تفسير سورة الأنعام

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ ﴾ ﴿ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ ﴾ الآية، هذه السورة مكية كلها إلا آيات وقيل: إلا آيات نزلت بالمدينة، ومناسبة افتتاحها لآخر المائدة أنه تعالى لما ذكر ما قالته النصارى في عيسى وأمه من كونهما إلهين من دون الله وجرت تلك المحاورة وذكر ثواب الصادقين وأعقب ذلك بأن له ملك السماوات والأرض وما فيهن وأنه قادر على كل شيء؛ ذكر بأن الحمد لله المستغرق جميع المحامد فلا يمكن أن يثبت معه شريك في الإِلهية فيحمد، ثم نبه على العلة المقتضية لجميع المحامد والمقتضية كون ملك السماوات والأرض وما فيهن له بوصف خلق السماوات والأرض، لأن الموجد للشيء المنفرد باختراعه له الاستيلاء والسلطنة عليه. ولما تقدم قولهم في عيسى وكفرهم بذلك وذكر الصادقين وجزاءهم أعقب خلق السماوات والأرض بجعل الظلمات والنور فكان ذلك مناسباً للكافر والصادق. وقال الزمخشري: يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشا، كقوله: ﴿ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ﴾، وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله تعالى:﴿ وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً ﴾[الزخرف: ١٩]، والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التصيير كإِنشاء شىء من شىء أو تصيير شىء شيئاً أو نقله من مكان إلى مكان، ومنه: جعل الظلمات والنور، لأن الظلمات من الاجرام المتكاتفة والنور من النار. " انتهى ". وما ذكره من أن جعل بمعنى صير في قوله: وجعلوا الملائكة، لا يصح لأنهم لم يصيروهم إناثاً وإنما قال بعض النحويين: إنها هنا بمعنى سمى. وتقدم الكلام في البقرة على جمع السماوات وإفراد الأرض وجمع الظلمات وإفراد النور وثم كما تقرر في اللسان العربي أصلها للمهلة في الزمان. قال ابن عطية: ثم دالة على قبح فعل الذين فروا لأن المعنى أن خلقه السماوات والأرض وغيرهما قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين ثم بعد هذا كله عدلوا بربهم، فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني، أي بعد وضوح هذا كله ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم. " انتهى ". وقال الزمخشري: فإِن قلت: فما معنى ثم قلت استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته وكذلك ثم أنتم تمترون استبعاد لأن يمتروا فيه بعدما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم. انتهى. وهذا الذي ذهب إليه ابن عطية في أن ثم للتوبيخ والزمخشري من أن ثم للاستبعاد ليس بصحيح لأن ثم لم توضح لذلك وإنما التوبيخ والاستبعاد مفهوم من سياق الكلام لا من مدلول ثم، ولا أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك بل ثم هنا للمهلة في الزمان وهي عاطفة جملة إسمية على جملة إسمية أخبر تعالى بأن الحمد له، ونبه على العلة المقتضية للحمد من جميع الناس وهي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور ثم أخبر أن الكافرين به يعدلون فلا يحمدونه. وقال الزمخشري: فإِن قلت: علام عطف قوله: ثم الذين كفروا؟ قلت: اما على قوله: الحمد لله، على معنى ان الله حقيق بالحمد على ما خلق لأنه ما خلقه إلا نعمة ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فيكفرون نعمه. وأما على قوله: خلق السماوات والأرض، على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه. " انتهى ". وهذا الوجه الثاني الذي جوزه لا يجوز لأنه إذ ذاك يكون معطوفاً على الصلة والمعطوف على الصلة صلة فلو جعلت الجملة من قوله تعالى: ﴿ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، صلة لم يصح هذا التركيب لأنه ليس فيها رابط يربط الصلة بالموصول إلا إن خرج على قولهم أبو سعيد الذي رويت عن الخدري يريد رويت عنه فيكون الظاهر قد وقع موقع المضمر فكأن قيل: ثم الذين كفروا به يعدلون، وهذا من الندور بحيث لا يقاس عليه ولا يحمل كتاب الله عليه مع ترجيح حمله على التركيب الصحيح الفصيح، والذين كفروا الظاهر فيه العموم فيندرج فيه عبدة الأصنام وأهل الكتاب فعبدت النصارى المسيح، واليهود عزيراً، واتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله، والمجوس عبدوا النار، والمانوية عبدوا النور. والباء في بربهم يحتمل أن تتعلق بكفروا وفيه إشارة إلى أن مالكهم لا ينبغي أن يكفروا به ويعدلوا عن طاعته، ويحتمل أن تتعلق بيعدلون وتكون الباء بمعنى عن أي يعدلون عنه إلى غيره مما لا يخلق ولا يقدر أو يكون المعنى يعدلون به غيره أي يسوون به غيره في اتخاذه رباً وإلهاً وفي الخلق والإِيجاد وعدل الشىء بالشىء التسوية به وفي الآية رد على القدرية في قولهم: الخير من الله، والشر من الإِنسان، فعدلوا به غيره في الخلق والإِيجاد.﴿ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ﴾ ظاهره إنا مخلوقون من الطين - وذكر ذلك المهدوي ومكي والزهراوي عن فرقة والنطفة التي يخلق منها الإِنسان أصلها من طين ثم يقلبها الله نطفة. قال ابن عطية: وهذا يترتب على قول من يقول يرجع بعد التوالد والاستحالات الكثيرة نطفة، وذلك مردود عند الأصوليين. " انتهى ". والمشهور عند المفسرين أن المخلوق من الطين هو آدم. قال مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم: المعنى خلق آدم من طين والبشر من آدم فلذلك قال: خلقكم من طين. وذكر ابن سعد في الطبقات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الناس من ولد آدم وآدم من تراب "وقال بعض شعراء الجاهلية: إلى عرق الثرى وشجت عروقي   وهذا الموت يسلبني شبابيفسّره الشراح بأن عرق الثرى هو آدم فعلى هذا يكون التأويل على حذف مضاف. أما في خلقكم أي خلق أصلكم، وإما من طين أي من عرق طين أو فرعه.﴿ ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً ﴾ الآية قضى إن كانت هنا بمعنى قدر وكتب كانت هنا للترتيب في الذكر لا في الزمان، لأن ذلك سابق على خلقنا إذ هي صفة ذات وان كانت بمعنى أظهر كانت للترتيب الزماني على أصل وضعها لأن ذلك متأخر عن خلقنا فهي صفة فعل. والظاهر من تنكير الأجلين أنه تعالى أبهم أمرهما، وقيل: الأول أجل الدنيا من وقت الخلق إلى الموت، والثاني أجل الآخرة لأن الحياة في الآخرة لا انقضاء لها ولا يعلم كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله تعالى. وقال الزمخشري: فإِن قلت: المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفاً وجب تقديمه فلم جاز تقديمه في قوله: وأجل مسمى عنده؟ قلت: لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة كقوله تعالى:﴿ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ ﴾[البقرة: ٢٢١] " انتهى ". وهذا الذي ذكره من مسوغ الابتداء بالنكرة لكونها وصفت لا بتعين هنا أن يكون هو المسوغ لأنه يجوز أن يكون المسوغ هو التفصيل لأن من مسوغات الابتداء بالنكرة أن يكون الموضع موضع تفصيل نحو قوله: إذا ما بكى من خلفها انحرفت له   بشق وسِقٌ عندنا لم يحوّلقال الزمخشري: فإِن قلت الكلام السائر أن يقال: عندي ثوب جيد ولي كيْس وما أشبه ذلك. قلت: أوجبه أن المعنى وأي أجل مسمى عنده تعظيماً لشأن الساعة فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم. " انتهى ". وهذا لا يجوز لأنه إذا كان التقدير وأي أجل مسمى عنده كانت أي صفة لموصوف محذوف تقديره وأجل أي أجل مسمى عنده، ولا يجوز حذف الصفة إذا كانت أياً ولا حذف موصوفها وإبقاؤها، فلو قلت: مررت بأي رجل، تريد برجل أي رجل لم يجز، وقوله: أي منافق، ضعيف إذ حذف موصوف أي والكلام في ثم هنا كالكلام فيها في قوله: ثم الذين كفروا، والذي يظهر أن قوله: هو الذي خلقكم، على جهة الخطاب هو التفات من الغائب الذي هو قوله: ثم الذين كفروا، وإن كان الخلق وقضاء الأجل ليس مختصاً بالكفار إذ اشترك فيه المؤمن والكافر لكنه قصد به الكافر تنبيهاً له على أصل خلقه وقضاء الله عليه وقدرته، وإنما قلت: انه من باب الإِلتفات، لأن قوله: ثم أنتم تمترون، لا يمكن أن يندرج في هذا الخطاب من اصطفاه الله تعالى بالإِيمان والنبوة.
﴿ وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ الآية، لما تقدم ما يدل على القدرة التامة والاختيار ذكر ما يدل على العلم التام فكان في التنبيه على هذه الأوصاف دلالة على كونه تعالى قادراً مختاراً عالماً بالكليات والجزئيات وابطالاً لشبه منكري المعاد قيل: هو ضمير الشأن وما بعده مبتدأ خبره وهو علم تضمن معنى المعبود، وفي السماوات وفي الأرض متعلق به، والاسم العلم قد تضمَّن معنى المشتق فيعمل فيما بعده كما قال الشاعر: أنا أبو المنهال بعض الأحيان   فضمن أبو المنهال معنى المشهور فلذلك نصب بعض الأحيان، وبعض ظرف زمان لإِضافته لظرف زمان. وقال: نحواً من هذا الزمخشري وابن عطية.﴿ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ عام لجميع الاعتقادات والأقوال والأفعال وكسب كل إنسان عمله المفضي به إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر ولهذا لا يوصف به الله تعالى.﴿ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ ﴾ الآية من الأولى زائدة تدل على الاستغراق وآية فاعل بتأتيهم ومن الثانية في موضع الصفة للتبعيض تقديره من آية كائنة من آيات ربهم، أي تلك الآية بعض آيات الله تعالى والمراد بآية، والآية علامة تدل على الوحدانية وانفراده بالألوهية والرسالة والمعجز الخارق والقرآن. وفي تأتيهم التفات وهو خروج من خطاب في قوله: يعلم بسركم إلى غيبة في تأتيهم، والرب هو المالك المصلح الناظر في مصالح عباده فكان المناسب أن لا يعرضوا عن آيات مالكهم ومصلحهم وكانوا بعد إلا في موضع نصب على الحال ولم يجيء في القرآن هذه الحال بعد إلاّ إلا بلفظ الماضي. وقد جاءت في كلام العرب مصحوبة بقد. قال الشاعر: متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة   لنفسي إلا قد قضيت قضاءهاقال الزمخشري: يعني ما يظهر لهم قط دليل من الأدلة التي يجب فيها النظر والإِستدلال والاعتبار إلا كانوا عنه معرضين. " انتهى ". واستعمال الزمخشري قط مع المضارع في قوله: وما يظهر لهم قط دليل ليس بجيد، لأن قط ظرف مختص بالماضي إلا ان كان أراد بقوله: وما يظهر وما ظهر، ولا حاجة إلى استعمال ذلك. ومعنى عنها أي عن قبولها أو سماعها والإِعراض ضد الإِقبال وهو مجاز إذ حقيقته في الأجسام.﴿ فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ ﴾ كذب فعل متعد إلى مفعول بنفسه كقوله:﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ ﴾[الحج: ٤٢] وجاء هنا متعدياً بالباء كما في قوله:﴿ يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ ﴾[الماعون: ١].
وقوله:﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ﴾[الأنعام: ٦٦]، ضمن معنى الاستهزاء فتعدى بالباء والحق عام في القرآن والإِسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم وانشقاق القمر والوعد والوعيد. والفاء في قوله: فقد كذبوا للتعقيب وان إعراضهم عن الآية أعقبه التكذيب. وقال الزمخشري: فقد كذبوا مردود على كلام محذوف كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها، وهو الحق لما جاءهم يعني القرآن الذي تحدوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه." انتهى ". ولا ضرورة تدعو إلى تقدير شرط محذوف إذا الكلام منتظم دون هذا التقدير.﴿ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ ﴾ هذه رتب ثلاثة صدرت من هؤلاء الكفار الأول عن تأمل الدلائل ثم التكذيب ثم الاستهزاء. والنبأ: الخبر الذي يعظم وقعه، وكني بالانباء عما يحل بهم في الدنيا من القتل والسبي والجلاء وما يحل بهم في الآخرة من عذاب النار. وبه متعلق يستهزئون ودل قوله: يستهزؤون على أن المراد بقوله: كذبوا بالحق، أي استهزؤوا ولذلك عداه بالباء.﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا ﴾ الآية، لما هددهم وأوعدهم على إعراضهم وتكذيبهم واستهزائهم أتبع ذلك بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة وحض على الإِعتبار بالقرون الماضية. ويروا هنا بمعنى يعلموا. وكم في موضع المفعول بأهلكنا. ويروا معلقة. والجملة في موضع مفعوليها، ومن الأولى لإِبتداء الغاية، ومن الثانية للتبعيض، والمفرد بعدها واقع موقع الجمع كأنه قال: من القرون ويعني به قوم نوح وعاد وثمود وأشباههم ومكن في مكناهم متعد بمفعول كقوله:﴿ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ﴾[الكهف: ٩٥].
ويتعدى باللام في قوله: لكم، وكقوله تعالى:﴿ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾[يوسف: ٢١].
﴿ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ ﴾ المراد بالإِرسال الإِنزال والسماء قيل: عبر بها عن المطر. كما قال الشاعر: إذا نزل السماء بأرض قوم   يعني المطر. وقيل: هو على حذف مضاف أي وأرسلنا مطر السماء. و ﴿ مِّدْرَاراً ﴾ منصوب على الحال من السماء أو من المضاف إليه وهو المطر. ومدرارا مفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث.﴿ وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ ﴾ تقدم تفسيره في البقرة: والظاهر أن الذنوب هنا هي كفرهم وتكذيبهم برسل الله تعالى وآياته.﴿ وَأَنْشَأْنَا ﴾ فائدة إنشاء قرن بعد قرن إظهار القدرة على إهلاك ناس وإنشاء ناس. وقرن مفرد وصف بالجمع مراعاة لمعناه إذ كان تحته أفراد كثيرون ولو وصف في غير القرآن يعتل قرناً آخر على اللفظ ولكن روعي المعنى فجمع مراعاة للفواصل. و ﴿ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰباً ﴾ الآية، سبب نزولها اقتراح عبد الله بن أبي أمية وتعنته إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء ثم تنزل بكتاب فيه من رب العزة إلى عبد الله بن أبي أمية يأمرني بتصديقك وما أراني مع هذا كنت أصدقك، ثم أسلم بعد ذلك وقتل شهيداً بالطائف. ولما ذكر تعالى تكذيبهم بالحق لما جاءهم ثم وعظهم وذكرهم بإِهلاك القرون الماضية بذنوبهم، ذكر مبالغتهم في التكذيب بأنهم لو رأوا كلاماً مكتوباً في قرطاس ومع رؤيتهم جسده بأيديهم لم تزدهم الرؤية واللمس إلا تكذيباً وادعوا ان ذلك من باب السحر لا من باب المعجز عناداً وتعنتاً. والفاء في فلمسوه للتعقيب أي بنفس ما رأوا الكتاب لم يكتفوا برؤية البصر بل أعقبوا ذلك بحاسة اللمس وهي اليد إذ كانت أقوى في الإِحساس من غيرها، وجاء لقال الذين كفروا، لأن مثل هذا الغرض يقتضي انقسام الناس إلى مضمن وكافر فالمؤمن يراه من أعظم المعجزات والكافر يجعله من باب السحر ووصف السحر بمبين أما لكونه بيّنا في نفسه وإما لكونه أظهر غيره.
﴿ وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ﴾ قال ابن عباس: قال النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خالد: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله. " انتهى ". والظاهر أن قوله: وقالوا استئناف اخبار من الله تعالى حكي عنهم أنهم قالوا ذلك، ويحتمل أن يكون عطوفاً على جواب لو، أي لقال الذين كفروا، ولقالوا: لولا أنزل عليه ملك. ولولا بمعنى هلا للتحضيض.﴿ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً ﴾ قال ابن عباس وغيره: في الكلام حذف تقديره ولو أنزلنا ملكاً فكذبوه لقضي الأمر بعذابهم ولم يؤخروا حسب ما في كل أمة اقترحت آية وكذبت بها بعد ظهورها.﴿ وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً ﴾ أي ولو جعلنا الرسول ملكاً كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون لولا أنزل على محمد ملك، وتارة يقولون: ما هذا إلا بشر مثلكم. ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة. ومعنى لجعلناه رجلاً أي لصيّرناه في صورة رجل كما كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غالب الأحوال في صورة دِحْية، وكما تمثل لمريم في صورة بشر، وكما في حديث سؤال جبريل عليه السلام بحيث رآه الصحابة في صورة رجل يسأل عن الإِسلام والإِيمان والإِحسان. وللبسنا أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذٍ بأنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة إنسان هذا إنسان وليس بملك.﴿ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ ﴾ هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من قومه وتأسَّ بمن سبق من الرسل. وقالت الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي   على إخوانهم لقتلت نفسيوما يبكون مثل أخي ولكن   أسلي النفس عنه بالتأسي﴿ فَحَاقَ ﴾ يقال: حاق يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً، أي أحاط. ومعنى سخروا استهزؤا إلا أن استهزأ تعدى بالباء وسخر بمن كما قال﴿ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾[هود: ٣٨].
وبالباء تقول سخرت به، وكان اللفظ سخروا وإن كان معناه استهزوا لئلا يكثر في الجملة الواحدة لفظ الاستهزاء إذ أوله ولقد استهزىء وآخره يستهزؤون فكان سخروا أفصح.﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى ما حل بالمكذبين المستهزئين وكان المخاطبون بذلك أمة أمية لم تدرس الكتب ولم تجالس العلماء فلها أن تكابر في الاخبار بهلاك من أهلك بذنوبهم أمروا بالسير في الأرض والنظر في ما حل بالمكذبين ليعتبروا بذلك ويتظافر مع الاخبار الصادق الحس فللرؤية من مزيد الاعتبار ما لا يكون في الاخبار كما قال بعض العصريين: لطائف معنى في العيان لم تكن   لتدرك إلا بالتزاور واللقاوالظاهر أن السير المأمور به هو الانتقال من مكان إلى مكان وان النظر المأمور به هو نظر العين، وان الأرض هي ما قرب من بلاؤهم من ديار المهلكين بذنوبهم كأرض عاد ومدين ومدائن قوم لوط وثمود. وقال قوم: الأرض هنا عام لأن في كل قطر منها آثار الهالكين وعبرا للناظرين. وجاء هنا خاصة ثم انظروا بحرف المهلة وفيما سوي ذلك بالفاء التي هي للتعقيب. وقال الزمخشري في الفرق: جعل النظر مسبباً عن السير في قوله: فانظروا، فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين. وهنا معناه أمر الإِباحة للسير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين ونبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح. " انتهى ". وما ذكر أولاً متناقض لأنه جعل النظر متسبباً عن السير فكان السير سبباً للنظر. ثم قال: فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر فجعل السير معلولاً بالنظر فالنظر سبب له فتناقضا ودعوى ان الفاء تكون سببية لا دليل عليها وإنما معناها التعقيب فقط وأما مثل: ضربت زيداً فبكى، وزنا ماعز فرجم، فالتسبب فهم من مضمون الجملة لا ان الفاء موضوعة له وإنما تفيد تعقيب الضرب بالبكاء وتعقيب الزنا بالرجم فقط وعلى تسليم أنّ الفاء تفيد التسبيب فلم كان السير هنا سير إباحة وفي غيره سير واجب فيحتاج ذلك إلى فرق بين هذا الموضع وتلك المواضع وعاقبة الشيء منتهاه وما آل إليه. والمراد به هنا العذاب على العصيان. قال النابغة: ومن عصاك نعاقبه ومعاقبة. تنهي الحسود كنهي الحسود ولا تقعد على ضمد، والضمد: الحقد.﴿ قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الآية: لما ذكر تعالى تصريفه فيمن أهلكهم بذنوبهم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بسؤالهم ذلك فإِنه لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن ذلك لله تعالى فليزمهم بذلك أنه تعالى هو المالك المهلك لهم، وهذا السؤال سؤال تبكيت وتقرير، وما موصولة بمعنى الذي أريد بها العموم وهي مبتدأ، ولمن في موضع الخبر، ثم أمره تعالى بنسبة ذلك إلى الله تعالى ليكون أول من بادر إلى الإِعتراف بذلك.﴿ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ﴾ ظاهر كتب أنه بمعنى سطر وخط، وقيل: أوجب إيجاب فضل وكرم لا إيجاب لزوم، والرحمة هنا الظاهر أنها عامة فتعم المحسن والمسيء في الدنيا وهي عبارة عن الإِفضال عليهم والإِحسان إليهم.﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ﴾ جواب قسم وهو ان كتب أجرى مجرى القسم فأجيب بجوابه وهو ليجمعنكم كما في قوله:﴿ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ ﴾[المجادلة: ٢١].
والظاهر أن إلى للغاية والمعنى ليحشرنكم منتهين إلى يوم القيامة.﴿ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ الظاهر أن الذين مرفوع على الابتداء، والخبر قوله: فهم لا يؤمنون، ودخلت الفاء لما تضمن المبتدأ من معنى الشرط كأنه قيل: من يخسر نفسه فهو لا يؤمن. وخسروا في معنى قضى الله عليهم بالخسران وترتيب على ذلك عدم إيمانهم.
﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ ﴾ لما ذكر تعالى أن له ملك ما حوى المكان من السماوات والأرض ذكر ما حواه الزمان من الليل والنهار وإن كان كل واحد من المكان والزمان يستلزم الآخر لكن النص عليهما أبلغ في الملكية وقدم المكان لأنه أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان. والظاهر أنه استئناف أخبار وليس مندرجاً تحت قوله: قل، والظاهر أن السكون ضد الحركة واقتصر عليه لأنه ما من متحرك إلا سكن ولا ينعكس. وقيل: هو على تقدير معطوف حذف تقديره وما تحرك.﴿ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً ﴾ الآية، لما تقدم أنه تعالى اخترع السماوات والأرض وأنه مالك لما تضمنه المكان والزمان أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك على سبيل التوبيخ لهم أي من هذه صفاته هو الذي يتخذ ولياً وناصراً ومعيناً لا إله إلا لا الآلهة التي لكم إذ هي لا تنفع ولا تضر لأنها بين جماد أو حيوان مقهور. ودخلت همزة الاستفهام على الاسم دون الفعل لأن الإِنكار في اتخاذ غير الله ولياً لا في اتخاذ الولي كقولك لمن ضرب زيداً وهو ممن لا يستحق الضرب بل يستحق الإِكرام أزيداً ضربت؟ تنكر عليه أن يكون مثل هذا يضرب ونحوه قوله تعالى:﴿ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ ﴾[الزمر: ٦٤] والله إذن لكم. وقرأ الجمهور فاطر بالجر، فوجهه ابن عطية والزمخشري وقبلهما الحوفي على أنه نعت لله. وخرجه أبو البقاء على أنه بدل وكأنه رأى أن الفصل بين المبدل منه والبدل أسهل من الفصل بين المنعوت والنعت إذ البدل على المشهور هو على نية تكرار العامل. وقرأ ابن أبي عبلة برفع الراء على إضمار هو. قال ابن عطية: أو على الابتداء. " انتهى ". ويحتاج إلى إضمار خبر ولا دليل على حذفه. وقرىء: بالنصب على المدح أي أمدح فاطر السماوات، يقال: فطر أي خلق واخترع من غير مثال.﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾ أي يرزق ولا يرزق كقوله:﴿ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ﴾[الذاريات: ٥٧]، الآية، والمعنى أن المنافع كلها من عند الله وخص الإِطعام من أنواع الإِنتفاعات لمس الحاجة إليه، كما خص الربا بالأكل وإن كان المقصود الإِنتفاع بالربا.﴿ قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ ﴾ قال الزمخشري: لأن النبي صلى الله عليه وسلم سابق أمته في الإِسلام كقوله:﴿ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾[الأنعام: ١٦٣]، وكقول موسى عليه السلام:﴿ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾[الأعراف: ١٤٣].
وقال ابن عطية: المعنى أول من أسلم من هذه الأمة وبهذه الشريعة، وفي هذا القول نظر لأنه عليه السلام لم يصدر منه امتناع عن الحق وعدم انقياد إليه وإنما هذا على طريق التحريض على الإِسلام كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يُتبعُه بقوله: أنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على فعله.﴿ قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ﴾ الظاهر أن الخوف هنا على بابه والخوف ليس بحاصل لعصمته صلى الله عليه وسلم بل هو معلق بشرط هو ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم.﴿ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ ﴾ قرىء مبنياً للمفعول، ومن مبتدأة، والضمير في يصرف عائد على من، والضمير في عنه عائد على العذاب، والفاعل في رحمة عائد على الله تعالى؛ وقرىء من يصرف مبنياً للفاعل، والفاعل بيصرف ضمير يعود على الله تعالى، ومن مفعول مقدم تقديره أي شخص يصرف الله عنه العذاب فقد رحمه.﴿ وَذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ ﴾ الإِشارة بذلك إلى المصدر المفهوم من يصرف أي وذلك الصرف هو الظفر والنجاة من الهلكة. والمبين: البين في نفسه. أو المبين غيره.﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ ﴾ أي إن يصبك وينلك بضر وحقيقة المس تلاقي جسمين، وكشف الضر أزاله. وكشفت عن ساقيها: أزالت ما يسترهما. والضر أخصُّ من الشر فناسب ذكر المسيس الذي هو أخص من الاستيلاء. وفي قوله: ﴿ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ ﴾ محذوف تقديره عنك.﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ ﴾ أراد يتعدى لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بالباء والباء تدخل على الذات، وينتصب الثاني كقوله:﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ ﴾[البقرة: ١٨٥]، وتارة تدخل الباء على المعنى، كقول الشاعر: أرادت عرار بالهوان ومن يرد   عرار العمري بالهوان فقد ظلموعرار اسم رجل، وكقوله تعالى:﴿ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ ﴾[الزمر: ٣٨] وجاء جواب الأول بالحصر في قوله: فلا كاشف له إلا هو مبالغة في الإِستقلال بكشفه، وجاء جواب بالثاني بقوله: فهو على كل شيء قدير، دلالة على قدرته على كل شيء فيندرج فيه المس بخيره وغيره. ولو قيل: ان الجواب محذوف لدلالة الأول عليه لكان وجهاً حسناً وتقديره فلا موصل له إليك إلا هو، والأحسن تقديره فلا زاد له للتصريح بما يشبهه في قوله:﴿ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ ﴾[يونس: ١٠٧] ثم أتى بعد بما هو شامل للخير والشر وهو قدرته على كل شيء.﴿ وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ القهر: الغلبة، والحمل على الشىء من غير اختيار المحمول. لما ذكر انفراده تعالى بتصرفه بما يريده من خير وشرّ وقدرته على الأشياء ذكر قهره وغلبته وأن العالم مقهورون ممنوعون من بلوغ مرادهم. وفوق حقيقة في المكان، ولا يراد به الحقيقة إذ البارىء سبحانه وتعالى منزه عن أن يحل في جهة والعرب تستعمل فوق إشارة إلى علو المنزلة وشغوفها على غيرها من الرتب، ومنه قوله تعالى:﴿ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾[الفتح: ١٠].
وقوله:﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾[يوسف: ٧٦].
وقال النابغة: بلغنا السما مجداً وجوداً وسؤدداً   وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراًيريد علو الرتبة والمنزلة. وفوق العامل فيه القاهره أي المستعلي بقهره فوق عباده. أو في موضع رفع على أنه خبر ثان لهو أخبر عنه بشيئين: أحدهما أنه القاهر، والثاني أنه فوق عباده بالرتبة والمنزلة.﴿ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ﴾ أي المحكم أفعاله متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد.﴿ ٱلْخَبِيرُ ﴾ هو العالم بخفيات الأمور كجلاياتها.
﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ ﴾ الآية، قال الكلبي: قال رؤساء مكة: يا محمد ما نرى أحداً يصدقك فيما تقول من أمر الرسالة ولقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله كما تزعم، فأنزل الله هذه الآية. وقال الزمخشري: هنا الشىء أعم العام لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيقع على القديم والجوهر والعرض والمحال والمستقيم ولذلك صح أن يقال في الله عز وجل شىء لا كالأشياء، كأنك قلت: معلوم لا كسائر المعلومات، ولا يصح جسم لا كالأجسام. وأراد أي شىء أكبر شهادة فوضع شىء مكان شهيد ليبالغ في التعميم. " انتهى ". وقال جهم بن صفوان: لا يطلق على الله لفظ شىء، وخالفه الجمهور في ذلك.﴿ شَهَٰدةً ﴾ منتصب على التمييز. وقال ابن عطية: ويصح على المفعول بأن يحمل أكبر على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل. " انتهى ". وهذا كلام عجيب لأنه لا يصح نصبه على المفعول ولأن أفعل من لا يشبه بالصفة باسم الفاعل، ولا يجوز في أفعل من أن يكون من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل لأن بشرط الصفة المشبهة باسم الفاعل أن تؤنث وتثنى وتجمع وأفعل من لا يكون فيها ذلك وهذا منصوص عليه من النحاة، فجعل ابن عطية المنصوب في هذا مفعولاً وجعل أكبر مشبهاً بالصفة المشبهة وجعل منصوبة مفعولاً وهذا تخبيط فاحش ولعله يكون من الناسخ لا من المصنف.﴿ قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُ ﴾ مبتدأ وخبر، فهي جملة مستقلة بنفسها لا تعلق لها من قبلها من جهة الصناعة الأعرابية بل قوله: ﴿ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً ﴾ هو استفهام على جهة التقرير والتوقيف ثم أخبر بأن خالق الأشياء والشهود هو الشهيد بيني وبينكم، وانتظم الكلام من حيث المعنى فالجملة ليست جواباً صناعياً وإنما يتم ما قالوه لو اقتصر على قل الله وقد ذهب إلى ذلك بعضهم فأعربه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما تقدم عليه والتقدير قل الله أكبر شهادة، ثم أضمر مبتدأ يكون شهيد خبراً له تقديره هو شهيد بيني وبينكم.﴿ لأُنذِرَكُمْ ﴾ ولأبشركم فحذف المعطوف لدلالة المعنى عليه وقد صرح به في قوله:﴿ لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ ﴾[الكهف: ٢].
واقتصر على الإِنذار لأنه في مقام تخويف لهؤلاء المكذبين بالرسالة المتخذين غير الله إلهاً والظاهر أن من في موضع نصب عطفاً على مفعول لأنذركم، والعائد على من ضمير منصوب محذوف، وفاعل بلغ ضمير يعود على أن القرآن أي ومن بلغه هو أي القرآن، ومن بلغه عام في العرب والعجم ويجوز أن يكون في موضع رفع عطفاً على الضمير المستكن في لأنذركم، وجاز ذلك للفصل بينه وبين الضمير بضمير المفعول وبالجار والمجرور أي ولينذر به من بلغه القرآن.﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ ﴾ قرىء: إنكم لتشهدون بصورة الإِيجاب فاحتمل أن يكون خبراً محضاً واحتمل الإِستفهام على تقدير حذف أداته ويبين ذلك قراءة الاستفهام، وهذا الاستفهام معناه التقريع لهم والتوبيخ والإِنكار عليهم، فإِن كان الخطاب لأهل مكة فالآلهة الأصنام فإِنهم أصحاب أوثان وإن كان لجميع المشركين فالآلهة كل ما عبد غير الله تعالى من وثن أو كوكب أو نار أو آدمي. و ﴿ أُخْرَىٰ ﴾ صفة لآلهة وصفة جمع ما لا يعقل كصفة الواحدة المؤنثة كقوله تعالى:﴿ مَآرِبُ أُخْرَىٰ ﴾[طه: ١٨]، ولما كانت الآلهة حجارة وخشباً أجريت مجرى المفرد تحقيراً لها فوصفت بما توصف به المفردة وهو لفظة أخرى.﴿ قُل لاَّ أَشْهَدُ ﴾ إلى آخره وما أبدع هذا الترتيب أمر أولا بأن يخبرهم أنه لا يوافقهم في الشهادة ولا يلزم من ذلك إفراد الله بالألوهية فأمر به ثانياً ليجتمع مع انتفاء موافقتهم إثبات الوحدانية لله تعالى ثم أخبر ثالثا بالتبرؤ من إشراكهم وهو كالتأكيد لما قبله.﴿ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾ الآية، تقدم شرح الجملة الأولى في البقرة وشرح الثانية في هذه السورة.
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ الآية تقدم الكلام عليها، والإِفتراء: الاختلاق، والمعنى لا أحد أظلم ممن كذب على الله أو كذب بآيات الله، جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا:﴿ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا ﴾[الأنعام: ١٤٨]، وقالوا:﴿ وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ﴾[الأعراف: ٢٨]، وقالوا: الملائكة بنات الله؛ وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحراً، ولم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى: ﴿ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ ﴾ أي لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا والآخرة بل يبقون في الحرمان والخذلان. ونفي الفلاح عن الظالم فدخل فيه الأظلم. والظالم غير الأظلم، وإذا كان هذا لا يفلح فكيف يفلح الأظلم.﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ﴾ الناصب ليوم فيه أقوال ذكرت في البحر، أحدها أنه مفعول لأذكر محذوفة على أنه مفعول به وهو خطاب للسامع، والثاني لمحذوف متأخر تقديره ويوم نحشرهم كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإِبهام الذي هو أدخل في التخويف. والضمير المنصوب في نحشرهم عام في العالم كلهم وعطف بثم للتراخي الحاصل بين مقامات يوم القيامة في المواقف فإِن فيه مواقف بين كل موقف وموقف تراخ على حسب طول ذلك اليوم. و ﴿ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾ عام في المشركين. و ﴿ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ ﴾ سؤال توبيخ وتقريع. وظاهر مدلول أين شركاؤكم غيبة الشركاء عنهم أي تلك الأصنام قد اضمحلت فلا وجود لها وأضيف الشركاء إليهم لأنه لا شركة في الحقيقة بين الأصنام وبين شىء وإنما أوقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة لها شركاء فأضيفت إليهم بهذه النسبة والزعم والقول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر الكلام. وقد يطلق على مجرد القول ومن ذلك قول سيبويه في كتابه: وزعم الخليل، أي قال: والذين موصول صلته كنتم تزعمون والعائد عليه محذوف تقديره كنتم تزعمونهم شركاء.﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ﴾ تقدم مدلول الفتنة وشرحت هنا بحب الشىء والإِعجاب به كما تقول: فتنت بزيد، فعلى هذا يكون المعنى ثم لم يكن حبّهم للأصنام وإعجابهم بها واتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على عجزها إلا التبرؤ منها والإِنكار لها وفي هذا توبيخ لهم وثم لم تكن فتنتهم فيه قراءات الجاري منها على الأشهر، ثم لم يكن بالياء فتنتهم بالنصب.﴿ إِلاَّ أَن قَالُواْ ﴾ إن مع ما بعدها أجريت في التعريف مجرى الضمير وإذا اجتمع الأعرف وما دونه في التعريف فذكروا أن الأشهر جعل الأعرف هو الاسم وما دونه الخبر، ولذلك أجمعت السبعة على ذلك في قوله:﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ ﴾[النمل: ٥٦] و﴿ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ﴾[الجاثية: ٢٥].
ومن قرأ بالياء ورفع الفتنة فذكر الفعل لكون تأنيث الفتنة مجازياً. والفتنة إسم يكن والخبر إلا أن قالوا جعل غير الأعرف الاسم والأعرف الخبر ومن قرأ ثم لم تكن فتنتهم بالتاء ورفع الفتنة فأنت لتأنيث الفتنة، والإِعراب كإِعراب ما قبله، ومن قرأ ثم لم تكن بالتاء فتنتهم بالنصب فالأحسن أن يقدر إلا أن قالوا مؤنثاً أي ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم. وقرىء: ربنا بالجر صفة لله تعالى وبالنصب على النداء أي يا ربنا.﴿ ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والنظر قلبي، وكيف منصوب بكذبوا، والجملة في موضع نصب بانظر لأن أنظر معلقة، وكذبوا ماض وهو في أمر لم يقع لكنه حكاية عن يوم القيامة ولا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل تحقيقاً لوقوعه ولا بد.﴿ وَضَلَّ ﴾ يحتمل أن يكون عطفاً على كذبوا فيدخل في حيز أنظر ويحتمل أن يكون إخباراً مستأنفاً فلا يدخل في حيزه ولا يتسلط النظر عليه.﴿ مَّا كَانُواْ ﴾ قال ابن عطية: ما مصدرية ومعناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكذبهم بادعائهم لله الشركاء. وقال الزمخشري: ما موصولة بمعنى الذي، قال: وغاب عنهم ما كانوا يفترون الهيته وشفاعته.﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ﴾ الآية، عن ابن عباس أن أبا سفيان وجماعة من كفار قريش استمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول؟ فقال: ما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية وكان صاحب أشعار سمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم واسفنديار. قال أبو عبيدة: أساطير جمع أسطارة وهي النزهات وقيل غير ذلك. قال ابن عطية: وقيل: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كعباديد وشماطيط. " انتهى ". وهذا لا تسميه النحاة إسم جمع لأنه على وزن الجموع بل يسمونه جمعاً وإن لم يلفظ له بواحد. والضمير في ومنهم عائد على الذين أشركوا ووحد الضمير في يستمع حملاً على لفظ من، وجمعه في على قلوبهم حملاً على معناها ويستمع متعد إلى مفعول به إذا كان من جنس الأصوات كقوله:﴿ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ ﴾[الأحقاف: ٢٩] عدي هنا بإِلى لتضمنه معنى يَصْغَوْنَ بأسماعهم إليك. والجملة من قوله: وجعلنا معطوفة على الجملة قبلها عطف فعلية على إسمية فيكون إخباراً من الله تعالى أنه جعل كذا. وقيل: الواو واو الحال أي وقد جعلنا من ينصت إلى سماعك وهم من الغباوة في جدّ من قلبه في كنان وأذن صمّاء. وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى ألقى فتتعلق على بها وبمعنى صير فتتعلق بمحذوف إذ هي في موضع المفعول الثاني، ويجوز أن تكون بمعنى خلق فتكون في موضع الحال لأنها في موضع نعت لو تأخرت، فلما تقدمت صارت حالاً. والإِكنة جمع كنانا كعنان وأعنة، والكتاب: الغطاء الجامع. قال الشاعر: إذ ما انتضوها في الوغى من أكنة   حسبت بروق الغيث هاجت غيومهاو ﴿ أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ في موضع المفعول من أجله تقديره عندهم كراهة أن يفقهوه. وقيل: المعنى لئلا يفقهوه. وتقدم نظير هذين التقديرين في قوله تعالى:﴿ أَن تَضِلُّواْ ﴾[النساء: ٤٤] والضمير المنصوب في يفقهوه عائد على القرآن الدال عليه من حيث المعنى. قوله: ومنهم من يستمع إليك، والوقر: الثقل في الأذن، ويقال: بفتح الواو وبكسرها. وفعله وقر بفتح القاف وكسرها وهو عبارة عما جعل الله تعالى في نقوس هؤلاء القوم من الغلظ والبعد عن قبول الخير كأنهم لم يكونوا سامعين لأقواله.﴿ وَإِن يَرَوْاْ ﴾ الآية، لما ذكر عدم انتفاعهم بعقولهم انتقل من حاسّة الأكنة والوقر إلى الحاسة التي هي أبلغ من حاسة السماع وهي الرؤية، فنفى ما يترتب على إداركها وهو الإِيمان. وقال ابن عباس: كل آية، كل دليل وحجة.﴿ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا ﴾ لأجل ما جعل على قلوبهم أكنة. " انتهى ". ومقصود هذه الجملة الشرطية الاخبار عن المبالغة التامة والعناء المفرط في عدم إيمانهم حتى إن الشىء المرئي الدال على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة لا يرتبون عليه مقتضاه بل يرتبون عليه ضد مقتضاه وحتى أصلها أن تكون حرف غاية، وقد تأتي بمعنى الفاء فإِذا كانت بمعنى الغاية كانت حرف ابتداء تعلقت بقوله: ومنهم من يستمع إليك، أي يمتد استماعهم وتكررهم إلى أن يقولوا في القرآن إن هذا إلا أساطير الأولين، فيكون المبتدأ محذوفاً بعدها تقديره حتى هم والجملة الشرطية خبر المبتدأ وإذا كانت بمعنى الفاء كان التقدير فإِذا جاؤك، ويجادلونك جملة حالية أي مجادليك، وبلغ تكذيبهم بالآيات إلى المجادلة، ويقول جواب إذا. وأساطير: جمع أسطارة وأسطورة أو أسطور، والذين كفروا قام مقام الضمير إذ لو جرى على الغيبة لكان اللفظ لقالوا.﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ﴾ النائي: البعد. يقال: نأى ينأى ناياً. والضمير في وهم عائد على الكفار، وتقدم ذكر الرسول في قوله: يجادلونك، وتقدم ذكر القرآن في قوله: إن هذا، أي القرآن، فاحتمل أن يكون الضمير في عنه في الموضعين عائداً على الرسول فيكون من الإِلتفات إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة، ومعناه ينهون الناس عن الرسول وعن أتباعه، وينأون عنه أي يبعدون عن الرسول وما جاء به. ويحتمل أن يكون الضمير في عنه عائداً على القرآن المشار إليه بقولهم: إن هذا فلا يكون من باب الإِلتفات. وفي قوله: ينهون وينأون تجنيس التصريف وقيل: تجنيس التحريف وهو أن تنفرد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهون انفردت بالهاء، وينأون انفردت بالهمزة.
﴿ وَلَوْ تَرَىٰ ﴾ الآية جواب لو محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره لرأيت أمراً شنيعاً وهولاً عظيماً. وترى في معنى رأيت، ومفعوله محذوف تقديره ولو تراهم، وإذ ظرف لما مضى.﴿ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ ﴾ الآية قرىء بنصب نكذب ونكون، وهذا النصب هو عند جمهور البصريين هو بإِضمار أن بعد الواو فهو ينسبك من أن المضمرة، والفعل بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم مقدر من الجملة السابقة والتقدير يا ليتنا يكون لنا رد. وانتفاء تكذيب وكون من المؤمنين وكثيراً ما يوجد في كتب النحو أن هذه الواو المنصوب بعدها هو على جواب التمني كما قال الزمخشري. وقرىء: ولا نكذب ونكون بالنصب بإِضمار أن على جواب التمني، ومعناه إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين. " انتهى ". وليس كما ذكر فإِن نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب لأن الواو لا تقع في جواب الشرط ولا ينعقد مما قبلها ولا مما بعدها شرط وجواب وإنما هي واو الجمع تعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي واو العطف يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة وهي المعية ويميزها من الفاء تقدير مع موضعها كما أن فاء الجواب إذا كان بعدها فعل منصوب ميّزها تقدير شرط قبلها أو حال مكانها وشبهة من قال انها جواب انها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهم أنها جواب، ويوضح لك أنها ليست بجواب انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما فيه من معنى الشرط إلا إذا نصبت بعد النفي وسقطت الفاء فلا ينجزم، وإذا تقرر هذا فالأفعال الثلاثة من حيث المعنى متمناة على سبيل الجمع بينهما، إلا أن كل واحد متمني وحده إذ التقدير كما قلنا يا ليتنا يكون لنا رد مع انتفاء التكذيب وكوننا من المؤمنين. وقرىء ولا نكذب ونكون برفعهما عطفاً على نرد فيكونان داخلين في التمني أو رفعاً على الاستئناف والقطع أي ونحن لا نكذب ونكون وقرىء: برفع ولا نكذب عطفاً على نرد أو على الإِستئناف، ونكون بالنصب عطفاً على مصدر متوهم وتكون ان مضمرة بعد الواو أي وأن نكون فالتقدير يكون منّا رد وكون من المؤمنين.﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ ﴾ بل هنا للإِضراب والإِنتقال من شىء إلى شىء من غير إبطال لما سبق بل بدا لهم أي لليهود والنصارى سئلوا في الدنيا: هل تعاقبون على ما أنتم عليه؟ قالوا: لا. وقيل: كفار مكة ظهر لهم ما أخفوه من أمر البعث بقولهم:﴿ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا ﴾[الجاثية: ٢٤].
أو المنافقون كانوا يخفون الكفر فظهر لهم وباله يوم القيامة.﴿ وَلَوْ رُدُّواْ ﴾ أي إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار وتمنيهم الرد.﴿ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ من الكفر.﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ تقدم الكلام عليها. وهل التكذيب راجع إلى ما تضمنته جملة التمني من الوعد بالإِيمان أو ذلك اخبار من الله تعالى على عادتهم دينهم وما هم عليه من الكذب في مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك منقطعاً مما قبله من الكلام.﴿ وَقَالُوۤاْ إِنْ هِيَ ﴾ الآية لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة بالبعث قالوا ذلك وان نافية وهي ضمير الحياة، قالوا: ان الحياة إلا حياتنا الدنيا. فنفوا أن يكون ثم حياة أخرى في الآخرة، ولذلك قالوا:﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ يعني إلى الحشر والجزاء لما دل الكلام على نفي البعث بما تضمنه من الحصر صرحوا بالنفي المحض الدال على عدم البعث بالمنطوق وأكدوا ذلك بالباء الداخلة في الخبر على سبيل المبالغة في الإِنكار وهذا يدل على أن هذه الآية في مشركي العرب ومن وافقهم في إنكار البعث.﴿ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ ﴾ الآية، جواب لو محذوف كما حذف في ولو ترى أولاً، وذلك مجاز عن الحبس والتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه.﴿ قَالَ أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ ﴾ الظاهر أن الفاعل يقال: هو الله، فيكون السؤال منه تعالى لهم سؤال تقريع وتوبيخ والإِشارة بهذا إلى البعث ومتعلقاته. وقال أبو الفرج ابن الجوزي: أليس هذا العذاب بالحق. وكأنه لاحظ قوله: قال فذوقوا العذاب.﴿ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا ﴾ بلى جواب لما تقرر وأكدوا جوابهم باليمين في قولهم وربنا هو إقرار بالإِيمان حيث لا ينفع وناسب التوكيد بقولهم: وربنا، صدر الآية في قوله: وقفوا على ربهم، والباء في قوله: بما للسبب وكفرهم كان بالبعث وغيره. و ﴿ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ ﴾ الآية، خسرانهم أنهم استعاضوا الكفر عن الإِيمان فصار ذلك شبيهاً بحالة البائع الذي أخذ وأعطى وكان ما أخذ سبباً لهلاكه وما أعطاه من الإِيمان سبباً لنجاته. ومعنى بلقاء الله: بلوغ الآخرة وما يكون فيها من الجزاء ورجوعهم إلى أحكام الله فيها. وحتى غاية لتكذيبهم لا لخسرانهم.﴿ بَغْتَةً ﴾ البغتة: الفجأة. يقال: بغته يبغته، أي فجأة وهو مجيء الشىء سرعة من غير جعل بالك إليه وغير علمك بوقت مجيئه فرط قصر مع القدرة على ترك التقصير. وقال أبو عبيدة: فرط: ضيع، والتكذيب فعيا بالحسرة لأنه لا يزال بهم التكذيب إلى قولهم: يا حسرتنا وقت مجيء الساعة. والضمير في فيها عائد على الحياة الدنيا إذ قد تقدم ذكرها. وما في قوله: ما فرطنا، مصدرية أي على تفريطنا. والجملة من وهم يحملون أوزارهم، جملة حالية. وذو الحال الضمير في قالوا. والأوزار: الخطايا والآثام، وأصله الثقل من الحمل، يقال: وزرته أي حملته، وأوزار الحرب: أثقالها من السلاح، وهو مجاز عبر تحمل الوزر عما يجده من المشقة والآلام بسبب ذنوبه، والمعنى أنهم يقاسون عقاب ذنوبهم مقاساة تثقل عليهم.﴿ أَلاَ سَآءَ ﴾ ساء على وزن فعل متعدية لمفعول محذوف تقديره ساءهم، وما مصدرية، أي ساءهم وزرهم، أو موصولة بمعنى الذي. وحذف الضمير العائد عليه والتقدير ساءهم الذي يزرونه أي يحملونه، ويجوز في ساء أن يكون وزنها فعل التي تكون في التعجب كقولهم: قَضُوا الرجل، أي ما أقضاه، فيكون تقديره ما أسوأ الذي يزرونه وافتتح بألا تنبيهاً وإشارة بسوء مرتكبهم.﴿ وَمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَآ ﴾ الآية لما ذكر قولهم وقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا، ذكر قصاراها وأن منتهى أمرها أنها فانية منقضية عن قريب فصارت شبيهة باللهو واللعب إذ هما لا يدومان ولا طائل لهما. وقرىء: ولدار الآخرة على الإِضافة، فقيل: هو من إضافة الموصوف إلى صفته إذ أصله لا الدار الآخرة، وقيل: على حذف موصوف تقديره ولدار الحياة الآخرة.
﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ﴾ الآية، قيل: نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف فإٍِنه كان يكذب في العلانية ويصدق في السر، ويقول: يخاف أن تتخطفنا العرب ونحن أكلة رأس. وقيل: نزلت في الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإِنه ليس عندنا أحد غيرنا. فقال له: والله ان محمد الصادق وما كذب قط ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فنزلت. قد نعلم عبر هنا بالمضارع عن الماضي لأن علم الله لا يتجدد وهي هنا معلقة وأنه والجملة بعدها في موضع مفعوليْ نعلم ويقولون أي بألسنتهم. و ﴿ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ﴾ أي ببواطنهم بل يعتقدون صدقك. وقرىء لا يكذبونك أي لا يجدونك تكذب، تقول: أكذبته أي وجدته يكذب لأن أفعل تأتي للوجدان كقولهم: أحمدته أي وجدته محموداً. وقرىء لا يكذبونك بالتشديد أي لا يعتقدون كذبك.﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴾ نبه على الوصف المؤدي بهم إلى جحود الآيات وهو الظلم.﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ﴾ الآية، تسلية له صلى الله عليه وسلم ولما سلاه تعالى بأنهم بتكذيبك إنما كذبوا الله، سلاه ثانياً بأن عادة أتباع الرسل قبلك تكذيب رسلهم وان الرسل صبروا فتأس بهم في الصبر.﴿ وَأُوذُواْ ﴾ يحتمل أن يكون معطوفاً على قوله: كذبت، ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله: فصبروا.﴿ وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ ﴾ أي لمواعيده في نصر رسله، نحو قوله:﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا ﴾[الصافات: ١٧١]، الآية.﴿ مِن نَّبَإِ ﴾ قال الفارسي: من زائدة، وفاعل جاء نبأ بعد من وهو نبأ المرسلين والذي يظهر أن الفاعل مضمر تقديره هو ويعود على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من تكذيب أتباع الرسل للرسل والصبر والإِيذاء إلى أن نصروا، وأن هذا الاخبار هو بعض نبأ المرسلين الذين تتأسى بهم. ومن نبأ في موضع الحال، وذو الحال ذلك المضمر.﴿ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ ﴾ وكبر أي شق وصعب إعراضهم عن الإِيمان وعن اتباع ما جئت به، فإِن شرط ثان وإن تخلص الماضي للإِستقبال، وكبر أعراضهم واقع ماض لكن يتأول على معنى الاستقبال، أي وأن يتبين كبر أعراضهم والتبين مستقبل والاستطاعة مستقبلة فصار عطف مستقبل على مستقبل وهو البيتين. والنفق: السرب في داخل الأرض الذي يتواى فيه. وقرأ نبيح الغنوي أن تبتغي نافقاً وهو في اللغة أحد حجرة اليربوع. قال الشاعر: ويستخرج اليربوع من نافقاته   ومن حجره بالشبحة اليتقصعوالسلم الذي يصعد عليه ويرتقي. ومعنى الآية أنك لا تستطيع ذلك والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم. والظاهر من قوله: فتأتيهم بآية، أن الآية هي غير ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء وان المعنى أن تبتغي نفقاً في الأرض فتدخل فيه أو سلماً في السماء فتصعد عليه إليها فتأتيهم بآية غير الدخول في السرب والصعود إلى السماء مما يرجى إيمانهم بسببها أو مما اقترحوه رجاء إيمانهم، وتلك الآية من أحد الجهتين. قال ابن عطية: فتأتيهم بآية بعلامة ويريد اما في فعلك ذلك أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض وارتقائك في السماء واما في أن تأتيهم بالآية من إحدى الجهتين. " انتهى ". وقال نحواً من ذلك الزمخشري وما جوزاه من ذلك لا يظهر من دلالة اللفظ إذ لو كان ذلك كما جوزاه لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية، وأيضاً فأي آية في دخول في سرب في الأرض. وأما الرقي إلى السماء فيكون آية واسم كان في قوله: وإن كان، هو ضمير الأمر والشان، وكبر أعراضهم فعل، وفاعل جملة في موضع خبر كان، وأجاز قوم أن يكون اعراضهم اسم كان، وكبر في موضع نصب على الخبر، وجواب الشرط في قوله: فإِن استطعت محذوف تقديره فافعل أحد الأمرين ابتغاء النفق وابتغاء السلم.﴿ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ ﴾ أي اما أن يخلق ذلك في قلوبهم أو لا. فلا يضل أحد واما أن يخلقه فيهم بعد هلاكهم ودل هذا التعليق على أن الله تعالى ما شاء منهم جميعهم الهدى بل أراد إبقاء الكافر على كفره، ومفعول شاء محذوف لدلالة جواب لو عليه تقديره ولو شاء جمعهم على الهدى، ويحذف مفعول شاء كثيراً في القرآن لدلالة جواب لو عليه.﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ ﴾ ذكرو في هذه الآية أقوالاً مدخولة ذكرت في البحر والذي اختاره أن هذا الخطاب ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن الله تعالى قال: ﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ ﴾، فهذا إخبار وعقد كلي أنه لا يقع في الوجود إلا ما شاء الله سبحانه وتعالى وقوعه ولا يختص هذا الاخبار بهذا الخطاب بالرسول بل هو صلى الله عليه وسلم عالم بمضمون هذا الاخبار فإِنما ذلك للسامع. فالخطاب والنهي في فلا تكونن للسامع دون الرسول عليه السلام، فكأنه قيل: ولو شاء الله أيها السامع الذي لا يعلم أن ما وقع في الوجود هو بمشيئة الله تعالى جمعهم على الهدى لجمعهم عليه فلا تكونن من الجاهلين فإِن ما شاء الله إيقاعه وقع وإن الكائنات معذوقة بإِرادته.
﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ﴾ أي إنما يستجيب للإِيمان.﴿ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ﴾ سماع قبول وإصغاء، كما قال:﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ ﴾[الزمر: ٢١، ق: ٣٧]، ويستجيب بمعنى يجيب. وفرق الرماني بين أجاب واستجاب بأن استجاب فيه قبول لما دعي ويستجيب جاء معدي باللام كقوله تعالى:﴿ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي ﴾[البقرة: ١٨٦].
و﴿ فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ﴾[آل عمران: ١٩٥].
وجاء معدّاً بنفسه للمفعول. قال الشاعر: وداع دعا يا من يجيب إلى الندا   فلم يستجبه عند ذاك مجيب﴿ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ ﴾ الظاهر أن هذه جملة مستقلة من مبتدأ وخبر. والظاهر أن الموت هنا والبعث حقيقة وذلك إخبار منه تعالى أن الموتى على العموم من مستجيب وغير مستجيب يبعثهم الله تعالى فيجازيهم على أعمالهم. وقيل: الموت والبعث مجازان استعير الموت للكفر والإِيمان والبعث. وقيل: الجملة من قوله: والموتى يبعثهم الله، مبتدأ وخبر أي والموتى بالكفر يحييهم الله بالإِيمان.﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ﴾ الآية، قال ابن عباس: نزلت في رؤساء قريش سألوا الرسول آية تعنتاً منهم وإلا فقد جاءهم بآيات كثيرة فيها مقنع. " انتهى ".﴿ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ ﴾ أي إن ما سألتموه من إنزال آية، الله قادر على ذلك، كما أنزل الآيات السابقة فلا فرق في تعلق القدرة بالآيات المقترحة على سبيل التعنت والآيات التي لم تقترح وقد اقترحتم آيات كانشقاق القمر فلم يجد عنكم ولا أثرت فيكم وقلتم هذا سحر مستمر.﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ قدرته على إنزال الآيات.﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ تقدم الكلام عليها وهي هنا في سياق النفي مصحوبة بمن التي تفيد استغراق الجنس فهي عامة تشمل كل ما يدب فيندرج فيها الطائر فذكر الطائر بعد ذكر دابة تخصيص بعد تعميم وذكر بعض من كل وصار من باب التجريد كقوله تعالى:﴿ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ ﴾[البقرة: ٩٨]، بعد ذكر الملائكة، وإنما جرد الطائر لأن تصرفه في الجوّ دون تصرف غيره من الحيوان أبلغ في القدرة وأول على عظمها من تصرف غيره من الحيوان في الأرض إذ الأرض جسم كثيف يمكن تصرف الأجرام عليها والهواء جسم لطيف لا يمكن عادة تصرف الأجرام الكثيفة فيها إلا بباهر القدرة الإِلهية ولذلك قال تعالى:﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَٰتٍ ﴾[النحل: ٧٩]، الآية، وجاء قوله في الأرض إشارة إلى تعميم جميع الأماكن لما كان لفظ: من دابة، وهو المتصرف أي المتصرف فيه عاماً وهو الأرض ويشمل الأرض البر والبحر ويطير بجناحيه تأكيد لقوله: ولا طائر، لأنه لا طائر إلا يطير بجناحيه. وليرفع المجاز الذي كان يحتمله قوله: ولا طائر، ولو اقتصر عليه ألا ترى إلى استعارة الطائر للعمل في قوله:﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾[الإسراء: ١٣].
وقولهم: طار لفلان طائر كذا في القسمة، أي سهمه. وطائر السعد والنحس ففيه تنبيه على تصور هيئته على حالة الطيران واستحضار لمشاهدة هذا الفعل الغريب، وجاء الوصف بلفظ يطير لأنه مشعر بالديمومة والغلبة لأن أكثر أحوال الطائر كونه يطير وقل ما يسكن، حتى ان المحبوس منها يكثر ولوعه بالطيران في الذي حبس فيه من قفص وغيره. ومن دابة في موضع رفع بالابتداء إذ من زائدة في النفي وخبره. ﴿ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾.
﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ ﴾ الآية، وكثيراً ما يستدل بعض الظاهرية بهذه الآية، وقوله: من شىء، يشير إلى أن الكتاب تضمن الأحكام التكليفية كلها. والتفريط: التقصير. وأصل فعله أن يتعدى بفي كقوله تعالى:﴿ عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ ﴾[الزمر: ٥٦]، وإذا كان كذلك فيكون قد ضمن معنى ما أغفلنا في الكتاب شيئاً يحتاج إليه من دلائل النبوة والألوهية والتكاليف.﴿ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ الظاهر أنه يراد به البعث يوم القيامة وهو قول الجمهور، فتحشر البهائم والدواب والطير وفي ذلك حديث يرويه يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال:" يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيبلغ من عدل الله عز وجل يومئذٍ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني تراباً "، فذلك قوله تعالى:﴿ وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً ﴾[النبأ: ٤٠].
﴿ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ قال النقاش: نزلت في بني عبد الدار ثم انسحبت على من سواهم. والآيات هنا: القرآن، أو ما ظهر على يدي الرسول عليه السلام من المعجزات والدلائل والحجج والاخبار عنهم بقوله:﴿ صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي ٱلظُّلُمَاتِ ﴾ الظاهر أنه استعارة عن عدم الإِنتفاع الديني بهذه الحواس لا أنهم صم وبكم في الظلمات حقيقة. وجاء قوله: في الظلمات، كناية عن عمي البصيرة فهو ينظر لقوله:﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾[البقرة: ١٨، ١٧١]، لكن قوله: في الظلمات، أبلغ من قوله: عمي، إذ جعلت الظلمات ظرفاً لهم وجمعت لاختلاف جهات الكفر.﴿ مَن يَشَإِ ٱللَّهُ ﴾ الآية من مبتدأة شرطية ويشأ مجزوم بمن، ومفعول يشأ محذوف تقديره من يشأ الله إضلاله يضلله؛ وكذلك مفعول يشأ الثاني محذوف تقديره أي ومن يشأ جعله. وظاهر الآية يدل على مذهب أهل السنة في أن الله تعالى هو الهادي وهو المضل وان ذلك معذوق بمشيئته لا يسأل عما يفعل.
﴿ قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ ﴾ الآية قال الفراء: للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان، إحداهما: أن تسأل الرجل: أرأيت زيداً، أي بعينك فهذه مهموزة. وثانيهما، أن تقول: أرأيت، وأنت تريد أخبرني فهاهنا تترك الهمزة إن شئت، وهو أكثر كلام العرب يومىء إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنين. " انتهى ". وإذا كانت بمعنى أخبرني جاز أن تختلفا لتاء مفتوحة كحالها للواحد المذكر. ومذهب البصريين أن التاء هي الفاعل وما لحقها حرف خطاب يدل على اختلاف المخاطب. ومذهب الكسائي أن الفاعل هو التاء وأن أداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول. ومذهب الفراء ان التاء هي حرف خطاب كهي في أنت وان أداة الخطاب بعده هي في موضع الفاعل استعيرت ضمائر النصب للرفع والكلام على هذه المذاهب إبطالاً وتصحيحاً مذكور في النحو وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى أخبرني نص عليه سيبويه وغيره من أئمة العربية، وكون أرأيت بمعنى أخبرني هو تفسير معنى لا تفسير إعراب لأن أخبرني تتعدى بعن فنقول: أخبرني عن زيد وأرأيت تتعدى لمفعول به صريح وإلى جملة استفهامية هي في موضع المفعول الثاني كقولك: أرأيت زيداً ما صنع فما بمعنى أي شىء وهو مبتدأ وضع في موضع الخبر وأما في هذه الآية فنقول: هو من باب الأعمال فارأيتكم يطلب مرفوعاً وهو قوله: عذاب الله فلما اجتمع العاملان أرأيتكم وفعل الشرط الذي هو أتاكم أعمل الثاني وهو أتاكم على اختيار مذهب البصريين أن الثاني هو أولى بالأعمال ولو كان على أعمال أرأيتكم لكان التركيب بنصب عذاب والساعة فكان يكون في غير القرآن أرأيتكم ان أتاكم عذاب الدنيا أو الساعة لكنه لما أعمل الثاني حذف مفعول أرأيتكم الأول، والثاني هو جملة الاستفهام وهو قوله: أغير الله ورابط هذه الجملة الاستفهامية بالمفعول المحذوف في أرأيتكم مقدر تقديره أغير الله تدعون لكشفه وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره ان أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة فأخبروني. وأتاكم عذاب الله، أي أتاكم خوفه وإماراته وأوائله مثل الجدب والبأساء والأمراض التي يخاف منها الهلاك، ولا يحتاج إلى تأويل العذاب بمقدماته بل إذا حل بالإِنسان العذاب واستمر عليه لا يدعو إلا الله تعالى. وقوله: أغير الله، تقديره إلهاً غير الله تدعون وهو استفهام توبيخ وتقرير.﴿ تَدْعُونَ ﴾ أي لكشف ما حل بكم وإياه مفعول مقدم انتقل من استفهام التوبيخ إلى حصر من يدعونه بقوله: بل إياه، أي بل الله تدعون. وما من قوله: ما تدعون، إلا ظهر انها موصولة. قال ابن عطية: ويصح أن تكون ظرفية. " انتهى ". فيكون مفعول يكشف محذوفاً أي فيكشف العذاب مدة دعائكم أي ما دمتم داعية وهذا فيه حذف المفعول وخروج عن الظاهر لغير حاجة ويضعّفه وصل ما الظرفية بالمضارع وهو قليل جداً إنما بابها أن توصل بالماضي، تقول: لا أكلمك ما طلعت الشمس. ويضعف ما تطلع الشمس ولذلك علة ذكرت في علم النحو، وقوله: إن شاء، مفعول شاء محذوف تقديره إن شاء كشفه وتنسون أي تتركون الإِلتجاء إلى آلهتكم التي تشركون بها ربكم.﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ ﴾ الآية، هذه تسلية له عليه السلام وإن عادة الأمم مع رسلهم التكذيب والمبالغة في قسوة القلوب، حتى إذا أخذوا بالبلايا لا يتذللون لله تعالى ولا يسألونه كشفها وهؤلاء الأمم الذين بعث الله إليهم الرسل أبلغ انحرافاً وأشد شكيمة وأجلد من الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خاطبهم تعالى بقوله: ﴿ قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ ﴾، الآية، وأخبر أنهم عند الإِمارات لا يدعون لكشفها إلا الله. وفي الكلام حذف التقدير ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فكذبوا فأخذناهم. وتقدم تفسير البأساء والضراء في البقرة. والترجي هنا بالنسبة إلى البشر أي لو رأى أحد ما حل بهم لرجا تضرعهم وابتهالهم إلى الله في كشفه. والأخذ: الإِمساك بقوة وبطش وقهر، وهو هنا مجاز عن مبالغة العقوبة والملازمة، والمعنى فعاقبناهم في الدنيا.﴿ فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ﴾، ولولا هنا حرف تحضيض يليها الفعل ظاهراً أو مضمراً أو فصل بينهما بالظرف فصل بين لولا وتضرعوا بإِذ وهي معمولة لتضرعوا والتحضيض بدل على أنه يقع تضرعهم حين جاء البأس، فمعناه إظهار معاتبة بذنب غائب وإظهار سوء فعله. وإسناد المجيء إلى البأس مجاز عن وصوله إليهم، والمراد أوائل البأس وعلاماته.﴿ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ أي صلبت وصبرت على ملاقاة العذاب لما أراد الله تعالى من كفرهم ووقوع لكن هنا حسن لأن المعنى انتفاء التذلل عند مجيء البأس. ووجود القسوة الدالة على العتو والتعزز فوقعت لكن بين ضدين وهما اللين والقسوة، وكذا إن كانت القسوة عبارة عن الكفر فعبر بالسبب عن المسبب والضراعة عبارة عن الإِيمان فعبر بالمسبب عن السبب كانت أيضاً واقعة بين ضدين. تقول: فسأقلبه فكفر وآمن فتضرع.﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ يحتمل أن تكون الجملة داخلة تحت الاستدراك. ويحتمل أن يكون استئناف اخبار، والظاهر الأول فيكون الحامل على ترك التضرع قسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي كان الشيطان سبباً في تحسينها لهم.﴿ فَلَمَّا نَسُواْ ﴾ أي تركوا الاتعاظ والازدجار بما ذكروا به من البأس استدرجناهم بتسير مطالبهم الدنيوية وعبّر عن ذلك بقوله: فتحنا عليهم أبواب كل شىء إذ يقتضي شمول الخيرات وبلوغ الطلبات.﴿ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾ ومعنى هذه الجملة معنى قوله:﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً ﴾[آل عمران: ١٧٨].
وفي الحديث الصحيح عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا رأيت الله يعطي العباد ما يشاؤن على معاصيهم فإِنما ذلك استدراج منه لهم. ثم تلا: فلما نسوا "، الآية. والأبواب عبارة عن الأسباب التي هيأها الله لهم المقتضية لبسط الرزق عليهم والإِيهام في هذا العموم لتهويل ما فتح عليه وتعظيمه، وغيا الفتح بفرحهم بما أوتوا وترتب على فرحهم أخذهم بغتة أي إهلاكهم فجأة وهو أشد الاهلاك إذ لم يتقدم شعور به فتتوطن النفس على لقائه ابتلاهم أولاً بالبأساء والضراء فلم يتعظوا ثم نقلهم إلى ما أوجب سرورهم من إسباغ النعم عليهم فلم يجد ذلك عندهم ولا تصدوا لشكر ولا أصغوا إلى إنابة بل لم يحصلوا إلا على فرح بما أسبغ عليهم. قال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة.﴿ فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ ﴾ أي باهتون بائسون لا يخبرون جواباً.﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ﴾ عبارة عن استئصالهم بالهلاك ونبه على سبب الاستئصال بذكر الوصف الذي هو الظلم وهو هنا الكفر. والدابر: التابع للشىء من خلفه. يقال: دبر الولد يدبره. قال أمية بن أبي الصلت: استئصلوا بعذاب خص دابرهم   فلما استطاعوا له صرفاً ولا انتصروا﴿ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ الظاهر أنه تعالى لما أرسل الرسل إلى هؤلاء الأمم كذبوهم وآذوهم فابتلاهم الله تعالى تارة بالبلاء وتارة بالرخاء فلم يؤمنوا، فأهلكهم واستراح الرسل من شرهم وتكذيبهم، وصار ذلك نعمة في حق الرسل إذ أنجز الله وعده على لسانهم بهلاك مكذبيهم فناسب هذا الفعل كله الختم بالحمد لله رب العالمين.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ ﴾ الآية لما ذكر أولاً تهديدهم بإِتيان العذاب أو الساعة كان ذلك أعظم من هذا التهديد فأكد خطاب الضمير بحرف الخطاب فقيل: أرأيتكم، ولما كان هذا التهديد أخف من ذلك لم يؤكد به بل اكتفى بخطاب الضمير فقيل: أرأيتم، وفي تلك وهذه الاستدلال على توحيد الله تعالى وأنه المتصرف في العالم الكاشف للعذاب والرادّ لما شاء بعد الذهاب وأن آلهتهم لا تغني عنهم شيئاً. والظاهر من قوله: أخذ سمعكم وأبصاركم أنه إذهاب للحاسة السمعية والبصرية فيكون أخذاً حقيقياً. وقيل: هو أخذ معنوي. والمراد إذهاب نور البصر بحيث يحصل العمى وإذهاب سمع الأذن بحيث يحصل الصمم. وتقدم الكلام على إفراد السمع وجمع الأبصار وعلى الختم على القلوب في أوائل البقرة. ومفعول أرأيتم الأول محذوف والتقدير قل أرأيتم سمعكم وأبصاركم ان أخذها الله، والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية كما تقول: أرأيتك زيداً ما صنع. وقد قررنا أن ذلك من باب الأعمال أعمل الثاني وحذف من الأول وأوضحنا كيفية ذلك في الآية قبل هذه. والضمير في به أفرده إجراء له مجرى اسم الإِشارة كأنه قيل يأتيكم بذلك أو يكون التقدير بما أخذ وختم عليه. للتبشير والإِنذار لا لأن تقترح عليهم. أنظر خطاب للسامع وتصريفها تأتي مرة بالنقمة ومرة بالنعمة ومرة بالترغيب ومرة بالترهيب والصدف والصدوف الإِعراض والنفور ويصدفون أي يعرضون ولا يعتبرون.﴿ قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً ﴾ هذا تهديد ثالث، فالأول بأحد أمرين العذاب أو الساعة، والثاني بالأخذ والختم، والثالث بالعذاب فقط. وبغتة: فجأة، لا يتقدم لكم به علم. وجهرة يبدو لكم مخايلة ثم ينزل ولما كانت البغتة تضمنت معنى الخفية صح مقابلتها للجهرة، ويبدىء به لأنها أردع من الجهرة والجملة من قوله: هل يهلك معناها النفي أي ما يهلك إلا القوم الظالمون ولذلك دخلت الا وهي في موضع المفعول الثاني لا رأيتكم، والرابط محذوف أي هل يهل به والأول من مفعولي أرأيتكم محذوف من باب الأعمال لما قررناه ولما كان التهديد شديداً جمع فيه بين أداتي الخطاب والخطاب لكفار قريش والعرب، وفي ذكر الظلم تنبيه على علة الهلاك، والمعنى هل يهل إلا أنتم لظلمكم.﴿ وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾ الآية، أي مبشرين بالثواب ومنذرين بالعقاب. وانتصب مبشرين ومنذرين على الحال، وفيهما معنى العلية أي أرسلناهم للتبشر والإِنذار لا لأن تقترح عليهم الآيات بعد وضوح ما جاؤوا به وتبيين صحته.﴿ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ ﴾ أي من صدق بقلبه وأصلح في عمله.﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ الآية، ومعنى يمسهم العذاب جعل العذاب ماساً كأنه ذو حياة يفعل بهم ما يشاء من الآلام.﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ ﴾ الآية، قال الطبري: المعنى أني لا أقول لكم اني إله فاتصف بصفاته من كينونة خزائنه عندي وعلم الغيب.﴿ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ قال الزمخشري في الملائكة: هم أشرف جنس خلقه الله وأفضله وأقرب منزلة منه. " انتهى ". وهو جار على مذهب المعتزلة وقد تكلمنا على ذلك عند قوله:﴿ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ ﴾[النساء: ١٧٢].
وهذه الثلاثة أجوبة لما سأله المشركون، فالأول جواب لقولهم: إن كنت رسولاً فسل الله حتى يوسع علينا خيرات الدنيا، والثاني جواب: إن كنت رسولاً فأخبرنا بما يقع في المستقبل من المصالح والمضار فنستعد لتحصيل تلك ودفع هذه، والثالث جواب قولهم:﴿ وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ ﴾[الفرقان: ٧].
" انتهى ". وقال الزمخشري: فإِن قلت: أعلم الغيب ما محله من الإِعراب؟ قلت: النصب عطفاً على محل قوله عندي خزائن الله، لأنه من جملة المقول كأنه قال: لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول. " انتهى ". ولا يتعين ما قاله بل الظاهر أنه معطوف على لا أقول لا معمول له فهو أمر أن يخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو قل وغاير في متعلق النفي فنفى قوله: عندي خزائن الله، وقوله: إني ملك، ونفى علم الغيب ولم يأت التركيب ولا أقول: اني أعلم الغيب، لأن كونه ليس عنده خزائن الله من أرزاق العباد وقسمهم معلوم ذلك الناس كلهم فنفى ادعاءه ذلك وكونه بصورة البشر معلوم أيضاً لمعرفته بولادته ونشأته بين أظهرهم فنفى أيضاً ادعاءَه ذلك ولم ينفهما من أصلهما لأن انتفاء ذلك من أصله معلوم عندهم فنفى أن يكابرهم في ادعاء شىء يعلمون خلافه قطعاً، ولما كان علم الغيب يمكن أن يظهر على لسان البشر بل قد يدعيه كثير من الناس كالكهان وضراب الرمل والمنجمين، وكان صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأشياء من المغيبات وطابقت ما أخبر به نفي علم الغيب من أصله، فقال: ولا أعلم الغيب، تنصيصاً على محض العبودية والافتقار وان ما صدر عنه من اخبار بغيب إنما هو من الوحي الوارد عليه لا من ذات نفسه. فقال: ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ﴾ كما قال فيما حكى الله عنه ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء، وكما أثر عنه صلى الله عليه وسلم:" لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمني ربي "وجاء هذا النفي على سبيل الترقي فنفى أولاً ما يتعلق به رغبات الناس أجمعين من الأرزاق التي هي قوام الحياة الجسمانية ثم نفى ثانياً ما يتعلق به وتتشوق إليه النفوس الفاضلة من معرفة ما يجهلون وتعرف ما يقع من الكوائن، ثم نفى ثالثاً ما هو مختص بذاته من صفة الملكية التي هي مباينة لصفة البشرية، فترقى في النقي من عام إلى خاص إلى أخصّ، ثم حَصَرَ ما هو عليه في أحواله كلها بقوله: ان اتبع إلا ما يوحى إلي أي أنا متبع ما أوحى الله تعالى غير شارع شيئاً من جهتي فظاهره حجة لنفاة القياس.﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ ﴾ أي لا يستوي الناظر المفكر في الآيات والمعرض الكافر الذي يهمل النظر.﴿ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ هذا عرض وتحضيض، معناه الأمر أي تفكروا ولا تكونوا ضالين أشباه العامى.
﴿ وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ ﴾ لما أخبر أنه لا يتبع إلا ما يوحى إليه أمره تعالى أن ينذر به فقال: وأنذر به أي بما أوحي إليك. وظاهر قوله: الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم عموم من خاف الحشر وآمن بالبعث.﴿ إِلَىٰ رَبِّهِمْ ﴾ أي إلى جزائه.﴿ لَيْسَ لَهُمْ ﴾ هذه الجملة في موضع الحال أي في حال من لا وليّ له ولا شفيع. وذو الحال الضمير في قوله: يحشروا، والعامل فيها يحشروا، ويجوز أن يكون إخباراً من الله تعالى عن صفة الحال يومئذٍ.﴿ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ متعلق بقوله: وأنذر، أي رجاء أن يحصل لهم التقوى.﴿ وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ﴾ الآية، قال سعد بن أبي وقاص: نزلت فينا ستة فيّ وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال. قالت قريش: انا لا نرضى أن نكون لهؤلاء أتباعاً فاطردهم عنك. فنزلت: ولما أمر تعالى بإِنذار غير المتقين لعلهم يتقون أردف ذلك بتقريب المتقين وإكرامهم ونهاه عن طردهم ووصفهم بموافقة ظاهرهم لباطنهم من دعاء ربهم وخلوص نياتهم. والظاهر في قوله: يدعون ربهم، يسألونه ويلجأون إليه ويقصدونه بالدعاء والرغبة. و ﴿ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ ﴾ كناية عن الزمان الدائم ولا يراد بهما خصوص زمانهما، كما تقول: الحمد لله بكرة وأصيلاً، تريد على كل حال، فكني بالغداة عن النهار وبالعشي عن الليل، وخصهما بالذكر لأن الشغل فيهما غالب على الناس ومن كان في هذين الوقتين يغلب عليه ذكر الله ودعاؤه كان في وقت الفراغ أغلب عليه. وقرأ ابن عامر وجماعة بالغدوة.﴿ يُرِيدُونَ ﴾ جملة حالية وذو الحال الواو في يدعون وهي الفاعل، ويدعون هو العامل في الحال. و ﴿ وَجْهَهُ ﴾ هو كناية عن الله تعالى إذ الجسمانية تستحيل بالنسبة إلى الله تعالى.﴿ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم ﴾ الآية، قال الزمخشري: كقوله:﴿ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّي ﴾[الشعراء: ١١٣]، وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم. فقال: ما عليك من حسابهم من شىء، بعد شهادته لهم بالإِخلاص وبإِرادة وجه الله في أعمالهم وإن كان الأمر كما يقولون عند الله فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيرة المتقين، وإن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم عليهم، أي لازم لهم لا يتعداهم إليك كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم كقوله تعالى:﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾[الأنعام: ١٦٤].
" انتهى ". لا يمكن ما ذكره من الترديد في قوله: وإن كان الأمر إلى آخره لأنه تعالى قد أخبر أنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه واخبار الله تعالى هو الصدق الذي لا شك فيه، فلا يقال فيهم وإن كان الأمر كما يقولون وإن كان لهم باطن غير مرحي لأنه فرض مخالف لما أخبر الله تعالى به من خلوص بواطنهم ونياتهم لله تعالى. و ﴿ مِّن شَيْءٍ ﴾ في موضع المبتدأ ومن زائدة ومن حسابهم في موضع الحال لأنه لو تأخر كان في موضع الصفة، وعليك في موضع خبر المبتدأ كأنه قيل ما شيء من حسابهم كائن عليك، فالمعنى نفي حسابهم عليه، وجوابه أي النفي قوله: فتطردهم فينتفي الحساب والطرد كأنه قيل: لا حساب عليك فكيف يكون طرد، ولما نفى حسابهم عليه نفى حسابه عليهم في قوله: وما من حسابك عليهم من شىء. قال الزمخشري: فإِن قلت: أما كفى قوله: ما عليك من حسابهم من شىء، حتى ضم إليه: وما من حسابك عليهم من شيء؟ قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصدهما مؤدى واحد وهو المعنى في قوله:﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾[الأنعام: ١٦٤].
ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. انتهى قوله كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه، تركيب غير عربي لا يجوز عود الضمير هنا غائباً ولا مخاطباً لأنه إن أعيد غائباً فلم يتقدم له اسم مفرد غائب يعود عليه. إنما تقدم قوله: ولا هم، ولا يمكن العود إليه على اعتقاد الاستغناء بالمفرد عن الجمع لأنه يصير التركيب بحساب صاحبهم وإن أعيد مخاطباً فلم يتقدم له مخاطب يعود عليه إنما تقدم قوله: لا تؤاخذ أنت ولا يمكن العود عليه لأنه ضمير مخاطب فلا يعود عليه غائباً ولو أبرزته مخاطباً لم يصح التركيب أيضاً فإِصلاح هذا التركيب أن يقال: لا يؤاخذ كل واحد منك ولا منهم بحساب صاحبه، أو لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم فتغلب الخطاب على الغيبة، كما تقول: أنت وزيد تضربان، وفسر الحساب هنا بالأعمال، وقيل: بالأرزاق أي كل منهما له حسابه، وقوله: فتكون من الظالمين هو جواب للنهي في قوله: ولا تطرد الذين كقوله تعالى:﴿ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ﴾[طه: ٦١] فصار جواب كل من النهي ومن النفي على ما يناسبه.﴿ وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ الآية، الكاف للتشبيه في موضع نصب. والإشارة بذلك إلى فتون سابق وهو افتتان الكفار الذين أشاروا بطرد من كان أسلم من ضعفاء المؤمنين وهم الذين نهاهم الله تعالى عن طردهم وكنى بقوله: بعضهم، عن أولئك الكفار، وقوله: ببعض، كناية عن أولئك المؤمنين، وقوله: ليقولوا، علة للفتون. وأهؤلاء إشارة إلى أولئك المؤمنين واستحقار لهم كقول الكفار:﴿ أَهَـٰذَا ٱلَّذِي بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً ﴾[الفرقان: ٤١].
وكقولهم:﴿ أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا ﴾[القمر: ٢٥].
وقوله: ﴿ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم ﴾ أي بالدين علينا.﴿ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ ﴾ هذا استفهام معناه التقرير والرد على أولئك القائلين أي الله أعلم بمن يشكر فيضع فيه هدايته دون من يكفر فلا يهديه. وجاء لفظ الشكر هنا في غاية من الحسن إذ تقدم من قولهم: أهؤلاء منّ الله عليهم، أي أنعم عليهم، فناسب ذكر الانعام لفظ الشكر، والمعنى أنه تعالى عالم بهؤلاء المنعم عليهم الشاكرين لنعمائه، وتضمّن العلم معنى الثواب والجزاء على شكرهم.﴿ وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ﴾ الآية، الجمهور أنها نزلت في الذين نهى الله عن طردهم فكان إذا رآهم بدأهم بالسّلام وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أبدؤهم بالسلام. ولفظة الذين يؤمنون عامة في هؤلاء وفي كل مؤمن يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره تعالى بإِنشاء التحية لهم.﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ﴾ في صحيح البخاري" أن الله تعالى كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش ان رحمتي سبقت غضبي "والكتب هنا كناية عن إيصال رحمته تعالى لعباده.﴿ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا ﴾ الآية، السوء: الشرك. وتقدّم تفسير عمل السوء في النساء.﴿ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي من بعد عمل السوء.﴿ وَأَصْلَحَ ﴾ شرط استدامة الإِصلاح في الشىء الذي تاب منه. وقرىء أنه فانه بفتح الهمزتين. والضمير في أنه ضمير الأمر والشأن وأنه بدل من الرحمة، والرحمة منصوب بكتب. ومن في قوله: من عمل، يجوز أن تكون شرطية، والفاء في فإِنه جواب الشرط وما بعده مقدر بالمصدر. وقبله مبتدأ يكون المصدر خبره، فالتقدير فالأمر غفران الله له. ويجوز أن تكون من مبتدأ والفاء دخلت في خبره، وهذه الجملة المقدرة في موضع خبر المبتدأ الذي هو من. وقرىء: بكسر الهمزتين فيهما الأولى على جهة التفسير للرحمة والثانية في موضع الخبر أو الجواب على التقديرين في من عمل أهي شرط أو موصول. وقرىء: بفتح الأولى على البدل من الرحمة كما تقدم وبكسر الثانية على التقديرين اللذين سبقا وما أحسن مساق هذا المقول أمره أولاً أن يقول للمؤمنين سلام عليكم، فبدأ أولاً بالسلامة والأمن لمن آمن ثم خاطبهم ثانياً بوجوب الرحمة، وأسند الكتابة إلى ربهم أي كتب الناظر في مصالحكم والذي يربيكم ويملككم الرحمة فهذا تبشير بعموم الرحمة، ثم أبدل منها شيئاً خاصاً وهو غفرانه ورحمته لمن تاب وأصلح.﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ الآية الكاف للتشبيه. وذلك إشارة إلى التفصيل الواقع في هذه السورة أي ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه ومن نرى فيه إمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة ومن دخل في الإِسلام، إلا أنه لا يحفظ حدوده واستبان يكون لازماً ومتعدياً وتميم وأهل نجد يذكرون السبيل وأهل الحجاز يؤنثونها. وقرىء: ﴿ وليستبين ﴾ بالياء سبيل بالرفع أي وليظهر.﴿ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ وقرىء: ولتستبين بتاء الخطاب سبيل بالنصب، فاستبان هنا متعدية فقيل: هو خطاب للرسول عليه السلام. وقيل: له ظاهراً والمراد أمته وحض سبيل المجرمين لأنه يلزم من استبانتها استبانة سبيل المؤمنين أو يكون على حذف معطوف لدلالة المعنى عليه التقدير سبيل المجرمين والمؤمنين.
﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ ﴾ الآية، أمره تعالى أن يجاهرهم بالتبريء من عبادتهم غير الله تعالى ولما ذكر تفصيل الآيات ليستبين سبيل المبطل من المحق نهاه عن سلوك سبيلهم. ومعنى نهيت: زجرت. والذين تدعون هم الأصنام، عبر عنها بالذين على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل وتدعون. قال ابن عباس: معناه تعبدون. وقيل: تسمونهم آلهة من دعوت ولدي زيداً سميته. وقيل: تدعون في أموركم وحوائجكم. وفي قوله: تدعون من دون الله، استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا منه على غير بصيرة. ولفظة نهيت، أبلغ من النفي بلا أعبد إذ فيه ورود تكليف.﴿ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ ﴾ الآية ولما كانت أصنامهم مختلفة كان لكل عابد صنم هوى يخصه فلذلك جمع. و ﴿ إِذاً ﴾ معناها الجزاء أي قد ظللت ان اتبعت أهواءكم.﴿ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ ﴾ جملة مؤكدة لما قبلها وأتى بالأولى بقوله: ضللت. والفعل يدل على التجدد. وفي الثانية باسم الفاعل وهو المهتدين ويدل على الثبوت فنفى تجدد الضلال وثبوت الهداية.﴿ قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ﴾ أي على شريعة واضحة. والبينة: هي المعجزة التي تبين صدقي، وكذبتم به اخبار منه عنهم أنهم كذبوا به. والظاهر عود الضمير على ربي أي وكذبتم بربي.﴿ مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ الذي استعجلوا به هو العذاب، والاستعجال لم يأت في القرآن إلا للعذاب.﴿ إِنِ ٱلْحُكْمُ ﴾ الآية، أي الحكم على الإِطلاق، وهو الفصل بين الخصمين المختلفين بإِيجاب الثواب والعقاب. وقرىء: يقضي من القضاء، والحق نعت لمصدر محذوف أي يقضي القضاء الحق. وقيل: الحق مفعول بيقضي، ومعنى يقضي يصنع قال الشاعر: وعليهما مسرودتان قضاهما داود   أي صنعهما. وقرىء: يقصّ الحق من قص الحديث، كقوله:﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ ﴾[يوسف: ٣]، أو من قص الأثر أي اتبعه.﴿ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي ﴾ الآية أي لو كان في قدرتي الوصول إلى ما تستعجلون به من حلول العذاب لبادرت إليه ووقع الانفصال.﴿ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِٱلظَّالِمِينَ ﴾ الظاهر أن المعنى والله أعلم بكم فوضع الظاهر المشعر بوصفهم بالظلم موضع المضمر. ومعنى أعلم بهم، أي بمجازاتهم ففيه وعيد وتهديد.﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ ﴾ الآية، لما قال تعالى: ان الحكم إلا بالله، وقال: وهو أعلم بالظالمين، بعد قوله: ما تستعجلون به، انتقل من خاص إلى عام، وهو علمه تعالى بجميع الأمور الغيبية واستعار للقدرة عليها المفاتح لما كانت سبباً للوصول إلى الشىء فاندرج في هذا العام ما استعجلوا وقوعه وغيره. والمفاتيح جمع مفتاح بكسر الميم وهي الآلة التي يفتح بها ما أغلق. قال الزهراوي: ومفتح أفصح من مفتاح. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله إن الله عنده علم الساعة "، إلى آخر السورة.﴿ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ حصر أنه لا يعلم تلك المفاتح ولا يطلع عليها غيره تعالى، ولقد يظهر من هؤلاء المنتسبة إلى التصوف أشياء من ادعاء علم المغيبات، والاطلاع على علم عواقب أتباعهم، وأنهم معهم في الجنة مقطوع لهم ولأتباعهم بها يخبرون بذلك على رؤوس الاشهاد ولا ينكر ذلك أحد، هذا مع خلوهم عن العلوم الشرعية، يوهمون أنهم يعلمون الغيب. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: ومن زعم أن محمداً يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول:﴿ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾[النمل: ٦٥].
وقد كثرت هذه الدعاوي والخرافات في ديار مصر وقام بها ناس صبيان العقول يسمون بالشيوخ.﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ ﴾ لما كان ذكره تعالى مفاتح الغيب أمراً معقولاً أخبر تعالى باستئثاره بعلمه واختصاصه به ذكر تعلق علمه بهذا المحسوس على سبيل العموم، ثم ذكر علمه بالورقة والحبة والرطب واليابس على سبيل الخصوص، فتحصل أخباره تعالى بأنه عالم بالكليات والجزئيات مستأثر بعلمه وبما نعلمه نحن. وقدم البر لكثرة مشاهدتنا لما اشتمل عليه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والحيوان والنبات والمعادن، أو على سبيل الترقي إلى ما هو أعظم في الجملة لأن ما فيه من أجناس الحيوانات أعجب وطوله وعرضه أعظم، وما في البحر من حيوان وجواهر وغير ذلك. وعبّر بلفظ ما التي هي لآحاد ما لا يعقل لكثرة أجناسه وأنواعه وأشكاله فشمل النوعين العاقل وغيره تغليباً لما لا يعقل. وقال سيبويه: ما مبهمة تقع على كل شيء. فظاهر كلامه أنها لا تختص بما لا يعقل. و ﴿ مِن وَرَقَةٍ ﴾ من: زائدة. وورقة: فاعل بتسقط، ويعلمها مطلقاً قبل السقوط ومعه وبعده، ويعلمها في موضع الحال من ورقة، وهي الحال من النكرة كما تقول: ما جاء أحد إلا راكباً.﴿ وَلاَ حَبَّةٍ ﴾ أتى بجزءين لطيفين: أحدهما علوي وهو سقوط ورقة من علوّ إلى أسفل، والثاني سفلي وهو اختفاء حبة في بطن الأرض.﴿ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ ﴾ الآية، هذا الاستثناء جار مجرى التوكيد لأن قوله: ولا حبة ولا رطب ولا يابس، معطوف على قوله: من ورقة، والاستثناء الأول منسحب عليها كما تقول: ما جاءني من رجل إلا أكرمته ولا امرأة، فالمعنى إلا أكرمتها، ولكنه لما طال الكلام عليها أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد وحسنه كونه فاصلة رأس آية، والرطب واليابس وصفان معروفان والمراد العموم في المتصف بهما والكتاب المبين كناية عن علمه تعالى المحيط بجميع الأشياء.
﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ ﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر استئثاره بالعلم التام للكليات والجزئيات ذكر استئثاره بالقدرة التامة تنبيهاً على ما تختص به الإِلهية ذكر شيئاً محسوساً قاهراً للأنام وهو التوفي بالليل والبعث بالنهار، وكلاهما ليس للإِنسان فيه قدرة؛ بل هو أمر يوقعه الله تعالى بالإِنسان. والتوفي عبارة في العرف عن الموت، وهنا المعنى به النوم على سبيل المجاز للعلاقة التي بينه وبين الموت وهي زوال إحساسه ومعرفته وفكره. و ﴿ جَرَحْتُم ﴾ كسبتم. ومنه جوارح الطير أي كواسبها. واجترحوا السيئات: اكتسبوها. والمراد منه أعمال الجوارح. ومنه قيل: للأعضاء جوارح. والضمير في فيه عائد على النهار، وقضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها. و ﴿ مُّسَمًّى ﴾ أي في علم الله تعالى.﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ وهو المرجع إلى موقف الحساب.﴿ وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ ﴾ الآية، تقدم الكلام عليها.﴿ وَيُرْسِلُ ﴾ ظاهره أن يكون معطوفاً على وهو القاهر عطف جملة فعلية على جملة إسمية وهي من آثار القهر. و ﴿ عَلَيْكُم ﴾ ظاهره أنه متعلق بيرسل كقوله تعالى:﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ ﴾[الرحمن: ٣٥].
ولفظة عليكم مشعرة بالعلو والاستيلاء لتمكنهم منا جعلوا كان ذلك علينا، وجوزوا أن يكون متعلقاً بحفظة أي حافظين عليكم. وحفظة: جمع حافظ، وهو قياس مطرد في فاعل كقولهم: بارّ وبررة.﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ ﴾ أي أسباب الموت.﴿ تَوَفَّتْهُ ﴾ قبضت روحه.﴿ رُسُلُنَا ﴾ جاء جمعاً فعني به ملك الموت وأعوانه. والظاهر أن الرسل هنا غير الحفظة ولا تعارض بين قوله:﴿ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا ﴾[الزمر: ٤٢] وبين قوله:﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ﴾[السجدة: ١١] وبين قوله: توفته رسلنا، لأن نسبة ذلك إلى الله تعالى بالحقيقة ولغيره بالمباشرة.﴿ وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ﴾ جملة حالية. والعامل فيها توفته أو استئنافية أخبر عنهم بأنهم لا يفرطون في شىء مما أمروا به من الحفظ والتوفي.﴿ ثُمَّ رُدُّوۤاْ ﴾ الظاهر عود الضمير على العباد وانتقل من ضمير الخطاب في عليكم إلى ضمير الغيبة في ردّوا. وفاعل الردّ المحذوف هو الله تعالى كان الأصل ثم ردّهم الله. وقرىء: ردّوا بكسر الراء أصله رددوا، أتبعت حركة الراء لحركة الدال ثم سكنت الدال للإِدغام، فقيل: ردوا، كما قرىء ردّت إلينا في سورة يوسف. وظاهر الأخبار بالرد إلى الله أنه يزاد به البعث والرجوع إلى حكم الله وجزائه يوم القيامة، ويدل عليه آخر الآية. ومولاهم: فيه اشعار بإِحسانه تعالى إليهم إذ مولاهم هو سيدهم وهم عبيده، ووصفه تعالى بالحق معناه العدل أي الذي لا يحكم إلا بالحق.﴿ أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ ﴾ تنبيه منه تعالى عباده بأن أنواع التصرفات جميعها له.﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ ﴾ تقدم الكلام عليه في سرعة حسابه تعالى في قوله:﴿ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾[البقرة: ٢٠٢، النور: ٣٩].
﴿ قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ ﴾ الآية، لما تقدم ذكره تعالى دلائل على ألوهيته من العلم التام والقدرة الكاملة، ذكر نوعاً من أثرهما وهو الإِنجاء من الشدائد، وهو استفهام يراد به التقرير والإِنكار والتوبيخ والتوقيف على سوء معتقد من عبد الأصنام وترك الذي ينجي من الشدائد ويلجأ إليه في كشفها. والظلمات: أريد بها حقيقة الظلمة، وجمعت باعتبار مواردها ففي البر والبحر ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الصواعق، وفي البر أيضاً ظلمة الغبار وظلمة الغيم وظلمة الريح، وفي البحر أيضاً ظلمة الأمواج، ويكون ذلك على حذف مضاف التقدير من مهالك ظلمة البر والبحر ومخاوفهما. وأكثر المفسرين على أن الظلمات مجاز عن شدائد البر والبحر ومخاوفهما وأهوالهما. والعرب تقول: يوم أسود، ويوم مظلم، ويوم ذو كواكب. و ﴿ تَدْعُونَهُ ﴾ جملة حالية. وذو الحال ضمير الخطاب أي تنادونه مظهري الحاجة إليه ومخفيها. والتضرع وصف باد على الإِنسان. والخفية: الإِخفاء. وقال الحسن: تضرعاً: علانية. وخفية أي نية، وانتصبا على المصدر أي تتضرعون تضرعاً وتخفون خفية.﴿ لَّئِنْ أَنجَانَا ﴾ قبله قسم محذوف، واللام هي الموطئة لجواب القسم وهو لنكونن. والإِشارة بهذه إلى الظلمات. وأن شرطية بعد اللام وجوابها محذوف لدلالة جواب القسم عليه.﴿ قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا ﴾ الضمير في منها عائد على ما أشير إليه بقوله: من هذه، ومن كل معطوف على الضمير المجرور وأعيد معه الخافض، وأمره تعالى بالمسابقة إلى الجواب ليكون هو صلى الله عليه وسلم أسبق إلى الخير وإلى الاعتراف بالحق. ثم ذكر أنه تعالى ينجي من هذه الشدائد التي حضرتهم.﴿ وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ﴾ فعم بعد التحضيض ثم ذكر قبح ما يأتون به بعد ذلك وبعد إفراده بالدعاء والتضرع ووعدهم إياه بالشكر من إشراكهم معه في العبادة غيره. قال ابن عطية: وعطف بثم للمهلة التي تبين قبح فعلهم أي ثم بعد معرفتكم بهذا كله، وتحققه أنتم تشركون. " انتهى ".
﴿ قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ ﴾ الآية، لما نزلت استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في الثالثة: هذه أهون أو أيسر. والظاهر أن الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والآية متضمنة للوعيد.﴿ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ ﴾ كما فعل بقوم لوط وكما فعل بأصحاب الفيل أرسل عليهما حجارة من سجيل.﴿ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ كما فعل بقارون وبداره. قال تعالى:﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ ﴾[القصص: ٨١].
ويذيق بعضكم كما جرى في حرب صفين بين علي رضي الله عنه ومعاوية، وكما جرى بين علي والخوارج، وكل هؤلاء مسلمون مؤمنون.﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ ﴾ أي يخلطكم.﴿ شِيَعاً ﴾ جمع شيعة. وانتصب على الحال أي يخلطكم متشايعين فرقاً مختلفة. والبأس: الشدة.﴿ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ ﴾ هذه استرجاع لهم ولفظة تعجب له عليه السلام. والمعنى أنا نسلك في مجيء الآيات أنواعاً رجاء أن يفقهوا ويفهموا عن الله لأن في اختلاف الآيات ما يقتضي الفهم إن عزبت آية كم تعزب أخرى.﴿ وَكَذَّبَ بِهِ ﴾ الضمير عائد على القرآن. ويدل عليه ذكر الآيات قبله.﴿ وَهُوَ ٱلْحَقُّ ﴾ جملة استئناف أخبر بأن القرآن هو الحق، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في به وهو أشنع عليهم في التكذيب بشىء هو الحق.﴿ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾ أي لست بقائم عليكم لأكرهكم على التوحيد.﴿ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ﴾ أي لكل شىء ينبأ به وقت استقرار وحصول لا بد منه.﴿ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ مبالغة في التهديد والوعيد.﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ ﴾ الآية، هذا خطاب له صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه المؤمنون لأن علة النهي وهو سماع الخوض في آيات الله يشمله وإياهم. ورأيت هنا بصرية ولذلك تعدت إلى واحد ولا بد من تقدير حال محذوفة، أي وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا وهو خائضون فيها والخوض أصله في الماء شبه تنقلهم في آيات الله بالخوض في الماء وتنقلهم قولهم في الآيات: هذا سحر هذا افتراء هذه أساطير الأولين.﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ أمر له عليه السلام بالإِعراض عنهم وهو تركهم بالنية والجلوس معهم ببيّنة قوله تعالى:﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾[النساء: ١٤٠]، الآية،﴿ فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ ﴾[النساء: ١٤٠].
﴿ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَٰنُ ﴾ أي يشغلك عن النهي عن مجالستهم.﴿ فَلاَ تَقْعُدْ ﴾ معهم.﴿ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ ﴾ أي ذكرك النهي. وما أحسن مجيء الشرط الأول بإِذا التي هي للتحقق لأن كونهم يخوضون في الآيات محقق، ومجيء الشرط الثاني بأن لأن أن لغير المحقق، وجاء مع القوم الظالمين تنبيهاً على علة الخوض في الآيات والطعن فيها، وأن سبب ذلك ظلمهم وهو مجاوزة الحد. وما زائدة بعد أن الشرطية والفعل قد لحقته النون الشديدة وكثر ذلك في القرآن. قال تعالى:﴿ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ﴾[الزخرف: ٤١]﴿ وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ ﴾[الأعراف: ٢٠٠، فصلت: ٣٦]، ويجوز حذف ما في غير القرآن، وحذف نون التوكيد، وحذف إيهما شئت فتقول: ان ما تقم أقم، وان تقومن أقم، نص على ذلك سيبويه. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول. فلا تقعد بعد الذكرى أي بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم. " انتهى ". وهذا خلاف ظاهر الشرط لأنه قد نهى عن القعود معهم قبل. ثم عطف على الشرط السابق هذا الشرط وكله مستقبل.﴿ وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ هم المؤمنون. والضمير في حسابهم عائد على المستهزئين الخائضين في الآيات روي أن المؤمنين قالوا لما نزلت: فلا تقعدوا معهم. قالوا: لا يمكننا طواف ولا عبادة في الحرم. فنزلت:﴿ مِّن شَيْءٍ ﴾ من: زائدة. وشىء: مبتدأ خبره على الذين. وذكرى يحتمل أن تكون في موضع نصب أي ولكن يذكرونهم ذكرى أو ذكروهم أو في موضع رفع أي ولكن عليهم ذكرى.﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ الوعيد بتذكيركم إياهم. قال الزمخشري: ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل من شىء كقولك: ما في الدار من أحد ولكن زيد، لأن قوله: من حسابهم، يأبى ذلك. " انتهى ". كأنه تخيل أن في العطف يلزم القيد الذي في المعطوف عليه وهو من حسابهم لأنه قيد في شىء فلا يجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفاً على من شىء على الموضع لأنه يصير التقدير عنده، ولكن ذكرى من حسابهم. وليس المعنى على هذا وهذا الذي تخيله ليس بشىء. لأنه لا يلزم في العطف بولكن ما ذكر تقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق، وما عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش، وما قام من رجل عالم ولكن رجل جاهل. فعلى هذا الذي قررناه يجوز أن يكون من قبيل عطف الجمل كما تقدم، ويجوز أن يكون من عطف المفردات والعطف إنما هو للواو ودخلت لكن للإِستدراك.
﴿ وَذَرِ الَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ﴾ الآية، هذا أمر بتركهم وكان ذلك لقلة اتبّاع الإِسلام حينئذٍ ودينهم ما كانوا عليه من البحائر والسوائب والحوامي والوصائل وعبادة الأصنام والطواف حول البيت عراة يصفقون ويصفرون.﴿ وَذَكِّرْ بِهِ ﴾ الضمير في به عائد على القرآن. و ﴿ تُبْسَلَ ﴾ قال ابن عباس: تفضح. وقال قتادة: تحبس وترتهن. وأن تبل اتفقوا على أنه في موضع المفعول من أجله وقدروا كراهة أن تبسل ومخافة أن تبسل ولئلا تبسل. ويجوز عندي أن يكون في موضع جر على البدل من الضمير. والضمير مفسر بالبدل وأضمر الابسال لما في الاضمار من التفخيم، كما أضمروا ضمير الأمر والشأن وفسّر بالبدل وهو الإِبسال فالتقدير وذكر بارتهان النفوس وحسبها بما كسبت. وقد روي: إذا هي لم تستك بعود اراكة   تنحل فاستاكت به عود أسحلبجر عود على أنه بدل من الضمير.﴿ لَيْسَ لَهَا ﴾ هذه جملة استئناف اخبار. و ﴿ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ أي من دون عذاب الله.﴿ وَلِيٌّ ﴾ فينصرها.﴿ وَلاَ شَفِيعٌ ﴾ فيدفع عنها بمسألته.﴿ وَإِن تَعْدِلْ ﴾ أي وإن تفد كل فداء. والعدل: الفدية، لأن الفادي يعدل الفداء بمثله.﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أُبْسِلُواْ ﴾ الظاهر أنه يعود على الذين اتخذوا دينهم. وقال ابن عطية: أولئك إشارة إلى الحبس المدلول عليه بقوله: أن تبسل، نفس الآية.﴿ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ ﴾ الحميم: الماء الحار. والأظهر أنها جملة استئناف اخبار، ويحتمل أن تكون حالاً. وشراب بمعنى مفعول كطعام بمعنى مطعوم، ولا ينقاس فعال بمعنى مفعول، لا يقال: ضراب ولا قتال بمعنى مضروب ومقتول.﴿ قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ الآية، هذا استفهام بمعنى الإِنكار أي لا يقع شىء من هذا من دون الله النافع الضار المبدع للأشياء القادر. قوله و: ﴿ مَا لاَ يَنفَعُنَا ﴾ إذ هي أصنام خشب وحجارة وغير ذلك.﴿ وَنُرَدُّ ﴾ معطوف على أندعو وهو داخل في استفهام التقرير.﴿ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا ﴾ أي إلى الشرك أي رد القهقرى إلى وراء وهي المشية الدنية. واستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر. قال الطبري وغيره: الرد على العقب يستعمل فيمن أمل أمراً فخاب أمله.﴿ كَٱلَّذِي ﴾ الآية، في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي رداً مثل رد الذي. والأحسن أن يكون حالاً أي كائنين كالذي. والذي ظاهره أنه مفرد ويجوز أن يراد به معنى الجمع أي كالفريق الذي استهوته الشياطين حمله الزمخشري على أنه من الهوى الذي هو المودة والميل كأنه قيل: كالذي أمالته الشياطين عن الطريق الواضح إلى المهمة القفر وحمله غيره كأبي علي على أنه من الهوى أي ألقته في هوة، ويكون استفعل بمعنى أفعل نحو استزل وأزل.﴿ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ متعلق باستهوته.﴿ حَيْرَانَ ﴾ حال من ضمير النصب في استهوته وهو لا ينصرف ومؤنثه حيرى.﴿ لَهُ أَصْحَابٌ ﴾ قال الزمخشري: أي لهذا المستوى أصحاب رفقة.﴿ يَدْعُونَهُ إِلَى ٱلْهُدَى ﴾ أي إلى أن يهدوه إلى الطريق المستوي. قال ابن عباس في معنى الآية: مثل عابد الصنم مثل من دعاه الغول فيتبعه فيصبح وقد ألقته في مَهْمَةٍ ومهلكة فهو حائر في تلك المهامة.﴿ ٱئْتِنَا ﴾ معمول لقول محذوف تقديره قائلين إئتنا وهو من الإِتيان بمعنى جيء إلينا.﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ ﴾ من قال ان قوله: له أصحاب، يعني به من الشياطين. وأن قوله: إلى الهدى، بزعمهم كانت هذه الجملة رداً عليهم أي ليس ما زعمتم هدى بل هو كفر وإنما الهدى هدى الله وهو الإِيمان. ومن قال ان قوله: له أصحاب مثل للمؤمنين الداعين إلى الهدى الذي هو الإِيمان كانت اخباراً بأن الهدى هدى الله من شاء لا أنه يلزم من دعائهم إلى الهدى وقوع الهداية بل ذلك بيد الله تعالى من هداه اهتدى.﴿ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ الظاهر أن اللام لام كي، ومفع
﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ ﴾ الآية، لما ذكر أنه تعالى إلى جزائه يحشر العالم وهو منتهى ما يؤول إليه أمرهم ذكر مبتدأ وجود العالم واختراعه له بالحق أي بما هو حق لا عبث فيه ولا هو باطل أي لم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً، بل صدراً عن حكمة وصواب وليستدل بهما على وجود الصانع أن هذه المخلوقات العظيمة الظاهر عليها سمات الحدوث لا بد لها من صانع واحد عالم قادر مريد جلّ وتعالى.﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ ﴾ خبر المبتدأ وهو قوله: والحق، صفة والتقدير قوله: الحق كائن يوم يقول، كما تقول: اليوم القتال. و ﴿ كُن ﴾ معمول ليقول. و ﴿ فَيَكُونُ ﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو يكون وهذا تمثيل لإِخراج الشيء من العدم إلى الوجود وسرعته إلا أن ثمّ شيئاً يؤمر.﴿ وَلَهُ ٱلْمُلْكُ ﴾ الملك مبتدأ وخبره المجرور قبله. ويوم: منصوب بما تعلق به الجار والمجرور، أي الملك كائن له.﴿ يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ ﴾ كقوله تعالى:﴿ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ﴾[غافر: ١٦].
﴿ عَٰلِمُ ﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو عالم.﴿ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ ﴾ لما ذكر خلق الخلق وسرعة إيجاده لما يشاء وتضمن البعث إفناءهم قبل ذلك ناسب ذكر الوصف بالحكيم، ولما ذكر أنه عالم الغيب والشهادة ناسب ذكر الوصف بالخبير، إذ هي صفة تدل على علم ما لطف إدراكه من الأشياء.﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ ﴾ الآية، لما ذكر بقوله:﴿ قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا ﴾[الأنعام: ٧١]، ناسب ذكر هذه الآية هنا وكان التذكار بقصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه أنسب لرجوع العرب إليه إذ هو جدهم الأعلى، فذكروا بأن إنكار هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم عليكم عبادة الأصنام هو مثل إنكار جدّكم إبراهيم على أبيه وقومه عبادتها. وفي ذلك التنبيه على اقتفاء من سلف من صالحي الآباء والأجداد وهم وسائر الطوائف يعظمون إبراهيم عليه السلام. والظاهر أن آزر اسم أبيه. قال ابن عباس وغيره: وفي كتب التواريخ أن اسمه بالسريانية تارخ، فعلى هذا يكون له اسمان كيعقوب وإسرائيل. وهو عطف بيان أو بدل وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة، وقرىء: آزر بالضم على النداء أي يا آزر.﴿ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ﴾ معمول لقال وهو استفهام معناه الإِنكار والتوبيخ.﴿ أَصْنَاماً آلِهَةً ﴾ مفعولان لتتخذ وبدأ بقوله: أصناماً، تقبيحاً وتبعيداً لأن يتخذ ما كان من حجر أو خشب معبودات آلهة لما أنكر على أبيه أخبر أنه وقومه في ضلال وجعلهم مظروفين للضلال أبلغ من وصفهم بالضلال كان الضلال صار ظرفاً لهم. و ﴿ مُّبِينٍ ﴾ ظاهر.﴿ وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ ﴾ الآية. هذه جملة اعتراض بين قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﴾، من منكراً على أبيه عبادة الأصنام، وبين جملة الاستدلال عليهم بإِفراد المعبود الحق، وكونه لا يشبه المخلوقين وهي قوله: ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ ﴾، والكاف في كذلك للتشبيه وذلك إشارة إلى الرؤية المفهومة من قوله: أني أراك أي مثل تلك الرؤية نرى. ونرى بمعنى أرأينا، ويجوز أن تكون الكاف للتعليل بمعنى اللام كأنه قيل: وكذلك. و ﴿ مَلَكُوتَ ﴾ بمعنى: الملك. كالرحموت بمعنى: الرحمة. والرغبوت بمعنى: الرغبة. وفي هذا البناء على فعلوت اشعار بالتكثير. والإِراءة هنا بمعنى: الإِبصار، لأنها تعدت إلى اثنين الأول إبراهيم والثاني ملكوت. والهمزة فيها للنقل أرأيته جعلته يرى فأصل الفعل رأى بمعنى أبصر يتعدى إلى واحد فلما أدخل همزة النقل تعدى إلى اثنين. وروي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" كشف الله له السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين "، فليس المعنى مجرد الإِبصار ولكن وقع له معها من الإعتبار والعلم ما لم يقع لأحد من أهل زمانه الذين بعث إليهم، قاله ابن عباس. وقال الشاعر: ولكن للعيان لطيف معنى   له سأل المعاينة الخليل﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ ﴾ أي أريناه الملكوت.﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ ﴾ الآية، هذه الجملة معطوفة على قوله: وإذ قال إبراهيم، على قول من جعل وكذلك نرى اعتراضاً وهو قول الزمخشري. وقال ابن عطية: الفاء في قوله: فلما، رابطة جملة ما بعدها بما قبلها وهي ترجح أن المراد بالملكوت هو هذا التفصيل الذي في هذه الآية. جنى عليه وأجن أظلم هذا تفسير المعنى، وهو بمعنى ستر متعدياً. قال الشاعر: وما وردت قبيل الكرى   وقد جنه السدف الأدهم﴿ رَأَى ﴾ جواب لما.﴿ كَوْكَباً ﴾ هو الزهرة، قاله ابن عباس. ووزنه فوعل عند البصريين فالواو زائدة وأصوله الكافان والباء. وقال الصاغاني. حق لفظ كوكب أن يذكر تركيب وَ كَ بَ عند حذاق النحويين فإِنها صدرت بكاف زائدة عندهم إلا أن الجوهري أوردها في تركيب ك و ك ب، ولعله تبع نية الليث فإِنه ذكره في الرباعي ذاهباً إلى أن الواو أصلية. " انتهى ". وليت شعري من حذاق النحويين الذين تكون الكاف عندهم من حروف الزيادة فضلاً عن زيادتها في أول الكلمة، والكاف ليست من حروف الزيادة.﴿ قَالَ هَـٰذَا رَبِّي ﴾ استئناف كلام من إبراهيم حين رأى الكوكب. ولا يريد بذلك الإِعتقاد وإنما ذلك مثل أن ترى رجلاً ضعيف القوة لا يكاد ينهض فيقول إنسان: هذا ناصري، بمعنى أنه لا يقدر على نصرتي مثل هذا. وقال الزمخشري: كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدّ إلى أن شيئاً منها لا يصح أن يكون إلهاً لقيام دليل الحدوث فيها، وإن وراءها محدثاً أحدثها وصانعاً صنعها ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها وسيرها وسائر أحوالها." انتهى ".﴿ فَلَمَّآ أَفَلَ ﴾ أفل يأفل أفولاً، أي غاب. قال ذو الرمة: مصابيح ليست باللواتي تقودها   نجوم ولا بالآفلات الدوالك﴿ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ ﴾ أي عبادة الآفلين المتغيرين عن حال إلى حال المنتقلين من مكان إلى مكان، فإِن ذلك من صفات الاجرام، والله تعالى منزه عن ذلك.﴿ فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي ﴾ لم يأت في الكوكب بازغاً لأنه أولاً ما ارتقب حتى يبزغ الكوكب لأنه بإِظلام الليل تظهر الكواكب بخلاف حاله مع القمر والشمس فإِنه لما أوضح لهم أن هذا النير هو الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون رباً، وارتقب ما هو أنور منه وأضوأ على سبيل إلحاقه بالكوكب والاستدلال على أنه لا يصلح للعبادة، فرآه أول طلوعه وهو البزوع ثم عمل كذلك في الشمس ارتقبها إذ كانت أنور من القمر وأضوأ وأكبر جرماً وأعلم نفعاً ومنها يستمد القمر على ما قيل، فقال: ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم وبين أنها مساوية للقمر والكوكب في صفة الحدوث.﴿ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي ﴾ تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلهاً وهو نظير الكوكب في الأفول فهو ضال فإِن الهداية إلى الحق بتوفيق الله تعالى.﴿ فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً ﴾ المشهور في الشمس أنها مؤنثة. وقيل: تذكر وتؤنث. فأنثت أولاً على المشهور وذكرت في الإِشارة على اللغة القليلة مراعاة ومناسبة للخبر فرجحت لغة التذكير التي هي أقل على لغة التأنيث. ويمكن أن يقال أن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ولا في الإِشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث، بل المذكر والمؤنث سواء في ذلك عندهم، فلذلك أشار للمؤنث عندنا حين حكى كلام إبراهيم لما يشار به إلى المذكر، بل لو كان المؤنث بفرج لم تكن لهم علامة تدل عليه في كلامهم. وحين أخبر تعالى عنها بقوله: بازغة، وأفلت، أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية. ولما أفلت الشمس ولم يبق شىء يمثل لهم به وظهرت حجته وقوي بذلك على منابذتهم تبرأ من شركهم وناداهم بقوله:﴿ يٰقَوْمِ ﴾ لينبههم على تحقيق براءته من الشرك.
﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ﴾ الآية. وهذا من التجنيس المغاير الأول فعل والثاني اسم والمعنى قصدي وعبادتي.﴿ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ السماوات ظرف للكواكب والشمس والقمر معبوداتهم من دون الله تعالى.﴿ وَٱلأَرْضَ ﴾ ذكر الظرف الذي فيه أصنامهم المتخذة من الخشب والحجارة. وانتصب: ﴿ حَنِيفاً ﴾، على الحال. وذو الحال الثاني وجهت. والعامل فيها الفعل وتقدم تفسير الحنيف وهو المائل عن الأديان كلها إلى دين الحق. وختم ذلك بانتفاء كونه من المشركين وما أحسن ختم هذه الجمل، ختم أولاً في رؤية الكوكب بقوله: لا أحب الآفلين، وثانياً في تعليق الضلالة على انتفاء الهداية، وثالثاً في البراءة من الشرك، ورابعاً على سبيل التوكيد في انتفائه أن يكون من المشركين.﴿ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ ﴾ المحاجة: مفاعلة من اثنين مختلفين في حكمين يولي كل واحد منهما بحجته على صحة دعواه، والمعنى وحاجه قومه في توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه منكرين لذلك ومحاجة مثل هؤلاء إنما هي بالتمسك باقتفاء آبائهم تقليداً وبالتخويف مما يعبدونه من الأصنام كقول قوم هود: ان تقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، فأجابهم بأن الله تعالى قد هداه بالبرهان القاطع على توحيده ورفض ما سواه، وأنه لا يخاف من آلهتهم.﴿ وَقَدْ هَدَانِ ﴾ جملة حالية.﴿ وَلاَ أَخَافُ ﴾ استئناف اخبار. و ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي ﴾ إستثناء منقطع، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضراً استثنى مشيئة الله تعالى.﴿ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ ذكر عقب الاستثناء سعة علم الله تعالى في تعلقه بجميع الكوائن وانتصب علماً على التمييز المحول من الفاعل أصله وسع علم ربي كل شيء وأكثر ما يجيء التمييز المحول من الفاعل مع الفعل اللازم نحو: تصبب زيد عرقاً، وهنا جاء مع الفعل المتعدي لأن كل شىء مفعول بوسع ووسع متعد قال تعالى:﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾[البقرة: ٢٥٥].
﴿ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ﴾ تنبيه لهم على غفلتهم حيث عبدوا ما لا يضر ولا ينفع وأشركوا بالله وعلى ما حاجهم به من إظهار الدلائل التي أقامها على عدم صلاحية هذه الأصناف للربوبية.﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ ﴾ هذا استفهام معناه التعجب والإِنكار كأنه تعجب من فساد عقولهم حيث خوفوه خشباً وحجارة لا تضر ولا تنفع، وهم لا يخافون عقبى شركهم بالله تعالى وهو الذي بيده النفع والضر والأمر كله.﴿ وَلاَ تَخَافُونَ ﴾ معطوف على أخاف فهو داخل في التعجب والإِنكار واختلف متعلق الخوف فبالنسبة إلى إبراهيم علق الخوف بالأصنام وبالنسبة إليهم علقه بإِشراكهم بالله تركاً للمقابلة ولئلا يكون الله تعالى عديل أصنامهم لو كان التركيب ولا تخافون الله وأتى بلفظ ما الموضوعة لما لا يعقل لأن الأصنام لا تعقل إذ هي خشب وحجارة وكواكب. والسلطان: الحجة. والإِشراك لا يصح أن يكون عليه حجة وكأنه أقام الدليل العقلي على بطلان الشركاء وربوبيتهم نفي أيضاً أن يكون على ذلك دليل سمعي، فالمعنى أن ذلك ممتنع عقلاً وسمعاً فوجب إطراحه.﴿ فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلأَمْنِ ﴾ لما خوفوه في مكان الأمن ولم يخافوا في مكان الخوف، أبرز الاستفهام في صورة الاحتمال وإن كان قد علم قطعاً أنه هو الآمن لا هم، قال الشاعر: فلئن لقيتك خاليين لتعلمن   أيّي وأيك فارس الأحزابأي أينا. ومعلوم عنده أنه فارس الأحزاب لا المخاطب، وأضاف أيا إلى الفريقين ويعني فريق المشركين وفريق الموحدين وأعدل عن أينا أحق بالأمن أنا أم أنتم احترازاً من تجريد نفسه فيكون ذلك تزكية لها. وجواب الشرط محذوف أي إن كتم ذوي العلم والاستبصار فأخبروني أي هذين الفريقين أحق بالأمن.﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية الظاهر أنه من كلام إبراهيم لما استفهم استفهام عالم بمن هو الآمن نص على من له الأمن فقال: الذين آمنوا. الذين خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين أو مبتدأ. و ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ مبتدأ ثان. و ﴿ لَهُمُ ٱلأَمْنُ ﴾ خبر أولئك، والجملة من أولئك وما بعده خبر عن الأول ولم يلبسوا يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة فلا موضع لها من الإِعراب، ويحتمل أن تكون الجملة المنفية حالاً والعامل فيها آمنوا أي آمنوا غير لابسي إيمانهم بظلم. وما ذهب إليه ابن عصفور من أن وقوع الجملة المنفية بلم قليل جداً ليس كذلك. ألا ترى إلى قوله:﴿ فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ ﴾[آل عمران: ١٧٤].
وكذلك ما ذهب إليه ابن خروف من وجوب الواو فيها إذا كان فيها ضمير يعود على ذي الحال خطأ. ألا ترى إلى قوله: لم يمسسهم، فيه ضمير يعود على ذي الحال، وهو ضمير النصب في يمسسهم ولم تدخل الواو على لم.﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ ﴾ الآية. الإِشارة بتلك الى ما وقع به الاحتجاج من قوله: فلما جن عليه الليل إلى قوله: وهم مهتدون، هذا هو الظاهر وأضافها إليه تعالى على سبيل التشريف وكان المضاف إليه بنون العظمة لا بياء المتكلم. وآتيناها أي أحضرناها بياناً له وخلقناها في نفسه إذ هي من الحجج العقلية أو آتيناها بوحي منا ولقناه إياها. وتلك مبتدأ وحجتنا خبره، وآتيناها خبر ثان.﴿ عَلَىٰ قَوْمِهِ ﴾ في موضع الحال من الهاء في آتيناها أي آتيناها مستعلية على قومه هو على حذف مضاف تقديره على حجج قومه.﴿ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ ﴾ أي مراتب ومنزلة من نشاء. وأصل الدرجات في المكان ورفعها بالحجة والبيان. وقرىء: درجات بالتنوين فمن مفعول بنرفع، ودرجات منصوب على الظرف أي في درجات. وقرىء: مضافاً لمن فدرجات مفعول بنرفع.﴿ إِنَّ رَبَّكَ ﴾ الظاهر أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بقوله: وتلك حجتنا إلى آخره.
﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ﴾ الآية. هذه الجملة معطوفة على قوله: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ﴾، عطف جملة فعلية على إسمية. قال ابن عطية: ووهبنا، عطف على آتيناها. " انتهى ". لا يصح هذا لأن آتيناها لها موضع من الإِعراب، إما خبر، وإما حال، ولا يصح في ووهبنا شىء منهما وذكر ما منّ عليه به من هبته له هذا النبي الذي تفرعت منه أنبياء بني إسرائيل.﴿ كُلاًّ هَدَيْنَا ﴾ أي كل واحد من إسحاق ويعقوب هدينا وفي قوله: من قبل تنبيهاً على قدمه، وفي ذكره لطيفة وهو أن نوحاً عليه السلام عبدت الأصنام في زمانه وقومه أول قوم عبدوا الأصنام ووحّد هو الله تعالى، وكذلك إبراهيم عبدت الأصنام في زمانه ووحد هو الله تعالى ودعا برفضها.﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ ﴾ الضمير عائد على نوح لأنه أقرب مذكور ولأن في المذكورين لوطاً، وليس هو من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه فهو من ذرية نوح عليه السلام.﴿ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ وقدم داود لتقدمه في الزمان، ولكونه صاحب كتاب، ولكونه أصلاً لسليمان وهو فرعه.﴿ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ ﴾ قرنهما لاشتراكهما في الامتحان أيوب بالبلاء في جسده ونبذ قومه له، ويوسف بالسجن وتغريبه عن أهله، وفي مآلهما إلا السلامة والعافية. وقدم أيوب لأنه أعظم في الامتحان.﴿ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ﴾ قرنهما لاشتراكهما في الاخوة. وقدم موسى عليه السلام لأنه كليم الله وصاحب كتاب وهو التوراة والمعجزات التي ذكرها الله تعالى في كتابه.﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ أي مثل ذلك الجزاء من إيتاء الحجة وهبة الأولاد الخيّرين نجزي من كان محسناً في عبادتنا مراقباً في أعماله لنا.﴿ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ﴾ قرن بينهم لاشتراكهم في الزهد الشديد والإِعراض عن الدنيا. وبدأ بزكريا ويحيى لسبقهما عيسى في الزمان، وقدم بزكريا لأنه والد يحيى فهو أصل ويحيى فرع. وقدم عيسى لأنه صاحب كتاب ودائرة متسعة. وتقدم ذكر أنساب هؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إلا الياس، وهو الياس بن بشير بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران، وقيل: الياس هو الخضر عليه السلام. وفي ذكر عيسى عليه السلام هنا دليل على أن ابن البنت داخل في الذرية وبهذه الآية استدل على دخوله في الوقف على الذرية، وسواء أكان الضمير في ومن ذريته عائداً على نوح أو على إبراهيم فنقول الحسن والحسين ابنا فاطمة رضي الله عنهم هما من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذه الآية استدل أبو جعفر الباقر ويحيى بن يعمر على ذلك، وكان الحجاج بن يوسف طلب منهما الدليل على ذلك إذ كان هو ينكر ذلك فسكت في قصتين جرتا لهما معه.﴿ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ لا يختص كل بهؤلاء الأربعة بل يعم جميع من سبق ذكره.﴿ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ هو ابن إبراهيم من هاجر وهو أكبر ولده. وقيل: هو نبي من بني إسرائيل وكان زمان طالوت وهو المعني بقوله:﴿ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾[البقرة: ٢٤٦].
﴿ وَٱلْيَسَعَ ﴾ قرأ الجمهور: واليَسع، كأنّ أل دخلت على مضارع وَسِعَ يسَعَ فقيل: هو عربي دخلت أل عليه. وقرىء: والليسع على وزن فيعل كضيغم، والصحيح أنه في القراءتين أعجمي لزمته أل في القراءتين. وقال ابن مالك: ما قارنت ألْ نقله كالمسمى بالنضر أو بالنعمان أو ارتجاله كاليسع والسمَؤل فإِن الأَغلب ثبوت ألْ فيه، وهذه الأسماء لا تنصرف للعلمية والعجمة الا اليسع فإِنه منصرف يجر بالكسرة ولا ينون وإلا لوطا ونوحاً فإِنهما مصروفان لخفة البناء وسكون وسطهما وإن كانت العلتان موجودتين فيهما وهما العلمية والعجمة الشخصية.﴿ وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ ﴾ فيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الأولياء. فالبعض من ينتمي إلى التصوف في زعمهم أن الولي أفضل من النبي كمحمد بن العربي الحاتمي صاحب كتاب الفصوص، وكتاب الفتوح المكية، وعنقا مغرب وغيرهما من كتب الضلال وفيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة لعموم العالمين وهم الموجودون سوى الله تعالى فيندرج في العموم الملائكة.﴿ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ المجرور في موضع نصب. قال الزمخشري: عطفاً على كلا بمعنى وفضلنا بعض آبائهم فمن للتبعيض، والمراد من آمن منهم نبياً كان أو غير نبي.﴿ وَٱجْتَبَيْنَاهُمْ ﴾ عطف على فضلنا أي اصطفيناهم وكرر الهداية على سبيل التوضيح والتوكيد.﴿ ذٰلِكَ ﴾ إشارة إلى الهدى السابق. وفيه دليل على أن الهدى بمشيئة الله تعالى.﴿ وَلَوْ أَشْرَكُواْ ﴾ فرض تقديري لا يقع من الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى:﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾[الزمر: ٦٥].
والحبوط مترتب على مستحيل إذ الأنبياء معصومون فلا يمكن أن يقع منهم إشراك البتة.﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ إشارة إلى من سبق ذكره فذكر ما فضلوا به. و ﴿ ٱلْكِتَابَ ﴾ جنس للكتب الإِلهية كصحف إبراهيم والتوراة والإِنجيل والزبور.﴿ وَٱلْحُكْمَ ﴾ الحكمة، أو الحكم بين الخصوم.﴿ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا ﴾ الضمير في بها عائد على النبوة، أو على الكتاب والحكم والنبوة. والإِشارة بهؤلاء إلى كفار قريش وكل كافر في ذلك العصر، قاله ابن عباس. ومعنى: ﴿ وَكَّلْنَا بِهَا ﴾ أي أرصدنا للإِيمان بها. والتوكيل هنا استعارة للتوفيق للإِيمان بها والقيام بحقوقها والقوم الموكلون بها هم مؤمنوا أهل الكتاب من أهل المدينة، قاله ابن عباس.﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ﴾ الإِشارة بأولئك إلى المشار إليهم بأولئك الأولى وهم الأنبياء السابق ذكرهم وأمره تعالى أن يقتديَ بهداهم. والهداية السابقة هي توحيد الله تعالى وتقديسه عن الشريك، فالمعنى فبطريقتهم في الإِيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع، فإِنها مختلفة فلا يمكن أن يؤمر بالاقتداء بالمختلفة وهي هدى ما لم تنسخ، فإِذا نسخت لم تبق هدى بخلاف أصول الدين فإِنها كلها هدى أبداً.﴿ فَبِهُدَاهُمُ ﴾ متعلق باقتده. وقرىء اقده بالهاء الساكنة وصلاً ووقفاً، وهي هاء السكت أجروها وصلاً مجراها وقفاً. وقرىء: بحذفها وصلاً وإثباتها وقفاً وهذا هو القياس. وقرىء: اقتده باختلاس الكسرة في الهاء وصلاً وسكونها وقفاً. وقرىء: بكسرها ووصلها بياء وصلاً، وسكونها وقفاً، وتؤول على أنها ضمير المصدر لا هاء السكت.﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ أي على الدعاء إلى القرآن وهو الهدى والصراط المستقيم. أجراً أي أجرة، أتكثر بها وأخص بها أن القرآن إلا ذكرى أي موعظة لجميع العالمين.
﴿ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ قال ابن عباس:" نزلت في مالك بن الصيف اليهودي إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام أتجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين. قال: نعم. قال: فانت الحبر السمين "فغضب ثم قال:﴿ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ﴾ وأصل القدر معرفة الكمية. يقال: قدر الشىء إذا أحرزه وسبره. قال ابن عطية: معناه ما عظموا الله حق تعظيمه. وانتصب حق قدره على المصدر وهو في الأصل وصف أي قدره الحق ووصف المصدر إذا أضيف إليه انتصب نصب المصدر. والعامل في إذ قدروا من شىء مفعول بانزل. ومن: زائدة تدل على الاستغراق.﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ﴾ الآية، فيها دليل على أن النقض يقدح في صحة الكلام وذلك أنه نقض قولهم: ما أنزل الله، بقوله: قل من أنزل الكتاب، فلو لم يكن النقض دليلاً على فساد الكلام لما كانت حجة الله مفيدة لهذا المطلوب. والكتاب هنا: التوراة. وانتصب نوراً وهدى على الحال والعامل أنزل أو جاء.﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ ﴾ أي ذا قراطيس أي أوراقاً وبطائق.﴿ وَتُخْفُونَ كَثِيراً ﴾ كإِخفائهم الآيات الدالة على بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأحكام التي أخفوها. وأدرج تعالى تحت الإِلزام توبيخهم وذمهم بسوء حملهم لكتابهم وتحريفهم وإبداء بعض وإخفاء بعض.﴿ وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ ﴾ ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل مقصود به الامتنان عليهم وعلى آبائهم بأن علموا من دين الله وهدايته ما لم يكونوا به عالمين.﴿ قُلِ ٱللَّهُ ﴾ أمره تعالى بالمبادرة إلى الجواب أي قل: الله أنزله فإِنهم لا يدرون أن يناكروك لأن الكتاب الموصوف بالنور والهدى الآتي به من أيد بالمعجزات إنما أنزله الله تعالى.﴿ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ أي في باطلهم الذين يخوضون فيه، ويقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه: إنما أنت لاعب. ويلعبون حال من مفعول ذرهم أو من ضمير خوضهم. وفي خوضهم متعلق بذرهم أو بيلعبون أو حالاً من يلعبون.﴿ وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ ﴾ الإِشارة إلى القرآن لما قرر إنكار من أنكر أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً أخبر أن هذا الكتاب الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبارك كثير النفع والفائدة. ولما كان الإِنكار إنما وقع على الإِنزال فقالوا: ما أنزل الله. وقيل: من أنزل الكتاب، كان تقديم وصفه بالإِنزال آكد من وصفه بكونه مباركاً، ولأن ما أنزله الله تعالى فهو مبارك قطعاً فصارت الصفة بكونه مباركاً كأنها صفة مؤكدة إذ تضمنها ما قبلها.﴿ وَلِتُنذِرَ ﴾ قرىء: بالتاء. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرىء: بالياء. والضمير فيه عائد على الكتاب. و ﴿ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ ﴾ هو على حذف مضاف تقديره أهل أم القرى. وأم القرى: مكة، سميت بذلك لأنها منشأ الدين ولدحو الأرض منها، ولكونها وسط الارض، ولكونها قبلة، وموضع الحج، ومكان أول بيت وضع للناس.﴿ وَمَنْ ﴾ معطوف على أهل المحذوف. ولا يجوز حذف من والعطف على أم القرى لأنه يكون عطفاً على المفعول به وحول ملتزم فيه الظرفية فلا يصح عطفه على أم القرى فكان يكون مفعولاً به وهو لا يجوز لإِلتزامه الظرفية.﴿ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ ﴾ الظاهر أن الضمير في به عائد على الكتاب أي الذين يصدقون بأن لهم حشراً وجزاء يؤمنون بهذا الكتاب لما انطوى عليه من ذكر الوعد والوعيد والتبشير والتهديد.﴿ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ خصّ الصلاة لأنها عماد الدين ومن كان محافظاً عليها كان محافظاً على أخواتها.﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾، الآية نزلت في النضر بن الحارث ومن معه من المستهزئين لأنه عارض القرآن بكلام سخيف لا يذكر لسخفه ويندرج في عموم من افترى مسيلمة والأسود العنسي وكل من افترى على الله كذباً. وتقدم الكلام على: ومن أظلم، وفسروه بأنه استفهام معناه النفي أي لا أحد أظلم.﴿ أَوْ قَالَ ﴾ معطوف على صلة من وبدأ أولاً بالعام وهو افتراء الكذب على الله تعالى وهو أعم من أن يكون ذلك الافتراء بادعاء وحي أو غيره، ثم ثانياً بخاص وهو افتراء منسوب إلى وحي من الله تعالى.﴿ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ﴾ جملة حالية أي غير موحى إليه لأن من قال أوحي إلي وهو موحى إليه هو صادق، ثم ثالثاً بأخص مما قبله لأن الوحي قد يكون بإنزال القرآن وبغيره. وقصة ابن أبي سرج هي دعواه أنه سينزل قرآناً مثل ما أنزل الله، وقوله: مثل ما أنزل الله، ليس معتقده أن الله أنزل شيئاً، وإنما المعنى مثل ما أنزل الله على زعمكم وإعادة من تدل على تغاير مدلوله لمدلول من المتقدمة فالذي قال: سأنزل غير من افترى. أو قال: أوحى، وإن كان ينطلق عليه ما قبله انطلاق العام على الخاص. وقوله: سأنزل، وعد كاذب وتسميته إنزالاً مجاز وإنما المعنى سأنظم كلاماً يماثل ما ادعيتم أن الله تعالى أنزله. وهذه الآية وإن كان سبب نزولها في مخصوصين فهي شاملة لكل من ادعى مثل دعواهم كطليحة الأسدي، والمختار بن أبي عبيد، وسجاح وغيرهم. وقد ادعى النبوة عالم كثيرون وكان ممن عاصرناه إبراهيم الغازازي الفقير ادعى ذلك بمدينة مالقة وقتله السلطان أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر الخزرجي ملك الأندلس بغرناطة وصلبه.﴿ وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ الآية، ترى بمعنى: رأيت. وإذ: ظرف معمول له. وجواب لو محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً. والظالمون عام اندرج فيه اليهود والمتنبئة وغيرهم. والظالمون: مبتدأ خبره في غمرات.﴿ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾ جملة حالية.﴿ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ ﴾ أي بالضرب بدليل يضربون وجوههم وادبارهم.﴿ أَخْرِجُوۤاْ ﴾ معمول لمحذوف تقديره قائلين أخرجوا أنفسكم وهذه عبارة عن العنف في السياق والإِلحاح والتشديد من غير تنفيس وامهال.﴿ ٱلْيَوْمَ ﴾ منصوب بتجزون.﴿ ٱلْهُونِ ﴾ الهَوان والعذاب ما عذبوا به من شدة النزع.﴿ بِمَا كُنتُمْ ﴾ متعلق بتجزون.﴿ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ﴾ نعت لمصدر محذوف تقديره قولاً غير الحق. وعلل جزاء العذاب بالكذب على الله تعالى وباستكبارهم عن آياته أي عن الاعتبار وعن الإِيمان بها.
﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ ﴾ قال النضر بن الحارث: سوف تشفع لي اللات والعزى. فنزلت: وجئتمونا ماض معناه المضارع. والظاهر أنه من كلام الله تعالى والخطاب للكفار فرادى واحداً واحداً من غير الأهل والمال والولد.﴿ كَمَا ﴾ الكاف للتشبيه تقديره مجيئاً مثل خلقنا إياكم. وانتصب: ﴿ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ على الظرف، أي أول زمان خلقناكم أي أبرزناكم للوجود.﴿ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ ﴾ أي ما تفضلنا به عليكم من الخول والأهل والمال.﴿ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ منصوب بقوله: وتركتم، وكني به عن الدنيا.﴿ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ﴾ وقفهم على الخطأ في عبادتهم الأصنام وتعظيمها وكانوا يعتقدون شفاعة الملائكة.﴿ أَنَّهُمْ فِيكُمْ ﴾ سدت ان مسد مفعولي زعمتم وفيكم متعلق بشركاء والمعنى في استعبادكم لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها فقد جعلوا لله شركاء فيهم وفي استعبادهم.﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾ قرىء: بينكم بالرفع على أنه فاعل بتقطع اتسع فيه، وأسند إليه الفعل فصار اسماً كما استعملوه إسماً في قوله:﴿ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾[فصلت: ٥].
وقرىء: بينكم بالنصب فقيل: الحركة حركة بناء، وبني لإِضافته إلى المبني وهو ضمير الخطاب فيكون فاعلاً بتقطع فتستوي القراءتان ويظهر أن الفاعل ضمير يعود على المصدر المفهوم مما قبله تقديره هو، أي التواصل الذي كان بينكم وبين شفعائكم، ويظهر أيضاً أن يكون من باب الأعمال تقدم تقطع وعطف عليه وضلَّ فتنازعا على ما فاعمل الثاني فما فاعل بضل وأضمر في تقطع الفاعل وهو ضمير ما ومفعولاً تزعمون محذوف اختصاراً لدلالة ما قبله عليه تقديره تزعمونهم شركاء فيكم.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ ﴾ الظاهر أن المعنى أنه تعالى فالق الحب شاقه فمخرج منه النبات، والندى فمخرج منه الشجر. والحب والنوى عامان أي كل حبة وكل نواة. وهذه إشارة إلى فعل الله تعالى في أن يشق جميع الحب عن جميع النبات الذي يكون منه، ويشق النوى عن جميع الأشجار الكائنة عنه. ولما كان قد تقدم ذكر البعث نبّه على قدرته تعالى الباهرة في شق النواة مع صلابتها وإخراجه منها نبتاً أخضر ليناً إلى ما بعد ذلك مما فيه القدرة التامة والإِشارة إلى البعث والنشر بعد الموت.﴿ يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ ﴾ تقدم تفسيره في أوائل آل عمران، وعطف قوله:﴿ وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ ﴾ على قوله: فالق الحب، اسم فاعل على إسم فاعل ولم يعطفه على يخرج لأن قوله: فالق الحب والنوى، من جنس إخراج الحي من الميت لأن النامي في حكم الحيوان ألا ترى إلى قوله:﴿ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾[الحديد: ١٧]، فوقع قوله: يخرج الحي من الميت، من قوله: فالق الحب والنوى موقع الجملة المبنيّة فلذلك عطف على إسم فاعل لا على الفعل ولما كان هذا مفقوداً في آل عمران وتقدم قبل ذلك جملتان فعليتان وهما:﴿ تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ ﴾[آل عمران: ٢٧]، كان العطف بالفعل على أنه يجوز أن يكون معطوفاً وهو اسم فاعل على المضارع لأنه في معناه. كما قال الشاعر: بات يغشيها بعضب باتر   يقصد في أسوقها وجائر﴿ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴾ فكيف تصرفون عن عبادة من له هذه القدرة الباهرة.﴿ فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ ﴾ الأصباح مصدر سمي به الصبح قال الشاعر: ألا أيها الليل الطويل الا انجلى   بصبح وما الإِصباح منك بأمثلوفلقه إخراج هذا النور المنتشر من ظلمة الليل وغبشها سكناً إذ هو أعظم من فلق الحب والنوى إذ هو من الآثار العلوية والأحوال الفلكية أعظم وقعاً في النفوس من الأحوال الأرضية.﴿ سَكَناً ﴾ فعل بمعنى مفعول، كالقنص بمعنى المقنوص. وانتصب على أنه مفعول ثان لجاعل وأضيف جاعل إلى المفعول الثاني وهو الليل. وقرىء: وجعل فعلاً ماضياً ونصب الليل والحسبان جمع حساب كشهاب وشهبان. قال ابن عباس: يعني بها عدد الأيام والشهور والسنين ومن قرأ وجعل عطف والشمس وما بعده على معمولي جعل. ومن قرأ بالإِضافة فقيل: هو عطف على موضع الليل لأن موضعه نصب وهذا لا يجوز على مذهب سيبويه بل لا يعطف على موضع إسم الفاعل عنده، بل يضمر فعلاً تقديره وجعل الشمس والقمر. قال الزمخشري: أو يعطفان على محل الليل فإِن قتل: كيف يكون الليل محل والإِضافة حقيقة، لأن إسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضيّ ولا تقول: زيد ضارب عمراً أمس؟ قلت: ما هو في معنى الماضي وإنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة. " انتهى ". ملخصه أنه ليس اسم فاعل ماضياً فلا يلزم أن يكون عاملاً فيكون للمضاف إليه موضع من الإِعراب وهذا على مذهب البصريين أن اسم الفاعل الماضي لا يعمل وإنما قوله: إنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة يعني فيكون إذ ذاك عاملاً ويكون للمجرور بعده موضع فيعطف عليه والشمس والقمر وهذا ليس بصحيح إذا كان لا يتقيد بزمان خاص وإنما هو للاستمرار، فلا يجوز له أن يعمل ولا لمجروره محل. وقد نصوا على ذلك وأنشدوا: ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة   فليس الكاسب هنا مقيداً بزمان﴿ ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ﴾ ذلك إشارة إلى جميع الاخبار من قوله: فالق الحب، إلى آخره.
﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا ﴾ نبه تعالى على أعظم فوائد خلقها وهي الهداية للطرق والمسالك والجهات التي تقصد والقبلة، إذ حركات الكواكب في الليل يستدل بها على القبلة كما يستدل بحركة الشمس في النهار عليها. والخطاب عام لكل الناس ولتهتدوا متعلق بجعل مضمرة لأنها بدل من لكم، أي جعل ذلك لاهتدائكم، وجعل معناها خلق، فهي تتعدى إلى واحد. قال ابن عطية: ويمكن أن تكون بمعنى صيّر ويقدر المفعول الثاني من لتهتدوا أي جعل لكم النجوم هداية. " انتهى ". هذا ضعيف لندور حذف أحد مفعولي باب ظن وأخواتها.﴿ قَدْ فَصَّلْنَا ﴾ أي بينا وقسّمنا وخص من يعلم لأنهم الذين ينتفعون بتفصيلها.﴿ مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ ﴾ وهو آدم عليه السلام.﴿ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ﴾ أي موضع استقرار وموضع استيداع، أو مصدراً أي فاستقرار واستيداع. وقرىء: فمستقر بكسر القاف اسم فاعل وعلى هذه القراءة يكون ومستودع بفتح الدال إسم مفعول.﴿ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴾ لما كان الاهتداء بالنجوم واضحاً ختمه بيعلمون أي من له أدنى إدراك ينتفع بالنظر في النجوم وفائدتها ولما كان الإِنشاء من نفس واحدة والتصريف في أحوال كثيرة يحتاج إلى فكر وتدقيق ختمه بقوله تعالى: ﴿ يَفْقَهُونَ ﴾ إذ الفقه هو استعمال فطنة ودقة نظر وفكر فناسب ختم كل جملة بما يناسب ما صدر به الكلام.﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً ﴾ لما ذكر إنعامه تعالى بخلقنا ذكر انعامه علينا بما يقوم به أودنا ومصالحنا. والسماء هنا: السحاب. والظاهر أن المعنى بنبات كل شىء ما يسمى نباتاً في اللغة وهو ما ينمى من الحبوب والفواكه والبقول والحشائش والشجر، ومعنى كل شىء مما ينبت، وأشار إلى أن السبب واحد والمسببات كثيرة. وقال الطبري: نبات كل شىء جميع ما ينمو من الحيوان والنبات والمعادن وغير ذلك لأن ذلك كله يتغذى وينمو بنزول الماء من السماء. وفي قوله: ﴿ فَأَخْرَجْنَا ﴾ التفات من غيبة إلى تكلم بنون العظمة.﴿ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ ﴾ أي من النبات.﴿ خَضِراً ﴾ غضّا ناضراً طرياً.﴿ نُّخْرِجُ مِنْهُ ﴾ جملة في موضع الصفة لخضرا ويجوز أن يكون استئناف اخبار.﴿ حَبّاً مُّتَرَاكِباً ﴾ أي من الخضر كالقمح والشعير وسائر القطاني، ومن الثمار كالرمان والسنوبر. وغيرهما مما تراكب حبه وركب بعضه بعضاً.﴿ مِن طَلْعِهَا ﴾ بدل من قوله: ومن النخل، أعيد فيه حرف الجر. والطلع: أول ما يخرج من النخلة في أكمامه، أطلعت النخلة: أخرجت طلعها.﴿ قِنْوَانٌ ﴾ القنو بكسر القاف وضمها: العِذق بكسر العين، وهو الكباسة وهو عنقود النخلة. وجمعه في القلة أقناء وفي الكثرة قِنوان بكسر القاف في لغة الحجاز وضمها في لغة قيس، وبالياء بدل الواو في لغة ربيعة وتميم بكسر القاف وضمها. ويجتمعون في المفرد على قِنو وقَنو بالواو ولا يقولون فيه قَنى ولا قِنى.﴿ دَانِيَةٌ ﴾ أي قريبة من المتناول. وهذه الجملة مبتدأ وخبر قطعت مما قبلها في الاعراب لما في تجريدها من عظم المنة والنعمة إذ كانت من أعظم قوت العرب لتدل على الثبوت والاستغراق وأن ذلك مفروغ منه، فلها شبه بالحب المتراكب في القوت ولها شبه بالتفكه كالعنب المذكور فناسب الاعتراض بهذه الجملة بينهما. قال ابن عطية: ومن النخل تقديره ويخرج من النخل ومن طلعها قنوان ابتداء خبره مقدم، والجملة في موضع المفعول بنخرج. " انتهى ". هذا خطاب لأن ما يتعدى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله إلا إذا كان الفعل مما يعلق وكانت الجملة فيها مانع من أن يعمل في شىء من مفرداتها الفعل من الموانع المشروحة في علم النحو. ونخرج ليست مما يعلق وليس في الجملة مانع من عمل الفعل في شىء من مفرداتها إذ لو كان الفعل هنا مقدر التسلط على ما بعده ولكان التركيب والتقدير ونخرج من النخل من طلعها قنواناً دانية بالنصب. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة أخرجنا عليه تقديره ونخرجه من طلع النخل قنوان. " انتهى ". لا حاجة إلى هذا التقدير إذ الجملة مستقلة في الاخبار بدونه، ومن قرأ: قنواناً دانية بالنصب أشرك بين ذلك وبين المنصوب قبله والمنصوب بعده.﴿ وَجَنَّٰتٍ ﴾ معطوف على نبات، ولما جرد النخل جرد جنات الأعناب لشرفهما.﴿ وَٱلزَّيْتُونَ ﴾ شجر معروف ووزنه فيعول كقيصوم لقولهم: أرض زتنة، ولعدم فعلون أو قلته. فمادّته مغايرة لمادة الزيت.﴿ وَٱلرُّمَّانَ ﴾ فعال كالحماض والعناب وليس بفعلان لقوهم: أرض رمنة. قال الزجاج: قرن الزيتون بالرمان لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره.﴿ مُشْتَبِهاً ﴾ أي بعضه متشابه وبعضه غير متشابه في القدر واللون والطعم وانتصب مشتبهاً على أنه حال من الرمان لقربه منه. وحذفت الحال من الأول أو حال من الأول لسبقه فالتقدير، والزيتون مشتبهاً وغير متشابه والرمان كذلك.﴿ ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ ﴾ النظر نظر رؤية ولذلك عداه بإِلى لكن يترتب عليه الفكر والاعتبار والاستبصار والاستدلال على قدرة باهرة تنقله من حال إلى حال ونبه على حالين: الابتداء وهو وقت ابتداء الأثمار، والانتهاء وهو وقت نضجه. والينع مصدر ينع بفتح الياء في لغة الحجاز وبضمها في لغة بعض نجد. وكذا الينع بضم الياء والنون والينوع بواو بعد الضمتين. يقال: ينعت الثمرة، إذا أدركت ونضجت وأينعت. كذلك أيضاً قال الفراء: ينع الثمر وأينع أي احمر. والعامل في إذا أنظروا وينعه معطوف على ثمره.﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكُمْ لأَيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ الإِشارة بذلك إلى جميع ما سبق ذكره من فلق الحب والنوى إلى آخر ما خلق تعالى وما امتنّ به. والآيات: العلامات الدالة على كمال قدرته وإحكام صنعته وتفرده بالخلق دون غيره وظهور الآيات لا ينفع إلا لمن قدر الله له الإِيمان وأما من سبق قدر الله له بالكفر فإِنه لا ينتفع بهذه الآيات فنبه بتخصيص الإِيمان على هذا المعنى وانظر إلى حسن مساق هذا الترتيب لما تقدّم أن الله فالق الحب والنوى جاء الترتيب بعد ذلك تابعاً لهذا الترتيب: فحين ذكر أنه أخرج نبات كل شىء ذكر الزرع وهو المراد بقوله تعالى: ﴿ خَضِراً ﴾ فخرج منه حباً متراكباً. وابتدأ به كما ابتدأ به في قوله: فالق الحب، ثم ثني بماله نوى فقال: ومن النخل من طلعها قنوان، إلى آخره، كما ثنى به في قوله: والنوى، وقدم الزرع على الشجر لأنه غذاء والثمر فاكهة والغذاء مقدم على الفاكهة. وقدم النخل على سائر الفواكه لأنه يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب، وقدم العنب لأنه أشرف الفواكه وهو في جميع أطواره ينتفع به حنوط ثم حصرم ثم عنب ثم أن عصر كان منه خل ودبس وإن جف كان منه زبيب، وقدم الزيتون لأنه أكثر في المنفعة في الأصل وفيما يعصر منه من الدهن العظيم النفع في الأكل والاستصباح وغيرهما وذكر الرمان لعجب حاله وغرابته في أنه مركب من قشر وشحم وعجم وماء، فالثلاثة باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات وماؤه بالفنذ ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى خير الاعتدال، وفيه تقوية للخراج الضعيف غذاء من وجه دواء من وجه، فجمع تعالى فيه بين المتضادين المتعاقدين فما أبهر قدرته وأعجب ما خلق.
﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ ﴾ لما ذكر تعالى ما اختص به من باهر قدرته ومتقن صنعته وامتنانه على عالم الإِنسان لما أوجد له مما يحتاج إليه في قوام حياته، وبين أن ذلك آيات لقوم يعلمون ولقوم يفقهون ولقوم يؤمنون ذكر ما عاملوا به منشأهم من العدم وموجد أرزاقهم من إشراك غيره له في عبادته ونسبة ما هو مستحيل عليه من وصفه بسمات الحدوث من البنين والبنات. والضمير في وجعلوا عائد على الكفار لأنهم مشركون، وأهل كتاب شركاء مفعول أوّل ولله متعلق به والجن مفعول ثان وأعرب أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي قال: انتصب الجن على إضمار فعل جواب سؤال مقدر كأنه قيل: من جعلوا لله شركاء. قيل: الجن، أي جعلوا الجن. ويؤيد هذا المعنى قراءة أبي حيوة ويزيد بن قطيب الجن بالرفع على تقديرهم الجن جواباً لمن قال: من الذي جعلوهم شركاء فقيل لهم هم الجن. ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه والانتقاص لمن جعلوه شريكاً لله تعالى، فعلى قراءة الرفع في الجن يكون شركاء مفعول أول، ولله جار ومجرور في موضع المفعول الثاني أي صيروا شركاء كائنين لله. قال الزمخشري وابن عطية: الجن مفعول أول لجعلوا وهو بمعنى صيروا وشركاء مفعول ثان، ولله متعلق بشركاء. قال الزمخشري: فإِن قلت: فما فائدة التقديم؟ قلت: فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكاً أو جنياً أو إنسياً ولذلك قدم اسم الله على الشركاء " انتهى ". وأجاز والحوفي وأبو البقاء أن يكون الجن بدلاً من شركاء، ولله في موضع المفعول الثاني، وشركاء هو المفعول الأول وما أجازوه لا يجوز لأنه لا يصح للبدل أن يحل محل المبدل منه فيكون الكلام منتظماً. لو قلت: وجعلوا لله الجن لم يصح. وشرط البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول وهذا لا يصح هنا البتة كما ذكرنا. والضمير في وخلقهم عائد على الجاعلين إذ هم المحدث عنهم وهي جملة حالية أي وقد خلقهم وانفرد بإِيجادهم دون من اتخذوه شريكاً له وهم الجن فجعلوا من لم يخلقهم شريكاً لخالقهم وهذه غاية الجهالة.﴿ وَخَرَقُواْ ﴾ قرىء: بتخفيف الواو وتشديدها، أي اختلقوا وافتروا. ويقال: خلق الإِفك وخرقه واختلقه واخترقه وافتعله وافترا، وخرصه إذا اكذب فيه، قال الفراء. وأشار بقوله: بنين، إلى قول أهل الكتاب بنين في المسيح وعزيز، وبقوله: وبنات إلى قول قريش في الملائكة.﴿ بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو بديع، وتقدم تفسيره في البقرة.﴿ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ﴾ أي كيف يكون له ولد وهذه حالة أي أن الولد إنما يكون من الزوجة وهو لا زوجة له فلا ولد له. وفي ابطال الولد من ثلاثة أوجه أحدها أنه مبتدع السماوات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة لأن الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون والداً، والثاني أن الولادة لا تكون إلاّ بين زوجين من جنس واحد وهو تعالى متعال عن مجانس فلم يصح أن تكون له صاحبة فلم تصح الولادة، والثالث أنه ما من شىء إلا وهو خالقه والعالم به؛ ومن كان بهذه الصفة كان غنياً عن كل شىء والولد إنما يطلبه المحتاج إليه.﴿ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ أي ذلكم الموصوف بتلك الأوصاف السابقة من كونه بديعاً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً خالق الموجودات عالماً بكل شىء هو الله بدأ بالاسم العلم ثم قال: ربكم، أي مالككم والناظر في مصالحكم ثم حصر الألوهية فيه ثم كرر وصف خلقه كل شىء، ثم أمر بعبادته لأن من استجمعت فيه هذه الصفات كان جديراً بالعبادة وأن يفرد بها فلا يتخذ معه شريك ثم أخبر أنه مع تلك الصفات السابقة التي منها خلق كل شىء هو المالك لكل شىء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال.﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ ﴾ اختلف المفسرون في الإِدراك في هذه الآية ما هو فقيل: الإِدراك هنا الرؤية. وبه قال جماعة من الصحابة وقيل: الإِدراك هنا هو الإِحاطة بالشىء وليس بمعنى الرؤية وهو قول جماعة من الصحابة أيضاً. وسيأتي الكلام على الرؤية في سورة الأعراف عند قوله حكاية عن موسى عليه السلام في قوله:﴿ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾[الأعراف: ١٤٣].
الآية.
و ﴿ قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ ﴾ هذا وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله: وما أنا عليكم بحفيظ، والبصيرة: نور القلب الذي يستبصر به، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر أي جاءكم من الوحي والتنبيه بما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز ها هو للقلوب كالبصائر.﴿ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ﴾ أي فالأبصار لنفسه أي نفعه وثمرته.﴿ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾ أي فالعمى عليها أي فَجَدْوى العمى عائد على نفسه والإِبصار والعمى كنايتان عن الهدى والضلال. والمعنى أن ثمرة الهدى والضلال إنما هي للمهتدي والضال لأنه تعالى غني عن خلقه وهذه من الكنايات الحسنة لما ذكر البصائر أعقبها بالإِبصار والعمى، وهذه مطابقة لطيفة.﴿ وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ ﴾ أي ومثل ما بينا تلك الآيات التي هي بصائر وصرفناها نصرف الآيات ونرددها على وجوه كثيرة.﴿ وَلِيَقُولُواْ ﴾ يعني أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن.﴿ دَرَسْتَ ﴾ وقرىء: دارست، أى دارست يا محمد غيرك في هذه الأشياء، أي قارأته وناظرته إشارة منهم إلى سلمان وغيره من الأعاجم واليهود. وقرىء: درست مبنياً للفاعل مضمراً فيه، أي درست الآيات، أي ترددت على أسماعهم حتى بليت وقدمت في نفوسهم وأمحيت. وقرىء: درست أي يا محمد في الكتب القديمة ما تجيئنا به. واللام في: وليقولوا، ولنبينه، هي لام كي. وقيل: لام الصيرورة. والمعنى وليقول من كفر ولنبيّن لمن علم وآمن. وتتعلق اللامان بمحذوف تقديره ليكون كذا ويكون كذا صرفنا الآيات ولا يتعين ما ذكره المعربون والمفسرون من أن اللام في: وليقولوا، لام كي أو لام الصيرورة، بل الظاهر أنها لام الأمر. والفعل مجزوم بها لا منصوب بإِضمار أنْ ويؤيده قراءة من سكن اللام والمعنى عليه متمكن كأنه قيل: ومثل ذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون من كونها درستها وتعلمتها أو درست هي أي بليت وقدمت، فإِنه لا يحفل بهم ولا يلتفت إلى قولهم، وهو أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث بهم وبما يقولون في الآيات أي نصرفها وليدعوا فيها ما شاؤوا فلا اكتراث بدعواهم.﴿ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ أي كأنه قال: وكذلك نصرف القرآن نصرف الآيات. وأعاد الضمير مفرداً قالوا: على معنى الآيات لأنها القرآن.﴿ ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ أمره تعالى بأن يتبع ما أوحى إليه وبأن يعرض عمن أشرك والأمر بالإِعراض عنهم كان قبل نسخه بالقتال والسوق إلى الدين طوعاً أو كرهاً. والجملة بين الأمرين اعتراض أكد به وجوب اتباع الوحي أو في موضع الحال المؤكدة.﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ ﴾ أي أن إشراكهم ليس في الحقيقة بمشيئتهم وإنما هو بمشيئة الله تعالى. وظاهر الآية يرد على المعتزلة ويتألونها على مشيئة القسر والإِلجاء.﴿ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾ أي رقيباً تحفظهم من الإِشراك.﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴾ أي بمسلط عليهم والجملتان متقاربتان في المعنى إلا أن الأولى فيها نفي جعل الحفظ منه تعالى عليهم، والثانية فيها نفي الوكالة عليهم. والمعنى إنا لم نسلطك عليهم ولا أنت في ذاتك بمسلط فناسب أن تعرض عنهم إذ لست مأموراً منا بأن تكون حفيظاً عليهم ولا أنت وكيل عليهم من تلقائك.
﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ الآية، قال ابن عباس: سببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب: اما أن تنهى محمداً وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها، وإما أن نسب إلهه ونهجوه. فنزلت. وحكم هذه الآية باق في هذه الأمة فإِذا كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإِسلام أو الرسول أو الله تعالى فلا يحل لمسلم ذم دين الكافر ولا صنمه ولا صليبه ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك. ولما أمر تعالى باتباع ما أوحي إليه وبموادعة المشركين عدل عن خطابه إلى خطاب المؤمنين، فنهوا عن سب أصنام المشركين ولم يواجه هو عليه السلام بالخطاب وإن كان هو الذي سب الأصنام جاء على لسانه وأصحابه تابعون له في ذلك، لما في مواجهته وحده بالنهي من خلاف ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الأخلاق الكريمة، إذ لم يكن صلى الله عليه وسلم فحاشاً ولا ضحّاباً ولا سباباً، فلذلك جاء الخطاب للمؤمنين فقيل: ولا تسبوا. ولم يكن التركيب ولا تسب كما جاء. وفي: أعرض عن المشركين وإذا كانت الطاعة تؤدي إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة فيجب النهي عنها كما ينهي عن المعصية. والذين يدعون هم الأصنام، أي يدعوهم المشركون وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل بالذين يعبر عن العاقل على معاملة ما لا يعقل معاملة من يعقل، إذ كانوا نزلوهم منزلة من يعقل في عبادتهم واعتقادهم فيهم أنهم شفعاء لهم عند الله تعالى. وقيل: يحتمل أن يراد بالذين يدعون الكفار. وظاهر قوله: فيسبوا الله، إنهم يقدمون على سبّه إذا سبّت آلهتهم، وإن كانوا معترفين بالله تعالى لكن يحملهم على ذلك انتصارهم لآلهتهم وشدة غيظهم لأجلها، فيَخرجون عن الاعتدال إلى ما ينافي العقل كما يقع من بعض المسلمين إذا اشتد غضبه وانحرف فإِنه قد يلفظ بما يؤدي إلى الكفر نعوذ بالله من ذلك.﴿ فَيَسُبُّواْ ﴾ جواب للنهي في قوله ولا تسبوا. وانتصب بإِضمار أن بعد الفاء كقوله تعالى:﴿ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ﴾[طه: ٦١].
و ﴿ عَدْواً ﴾ مصدر عدا، وكذا عدو وعدوان بمعنى اعتدى أي ظلم، وانتصب على المصدر أو في موضع الحال المؤكدة أو على المصدر من غير لفظ الفعل لأن معنى فيسبوا يعتدوا على الله تعالى. ومعنى بغير علم أي على جهالة بما يجب لله تعالى أن يذكر به وهو بيان لمعنى الاعتداء.﴿ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ﴾ مثل تزيين عبادة الأصنام للمشركين زينا لكل أمة عملهم. وظاهر لكل أمة العموم في الأمم وفي العمل فيدخل فيه المؤمنون والكافرون، وتزيينه هو ما يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير أو الشر والاتباع لطرقه وتزيين الشيطان بما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء.﴿ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ ﴾ مقترحة نحو قولهم: تجعل الصفا ذهباً. فقام رسول الله ليدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال له: إن شئت أصبح ذهباً، فإِن لم يؤمنوا أهلكوا عن آخرهم معاجلة كما فعل بالأمم الماضية إذ لم يؤمنوا بالآيات المقترحة، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم. فقال: بل حتى يتوب تائبهم. وإنما اقترحوا آية معينة لأنهم شكوا في القرآن، ولهذا قالوا: دارست، أي العلماء. وباحثت أهل التوراة والإِنجيل وكابر أكثرهم وعاندوا، المعنى أنهم حلفوا غاية حلفهم، وسمي الحلف قسماً لأنه يكون عند انقسام الناس إلى التصديق والتكذيب، وكان إقسامهم بالله غاية في الحلف، وكانوا يقسمون بآبائهم وآلهتهم فإِذا كان الأمر عظيماً أقسموا بالله، والجهد بفتح الجيم: المشقة، وبضمها: الطاقة. ومنهم من يجعلها بمعنى واحد. وانتصب جهد على المصدر المنصوب باقسموا أي اقسموا جهد إقساماتهم والايمان بمعنى الاقسامات، ولئن جاءتهم اخبار عنهم لا حكاية لقولهم إذ لو حكى لكان لئن جاءتنا آية. ويعامل الاخبار عن القسم معاملة حكاية القسم بلفظ ما نطق به المقسم وآية لا يراد بها مطلق آية، إذ قد جاءتهم آيات كثيرة ولكنهم أرادوا آية مقترحة كما ذكرناه.﴿ قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ هذا أمر بالرد عليهم وأن مجيء الآيات ليس لي، إنما ذلك لله تعالى وهو القادر عليها ينزلها على وجه المصلحة كيف يشاء بحكمته، وليست عندي فتقترح عليّ ﴿ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾ جواب القسم.﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ قرىء: بفتح الهمزة. وما: استفهامية، ويعود عليها ضمير الفاعل في يشعركم، وأما الخطاب فقيل: هو للكفار. وقيل: المخاطب بها المؤمنون. وقرىء: لا تؤمنون بتاء الخطاب. وقرىء: بياء الغيبة أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون البتة على تقدير مجيء الآية وتم الكلام عند قوله: وما يشعركم. ومتعلق يشعركم محذوف أي وما يشعركم ما يكون فإِن كان الخطاب للكفار كان التقدير وما يشعركم ما يكون منكم ثم أخبر على جهة الإِلتفات بما علمه من حالهم لو جاءتهم الآيات وإن كان الخطاب للمؤمنين كان التقدير وما يشعركم أيها المؤمنون ما يكون منهم. ثم أخبر المؤمنين بعلمه فيهم أنهم لا يؤمنون. وقرىء: بكسر الهمزة، والمناسب أن يكون الخطاب للكفار في هذه القراءة، كأنه قيل: وما يدريكم أيها الكفار ما يكون منكم. ثم أخبرهم على جهة الجزم أنهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها.﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ ﴾ الآية، الظاهر أنها جملة استئنافية أخبر تعالى أنه يفعل بهم ذلك وهي إشارة إلى الحيرة والتردد وصرف بالشىء عن وجهه، والمعنى أنه تعالى يحولهم عن الهدى ويتركهم في الضلال والكفر. وكما: للتعليل، أي يفعل بهم ذلك لكونهم لم يؤمنوا به أول وقت جاءهم هدى الله كما قال تعالى﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾[التوبة: ١٢٥] ويؤكد هذا المعنى آخر الآية: ونذرهم، أي وما نتركهم في تغمطهم في الشر والإِفراط فيه يتحيرون، وهذا كله إخبار من الله تعالى بفعله بهم في الدنيا.﴿ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ الكاف للتعليل لا للتشبيه وما مصدرية والمعنى أنه تعالى يقلب ما ذكر لكونهم لم يؤمنوا بالقرآن أول وقت جاءهم إذ كان ينبغي المبادرة إلى الإِيمان.﴿ وَنَذَرُهُمْ ﴾ أي نتركهم في طغيانهم يتحيرون.
﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ ﴾ الآية أي لو آتيناهم بالآيات التي اقترحوها من إنزال الملائكة في قولهم:﴿ وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ﴾[الأنعام: ٨٠]، وتكليم الموتى إياهم في قولهم: فأتوا بآبائنا، وفي قولهم: أخي قصيّ بن كلاب وجدعان بن عمرو، وهما أمينا العرب والوسطان فيهم وحشر كل شىء عليهم من السباع والدواب والطيور، وشهادتهم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجواب لو ما كانوا ليؤمنوا. وقدره الحوفي لما كانوا قال: وحذفت اللام وهي مرادة. " انتهى ". وليس قوله بجيد لأن المنفي بما إذا وقع جواباً لِلْوَ فالأكثر في لسان العرب أن لا تدخل اللام على ما وقل دخولها على ما، فلا نقول ان اللام حذفت منه بل إنما أدخلوها على ما تشبيهاً للمنفي بما بالموجب، ألا ترى أنه إذا كان النفي بلم لم تدخل اللام على لم فدل على أن أصل المنفي أن لا تدخل عليه اللام. واللام في ليؤمنوا لام الجحود أتت بعد كون ماض منفي، وخبر كان محذوف تقديره ما كانوا أهلاً للإِيمان، لأنّ أنْ مقدرة بعد اللام فيسبك منها مع ما بعدها مصدر والكثير حذف خبر كان في هذا التركيب. وقد جاء مصرحاً به في قول الشاعر: سموت ولم تكن أهلاً لتسمو   و ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ﴾ الله استثناء متصل من محذوف هو علة. وسبب التقدير ما كانوا ليؤمنوا بشىء من الأشياء إلا بمشيئة الله تعالى. والظاهر أن الضمير في أكثرهم عائد على ما عادت عليه الضمائر قيل من الكفار وإنما قال أكثرهم لأن هؤلاء الكفار من شاء الله إيمانه فآمن وصدق. ومعنى: ﴿ يَجْهَلُونَ ﴾ أي الحق الذي جئت به من عند الله تعالى.﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ ﴾ الآية، المعنى مثل جعل هؤلاء الكفار المقترحين الآيات وغيرهم أعداء لك جعلنا لمن قبلك من الأنبياء أعداء.﴿ شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ ﴾ أي متمردي الصنفين.﴿ يُوحِي ﴾ يلقي في خفية.﴿ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ﴾ أي بعض الصنف الجني إلى بعض الصنف الأنسي. أو يوحي شياطين الجن إلى شياطين الإِنس.﴿ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ ﴾ أي محسّنه ومزينه بالأباطيل ليغروهم ويخدعوهم ويوهموهم أنهم على شىء، وثمرة هذا الجعل الامتحان، فيظهر الصبر على ما منّوا به ممن يعاديهم فيعظم الثواب والأجر. وفيها تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتأس بمن تقدمه من الأنبياء وإنك لست منفرداً بعداوة من عاصرك، بل هذه سنة من قبلك من الأنبياء. وانتصب غروراً على أنه مفعول من أجله أي للغرور أو مصدراً في موضع الحال أي غارّين والناصب لهما يوحي.﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾ الضمير المنصوب جوزوا أن يكون عائداً على العداوة المفهومة من عدوا، والإِيحاء المفهوم من يوحي، أو على الزخرف، أو على القول، أو على الغرور أوجهاً خمسة.﴿ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ أي اتركهم وما يفترون من تكذيبك. ويتضمن الوعد والوعيد. وقال قتادة: كل ذر في كتاب الله تعالى فهو منسوخ بالقتال وما بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره يفترونه أو مصدرية تقديره وافتراؤهم.﴿ وَلِتَصْغَىۤ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي ولتميل إليه. الضمير يعود على ما عاد عليه في فعلوه.﴿ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ ﴾ ما هم مكتسبون من الآثام. واللام: لام كي، وهي معطوفة على قوله: غروراً، لما كان معناه للغرور فيه متعلقة بيوحى ونصب غروراً لاجتماع شروط النصب فيه وعدي يوحى إلى هذا باللام لفوت شرط صريح المصدرية واختلاف الفاعل لأن فاعل يوحي هو بعضهم، وفاعل تصغي هو أفئدة وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة لأنه أولاً يكون الخداع، فيكون الميل، فيكون الرضا، فيكون فعل الاقتراف، فكان كل واحد مسبب عما قبله.
﴿ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً ﴾ قال مشركوا قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إجعل بيننا وبينك حكماً من أحبار اليهود وإن شئت من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك. فنزلت. والفاء في: أفغير، للعطف فترتيبها قبل الهمزة وقدمت الهمزة لأن الاستفهام له صدر الكلام كما قدمت على الواو في قوله:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ ﴾[النحل: ٤٨] وعلى ثم في قوله:﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ﴾[يونس: ٥١]، وهذا استفهام معناه النفي، أي لا أبتغي حكماً غير الله. قالوا: والحكم أبلغ من الحاكم لأنه من عرف منه الحكم مرة بعد أخرى. والحاكم اسم فاعل يصدق على المرة الواحدة، وجوزوا في اعراب غير أن يكون مفعولاً بابتغي وحكماً حال وعكسه، وأجاز الحوفي وابن عطية أن ينتصب على التمييز عن غير كقولهم: ان لنا غيرها إبلاً وشاء.﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنَزَلَ ﴾ وهذه الجملة في موضع الحال مفصلاً موضحاً فيه الأحكام من الأمر والنهي والحلال والحرام والواجب والمندوب والضلال والهدى.﴿ وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ﴾ علم التوراة والإِنجيل والزبور والصحف. والمراد علماء أهل الكتاب. وهذه الجملة تكون استئنافاً ويتضمن الاستشهاد بمؤمني أهل الكتاب والطعن على مشركيهم وحسدتهم.﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ ﴾ خطاب للسامع الذي يمكن أن يجوز منه الامتراء لا للنبي صلى الله عليه وسلم. و ﴿ كَلِمَتُ رَبِّكَ ﴾ هو القرآن وكل ما أخبر به من أمر ونهي ووعد ووعيد وانتصب صدقاً وعدلاً على أنهما مصدران في موضع الحال. ومعنى تمت: استمرت، لا أنه كان بها نقص فكملت كما قال: وتم حمزة على إسلامه، أي استمر.﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي وإن توافق فيما هم عليه من عبادة غير الله تعالى وشرع ما شرعوه بغير إذن الله لأن الأكثر إذ ذاك كانوا كفاراً. والأرض هنا الدنيا، قاله ابن عباس.﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ ﴾ أي ليسوا راجعين في عقائدهم إلى علم ولا في ما شرعوه إلى حكم الله تعالى.﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ أي يقدرون ويحزرون وهذا تأكيد لما قبله.﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ ﴾ لما ذكر تعالى يضلون عن سبيل الله أخبر أنه أعلم العالمين بالضال والمهتدي. والمعنى أنه أعلم بهم وبك فإِنهم الضالون وأنت المهتدي. ومن قيل: في موضع جر على إسقاط حرف الجر وإبقاء عمله وهذا ليس بجيد لأن مثل هذا لا يجوز إلا في الشعر. وقال أبو الفتح: في موضع نصب بأعلم بعد حذف حرف الجر، وهذا ليس بجيد لأن أفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به. وقال أبو علي: في موضع نصب بفعل محذوف، أي يعلم من يضل، ودل على حذفه أعلم ومثله ما أنشده أبو زيد: وأضرب منا بالسيوف القوانسا. أي يضرب القوانس وهي إذ ذاك موصولة وصلتها يضل.
﴿ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ الآية، ذكر أن السبب في نزولها أنهم" قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل الشاة التي ماتت؟ قال الله تعالى: قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك وما قتله الصقر والكلب حلال وما قتله الله تعالى حرام "فنزلت. ولما تضمنت الآية التي قبلها الإِنكار على اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال وكانوا يسمون في كثير مما يذبحونه اسم آلهتهم، أمر المؤمنين بأكل ما سمي على ذكاته إسم الله تعالى لا غيره من آلهتهم.﴿ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾ علق أكل ما سُمِيَ الله على ذكاته بالإِيمان كما تقول: أطعني إن كنت ابني، أي إن كنتم مؤمنين فلا تخالفوا أمر الله تعالى، وهو حث على أكل ما أحل وترك لما حرم.﴿ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ أي وأيّ غرض لكم في الامتناع من أكل ما ذكر اسم الله عليه. وهو استفهام يتضمن الإِنكار على من امتنع من ذلك، أي لا شىء يمنع من ذلك.﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ﴾ في هذه السورة لأنها على ما نقل مكية ونزلت في مرة واحدة فلا يناسب أن يكون. وقد فصل راجعاً إلى تفصيل البقرة والمائدة لتأخرهما في النزول عن هذه السورة. والجملة من قوله: وقد فصل، في موضع الحال، وقرىء: فصل وحرم مبنياً للفاعل ومبنياً للمفعول.﴿ إِلاَّ مَا ٱضْطُرِرْتُمْ ﴾ إستثناء من قوله: ما حرم عليكم.﴿ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم ﴾ أي وإن كثيراً من الكفار المجادلين في المطاعم وغيرها ليضلون بالتحليل والتحريم بأهوائهم وشهواتهم.﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي بغير شرع من الله تعالى بل بمجرد أهوائهم كعمرو بن لحي ومن دونه من المشركين كأبي الأحوص بن مالك الجشمي، وبُديل بن ورقاء الخزاعي، وحليس بن يزيد القرشي، الذين اتخذوا البحائر والسوائب.﴿ وَذَرُواْ ظَٰهِرَ ٱلإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ﴾ الآية، الإِثم عام في جميع المعاصي لما عتب عليهم في ترك أكل ما سمي الله عليه، أمروا بترك الإِثم ما فعل ظاهرا وما فعل في خفية، فكأنه قال: اتركوا المعاصي ظاهرها وباطنها، قاله أبو العالية وغيره.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْسِبُونَ ٱلإِثْمَ ﴾ في الدنيا.﴿ سَيُجْزَوْنَ ﴾ في الآخرة، وهذا وعيد وتهديد للعصاة.﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ الآية، لما أمر بأكل ما سمي عليه وكان مفهومه أنه لا يؤكل ما لم يذكر اسم الله عليه أكد هذا المفهوم بالنص عليه. والظاهر تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه عمداً كان ترك التسمية أو نسياناً، ربه قال ابن عباس وجماعة. وروي عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت وجماعة، من التابعين: أنها منسوخة بقوله تعالى:﴿ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ﴾[المائدة: ٥]، وأجازوا ذبائح أهل الكتاب وإن لم يذكر اسم الله عليها. ولا يسمى ذلك نسخاً بل هو تخصيص. وروي عن عائشة وعلي وابن عمر أن الآية محكمة ولا يجوز لنا أن نأكل من ذبائحهم إلا ما ذكر اسم الله عليه.﴿ وَإِنَّهُ ﴾ الضمير في " وانه " عائد إلى المصدر الدال عليه تأكلوا، أي وان الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه.﴿ لَفِسْقٌ ﴾ لمعصية وهذه الجملة لا موضع لها من الاعراب وتضمنت معنى التعليل، فكأنه قيل: لفسقه.﴿ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ ﴾ عام في شياطين الإِنس والجن كما في أول الحزب عدوا شياطين الإِنس والجن.﴿ لَيُوحُونَ ﴾ ليلقون في خفاء ووسوسة بالتمويه والتلبيس.﴿ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ ﴾ يعني من الإِنس ككفار قريش وغيرهم.﴿ لِيُجَٰدِلُوكُمْ ﴾ علة للإِيحاء.﴿ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ ﴾ هذا إخبار أن ما صدر من جدال الكفار للمؤمنين ومنازعتهم فإِنما هو من الشياطين يوسوسون لهم به. ولذلك ختم بقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ أي وإن أطعتم أولياء الشياطين إنكم لمشركون لأن طاعتهم طاعة للشياطين وذلك إشراك وجواب الشرط زعم الحوفي أنه إنكم لمشركون على حذف الفاء، أي فإِنكم لمشركون وهذا الحذف من الضرائر فلا يكون في القرآن، وإنما الجواب محذوف. وإنكم لمشركون جواب قسم محذوف التقدير والله إن أطعتموهم. وكقوله تعالى:﴿ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ﴾[المائدة: ٧٣]، وأكثر ما يستعمل هذا التركيب بتقديم اللام المؤذنة بالقسم المحذوف على أن الشرطية كقوله تعالى:﴿ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ﴾[الحشر: ١٢]، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه.
﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ ﴾ قال ابن عباس: نزلت في حمزة وأبي جهل رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث فأخبر بذلك حمزة حين رجع من قنصه وبيده قوس وكان لم يسلم فغضب فعلا بها أبا جهل وهو يتضرع إليه ويقول: سفّه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله تعالى، وأسلم رضي الله تعالى عنه. ولما تقدم ذكر المؤمنين والكافرين مثل تعالى فيهما بأنه شبّه المؤمن بعد أن كان كافراً بالحي المجعول له نور يتصرف به كيف سلك، والكافر بالمختبط في الظلمات المستقر فيها دائماً ليظهر الفرق بين الفريقين، والموت والحياة والنور والظلمة مجاز، فالظلمة مجاز عن الكفر، والحياة مجاز عن الإِيمان، والموت مجاز عن الكفر. والجملة من قوله: أو من، معطوفة على ما قبلها. والأصل تقديم واو العطف وإنما قدمت الهمزة لأن الاستفهام له صدر الكلام وكان الأصل وآمن ومن مبتدأ موصول بمعنى الذي وكان ميتاً صلته ولما ذكر صفة الإِحسان إلى العبد المؤمن نسب ذلك إليه فقال فأحييناه.﴿ وَجَعَلْنَا لَهُ ﴾ وفي صفة الكافر لم ينسبها إلى نفسه، بل قال:﴿ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ ﴾ وكمن في موضع خبر من المتقدمة الذكر، ومن في كمن: موصولة. ومثله في الظلمات من مبتدأ وخبر صلة لمن ومثله معناه صفته وعبر بها عن الذات كأنه قيل: كمن هو في الظلمات. وفي الناس: إشارة إلى تنويره على نفسه وعلى غيره من الناس فذكر أن منفعة المؤمن ليست مقتصرة على نفسه، وقابل تصرفه بالنور وملازمة النور له باستقرار الكافر في الظلمات، وكونه لا يفارقها، وأكد ذلك بدخول الباء في خبر ليس.﴿ كَذَلِكَ زُيِّنَ ﴾ الإِشارة بذلك إلى إحياء المؤمن أي كما أحيينا المؤمن زين للكافرين فقابل الشىء بضده أو إشارة إلى كينونة الكافر في الظلمات زين للكافرين فقابل الشىء بمثله.﴿ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ ﴾ الآية أي مثل ذلك الجعل جعلنا في مكة صناديدها.﴿ لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ﴾ جعلنا في كل قرية وتضمن ذلك فساد حال الكفرة المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ حالهم حال من تقدمهم من نظرائهم الكفار وجعلنا بمعنى صيرنا ومفعولها الأول أكابر مجرميها، وفي كل قرية المفعول الثاني، وأكابر على هذا مضاف إلى مجرميها. وأجاز أبو البقاء أن يكون مجرميها بدلاً من أكابر. وأجاز ابن عطية أن يكون مجرميها المفعول الأول، وأكابر المفعول الثاني والتقدير مجرميها أكابر وما أجازاه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهو أن أفعل التفضيل إذا كان بمن ملفوظاً بها أو مقدراً أو مضافاً إلى نكرة كان مفرداً مذكراً دائماً سواء كان لمذكر أم لمؤنث مفرد أو مثنى أو مجموع فإِذا أنث أو ثنى أو جمع طابق ما هو له في ذلك ولزمه أحد أمرين: أما الألف واللام، أو الإِضافة إلى معرفة، وإذا تقرر هذا فالقول بأن مجرميها بدل من أكابر أو أن مجرميها مفعول أول خطأ لإِلتزامه أن يبقى أكابر مجموعاً وليس فيه ألف ولام ولا هو مضاف إلى معرفة، وذلك لا يجوز. والهاء في مجرميها عادة على قرية فلا يجوز تقديم أكابر مجرميها على قوله: في كل قرية. ولام ليمكروا: لام كي، وهي متعلقة بجعلنا وحذف الممكور به للعلم به.﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ أن وباله يحيق بهم، ولا يعني نفي شعورهم على الاطلاق وهو مبالغة في نفي العلم إذ نفي عنهم شعور الذي هو يكون للبهائم.﴿ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ ﴾ الآية، قال مقاتل: روي أن الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر مالاً منك. وروي أن أبا جهل قال: تزاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نرضي به، ولا نتبعه أبداً، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه. فنزلت. والضمير في جاءتهم عائد على الأكابر وتغيية إيمانهم بقولهم: حتى نؤتى دليل على تمحلهم في دعواهم واستبعاد منهم أن الإِيمان لا يقع منهم البتة إذ علقوه بمستحيل عندهم. وقولهم: ﴿ رُسُلُ ٱللَّهِ ﴾ ليس فيه إقرار بالرسل من الله تعالى وإنما قالوا ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء، ولو كانوا موقنين وغير معاندين لاتبعوا رسل الله تعالى. والمثلية كونهم تجري على أيديهم المعجزات فتحيي لهم الأموات ويفلق لهم البحر ونحو ذلك كما جرت على أيدي الرسل.﴿ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ هذا استئناف إنكار عليهم، وأنه تعالى لا يصطفي للرسالة إلا من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالجهة التي يضعها فيها وقد وضعها فيمن اختاره لها وهو محمد صلى الله عليه وسلم دون أكابر مكة كأبي جهل والوليد بن المغيرة ونحوهما، وقالوا حيث لا يمكن إقرارها على الظرفية فتكون مفعولاً على السعة ولا يعمل فيه أعلم، إذ أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به فاحتاجوا إلى إضمار فعل يفسره أعلم تقديره يعلم حيث هكذا. قال الحوفي والتبريزي وابن عطية وأبو البقاء: وما أجازوه من أنه مفعول به على السعة أو مفعول به على غير السعة تأباه قواعد النحو لأن النحاة نصوا على أن حيث من الظروف التي لا تتصرف، وشذ إضافة لدى إليها وجرها بالباء وبفي. ونصوا على أن الظرف الذي يتوسع فيه لا يكون إلا متصرفاً وإذا كان الأمر كذلك امتنع نصب حيث على المفعول به لا على السعة ولا غيرها، والذي يظهر لي إقرار حيث على الظرفية المجازية على أن يضمن أعلم معنى ما يتعدى إلى الظرف فيكون التقدير الله أنفذ علماً حيث يجعل رسالاته، أي هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالته. والظرفية هنا مجاز كما قلنا.﴿ سَيُصِيبُ ﴾ وعيد شديد.﴿ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ ﴾ عام في الأكابر وغيرهم والصغار مقابل للأكابر وهو الهوان والذل. يقال منه: صغر يصغر، وصغر يصغر، واسم الفاعل صاغر وصغير.﴿ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ أي في عرصة قضاء الآخرة وقدم الصغار على العذاب لأنهم تمردوا عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكبروا طلباً للعز والكرامة فقوبلوا أولاً بالهوان والذل.﴿ بِمَا كَانُواْ ﴾ الباء للسبب. وختمها بقوله:﴿ يَمْكُرُونَ ﴾ مراعاة لقوله تعالى: ﴿ لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ﴾.
﴿ فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَٰمِ ﴾ قال مقاتل: نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل. والهداية هنا مقابلة الضلال، والشرح كناية عن جعله قابلاً للإِسلام متوسعاً لقبول تكاليفه. والضمير في يجعل عائد على الله تعالى ومعنى يجعل يصير لأن الإِنسان يخلق أولاً على الفطرة وهي كونه متهيئاً لما يلقى إليه ولما يجعل فيه، فإِذا أراد الله تعالى إضلاله أضله وجعله لا يقبل الإِيمان. وقرىء: ﴿ ضَيِّقاً ﴾ بحذف الياء التي هي عين الكلمة، إذ وزنه قبل الحذف فيعل وبعد الحذف فيل كقولهم: ليّن ولين.﴿ حَرَجاً ﴾ إسم فاعل من حرج يحرج فهو حرج. ومن قرأ حرجاً فهو وصف بالمصدر.﴿ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ ﴾ هذه الجملة التشبيهية معناها أنه كما يزاول أمراً غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يقصد ويمتنع من الاستطاعة وتضيق عنه المقدرة. وقرىء: يصّاعد ويصعّد ويصعد.﴿ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ﴾ الإِشارة بذلك إلى المصدر المفهوم من قوله: يجعل.﴿ ٱلرِّجْسَ ﴾ بمعنى العذاب، قاله أهل اللغة. وتعدية يجعل بعلى يحتمل أن يكون معناها يلقى كما تقول: جعلت متاعك بعضه على بعض، وأن يكون بمعنى يصيّر، وعلى في موضع المفعول الثاني.﴿ وَهَـٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ﴾ الإشارة بقوله: وهذا، إلى القرآن والشرع الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس. وانتصب مستقيماً على أنه حال مؤكدة، لأن صراطه تعالى لا يكون إلا مستقيماً. و ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ ﴾ أي بيناها ولم نترك فيها إجمالاً ولا التباساً.﴿ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ أي يتدبرون بعقولهم.﴿ لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ أي الجنة. والسلام من أسماء الله تعالى كما قيل في الكعبة بيت الله، وأضيفت إليه تشريفاً، قاله ابن عباس.﴿ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ﴾ أي مواليهم وناصرهم على أعدائهم، ومتوليهم بالجزاء على أعمالهم.﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ﴾ أعرب بعضهم يوم مفعول باذكر محذوفة والأولى أن يكون الظرف معمولاً لفعل القول المحكي به النداء، أي ويوم نحشرهم نقول: يا معشر الجن وهو أولى مما أجاز بعضهم من نصبه باذكر مفعولاً به لخروجه عن الظرفية. وقال الزمخشري: ويوم نحشرهم منصوباً بفعل مضمر غير فعل القول واذكر تقديره عندهم ويوم نحشرهم. وقلنا: يا معشر الجن كان ما لا يوصف لفظاعته. " انتهى ". وما ذكره يستلزم حذف جملتين: جملة وقلنا، وجملة العامل. ويجوز أن يكون يا معشر في موضع الحال لقول محذوف تقديره قائلين على سبيل التوبيخ لهم ويكون قوله: وقال أولياؤهم مقولهم ربنا على سبيل الاعتذار. والعامل في يوم قال: النار مثواكم: والضمير في نحشرهم عائد على الثقلين. وجميعاً: توكيد. ومعنى الاستكثار هنا إضلالهم منهم كثيراً وجعلهم اتباعهم، كما تقول: استكثر فلان من الجنود واستكثر فلان من الاشياع.﴿ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ ﴾ الآية، أي وقال أولياء الجن أي الكفار. من الإِنس ﴿ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ ﴾ انتفع.﴿ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ﴾ فانتفاع الإِنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى التوصلات إليها وانتفاع الجن بالإِنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم من إغوائهم، روي هذا المعنى عن ابن عباس. والأجل الذي بلغوه هو الموت.﴿ قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ ﴾ أي مكان ثوائكم أي إقامتكم. وقال أبو علي: هو عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي خالدين. والموضع ليس فيه معنى فعل، فيكون عاملاً والتقدير النار ذات ثوائكم.﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ اضطربت أقوال المفسرين في هذا الاستثناء ولا أراه يصح منها شىء ونظيره الاستثناء الذي في سورة هود وسيأتي الكلام في ذلك.﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ﴾ هذه صفتان مناسبتان لهذه الآية لأن تخليد هؤلاء الكفرة في النار صادر عن حكمته.﴿ وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضاً ﴾ الآية، لما ذكر تعالى أنه ولى المؤمنين يعني أنه يحفظهم وينصرهم بيّن أن الكافرين بعضهم أولياء بعض في الظلم والخزي. قال قتادة: نجعل بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم، يريد ما تقدم من ذكر الجن والإِنس واستمتاع بعضهم ببعض.
﴿ يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ ﴾ هذا النداء أيضاً يوم القيامة والاستفهام للتوبيخ والتقريع حيث أعذر الله إليهم بإِرسال الرسل فلم يقبلوا منهم. والظاهر أن من الجن رسلاً إليهم كما أن من الإِنس رسلاً إليهم بعث الله تعالى رسولاً واحداً من الجن إليهم. وقيل: رسل الجن هم رسل الإِنس، فهم رسل الله تعالى بواسطة إذ هم رسل رسله ويؤيده قوله تعالى:﴿ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴾[الأحقاف: ٢٩] قاله ابن عباس.﴿ قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا ﴾ الظاهر أن هذه حكاية لتصديقهم وإيجابهم قوله: ألم يأتكم، لأن الهمزة الداخلة على نفي إتيان الرسل للإِنكار فكان تقديراً لهم. والمعنى قالوا شهدنا على أنفسنا باتيان الرسل إلينا وإنذارهم إيانا هذا اليوم. وهذه الجملة نابت مناب بل هنا فقد صرح بها في قوله: قالوا بلى أقروا بأن حجة الله تعالى لازمة لهم وأنهم محجوجون بها.﴿ وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا ﴾ هذا إخبار عنهم من الله تعالى، وتنبيه على السبب الموجب لكفرهم، وإفصاح لهم بأذم الوجوه الذي هو الخداع. قال الزمخشري: فإِن قلت: لم كرر شاءتهم على أنفسهم؟ قلت: الأولى حكاية لقولهم: كيف يقولون ويعترفون، والثانية ذم لهم وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه، وإنما قال: ذلك تحذيراً للسامعين مثل حالهم. " انتهى ". لم تتكرر الشهادة لاختلاف المخبر ومتعلقها فالأولى إخبارهم عن أنفسهم، والثانية إخباره تعالى عنهم. والأولى متعلقها الإِقرار بإِتيان الرسل إليهم قاصين ومنذرين، والثانية إخباره تعالى أنهم شهدوا على أنفسهم بالكفر فهذه الشهادة غير الأولى.﴿ ذٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ ﴾ الآية، الإشارة بذلك إلى أقرب مذكور دل عليه الكلام، وهو إتيان الرسل قاصين الآيات ومنذرين بالحشر والحساب والجزاء بسبب انتفاء إهلاك القرى بظلم وأهلها لم ينبهوا ببعثة الرسل إليهم والإِعذار إليهم والتقدم بالاخبار بما يحل بهم إذا لم يتبعوا الرسل. وفي الحديث:" ليس أحد أحبَّ إليه العذر من الله تعالى، فمن أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل ".﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ﴾ أي لكل من المكلفين مؤمنهم وكافرهم درجات متفاوتة من جزاء أعمالهم وتفاوتها بنسبة بعضهم إلى بعض وبنسبة عمل كل عامل فيكون هو في درجة فيترقى إلى أخرى كاملة ثم إلى أكمل. والظاهر إندراج الجن في العموم في الجزاء كما اندرجوا في التكليف وفي إرسال الرسل إليهم. قال ابن عباس: جزاء مؤمني الجن إجارتهم من النار. وقال أبو حنيفة: ليس للجن ثواب لأن الثواب فضل من الله تعالى فلا يقال به إلا ببيان من الله تعالى. ولم يذكر الله تعالى في حقهم إلا عاقبة عاصيهم لا ثواب طائعهم. وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: لهم ثواب على الطاعات وعقاب على المعاصي، ودليلهما عمومات الكتاب والسنة.﴿ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ ﴾ أي ليس بساه تخفى عليه مقادير الأعمال. وما يترتب عليها من الأجور، وفي ذلك تهديد ووعيد.﴿ وَرَبُّكَ ٱلْغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ ﴾ لما ذكر تعالى من أطاع ومن عصى والثواب والعقاب، ذكر أنه هو الغني من جميع الجهات لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية.﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ﴾ الآية، هذا فيه إظهار القدرة التامة والغنى المطلق والخطاب عام للخلق كلهم، كما قال تعالى: ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ﴾ أيها الناس﴿ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ﴾[النساء: ١٣٣].
فالمعنى إن يشأ إفناء هذا العالم واستخلاف ما يشاء من الخلق غيرهم فعل، وكما أنشأكم في موضع مصدر على غير الصدر، لقوله: ويستخلف، لأن معناه وينشىء؛ والمعنى أن يشأ الاذهاب والإِستخلاف يذهبكم ويستخلف فكل من الإِذهاب والاستخلاف معذوق بمشيئة الله تعالى ومن: لابتداء الغاية.﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ ﴾ ظاهر ما العموم في كل ما توعدونه. والإِشارة إلى الوعيد المتقدّم خصوصاً واما أن يكون للعموم مطلقاً.﴿ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴾ أي فائتين. أعجزني الشيء فاتني، أي لا تفوتوننا عما أردنا بكم.﴿ قُلْ يَٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ ﴾ الآية، قرىء مكانتكم على الجمع حيث وقع فمن جمع قابل جمع المخاطبين بالجمع، ومن أفرد فعلى الجنس. والمكانة: مصدر مَكُنَ فالميم أصلية وبمعنى المكان. ويقال: المكانة مفعل ومفعلة من الكون، فالميم زائدة فيحتمل أن يكون المعنى على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم. والظاهر أن من مفعول بتعلمون وأجازوا أن تكون مبتدأ اسم استفهام وخبره تكون والفعل معلق، والجملة في موضع المفعول إن كان تعلمون معدي إلى واحد أو في موضع المفعولين إن كان معدى إلى مفعولين. و ﴿ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِ ﴾ مآلها وما تنتهي إليه. والدار يظهر منه أنها دار الآخرة.
﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَٰمِ نَصِيباً ﴾ روي عن ابن عباس وغيره أن العرب كانت تجعل من غلاتها وزروعها وأثمارها وأنعامها جزأً تسميه لله تعالى، وجزأ تسميه لأصنامها، وكانت عادتها أن تبالغ وتجتهد في إخراج نصيب الأصنام أكثر منها في نصيب الله تعالى إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر، وليس ذلك بالله تعالى. فكانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت من الذي لله إلى ذلك لشركائهم تركوه ولم يردوه إلى نصيب الله ويفعلون عكس هذا وإذا تفجّر من سقى ما جعلوه لله تعالى في نصيب شركائهم تركوه وبالعكس سدوه وإذا لم ينجح شىء من نصيب آلهتهم جعلوا نصيب الله تعالى لها، وكذا في الانعام وإذا أجدبوا أكلوا نصيب الله وتركوا نصيبها. لما ذكر تعالى قبح طريقة مشركي العرب في إنكارهم البعث ذكر أنواعاً من جعالتهم تنبيهاً على ضعف عقولهم. وفي قوله تعالى: ﴿ مِمَّا ذَرَأَ ﴾، أنه تعالى كان أولى أن يجعل له الأحسن والأجود، وأن يكون جانبه تعالى هو الأرجح إذ كان تعالى هو الموجد لما جعلوا منه نصيباً له، والقادر على تنميته دون أصنامهم العاجزة عما يحل بها فضلاً عن أن تخلق شيئاً أو تنميه.﴿ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ هذا ذم بالغ عام لأحكامهم فيدخل فيه حكمهم هذا السابق وغيره أو في إيثار آلهتهم على الله تعالى وعملهم ما لم يشرع لهم. وما: مصدرية. وساء: متعدية، حذف مفعولها لدلالة المعنى تقديره ساءهم حكمهم، أي جلب لهم السوء وقد ذكروا في ما إعراباً غير ما ذكرناه نبهنا عليه في البحر. وقال ابن عطية: وما في موضع رفع، كأنه قال: ساء الذي يحكمون. ولا يتجه عندي أن تجري هنا ساء مجرى نِعْم وبئس لأن المفسر هنا مضمر، ولا بد من إظهاره باتفاق من النحاة وإنما اتجه أن تجري مجرى بئس في قوله:﴿ سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ﴾[الأعراف: ١٧٧]، لأن المفسر ظاهر في الكلام. " انتهى ". وهذا قول من شذا يسيراً من العربية ولم ترسخ قدمه فيها بل إذا جرت ساء مجرى نعم وبئس كان حكمُها حكمَهما سواء لا تختلف في شىء البتة من فاعل مضمراً. وظاهر ويتميز ولا خلاف في جواز حذف المخصوص بالمدح والذم والتمييز فيهَا لدلالة الكلام عليه فقوله لأن المفسّر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق النحاة إلى آخره كلام ساقط ودعواه الاتفاق مع أن الاتفاق على خلاف ما ذكر عجب عجاب.﴿ وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ ﴾ الإِشارة بذلك إلى المصدر المفهوم من قوله: وجعلوا لله تقديره. ومثل ذلك الجعل في التزيين زين لكثير من المشركين.﴿ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ ﴾ بالوأد أو بنحرهم للآلهة وكان الرجل يحلف في الجاهلية لئن ولد لي كذا غلاماً لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب. وقرىء زين مبنياً للفاعل والفاعل شركاؤهم. وقتل مصدر مضاف للمفعول. وقرىء زين مبنياً للمفعول، وقتل مفعول لم يسم فاعله وشركاؤهم مرفوع بفعل محذوف يدل عليه ما قبله تقديره زيّنه شركاؤهم. ونظيره قراءة من قرأ يسبح له مبنياً للمفعول. ورجال فاعل بفعل محذوف يدل عليه ما قبله تقديره ويسبحه رجال. وقرأ ابن عامر كذلك، ألا أنه نصب أولادهم وجر شركائهم فصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل بالمفعول وهي مسألة مختلف في جوازها فجمهور البصريين يمنعونها متقدموهم ومتأخروهم ولا يجيزون ذلك إلا في ضرورة الشعر. وبعض النحويين أجازها وهو الصحيح لوجودها في هذه القراءة المتواترة المنسوبة إلى العربي الصريح المحصن ابن عامر الآخذ للقرآن عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قبل أن يظهر اللحن في لسان العرب، ولوجودها أيضاً في لسان العرب في عدة أبيات. من ذلك قول الشاعر: فزججتها بمزجة زج   القلوص أبي مزادهقال الزمخشري: والفصل بينهما يعني المضاف والمضاف إليه لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر لكان سَمِجاً مردوداً كما سمج ورود: زجّ القلوص أبي مزاده. فكيف به في الكلام المنثور، فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته، والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء. ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء لأن الأولاد وشركاؤهم في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب. " انتهى ". أعجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة موجود نظيرها في لسان العرب في غير ما بيت وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقاً وغرباً. وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم. ومعنى: ﴿ لِيُرْدُوهُمْ ﴾ ليهلكوهم من الردى، وهو الهلاك.﴿ وَلِيَلْبِسُواْ ﴾ ليخلطوا. و ﴿ دِينَهُمْ ﴾ ما كانوا عليه من دين إسماعيل حتى زلوا عنه إلى الشرك.﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ﴾ الظاهر عود الضمير على القتل لأنه المصرح به والمحدث عنه. والواو في فعلوه: عائدة على الكثير.﴿ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ أي يختلقون من الإِفك على الله تعالى. والأحكام التي يشرعونها وهو أمر تهديد ووعيد. وما: مصدرية، أي وافتراؤهم، أو موصولة بمعنى الذي. والعائد من الصلة محذوف تقديره يفترونه.﴿ وَقَالُواْ هَـٰذِهِ أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ﴾ الآية، أعلم تعالى بأشياء مما شرعوها وتقسيمات ابتدعوها والتزموها على جهة الفرية والكذب منهم على الله تعالى أفردوا من أنعامهم وزروعهم وأثمارهم شيئاً. وقالوا: هذا حجر، أي حرام ممنوع. والحجر بمعنى المحجور كالذبح والطحن.﴿ لاَّ يَطْعَمُهَآ ﴾ والضمير في يطعمها عائد على الإِنعام والحرث. ومفعول نشاء محذوف تقديره من نشاء طعمه. وقيل: هم الرجال دون النساء. وقيل: هم سدنة الأصنام أي خدمتها.﴿ وَأَنْعَٰمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا ﴾ هي البحائر والسوائب والحوامي، وتقدم تفسيرها في المائدة.﴿ وَأَنْعَٰمٌ لاَّ يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا ﴾ أي عند الذبح. وقال أبو وائل وجماعة: لا يحجون عليها ولا يلبون، وكانت تركب في كل وجه إلا الحج.﴿ ٱفْتِرَآءً عَلَيْهِ ﴾ أي اختلاقاً وكذباً على الله تعالى حيث قسّموا هذه الأنعام هذه التقسيم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى. وانتصب افتراء على أنه مفعول من أجله أو مصدر على إضمار فعل أي يفترون.﴿ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلأَنْعَٰمِ ﴾ الذي في بطونها هو الأجنة. يقولون: في أجنة البحائر والسوائب، ما ولد منها حياً، فهو خالص للذكور ولا تأكل منه الإِناث، وما ولد ميتاً اشترك فيه الذكور والإِناث. وقيل: ما في بطونها اللبن. وقال الطبري: اللفظ يعم الأجنة واللبن. " انتهى ". والظاهر الأجنة لأنها التي في البطن حقيقة، وأما اللبن ففي الضرع لا في البطن إلا بمجاز بعيد. ما: مبتدأ خبره خالصة أنّث على المعنى، ثم ذكر في قوله: محرم، حملاً على لفظ ما. وقرىء: خالصة بالنصب على الحال وخالصاً بالنصب على الحال أيضاً. وقرىء: خالص بالرفع بغير تاء خبَر لما.﴿ لِّذُكُورِنَا ﴾ متعلق بخالص أو بخالصة.﴿ وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ ﴾ كانوا إذا خرج الجنين ميّتاً اشترك في أكله الرجال والنساء. وكذلك ما مات من الانعام الموقوفة نفسها. وقرىء: وإن تكن بتاء التأنيث ميتة بالنصب أي وإن تكن الأجنة التي تخرج ميتة. وقرىء: وإن يكن ميتة بالرفع على كان التامة. وأجاز الأخفش أن تكون الناقصة، وجعل الخبر محذوفاً التقدير وإن يكن في بطونها ميتة. قال الزمخشري: وقرأ أهل مكة وإن تكن ميتة بالتأنيث والرفع. " انتهى ". ان عنى بقوله: أهل مكة، ابن كثير فهو وهم. وإن عنى غيره من أهل مكة فيمكن أن يكون نقلاً صحيحاً. وهذه القراءة التي عزاها الزمخشري لأهل مكة هي قراءة ابن عامر رحمه الله.﴿ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ﴾ أي جزاء وصفهم.
﴿ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوۤاْ أَوْلَٰدَهُمْ ﴾ الآية، كان جمهور العرب لا يئدون بناتهم وكان بعض ربيعة مضر يئدونهن وهو دفنهن أحياء فبعضهم يئد خوف العيلة والاقتار، وبعضهم خوف السَبْي. فنزلت هذه الآية في ذلك إخباراً بخسران فاعل ذلك. ولما تقدم تزيين قتل الأولاد وتحريم ما حرموه في قولهم: هذه أنعام وحرث. حجر جاء هنا تقديم قتل الأولاد وتلاه التحريم. وفي قوله: ﴿ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ إشارة إلى خفة عقولهم وجهلهم بأن الله تعالى هو الرزاق والمقدر السبي وغيره.﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَ جَنَّٰتٍ ﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أخبر عنهم أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله أخذ يذكر تعالى ما امتن به عليهم من الرزق الذي تصرفوا فيه بغير إذنه تعالى إفتراء منهم واختلاقاً فذكر نوعي الرزق النباتي والحيواني، فبدأ بالنباتي كما بدأ به في الآية المشبهة لهذه واستطرد منه إلى الحيواني إذ كانوا قد حرموا أشياء من النوعين.﴿ مَّعْرُوشَٰتٍ ﴾ ويقال: عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكاً تنعطف عليه القضبان.﴿ وَٱلنَّخْلَ ﴾ قدمه على الزرع لأن العرب كانت أحوج إليه إذ كانت غالب قوتهم واختلاف أكله وهو المأكول، هو بأن لكل نوع من أنواع النخل والزرع طعماً ولوناً وحجماً ورائحة تخالف به النوع الآخر. والمعنى مختلفاً أكل ثمره وانتصب مختلفاً على أنه حال مقدرة، لأنه لم يكن وقت الإِنشاء مختلفاً. قال الزمخشري: والضمير في أكله عائد على النخل والزرع، وأفرد لدخوله في حكمه بالعطفية. " انتهى ". ليس بجيد لأن العطف بالواو لا يجوز إفراد ضمير المتعاطفين. وقال الحوفي: والهاء في أكله عائدة على ما تقدم من ذكره هذه الأشياء والمنشآت. " انتهى ". وعلى هذا لا يكون ذو الحال النخل والزرع فقط بل جميع ما أنشأ لاشتراكها كلها من اختلاف المأكول ولو كان كما زعم لكان التركيب مختلفاً أكلها، إلا أن أخذ على حذف مضاف، أي ثمر جنات وروعي هذا المحذوف فقيل: أكله بالإِفراد على مراعاته فيكن ذلك نحو قوله:﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ ﴾[النور: ٤٠] أي أو كذي ظلمات. والظاهر عوده على أقرب مذكور وهو الزرع فيكون قد حذفت حال النخل لدلالة هذه الحال عليها التقدير النخل مختلفاً أكله والزرع مختلفاً أكله كما في زيد وعمرو قائم. وتقدم الكلام على قوله: والزيتون والرمان كلوا من ثمره إذا أثمر لما كان مجيء تلك الآية في معرض الاستدلال بها على الصانع وقدرته والحشر وإعادة الأرواح إلى الأجساد بعد العدم وإبراز الجسد وتكوينه من العظم الرميم وهو عجب الذنب. قال: انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إشارة إلى الإِيجاد أولاً، وإلى غايته وهنا لما كان معرض الغاية الامتنان، وإظهار الإِحسان بما خلق لنا. قال: كلوا من ثمره إذا أثمر فحصل بمجموعها الحياة الأبدية والحياة الدنيوية السريعة الانقضاء. وتقدم النظر وهو الفكر على الأكل لهذا السبب، وهو أمر بإِباحة الأكل، واستدل به على أن الأصل في المنافع الإِباحة والإِطلاق، وقيده بقوله: إذا أثمر وإن كان من المعلوم أنه إذا لم يثمر فلا أكل، تنبيهاً على أنه لا ينتظر به محل إدراكه واستوائه بل متى أمكن الأكل منه فعل.﴿ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ والذي يظهر عود الضمير على ما عاد عليه من ثمره وهو جميع ما تقدم ذكره مما يمكن أن يؤكل إذا أثمر وألحق هنا مجمل، واختلف فيه أهو الزكاة أم غيرها. وقرىء: حَصاده وحِصاده بفتح الحاء وكسرها.﴿ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ ﴾ روى ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس جذ خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئاً. فنزلت. ولما أمر تعالى بالأكل من ثمره وإيتاء حقه نهى عن مجاوزة الحد، فقال: ولا تسرفوا، وهذا النهي يتضمن إفراد الإِسراف فيدخل فيه الإِسراف من أكل الثمرة حتى لا يبقى منها شيء للزكاة، والإِسراف في الصدقة بها حتى لا يبقى لنفسه ولا لعياله شيئاً.﴿ وَمِنَ ٱلأَنْعَٰمِ حَمُولَةً وَفَرْشاً ﴾ هذا معطوف على جنات، أي وأنشأ من الانعام حمولة وفرشاً. والحمولة ما يحمل عليه من الإِبل والبقر، والحمولة: الأحمال. ويقال: الحمول بفتح الحاء بمعنى الحمولة. قال الشاعر: حي الحمول بجانب العزل   إذ لا يلائم شكلها شكلوالفرش: الغنم. وقدم الحمولة على الفرش لأنها أعظم في الانتفاع إذ ينتفع بها في الأكل والحمل.﴿ ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ ﴾ تقدم تفسير ما أحل المشركون وما حرموا ونسبتهم ذلك إلى الله تعالى، فلما قام الإِسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم وكان خطيبهم مالك بن عوف بن أبي الأحوص الجشمي فقال:" يا محمد بلغنا أنك تحل أشياء فقال له: إنكم قد حرمتم أشياء على غير أصل وإنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها، فمن أين جاء هذا التحريم؟ أمن قبل المذكر أم من قبل الأنثى؟ فسكت مالك بن عوف وتحير "وقوله ثمانية أزواج بدل من قوله: حمولة وفرشاً.﴿ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ﴾ الضأن: معروف بسكون الهمزة وفتحها. ويقال ضيئن. وكلاهما اسم جمع لضائنة وضائن.﴿ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ ﴾ المعز معروف، بسكون العين وفتحها، ويقال: معيز ومعزى، وهي أسماء جموع لماعزة وماعز وأمعوز.﴿ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ ﴾ وهذا الاستفهام هو استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع حيث نسبوا ما حرموه إلى الله تعالى وكانوا مرة يحرمون الذكور والإِناث مرة أولادها ذكوراً أو إناثاً ومختلطة فبين تعالى أن هذا التقسيم هو من قبل أنفسهم لا من قبله تعالى.﴿ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ ﴾ في نسبة ذلك التحريم إلى الله تعالى فأخبروني عن الله تعالى بعلم لا بافتراء ولا بتخرص وأنتم لا علم لكم بذلك إذ لم يأتكم بذلك وحي من الله تعالى فلا يمكن منكم تنبئة بذلك وفصل بهذه الجملة المعترضة بين المتعاطفين على سبيل التقريع لهم والتوبيخ، حيث لم يستندوا في تحريمهم إلا إلى الكذب البحت والافتراء.
﴿ وَمِنَ ٱلإِبْلِ ﴾ الآية الإِبل الجمال للواحد والجمع، ويجمع على إبال، وتأبّل الرجل: اتخذ إبلاً. وقولهم: ما أبل الرجل في التعجب شاذ، وقدم الإِبل على البقر لأنها أغلى ثمناً وأغنى نفعاً في الرحلة وحمل الأثقال عليها واصبر على الجوع والعطش وأطوع وأكثر انقياداً في الإِناخة والإِشارة.﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ ﴾ انتقل من توبيخهم في نفي علمهم بذلك إلى توبيخهم في نفي شهادتهم. وذلك وقت توصية الله إياهم بذلك لأن مدرك الأشياء المعقول والمحسوس، فإِذا انتفيا فكيف يحكم بتحليل أو بتحريم.﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ الآية، أي لا أحد أظلم.﴿ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً ﴾ فنسب إليه تحريم ما لم يحرمه تعالى فلم يقتصر على افتراء الكذب في حق نفسه وضلالها حتى قصد بذلك ضلال غيره فسن هذه السنة الشنعاء. وغايته بها إضلال الناس فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴾ نفي هداية من وجد منه الظلم. فكان من فيه الأظلميّة أولى بأن لا يهديه. وهذا عموم في الظاهر وقد تبين تخصيصه بما يقتضيه الشرع.﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ ﴾ الآية، لما ذكر أنهم حرموا ما حرموا افتراء على الله، أمره تعالى أن يخبرهم بأن مدرك التحريم إنما هو بالوحي من الله تعالى وبشرعه لا بما تهوى الأنفس وما تختلقه على الله تعالى. وجاء الترتيب هنا كالترتيب الذي في البقرة والمائدة وجاءت هنا هذه المحرمات منكرة والدم موصوفاً بقوله: مسفوحاً. والفسق موصوفاً بقوله: أهل لغير الله به. وفي تينك السورتين معرفاً لأن هذه السورة مكية فعلّق بالمنكر وتانك السورتان مدنيتان، فجاءت تلك الأسماء معارف بالعهد وحوالة على ما سبق تنزيله في هذه السورة. و ﴿ إِلاَّ أَن يَكُونَ ﴾ استثناء منقطع لأنه كون والمحرم عين من الأعيان. ويجوز أن يكون بدلاً على لغة بني تميم، ونصباً على لغة الحجاز، كقوله تعالى:﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ ﴾[النساء: ١٥٧] لأن اتباع الظن ليس بعلم فهو استثناء منقطع، واسم كان ضمير مذكر يعود على محرم تقديره إلا أن يكون المحرم ميتة. ومعنى مسفوحاً، أي مصبوباً سائلاً كالدم في العروق لا كالطحال والكبد. وقد رخص في دم العروق بعد الذبح. وقيل لأبي مجلز القدر تعلوه الحمرة من الدم، فقال: إنما حرم الله تعالى المسفوح. وفي قوله: أو دماً مسفوحاً، دلالة على أن دم البق والبراغيث والذباب ليس بنجس لأنه ليس بمسفوح. والظاهر أن الضمير في فإِنه عائد على لحم الخنزير. وزعم أبو محمد بن حزم أنه عائد على خنزير فإِنه أقرب مذكور. وإذا احتمل الضمير العود إلى شيئين كان عوده على الأقرب أرجح، وعورض بأن المحدّث عنه إنما هو اللحم. وجاء ذكر الخنزير على سبيل الإِضافة إليه لا أنه هو المحدث عنه المعطوف. ويمكن أن يقال: ذكر اللحم تنبيهاً على أنه أعظم ما ينتفع به من الخنزير وإن كان سائره مشاركاً له في التحريم بالتنصيص على العلة من كونه رجساً، أو لإِطلاق الأكثر على كله أو الأصل على التابع لأن الشحم وغيره تابع للحم أو فسقاً معطوف على ما قبله. قال الزمخشري: فسقاً منصوب على أنه مفعول من أجله مقدم على العامل فيه وهو أهل كقوله: طربت وما شوقا إلى البيض أطرب   وفصل بين أو وأهل بالمفعول له. " انتهى ". هذا إعراب متكلف جداً وتركيبه خارج عن الفصاحة، وغير جائز على قراءة من قرأ إلا أن يكون ميتة بالرفع، فيبقى الضمير في به ليس له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يتكلف محذوف حتّى يعود الضمير عليه فيكون التقدير أو شىء أهل لغير الله به لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر وسمي ما أهل لغير الله به فسقاً لتوغله في باب الفسق. ومنه:﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾[الأنعام: ١٢١]، وأهل في موضع الصفة له. واختلفوا في هذه الآية أهي محكمة وهو قول الشعبي وابن جبير فعلى هذا لا شىء محرم من الحيوان إلا فيها وليس هذا مذهب الجمهور. وقيل: هي منسوخة بآية المائدة وينبغي أن يفهم هذا النسخ بأنه نسخ للحصر فقط. وقيل: جميع ما حرم داخل في الاستثناء سواء كان بنص قرآن أم حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاشتراك في العلة التي هي الرجسية. والذي نقوله ان الآية مكية وجاءت عقب قوله: ثمانية أزواج، وكان الجاهلية يحرّمون ما يحرمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي من هذه الثمانية فالآية محكمة. وأخبر فيها أنه لم يجد فيما أوحي إليه إذ ذاك من القرآن سوى ما ذكر، ولذلك أتت صلة ما جلمة مصدرة بالفعل الماضي فجميع ما حرم بالمدينة لم يكن إذ ذاك سبق منه وحي فيه بمكة فلا تعارض بين ما حرم بالمدينة وبين ما أخبر أنه أوحى إليه بمكة تحريمه. وذكر الخنزير وإن لم يكن من ثمانية أزواج لأن من الناس من كان يأكله إذ ذاك، ولأنه أشبه شىء بثمانية الأزواج في كونه ليس سبعاً مفترساً يأكل اللحوم ويتغذى بها، وإنما هو من نمط الثمانية في كونه يعيش بالنبات ويرعى كما ترعى الثمانية، وذكر المفسرون أشياء مما اختلف أصل العلم فيه ذكرناه في البحر المحيط.﴿ فَمَنِ ٱضْطُرَّ ﴾ تقدم ولما كان صدر الآية مفتتحاً بخطابه تعالى بقوله: قل لا أجد، اختتم الآية بالخطاب فقال:﴿ فَإِنَّ رَبَّكَ ﴾ وذلك بدل على اعتنائه به تعالى بتشريف خطابه افتتاحاً واختتاماً.
﴿ وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ﴾ مناسبتها لما قبلها أنه لما بين أن التحريم إنما يستند للوحي الإِلهي أخبر أنه حرم على بعض الأمم السابقة أشياء كما حرم على أهل هذه الملة أشياء مما ذكرها في الآية قبل، فالتحريم إنما هو راجع إلى الله تعالى في الأمم جميعها، وفي قوله: حرمنا. تكذيب لليهود في قولهم: إن الله تعالى لم يحرم علينا شيئاً، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه. قال ابن عباس وجماعة: هي ذوات الظلف كالإبل والنعام وما ليس بذي أصابع منفرجة كالبط والوز ونحوهما، واختاره الزجاج.﴿ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ﴾ من متعلقة بحرمنا. والضمير المثنى في شحومهما عائد على البقر والغنم.﴿ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ﴾ أي إلا الشحم الذي حملته ظهور البقر والغنم. قال ابن عباس: وهو ما علق بالظهر من الشحم وبالجنب من داخل بطونهما. وما: موصولة. والضمير العائد على ما محذوف تقديره حملته الحوايا إن قدر وزنها فواعل فجمع حاوية كزواية وزواياه، أو جمع حاوياء كقاصعاء وقواصع، وإن قدر وزنها فعائل فجمع حوية كمطية ومطايا، وتقرير صيرورة ذلك إلى حوايا مذكور في علم التصريف وهي الدوارة التي تكون في بطون الشياه. وقال علي بن عيسى الرماني: هو كل ما يحويه البطن، فاجتمع واستدار. وقال ابن عباس وجماعة: هي الماعز. قال الزمخشري: وأوْ في " أو الحوايا " بمنزلتها في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين. " انتهى ". الذي قاله النحويون أن أوْ في هذا المثال للإِباحة فيجوز له أن يجالسهما معاً وأن يجالس أحدهما والأحسن في الآية إذا قلنا إن ذلك معطوف على شحومهما أن تكون أوْفية للتفصيل فصل بها ما حرم عليهم من البقر والغنم.﴿ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ ﴾ معطوفاً على ما حملت ظهورهما.﴿ بِعَظْمٍ ﴾ هو شحم الألية لأنه على العصعص، قاله السدي وابن جريج.﴿ ذٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم ﴾ ذلك إشارة إلى المصدر الدال عليه التحريم كأنه قال: ذلك التحريم جزيناهم.﴿ وِإِنَّا لَصَٰدِقُونَ ﴾ إخبار عما حرم الله تعالى عليهم لا أن ذلك من تحريم إسرائيل.﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ ﴾ الظاهر عود الضمير على أقرب مدكور وهم اليهود أي فإِن كذبوك فيما أخبرت به أنه تعالى حرمه عليهم. وقالوا: لم يحرمه الله تعالى وإنما حرمه إسرائيل.﴿ فَقُلْ ﴾: متعجباً من حالهم ومعظماً لافترائهم مع علمهم بما قلت.﴿ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ﴾ حيث لم يعاجلكم بالعقوبة مع شدة هذا الجرم كما تقول عند رؤية معصية عظيمة ما أحلم الله تعالى وأنت تريد لإِمهاله العاصي. و ﴿ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ عام فيندرج فيه مكذبوا الرسول وغيرهم من المجرمين. ويحتمل أن يكون من وقوع الظاهر موقع المضمر، أي ولا يرد بأسه عنكم. وجاء معمول قل الأول جملة إسمية لأنها أبلغ في الاخبار من الجملة الفعلية فناسبت الأبلغية في وصفه تعالى بالرحمة الواسعة وجاءت الجملة الثانية فعلية ولم تأت إسمية فيكون التركيب وذو بأس لئلا يتعادل الاخبار عن الوصفين، وباب الرحمة أوسع فلا تعادل.﴿ سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ الآية، هذا إخبار بمستقبل وقد وقع وفيه إخبار بمغيبٍ معجزةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان كما أخبر به تعالى. وهذا القول ورد منهم حين بطل احتجاجهم وثبت الرد عليهم فعدلوا إلى أمر حق، وهو أنه لو أراد الله تعالى أن لا يقع شىء من ذلك لم يقع وأورد ذلك على سبيل الحوالة على المشيئة والمقادير مغالطة وحيدة عن الحق وإلحاداً، لا اعتقاداً صحيحاً والذين أشركوا عام في مشركي قريش وغيرهم. ومفعول شاء محذوف تقديره لو شاء الله عدم إشراكنا ما أشركنا.﴿ وَلاَ آبَاؤُنَا ﴾ معطوف على الضمير في أشركنا. ولم يحتج إلى توكيد إذ فضل بين الضمير والمعطوف عليه لفظة لا ولو كان في غير القرآن لاحتيج إلى فصل الضمير كما تقول: ما قمنا نحن وزيد. وهذا على مذهب أهل البصرة والكوفيون لا يشترطون الفصل بالضمير في العطف.﴿ كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ﴾ أي مثل ذلك التكذيب المشار إليه في قوله: فإِن كذبوك كذبت الأمم السالفة. فمتعلق التكذيب هو غير قولهم: لو شاء الله ما أشركنا، أي بنحو هذه الشبهة من ظنهم أن ترك الله دليل على رضاه بحالهم.﴿ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا ﴾ غاية لامتداد التكذيب إلى وقت العذاب لأنه إذا حل العذاب لم يبق تكذيب البتة.﴿ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ ﴾ هذا استفهام على معنى التهكم بهم وهو إنكار، أي ليس عندكم من علم تحتجون به فتظهروه لنا ما تتبعون في دعاويكم إلا الظن الكاذب الفاسد. وما أنتم إلا تكذبون أو تقدرون وتحذرون. ومن علم: مبتدأ زيدت فيه من، وعندكم: الخبر.﴿ فَتُخْرِجُوهُ ﴾ جواب الاستفهام وهو منصوب بحذف النون كقوله تعالى:﴿ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ ﴾[الأعراف: ٥٣].
وان في الموضعين نافية تقديره ما تتبعون وما أنتم.﴿ قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ ﴾ أي البالغة في الاحتجاج الغالبة كل حجة حيث خلق عقولاً يفكر بها وأسماعاً يسمع بها وأبصاراً يبصر بها. وكل هذه مدارك للتوحيد ولاتباع ما جاء به الرسل عن الله تعالى.﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ ﴾ بيّن تعالى كذبهم على الله تعالى وافتراءهم في تحريم ما حرموا منسوباً إلى الله تعالى فقال نبئوني بعلم، وقال: أم كنتم شهداء. ولما انتفى هذان الوجهان انتقل إلى وجه ثالث ليس بهذين الوجهين، وهو أن يستدعي منهم من يشهد لهم بتحريم الله تعالى ما حرموا وهلم هنا على لغة الحجاز إسم فعل وهي متعدية، ولذلك انتصب المفعول به بعدها وتأتي الأزمة كقوله:﴿ هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴾[الأحزاب: ١٨]، أي اقبلوا إلينا وإضافة الشهداء إليهم تدل على أنهم غيرهم، وهذا أمر على سبيل التعجيز، أي لا يوجد من يشهد لهم بذلك شهادة حق، لأنها دعوى كاذبة.﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ الظاهر في العطف أنه يدل على مغايرة الذوات، والذين كذبوا بآياتنا يعم جميع من كذب الرسول، وإن كان مقراً بالآخرة كأهل الكتاب.﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ ﴾ قسم من المكذبين بالآيات وهم عبدة الأوثان والجاعلون لربهم عديلاً، وهو المثل عدلوا به الأصنام في العبادة والألوهية. ويحتمل أن يكون العطف من تغاير الصفات والموصوف واحد وهو قول الأكثرين.﴿ بِرَبِّهِمْ ﴾ متعلق.﴿ يَعْدِلُونَ ﴾ ومفعول يعدلون محذوف، والتقدير وهم يعدلون بربهم غيره من الآلهة التي عبدوها.
﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ لما ذكر ما حرموا افتراء عليه ثم ذكر ما أباحه تعالى لهم من الحبوب والفواكه والحيوان، ذكر ما حرمه تعالى عليهم من أشياء نهاهم عنها وما أوجب عليهم من أشياء أمرهم بها. وتقدم شرح تعالوا عند قوله تعالى:﴿ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ ﴾[آل عمران: ٦٤].
والخطاب في: قل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي: تعالوا، قيل: للمشركين. وقيل: لمن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مؤمن وكتابي ومشرك. وسياق الآيات يدل على أنه للمشركين وإن كان حكم غيرهم. في ذلك حكمهم أمره تعالى أن يدعو جميع الخلق إلى سماع ما حرم الله تعالى بشرع الإِسلام المبعوث به إلى الأسود والأحمر. وأتل: أسرد. وأنص من التلاوة وهي اتباع بعض الحروف بعضاً. وقال كعب الأحبار: هذه الآية هي مفتتح التوراة: بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم... إلى آخر الآية. وقال ابن عباس: هذه الآيات هي المحكمات التي ذكرها الله تعالى في سورة آل عمران أجمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في ملة. وقد قيل: انها العشر كلمات أنزلت على موسى عليه السلام. وما: بمعنى الذي، وهي مفعولة بأتل، أي أقرأ الذي حرمه ربكم عليكم. وعليكم متعلق بحرم لا باتل.﴿ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾ الظاهر أنّ انْ تفسيرية. ولا: ناهية، لأن أتل فعل بمعنى القول وما بعد أن جملة فاجتمع في أن شرطاً التفسيرية وهي أن يتقدمها معنى القول، وأن يكون ما بعدها جملة. قال الزمخشري: فإِن قلت: إذا جعلت انْ مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بما حرم عليكم، وجب أن يكون بعدها منهياً عنه محرماً كله كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهي فما تصنع بالأول؟ قلت: لما وردت هذه الأوامر مع النواهي، وتقدمهن جميعاً فعل التحريم، واشتركن في الدخول تحت حكمه على أن التحريم راجع إلى أضدادها وهي الإِساءة إلى الوالدين، وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله. " انتهى ". وكون هذه الأشياء اشتركت في الدخل تحت حكم التحريم وكون التحريم راجعاً إلى أضداد الأوامر بعيد جداً والغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين: أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز انّ التفسيرية بل هي معطوفة على قوله: اتل ما حرم أمرهم أولاً بأمر مرتب عليه ذكر مناه ثم أمرهم ثانياً بأوامر، وهذا معنى وأفلح. والثاني أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي داخلة تحت أنْ التفسيرية، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون أن مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل على حذفه. والتقدير وما أمركم به فحذف، وما أمركم به لدلالة ما حرم عليه، لأن معنى ما حرم ربكم عليكم ما نهاكم ربكم عنه، فالمعنى قل تعالوا أتل ما نهاكم ربكم عنه وما أمركم به وإذا كان التقدير هكذا أصح أن تكون أنْ تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم، وفعل الأمر المحذوف ألا ترى أنه يجوز أن تقول: أمرتك أن لا تكرم جاهلاً، وأكرم عالماً، إذ يجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر، كما قال امرؤ القيس: وقوفاً بها صحبي على مطيهم   يقولون لا تهلك أسى وتجملوهذا ألا نعلم فيه خلافاً بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإِنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافاً. قال الزمخشري: فإِن قلت: وجب هلا قلت هي التي تنصب الفعل، وجعلت أن لا تشركوا بدلاً مما حرم. قلت: وجب أن يكون لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهي الانعطاف الأوامر عليها. وهي قوله: وبالوالدين إحساناً، التقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانا وأوفوا. وإذا قلتم: فاعدلوا وبعهد الله أوفوا. " انتهى ". ولا يتعين أن تكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه لا لأنا بيّنا جواز عطف وبالوالدين إحسانا على تعالوا، وما بعده معطوفة عليه، ولا يكون قوله: وبالوالدين معطوف على أن لا تشركوا.﴿ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾ تقدم تفسيره في البقرة.﴿ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ من هنا سببية أي من فقر، يقال: أملق الرجل إذا افتقر، ولما أمر تعالى بالإِحسان إلى الوالدين نهي عن الإِساءة إلى الأولاد، ونبه على أعظم الإِساءة للأولاد وهو إعدام حياتهم بالقتل خوف الفقر، كما قال في الحديث:" وقد سئل عن أكبر الكبائر فذكر الشرك بالله تعالى وهو قوله: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. ثم قال: وان تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: وإن تزاني حليلة جارك "وجاء هذا الحديث منتزعاً من هذه الآية، وجاء التركيب هنا من إملاق نحن نرزقكم وإياهم. وفي سورة الإسراء﴿ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ﴾[الآية: ٣١].
فيمكن أن يكون ذلك من التفنن في الكلام، ويمكن أن يقال في هذه الآية: جاء من املاق. وظاهره حصول الاملاق للوالد لا توقعه وخشيته وإن كان واجداً للحال. فبدأ أولاً بقوله: نحن نرزقكم، خطاباً للآباء وتبشيراً لهم بزوال الإِملاق وإحالة الرزق على الخالق الرازق، ثم عطف عليهم الأولاد، وأما في سورة الإِسراء فظاهر التركيب أنهم موسرون، وإن قتلهم إياهم إنما هو لتوقع حصول الإِملاق والخشية منه فبدىء فيه بقوله: نحن نرزقهم، إخباراً بتكفله تعالى برزقهم، فلستم أنتم رازقيهم. وعطف عليهم الآباء وصارت الآيتان مفيدتان مَعْنيين أحدهما: أن الآباء نهوا عن قتل الأولاد مع وجود إملاقهم، والآخر: أنهم نهوا عن قتلهم وإن كانوا موسرين، لتوقع الإِملاق وخشيته. وحمل الآيتين على ما يفيد معنيين أولى من التأكيد.﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ ﴾ الآية، المنقول فيما ظهر وما بطن كالمنقول في قوله: وذروا، ظاهر الاثم وباطنه. وتقدم فأغنى عن إعادته.﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ﴾ هذا مندرج تحت عموم الفواحش، إذ الأجود أن لا يخصّ الفواحش بنوع ما، وإنما جرد منها قتل النفس تعظيماً لهذه الفاحشة واستهوالاً لوقوعها ولأنه لا يتأتى الاستثناء بقوله: إلا بالحق إلا من القتل لا من عموم الفواحش. وقوله: التي حرم الله، حوالة على سبق العهد في تحريمها فلذلك وُصفت بالتي. والنفس المحرمة هي المؤمنة والذميّة والمعاهدة وبالحق بالسبب الموجب لقتلها كالردة والقصاص والزنا بعد الاحصان والمحاربة.﴿ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ إشارة إلى جميع ما تقدم. وفي لفظ وصاكم من اللطف والرأفة، وجعلهم أوصياء له تعالى ما لا يخفى من الإِحسان. ولما كان العقل هو مناط التكليف قال: لعلكم تعقلون، أي فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا والآخرة والوصاة، الأمر المؤكد المقرر. قال الأعشى: أجدك لم تسمع وصاة محمد نبي الإِله حين أوصى وأشهدا.﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ ﴾ هذا نهي عن القرب الذي يعم جميع وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة.﴿ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ أي بالخصلة التي هي أحسن في حق اليتيم. ولم يأت إلا بالتي هي حسنة، بل جاء بأفعل التفضيل مراعاة لمال اليتيم وأنه لا يكفي فيه الحالة الحسنة بل الخصلة الحسنى، وأموال الناس ممنوع من قربانها. ونص على اليتيم لأن الطمع فيه أكثر لضعفه وقلة مراعاته.﴿ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ هذه غاية من حيث المعنى لا من حيث هذا التركيب اللفظي. ومعناه: احفظوا على اليتيم ماله إلى بلوغ أشده فادفعوه إليه. وبلوغ الأشد هنا لليتيم هو بلوغ الحلم، مع أنه لا يثبت معه سفه.﴿ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ ﴾ أي بالعدل والسوية. وقيل: القسط هنا أدنى زيادة ليخرج بها عن العهدة بيقين لما روي:" إذا وزنتم فارجحوا وأوفوا "فعل أمر وبعده أوامر أيضاً وبعده مناه فيحتمل الوجهين السابقين إلى قوله:﴿ لاَ نُكَلِّفُ ﴾ الآية، تقدم الكلام على مثلها في البقرة.﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ ﴾ أي ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة، فلا ينبغي أن يزيد ولا ينقص، ويدخل في ذي القربى نفس القائل ووالده وأقربوه، فهو ينظر إلى قوله تعالى:﴿ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ ﴾[النساء: ١٣٥].
وعني بالقول هنا ما لا يطلع عليه إلا بالقول من أمر وحكم وشهادة وخبر ووساطة بين الناس وغير ذلك.﴿ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ﴾ يحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل أي بما عاهدكم الله عليه أوفوا، وأن يكون مضافاً إلى المفعول، أي بما عاهدتم الله عليه أوفوا.﴿ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ ولما كانت الخمسة المذكورة قبل هذا من الأمور والظاهرة الجلية وجب تعقلها وتفهمها. فختمت بقوله: لعلكم تعقلون. وهذه الأربعة خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والذكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال ختمت بقوله: لعلكم تذكرون.﴿ وَإِنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ ﴾ قرىء: وإن بكسر الهمزة وتشديد النون على الاستئناف. وفاتبعوه: جملة معطوفة على الجملة المستأنفة. وقرىء: بفتح الهمزة وتشديد النون وهو على إضمار اللام تقديره ولأنّ، كقوله تعالى:﴿ لإِيلاَفِ ﴾[قريش: ١]، وقوله:﴿ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ﴾[قريش: ٣].
وقرىء: وأنْ وهو على إضمار اللام وأنْ مخففة من الثقيلة وفيها ضمير الشأن وهذا صراطي مبتدأ وخبر فسرّ ذلك لضمير الشأن. والإِشارة بهذا إلى الآيات التي أعقبتها هذه الآية من الأوامر والنواهي لأنها هي المحكمات التي لم تنسخ في ملة من الملل. ومستقيماً حال مؤكدة، لأن صراطه تعالى لا يكون إلا مستقيماً.﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ ﴾ في مسند الدارمي عن ابن مسعود قال:" خط لنا يوماً رسول الله صلى الله عليه سلم خطاً ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن يساره ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها، ثم قرأ هذه الآية "وانتصب فتفرق لأجل النهي جواباً له أي فتفرق فحذف التاء. وقرىء فتفرق بتشديد التاء.﴿ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ كرر التوصية على سبيل التوكيد، ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر تعالى باتباعه، ونهى عن بنيات الطريق ختم ذلك بالتقوى التي هي إتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية.
﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ تَمَاماً ﴾ ثم تقتضي المهلة في الزمان هذا أصل وضعها، ثم تأتي للمهلة في الاخبار، قال الزمخشري: عطف على وصاكم به قال: فإِن قلت: كيف صح عطفه عليه بثم، والإِيتاء قبل التوصية بدهر طويل؟ قلت: هذه التوصية قديمة لم تزل تواصاها كل أمة على لسان نبيّها، كما قال ابن عباس: محكمات لم ينسخن بشيء من جميع الكتب فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً، ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى الكتاب وأنزلنا هذا الكتاب المبارك. " انتهى ". والذي قاله الزمخشري هو أنه رام إبقاء على المهلة الزمانية فصار التقدير أنّ وصاته تعالى تقدمت قبل زمان موسى عليه السلام ثم آتينا ففيه خروج من ضمير الغائب في وصاكم به إلى ضمير المتكلم في قوله: ثم آتينا. والكتاب هنا التوراة. وتماماً: منصوب على الحال، وهو مصدر في الأصل. والذي أحسن جنس، أي على من كان محسناً. ويؤيده قراءة ابن مسعود على الذين أحسنوا، وقراءة أبيّ تماماً للمحسنين وهاتان القراءتان تفسير لا قرآن.﴿ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ ﴾ أي بالبعث والحساب.﴿ وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ ﴾ هذا: إشارة إلى القرآن. وأنزلناه ومبارك صفتان لكتاب، وكان الوصف الأول جملة فعلية مسندة لضمير الله تعالى بنون العظمة، وكان الوصف بالإِنزال آكد من الوصف بالبركة، فقدم لأن الكلام هو مع من ينكر رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينكر إنزال الكتب الإِلهية وكونه مباركاً عليهم هو وصف حاصل لهم منه متراخ عن الإِنزال، فلذلك تأخر الوصف بالبركة وتقدم الوصف بالإِنزال وبركته بما يترتب عليه من النقع والنماء بجمع كلمة العرب به والمواعظ والحكم والاعلام بأخبار الأمم السالفة والأجور التالية، والشفاء من الادواء، والشفاعة لقارئه، وعدّه من أهل الله تعالى.﴿ أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ ﴾ أن تقولوا مفعول من أجله فقدره الكوفيون: لئلا تقولوا ولأجل أن لا تقولوا، وقدره البصريون: كراهة أن تقولوا والعامل في كلا المذهبين أنزلناه محذوفة يدل عليها أنزلناه المتقدمة. والكتاب هنا: جنس. والطائفتان: هم أهل التوراة والإِنجيل اليهود والنصارى بلا خلاف. والخطاب متوجه إلى كفار قريش بإِثبات الحجة عليهم بإِنزال هذا الكتاب لئلا يحتجوا هم وكفار العرب بأنهم لم يكن لهم كتاب، فكأنه قيل: وهذا القرآن يا معشر العرب أنزل حجة عليكم لئلا تقولوا، إنما أنزلت التوراة والإِنجيل بغير لساننا على غيرنا، ونحن لم نعرف ذلك فهذا كتاب بلسانكم مع رجل منكم.﴿ وَإِن كُنَّا ﴾ قال الزمخشري: وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين أن النافية، والأصل وانه كنا عن دراستهم غافلين على أنها ضمير. " انتهى ". وما ذهب إليه من أن أصله وأنه كنا، والهاء ضمير الشأن يلزم منه أنّ انْ المخففة من الثقيلة عاملة في مضمر محذوف حال التخفيف، كما قال النحويون: في أن المخففة من الثقيلة، والذي نص عليه أنّ ان المخففة من الثقيلة إذا لزمت اللام في أحد الجزئين بعدها، أو في أحد معمولي الفعل الناسخ الذي يليها أنها مهملة لا تعمل في ظاهر ولا في مضمر لا مثبت ولا محذوف فهذا الذي ذهب إليه مخالف للنصوص، وليست إذا وليها الناسخ داخلة في الأصل على ضمير شأن البتة.﴿ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ﴾ الآية، انتقال من الاخبار لحصر إنزال الكتاب على غيرهم وأنه لم ينزل عليهم إلى الأخبار بكم على تقرير. والكتاب هو الكتاب السابق ذكره. ومعنى أهدى منهم أي أرشد وأسرع اهتداء، لكونه نزل علينا بلساننا فنحن نتفهمه ونتدبّره وندرك ما تضمنه من غير اكداد فكر ولا تعلم لسان، بخلاف الكتاب الذي أنزل على الطائفتين فإِنه بغير لساننا فنحن لا نعرفه ونغفل عن دراسته.﴿ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ هذا قطع لاعتذارهم بانحصار إنزال الكتاب على الطائفتين وبكونهم لم ينزل عليم كتاب، ولو نزل لكانوا أهدى من الطائفتين. والظاهر أن البينة هي القرآن، وهو الحجة الواضحة لدلالة النيّرة حيث نزل عليهم بلسانهم، وألزم العالم أحكامه وشريعته، وأن الهدى والنور من صفات القرآن.﴿ وَصَدَفَ ﴾ أي أعرض عنها، وتأخر الإِعراض لأنه ناشىء عن التكذيب. والإِعراض عن الشىء هو بعد رؤيته وظهوره. سنجزي الذين وعيد شديد. وعلق الجزاء على الصدوق لأنه ناشىء عن التكذيب.﴿ هَلْ يَنظُرُونَ ﴾ الضمير في ينظرون عائد على الذين. قيل لهم: فقد جاءتكم بينة من ربكم أي ما ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة إلى قبض أرواحهم وتعذيبها.﴿ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ﴾ بعلمه وقدرته تعالى، بلا أين ولا كيف، لفصل القضاء بين خلقه في الموقف يوم القيامة.﴿ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ ﴾ يريد آيات القيامة والهلاك الكليّ. وفي بعض آيات ربك إشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها وغيرها.﴿ يَوْمَ يَأْتِي ﴾ يوم منصوب بلا ينفع، وإيمانها فاعل بينتفع واجب تأخيره لعود الضمير على المفعول فصار نحو: ضرب زيداً غلامه. وتقدم نظيره في البقرة. وإذا ابتلى إبراهيم ربه قال الزمخشري: وقرأ ابن سيرين: لا تنفع ـ بالتاء ـ لكون الإِيمان مضافاً إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه كقولهم: ذهبت بعض أصابعه. انتهى. هذا غلط، لأن الإِيمان ليس بعضاً للنفس، ويحتمل أن يكون أنّث على معنى الإِيمان، وهو المعرفة أو العقيدة فيكون مثل: جاءته كتابي فاحتقره على معنى الصحيفة. ووصف نفساً بالجملة المنفية وهي لم تكن آمنت من قبل فدل على أن إيمانها وحده نافع قبل ذلك اليوم. وقوله: ﴿ أَوْ كَسَبَتْ ﴾ عطف على قوله آمنت التقدير أو تكن كسبت في إيمانها خيراً فدل ذلك على أنها إذا كانت مؤمنة، وكسبت خيراً قبل ذلك اليوم نفعها ذلك. وملخص هذا أنه قبل ذلك اليوم ينفع الإِيمان وحده، أو ينفع مع كسب الخير.﴿ قُلِ ٱنتَظِرُوۤاْ ﴾ هذا أمر تهديد ووعيد.﴿ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴾ ما يحل بكم.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ ﴾ وقرىء: فارقوا وفرقوا دينهم.﴿ وَكَانُواْ شِيَعاً ﴾ كاليهود افترقوا على قرابين وربانيين وسحرة، وكالنصارى افترقوا على ملكية ويعقوبية ونسطورية، وأهل الضلال من هذه الأمة وأصحاب البدع وأهل الأهواء منهم كالخوارج وهم طوائف.﴿ لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ هو إخبار عن المباينة التامة والمباعدة كقول النابغة: إذا حاولت في أسد فجورا   فإِني لستُ منك ولستَ مني﴿ مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ ﴾ الآية، روى أبو سعيد الخدري وابن عمر أنها نزلت في الاعراب، الذين آمنوا بعد الهجرة، ضوعفت لهم الحسنة بعشر وضوعفت للمهاجرين بسبعمائة. " انتهى ". ولما ذكر حال من فارق دينه ورتب عليه أن الله ينبئه بما فعل وذكر المجازاة. والظاهر عموم من جاء وعموم الحسنة وحصر العدد فيما ذكر، فأيّ شخص مّا جاء بحسنة ما جوزي عليها بعشر أمثالها، ومن جاء بسيّئة جوزي بمثلها. وقرىء: عشر أمثالها على الإِضافة. وقرىء: عشر أمثالها. فأمثالها صفة لعشر والضمير في أمثالها عائد على الحسنة.﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ ﴾ الآية، أمره تعالى بالاعلان بالشريعة ونبذ ما سواها، ووضعها بأنه طريق مستقيم لا عوج فيها وهو إشارة إلى قوله تعالى:﴿ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ ﴾[الأنعام: ١٥٣].
انتصب: ﴿ دِيناً قِيَماً ﴾ ديناً قيماً على إضمار فعل تقديره هداني ديناً قيماً، ودل على ذلك قوله: قبل هداني ربي، وتعدى هدى تارة بإِلى كقوله: إلى صراط، وتارة بنفسه إلى مفعول ثان كقوله تعالى:﴿ وَهَدَيْنَاهُمَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ﴾[الصافات: ١١٨].
وقرىء قيماً وتقدم توجيهه في أوائل سورة النساء. وقرىء: قيماً كسيد وفي كلتا القراءتين هو وصف لقوله: ديناً. و ﴿ مِّلَّةَ ﴾ بدل من قوله: ديناً. و ﴿ حَنِيفاً ﴾ حال. وتقدم نظير ذلك في البقرة.﴿ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ نعي عليهم في اتخاذهم آلهة وإشراكهم مع الله تعالى. وإبراهيم عليه السلام بريء من ذلك كله، فكان يجب عليهم اتباع أبيهم إبراهيم إذ هو النبي المجمع وعلى تعظيمه من سائر الطوائف.﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي ﴾ ظاهره العموم من الصلاة المفروضة وغيرها.﴿ وَنُسُكِي ﴾ قال ابن عباس: هي الذبائح التي تذبح لله تعالى وجمع بينهما كما جمع بينهما في قوله تعالى:﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ ﴾[الكوثر: ٢].
معنى: ﴿ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ ﴾ أنه لا يملكهما إلا الله.﴿ لاَ شَرِيكَ لَهُ ﴾ عام والإِشارة بذلك الظاهر أنه إلى قوله: قل انني هداني ربي، الآية. الألف واللام في المسلمين للعهد، ويعني به هذه الأمة، لأن إسلام كل نبي سابق على إسلام أمته لأنهم منه يأخذون شريعته.﴿ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ حكى النقاش أنه روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إرجع يا محمد إلى ديننا، واعبد آلهتنا، واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك فنزلت هذه الآية. والهمزة: للإِستفهام، ومعناه الإِنكار والتوبيخ وهو رد عليهم إذ دعوه إلى آلهتهم، والمعنى أنه كيف يجتمع لي دعوة غير الله تعالى رباً وغيره مربوب له.﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ﴾ تقدم الكلام عليها في البقرة.﴿ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ ﴾ والتنبئة عبارة عن الجزاء والذي اختلفوا فيه هو من الأديان والمذاهب يجازيكم بما ترتب عليه من الثواب والعقاب، وسياق هذه الجمل سياق الخبر، والمعنى على الوعيد والتهديد.﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ ﴾ أذكرهم تعالى بنعمة عليهم إذ كان النبي المبعوث، وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فأمته خلفت سائر الأمم ولا تجيء بعدها أمة تخلفها إذ عليهم تقوم الساعة. ورفع الدرجات هو بالشرف في المراتب الدنيوية والعلم وسعة الرزق. و ﴿ لِّيَبْلُوَكُمْ ﴾ متعلق بقوله: ورفع.﴿ فِي مَآ آتَاكُمْ ﴾ من ذلك جاهاً ومالاً وعلماً وكيف يكونون في ذلك.﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ لما كان الابتلاء به يظهر المسيء والمحسن والطائع والعاصي ذكر هذين الوصفين وختم بهما، ولما كان الغالب على فواصل الآي قبلها هو التهديد بدأ بقوله: سريع العقاب، يعني لمن كفر ما أعطاه الله تعالى وسرعة عقابه إن كان في الدنيا فالسرعة ظاهرة وإن كان في الآخرة، فوصف بالسرعة لتحققه إذ كل ما هو آت آت ولما كانت جهة الرحمة أرجى أكد ذلك بدخول اللام في الخبر، ويكون الوصفين بنيا بناء المبالغة ولم يأت من جهة العقاب بوصفه بذلك، فلم يأت ان ربك معاقب وسريع العقاب من باب الصفة المشبهة. والله الموفق للصواب.
Icon