ﰡ
وقوله تعالى :﴿ وَخَسَفَ القمر ﴾ أي ذهب ضوؤه، ﴿ وَجُمِعَ الشمس والقمر ﴾ قال مجاهد : كوّرا، كقوله ﴿ إِذَا الشمس كُوِّرَتْ ﴾ [ التكوير : ١ ]، وقوله تعالى :﴿ يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر ﴾ أي إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة، حينئذٍ يريد أن يفر ويقول :﴿ أَيْنَ المفر ﴾ ؟ أي هل من ملجأ أو مؤئل، قال الله تعالى :﴿ كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر ﴾ قال ابن مسعود وابن عباس : أي لا نجاة، وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ ﴾ [ الشورى : ٤٧ ] أي ليس لكم مكان تتنكرون فيه، وكذا قال هاهنا :﴿ لاَ وَزَرَ ﴾ أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه، ولهذا قال :﴿ إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر ﴾ أي المرجع والمصير، ثم قال تعالى :﴿ يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ أي يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها كما قال تعالى :﴿ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٩ ]، وهكذا قال هاهنا :﴿ بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ ﴾ أي هو شهيد على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر، كما قال تعالى :﴿ اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً ﴾ [ الإسراء : ١٤ ] وقال ابن عباس ﴿ بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾ يقول : سمعه وبصره ويديه ورجليه وجوارحه، وقال قتادة : شاهد على نفسه، وفي رواية قال : إذا شئت والله رأيته بصيراً بعيوب الناس وذنوبهم، غافلاً عن ذنوبه وكان يقال : إن في الإنجيل مكتوباً : يا ابن آدم تبصر القذاة في عين أخيك. وتترك الجذع عن عينك لا تبصره، وقال مجاهد :﴿ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ ﴾ ولو جادل عها فهو يصير عليها، وقال قتادة :﴿ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ ﴾ ولو اعتذر يومئذٍ بباطل لا يقبل منه، وقال السدي :﴿ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ ﴾ حجته، واختاره ابن جرير. وقال الضحّاك ولو ألقى ستورة. وأهل اليمن يسمون الستر المعذار، والصحيح قول مجاهد وأصحابه. كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ]، وكقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون ﴾ [ المجادلة : ١٨ ]، وقال ابن عباس :﴿ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ ﴾ هي الاعتذار ألم تسمع أنه قال :﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ ﴾ [ غافر : ٥٢ ].
وقوله تعالى :﴿ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة * وَتَذَرُونَ الآخرة ﴾ أي إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة، أنهم إنما همتهم إلى الدار الدنيا العاجلة، وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة، ثم قال تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴾ من النضارة أي حسنة بهية مشرقة مسرورة، ﴿ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ أي تراه عياناً، كما رواه البخاري في « صحيحه » :« إنكم سترون ربكم عياناً » وقد ثبت رؤية المؤمنين لله عزَّ وجلَّ في الدار الآخرة، في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها، لحديث أبي هريرة وهما في الصحيحين
وقوله تعالى :﴿ إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق ﴾ أي المرجع والمآب، وذلك أن الروج ترفع إلى السماوات، فيقول الله عزَّ وجلَّ : ردوا عبدي إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، منها أخرجهم تارة أُخرى، كما ورد في حديث البراء الطويل، وقوله جلَّ وعلا :﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولكن كَذَّبَ وتولى ﴾ هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذباً للحق بقلبه، متولياً عن العمل بقالبه، فلا خير فيه باطناً ولا ظاهراً، ولهذا قال تعالى :﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولكن كَذَّبَ وتولى * ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى ﴾ أي جذلان أشراً بطراً، لا همة له ولا عمل، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ ﴾ [ المطففين : ٣١ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ﴾ [ الانشقاق : ١٣-١٤ ] أي يرجع، وقال ابن عباس :﴿ ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى ﴾ أي يختال، وقال قتادة : يتبختر، قال الله تعالى :﴿ أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى ﴾ وهذا تهديد ووعيد من الله تعالى للكافر، المتبختر في مشيه، أي يحق لك أن تمشي هكذا وقد كفرت بخالقك وبارئك، وذلك على سبيل التهكم والتهديد، كقوله تعالى :﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم ﴾ [ الدخان : ٤٩ ]، وكقوله تعالى :
وقوله تعالى :﴿ أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴾ ؟ قال السدي : يعني لا يبعث، وقال مجاهد : يعني لا يؤمر ولا ينهى، والظاهر أن الآية تعم الحالين، أي ليس يترك في هذه الدنيا مهملاً، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث، بل هو مأمور منهي في الدنيا محشور إلى الله في الدار الآخرة، والمقصود هنا إثبات المعاد، ولهذا قال تعالى مستدلاً على الإعادة بالبداءة ﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ﴾ أي أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين ﴿ يمنى ﴾ أي يراق من الأصلاب في الأرحام ﴿ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى ﴾ أي فصار علقة ثم مضغة ثم شكل ونفخ فيه الروح فصار خلقاً آخر سوياً، سليم الأعضاء ذكراً أو أُنثى بإذن الله وتقديره : ولهذا قال تعالى :﴿ فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى ﴾، ثم قال تعالى :﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى ﴾ ؟ أي أما هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة الضعيفة، بقادر على أن يعيده كما بدأه؟ كقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ]، روى أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« من قرأ منكم بالتين والزيتون فانتهى إلى آخرها ﴿ أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين ﴾ فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين؛ ومن قرأ :﴿ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة ﴾ فانتهى إلى قوله :﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى ﴾ فليقل بلى، ومن قرأ :﴿ والمرسلات ﴾ فبلغ ﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؟ فليقل : آمنا بالله »، وعن قتادة قوله تعالى :﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى ﴾ ذكر لنا « أن رسول الله ﷺ كان إذا قرأها قال :» سبحانك وبلى « وكان ابن عباس إذا مر بهذه الآية :﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى ﴾ ؟ قال : سبحانك فبلى.