقٍ﴾ لا نفاد له ولا انتهاء ولا انقضاء، وهو حجة على الجهمية القائلين بأن نعيم الجنة يتناهى: ينقطع، ويصح الوقف عليه بثبوت الياء وبحذفها مع سكون القاف، وهما سبعيتان؛ أي: إن ما تتمتعون به من نعيم الدنيا بل الدنيا وما فيها تنفد وتنقضي، وإن طال الأمد وجل العدد، وما في خزائن الله باق لا نفاد له، فلما عنده تعالى فاعملوا، وعلى الباقي الذي لا يفنى فاحرصوا.
ثم رغب سبحانه المؤمنين في الصبر على ما التزموه من شرائع الإِسلام فقال: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لنعطينَّ ولنثيبن ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على إذاية المشركين، وعلى مشاق التزام تكاليف الإِسلام التي من جملتها الوفاء
وفي الآية (٣): عدةٌ جميلةٌ باغتفار ما عسى أن يكون قد فرط منهم أثناء ذلك من جزع يعتريهم بحسب الطبيعة البشرية.
٩٧ - ثم رغبهم في المثابرة على أداء الطاعات وعمل الواجبات الدينية فقال: ﴿مَنْ عَمِلَ﴾ عملًا ﴿صَالِحًا﴾ أيَّ عمل كان قوليًّا أو فعليًّا، وهو ما كان لوجه الله تعالى ورضاه، ليس فيه هوى ولا رياء، والفرق بينهما أن الهوى بالنسبة إلى النفس والرياء بالنسبة إلى الخلق، حال كون ذلك العامل ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾؛ أي: من رجل أو امرأة، بينه (٤) بالنوعين ليعمُّهما الوعد الآتي، ولا يتوهم التخصيص بالذكور بناء على كثرة استعمال لفظ ﴿مِنْ﴾ فيهم، وأن الإناث لا
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
والمعنى: أي (٤) من عمل صالح الأعمال، وأدى فرائض الله التي أوجبها عليه، وهو مصدق بثوابه الذي وعد به أهل طاعته، وبعقاب أهل المعصية على عصيانهم.. فلنحيينه حياة طيبة تصحبها القناعة بما قسم الله له، والرضا بما قدره وقضاه، إذ هو يعلم أن رزقه إنما حصل بتدبيره، والله محسن كريم لا يفعل إلَّا ما فيه المصلحة، ويعلم أن خيرات الدنيا سريعة الزوال فلا يقيم لها في نفسه وزنًا، فلا يعظم فرحه بوجدانها، ولا غمه بفقدانها، ثم هو بعد ذلك يجزى في الآخرة أحسن الجزاء، ويثاب أجمل الثواب، جزاء ما قدم من عمل صالح، وتحلى به من إيمان صادق، أما من أعرض عن ذكر الله تعالى، فلم يؤمن ولم يعمل صالحًا.. فهو في عناء ونكد، إذ يكون شديد الحرص والطمع في الحصول على
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - ﷺ - يدعو فيقول: "اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف عليَّ كل غائبة لي بخير".
وأخرج الترمذي والنسائي من حديث فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله - ﷺ - يقول: "قد أفلح من هدي إلى الإِسلام وكان عيشه كفافًا وقنع به".
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - ﷺ - قال: "قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا وقنعه الله بما آتاه"، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الإعراب
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٨٠)﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿جَعَلَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به أيضًا، وهو في محل المفعول الثاني، أو حال من ﴿سَكَنًا﴾؛ لأنه صفة نكرةٍ قدمت عليه ﴿سَكَنًا﴾: مفعول أول وفي "الفتوحات": قوله ﴿سَكَنًا﴾ يجوز (١) أن يكون مفعولًا أول على أن الجعل بمعنى التصيير، والمفعول الثاني أحد الجارين قبله، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلق فيتعدى لواحد انتهى، ﴿وَجَعَلَ﴾: فعل ماض
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿جَعَلَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿جعل﴾، ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني، ﴿خَلَقَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما خلقه، ﴿ظِلَالًا﴾: مفعول ﴿جَعَلَ﴾. ﴿وَجَعَلَ﴾: معطوف على ﴿جَعَلَ﴾ قبله، ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، ﴿مِنَ الْجِبَالِ﴾: متعلق به أيضًا، وهو في محل المفعول الثاني لجعل، ﴿أَكْنَانًا﴾: مفعول أول لـ ﴿جعل﴾، ﴿وَجَعَلَ﴾: معطوف على ﴿وَجَعَلَ﴾ أيضًا، ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، ﴿سَرَابِيلَ﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على ﴿سَرَابِيلَ﴾، والجملة صفة لـ ﴿سَرَابِيلَ﴾، ﴿سَرَابِيلَ﴾ معطوف على ﴿سَرَابِيلَ﴾ الأولى، ﴿تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على ﴿سَرَابِيلَ﴾، والجملة صفة لـ ﴿سَرَابِيلَ﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾ صفة لمصدر محذوف، ﴿يُتِمُّ نِعْمَتَهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾ ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة، والتقدير: يتم نعمته عليكم إتمامًا مثل إتمامه عليكم النعمة المذكورة، ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿تُسْلِمُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿لَعَلَّ﴾ مستأنفةٌ مسوقةً لتعليل ما قبلها.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (٨٣)﴾.
﴿فإن﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا بلَّغتهم ما أرسلت به إليهم، وأردت بيان حكم ما إذا أعرضوا عنه.. فأقول لك ﴿إِنْ تَوَلَّوْا﴾ ﴿إن﴾ حرف شرط، ﴿تَوَلَّوْا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فلا تَبْخَع نَفَسَك حسراتٍ عليهم، والجملة الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، ﴿فَإِنَّمَا﴾ ﴿الفاء﴾: تعليلية، ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، ﴿عَلَيْكَ﴾: خبر مقدم، ﴿الْبَلَاغُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿الْمُبِينُ﴾: صفة لـ ﴿البلاغ﴾، والجملة الاسمية في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية، والتقدير: فإن تولوا فلا قصور عليك في حقهم لعدم كون غير البلاغ عليك؛ أي: ليست هدايتهم عليك. ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، ﴿ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿يَعْرِفُونَ﴾، ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤)﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف، تقديره: واذْكُر يوم نبعث،
﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥)﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿رَأَى الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿الْعَذَابَ﴾ مفعول به ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾ وابطة لجواب ﴿إذَا﴾ جوازًا ﴿لا﴾ نافية، ﴿يُخَفَّفُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿الْعَذَابَ﴾، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة، ﴿وَلَا هُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿لا ينُظَرُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿لا يخفف﴾.
﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (٨٦)﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ظرف لما يستقبل، ﴿رَأَى الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، فعل شرط لـ ﴿إذا﴾ ﴿أَشْرَكُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿شُرَكَاءَهُمْ﴾: مفعول به لـ ﴿رأى﴾ لأنها بصرية، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، جواب ﴿إذا﴾ وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على جملة ﴿إذا﴾ الأولى. ﴿رَبَّنَا﴾: إلى قوله: ﴿فَأَلْقَوْا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾،
﴿وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧)﴾.
﴿وَأَلْقَوْا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿فَأَلْقَوْا﴾، ﴿إلَى اَللهِ﴾: متعلق به، وكذا يتعلق به الظرف في قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾، ﴿السَّلَمَ﴾: مفعول به، ﴿وَضَلَّ﴾: فعل ماض، ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به، ﴿مَا﴾: مصدرية، ﴿كَانُوا﴾: فعل واسمه، وجملة ﴿يَفْتَرُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة ﴿مَا﴾ المصدرية، ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، والتقدير: وضل عنهم افتراؤهم.
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلته، ﴿وَصَدُّوا﴾: فعل وفاعل، معطوف ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿وَصَدُّوا﴾، ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَابًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان، ﴿فَوْقَ الْعَذَابِ﴾: ظرف متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿عَذَابًا﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿بِمَا﴾ ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب، ﴿ما﴾: مصدرية، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يُفْسِدُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب إفسادهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿زِدْنَا﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يوم، ﴿نَبْعَثُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يوم﴾، ﴿فِي كُلِّ أُمَّةٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿نَبْعَثُ﴾، ﴿شَهِيدًا﴾: مفعول به، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به، ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾: صفة ﴿شَهِيدًا﴾، ﴿وَجِئْنَا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿نَبْعَثُ﴾، ﴿بِكَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿وَجِئْنَا﴾، ﴿شَهِيدًا﴾: حال من ضمير ﴿بِكَ﴾، ﴿عَلَى هَؤُلَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿شَهِيدًا﴾. ﴿وَنَزَّلْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق به، ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول به، والجملة مستأنفة، ﴿تِبْيَانًا﴾: حال من ﴿الْكِتَابَ﴾ أو مفعول لأجله، ﴿لِكُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿تِبْيَانًا﴾، ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى﴾: معطوفات على ﴿تِبْيَانًا﴾ ﴿لِلْمُسْلِمِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بشرى﴾، وهو متعلق من حيث المعنى بهدى ورحمة أيضًا اهـ "سمين".
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَأْمُرُ﴾ خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، ﴿بِالْعَدْلِ﴾: متعلق بـ ﴿يَأْمُرُ﴾. ﴿وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾: معطوفان عليه، ﴿وَيَنْهَى﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿يَأْمُرُ﴾، ﴿عَنِ الْفَحْشَاءِ﴾: متعلق به، ﴿وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾: معطوفان على ﴿الْفَحْشَاءِ﴾، ﴿يَعِظُكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل ﴿يَأْمُرُ﴾ ﴿وَيَنْهَى﴾، ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿لعلَّ﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١)﴾.
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢)﴾.
﴿وَلَا تَكُونُوا﴾: فعل ناقص واسمه، مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، ﴿كَالَّتِي﴾: جار ومجرور خبرها، وجملة ﴿تَكُونُوا﴾ معطوفة على جملة ﴿تَنْقُضُوا﴾، ﴿نَقَضَتْ غَزْلَهَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، ﴿مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿نَقَضَتْ﴾ ﴿أَنْكَاثًا﴾: حال من ﴿غَزْلَهَا﴾، أو مفعول ثان لـ ﴿نَقَضَتْ﴾ إذا كان بمعنى صَيَّرَتْ، أو منصوب على المفعولية المطلقة لأنه موافق لعامله في المعنى، ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان، ﴿بَيْنَكُمْ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿دَخَلًا﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من واو ﴿تَكُونُوا﴾؛ أي: حالة كونكم متخذين أيمانكم دخلًا بينكم، ﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ﴾: ناصب وفعل ناقص واسمه، ﴿هِيَ﴾: مبتدأ، ﴿أَرْبَى﴾: خبره، ﴿مِنْ أُمَّةٍ﴾: متعلق بـ ﴿أَرْبَى﴾، والجملة الاسمية في محل النصب خبر ﴿تَكُونَ﴾، وجملة ﴿تَكُونَ﴾ مع ﴿إِنَّ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور باللام المقدرة؛ أي: لأجل كون أمة أربى
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط. ﴿شَاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ ﴿لَجَعَلَكُمْ﴾ ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لَؤ﴾ الشرطية، ﴿جعلكم أمة﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، ﴿وَاحِدَةً﴾: صفة لـ ﴿أُمَّةً﴾، والجملة الفعلية جواب لـ ﴿لَوْ﴾ الشرطية، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿لكن﴾: حرف استدارك، ﴿يُضِلُّ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة ﴿ألَوْ﴾ الشرطية، ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يشاء إضلاله، وجملة ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ معطوفة على جملة ﴿يُضِلُّ﴾، ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿تسألن﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، مرفوع بثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، و ﴿الواو﴾ المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع نائب فاعل، وهو المفعول الأول لِسَأَل، لأنَّ أصله لَتُسْألُوْنَنَّ، ﴿عَمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تسألن﴾ وهو في محل المفعول الثاني لـ ﴿سأل﴾، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص
﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٩٤)﴾.
﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان، ﴿بَيْنَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿دَخَلًا﴾، والجملة مستأنفة، ﴿فَتَزِلَّ﴾ ﴿الفاء﴾) عاطفة سببية ﴿تَزِلَّ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، ﴿قَدَمٌ﴾: فاعل، ﴿بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَزِلَّ﴾ ﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿تزل﴾، وجملة ﴿تزل﴾ صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر مُتصيِّد من الجملة التي قبلها، من غير سابك لإصلاح المعنى، والتقدير: لا يكن اتخاذكم أيمانكم دخلًا بينكم فزلة قدم بعد ثبوتها وذوقكم السوء، ﴿بِمَا صَدَدْتُمْ﴾ ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب ﴿ما﴾: مصدرية ﴿صَدَدْتُمْ﴾: فعل وفاعل، ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية مع ﴿ما﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بالباء، والتقدير: بسبب صدكم عن سبيل الله، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تذوقوا﴾، ﴿وَلَكُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿عَظِيمٌ﴾: صفة له، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿تذوقوا﴾.
﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥)﴾.
﴿وَلَا تَشْتَرُوا﴾: فعل وفاعل، مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾، ﴿بِعَهْدِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تشتروا﴾، ﴿ثَمَنًا﴾: مفعول به، ﴿قَلِيلًا﴾: صفة ﴿ثَمَنًا﴾، ﴿إِنَّمَا﴾ ﴿إن﴾: حرف نصب، ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب اسمها، ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل، ﴿خَيْرٌ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾ ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما
وخُلْفُ الأنفَالِ ونَحْلٍ وَقَعا
﴿إِنْ﴾: حرف شرط، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية، وجملة ﴿تَعْلَمُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجواب ﴿إِنْ﴾ محذوف، تقديره: إن كنتم تعلمون تفاوت ما بين العوضين فأوفوا بعهد الله واحذروا نقضه، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)﴾.
﴿مَا﴾: مبتدأ، ﴿عِنْدَكُمْ﴾: ظرف متعلق بمحذوف صله لـ ﴿مَا﴾، ﴿يَنْفَدُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، وجملة ﴿يَنْفَدُ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ مبتدأ وصلته، ﴿بَاقٍ﴾: خبره، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ﴾ ﴿الواو﴾؛ استئنافية، ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿نجزين﴾: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، ﴿الَّذِينَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، ﴿صَبَرُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿أَجْرَهُمْ﴾: مفعول ﴿نجزين﴾، ﴿بِأَحْسَنِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نجزين﴾ و ﴿الباء﴾ بمعنى على، ﴿أحسن﴾ مضاف، ﴿مَا﴾: موصولة في محل الجر مضاف إليه، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كانوا يعملونه.
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)﴾.
﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿عَمِلَ﴾: فعل ماض، وفاعله
التصريف ومفردات اللغة
﴿سَكَنًا﴾؛ أي: مسكنًا، وقال أهل اللغة: السكن فَعَلٌ بمعنى مفعول، كالقبض والنفض بمعنى المقبوض والمنفوض اهـ "سمين"؛ أي: موضعًا تسكنون فيه وقت إقامتكم.
﴿يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾ والظَّعْنُ بسكون العين وفتحها: السَّيْرُ في البادية لِنُجْعَةٍ أو طلب ماءٍ أو مَرْتَعٍ، والأصواف للضأن، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز، والأثاث متاع البيت كالفرش والثياب وغيرها، ولا واحد له من لفظه، والمتاع ما يستمتع وينتفع به في المتجر والمعاش، وقال في "القاموس": الأثاث متاع البيت بلا واحد، أو المال أجمع، والواحدة أثاثة، والمتاع ما تمتعت به من الحوائج، والجمع أمتعة اهـ.
﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ جمع سربال، وهو القميص من القطن والكتَّان والصوف وغيرها، ﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾ وسرابيل الحرب الجواشن والدروع، والبأس الشدة في الحرب والقتل والجراحة كما في "التبيان" ويراد به هنا الحرب.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ فعل ماض من باب تفعل، أو مضارع حذفت منه إحدى التاءين، وفي صيغة التفعل إشارةٌ إلى أن الفطرة الأولى داعية إلى الإقبال على الله، والإعراض لا يكون إلا بنوع تكلفٍ ومعالجةٍ، ذكره في "روح البيان".
﴿إلَّا الْبَلَاغُ﴾ البلاغ اسم مصدر لبلغ بمعنى التبليغ، الذي هو مصدر بلغ المضعف، ﴿مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ﴾ الأمة الجيل من الناس، وشهيد كل أمة نبيها، ﴿ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: إنهم يستأذنون فلا يؤذن لهم، ﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ يقال استعتبه وأعتبه إذا رضي عنه، واستعتبت فلانًا يعني أعتبته؛ أي: أزلت عتباه، واستفعل بمعنى أفعل غير مستنكر، قالوا: استدنيت فلانًا وأدنيته بمعنى واحد، وقيل: السين على بابها من الطلب بمعنى لا يطلبون عتباهم؛ أي: رجوعهم إلى الدنيا، وفي "المختار": عتب عليه وجد - وبابه ضرب ونصر -
﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾؛ أي: يمهلون ويؤخرون ﴿شُرَكَاءَهُمْ﴾ والشركاء الأصنام والأوثان والشياطين والملائكة، ﴿نَدْعُو﴾ نعبد، ﴿فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ﴾ أصله فألقيوا، لأنه من ألقى تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا فالتقى ساكنان الألف والواو ثم حذفت الألف فصار فألقوا، و ﴿السَّلَمَ﴾ الاستسلام والانقياد، ﴿وَضَلَّ﴾ ضاع وبطل، والمراد بهؤلاء أمته الحاضر منهم عصر التنزيل، ومن بعدهم إلى يوم القيامة.
﴿تِبْيَانًا﴾؛ أي: بيانًا لأمور الدين إمَّا نصًّا فيها، أو ببيان الرسول واستنباط العلماء المجتهدين في كل عصر، وهو مصدر بين بيانًا وتبيينًا وتبيانًا، زيدت التاء للمبالغة، ولم يجيء من المصدر على هذه الزنة إلَّا لفظان هذا والتلقاء، وفي الأسماء كثير نحو التمساح والتمثال.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ و ﴿العدل﴾ لغة المساواة في كل شيء بلا زيادة ولا نقصان فيه، والمراد به هنا المكافأة في الخير والشر، ﴿وَالْإِحْسَانِ﴾ مقابلة الخير بأكثر منه، والشر بالعفو عنه، ﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾؛ أي: إعطاء الأقارب حقهم من الصلة والبر، ﴿والفحشاء﴾ ما قبح من القول والفعل، فيدخل فيه الزنا وشرب الخمر والحرص والطمع والسرقة ونحو ذلك من الأقوال والأفعال المذمومة، ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾ ما تنكره العقول من دواعي القوة الغضبية، كالضرب الشديد والقتل، والتطاول على الناس، ﴿وَالْبَغْيِ﴾ الاستعلاء على الناس، والتجبر عليهم بالظلم والعدوان، والوعظ: التشبيه إلى الخير بالنصح والإرشاد، والعهد: كل ما يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه الوعد، ونقض اليمين: الحنث فيها، وأصله فك أجزاء الجسم بعضها من بعض، و ﴿تَوْكِيدِهَا﴾ توثيقها، والتشديد فيها بزيادة الأسماء والصفات فيها، والتوكيد مصدر وكد يوكد
﴿كَفِيلًا﴾؛ أي: شاهدًا ورقيبًا، و ﴿الغزل﴾ ما غزل من صوف وقطن ونحوهما، ﴿مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ القوة هنا الإبرام والإحكام، ﴿أَنْكَاثًا﴾ والأنكاث جمع نكث بكسر النون، كأحمال وحمل، وهو ما ينكث فتله وينقض بعد غزله، وفي "المصباح": نكث الرجل العهد نكثًا - من باب قتل نقضه ونبذه - فانتكث مثل نقضه فانتقض، ونكث الكساء وغيره نقضه أيضًا، والنكث بالكسر ما نقض ليغزل ثانيًا، والجمع أنكاث مثل حمل وأحمال اهـ.
﴿دَخَلًا﴾ والدَّخل بفتحتين المكر والخديعة والفساد، وقال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحًا فهو دخل، والدخل ما يدخل في الشيء وليس منه، وأصل الدخل العيب. والعيب ليس من الشيء الذي يدخل فيه اهـ شيخنا، ويراد به هنا أن يظهر المرء الوفاء بالعهد ويبطن النقض.
﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى﴾؛ أي: أكثر وأوفر عدادا وعددًا، ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ﴾ زلَّة القدم بعد ثبوتها: مثلٌ يقال لمن وقع في محنة بعد نعمة، وبلاءٍ بعد عافية، ﴿بِمَا صَدَدْتُمْ﴾ إما من صدَّ اللازم؛ أي: بامتناعكم منها، أو من صَدْ المتعدي؛ أي: بمنعكم غيركم، وفي "المصباح": صددته عن كذا صدًّا، من باب قتل، منعته وصرفته، وصددت عنه أعرضت، وصد من كذا يصد من باب ضرب وضحك اهـ.
﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ﴾ والنفاد الفناء والذهاب، يقال: نفد بكسر العين ينفد بفتحها نفادًا ونفودًا، وأما نفذًا بالمعجمة ففعله نفذ بالفتح، ينفذ بالضم، ويقال:
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ﴾ إن قلنا: إن المراد بالبيوت المتخذة من جلودها الخيام المتخذة من الصوف والوبر والشعر.. فهو من إطلاق المحل وإرادة الحال، من حيث إنها نابتة على جلودها، فيصدق عليها أنها من جلودها، كما أشار إليه في "الجَمَل".
ومنها: الطباق في قوله: ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾، وقوله: ﴿يُنْكِرُونَهَا﴾، وفي قوله: ﴿ظَعْنِكُمْ﴾ و ﴿إقَامَتِكُمْ﴾، وفي قوله: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾؛ أي: والبرد، والاكتفاء عندهم ذكر أحد متقابلين وحذف الآخر لعلمه من المذكور.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ لزيادة التهديد.
ومنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ إن قلنا: إنه ماض مسند إلى ضمير الغائب، ويصح أن يكون مضارعًا حذفت منه إحدى التاءين، وأصله تتولوا، فهو حينئذٍ على الظاهر، فلا التفات فيه.
ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ أمر بثلاثة ونهى عن ثلاثة، وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام للاهتمام بشأنه في قوله: ﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ بعد لفظ الإحسان الذي هو عام فيه وفي غيره.
ومنها: حذف متعلقات العدل والإحسان والبغي؛ ليعم جميع ما يعدل فيه ويحسن به إليه ويُبغى فيه.
ومنها: الاستعارة التبعية في قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ لأن الترجِّي والتمني ليس مرادًا من لعل، لأن ذلك محالٌ على الله سبحانه وتعالى، فوجب أن يكون معناه: أنه تعالى يعظكم لإرادة أن تذكروا طاعته اهـ "كرخي".
ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا﴾ الآية، شبه تعالى من يحلف ثم لا يفي بعهده بالمرأة التي تغزل غزلًا ثم تنقضه، في القبح وعدم النفع بعمله.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ استعار القدم للرسوخ في الدين، والتمكن فيه، لأن أصل الثبات يكون بالقدم، ولما كان الزلل عن محجة الحق يشبه زلل القدم وانزلاقها عن محلها.. عبر عنه بالإنزلاق الحسي على طريقة الاستعارة التصريحية.
ومنها: إفراد القدم وتنكيرها للإيذان بأن زلل قدم واحدة أيَّ قدم كانت عزت أو هانت محذورٌ عظيم، فكيف بأقدام كثيرة اهـ "أبو السعود".
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (١٠٧) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٠٨) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١١١) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)﴾.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنه يجزي المؤمنين بأحسن أعمالهم.. أرشد إلى العمل الذي به تخلص أعمالهم من وساوس الشيطان.
وعبارة أبي حيان (٢): مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، وذكر أشياء مما بيّن في الكتاب، ثم ذكر قوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا﴾ ذكر ما يصون به القارئ قراءته من وسوسة الشيطان ونزغه، فخاطب السامع بالاستعاذة منه إذا أخذ في القراءة، فإن كان الخطاب لرسول الله - ﷺ - لفظًا فالمراد أُمته، إذ كانت قراءة القرآن من أجل الأعمال الصالحة، كما ورد في الحديث: "إنَّ ثواب قراءة كل حرف عشر حسنات".
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (٣) بالاستعاذة من وسوسة الشيطان الرجيم حين قراءة القرآن.. أردف ذلك بذكر باب من أبواب فتنته ووسوسته، بإلقاء الشبهات والشكوك لدى منكري نبوة محمد - ﷺ -، وقد ذكر منها شبهتين:
١ - أنه قد تنزل آية من آيات الكتاب تنسخ شريعةً ماضية، فيعيرون محمدًا بذلك.
٢ - أنهم قالوا: إنَّ ما جاء به إنما هو تعليم من البشر، من بعض أهل الكتاب، لا من الله، فأبطل هذه الشبهات بأنه كلام عربي مبين، وما نسبتم إليه تعليمه أعجمي، فكيف يعلمه الكلام العربي الفصيح، الذي أعجز العرب قاطبةً أن يأتوا بمثله.
قوله تعالى: ﴿منْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٤) في الآيات
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) المراغي.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) فيما سلف حال من كفر بالله من بعد إيمانه، وحكم بأنه استحق غضب الله وعذابه الأليم يوم القيامة، ثم ذكر حال من أكره على إجراء كلمة الكفر على لسانه وقلبه مليءٌ بالإيمان.. أردف ذلك بذكر طائفة من المسلمين كانوا مستضعفين بمكة مهانين في قومهم، فوافقوا المشركين على الفتنة في الدين والرجوع إلى دين أبائهم وأجدادهم، ثم فروا وتركوا بلادهم وأهليهم ابتغاء رضوان الله وطلب غفرانه، وانتظموا في سلك المسلمين وجاهدوا معهم الكافرين فحكم ربهم بقبول توبتهم، ودخولهم في زمرة الصالحين، وتمتعهم بجنات النعيم يوم العرض والحساب.
قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما هدد الكافرين بالعذاب الشديد في الآخرة.. أردف ذلك الوعيد بآفات الدنيا من جوع وفقر وخوف شديد، بعد أمن واطمئنان وعيش رغد.
قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ الله...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (٢) حال من كفروا بأنعم الله، وكذبوا رسوله، وأنه قد حل بهم العذاب من جوع وخوف، بسبب ظلمهم لأنفسهم، وصدهم عن سبيل الله.. قفى على ذلك بأمر المؤمنين بأكلهم من الحلال الطيب، وشكرهم لنعمة الله عليهم، وطاعتهم للرسول فيما به أمر وعنه نهى، كيلا يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم، ثم بين ما حرمه من المآكل، وأنَّ التحليل والتحريم لا يكونان إلا بنص من الدين، لا بالهوى
(٢) المراغي.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما (١) أخرجه ابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - ﷺ - يعلم قَينًا بمكة اسمه بَلْعَام، وكان نصرانيًّا أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون رسول الله - ﷺ - يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه بلعام، فأنزل الله سبحانه قوله: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ...﴾ الآية، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان من أهل عين التمر، أحدهما يقال له يسارٌ والآخر جبرٌ، وكانا صيقليين، فكانا يقرآن كتابهما، ويعلمان علمهما، وكان رسول الله - ﷺ - يمر بهما فيستمع قراءتهما، فقالوا: إنما يتعلم منهما، فنزلت هذه الآية ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أراد النبي - ﷺ - أن يهاجر إلى المدينة.. أخذ المشركون بلالًا وخبابًا وعمار بن ياسر، فأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، فلما رجع إلى رسول الله - ﷺ -.. حدثه، فقال: "كيف كان قلبك حين قلت، أكان منشرحًا بالذي قلت"، قال: لا، فأنزل الله سبحانه ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ...﴾.
وأخرج (٢) عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في أناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة: أن هاجروا، فخرجوا يريدون المدينة،
(٢) لباب النقول.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإِسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ...﴾ إلى آخر الآية، قال: وكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين هذه الآية، لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ في اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ﴾ إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)﴾ فكتبوا إليهم بذلك، إن الله قد جعل لكم مخرجًا، فخرجوا فأدركهم المشركون، فقاتلوهم، ثم نجا من نجا، وقتل من قتل الحديث. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رجاله رجال الصحيح غير محمَّد بن شريك وهو ثقة.
وأخرج (١) ابن سعد في "الطبقات" عن عمر بن الحكم قال: كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدري ما يقول، وكان أبو فكيهة يعذب حتى لا يدري ما يقول، وبلال وعامر بن فهيرة وقوم من المسلمين، وفيهم نزلت هذه الآية: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٩٨ - ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾؛ أي: فإذا أردت قراءة القرآن. عبّر (٢) عن الإرادة بالقراءة على طريقة إطلاق اسم المسبب على السبب، إيذانًا بأنَّ المراد هي الإرادة المتصلة بالقراءة، ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾؛ أي: فاسأل الله سبحانه وتعالى أن
(٢) روح البيان.
والخطاب فيه للنبي - ﷺ -، والمراد به الأمة، لأنه - ﷺ - معصوم من الشيطان، وإنما خُصَّ النبي - ﷺ - به لتعتبر الأمة، وتنتبه إلى أن النبي - ﷺ - إذا أمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم فغيره أولى بها وأخق، ولمَّا (١) كان الشيطان ساعيًا في إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم، وكانت الاستعاذة بالله مانعةً من ذلك.. أمر الله سبحانه وتعالى رسوله - ﷺ - والمؤمنين بالاستعاذة عند القراءة، حتى تكون مصونة من وسواس الشيطان.
وعن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - أنه رأى رسول الله - ﷺ - يصلي صلاة: "قال: الله أكبر كبيرًا ثلاثًا والحمد لله ثلاثًا وسبحان الله بكرة وأصيلًا ثلاثًا، أعوذ باللهِ من الشيطان الرجيم من نفخته ونفثته وهمزته، قال: نفخته الكبر، ونفثته السحر، وهمزته الموتة" أخرجه أبو داود، الموتة الجنون.
والفاء في قوله (٢): ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ للتعقيب، فظاهر لفظ الآية يدل على أن الاستعاذة بعد القراءة، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول أبي هريرة، وإليه ذهب مالك وجماعة وداود الظاهري، قالوا: لأن قارئ القرآن يستحق ثوابًا عظيمًا، وربما حصلت الوساوس في قلب القارئ هل حصل له ذلك الثواب أم لا، فإذا استعاذ بعد القراءة.. اندفعت تلك الوساوس وبقي الثواب مخلصًا، فأما مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الأئمة وفقهاء الأمصار، فقد اتفقوا على أن الاستعاذة مقدمة على القراءة، قالوا: ومعنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن.. فاستعذ باللهِ، ومثله قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ﴾ إلخ، لأن الوسوسة إنما تحصل
(٢) الخازن.
ومذهب عطاء أن الاستعاذة تجب عند قراءة القرآن سواء كانت في الصلاة أو في غيرها، لأن الأمر للوجوب واتفق سائر الفقهاء على أنَّ الاستعاذة سنةٌ في الصلاة وغيرها، وقد تقدمت هذه المسألة والخلاف في أوائل سورة الفاتحة.
والاستعاذة (١): الاعتصام باللهِ والالتجاء إليه من شر الشيطان ووسوسته، والمراد من الشيطان إبليس، وقيل: هو اسم جنس يطلق على جميع المَرَدةِ من الشياطين، لأن لهم قدرة على إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم بإقدار الله إيَّاهم على ذلك.
والمعنى (٢): إذا قصدت الشروع في قراءة القرآن.. فاسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذك فيها من وساوس الشيطان الرجيم، لئلا يلبس عليك قراءتك، ويمنعك من التدبر التفكر فيها، كما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١)﴾ لماذا أمر النبي - ﷺ - بالاستعاذة مع عصمته منه، فما بالك بسائر أمته.
ثم بين أن الناس فريقان:
٩٩ - فريق لا تسلط له عليهم، وهم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن الشيطان أو الشأن ﴿لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ﴾؛ أي: تسلط وولاية ﴿عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بربهم، وصدقوا بوحدانيته وقدرته ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ﴾ لا على غيره ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾، أي: يعتمدون، وإليه يفوضون أمورهم دينًا ودنيا؛ أي: إنه لا تسلط للشيطان على الذين يصدقون بلقاء الله تعالى، ويفوضون أمورهم إليه، وبه يعوذون، وإليه يلتجئون، فلا يقبلون ما يوسوس به، ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته، وعن سفيان الثوري أنه قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم، يريد أنهم أمروا بالاستعاذة منه ليحفظهم الله تعالى من
(٢) المراغي.
ولما أمر (١) القارئ بأن يسأل الله تعالى أن يعيذه من وساوسه، وتوهم منه أن له تسلطًا وولايةً على إغواء بني آدم كلهم.. بيَّن الله تعالى أن لا تسلط له على المؤمنين المتوكلين، فقوله: ﴿إِنَّهُ﴾ إلخ في معرض التعليل للأمر بالاستعاذة، وإشار إلى أن مجرد القول لا ينفع، بل لا بد لمن أراد أن لا يكون للشيطان سبيل عليه أن يجمع بين الإيمان والتوكل.
١٠٠ - والفريق الثاني الذين عناهم بقوله: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ﴾؛ أي: تسلطه بالغواية والضلالة، وغلبته بدعوته المستتبعة للاستجابة، لا سلطانه بالقسر والإلجاء، فإنه مُنْتَفٍ عن الفريقين، لقوله تعالى حكايةً عنه: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ وقد أفصح عنه قوله تعالى: ﴿عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾؛ أي: إنما تسلطه وغلبته على الذين يتخذونه وليًّا، ويجعلونه ناصرًا لهم، فيحبونه ويطيعونه، ويستجيبون دعوته، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ﴾؛ أي: بسبب إغوائه وإضلاله ﴿مُشْرِكُونَ﴾؛ أي: يشركون بربهم غيره في العبادة والطاعة، وقيل: الضمير في ﴿بِهِ﴾ عائد إلى الله؛ أي: والذين هم مشركون به تعالى غيره من الأصنام وسائر معبوداتهم.
١٠١ - ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾؛ أي: وإذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلًا منها بأن نسخناها ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ من (٢) التغليظ والتخفيف في مصالح العباد، وما الشرائع إلا مصالح للعباد في المعاش والمعاد، فالمصالح تدور وهذه الجملة معترضة، لاعتراضها بين الشرط، وهو ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً﴾ وجوابه وهو ﴿قَالُوا﴾ لتوبيخ الكفرة على كونهم ينسبون رسول الله - ﷺ - إلى الافتراء في التبديل، وللتنبيه على فساد رأيهم؛ أي: والله أعلم بما ينزل أولًا وآخرًا من الأحكام والشرائع، التي هي مصالح، ورب شيء يكون مصلحةً في وقت يكون مفسدةً في وقت آخر، فينسخه ويثبت مكانه ما يكون مصلحة لخلقه؛
(٢) المراح.
ومعنى الآية: أي (١) وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكم آية أخرى - والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدل من أحكامه - قال المشركون المكذبون لرسوله - ﷺ -: إنما أنت يا محمَّد متقوِّل على الله، تأمر بشيء، ثم تنهى عنه، وأكثرهم لا يعلمون ما في التبديل من حكم بالغة، وقليل منهم يعلمون ذلك وينكرون الفائدة عنادًا واستكبارًا.
وفي قوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ توبيخ لهم، وإيماءٌ إلى أن التبديل لم يكن عن الهوى، بل كان لحكمة اقتضته ودعت إليه من تغير الأحوال والأزمان، ألا ترى أن الطبيب يأمر المريض بدواء بعينه ثم إذا أعاده مرةً أخرى.. نهاه عن ذلك الدواء، وأمره بضده، أو بما لا يقرب منه بحسب ما يرى من حال المريض.
وهكذا الشرائع إنما توضع مشاكلة للزمان والمكان، والأحوال الملابسة،
١٠٢ - ثم بين لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ، الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله، وأن رسوله - ﷺ - قد افتراه فقال: ﴿قُل﴾ لهم يا محمَّد ﴿نَزَّلَهُ﴾؛ أي: نزل هذا القرآن المدلول عليه بذكر آية، وفي ﴿ينزل﴾ (١) و ﴿نزَّل﴾ تنبيه على أن إنزاله كان مدرجًا بحسب الوقائع ﴿رُوحُ الْقُدُسِ﴾؛ أي: الروح المطهر من الأدناس البشرية، وهو جبريل - عليه السلام -، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته، كحاتم الجود، وطلحة الخير، وقرأ ابن كثير: ﴿نزله روح القدس﴾ بالتخفيف كما في "البيضاوي"، ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾؛ أي: ابتداء تنزيله من عنده سبحانه و ﴿بِالْحَقِّ﴾ في موضع الحال؛ أي: نزله حالة كونه متلبسًا بكونه حقًّا ثابتًا موافقًا للحكمة البالغة المقتضية له، بحيث لا يفارقها إنشاء ونسخا وفيه دلالة على أن النسخ حق.
﴿لِيُثَبِّتَ﴾ الله سبحانه وتعالى، أو (٢) جبريل مجازًا ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ على الإيمان، بأن القرآن كلام الله، فإنهم إذا سمعوا الناسخ، وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح اللائقة بالحال.. رسخت عقائدهم، واطمأنت قلوبهم، على أن الله تعالى حكيم، فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب ﴿وَهُدًى﴾ من الضلالة ﴿وَبُشْرَى﴾ بالجنة ﴿لِلْمُسْلِمِينَ﴾ المنقادين لحكمه تعالى، وهما معطوفان على محل ﴿لِيُثَبِّتَ﴾ فهما منصوبان باعتبار لفظه المقدّر عليه الإعراب، ومجروران باعتبار المصدر المؤول، والتقدير: تثبيتًا لهم وهداية وبشارة، أو لتثبيت الذين آمنوا وهدايتهم وبشارتهم، وفيه تعريض بحصول أضداد الأمور المذكورة لمن سواهم من الكفار، وقرىء (٣): ﴿لِيُثَبِّتَ﴾ مخففًا من أثبت الرباعي.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
والخلاصة: أنه نافع كل النفع لهم في دينهم ودنياهم، فإذا هم رأوا ذلك.. رسخت عقائدهم، واطمأنت قلوبهم، كما أن فيه هداية لهم من الزيغ والضلالات، ففيه ما يهذب النفوس ويكبح جماع الطغيان، ويرد الظالم عن ظلمه، ويدفع عدوان الناس بعضهم على بعض، وفيه بشرى للمسلمين بما سيلقونه من الجنات، التي تجري من تحتها الأنهار جزاء أعمالهم وكدهم ونصبهم إرضاء لربهم، وفي هذا إيماء إلى أن هؤلاء المشركين لهم من الصفات ضد هذا كما مر، فهم متزلزلون ضالون، لهم خزيٌ ونكالٌ في الدنيا والآخرة.
١٠٣ - ثم حكى عنهم شبهة ثانية فقال: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد نعلم علمًا مستمرًا نحن أن كفار مكة يقولون جهلًا منهم ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾؛ أي: إنما يعلم محمدًا - ﷺ - هذا الذي يتلوه علينا بشرٌ من بني آدم، وليس بالوحي من عند الله تعالى كما يدَّعي، وكلمة إنما أداة حصر؛ أي: لا يعلم محمدًا القرآن إلا بشرٌ، لا جبريل كما يدَّعي، وأدخل (٢) قد على الجملة القسمية توكيدًا لعلمه بما يقولون، ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعد والوعيد لهم، وذكر ابن الحاجب أنهم نقلوا قد إذا دخلت على المضارع من التقليل إلى التحقيق، كما أن ربما في المضارع نقلت من التقليل إلى التحقيق.
قال عبد الله بن مسلم الحضرمي: عنوا عبدين لنا، أحدهما يقال له يسارٌ، والآخر جبرٌ، وكانا يصنعان السيف بمكة، ويقرآن التوراة والإنجيل، وكان رسول الله - ﷺ - يمر عليهما، ويسمع ما يقرآنه، فالمراد بالبشر هنا ذانك الغلامان،
(٢) روح البيان.
وخلاصة هذا (١): أن ما يسمعه محمَّد من ذلك البشر كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم، والقرآن كلام عربي تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون هو ما تلقفه منه، هبه تعلم منه المعنى باستماع كلامه، فهو لم يلقف منه اللفظ؛ لأنَّ ذلك أعجمي وهذا عربي، والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى، هو معجز من حيث اللفظ، إلا أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بالدرس، والتلقين من أخصائيين مع الاختلاف إليهم مددًا متطاولة، فليس من الميسور ولا مما يجد العقل اطمئنانًا إليه أن يتعلم مثل هذا من غلام سوقي، سمع منه أخبارًا بلغة أعجمية، لعله لم يكن يعرف معناها، وعلى نحو آخر كأنه قيل لهم أنتم أفصح الناس بيانًا، وأقواهم حجة وبرهانًا، وأقدرهم على الكلام نظمًا ونثرًا، وقد عجزتم وعجز جميع العرب أن يأتوا بمثله، فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن؟ وفي التشبث بأمثال هذه المطاعن الركيكة والخرافات الساذجة أبلغ دليل على أنهم بلغوا غاية العجز ونهاية السخف:
فدعهم يزعمون الصبح ليلًا | أيعمى الناظرون عن الضياء |
١٠٤ - ثم توعدهم على ما قالوا بالعقاب في الدنيا والآخرة فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: لا يصدقون بأن هذه الآيات من عند الله سبحانه وتعالى، بل يقولون فيها ما يقولون، فيقولون تارة إنها مفتريات، ويقولون أخرى إنها من أساطير الأولين، ﴿لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾، سبحانه وتعالى ولا يرشدهم إلى معرفة الحق الذي ينجيهم من عذاب النار، لما يعلم من سوء استعدادهم بما اجترحوا من السيئات، ودنسوا به أنفسهم من ارتكاب الموبقات، ﴿وَلَهُمْ﴾ في الآخرة إذا وردوا إلى ربهم ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: مؤلم موجع، كفاء ما نصبوا له أنفسهم من العداء لرسوله - ﷺ -، والتكذيب لآيات الكتاب، ولما نسبوا إلى رسول الله - ﷺ - الإفتراء بقولهم: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾
١٠٥ - ردَّ الله عليهم بقوله: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ﴾ ويختلقه، والتصريح (٢) بالكذب للمبالغة في بيان قبحه، والفرق بين الافتراء والكذب أن الافتراء هو افتعال الكذب من قول نفسه، والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه، وفاعل يفتري هو قوله: ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ لأنه لا يترقب عقابا عليه ليرتدع عنه، وأما من يؤمن بها ويخاف ما نطقت به من العقاب فلا يمكن أن يصدر عنه افتراء ألبتة؛ أي: إنما يتخرص الكذب، ويتقول الباطل الذين لا يصدقون بحجج الله وآياته، التي نصبها في الكون، وأقامها أدلة على وجوده ووحدانيته، لأنهم لا يرجون على الصدق ثوابًا، ولا يخشون على الكذب عقابًا، وهذه صفاتكم أيها المشركون، لا صفات النبي - ﷺ - والمؤمنين.
(٢) روح البيان.
١٠٦ - ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ﴾؛ أي: من تلفظ بكلمة الكفر ﴿مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾ به تعالى، كابن حنظلٍ وطعمة بن أبيرق وأمثالهما، فعليه غضب من الله، فمن موصولة مبتدأ وخبره محذوف لدلالة الخبر الآتي عليه، ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ﴾ وأجبر على التلفظ بكلمة الكفر بأمر لا طاقة له به (١)، كالتخويف بالقتل والضرب الشديد، والإيلامات القوية، كالتحريق بالنار، مما يخاف منه على نفسه، أو على عضو من أعضائه فتلفظ بها ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾؛ أي: والحال أن قلبه مطمئن مليءٌ بالإيمان، لم تتغير عقيدته، فليس على هذا المكره غضب من الله، لأنه لم يكفر وفي هذا دليل على أن الإيمان المنجي المعتبر عند الله تعالى هو التصديق بالقلب.
فإن قلت: (٢) المكره على الكفر ليس بكافر، فلا يصح استثنائه من الكافر، فما معنى هذا الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ﴾؟
قلت: المكره لما ظهر منه بعد الإيمان ما شابه ما يظهر من الكافر طوعًا.. صح هذا الاستثناء لهذه المشابهة والمشاكلة. والله أعلم.
﴿وَلَكِنْ مَنْ﴾ لم يك كذلك بل ﴿شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾؛ أي: انشرح به قلبًا، وطاب به نفسًا، واعتقده ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾ عظيم ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ تعالى وعقوبة شديدة ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾؛ أي: عذاب شديد، والعذاب والعقاب الإيجاع الشديد،
(٢) الخازن.
ومعنى الآية: أي إنَّ من (١) كفر بالله بعد الإيمان والتبصر.. فعليه غضب من الله، إلا إذا أكره على ذلك وقلبه مليءٌ بالإيمان بالله، والتصديق برسوله، فلا تثريب عليه، كما فعل عمار بن ياسر.
﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾؛ أي: ولكن غضب الله وشديد عقابه لمن طابت أنفسهم بالكفر، واعتقدوه طائعين مختارين، لعظيم جرمهم وكبير إثمهم.
١٠٧ - ثم بين سبب هذا الغضب فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ الغضب من الله والعذاب العظيم ﴿بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ﴾؛ أي: سبب أنهم آثروا الحياة الدنيا وزينتها على نعيم الآخرة، ﴿و﴾ بسبب ﴿أن الله﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يَهْدِي﴾ إلى الإيمان، وإلى ما يوجب الثبات عليه هداية قسر وإلجاء ﴿الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ في علمه المحيط، فلا يعصمهم (٢) من الزيغ وما يؤدِّي إليه من الغضب والعذاب العظيم، ولولا أحد الأمرين: إما إيثار الحياة الدنيا على الآخرة، وإمَّا عدم هداية الله تعالى للكافرين هداية قسر، بأن آثروا الآخرة على الدنيا، أو بأن هداهم الله تعالى هداية قسر.. لما كان لذلك الغضب العظيم، والعذاب الشديد، لكن الثاني مخالف للحكمة، والأول مما لا يدخل تحت الوقوع.
أي: وبسبب أنَّ الله لا يوفق من يجحد آياته، ويصر على إنكارها، لأنه قد فقد الاستعداد لسبل الخير، بما زينت له نفسه، وسولت له من عظيم الجرم وكبير الإثم، فأصبح قلبه مليئًا بما يشغله عن دواعي الإيمان بما يمليه عليه الشيطان
١٠٨ - ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بما ذكر من القبائح هم ﴿الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ وختمها بخاتم الرين والضلال، فلا يؤمنون ولا يهتدون ﴿و﴾ طبع على ﴿سَمْعِهِمْ﴾ وأصمه، فلا يسمعون داعي الله إلى الهدى، ﴿و﴾ على ﴿أبصارهم﴾
(٢) روح البيان.
١٠٩ - ﴿لَا جَرَمَ﴾؛ أي: حق حقًّا وثبت ثبوتًا ﴿أَنَّهُمْ﴾؛ أي: أنَّ هؤلاء الموصوفين بالصفات السابقة ﴿فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾؛ أي: الهالكون الذين غبنوا أنفسهم حظوظها، وضيعوا أعمارهم وصرفوها فيما لا يفضي إلا إلى العذاب المخلد، ولله در من قال:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس | عليه من الإنفاق في غير واجب |
١ - استوجبوا غضب الله.
٢ - استحقوا عقابه العظيم.
٣ - أنهم استحبوا الحياة الدنيا.
٤ - أن الله حرمهم من الهداية للطريق القويم.
٥ - أنه طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
٦ - أنه جعلهم سبحانه من الغافلين.
قال مجاهد: أول من أظهر الإِسلام سبعة: رسول الله - ﷺ -، وأبو بكر، وخباب، وصهيب، وبلال، وعمار وسمية، أما الرسول فحماه أبو طالب، وأما أبو بكر فحماه قومه، وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد ثم أجلسوا في الشمس، فبلغ منهم الجهد بحر الحديد والشمس، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبخهم، ويشتم سمية، ثم طعنها بحربة في ملمس العفة، وقال الآخرون: ما أرادوا به منهم إلا بلالًا، فإنهم جعلوا يعذبونه فيقول: أحد أحد، حتى ملوا فكتفوه، فجعلوا في عنقه حبلًا من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به حتى ملوه
١١٠ - وكلمة ثم في قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ﴾ للدلالة (١) على تباعد حال هؤلاء - يعني الذين نزلت الآية فيهم - عن حال أولئك، وهم عمار وأصحابه، وقوله: ﴿لِلَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ متعلق بخبر إنَّ الآتي، والتقدير: ثم إن ربك يا محمَّد لغفور رحيم للذين هاجروا من مكة إلى المدينة، وهم عمار وصهيب وخباب وسالم وبلال وغيرهم، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا﴾؛ أي: عذبوا على الارتداد، وأكرهوا على تلفظ كلمة الكفر، فتلفظوا بما يرضيهم؛ أي: الكفرة مع اطمئنان قلوبهم، ﴿ثُمَّ جَاهَدُوا﴾ في سبيل الله ﴿وَصَبَرُوا﴾ على مشاق الجهاد، وقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا﴾؛ أي: من بعد المهاجرة والجهاد والصبر تأكيد لـ ﴿إنَّ﴾ الأولى واسمها ومتعلقها، وقوله: ﴿لَغَفُورٌ﴾ بما فعلوا من قبل، خبر لـ ﴿إِنَّ﴾ الأولى؛ أي: لستور عليهم، محاءٌ لما صدر منهم، ﴿رَحِيمٌ﴾ منعم عليهم من بعد بالجنة، جزاء على تلك الأفعال الحميدة والخصال المرضية، واعلم (٢) أن المهاجرة مفاعلة من الهجرة، وهي الانتقال من أرض إلى أرض، والمجاهدة مفاعلة من الجهد، وهو استفراغ الوسع، وبذل المجهود في طلب المقصود، قال في "التعريفات": المجاهدة في اللغة المحاربة، وفي الشرع: محاربة النفس الأمارة بالسوء بتحميلها ما يشق عليها مما هو مطلوب في الشرع انتهى.
وحاصل معنى الآية: أي إن ربك (٣) أيها الرسول للذين هاجروا من ديارهم، وتركوا مساكنهم وعشائرهم من أهل الشرك، وانتقلوا عنهم إلى ديار الإِسلام من بعد ما فتنهم المشركون، الذين كانوا بين ظهرانيهم قبل هجرتهم، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف، وبألسنتهم بالبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله، وصبروا على جهادهم، إنَّ ربك من بعد أفعالهم هذه لذو
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فتنوا﴾ مبنيًّا للمفعول؛ أي: بالعذاب والإكراه على كلمة الكفر، وقرأ ابن عامر: ﴿فُتِنُوا﴾ مبنيًّا للفاعل، والظاهر أن الضمير عائد على الذين هاجروا، فالمعنى: فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول، كما فعل عمار.
١١١ - وقوله: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ﴾ منصوب على الظرفية برحيم، والمعنى: إن ربك لغفور رحيم بهؤلاء يوم تأتي كل نفس تخاصم عن نفسها، وتحاج عنها إلخ، أو على المفعول به، وناصبه اذكر محذوفًا؛ أي: اذكر يا محمَّد قصة يوم تأتي كل نفس، وهو يوم القيامة، حالة كونها ﴿تُجَادِلُ﴾ وتخاصم وتدافع ﴿عَنْ نَفْسِهَا﴾؛ أي: عن ذاتها، فالنفس (٢) الأولى بمعنى الجملة، والثانية بمعنى العين والذات، والمعنى: اذكر يا محمَّد أو يا كل من يصلح للخطاب يوم (٣) يأتي كل إنسان حالة كونه يجادل ويخاصم عن ذاته، يسعى في خلاصها بالاعتذار عما أسلفت في الدنيا من عمل، كقولهم: ﴿هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا﴾ و ﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، لا يهمه شأن غيرها من ولد ووالد وقريب، فيقول: نفسي نفسي، وذلك حين زفرت جهنم زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه، حتى خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وقال: رب نفسي؛ أي: أريد نجاة نفسي.
﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ﴾ برةٍ أو فاجرةٍ؛ أي: تعطى كل نفس وافيًا كاملًا ﴿مَا عَمِلَتْ﴾؛ أي: جزاء ما عملت، بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب إشعارًا بكمال الاتصال بين الأجزية والأعمال، وإيثار الإظهار على الإضمار للإيذان باختلاف وقتي المجادلة والتوفية، وإن كانتا في يوم واحد ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: والحال
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
أي وتعطى (١) كل نفس جزاء ما عملت في الدنيا من طاعة أو معصية، فيجزى المحسن بما قدَّم من إحسان، والمسيء بما أسلف من إساءة، ولا يعاقب محسن ولا يثاب مسيء.
والخلاصة: أن كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره، كما قال: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾، وعن ابن عباس (٢) - رضي الله عنهما -: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد، يقول الروح: يا رب لم يكن لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها، ويقول الجسد خلقتني كالخشب، ليست لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها، فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي، قال: فيضرب لهما مثلًا، مثل أعمى ومقعد دخلا حائطًا وفيه ثمارٌ، فالأعمى لا يبصر الثمار، والمقعد لا ينالها، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر، فعليهما العذاب، كذا في "تفسير السمرقندي".
١١٢ - وقوله: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً﴾ ضرب إما مضمن (٣) معنى جعل، فتكون ﴿قَرْيَةً﴾ مفعوله الأول و ﴿مَثَلًا﴾ مفعوله الثاني، وإنما تأخرت قرية لئلا يقع الفصل بينها وبين صفاتها، ويجوز أن يكون ﴿وَضَرَبَ﴾ على بابه غير مضمن، ويكون ﴿مَثَلًا﴾ مفعوله، و ﴿قَرْيَةً﴾ بدلًا منه، وقد اختلف المفسرون هل المراد بهذه القرية قرية معينة، كما قيل إنها أيلة: بلدة بين ينبع ومصر كما في "الكواشي"، أو المراد قرية غير معينة، بل كل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة، فذهب الأكثر إلى الأول وصرحوا بأنها مكة، وذلك لما دعا عليهم رسول الله - ﷺ - وقال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
أي: وجعل الله سبحانه وتعالى قرية ﴿كَانَتْ آمِنَةً﴾؛ أي: ذات (١) أمن من كل مخوف ﴿مُطْمَئِنَّةً﴾؛ أي: متوطنة، لا ينتقلون عنها إلى غيرها لحسنها وبهائها، وجملة ﴿كَانَتْ﴾ صفة أولى لقرية؛ أي: جعل سبحانه أهل هذه القرية مثلًا لأهل مكة خاصةً، أو لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة، ففعلوا ما فعلوا، فبدل بنعمتهم نقمةً، ودخل فيهم أهل مكة دخولًا أوليًّا، وجملة قوله: ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا﴾ صفة ثانية لقرية، وتغير سبكها عن الصفة الأولى لما أن إتيان رزقها متجدد، وكونها آمنة مطمئنة ثابت مستمرٌ؛ أي: يأتيها زرق أهلها وأقواتهم حالة كونه: ﴿رَغَدًا﴾؛ أي: واسعًا ﴿مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ من نواحيها من البر والبحر متعلق بيأتي، ﴿فَكَفَرَتْ﴾؛ أي: كفر أهل تلك القرية ﴿بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾ سبحانه؛ أي: بنعمه جمع نعمة، على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع وأدرع، والمراد بها نعمة الرزق والأمن المستمر، وإيثار جمع القلة للإيذان بأن كفران نعمة قليلة حيث أوجب هذا العذاب، فما ظنك بكفران نعم كثيرة، روي أن أهل أيلة كانوا يستنجون بالخبز كما في "الكواشي"، قال بعضهم: الخبز هو الأصل بين النعم الإلهية، ولذا أمر آدم عليه السلام الذي هو أصل البشر بالحراثة، فمن كفر به.. فقد كفر بجميع النعم وتعرض لزوالها.
﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: أذاق أهلها، وأصل الذوق بالفم ثم استعير فوضع موضع الابتلاء والاختبار كما في "تفسير أبي الليث" ﴿لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾؛ أي: أذاقها الجوع والخوف، المشبهين باللباس بجامع الاشتمال في كل، حتى أكلوا ما تغوطوه، لأن الجزاء من جنس العمل، قال في "الأسئلة
وقرأ الجمهور (١) ﴿والخوف﴾ بالجر عطفًا على الجوع، وروى العباس عن أبي عمرو ﴿والخوف﴾ بالنصب عطفًا على ﴿لباس﴾، قال صاحب "اللوامح": ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل، وقال الزمخشري: يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أصله: ولباس الخوف، وقرأ عبد الله: ﴿فأذاقها الله الخوف والجوع﴾ ولا يذكر لباس، والذي أقوله: أن هذا تفسير المعنى؛ لأن المنقول منه مستفيضًا مثل ما في سواد المصحف، وفي مصحف أبي بن كعب: ﴿لباس لخوف والجوع﴾ بدأ بمقابل ما بدأ به في قوله: ﴿كَانَتْ آمِنَةً﴾، وهذا عندي إنما كان في مصحفه قبل أن يجمعوا ما في سواد المصحف الموجود الآن شرقًا وغربًا، ولذلك المستفيض من أبي في القراءة إنما هو كقراءة الجماعة.
١١٣ - والظاهر أن الضمير في قوله: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ﴾ عائد على ما عاد عليه في قوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾؛ أي: ولقد جاء أهل تلك القرية وهي مكة أو غيرها على الخلاف المذكور أولًا ﴿رَسُولٌ مِنْهُمْ﴾؛ أي: من جنسهم، يعرفونه بأصله ونسبه، فأخبرهم بوجوب الشكر على النعمة وأنذرهم سوء عاقبة الكفران، ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ في رسالته ﴿فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ﴾ المستأصل غبَّ ما ذاقوا نبذة من ذلك
ثَلاَثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِهَايَه | الأَمْنُ والصِحَّةُ والكفايَة |
١١٤ - ثم لمَّا (٢) وعظهم الله سبحانه بما ذكره من حال أهل القرية المذكورة.. أمرهم أن يأكلوا مما رزقهم الله من الغنائم وغيرها، وجاء بالفاء للإشعار بأن ذلك متسبِّب عن ترك الكفر، فقال: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ﴾ والفاء فيه فاء الفصيحة، والخطاب للمؤمنين على الراجح؛ أي: إذا عرفتم أيها المؤمنين ما حلَّ
(٢) الشوكاني.
١١٥ - وبعد أن أمرهم بالأكل من الطيبات.. بين لهم ما حرَّم عليهم فقال: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ﴾ ربكم ﴿الْمَيْتَةَ﴾؛ أي: أكلها، وهي كل ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية إلا السمك والجراد، ﴿وَالدَّمَ﴾ المسفوح؛ أي: المصبوب من العروق، فيجمدونه ويأكلونه، وأما المختلط باللحم فمعفو عنه، والأولى غسله، ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾؛ أي: أكل لحمها، وجميع أجزائها، ﴿وَمَا أُهِلَّ﴾ ورفع الصوت ﴿لِغَيْرِ اللَّهِ﴾؛ أي: باسم غير الله كالصنم والولي ﴿بِهِ﴾؛ أي: عند ذبحه، كقول أهل الجاهلية باللات والعزى، فإن ذلك من ذبائح من لا يحل أكل ذبيحته.
والخلاصة (١): أنَّ ما سمي عليه غير الله تعالى عند الذبح سواء كان صنمًا أو وثنًا أو روحًا خبيثًا من جنٍّ، أو روحًا طيبًا من إنس كالنبي والولي حيًّا أو ميتًا، فأكله حرام لما جاء في الحديث: "ملعونٌ مَنْ ذبح لغير الله" سواء سمى الله عند ذبحه أو لم يسم؛ لأن هذا الحيوان قد انتسب إلى غيره تعالى، فمن ذبح للسيد البدوي، أو لإبراهيم الدسوقي، أو للسيدة زينب، أو للحسين العروسيِّ، أو للأبادر الهرري مثلًا لا يجوز أكل هذا الذبيح، فهذه (٢) الآية دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع، فالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع داخلة في الميتة، وما ذبح على النصب داخل تحت قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ
(٢) المراح.
ثم ذكر الحال التي يسوغ فيها تناول شيء من هذه المحرمات فقال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾؛ أي: فمن احتاج حاجةً شديدةً إلى تناول شيء من هذه المحرمات، لمجاعة حلت به، وضرورة دعته إلى أخذ شيء منها حالة كونه ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ على مضطر آخر ﴿وَلَا عَادٍ﴾؛ أي: ولا متعد قدر الضرورة وسد الرمق، وقيل (١): معناه غير باغ على الوالي، ولا متعد على الناس، بالخروج لقطع الطريق، فعلى هذا لا يباح تناول شيء من المحرمات في سفر المعصية، وجواب من الشرطية محذوف، تقديره: فالله لا يؤاخذه على ذلك، وجملة قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تعليل لذلك المحذوف؛ أي: لأن الله سبحانه وتعالى غفور له، يستر له ما صدر منه من الهفوات، رحيم به أن يعاقبه على مثل ذلك.
أمَّا ما حرَّموه من غير ذلك من البحائر والسوائب والوصائل ونحوه، مما تقدم في سورة الأنعام، فهو محض افتراءٍ على الله، وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة البقرة والمائدة والأنعام، وفيها حصر المحرمات في هذه الأربع فحسب.
١١٦ - ثم أكد حصر المحرمات في هذه الأربع، ونهى عن التحريم والتحليل بالأهواء فقال: ﴿وَلَا تَقُولُوا﴾ يا أهل مكة ﴿لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ﴾؛ أي: في شأن (٢) ما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة، في قولكم: ﴿مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا﴾ من غير ترتيب ذلك الوصف على ملاحظةٍ وفكرٍ، فضلًا عن استناده إلى وحي أو قياس مبني عليه، فاللام بمعنى في متعلقة بتقولوا وما موصولة، وقوله: ﴿الْكَذِبَ﴾ مفعول به لتقولوا؛ لأنه بمعنى تذكروا، وقوله: ﴿هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ﴾ بدل منه، فالمعنى: لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام في شأن ما تصفه ألسنتكم بالحل والحرمة من غير استناد إلى دليل، فقدم عليه كونه كذبًا، وأبدل منه هذا حلال وهذا حرام مبالغةً في كذبهم، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ ذلك مجرَّد وصف باللسان؛ لا حكم عليه، وفي الآية تنبيهٌ للقضاة
(٢) روح البيان.
وقال الكسائي والزجاج (١): ﴿ما﴾ هنا مصدريةٌ، وانتصاب الكذب بلا تقولوا؛ أي: لا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم، ومعناه لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجةٍ ولا بينةٍ، وقرأ الحسن (٢) وابن عمر وطلحة والأعرج وابن أبي إسحاق وابن عبيد ونعيم بن ميسرة: ﴿الكذب﴾ بكسر الباء، وخرج على أن يكون بدلًا مِنْ ﴿ما﴾ والمعنى الذي تصفه ألسنتكم الكذب، وأجاز الزمخشري وغير أن يكون ﴿الكذب﴾ بالجر صفةً لما المصدرية، قال الزمخشري: كأنه قيل لوصفها الكذب بمعنى الكاذب، وقرأ معاذ وابن أبي عبلة وبعض أهل الشام: ﴿الكُذُب﴾ بضم الثلاثة صفة للألسنة، جمع كذوب، قال صاحب "اللوامح": أو جمع كاذب أو كذاب انتهى، وقال ابن عطية: وقرأ مسلمة بن محارب ﴿الكُذَبَ﴾ بفتح الباء على أنه جمع كذاب، ككتب في جمع كتاب، وقال صاحب "اللوامح": وجاء عن يعقوب الكُذُب بضمتين والنصب، فأما الضمتان فلأنه جمع كذاب وهو مصدر ومثله كتابٌ وكتبٌ.
والمعنى: أي (٣) ولا تقولوا هذا حلالٌ، وهذا حرام بالرأي والهوى، فلا تقولوا ما في بطون هذه الأنعام خالصةٌ لذكورنا ومحرمٌ على أزواجنا، ولا تحللوا الميتة والدم ولحم الخنزير إلخ.
وخلاصة ذلك: لا تحللوا ولا تحرموا لمجرد وصف ألسنتكم الكذب، وتصويرها له دون استناد إلى دليل، وكان ألسنتكم لأنها منشأ الكذب وينبوعه شخصٌ عالمٌ بحقيقته ومحيط بكنهه، يصفه للناس ويوضحه لهم أتم إيضاح، واللام في قوله: ﴿لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ لام العاتبة، لا لام الغرض والعلة، لأن الافتراء لم يكن غرضًا، متعلقة بتقولوا؛ أي: ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لتكون عاقبة أمركم إسناد التحريم والتحليل إلى الله كذبًا، من غير أن يكون
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا، وقد صدق، فكل من أفتى بخلاف ما في كتاب الله وسنة رسوله - لجهله بما فيهما - فقد ضل وأضل من يفتيهم، ولله در القائل:
كبَهِيْمَةٍ عَمْيَاءَ قَادَ زِمَامَها | أَعْمَى على عِوَجِ الطَّريقِ الحَائِرِ |
ثم أوعد المفترين وهدَّدهم أشد التهديد فقال (١): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ﴾؛ أي: يتخرصون ويتقولون ﴿عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ في أمورهم صغيرها وكبيرها ﴿لَا يُفْلِحُونَ﴾؛ أي: لا يفوزون بخير في المطالب التي لأجلها كذبوا على ربهم، إذ هم متى عرفوا بالكذب.. مَجَّهُمُ الناس، وانصرفوا عنهم، وعاشوا أذلة بينهم ممقوتين، ويكونون مضرب الأمثال في الهوان والصغار، إلى ما يصيبهم من الخزي والوبال يوم القيامة.
١١٧ - ثم بين أن ما يحصل لهم من المنافع بالافتراء على الله ليس شيئًا مذكورًا إذا قيس بالمضارِّ التي تستجم منه فقال: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ خبر مبتدأ محذوف؛ أي: منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة، تنقطع عن قريب ﴿وَلَهُم﴾ في الآخرة ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يردون إليه في الآخرة.
والمعنى: أي إنَّ المنافع التي قد تحصل لهم على ذلك في الدنيا لا يُعْتَدُّ بها في نظر العقلاء، إذا وزن بينها وبين المضار التي في الآخرة، فما متاع الدنيا
١١٨ - وبعد أن بين ما يحل وما يحرم لأهل الإِسلام، أتبعه ببيان ما خصَّ به اليهود من المحرمات فقال: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا﴾؛ أي: وعلى (١) اليهود خاصة، دون غيرهم من الأولين والآخرين ﴿حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ﴾ يا محمَّد بقولنا: ﴿كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا﴾ الآية، و ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ متعلق بقصصنا؛ أي: من قبل نزول هذه الآية، أو بحرمنا؛ أي: من قبل التحريم على هذه الأمة؛ أي: وحرمنا من قبلك أيها الرسول على اليهود ما أنبأناك به من قبل في سورة الأنعام، بقولنا: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (١٤٦)﴾.
ثم بين السبب في ذلك التحريم عليهم فقال: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾ بتحريم ذلك عليهم، بل جزيناهم ببغيهم ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾؛ أي: ولكن ظلموا أنفسهم بمعصيتهم لربهم، وتجاوزهم حدوده التي حدها لهم، وانتهاك حرماته، فعوقبوا بهذا التحريم، كما قال في آية أخرى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ الآية، وفي هذا إيماءٌ (٢) إلى أنَّ ذلك التحريم إنما كان للظلم والبغي عقوبة وتشديدًا، وبه يعلم الفرق في التحريم بينهم وبين غيرهم، فإنه لهم عقوبةٌ، ولنا للمضرَّة فحسب.
١١٩ - ثم بين سبحانه أن الافتراء على الله وانتهاك حرماته لا يمنع من التوبة التي يتقبلها الله منهم، ويغفر زلَّاتهم رحمةً منه وفضلًا فقال: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمَّد ﴿لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ﴾ وارتكبوا السيئات من الكفر والمعاصي، متعلق بخبر
(٢) المراغي.
أَلاَ لاَ يَجْهَلنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا | فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلينا |
فعلى العاقل (٣) أن يرجع عن الإعراض عن الله، ويقبل عليه بصدق الطلب، وإخلاص العمل، والتوبة بمنزلة الصابون، فكما أن الصابون يزيل الأوساخ
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
والمقصود من هذه الآية: بيان فضل الله وكرمه وسعة مغفرته ورحمته، لأن السوء لفظٌ جامع لكل فعل قبيح، فيدخل تحته الكفر وسائر المعاصي، وكل ما لا ينبغي، وكل من عمل السوء فإنما يفعله بالجهالة، لأن العاقل لا يرضى بفعل القبيح، فمن صدر عنه فعل قبيح من كفر أو معصية فإنما يصدر عنه بسبب جهله، إما لجهله بقدر ما يترتب عليه من العقاب، أو لجهله بقدر من يعصيه، فثبت بهذا أنَّ فعل السوء إنما يصدر بجهالة.
الإعراب
﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠)﴾.
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ﴿فَاسْتَعِذْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾ الشرطية، ﴿استعذ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على أي مخاطب، ﴿بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ﴾ جاران ومجروران، متعلقان به، والجملة الفعلية جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة، ﴿الرَّجِيمِ﴾: صفة للشيطان، ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، والضمير للشأن، أو للشيطان كما مرَّ، ﴿لَيْسَ﴾ فعل ماض ناقص، ﴿لَهُ﴾: خبر ﴿لَيْسَ﴾ مقدمٌ، ﴿سُلْطَانٌ﴾: اسمه مؤخر، ﴿عَلَى الَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿سُلْطَانٌ﴾ لأنه مصدر بمعنى التَّسلُّط، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنّ﴾، وجملة ﴿إِنّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل جملة محذوفة هي جواب الأمر، تقديره: فإن استعذت كفيت شره اهـ شيخنا، ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ﴾: جار
﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)﴾.
﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿بَدَّلْنَا آيَةً﴾: فعل وفاعل ومفعول، ﴿مَكَانَ آيَةٍ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿بَدَّلْنَا﴾ والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية معترضة، لاعتراضها بين الشرط وجوابه، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾، وجملة ﴿يُنَزِّلُ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما ينزله، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة، ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، ﴿أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب، ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾: مبتدأ ومضاف إليه، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية جملة إضرابية مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة، ﴿نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿نَزَّلَهُ﴾: فعل ومفعول، ﴿رُوحُ الْقُدُسِ﴾: فاعل مرفوع، ومضاف إليه، ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾:
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية و ﴿اللام﴾ موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿نَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَقُولُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر سادٍّ مسدَّ مفعولي علم، ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾: مقول محكي لـ ﴿يَقُولُونَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، ﴿يُعَلِّمُهُ﴾: فعل ومفعول أول، ﴿بَشَرٌ﴾: فاعل، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: إنما يعلمه هذا القرآن بشر، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾، ﴿لِسَانُ الَّذِي﴾: مبتدأ ومضاف إليه، ﴿يُلْحِدُونَ﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق به، ﴿أَعْجَمِيٌّ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿وَهَذَا لِسَانٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، ﴿عَرَبِيٌّ﴾: صفة ﴿لِسَانٌ﴾، ﴿مُبِينٌ﴾ صفة ﴿عَرَبِيٌّ﴾ أو صفة ثانية لِـ ﴿لِسَانٌ﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٠٥)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ صلة الموصول، {بِآيَاتِ
﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾.
﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، أو الخبر جملة الجواب أو الشرط أو هما، ﴿كَفَرَ﴾: فعل ماض، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿كَفَرَ﴾، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فعليه غضب من الله، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء من الجواب المحذوف، ﴿أُكْرِهَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ﴾: مبتدأ وخبر، ﴿بِالْإِيمَانِ﴾: متعلق بـ ﴿مُطْمَئِنٌّ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب حال من نائب فاعل، ﴿أُكْرِهَ﴾.
﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٦)﴾.
﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لكن﴾: حرف استدراك ﴿مَنْ﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب أو الشرط، ﴿شَرَحَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿بِالْكُفْرِ﴾: متعلق به، ﴿صَدْرًا﴾: مفعول به، ﴿فَعَلَيْهِمْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية، ﴿عليهم﴾ جار ومجرور، خبر مقدم، ﴿غَضَبٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: صفة لـ ﴿غَضَبٌ﴾، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مِنَ﴾ الشرطية، علي كونها جوابًا لها، ويجوز أن
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (١٠٧)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ ﴿بِأَنَّهُمُ﴾: جارٌ وناصب واسمه، الجار والمجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿الْحَيَاةَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء، ﴿عَلَى الْآخِرَةِ﴾: متعلق بـ ﴿اسْتَحَبُّوا﴾، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ﴾: فعل ومفعول، ﴿الْكَافِرِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في محل الجر معطوفة على جملة ﴿أَنَّ﴾ الأولى.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٠٨) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٠٩)﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة ﴿طَبَعَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ متعلق به، ﴿وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾: معطوفان على ﴿قُلُوبِهِمْ﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول ﴿وَأُولَئِكَ﴾ مبتدأ، ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل، ﴿الْغَافِلُونَ﴾ خبر، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها، ﴿لَا جَرَمَ﴾: فعل ماض بمعنى حقَّ، مركَّبٌ من حرف وفعل تركيبًا مزجيًّا مبنيٌّ على الفتح، ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾: متعلق بـ ﴿الْخَاسِرُونَ﴾، ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل؛ ﴿الْخَاسِرُونَ﴾: خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لجرم، والتقدير: حق خسرانهم في الآخرة، والجملة الفعلية مستأنفة.
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)﴾.
﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١١١)﴾.
﴿يَوْمَ﴾: مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر يوم تأتي، أو ظرف متعلق بـ ﴿رَحِيمٌ﴾ في قوله: ﴿لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، ﴿تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾، ﴿تُجَادِلُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾، ﴿عَنْ نَفْسِهَا﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾، ﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ﴾: فعل ونائب فاعل، معطوف على ﴿تَأْتِي﴾؛ أي: ويوم توفَّى كل نفس، ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿وَتُوَفَّى﴾، ﴿عَمِلَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما عملته، ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُظْلَمُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حالٌ من ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾.
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، ﴿مَثَلًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿ضرب﴾، لأنه بمعنى جَعَل، ﴿قَرْيَةً﴾ مفعول أول لِـ ﴿ضَرَبَ﴾، وأُخِّرت لتتصل بصفاتها، والجملة الفعلية مستأنفة، ﴿كَانَتْ آمِنَةً﴾: فعل ناقص وخبره، واسمه ضميرٌ يعود على ﴿قَرْيَةً﴾ ﴿مُطْمَئِنَّةً﴾: خبر ثان لـ ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل النصب صفة لـ ﴿قَرْيَةً﴾، ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا﴾: فعلٌ ومفولٌ به وفاعلٌ ﴿رَغَدًا﴾: حال من الرزق، والجملة الفعلية في محل النصب صفة ثانية لـ ﴿قَرْيَةً﴾. ﴿مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يأتي﴾، ﴿فَكَفَرَتْ﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب، ﴿كفرت﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿قَرْيَةً﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿يأتي﴾، ﴿بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿كفرت﴾ ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل، ﴿لِبَاسَ الْجُوعِ﴾: مفعول ثان لـ ﴿أذاق﴾، ﴿وَالْخَوْفِ﴾: معطوف على ﴿الْجُوعِ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿كفرت﴾، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أذاق﴾، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَصْنَعُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلةٌ لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كانوا يصنعونه.
﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿جَاءَهُمْ رَسُولٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل، ﴿مِنْهُمْ﴾: صفة لـ ﴿رَسُولٌ﴾، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿جاء﴾ ﴿فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿كذبوه﴾، ﴿وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من مفعول ﴿أَخَذَهُمُ﴾.
﴿فَكُلُوا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أيها المؤمنون حال أهل هذه القرية، وأردتم بيان ما هو النصيحة لكم.. فأقول لكم: كُلُوا مما رزقكم الله، ﴿كلوا﴾: فعل وفاعل، ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلّق بـ ﴿كُلُوا﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقولٌ لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل، والجملة صلةٌ لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما رزقكموه الله، وهو المفعول الثاني لـ ﴿رزق﴾ ﴿حَلَالًا﴾: حال من الضمير المحذوف، ﴿طَيِّبًا﴾: صفة ﴿حَلَالًا﴾. ﴿وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿كلوا﴾ ﴿إِن﴾ حرف شرط، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، ﴿إِيَّاهُ﴾: مفعول مقدم لما بعده، وجملة ﴿تَعْبُدُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾ وجواب ﴿إنْ﴾ الشرطية محذوف، تقديره: إن كنتم إياه تعبدون فاشكروا له سبحانه، وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، ﴿حَرَّمَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿عَلَيْكُمُ﴾، متعلق بـ ﴿حَرَّمَ﴾، ﴿الْمَيْتَةَ﴾: مفعول به لـ ﴿حَرَّمَ﴾، ﴿وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾: معطوفان على ﴿الْمَيْتَةَ﴾، ﴿وَمَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب معطوفة على ﴿الْمَيْتَةَ﴾ أيضًا، ﴿أُهِلَّ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لِغَيْرِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿أُهِلَّ﴾، ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، و ﴿الباء﴾ بمعنى عند؛ أي: عند ذبحه، ﴿فَمَنِ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم تحريم ما ذكر عليكم وأردتم بيان حكم ما إذا اضطررتم إليه.. فأقول
﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١٧)﴾.
﴿وَلَا تَقُولُوا﴾: جازم وفعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿لِمَا﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر بمعنى في، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل الجر باللام، ﴿تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: لما تصفه وتذكره ألسنتكم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَقُولُوا﴾. ﴿الْكَذِبَ﴾: مفعولٌ به لـ ﴿تَقُولُوا﴾ لأنه بمعنى تذكروا، ﴿هَذَا حَلَالٌ﴾. مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب بدل من ﴿الْكَذِبَ﴾ ﴿وَهَذَا حَرَامٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿هَذَا حَلَالٌ﴾، والتقدير: ولا تقولوا في شأن ما تصفه ألسنتكم من البهائم الكذب هذا حلال وهذا حرام، ﴿لِتَفْتَرُوا﴾: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام العاقبة، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق به، ﴿الْكَذِبَ﴾: مفعول ﴿تفتروا﴾، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لافترائكم الكذب على الله، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَقُولُوا﴾. ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، ﴿يَفْتَرُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق به، ﴿الْكَذِبَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، وجملة ﴿لَا يُفْلِحُونَ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾، وجمله ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿مَتَاعٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: منفعتهم
﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨)﴾.
﴿وَعَلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿حَرَّمْنَا﴾ الآتي، وجملة ﴿هَادُوا﴾ صلة الموصول، ﴿حَرَّمْنَا مَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، ﴿قَصَصْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلق به، ﴿مِن قبلُ﴾: متعلق بـ ﴿حرمنا﴾ أو بقصصنا، وجملة ﴿عَلَيْكَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما قصصناه عليك، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾: نافٍ وفعل وفاعل، ومفعول، والجملة مستأنفة، ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لكن﴾: حرف استدراك ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾: مفعول به لما بعده، وجملة ﴿يَظْلِمُونَ﴾ خبر ﴿كَانُوا﴾، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾.
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف للترتيب الذكري، أو بمعنى واو الاستئناف، ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بخبر ﴿إِنَّ﴾ الآتي في آخر الآية، وهو قوله: ﴿لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، والتقدير: ثم إن ربك لغفور رحيم للذين عملوا، ﴿عَمِلُوا السُّوءَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، ﴿بِجَهَالَةٍ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول، ﴿ثُمَّ تَابُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على جملة الصلة، ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تَابُوا﴾، ﴿وَأَصْلَحُوا﴾: معطوف على ﴿تَابُوا﴾، ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿مِنْ بَعْدِهَا﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿إِنَّ﴾ الثانية، تقديره: إن ربك لغفور رحيم لهم من بعدها، وجملة ﴿إِنَّ﴾ الثانية مؤكدة لجملة ﴿إِنَّ﴾ الأولى ﴿لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ اللام المزحلقة وخبران لـ ﴿إن﴾. والله أعلم.
﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾؛ أي: أردت قراءته، كما تقول إذا أكلت فقل: باسم الله، وإذا سافرت فتأهب ﴿الرَّجِيمِ﴾ فعيل بمعنى مفعول؛ أي: المرجوم المبعد من رحمة الله، ﴿سُلْطَانٌ﴾ مصدر بمعنى التسلط، وهو الاستيلاء والتمكن بالقهر اهـ.
"شهاب" ﴿يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ والتولي الطاعة، يقال: توليته؛ أي: أطعته، وتوليت عنه؛ أي: أعرضت عنه.
﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً﴾ التبديل رفع شيء ووضع غيره مكانه، وتبديل الآية نسخها بآية أخرى، ﴿رُوحُ الْقُدُسِ﴾ والقدس - بضم الدال وسكونها - الطهارة، والمراد به اسم المفعول، والإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: الروح المقدس؛ أي: المطهر، وهو جبريل عليه السلام، سمي بذلك لأنه ينزل بالقدس؛ أي: بما يطهر النفوس من القرآن والحكمة والفيض الإلهي، ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالحكمة المقتضية له، ﴿يُلْحِدُونَ﴾ والإلحاد الميل، يقال لحد وألحد إذا مال عن القصد، ومنه سمي العادل عن الحق مُلْحِدًا، ومنه لحد القبر، لأنه حفرةٌ مائلةٌ عن وسطه، ﴿أَعْجَمِيٌّ﴾ الأعجمي الذي لم يتكلم بالعربية، وقال الراغب: الأعجم من في لسانه عجمة، عربيًّا كان أو غير عربي، اعتبارًا بقلة فهمه، والأعجمي منسوب إليه اهـ. "سمين"، ويقال: رجل أعجم، وامرأة عجماء، إذا كانا لا يفصحان عن مرادهما، ومن ذلك زياد الأعجم، كان عربيًّا في لسانه لكنةٌ، والحاصل أن الأعجمي هو الذي لا يفصح وإن كان عربيًّا، والعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحًا كما في "روح البيان".
﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ﴾؛ أي: تلفظ وتكلم بالكفر، أو فعل فعلًا مكفرًا، سواء كان مختارًا في ذلك أو مكرهًا عليه، فالاستثناء متصل اهـ شيخنا، ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ﴾؛ أي: على التلفظ بكلمة الكفر، ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ﴾ من الاطمئنان، وهو سكون النفس بعد انزعاجها، والمراد الثبات على ما كان عليه بعد ازعاج الإكراه، ﴿مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾؛ أي: فتحه به واعتقده، وطاب به نفسًا، ﴿اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾؛ أي: آثروها وقدموها على الآخرة، {مِنْ بَعْدِ مَا
﴿رَغَدًا﴾ يقال: رغد العيش رغادة اتسع ولسان، فهو رغدٌ ورغيدٌ، ورغد رغدًا من باب تعب لغةٌ، فهو راغدٌ، وهو في رغد من العيش؛ أي: رزق واسع، وأرغد القوم بالألف أخصبوا، والرغيدة الزبد اهـ "مصباح" ﴿بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾ جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع وأدرع، أو جمع نعم، كبؤسٍ وأبؤس اهـ "بيضاوي"، والمراد بها نعمة الرزق والأمن المستمر، ويحتمل أنه جمع نعماء بفتح النون والمد، وهي بمعنى النعمة، وهي "المصباح": والنعماء وزان الحمراء مثل النعمة، وجمع النعمة نعمٌ، مثل سدرة وسدر، وأنعم أيضًا مثل أفلس، وجمع النعماء أنعم، مثل البأساء يجمع على أبؤس اهـ.
﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ﴾ يقولون: له وجه يصف الجمال، وعينٌ تصف السحر، يريدون أنه جميل، وأن عينه تفتن من رآها، لأنه لما كان وجهه منشأ الجمال وعينه منبعًا للفتنة والسحر.. كان كلٌّ منهما كأنه إنسانٌ عالمٌ بكنههما، محيطٌ بحقيقتهما، يصفهما للناس أجمل وصف، ويعرفهما أتم تعريف، وعلى هذا الأسلوب جاء قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ﴾ إذ جعل الكذب كأنه حقيقةٌ مجهولةٌ، وكلامهم الكذب يشرح تلك الحقيقة ويوضحها، كان ألسنتهم لكونها موصوفة بالكذب هي حقيقته، ومنبعه الذي يعرف منه، ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ والجهالة هنا الطيش وعدم التدبر في العواقب.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾ حيث عبر عن الإرادة بالقراءة على طريقة إطلاق اسم المسبب على السبب، إيذانًا بأنَّ المراد هي الإرادة المتصلة بالقراءة.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾.
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ وقوله: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾، أو بين قوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ وقوله: ﴿عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
ومنها: الاعتراض في قوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ فهذه الجملة اعتراضية بين الشرط وجوابه، لبيان الحكمة الإلهية في النسخ، وفيه أيضًا الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وذكر الاسم الجليل لتربية المهابة في النفس.
ومنها: الطباق بين ﴿أَعْجَمِيٌّ﴾ و ﴿عَرَبِيٌّ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ﴾ حيث استعار اللسان الذي هو حقيقةٌ في الجارحة للغة والكلام، كقول الشاعر:
لِسَانُ السُّوْءِ تَهْدِيْهَا إلَيْنَا | وَخُنْتَ وَمَا حَسِبْتُكَ أَنْ تَخُونَا |
ومنها: التعريض في قوله: ﴿وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ لأنَّ فيه تعريضًا بحصول أضداد ذلك لغيرهم من الكفار كما في "البيضاوي".
ومنها: الحصر في قوله: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ وهي اسمية الجملة، وضمير الفصل، وتعريف الطريقين، وفيه أيضًا التأكيد بالتكرار بين ﴿الْكَذِبَ﴾ و ﴿الْكَاذِبُونَ﴾ وبين الموصول وهو: ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ واسم الإشارة وهو ﴿أُولَئِكَ﴾ إذ ما صدقهما واحد كما في "الفتوحات"، وفيه أْيضًا
ومنها: تقديم الظرف في قوله: ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ﴾ وقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ إفادةً للاختصاص، وللدلالة على أنهم أحقاء بغضب الله وعذابه العظيم لاختصاصهم بعظم الجرم، وهو الارتداد.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ حيث شبه ذلك اللباس من حيث الكراهية بالطعم المر البشع، وحذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الإذاقة على طريقة الاستعارة المكنية.
ومنها: إضافة المشبه به إلى المشبه في قوله: ﴿لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ كالإضافة في لجين الماء.
ومنها: الطباق بين ﴿حَلَالٌ﴾ و ﴿حَرَامٌ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)﴾.
المناسبة
مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما زيَّف (١) مذاهب المشركين في إثبات الشركاء والأنداد لله، وفي طعنهم نبوَّة الأنبياء والرسل، بنحو قولهم: لو أرسل الله رسلًا لأرسل ملائكة، وفي تحليلهم أشياء حرمها الله تعالى، وتحريم أشياء أحلها الله تعالى، وبالغ في رد هذه المعتقدات.. ختم السورة بذكر إبراهيم رئيس الموحدين، الذي كان المشركون يفتخرون به، ويقرون بوجوب الاقتداء به، ليصير ذكر طريقته حاملًا لهم على الإقرار بالتوحيد، والرجوع عن الشرك، ثم بأمر نبيه محمَّد - ﷺ - باتباعه، ثم بجعل الأسس التي يبني عليها دعوته هي الحكمة والموعظة الحسنة، والجدل بالحسنى، ثم بأمره باللين في العقاب إن أراده، أو بترك العقاب وهو أفضل للصابرين، ثم بأمره بجعل الصبر رائده في جميع أعماله، ونهيه من الحزن على كفر قومه، وأنهم لم يجيبوا دعوته، وأنهم يمكرون به، فالله ينصره عليهم، ويكفيه أذاهم، فقد جرت سنته بأن العاقبة للمتقين، والخذلان للعاصين الخائنين.
أسباب النزول
قوله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (٢) الحاكم والبيهقي - في "الدلائل" - والبزَّار عن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - وقف على حمزة حين استشهد وقد مثل به فقال: "لأمثلن بسبعين منهم مكانك" فنزل جبريل والنبيُّ - ﷺ - واقف بخواتيم سورة النحل ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ...﴾ إلى آخر السورة، فكفَّ رسول الله - ﷺ -، وأمسك عما أراد، وكفَّر عن يمينه، وأخرج الترمذي وحسّنه، والحاكم عن أبيِّ بن كعب قال: لمَّا (٣) كان يوم أحد أُصيب من الأنصار أربعةٌ وستون، ومن المهاجرين ستةٌ منهم حمزة فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا من الدهر.. لنزيدن على عدتهم مرتين، فلما كان يوم فتح مكة.. أنزل الله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا...﴾ الآية، فقال رجلٌ: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله - ﷺ -: "كُفُّوا عن القوم إلا أربعة" هذا حديث حسن غريب من حديث أبي بن كعب، وظاهر هذا تأخر نزولها إلى الفتح، وفي الحديث الذي قبله نزولها بأحد، وجمع ابن الحصار بأنها نزلت أولًا بمكة، ثم ثانيًا بأحد، ثم ثالثًا يوم الفتح تذكيرًا من الله لعباده.
(٢) لباب النقول.
(٣) زاد المسير ولباب النقول.
١٢٠ - ﴿إنَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ الخليل عليه السلام ﴿كَانَ﴾ على انفراده ﴿أُمَّةً﴾ لكماله في صفات الخير، وجمعة الفضائل، وهو رئيس أهل التوحيد، ولأنه كان مؤمنًا وحده، والناس كلهم كانوا كفارًا، والأمة في الأصل الجماعة الكثيرة، وسمي إبراهيم أمة لأنه قد جمع من الفضائل والكمالات ما لو تفرق لكفى لأمةٍ، ألا ترى أبا نواس إذ يقول لهارون الرشيد مادحًا:
وَلَيْس عَلَى الله بِمُسْتَنْكَرٍ | أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فيْ وَاحِدِ |
١ - أنه وحده كان أمة، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - إنه كان عنده عليه الصلاة والسلام من الخير ما كان عند أمة، فهو رئيس الموحدين كسر الأصنام، وجادل الكفار، ونظر في النجوم، ودرس الطبيعة الكونية، ليطمئن قلبه بالإِسلام.
٢ - أنه كان ﴿قَانِتًا﴾؛ أي مطيعًا ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى قائمًا بأمره.
٣ - أنه كان ﴿حَنِيفًا﴾؛ أي: مائلًا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق، متبعًا له لا يفارقه ولا يحيد عنه.
٤ - أنه عليه السلام ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ في أمر من أمور دينهم، بل كان من الموحدين في الصغر والكبر، فهو الذي قال للملك في عصره: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾، وهو الذي أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله: ﴿لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ وكسر الأصنام، حتى ألقوه لأجلها في النار فكانت عليه بردًا وسلامًا.
وبالجملة: فقد كان غارقًا في بحار التوحيد، مستغرقًا في حب الإله المعبود، وفي ذلك رد على كفار قريش، إذ قالوا: نحن على ملة إبراهيم، وعلى اليهود الذين أشركوا وقالوا: عزير ابن الله، مع زعمهم أنَّ إبراهيم كان على مثل ما هم عليه، ونحو الآية قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا
١٢١ - ٥ أنه كان ﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ﴾؛ أي: لأنعم الله سبحانه وتعالى كما قال: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧)﴾؛ أي: قام بجميع ما أمره الله تعالى به، وفي هذا تعريض بكفار قريش الذين جحدوا بأنعم الله، فأصابهم الجوع والخوف، كما تقدم ذكره في المثل السابق، روي أن إبراهيم - عليه السلام - كان لا يتغذى إلا مع ضيفٍ، فلم يجد ذات يوم ضيفًا، فأخَّر غذاءه، فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام، فأظهروا أنَّ بهم علَّة الجذام، فقال: الآن يجب عليَّ مؤاكلتكم، فلولا عزَّتكم على الله تعالى.. لما ابتلاكم بهذا البلاء.
٦ - أنه تعالى ﴿اجْتَبَاهُ﴾ واصطفاه واختاره للنبوة والرسالة، كما قال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (٥١)﴾.
٧ - ﴿و﴾ أنه تعالى ﴿هداه﴾ في الدعوة ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛ أي: إلى طريق موصل إلى الله تعالى، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع إرشاد الخلق إلى ذلك والدعوة إليه.
١٢٢ - ٨ ﴿و﴾ نحن ﴿آتيناه﴾؛ أي: أعطيناه ﴿فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾؛ أي: ولدًا صالحًا، وسيرة حسنة عند كل أهل الأديان، فجميع أهل الملل يترضون عن إبراهيم، ولا يكفر به أحدٌ؛ أي: إنه سبحانه حببه إلى جميع الخلق، فجميع أهل الأديان مسلميهم ونصاراهم ويهودهم يعترفون به، وكفرة قريش لا فخر لهم إلّا به، وقد أجاب الله دعاءه في قوله ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤)﴾.
٩ - ﴿وَإِنَّهُ﴾ عليه السلام ﴿فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾؛ أي: لمن أصحاب الدرجات العالية في الجنة؛ أي: إنه في الآخرة في زمرة الصالحين، وهو معهم في الدرجات العلى من الجنة إجابةً لدعوته حيث قال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣)﴾.
١٢٣ - وبعد أن وصف إبراهيم بهذه الصفات الشريفة التي بلغت الغاية في علو المرتبة، أخبر أنه أمر نبيه محمدًا - ﷺ - باتباعه فقال: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ أيها
أي: أوحينا إليك باتباع ملَّة إبراهيم (٣) في كيفية الدعوة إلى التوحيد، وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة، وإتيان الدلائل مرةً بعد أخرى، بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن حالة كون إبراهيم ﴿حَنِيفًا﴾؛ أي: مائلًا من الباطل إلى الحق ﴿و﴾ الحال أنه ﴿مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ بل كان قدوة الموحدين، وهو تكريرٌ لما سبق لزيادة تأكيد، وتقريرٌ لنزاهته - عليه السلام - عمَّا هم عليه من عقيدةٍ وعملٍ.
١٢٤ - ثم نعى على اليهود ما اختلفوا فيه، وهو يوم السبت فقال: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ﴾؛ أي (٤): إنما جعل وبال يوم السبت، وهو المسخ قردةً ﴿عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾؛ أي: في السبت فأحلوا الصيد فيه تارةً، وحرَّموه أخرى، وكان من الحتم عليهم أن يتفقوا فيه على كلمةٍ واحدةٍ، بعد أن أمروا بالكف عن الصيد فيه، كما أنَّ وبال التحريم والتحليل من المشركين من عند أنفسهم واقعٌ عليهم لا محالة، وقرأ الحسن وأبو حيوة: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ﴾ بفتح الجيم والعين، و ﴿السَّبْتُ﴾ بنصب التاء والفاعل ضمير الله، أو المعنى إنما جعل السبت؛ أي: إنما (٥) فرض تعظيم يوم السبت والتخلِّي فيه للعبادة، وترك الصيد، فتعدية جعل
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
(٤) المراغي.
(٥) روح البيان.
وبعد ما اختارت اليهود يوم السبت ابتلاهم الله تعالى بتحريم الصيد فيه، فافترقوا فرقتين: فرقةٌ مطيعة لأمر الله فتركوا الصيد فيه فنجوا من المسخ، وفرقةٌ مخالفةٌ لأمر الله فاصطادوا فمسخهم قردةً. انتهى.
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنَّ اليهود كانوا يزعمون أنَّ السبت من شرائع إبراهيم - عليه السلام - فأخبر الله سبحانه أنه إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه، ولم يجعله على إبراهيم، ولا على غيره، ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمَّد ﴿لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: ليفصل بين الفريقين المختلفين فيه ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ من شأن السبت وغيره؛ أي: يفصل ما بينهما من الاختلاف، فيجازى كل فريق بما يستحق من ثواب وعقاب، فيجازي المطيع بالثواب،
١٢٥ - ثم فصل سبحانه ما أمر باتباع إبراهيم فيه فقال: ﴿ادْعُ﴾ يا محمَّد الناس كافةً، حذف المفعول إيذانًا بالعموم من سبيل الشيطان ﴿إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ ودينه، وهو الإِسلام الموصل إلى الجنة والزلفى ﴿بِالْحِكْمَةِ﴾؛ أي: بالحجة (٢) القطعية المفيدة للعقائد الحقة، المزيحة لشبهة من دعي إليها فهي لدعوة خواص الأمة الطالبين للحقائق ﴿و﴾ بـ ﴿الموعظة الحسنة﴾؛ أي: الدلائل الإقناعية، والحكايات النافعة فهي لدعوة عوامهم، يقال: وعظه يعظه عظة وموعظة إذا ذكره ما يلين قلبه من الثواب والعقاب، فاتَّعظ كما في "القاموس"، ﴿وَجَادِلْهُمْ﴾؛ أي: ناظر معانديهم وخاصمهم ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾؛ أي: بالطريقة التي هي أحسن طرق المناظرة والمجادلة، من الرفق اللين، واختيار الوجه الأيسر، واستعمال المقدمات المشهورة، تسكينًا لشغبهم، وإطفاءً للهبهم، كما فعله الخليل - عليه السلام - والآية دليل على أن المناظرة والمجادلة في العلم جائزة إذا قصد بها إظهار الحق، وإنما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقًّا وغرضه صحيحًا، وكان خصمه مبطلًا وغرضه فاسدًا.
فالناس على ثلاثة أقسام (٣):
الأول: أصحاب العقول الصحيحة، الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها.
والثاني: أصحاب النظر السليم، الذين لم يبلغوا حدّ الكمال، ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
أي: ولما أمر الله محمدًا - ﷺ - باتباع إبراهيم.. بيَّن الشيء الذي أمره بمتابعته فيه، وهو أن يدعو الناس بأحد هذه الطرق الثلاثة، وهي الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالطريق الأحسن.
ومجمل المعنى (١): أي ادع أيها الرسول من أرسلك إليهم ربك بالدعاء إلى شريعته التي شرعها لخلقه بوحي الله الذي يوحيه إليك، وبالعبر والمواعظ التي جعلها في كتابه حجةً عليهم، وذكرهم بها في تنزيله، كالذي عدده في هذه السورة، وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها، بأن تصفح عما نالوا به عرضك من أذى، وترفق بهم بحسن الخطاب، كما قال في آية أخرى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦)﴾ الآية، وقال آمرًا موسى وهارون - عليهما السلام - حين بعثهما إلى فرعون: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤)﴾، ثم توعد سبحانه ووعد فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمَّد ﴿هُوَ أَعْلَمُ﴾ منك ومن المخلوقين، أو هو العالم لا غيره ﴿مَنْ يَضِلُّ﴾ وأعرض ﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾ سبحانه التي أمرك بدعوة الخلق إليها وعن قبولها ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ إليها، والقابلين لها؛ أي (٢): إنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاثة، وحصول الهداية لا يتعلق بك، فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس المظلمة الكدرة، وباهتداء النفوس المشرقة الصافية، فيجازي كلًّا منهم
(٢) المراح.
أي: إنَّ ربك أيها الرسول هو أعلم بمن جار عن قصد السبيل من المختلفين في السبت وغيره، وأعلم بمن كان منهم سالكًا قصد السبيل ومحجة الحق، وهو مجازيهم جميعًا حين وردوهم إليه بحسب ما يستحقون.
وخلاصة ذلك: اسلك في الدعوة والمناظرة الطريق المثلى، وهي الدعوة بالتي هي أحسن، وليس عليك غيرها، أمَّا الهداية والضلال والمجازاة عليها فإلى الله سبحانه لا إلى غيره، وإذ هو أعلم بحال من لا يرعوي عن الضلال لسوء اختياره، وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء، لما ينطوي بين جنبيه من الخير فما شرعه لك في الدعوة هو الذي تقتضيه الحكمة، وهو كافٍ في هداية المهتدين، وإزالة عذر الضالين.
١٢٦ - ولما أمر الله سبحانه رسوله - ﷺ - بالدعوة، وبين طريقها، وكانت تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم، والحكم عليهم بالكفر والضلالة، وذلك مما يحمل أكثرهم على إيذاء الداعي، إما بقتله، أو بضربه، أو بشتمه، كما أن الداعي يدعوه طبعه إلى تأديب أولئك السفهاء تارةً بالقتل، وأخرى بالضرب.. لا جرم أمر سبحانه المحقين برعاية العدل والإنصاف في العقاب، وترك الزيادة فيه فقال: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ﴾؛ أي: وإن أردتم أيها المؤمنون معاقبة من ظلمكم ﴿فَعَاقِبُوا﴾؛ أي: فجازوه ﴿بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾؛ أي: بمثل ما فعل بكم من القتل والضرب والشتم، ولا تزيدوا عليه، لأنَّ الزيادة ظلم، سمي الفعل الأول عقوبةً، والعقوبة هي الثانية لازدواج الكلام ومشاكلته، كقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ فالثانية ليست بسيئة، والمعنى إن صنع بكم صنيع سوء من قتل أو نحوه.. فقابلوه بمثله، ولا تزيدوا عليه.
روي: أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد، بقروا بطونهم، وقطعوا مذاكيرهم، فرأى النبي - ﷺ - حمزة مبقور البطن، فقال: "أمَّا والذي أحلف به لأمثلن بسبعين مكانك"، فنزلت، فكفر عن يمينه، وكف عما أراد، ولا خلاف في تحريم المثلة، لورود الأخيار بالنهي عنها، حتى بالكلب العقور.
﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ﴾ وعفوتم، وتركتم المعاقبة بالمثل ﴿لَهُوَ﴾ بضم الهاء وسكونها قراءتان سبعيتان، والضمير يرجع إلى مصدر صبرتم، والمراد بالصابرين المخاطبون؛ أي: ولئن صبرتم لصبركم ﴿خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾؛ أي: خير لكم، فوضع (١) الصابرين موضع الضمير ثناءً من الله عليهم؛ لأنهم صابرون على الشدائد، يعني: ولئن عفوتم وتركتم استيفاء القصاص وصبرتم.. كان ذلك العفو والصير خيرًا من استيفاء القصاص، وفيه أجرٌ للصابرين العافين؛ أي: وإن (٢) عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم.. فلكم في العقاب إحدى طريقين:
١ - أن تعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة.
٢ - أن تصبروا وتتجاوزوا عما صدر منه من الذنب، وتصفحوا عنه، وتحتسبوا عند الله ما نالكم به من الظلم، وتكلوا أمركم إليه، والله يتولى عقوبته، والصبر خير للصابرين من الانتقام، لأنَّ الله ينتقم من الظالم بأشد مما كان ينتقم منه لنفسه.
والخلاصة: أنكم إن رغبتم في القصاص - فاقنعوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه، فإنَّ الزيادة ظلمٌ، والظلم لا يحبه الله، ولا يرضى به، وإن تجاوزتم عن العقوبة وصفحتم.. ذلك خيرٌ وأبقى، والله هو الذي يتولى عقاب الظالم، ويأخذ بثأر المظلوم.
١٢٧ - ثم أمر رسوله بالصبر صراحةً بعد أن ندب إليه غيره تعريضًا، لأنه أولى
(٢) المراغي.
وقصارى ذلك: أنَّه (٢) نهى نبيه - ﷺ - أن يضيق صدره مما يلقى من أذى المشركين على تبليغهم وحي الله وتنزيله، كما قال: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ﴾ وقال: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ...﴾ الآية.
فالله كافيك أذاهم، وناصرك عليهم، ومؤيدك ومظهرك عليهم، فمهما حاولوا إيصال الأذى بك.. فإن الله مبعده عنك، ومحبط ما صنعوا، وهم لا يشعرون.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿ضَيْقٍ﴾ بفتح الضاد، وقرأ ابن كثير بكسرها، قال ابن السكيت: هما سواء، يعني المفتوح والمكسور، وقال الفراء: الضيق بالفتح: ما
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
١٢٨ - ثم ختم هذه السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾؛ أي: اجتنبوا الكفر والمعاصي على اختلاف أنواعها؛ أي: معهم بالولاية والتوفيق والفضل والحفظ ﴿و﴾ مع ﴿الذين هم محسنون﴾ بتأدية الطاعات والقيام بما أمروا بها منها، وقيل المعنى: إنَّ الله مع الذين اتقوا الزيادة في العقوبة، والذين هم محسنون في أصل الانتقام.
وفي الحديث: "إن للمحسن ثلاث علامات: يبادر في طاعة الله، ويجتنب محارم الله، ويحسن إلى من أساء إليه".
والمعنى: أي (١) إن الله مع الذين اتقوا محارمه فاجتنبوها خوفًا من عقابه، والذين يحسنون رعاية فرائضه والقيام بحقوقه ولزوم طاعته فيما أمرهم به وفي ترك ما نهاهم عنه.
ونحو الآية قوله تعالى لموسى وهارون: ﴿لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ وقول النبي - ﷺ - للصّديق وهما في الغار فيما حكى الله عنه: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾.
وقصارى ذلك: أنَّ الله تعالى ولي الذين تبتلوا إليه، وأبعدوا الشواغل عن أنفسهم، فلم يحزنوا لفوت مطلوب، ولم يفرحوا لنيل محبوب، والذين هم محسنون أعمالهم برعاية فرائضه، وأداء حقوقه على النحو اللائق بجلاله وكماله، وقد فسر النبي - ﷺ - الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه.. فإنه يراك".
والمعنى (٢): إن أردت أيها الإنسان أن أكون معك بالعون والفضل
(٢) المراغي.
والله سبحانه نسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يوفقنا للفقه في دينه، ويفتح لنا خزائن أسراره بحرمة كتابه وكنوز شريعته التي أنزلها على رسوله النبي الأمي، والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
الإعراب
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١)﴾.
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ﴾: ناصب واسمه، ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص، واسمه ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، ﴿أُمَّةً﴾ خبر ﴿كَانَ﴾ ﴿قَانِتًا﴾: صفة أولى لـ ﴿أُمَّةً﴾، ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق به، ﴿حَنِيفًا﴾: صفة ثانية لها، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿وَلَمْ يَكُ﴾: جازم وفعل ناقص مجزوم، واسمه ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: خبره، والجملة في محل النصب حال مؤكدة من الضمير المستكن في ﴿حَنِيفًا﴾. ﴿شَاكِرًا﴾: صفة ثالثة لـ ﴿أُمَّةً﴾، ﴿لِأَنْعُمِهِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿شَاكِرًا﴾ ﴿اجْتَبَاهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿وَهَدَاهُ﴾: فعل ومفعول، معطوف على ﴿اجْتَبَاهُ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، ﴿إِلَى صِرَاطٍ﴾: متعلق بـ ﴿هدى﴾ أو بـ ﴿اجتبى﴾ على سبيل التنازع، ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾: صفة ﴿صِرَاطٍ﴾.
﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢)﴾.
﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب مع تراخ، ﴿أَوْحَيْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿إِلَيْكَ﴾: جار ومجرور، متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿اجْتَبَاهُ﴾ ﴿أَنِ﴾ مصدرية أو مفسرة، ﴿اتَّبِعْ﴾: فعل أمر في محل النصب بـ ﴿أَنِ﴾ المصدرية، مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾: مفعول به لـ ﴿اتَّبِعْ﴾، ﴿حَنِيفًا﴾: حال من ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، وجملة ﴿اتَّبِعْ﴾ مع ﴿أَنِ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة، والتقدير: ثم أوحينا إليك باتباع ملة إبراهيم حنيفًا، ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ جملة مستأنفة أو في محل النصب معطوفة على ﴿حَنِيفًا﴾.
﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر، ﴿جُعِلَ السَّبْتُ﴾: فعل ونائب فاعل. وهو متعد إلى واحد؛ لأنه بمعنى فرض، والجملة مستأنفة، ﴿عَلَى الَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿جُعِلَ﴾، ﴿اخْتَلَفُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿اخْتَلَفُوا﴾، ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَيَحْكُمُ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿يحكم﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الرب سبحانه، ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يَحْكُمُ﴾، وكذا يتعلق به ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، وجملة ﴿يحكم﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿جَعَلَ﴾، ﴿فِيمَا﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿يحكم﴾، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿فِيهِ﴾: متعلق بما بعده، وجملة ﴿يَخْتَلِفُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)﴾.
﴿ادْعُ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، ومفعوله محذوف، تقديره: ادع الناس، والجملة مستأنفة، ﴿إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿ادْعُ﴾ ﴿بِالْحِكْمَةِ﴾: جار ومجرور، حال من فاعل ﴿ادْعُ﴾؛ أي: حالة كونك متلبسًا بالحكمة، ﴿وَالْمَوْعِظَةِ﴾: معطوف على ﴿الحكمة﴾، ﴿الْحَسَنَةِ﴾: صفة لـ ﴿الموعظة﴾، ﴿وَجَادِلْهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة ﴿ادْعُ﴾ ﴿بِالَّتِي﴾: متعلق بـ ﴿جادل﴾ ﴿هِيَ أَحْسَنُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول. ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل، ﴿أَعْلَمُ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾، ﴿بِمَنْ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿ضَلَّ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة صلة الموصول، ﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾: متعلق بـ ﴿ضَلَّ﴾ ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الرفع معطوفة على خبر ﴿إِنَّ﴾، ﴿بِالْمُهْتَدِينَ﴾ متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾.
﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿عَاقَبْتُمْ﴾: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، ﴿فَعَاقِبُوا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية، ﴿عاقبوا﴾: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، مبني على حذف النون، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿بِمِثْلِ مَا﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿عاقبوا﴾، ﴿عُوقِبْتُمْ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق به والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، ﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، أو عاطفة، و ﴿اللام﴾ موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿صَبَرْتُمْ﴾: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه
﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)﴾.
﴿وَاصْبِرْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: اعتراضية، ﴿ما﴾: نافية، ﴿صَبْرُكَ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿بِاللَّهِ﴾: جار ومجرور، خبر المبتدأ؛ أي: وما صبرك إلا حاصلٌ بمعونة الله وفضله، والجملة معترضة لاعتراضها بين المتعاطفين، ﴿وَلَا تَحْزَنْ﴾: جازم ومجزوم، معطوف على ﴿وَاصْبِرْ﴾، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿تَحْزَنْ﴾، ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَكُ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، واسمها ضمير يعود على محمَّد، ﴿فِي ضَيْقٍ﴾: خبرها، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَلَا تَحْزَنْ﴾، ﴿مِمَّا﴾ مكرهم بك، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿ضَيْقٍ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿مَعَ الَّذِينَ﴾: خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿اتَّقَوْا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على الموصول الأول، ﴿هُمْ مُحْسِنُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ حكى (١) ابن الجوزي عن ابن الأنباري أنه قال: إنَّ هذا مثل قول العرب فلانٌ رحمة، وفلان علامة ونسابة، يقصدون بهذا التأنيث
وإنما سمي إبراهيم - عليه السلام - أمةً لأنه اجتمع فيه من صفات الكمال وصفات الخير والأخلاق الحميدة ما اجتمع في أمة، ومنه قول الشاعر:
وَلَيْسَ عَلَى الله بِمُسْتَنْكَرٍ | أنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِيْ وَاحِدِ |
أحدها: قول ابن مسعود الأمة معلم الناس الخير، يعني أنه كان معلمًا الخير، يأتم به أهل الدنيا.
الثاني: قال مجاهد: إنه كان مؤمنًا وحده، والناس كلهم كفار، فلهذا المعنى كان أمةً وحده، ومنه قوله - ﷺ - في زيد بن عمرو بن نفيل: "يبعثه الله أمة وحده"، وإنما قال فيه هذه المقالة لأنه كان فارق الجاهلية وما كانوا عليه من عبادة الأصنام.
الثالث: قال قتادة: ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه ويرضونه، وقيل الأمة فعلة بمعنى مفعولة، وهو الذي يؤتم به، وكان إبراهيم - عليه السلام - إمامًا يقتدى به، دليله قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾، وقيل: إنه - عليه السلام - هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ومن تبعه ممتازين عمن سواهم بالتوحيد لله والدين الحق، وهو من باب إطلاق المسبب على السبب، وقيل: إنما سمي إبراهيم - عليه السلام - أمة لأنه قام مقام أمة في عبادة الله تعالى اهـ "خازن".
وحاصل ما ذكر له من الصفات تسعة بل عشرة، إذ قوله: (ثُمَّ أَوحَينا إِلَيْكَ...} إلخ، يرجع لوصف إبراهيم وتعظيمه بأن محمدًا - ﷺ - أمر باتباعه اهـ شيخنا.
﴿أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ الملة (١) اسمٌ لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء - عليهم السلام - من أمللت الكتاب إذا أمليته، وهو الدين بعينه، لكن باعتبار الطاعة له.
وتحقيق ذلك: أن الوضع مهما نسب إلى من يؤديه عن الله تعالى.. يسمى ملة، ومهما نسب إلى من يقيمه ويعمل به.. يسمى دينًا، وقال الراغب: الفرق بينهما أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي - عليه السلام - ولا تكاد توجد مضافةً إلى الله سبحانه وتعالى، ولا إلى آحاد الأمة، ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها، والمراد بملته عليه السلام الإسلام الذي عبر عنه آنفًا بالصراط المستقيم اهـ "أبو السعود".
﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا﴾؛ أي: إنما فرض تعظيم السبت، والتخلي فيه للعبادة، وترك الصيد فيه على اليهود الذين اختلفوا فيه، والسبت في الأصل مصدر سبت يسبت - من باب ضرب - سبتًا، بمعنى قطع، ثم سمي به يومٌ من أيام الأسبوع لانقطاع الأيام عنده، إذ هو آخر أيام الأسبوع، يجمع على أسبت وسبوت، وقال الزمخشري: سبتت اليهود إذا عظمت سبتها.
﴿بِالْحِكْمَةِ﴾ والحكمة المقالة المحكمة المصحوبة بالدليل الموضح للحق المزيل للشبهة، ﴿وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ الدلائل الظنية المقنعة للعامة، والجدل: الحوار والمناظرة لإقناع المعاند، ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ﴾ والعقاب في أصل اللغة: المجازاة على أذى سابق، ثم استعمل في مطلق العقاب.
﴿وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ﴾ والضيق بفتح الضاد وكسرها: الغم وانقباض الصدر، وفي "المصباح": ضاق الشيء ضيقًا، من باب سار، والاسم الضيق بالكسر، وهو خلاف اتسع، فهو ضيقٌ، وضاق صدره حرج، فهو ضيق أيضًا اهـ. أي: ولا تك في ضيق صدر من مكرهم، فهو من الكلام المقلوب الذي يسجع عليه عند أمن الالتباس، لأن الضيق وصف، فهو يكون في الإنسان، ولا يكون الإنسان فيه، وفيه لطيفةٌ أخرى وهو أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط به من جميع الجوانب.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: ﴿وَآَتَيناَهُ﴾ إذ مقتضى السياق أن يقال: وآتاه؛ أي: الله المذكور في قوله: ﴿قَانِتًا لِلَّهِ﴾، ونكتة الالتفات زيادة الاعتناء بشأنه اهـ شيخنا.
ومنها: الطباق بين ﴿الدُّنْيَا﴾ و ﴿الْآخِرَةِ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ لزيادة تأكيد وتقرير لنزاهته عما هم عليه من عقد وعمل.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا﴾.
ومنها: الطباق بين قوله ﴿بِمَنْ ضَلَّ﴾ وقوله: ﴿بِالْمُهْتَدِينَ﴾.
ومنها: المزاوجة والمشاكلة في قوله: ﴿فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ﴾ لأنه سمى الفعل المجازى عليه باسم الجزاء، على طريقة المشاكلة والمزاوجة، لأن تسمية الأذى الابتدائي معاقبةً من باب المشاكلة، لأنها في وضعها الأصلي تستدعي أن تكون عقيب فعل، نعم العرف جار على إطلاقها على ما يعذب به أحدٌ، وإن لم يك جزاء فعل.
ومنها: التصريح بالصبر في قوله: ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ﴾ بعد التعريض له في قوله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ﴾ حثًّا عليه على الوجه الآكد.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿صَبَرْتُمْ﴾ و ﴿الصَّابِرِينَ﴾، وبين ﴿اصْبِرْ﴾ ﴿وَمَا صَبْرُكَ﴾.
ومنها: الكلام المقلوب في قوله: ﴿وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ﴾ لأن الضيق وصف يكون في الإنسان، ولا يكون الإنسان فيه.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
ومجمل ما حوته هذه السورة الكريمة من الآداب والأحكام خمس وعشرون موضوعًا:
١ - استعجال المشركين للساعة.
٢ - ذكر الأدلة على أنه جل وعلا المتفرد بخلق العالم العُلوي والسفلي وخلق الإنسان.
٣ - الامتنان على عباده بخلق الأنعام، وما فيها من المنافع من أكلٍ وحمل أثقالٍ إلى البلاد البعيدة.
٤ - النعي على المشركين في عبادة الأصنام والأوثان.
٥ - إنذار المشركين بأن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات وبما أتاهم من العذاب من حيث لا يشعرون.
٦ - احتجاج المشركين بعدم الحاجة إلى إرسال الرسل، بأن ما هم فيه من كفر وضلال مقدر مكتوب عليهم، فلا فائدة في إرسالهم، وقد رد عليهم بأن وظيفة الرسل البلاغ والإنذار، لا خلق الهداية والإيمان.
٧ - إجمال دعوة الأنبياء بأنها عبادة الله واجتناب الطاغوت، ومن الناس من استجاب لدعوتهم، ومنهم من حقت عليه الضلالة.
٨ - إنكار المشركين للبعث والنشور، وحلفهم على ذلك، وتكذيب الله تعالى لهم فيما يقولون.
٩ - إنكار بعث محمَّد - ﷺ - بأنه رجلٌ لا ملكٌ، فكذبهم الله بأن الأنبياء جميعًا كانوا رجالًا لا ملائكة.
١٠ - إنذار المشركين بعذاب الخسف.
١١ - جعلهم الملائكة بنات الله مع حزنهم إذا بشر أحدهم بالأنثى.
١٢ - رحمة الله بعباده، وعدم مؤاخذتهم بذنوبهم، وأنه لو أخذهم ما ترك
١٣ - ذكر نعمه على عباده بإنزال اللبن من بين الفرث والدم، وأخذ الثمرات من النخيل والأعناب، والعسل من النحل. وأيضًا تفاضل الناس في الأعمار والأرزاق. وأيضًا ضرب الأمثال لدحض الشركاء والأنداد من دون الله.
١٤ - الامتنان على عباده بخلق السمع والبصر، وتسخير الطير في جو السماء، وجعل البيوت سكنًا، وجعله لنا سرابيل تقي الحر، وسرابيل تقي بأس العدو.
١٥ - جعل الأنبياء شهداء على أممهم، وعدم الإذن للكافرين في الكلام، وعدم قبول معذرتهم.
١٦ - الأمر بالعدل والإحسان وصلة الأرحام، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، والأمر بالعهود والوعود وضرب الأمثال لذلك.
١٧ - الأمر بالاستعاذة من الشيطان، وبيان أن سلطانه على المشركين.
١٨ - تكذيبهم للرسول إذا جاءهم بحكم لم يكن في شريعة من قبله من الأنبياء، وادعائهم بأن هذا القرآن إنما هو تعليم من عبد رومي، وردَّ الله عليهم ذلك. وأنه لا ضير على من كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، دون من شرح بالكفر صدرًا.
١٩ - دفاع كل نفس عن نفسها يوم القيامة، وجزاء كل نفس بما عملت.
٢٠ - ذكر ما حرمه الله تعالى من المطاعم، والنهي عن تقولهم على الله بغير علم. وذكر ما حرمه على اليهود بسبب ظلمهم.
٢١ - مدح إبراهيم - عليه السلام - ووصفه بصفات لم يوصف بها نبيٌّ غيره، ثم أمر النبي - ﷺ - باتباعه، وسلوك طريقته في العقاب والصبر على الأذى.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سبحانك لا علم لنا... إلَّا ما أَلْهَمْتَ لَنَا
لَكَ الشُّكْرُ يَا مَوْلاَنَا... عَلى مَا أَسْعَفْتَ لَنَا
شعر
يَا رَب لا تُحْينِي إلى زَمَنٍ... أكُونُ فيه كَلًّا على أَحَدِ
خُذْ بيدي قَبلَ أنْ أقُوْلَ لِمَنْ... أَلْقَاهُ عِنْدَ القِيَامِ خُذْ بِيَدِي
وكان الفراغ من مسودة هذا المجلد بالمسفلة حارة الرشد من مكة المكرمة في شهر رمضان المبارك في اليوم الثامن والعشرين منه، يوم السبت وقت الشروق، منتصف الساعة الأولى منه، من شهور سنة إحدى عشرة وأربع مثة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، بتاريخ سنة ٢٨/ ٩/ ١٤١١ هـ.
تم المجلد الخامس عشر من تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، ويليه المجد السادس عشر، وأوله سورة الإسراء.
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد السادس عشر»
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
[١٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أنزل القرآن موعظةً وشفاءً لما في الصدور، وجعله منهلًا عذبًا للورود والصدور، جمع فيه علوم الأولين والآخرين، فلا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، والصلاة والسلام على من أوحي إليه ذلك القرآن، من لوح الوجوب والأمر والشأن، سيدنا محمد الذي فسر الآيات في الأنفس والآفاق، على مراد الله الملك الخلاق، وعلى آله وصحبه المقتبسين من مشكاة أنواره، المغترفين من بحار أسراره، ومن تبعهم ممن تخلّق بالقرآن في كل زمان، ما تطاول المدى وطلع المرزمان.أما بعد: فإني لما فرغت من تفسير الجزء الرابع عشر من القرآن بعون الله وتوفيقه.. أردت الشّروع في تفسير الجزء الخامس عشر منه، مستمدًا منه التيسير والتوفيق؛ لأقوم الطريق فقلت.
سورة الإسراء
سورة الإسراء - وتسمى سورة بني إسرائيل، وسورة سبحان -: مكية، إلّا ثماني آيات، من قوله سبحانه: ﴿وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ﴾ إلى قوله: ﴿سُلْطانًا نَصِيرًا﴾ فتلك الآيات الثمانية مدنية. وهذا (١) قول قتادة. وقال مقاتل: فيها من المدني قوله: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ﴾، وقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ﴾، وقوله: ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ﴾ والتي تليها.
فضلها: ومما ورد في فضلها: ما روي (١) عن النبي - ﷺ - أنه قال: «من قرأ سورة بني إسرائيل فرقّ قلبه عند ذكر الوالدين، كان له قنطار في الجنة» والقنطار: ألف أوقية، ومئتا أوقية.
وأخرج أحمد (٢)، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن عائشة، أنّ النبي - ﷺ - (كان يقرأ كل ليلة سورة بني إسرائيل والزمر).
وأخرج البخاري، وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال في هذه السورة، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، هن من العتاق الأول، وهن من تلادي.
الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى - وجملة المنسوخ في سورة بني إسرائيل ثلاث آيات:
أولاهن: قوله تعالى: ﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما﴾ إلى قوله: ﴿كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا﴾ الآية نسخ بعض حكمها، وبقي البعض على ظاهره، فهو في أهل التوحيد محكم، وبعض حكمها في أهل الشرك منسوخ بقوله تعالى: ﴿ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ الآية.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ نسختا بآية السيف.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ﴾ إلى قوله: ﴿فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى﴾، الآية نسخت بالآية التي في سورة الأعراف، وهي قوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً...﴾ الآية.
(٢) المراغي.
١ - أنه سبحانه وتعالى ذكر في سورة النحل اختلاف اليهود في السبت، وهنا ذكر شريعة أهل السبت التي شرعها لهم في التوراة، فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: (إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل).
٢ - أنه لما أمر نبيه - ﷺ - بالصبر، ونهاه عن الحزن، وضيق الصدر من مكرهم في السُّورة السالفة.. ذكر هنا شرفه، وعلوّ منزلته عند ربه.
٣ - أنه لما ذكر في السورة السالفة نعمًا كثيرة حتى سميت لأجلها سورة النعم.. ذكر هنا أيضًا نعمًا خاصةً وعامّةً.
٤ - ذكر هناك أن النحل ﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ﴾ وهنا ذكر ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
٥ - أنه في تلك أمر بإيتاء ذي القربى، وكذلك هنا مع زيادة إيتاء المساكين، وابن السبيل.
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا (٨) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنْشُورًا (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٥)﴾.المناسبة
مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها (١): أنّه تعالى لما أمر نبيّه بالصبر، ونهاه عن الحزن عليهم، وأن يضيق صدره من مكرهم، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب، والسحر، والشعر، وغير ذلك مما رموه به.. أعقب تعالى ذلك بذكر شرفه، وفضله، وعلو منزلته عنده تعالى.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر ما أكرم به من اصطفاه من النبيين والمرسلين، فأكرم محمدا - ﷺ - بالإسراء، وأكرم موسى بالتوراة، وجعلها هدى لبني إسرائيل، ثم بيّن أنهم لم يعملوا بها، فحل بهم عذاب الدنيا والآخرة.. قفّى على ذلك بالثناء على القرآن الكريم، وبيان أنه يهدي إلى الصراط المستقيم، ويبشر المؤمنين بالأجر والثواب العظيم، وينذر الكافرين بالعذاب الأليم، ثم أردف ذلك بذكر طبيعة الإنسان، وأنه خلق عجولا قد يدعو على نفسه بالشر، أي: بالموت، والهلاك، والدمار، واللعنة كما يدعو لنفسه بالخير.
وعبارة أبي حيان هنا: لما ذكر (٢) تعالى من اختصه بالإسراء، وهو محمد - ﷺ - ومن آتاه التوراة، وهو موسى عليه السلام، وأنها هدًى لبني إسرائيل،
(٢) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر الهداية، والإرشاد بالقرآن الكريم.. قفّى على ذلك بالاستدلال بالآيات، والدلائل التي في الآفاق، وهي برهان نيّر لا ريب فيه، وطريق بيّن لا يضل من ينتحيه.
قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (١): أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا بين فيما سلف حال كتابه الذي يحوي النافع والضارّ من الأعمال، مما يكون به سعادة الإنسان، وشقاؤه في دينه ودنياه.. قفى على ذلك بذكر حال كتاب المرء، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعماله إلّا أحصاها، وأن حسنها وقبحها تابع لأخذه بما في الكتاب الأول، أو تركه لذاك، فمن أخذ به اهتدى، ومنفعة ذلك عائدة إليه، ومن أعرض عنه ضل وغوى، ووبال ذلك راجع عليه، ثم أكد عنايته بعباده، وأنه لا يعاقب أحدًا منهم إلا إذا أرسل الرسل يبلِّغون رسالات ربهم رحمة بهم، ورأفة عليهم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا...﴾ الآية، قال أبو القاسم سليمان الأنصاري (٢): لما وصل محمد - ﷺ - إلى الدرجات العالية، والمراتب الرفيعة، في المعارج أوحى الله إليه يا محمد، بم شرفك الله سبحانه وتعالى؟ قال: «يا رب بنسبتي إليك بالعبودية» فأنزل الله فيه ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ...﴾ الآية انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى...﴾ الآية، سبب نزولها: ما
(٢) البحر المحيط.