تفسير سورة الرّوم

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الروم من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

السورة التي يذكر فيها الروم
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
بسم الله اسم عزيز شفيع المذنبين جوده، بلاء المتهمين قصوده، ضياء الموحّدين عهوده.
وسلوة المحزونين ذكره، وحرفة «١» الممتحنين شكره.
اسم عزيز رداؤه كبرياؤه، وجبّار سناؤه بهاؤه، وبهاؤه علاؤه.
العابدون حسبهم عطاؤه، والواجدون حسبهم بقاؤه «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥)
الإشارة فى «الألف» إلى أنه ألف صحبتنا من عرف عظمتنا، وأنّه ألف بلاءنا من عرف كبرياءنا.
والإشارة فى «اللام» إلى أنه لزم بابنا من ذاق محابّنا، ولزم بساطنا من شهد جمالنا.
والإشارة فى «الميم» إلى أنه مكّن من قربنا من قام على خدمتنا، ومات على وفاتنا من تحقق بولائنا.
قوله: «غُلِبَتِ الرُّومُ» : سرّ المسلمون بظفر الروم على العجم- وإن كان الكفر يجمعهم- إلا أن الروم اختصوا بالإيمان ببعض الأنبياء، فشكر الله لهم، وأنزل فيهم الآية..
فكيف بمن يكون سروره لدين الله، وحزنه واهتمامه لدين الله؟
(١) الحرفة هنا معناها دأبه وديدنه (الوسيط).
(٢) لأن بقاءهم به خلف لهم عن كل شىء، فكل شىء زائل.
قوله جل ذكره: «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».
«قَبْلُ» إذا أطلق انتظم الأزل، و «بَعْدُ» إذا أطلق دلّ على الأبد فالمعنى الأمر الأزليّ لله، والأمر الأبديّ لله لأنّ الرّبّ الأزليّ والسّيّد الأبديّ الله.
لله الأمر يوم العرفان «١»، ولله الأمر يوم الغفران.
لله الأمر حين القسمة ولا حين، ولله الأمر عند النعمة وليس أي معين «٢».
ويقال: لى الأمر «مِنْ قَبْلُ» وقد علمت ما تفعلون، فلا يمنعنى أحد من تحقيق عرفانكم، ولى الأمر «مِنْ بَعْدُ» وقد رأيت ما فعلتم، فلا يمنعنى أحد من غفرانكم.
وقيل «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ» بتحقيق ودّكم، ولله الأمر من بعد بحفظ عهدكم:
إنى- على جفواتها- وبربّها وبكلّ متصل بها متوسل «٣»
«وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» :
اليوم إرجاف السرور وإنما يوم اللّقاء حقيقة الإرجاف
اليوم ترح وغدا فرح، اليوم عبرة وغدا حبرة، اليوم أسف وغدا لطف، اليوم بكاء وغدا لقاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٦]
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦)
(١) هكذا في م وهي في ص يوم (القربان)، والمعرفة والقرب يجريان في هذه الحياة الدنيا، أما الغفران فهو في الآخرة يوم الحساب.
(٢) هكذا في وهي في ص: (ولله الأمر عند النقمة وليس في معسر) وهي غامضة في الكتابة والمعنى، وقد آثرنا ما جاء في م لوضوحه.
(٣) فى موضع آخر من هذا المجلد...... نجد هذا البيت متبوعا بالبيت التالي (الذي فيه خبر إن) :
لأحبها وأحب منزلها الذي نزلت به وأحب أهل المنزل
[.....]
الكريم لا يخلف وعده لا سيما والصدق نعته.
يقول المؤمنون: منا يوم الميثاق وعد بالطاعة، ومنه ذلك اليوم وعد بالجنة، فإن وقع في وعدنا تقصير لا يقع في وعده قصور.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٧]
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧)
استغراقهم في الاشتغال بالدنيا، وانهما كهم في تعليق القلب بها.. منعهم عن العلم بالآخرة. وقيمة كلّ امرئ علمه بالله ففى الأثر عن عليّ- رضى الله عنه- أنه قال: أهل الدنيا على غفلة من الآخرة، والمشتغلون بعلم الآخرة كذلك بوجودها فى غفلة عن الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٨]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨)
إنّ من نظر حقّ النظر، ووضع النظر موضعه أثمر له العلم واجبا، فإذا استبصر بنور اليقين أحكام الغائبات، وعلم موعوده الصادق في المستأنف- نجا عن كدّ التردد والتجويز «١».
فسبيل من صحا عقله ألا يجنح إلى التقصير فيما به كمال سكونه.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٩]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩)
(١) التردد والتجويز آفتان تصيبان- فى نظر القشيري- العقل، بينما القلب والروح والسر وعين السر لا تصاب بهما.
سير النفوس في أقطار الأرض ومنا كها لأداء العبادات، وسير القلوب بجولان الفكر فى جميع المخلوقات، وغايته الظّفر بحقائق العلوم التي توجب ثلج الصدر- ثم تلك العلوم على درجات. وسير الأرواح في ميادين الغيب بنعت خرق سرادقات الملكوت، وقصاراه الوصول إلى محلّ الشهود واستيلاء سلطان الحقيقة. وسير الأسرار بالترقي عن الحدثان «١» بأسرها، والتحقق أولا بالصفات، ثم بالخمود بالكلية عمّا سوى الحقّ».
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ١٠]
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)
من زرع الشوك لم يحصد الورد، ومن استنبت الحشيش لم يقطف الثمار، ومن سلك طريق الغيّ لم يحلل بساحة الرشد.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ١١]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١)
يبدأ الخلق على ما يشاء، ثم يعيده إذا ما شاء على ما يشاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ١٢]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢)
شهودهم ما جحدوه في الدنيا عيانا، ثم ما ينضاف إلى ذلك من اليأس بعد ما يعرفون قطعا «٣» هو الذي يفتت أكبادهم، وبه تتمّ محنتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ١٣]
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣).
(١) المقصود بالحدثان المخلوقات إذ لها أول وابتداء ولها آخر وانتهاء.
(٢) انظر بخصوص هذا الترقي صقحة ٤٨٦ (المجلد الأول من هذا الكتاب).
(٣) لأن معرفتهم العينية تقطع كل شك كان يراودهم في الحياة الدنيا، فلا مجال يومئذ لأمل زائف.
تغلب العداوة من بعض على بعض.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ١٤]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤)
فريق منهم أهل الوصلة، وفريق هم أهل الفرقة. فريق للجنة والمنّة، وفريق للعذاب والمحنة. فريق في السعير، وفريق في السرور. فريق في الثواب، وفريق في العذاب.
فريق في الفراق، وفريق في التلاقي.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ١٥]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥)
فهم في رياض وغياض
[سورة الروم (٣٠) : آية ١٦]
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦)
فهم في بوار وهلاك.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٧ الى ١٨]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨)
من كان صباحه لله بورك له في يومه، ومن كان مساؤه بالله بورك له في ليله:
وإنّ صباحا نلتقى في مسائه صباح على قلب الغريب حبيب
شتّان بين عبد صباحه مفتتح بعبادته ومساؤه مختتم بطاعته، وبين عبد صباحه مفتتح بمشاهدته ورواحه مفتتح بعزيز قربته! ويقال الآية تتضمن الأمر بتسبيحه في هذه الأوقات، والآية تتضمن الصلوات الخمس «١»،
(١) قيل لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ فقال: نعم وتلا هذه الآية. ف (حين تمسون) صلاة المغرب والعشاء، (وحين) تصبحون صلاة الفجر، (وعشيا) صلاة العصر، (وحين تظهرون) صلاة الظهر.
وإرادة الحقّ من أوليائه بأن يجددوا العهد في اليوم والليلة خمس مرات فتقف على بساط المناجاة، وتستدرك ما فاتك فيما بين الصلاتين من طوارق الزلات.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ١٩]
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)
«يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» : الطير من البيض، والحيوان من النّطفة.
و «يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» : البيض من الطير، والنطفة من الحيوان.
والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
ويظهر أوقاتا من بين أوقات كالقبض من بين أوقات البسط، والبسط من بين أوقات القبض.
«وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» : يحييها بالمطر، ويأتى بالربيع بعد وحشة الشتاء كذلك يوم النشور يحيى الخلق بعد الموت.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٠]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠)
خلق آدم من التراب، ثم من آدم الذّرّية. فذكّرهم نسبتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم.
ويقال الأصل تربة ولكن العبرة بالتربية لا بالتربة، القيمة لما منه لا لأعيان المخلوقات.
اصطفى واختار الكعبة فهى أفضل من الجنة الجنة جواهر ويواقيت، والبيت حجر! ولكن البيت مختاره وهذا المختار حجر! واختار الإنسان، وهذا المختار مدر! والغنيّ غنيّ لذاته، غنيّ عن كلّ غير من رسم وأثر.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢١]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)
ردّ المثل إلى المثل، وربط الشكل بالشكل، وجعل سكون البعض إلى البعض، ولكنّ ذلك للأشباح والصّور، أمّا الأرواح فصحبتها للأشباح كره لا طوع «١».
وأمّا الأسرار فمعتقة لا تساكن الأطلال ولا تتدنس بالأعلال.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٢]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢)
خلق السماوات في علوّها والأرض في دنوّها هذه بنجومها وكواكبها، وهذه بأقطارها ومناكبها. وهذه بشمسها وقمرها، وهذه بمائها ومدرها.
ومن آياته اختلاف لغات أهل الأرض، واختلاف تسبيحات الملائكة الذين هم سكان السماء. وإنّ اختصاص كلّ شىء منها بحكم- شاهد عدل، ودليل صدق على أنها تناجى أفكار المتيقظين، وتنادى على أنفسها.. أنها جميعها من تقدير العزيز العليم.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٣]
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣)
غلبة النوم بغير اختيار صاحبه ثم انتباهه من غير اكتساب له بوسعه يدلّ على موته وبعثه بعد ذلك وقت نشوره. ثم في حال منامه يرى ما يسرّه وما يضرّه، وعلى أوصاف كثيرة أمره.. كذلك الميت في قبره.. الله أعلم كيف حاله في أمره، وما يلقاه من خيره وشرّه، ونفعه وضرّه؟
(١) فكرة اغتراب الروح عن مصدرها الأصيل، ولبثها في داخل البدن، ذلك القفص المادي أو السجن الترابي- تحتل اهتماما كبيرا عند شعراء الصوفية (أنظر كتابنا «نشأة التصوف الإسلامى» فصل الفطرية).
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٤]
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤)
يلقى في القلوب من الرجاء والتوقع في الأمور، ثم يختلف بهم الحال فمن عبد يحصل مقصوده، ومن آخر لا يتفق مراده.
والأحوال اللطيفة كالبروق، وقالوا: إنها لوائح ثم لوامع ثم طوالع ثم شوارق ثم متوع النهار «١»، فاللوائح في أوائل العلوم، واللوامع من حيث الفهوم، والطوالع من حيث المعارف «٢»، والشوارق من حيث التوحيد.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٥]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥)
يفنى هذه الأدوار، ويغيّر هذه الأطوار، ويبدّل أحوالا غير هذه الأحوال إماتة ثم إحياء، وإعادة وقبلها إبداء، وقبر ثم نشر، ومعاتبة في القبر ثم محاسبة بعد النّشر.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
له ذلك ملكا، ومنه تلك الأشياء بدءا، وبه إيجادا، وإليه رجوعا.
قوله جل ذكره: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».
(١) يتفق موقف القشيري من هذه المصطلحات هنا مع ما ذكره فى «الرسالة» وإن كان قد زاد عليها هنا (متوع النهار).
(٢) نفهم من هذا أن القشيري يرى هذا الترتيب: العلم ثم الفهم ثم المعرفة أو العرفان، ونفهم أن التوحيد أعلى درجات العرفان.
«وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» أي في ظنّكم وتقديركم «١».
وفي الحقيقة السهولة والوعورة على الحقّ لا تجوز.
«وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى» : له الصفة العليا في الوجود بحقّ القدم، وفي الجود بنعت الكرم، وفي القدرة بوصف الشمول، وفي النصرة بوصف الكمال، وفي العلم بعموم التعلّق، وفي الحكم بوجوب التحقق، وفي المشيئة بوصف البلوغ، وفي القضية «٢» بحكم النفوذ، وفي الجبروت بعين العزّ والجلال، وفي الملكوت بنعت المجد والجمال.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٨]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨)
أي إذا كان لكم مماليك لا ترضون بالمساواة بينكم وبينهم، وأنتم متشاكلون «٣» بكلّ وجه- إلا أنكم بحكم الشرع مالكوهم- فما تقولون في الذي لم يزل، ولا يزال كما لم يزل؟.
هل يجوز أن يقدّر في وصفه أن يساويه عبيده؟ وهل يجوز أن يكون مملوكه شريكه؟
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٩]
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩).
(١) معنى هذه العبارة: حسب ظنكم وتقديركم الإعادة أسهل من الإنشاء.. فلم أنكرتم الإعادة؟ فضلا عن أنه ليس عند الله سهل ولا عسير.
(٢) القضية: هى قضاء الله.
(٣) متشاكلون معناها: متشابهون ومتساوون ولا فرق في الجوهرية بينكم وبينهم.
أشدّ الظلم متابعة الهوى لأنه قريب من الشّرك، قال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» «١». فمن اتّبع هواه خالف رضا مولاه فهو بوضعه الشيء غير موضعه صار ظالما، كما أنّ العاصي بوضعه المعصية موضع الطاعة ظالم.. كذلك هذا بمتابعة هواه بدلا عن موافقة ومتابعة رضا مولاه صار في الظلم متماديا.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٠]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠)
أخلص قصدك إلى الله، واحفظ عهدك مع الله، وأفرد عملك في سكناتك وحركاتك وجميع تصرفاتك لله.
«حَنِيفاً» : أي مستقيما في دينه، مائلا إليه، معرضا عن غيره «٢». والزم «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» أي أثبتهم عليها قبل أن يوجد منهم فعل ولا كسب، ولا شرك ولا كفر، وكما ليس منهم إيمان وإحسان فليس منهم كفران ولا عصيان. فاعرف بهذه الجملة، ثم افعل ما أمرت به، واحذر ما نهيت عنه.
فعلى هذا التأويل فإن معنى قوله: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» أي اعرف واعلم أن فطرة الله التي فطر الناس عليها: تجرّدهم عن أفعالهم، ثم اتصافهم بما يكسبون- وإن كان هذا أيضا بتقدير الله «٣».
وعلى هذا تكون «فِطْرَتَ» الله منصوبة بإضمار اعلم- كما قلنا.
(١) آية ٢٣ سورة الجاثية.
(٢) فكلمة «حنيف» من الأضداد.
(٣) يذكرنا هذا بتفسير أبى طالب المكي لقول رابعة «أحبك حبين..» فالحب الأول فطرى تفضل الله به، والحب الثاني عانته هي بكسبها ولكنها حتى في هذا الحب الكسبي لا فضل لها، ولذلك استدركت:
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لى ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
أنظر (قوت القلوب المكي ح ٢ ص ٥٦ وماتلاها) وانظر أيضا كتابنا (نشأة التصوف الإسلامى) ط دار المعارف. [.....]
سبحانه فطر كلّ أحد على ما علم أنه يكون في السعادة أو الشقاوة، ولا تبديل لحكمه، ولا تحويل لما عليه فطره. فمن علم أنه يكون سعيدا أراد سعادته وأخبر عن سعادته، وخلقه في حكمه سعيدا. ومن علم شقاوته أراد أن يكون شقيا وأخبر عن شقاوته وخلقه فى حكمه شقيا.. ولا تبديل لحكمه، هذا هو الدين المستقيم والحقّ الصحيح «١» قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣١]
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١)
أي راجعين إلى الله بالكلية من غير أن تبقى بقية، متصفين بوفاقه، منحرفين بكل وجه عن خلافه، متقّين صغير الإثم وكبيره، قليله وكثيره، مؤثرين يسير وفاقه وعسيره، مقيمين الصلاة بأركانها وسننها وآدابها جهرا، متحققين بمراعاة فضائلها سرا.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٢]
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)
أقاموا في دنياهم في خمار الغفلة، وعناد الجهل والفترة فركنوا إلى ظنونهم، واستوطنوا مركب أوهامهم، وتموّلوا من كيس غيرهم، وظنوا أنهم على شىء.
فإذا انكشف ضباب وقتهم، وانقشع سحاب جحدهم.. انقلب فرحهم ترحا، واستيقنوا أنهم كانوا في ضلالة، ولم يعرّجوا إلّا في أوطان الجهالة.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٣]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣).
(١) نحسب أن القشيري قد حاول إيضاح مشكلة هامة من مشاكل علم الكلام، فليست الجبرية عنده بناقضة لحرية الإنسان واختياره، ما دامت الأمور كلها مرتبطة بعلم الله الذي سبق كل شىء، وبفضل الله الذي فطر على ما علم.
إذا أظلتهم المحنة ونالتهم الفتنة ومسّتهم البليّة رجعوا إلى الله بأجمعهم مستعينين، وبلطفه مستجيرين، وعن محنتهم مستكشفين «١».
فإذا جاد عليهم بكشف ما نالهم، ونظر إليهم باللطف فيما أصابهم: إذا فريق منهم- لا كلّهم- بل فريق منهم بربهم يشركون يعودون إلى عاداتهم المذمومة فى الكفران، ويقابلون إحسانه بالنسيان، هؤلاء ليس لهم عهد ولا وفاء، ولا فى مودتهم صفاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٤]
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤)
أي عن قريب سيحدث بهم مثلما أصابهم، ثم إنهم يعودون إلى التضرع، ويأخذون فيما كانوا عليه بدءا من التخشع، فإذا أشكاهم وعافاهم رجعوا إلى رأس خطاياهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٥]
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥)
بين أنهم بنوا على غير أصل طريقهم، واتبعوا فيما ابتدعوه أهواءهم، وعلى غير شرع من الله أو حجة أو بيان أسّسوا مذاهبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٦]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦)
تستميلهم طوارق أحوالهم فإن كانت نعمة فإلى فرح، وإن كانت شدة فإلى قنوط وترح.. وليس وصف الأكابر كذلك قال تعالى: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ» «٢».
(١) أي راجين كشف الغمة عنهم.
(٢) آية ٢٣ سورة الحديد.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٧]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧)
الإشارة فيها إلى أن العبد لا يعلّق قلبه إلا بالله لأنّ ما يسوءهم ليس زواله إلا بالله، وما يسرّهم ليس وجوده إلا من الله، فالبسط الذي يسرّهم ويؤنسهم منه وجوده، والقبض الذي يسوءهم ويوحشهم منه حصوله، فالواجب لزوم عقوة «١» الأسرار، وقطع الأفكار عن الأغيار.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٨]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨)
القرابة على قسمين: قرابة النسب وقرابة الدّين، وقرابة الدين أمسّ، وبالمواساة أحقّ وإذا كان الرجل مشتغلا بالعبادة، غير متفرّغ لطلب المعيشة فالذين لهم إيمان بحاله، وإشراف على وقته يجب عليهم القيام بشأنه بقدر ما يمكنهم، مما يكون له عون على الطاعة وفراغ القلب من كل علة فاشتغال الرجل بمراعاة القلب يجعل حقّه آكد، وتفقّده أوجب.
«ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ» : المريد هو الذي يؤثر حقّ الله على حظّ نفسه فإيثار المريد وجه الله أتمّ من مراعاته حال نفسه، فهمّته في الإحسان إلى ذوى القربى والمساكين تتقدم على نظره لنفسه وعياله وما يهمه من خاصته.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٩]
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩)
إيتاء الزكاة بأن تريد بها وجه الله، وألا تستخدم الفقير لما تبرّه به من رافقة «٢»،
(١) العقوة الموضع المتسع أمام الدار.
(٢) الرافقة الرفق واللطف، تقول: أولاه رافقة (الوسيط).
بل أفضل الصدقة على ذى رحم كاشح «١» حتى يكون إعطاؤه لله مجردا عن كل نصيب لك فيه، فهؤلاء هم الذين يضاعف أجرهم: قهرهم لأنفسهم حيث يخالفونها، وفوزهم بالعوض من قبل الله.
ثم الزكاة هي التطهير، وتطهير المال معلوم ببيان الشريعة في كيفية إخراج الزكاة، وأصناف المال وأوصافه.
وزكاة البدن وزكاة القلب وزكاة السّرّ.. كلّ ذلك يجب القيام به.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٤٠]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠)
«ثُمَّ» حرف يقتضى التراخي وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس من ضرورة خلقه إياك أن يرزقك كنت في ضعف أحوالك ابتداء ما خلقك، فأنبتك وأحياك من غير حاجة لك إلى رزق فإلى أن خرجت من بطن أمّك: إمّا أن كان يغنيك عن الرزق وأنت جنين فى بطن الأم ولم يكن لك أكل ولا شرب، وإمّا أن كان يعطيك ما يكفيك من الرزق- إن حقّ ما قالوا: إن الجنين يتغذّى بدم الطمث. وإذا أخرجك من بطن أمك رزقك على الوجه المعهود في الوقت المعلوم، فيسّر لك أسباب الأكل والشرب من لبن الأم، ثم من فنون الطعام، ثم أرزاق القلوب والسرائر من الإيمان والعرفان وأرزاق التوفيق من الطاعات والعبادات، وأرزاق اللسان من الأذكار وغير ذلك مما جرى ذكره «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» بسقوط شهواتكم، ويميتكم عن شواهدكم.
«ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» بحياة قلوبكم ثم بأن يحييكم بربّكم.
(١) كاشح أي مبغض. وربما كان خير مثل التصدق على ذى رحم مبغض، ما حدث من أبى بكر حينما امتنع عن تقديم الزكاة لمسطح على أثر قيامه بدوره المعروف في قصة الإفك، فعوتب أبو بكر في ذلك ونزلت فيه «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى» آية ٢٢ سورة النور.
ويقال: من الأرزاق ما هو وجود الأرزاق ومنها ما هو شهود الرزاق.
ويقال: لا مكنة لك في تبديل خلقك، وكذلك لا قدرة لك على تعسّر رزقك، فالموسّع عليه رزقه- بفضله سبحانه.. لا بمناقب نفسه، والمقترّ عليه رزقه بحكمه سبحانه.. لا بمعايب نفسه.
«هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ هل من شركائكم الذين أثبتموهم أى من الأصنام أو توهمتموهم من جملة الأنام.. من يفعل شيئا من ذلك؟ «سُبْحانَهُ وَتَعالى» تنزيها له وتقديسا.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢)
الإشارة من البرّ إلى النّفس، ومن البحر إلى القلب.
وفساد البرّ بأكل الحرام وارتكاب المحظورات، وفساد البحر من الغفلة والأوصاف الذميمة مثل سوء العزم والحسد والحقد وإرادة الشّرّ والفسق.. وغير ذلك. وعقد الإصرار على المخالفات من أعظم فساد القلب، كما أنّ العزم على الخيرات قبل فعلها من أعظم الخيرات.
ومن جملة الفساد التأويلات بغير حقّ، والانحطاط إلى الرّخص في غير قيام بجد، والإغراق في الدعاوى من غير استحياء من الله تعالى.
«لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» : بعض الذي عملوا من سقوط تعظيم الشرع من القلب، وعدم التأسّف على مافاته من الحقّ.
قوله جل ذكره: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ».
«سِيرُوا» بالاعتبار، واطلبوا الحقّ بنعت الأفكار.
«فَانْظُرُوا» كيف كانت حال من تقدّمكم من الأشكال والأمثال، وقيسوا عليها حكمكم في جميع الأحوال. «كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» كانوا أكثرهم عددا، ولكن كانوا في التحقيق أقلّهم وزنا وقدرا.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٤٣]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣)
أخلص قصدك وصدق عزمك للدين القيّم بالموافقة والاتباع دون الاستبداد بالأمر على وجه الابتداع. فمن لم يتأدب بمن هو لسان وقته ولم يتلقف الأذكار ممن هو لسان وقته كان خسرانه أتمّ من ربحه، ونقصانه أعم من نفعه «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٤٦]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦)
يرسل رياح الرجاء على قلوب العباد فتكنس عن قلوبهم غبار الخوف وغثاء اليأس، ثم يرسل عليها أمطار التوفيق فتحملهم إلى بساط الجهد، وتكرمهم بقوى النشاط.
ويرسل رياح البسط على أرواح الأولياء فيطهرها من وحشة القبض، وينشر فيها إرادة الوصال.
ويرسل رياح التوحيد فتهب على أسرار الأصفياء فيطهرها من آثار العناء، ويبشرها بدوام الوصال.. فذلك ارتياح به ولكن بعد اجتياح عنك.
(١) يرى كبار الصوفية- والقشيري منهم- أن التأدب يشيخ أمر ضرورى في الطريق الصوفي كى يكبح جماح المريد، ويهديه إلى ربه عند رعونة نفسه، ويبعد به عن الزهو عند ما تلوح له بوادر الكشوفات، ويشير عليه بالسفر إن دعت الحاجة إلى ذلك... ونحو هذا.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٤٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
أرسلنا من قبلك رسلا إلى عبادنا، فمن قابلهم بالتصديق وصل إلى خلاصة التحقيق، ومن عارضهم بالجحود أذقناهم عذاب الخلود، فانتقمنا من الذين أجرموا، وأخذناهم من حيث لم يحتسبوا، وشوّشنا عليهم ما أمّلوا، ونقضنا عليهم ما استطابوا وتنعّموا، وأخذنا بخناقهم فحاق بهم ما مكروا.
َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
بتوطئتهم بأعقاب أعدائهم، ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى رقيناهم فوق رقابهم، وخرّبنا أوطان أعدائهم، وهدّمنا بنيانهم، وأخمدنا نيرانهم، وعطّلنا عنهم ديارهم، ومحونا بقهر التدمير آثارهم، فظلّت شموسهم كاسفة، ومكيدة قهرنا لهم بأجمعهم خاسفة.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٤٨]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨)
يرسل رياح عطفه وجوده مبشرات بوصله وجوده، ثم يمطر جود غيبه على على أسرارهم بلطفه، ويطوى بساط الحشمة عن ساحات قربه، ويضرب قباب الهيبة بمشاهد كشفه، وينشر عليهم أزهار أنسه، ثم يتجلّى لهم بحقائق قدسه، ويسقيهم بيده شراب حبّه، وبعد ما محاهم عن أوصافهم أصحاهم- لا بهم- ولكن بنفسه، فالعبارات عن ذلك خرس، والإشارات دونها طمس
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٥٠]
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)
يحيى الأرض بأزهارها وأنوارها عند مجىء الأمطار ليخرج زرعها وثمارها، ويحيى النفوس بعد نفرتها، ويوفقها للخيرات بعد فترتها، فتعمر أوطان الرّفاق بصادق إقدامهم، وتندفع البلايا عن الأنام ببركات أيامهم، ويحيى القلوب بعد غفلتها بأنوار المحاضرات، فتعود إلى استدامة الذكر بحسن المراعاة، ويهتدى بأنوار أهلها أهل العسر من أصحاب الإرادات، ويحيى الأرواح بعد حجبتها- بأنوار المشاهدات، فتطلع شموسها عن برج السعادة، ويتصل بمشامّ أسرار الكافة نسيم ما يفيض عليهم من الزيادات، فلا يبقى صاحب نفس إلا حظى منه بنصيب، ويحيى الأسرار- وقد تكون لها وقفة في بعض الحالات- فتنتفى بالكلية آثار الغيرية، ولا يبقى في الدار ديّار ولا من سكانها آثار فسطوات الحقائق لا تثبت لها ذرّة من صفات الخلائق، هنالك الولاية لله.. سقط الماء والقطرة، وطاحت الرسوم والجملة «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٥١]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١)
إذا انسدّت البصيرة عن الإدراك دام العمى على عموم الأوقات.. كذلك من حقّت عليهم الشقاوة جرّته إلى نفسها- وإن تبوّأ الجنة منزلا.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣)
من فقد الحياة الأصلية لم يعش بالرّقى والتمائم، وإذا كان في السريرة طرش عن سماع الحقيقة فسمع الظاهر لا يفيده آكد الحجّة. وكما لا يسمع «٢» الصّمّ الدعاء فكذلك لا يمكنه أن يهدى العمى عن ضلالتهم.
(١) أي انتفت آثار البشرية، وصار العبد مستهلكا بالكلية.
(٢) الفاعل ضمير مستتر تقديره «هو» يعود على الرسول صلوات الله عليه، فإن الخطاب في الآية الكريمة موجه إليه.
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٥٤]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤)
أظهرهم على ضعف الصغر والطفولية «١» ثم بعده قوة الشباب ثم ضعف الشيب ثم:
آخر الأمر ما ترى... القبر واللحد والثرى
كذلك في ابتداء أمرهم يظهرهم على وصف ضعف البداية في نعت التردد والحيرة في الطلب، ثم بعد قوة الوصل في ضعف التوحيد.
ويقال أولا ضعف العقل لأنه بشرط البرهان وتأمله، ثم قوة البيان في حال العرفان لأنه بسطوة الوجود ثم بعده ضعف الخمود لأن الخمود يتلو الوجود ولا يبقى معه أثر.
ويقال «خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» : أي حال ضعف من حيث الحاجة ثم بعده قوة الوجود ثم بعده ضعف المسكنة، قال صلى الله عليه وسلم: «أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا واحشرنى فى زمرة المساكين» «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٥ الى ٦٠]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
إنما كان ذلك لأحد أمرين: إمّا لأنهم كانوا أمواتا.. والميت لا إحساس له، أو لأنهم عدّوا ما لقوا من عذاب القبر بالإضافة إلى ما يرون ذلك اليوم يسيرا. وإن أهل التحقيق يخبرونهم عن طول لبثهم تحت الأرض. وإن ذلك الذي يقولونه من جملة ما كانوا يظهرون من جحدهم على موجب جهلهم، ثم لا يسمع عذرهم، ولا يدفع ضرّهم.
(١) الطفولية الطفولة.
(٢) رواه الترمذي وابن ماجه عن أبى سعيد الخدري والحاكم، وقال صحيح الإسناد. ورواه الطبراني بسند رجال ثقات عن عبادة بن الصامت. وادعى ابن الجوزي وابن تيمية أنه موضوع، وأبطل ذلك الحافظ بن حجر.
125
وأخبر بعد هذا في آخر السورة عن إصرارهم وانهما كهم في غيّهم، وأن ذلك نصيبهم من القسمة إلى آخر أعمارهم.
ثم ختم السورة بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام باصطباره على مقاساة مسارهم ومضارهم.
«فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ».
126
Icon