تفسير سورة سورة القيامة من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
.
لمؤلفه
الشربيني
.
المتوفي سنة 977 هـ
مكية، وهي تسع وثلاثون آية، ومائة وسبع وتسعون كلمة، وستمائة واثنان وخمسون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي له الجلال والكمال ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ بنعمة الإيجاد أهل الهدى والضلال ﴿ الرحيم ﴾ الذي سدد أهل العناية في الأفعال والأقوال.
ﰡ
واختلف في لا في قوله تعالى :
﴿ لا أقسم ﴾ على أوجه :
أحدها : أنها نافية لكلام المشركين المنكرين للبعث أي : ليس الأمر كما زعموا ثم ابتدأ أقسم
﴿ بيوم القيامة ﴾ قال القرطبي : إن القرآن جاء بالردّ على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الإقسام بالردّ عليهم كقولك : لا والله لا أفعل فلا ردّ لكلام قد مضى كقولك : لا والله إن القيامة لحق كأنك أكذبت قوماً أنكروه.
الثاني : أنها مزيدة مثلها في
﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ﴾ [ الحديد : ٢٩ ].
واعترضوا هذا بأنها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوّله. وأجيب : بأنّ القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض يدل على ذلك أنه قد يجيء ذكر الشيء في سورة ويذكر جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى :
﴿ يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ﴾ [ الحجر : ٦ ] وجوابه في سورة أخرى
﴿ ما أنت بنعمة ربك بمجنون ﴾ [ القلم : ٢ ] وإذا كان كذلك كان أوّل هذه السورة جارياً مجرى الوسط، وردّ هذا بأنّ القرآن في حكم السورة الواحدة في عدم التناقض لا أن تقرن سورة بما بعدها، فذلك غير جائز.
الثالث : قال الزمخشري : إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم، قال امرؤ القيس :
لا وأبيك ابنة العامريّ | لا يدّعي القوم أني أفر |
وفائدتها : توكيد القسم، ثم قال الزمخشري بعد أن ذكر وجه الزيادة والاعتراض : والجواب كما تقدّم والوجه أن يقال : هي للنفي، والمعنى في ذلك : أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له يدل عليه قوله تعالى :
﴿ فلا أقسم بمواقع النجوم ٧٥ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ﴾ [ الجمعة : ٧٥ ٧٦ ] فكأنه بإدخال حرف النفي يقول : إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام، يعني أنه يستأهل فوق ذلك. قال بعضهم : قول الزمخشري : والوجه أن يقال إلى آخره تقرير لقوله : إدخال لا النافية فيه على فعل القسم مستفيض إلى آخره. وحاصل كلامه يرجع إلى أنها نافية وأنّ النفي متسلط على فعل القسم بالمعنى الذي شرحه، وليس فيه نفع لفظاً ولا معنى، وقرأ ابن كثير بخلاف عن البزي بغير ألف بعد اللام والهمزة مضمومة والباقون بالألف ويعبر عن قراءة ابن كثير بالقصر وعن قراءة الباقين بالمدّ.
ولا خلاف في قوله تعالى :﴿ ولا أقسم بالنفس اللوامّة ﴾ في المدّ والكلام في لا المتقدّمة وجرى الجلال المحلي على أنها زائدة في الموضعين. واختلف في النفس اللوامّة فقيل : هي نفس المؤمن الذي لا تراه يلوم إلا نفسه تقول : ما أردت بكذا ولا تراه يعاتب إلا نفسه. وقال الحسن رضي الله عنه : هي والله نفس المؤمن ما ترى المؤمن إلا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلي ما أردت بحديثي، والفاجر لا يحاسب نفسه. وقال مجاهد رضي الله عنه : هي التي تلوم على ما فات، فتلوم نفسها على الشرّ لم فعلته، وعلى الخير لم لا تستكثر منه، وقيل : تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها. وقيل : المراد آدم عليه السلام لم يزل لائماً نفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة. وقيل : هي الملومة فتكون صفة ذمّ وهو قول من نفى أن تكون قسماً، وعلى الأوّل صفة مدح فيكون القسم بها سائغاً. وقال مقاتل رضي الله عنه : هي نفس الكافر يلوم نفسه تحسراً في الآخرة على ما فرّط في جنب الله تعالى.
وجواب القسم محذوف أي : لتبعثنّ دل عليه قوله تعالى :﴿ أيحسب الإنسان ﴾ أي : هذا النوع الذي جبل على الأنس بنفسه والنظر في عطفيه وأسند الفعل إلى النوع كله ؛ لأنّ أكثرهم كذلك لغلبة الحظوظ على العقل إلا من عصم الله تعالى، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها ﴿ ألن ﴾ أي : أنا لا ﴿ نجمع ﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿ عظامه ﴾ أي : التي هي قالب بدنه فنعيدها كما كانت بعد تمزقها وتفتتها للبعث والحساب.
وقيل : نزلت في عدي بن ربيعة حليف بني زهرة خال الأخنس بن شريق الثقفي وذلك أن عدياً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد حدّثني عن القيامة متى تقوم ؟ وكيف أمرها وحالها ؟ فأخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن بك، أَوَ يجمع الله العظام بعد تفرّقها ورجوعها رميماً ورفاتاً مختلطاً بالتراب وبعد ما نسفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض ولهذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول :«اللهمّ اكفني جاري السوء عدي بن ربيعة والأخنس بن شريق » وقيل : نزلت في عدوّ الله أبي جهل أنكر البعث بعد الموت وذكر العظام، والمراد نفسه كلها لأنّ العظام قالب الخلق.
تنبيه : ألن هنا موصولة وليس بين الهمزة واللام نون في الرسم كما ترى.
وقوله تعالى :﴿ بلى ﴾ إيجاب لما بعد النفي المنسحب عليه الاستفهام وهو وقف حسن، ثم يبتدئ بقوله تعالى :﴿ قادرين ﴾ وقيل : المعنى : بل نجمعها قادرين مع جمعها ﴿ على أن نسوي بنانه ﴾ أي : أصابعه وسلامياته وهي عظامه الصغار التي في يده، خصها بالذكر لأنها أطرافه وآخر ما يتم به خلقه أي : نجمع بعضها على بعض على ما كانت عليه قبل الموت لأنا قدرنا على تفصيل عظامه وتفتيتها، فنقدر على جمعها وتوصيلها، وقدرنا على جمع صغار العظام فنحن على جمع كبارها أقدر، وقال ابن عباس وأكثر المفسرين : على أن نسوي بنانه أي : نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخف البعير أو كحافر الحمار أو كظلف الخنزير، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئاً، ولكنا فرّقنا أصابعه حتى يفعل بها ما شاء. وقيل : نقدر أن نصير الإنسان في هيئة البهائم فكيف في صورته التي كان عليها وهو كقوله تعالى :﴿ وما نحن بمسبوقين ٦٠ على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ﴾ [ الواقعة : ٦٠ ٦١ ].
وقوله تعالى :﴿ بل يريد الإنسان ﴾ عطف على أيحسب فيجوز أن يكون استفهاماً وأن يكون جواباً لجواز أن يكون الإضراب عن المستفهم وعن الاستفهام ﴿ ليفجر أمامه ﴾ أي : ليدوم على فجوره فيما يستقبله من زمان لا يبرح عنه ولا يتوب، هذا قول مجاهد رضي الله عنه. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه : يقدّم الذنب ويؤخر التوبة، فيقول : سوف أتوب سوف أعمل حتى يأتيه الموت على أشرّ أحواله وأسوأ أعماله. وقال الضحاك رضي الله عنه : هو الأجل يقول : أعيش فأصيب من الدنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يكذب بما أمامه من البعث والحساب، وأصل الفجور الميل وسمي الكافر والفاسق فاجراً لميله عن الحق.
﴿ يسأل ﴾ أي : سؤال استهزاء أو استبعاد ﴿ أيان ﴾ أي : أي وقت يكون ﴿ يوم القيامة ﴾.
ولما كان الجواب يوم يكون كذا وكذا عدل عنه إلى ما سبب عن استبعاده لأنه أهول فقال تعالى ﴿ فإذا برق البصر ﴾ أي : شخص ووقف لما يرى مما كان يكذب به هذا على قراءة نافع بفتح الراء وأما على قراءة كسرها فالمعنى : تحير ودهش مما يرى وقيل : هما لغتان في التحير والدهشة.
﴿ وخسف القمر ﴾ أي : أظلم وذهب ضوءه، وقد اشتهر أنّ الخسوف للقمر والكسوف للشمس. وقيل : يكونان فيهما، يقال : خسفت الشمس وكسفت، وخسف القمر وكسف. وقيل : الكسوف أوّله والخسوف آخره.
ولم تلحق علامة التأنيث في قوله تعالى ﴿ وجمع الشمس والقمر ﴾ لأنّ التأنيث مجازي، وقيل : لتغليب التذكير، وردّ لأنه لا يقال : قام هند وزيد عند الجمهور من العرب. وقال الكسائي : حمل على جمع النيران. وقال الفرّاء : لم يقل جمعت لأنّ المعنى : جمع بينهما قال الفرّاء والزجاج : جمع بينهما في ذهاب ضوئهما فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه. وقال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم : قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكوّرين مظلمين مقرّنين كأنهما ثوران عقيران في النار، وقال عطاء بن يسار رضي الله عنه : يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى، وقيل : يجمعان في نار جهنم لأنهما قد عبدا من دون الله تعالى ولا تكون النار عذاباً لهما، لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكفار وحسرتهم.
وقوله تعالى :﴿ يقول الإنسان ﴾ أي : لشدّة روعه جرياً مع طبعه جواب إذا من قوله تعالى ﴿ فإذا برق البصر ﴾. ﴿ يومئذ ﴾ أي : إذا كانت هذه الأشياء، وقوله تعالى :﴿ أين المفرّ ﴾ منصوب المحل بالقول والمفرّ مصدر بمعنى الفرار. قال الماوردي : ويحتمل وجهين : أحدهما : أين المفرّ من الله تعالى استحياء منه. والثاني : أين المفرّ من جهنم حذراً منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين : أحدهما : أن يكون من الكافر خاصة في عرصة القيامة دون المؤمن لثقة المؤمن ببشرى ربه تعالى. والثاني : أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها. وقيل : أبو جهل خاصة.
وقوله تعالى :﴿ كلا ﴾ ردع عن طلب المفرّ ﴿ لا وزر ﴾ أي : لا ملجأ ولا حصن استعير من الجبل. قال السدّي : كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصنوا في الجبال، فقال الله تعالى لهم : لا وزر يعصمكم مني يومئذ واشتقاقه من الوزر وهو الثقل.
﴿ إلى ربك ﴾ أي : المحسن إليك بأنواع الإحسان لا إلى شيء غيره ﴿ يومئذ ﴾ أي : إذ كانت هذه الأمور ﴿ المستقر ﴾ أي : استقرار الخلق كلهم ناطقهم وصامتهم ومكان قرارهم وزمانه إلى حكمه سبحانه ومشيئته ظاهراً وباطناً لا حكم لغيره بوجه من الوجوه في ظاهر ولا باطن كما هو في الدنيا. وقال ابن مسعود : المصير والمرجع، قال الله تعالى ﴿ إلى ربك الرجعى ﴾ [ العلق : ٨ ] و﴿ إليه المصير ﴾ [ المائدة : ١٨ ] وقال السدّي : المنتهى، نظيره ﴿ وأنّ إلى ربك المنتهى ﴾ [ النجم : ٤٢ ].
﴿ ينبأ ﴾ أي : يخبر تخبيراً عظيماً ﴿ الإنسان يومئذ ﴾ أي : إذا كان الزلزال الأكبر ﴿ بما قدّم ﴾ قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم : بما قدّم قبل موته من عمل صالح وسيء ﴿ وأخر ﴾ بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها. وقال ابن عطية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : بما قدّم من المعصية وأخر من الطاعة، وقال قتادة : بما قدم من طاعة الله وأخر من حق الله فضيعه. وقال مجاهد : بأوّل عمله وآخره. وقال عطاء : بما قدم في أوّل عمره وما أخر في آخر عمره. وقال يزيد بن أسلم : بما قدّم من أموال نفسه وما أخر خلفة للورثة، والأولى أن يقال ينبأ بجميع ذلك إذ لا منافاة بين هذه الأقوال.
﴿ بل الإنسان ﴾ أي : كل واحد من هذا النوع ﴿ على نفسه ﴾ أي : خاصة ﴿ بصيرة ﴾ أي : حجة بينة على أعماله والهاء للمبالغة يعني : أنه في غاية المعرفة بأحوال نفسه، فيشهد عليه بعمله سمعه وبصره وجوارحه قال الله تعالى :﴿ كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً ﴾ [ الإسراء : ١٤ ]. قال البغوي : ويحتمل أن يكون معناه : بل للإنسان على نفسه يعني جوارحه، فحذف حرف الجر كقوله تعالى :﴿ وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم ﴾ [ البقرة : ٣٣ ]
أي : لأولادكم، ويجوز أن يكون نعتاً لاسم مؤنث أي : بل الإنسان على نفسه عين بصيرة.
﴿ ولو ألقى ﴾ أي : ذكر بغاية السرعة ذلك الإنسان من غير تلعثم دلالة على غاية الصدق والاهتمام والتملق. وقوله تعالى :﴿ معاذيره ﴾ جمع معذرة على غير قياس قاله الجلال المحلي. أي : لو جاء بكل معذرة ما قبلت منه. وقال الزمخشريّ : المعاذير ليس بجمع معذرة، وإنما هو اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر ا. ه. قال أبو حيان : وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع وإنما هو من أبنية جموع التكسير ا. ه. وقيل : معاذير جمع معذار وهو الستر، والمعنى : ولو أرخى ستوره والمعاذير الستور بلغة اليمن قاله الضحاك. وحكى الماورديّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما :﴿ ولو ألقى معاذيره ﴾ أي : ولو تجرّد من ثيابه.
ولما كان صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي نازع جبريل عليه السلام القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن ينفلت منه أمره الله تعالى بأن ينصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي الله تعالى وحيه ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه بقوله تعالى :﴿ لا تحرك به ﴾ أي : بالقرآن ﴿ لسانك ﴾ ما دام جبريل عليه السلام يقرؤه ﴿ لتعجل به ﴾ أي : لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك، فإنّ هذه العجلة وإن كانت من الكمالات بالنسبة إليك وإلى إخوانك من الأنبياء عليهم السلام كما قال موسى عليه السلام :﴿ وعجلت إليك ربّ لترضى ﴾ [ طه : ٨٤ ] نقل صلى الله عليه وسلم من مقام كامل إلى أكمل منه.
ثم علل النهي عن العجلة بقوله تعالى :﴿ إنّ علينا ﴾ أي : بما لنا من العظمة لا على أحد سوانا ﴿ جمعه ﴾ أي : في صدرك حتى تثبته وتحفظه ﴿ وقرآنه ﴾ أي : قراءتك إياه يعني جريانه على لسانك.
﴿ فإذا قرأناه ﴾ عليك بقراءة جبريل عليه السلام ﴿ فاتبع ﴾ أي : بغاية جهدك بإلقاء سمعك وإحضار قلبك ﴿ قرآنه ﴾ أي : قراءته مجموعة على حسب ما أداه رسولنا وجمعناه لك في صدرك، وكرر تلاوته حتى يصير لك به ملكة عظيمة، ويصير لك خلقاً، فيكون قائدك إلى كل خير. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى :﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به ﴾ قال :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي كان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه فأنزل الله تعالى الآية التي في لا أقسم بيوم القيامة ﴿ لا تحرّك به لسانك ﴾ الآية، فكان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق. فإذا ذهب قرأه كما وعده الله تعالى » قال سعيد بن جبير : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : فأنا أحركهما لك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما فأنزل الله عز وجل الآية.
﴿ ثم إن علينا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ بيانه ﴾ أي : بيان ألفاظه ومعانيه لك سواء أسمعته من جبريل عليه السلام على مثل صلصلة الجرس أم بكلام الناس المعتاد بالصوت والحروف، ولغيرك على لسانك وعلى ألسنة العلماء من أمّتك، والآية مشيرة إلى ترك مطلق العجلة ؛ لأنه إذا نهى عنها في أعظم الأشياء وأهمها كان غيره بطريق الأولى، والمناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنّ تلك تضمنت الإعراض عن آيات الله تعالى، وهذه تضمنت المبادرة إليها بحفظها.
وقوله تعالى :﴿ كلا ﴾ استفتاح بمعنى : ألا. وقال الزمخشري : ردع للنبيّ صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة، وقال جماعة من المفسرين : حقاً، والأوّل جرى عليه الجلال المحلي وهو أظهر. ﴿ بل يحبون ﴾ متجدّدة على تجدد الزمان ﴿ العاجلة ﴾ بدليل أنهم يقبلون غاية الإقبال عليها وحبها أوجب لهم ارتكاب ما يعلمون قبحه، فإنّ الآخرة والأولى ضرتان من تقرب من أحدهما لا بدّ من تباعده عن الأخرى، فإن حبك للشيء يعمي ويصم.
﴿ ويذرون ﴾ أي : يتركون على أي وجه كان ولو أنه غير مستحسن ﴿ الآخرة ﴾ لأنهم يبغضونها لارتكابهم ما يضرّهم فيها وجمع الضمير وإن كان مبنى الخطاب مع الإنسان للمعنى. وقرأ ﴿ يحبون ﴾ و﴿ يذرون ﴾ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بياء الغيبة فيهما حملاً على لفظ الإنسان المذكور أوّلاً ؛ لأنّ المراد به الجنس، لأنّ الإنسان بمعنى الناس والباقون بتاء الخطاب فيهما إما خطاباً لكفار قريش أي : تحبون يا كفار قريش العاجلة أي : الدار الدنيا والجاه فيها وتتركون الآخرة والعمل لها، وإما التفاتاً عن الإخبار عن الجنس المتقدّم والإقبال عليه بالخطاب.
ولما ذكر تعالى الآخرة التي أعرضوا عنها ذكر ما يكون فيها بياناً لجهلهم وسفههم وقلة عقولهم وترهيباً لمن أدبر عنها وترغيباً لمن أقبل عليها لطفاً بهم ورحمة لهم فقال تعالى :﴿ وجوه ﴾ أي : من المحشورين وهم جميع الخلائق ﴿ يومئذ ﴾ أي : إذ تقوم الساعة ﴿ ناضرة ﴾ من النضرة بالضاد وهي النعمة والرفاهية أي : هي بهية مشرقة عليها أثر النعمة بحيث يدل ذلك على نعمة أصحابها.
﴿ إلى ربها ﴾ أي : المحسن إليها خاصة باعتبار أن عد النظر إلى غيره كلا نظر ﴿ ناظرة ﴾ أي : دائماً هم محدقون أبصارهم لا غفلة لهم عن ذلك، فإذا رفع الحجاب عنهم أبصروه بأعينهم بدليل التعدّي بإلى، وذلك النظر جهرة من غير اكتتام ولا تضامّ ولا زحام كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وأكثر المفسرين، وجميع أهل السنة، وروي عن النبيّ عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة من وجوه كثيرة بحيث اشتهر غاية الشهرة، وتكون الرؤية كما مثلت في الأحاديث كما يرى القمر ليلة البدر أي : كل من يريد رؤيته من بيته يراه مجلياً له، هذا وجه الشبه، لا أنه في جهة ولا في حالة لها شبيه تعالى الله الكريم عن التشبيه.
فمن تلك الأحاديث ما روي عن جرير بن عبد الله قال :«خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ ﴿ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ﴾ » [ طه : ١٣٠ ].
وفي كتاب النسائي عن وهب قال :«ينكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم شيئاً أحبّ إليهم من النظر ولا أقر لأعينهم ».
وعن جابر قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجلى ربنا عز وجل حتى ننظر إلى وجهه فيخرون له سجداً فيقول تعالى : ارفعوا رؤوسكم، فليس هذا يوم عبادة ».
وقدم الجارّ الدال على الاختصاص إشارة إلى أنّ هذا النظر مباين للنظر إلى غيره، فلا يعد ذلك نظراً بالنسبة إليه وعبر بالوجوه عن أصحابها ؛ لأنها أدل ما يكون على السرور، وليكون ذكرها أصرح في أنّ المراد بالنظر حقيقته.
روى مسلم في قوله تعالى :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾ [ يونس : ٢٦ ] كان ابن عمر يقول : أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم تلا هذه الآية.
وأنكر الرؤية المعتزلة، واحتجوا بقوله تعالى :﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ] ويقولون : النظر المقرون بإلى ليس اسماً للرؤية بل لمقدّمة الرؤية وهي تقليب الحدقة نحو المرئيّ التماساً لرؤيته ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة وكالإصغاء بالنسبة إلى السمع، ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ﴾ [ الأعراف : ١٩٨ ] فأثبت النظر حال عدم الرؤية، فتكون الرؤية غاية النظر وأنّ النظر يحصل والرؤية غير حاصلة. قالوا : ويمكن أن يكون معنى قوله تعالى :﴿ ناظرة ﴾ منتظرة كقولك أنا أنظر إليك في حاجتي.
وأجيب عن استدلالهم بقوله تعالى :﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ بأن لا تدركه بالإحاطة والجهة فلا يكون ذلك مانعاً للرؤية على هذا الوجه وعن بقية استدلالهم بما ذكروه بجوابين :
أحدهما : أن نقول : النظر هو الرؤية لقول موسى عليه السلام ﴿ أرني أنظر إليك ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ] فلو كان المراد تقليب الحدقة نحو المرئي لاقتضت الآية إثبات الجهة والمكان، ولأنه أخر النظر عن الإراءة فلا يكون تقليب الحدقة.
الجواب الثاني : سلمنا ما ذكرتموه من أنّ النظر تقليب الحدقة تعذر حمله على الحقيقة فيجب حمله على الرؤية إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وهو أولى من حمله على الانتظار لعدم الملازمة ؛ لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية، ولا تعلق بينه وبين الانتظار.
وأمّا قولهم بحمله على الانتظار فأجيب عنه أيضاً بأن الذي هو بمعنى الانتظار في القرآن غير مقرون بإلى، كقوله تعالى :﴿ انظرونا نقتبس من نوركم ﴾ [ الحديد : ١٣ ] والذي ندعيه أن النظر المقرون بإلى ليس إلا بمعنى الرؤية ؛ لأنّ وروده بمعنى الرؤية ظاهرة فلا يكون بمعنى الانتظار دفعاً للاشتراك.
ولما ذكر تعالى أهل النعمة أتبعه أضدادهم من أهل النقمة فقال سبحانه وتعالى :
﴿ ووجوه يومئذ ﴾ أي : في ذلك اليوم بعينه ﴿ باسرة ﴾ أي : شديدة العبوس والكلوح والتكره لما هي فيه من الغم كأنها قد غرقت فيه. وقال السدي :﴿ باسرة ﴾ متغيرة.
﴿ تظن ﴾ أي : يتوقع أربابها بما ترى من المخايل ﴿ أن يفعل بها ﴾ أي : بهم فإنه إذا أصيب الوجه الذي هو أشرف ما في الجملة كان ما عداه أولى ﴿ فاقرة ﴾ وهي الداهية العظيمة، قال أبو عبيدة : سميت بذلك لأنها تكسر فقار الظهر يقال : فقرته الفاقرة أي : كسرت فقار ظهره ومنه سمي الفقير لانكسار فقاره من القل. وقال قتادة : الفاقرة الشر، وقال السدي : الهلاك. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : دخول النار. وقال الكلبي : هي أن تحجب عن رؤية الربّ عز وجل.
وقوله تعالى :
﴿ كلا ﴾ ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري، وزاد الزمخشري كأنه قيل : ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا إلى ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم وتنقلبون إلى الآجلة التي تبقوا فيها مخلدين
﴿ إذا بلغت ﴾ النفس
﴿ التراقي ﴾ وأضمر النفس وإن لم يجر لها ذكر ؛ لأنّ الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها كما قال حاتم :
أماويّ ما يغني الثراء عن الغنى | إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر |
وتقول العرب : أرسلت، يريدون جاء المطر، ولا تكاد تسمعهم يذكرون السماء. والتراقي : جمع ترقوة وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال، ولكل إنسان ترقوتان. قال البقاعي : ولعله جمع المثنى إشارة إلى شدة انتشارها بغاية الجهد لما فيه من الكرب لاجتماعها من أقاصي البدن إلى هناك ا. ه. وهذا كناية عن الإشفاء على الموت ذكرهم صعوبة الموت وهو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها.
﴿ وقيل ﴾ أي : قال حاضر وصاحبها وهو المحتضر بعضهم لبعض ﴿ من راق ﴾ أي : أيكم يرقيه مما به ليحصل له الشفاء. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هو من كلام ملائكة الموت، أي : أيكم يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، فالأول اسم فاعل من رقى يرقى بمعنى الرقية بالفتح في الماضي والكسر في المضارع. والثاني : الذي بمعنى الصعود بالكسر في الماضي والفتح في المضارع.
﴿ وظن ﴾ أي : أيقن المحتضر لما لاح له من أنوار الآخرة، وقيل : القائل من راق من أهله ﴿ أنه ﴾ أي : الشأن العظيم الذي هو فيه ﴿ الفراق ﴾ لما كان أي : فيه من محبوب العاجلة الذي هو الفراق الأعظم الذي لا فراق مثله، ففي الخبر إن العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول : السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة، وسمي اليقين هنا بالظن لأنّ الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه، فإنه يطمع في الحياة لشدّة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها، أو أنّ المراد الظن الغالب إذ لا يحصل يقين الموت مع رجاء الحياة. وقيل : سماه بالظن تهكماً قال الرازي : وهذه الآية تدل على أن الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت البدن لأنه تعالى سمى الموت فراقاً، والفراق إنما يكون إذا كانت الروح باقية، فإنّ الفراق والوصال صفة والصفة تستدعي وجود الموصوف.
﴿ والتفت الساق بالساق ﴾ أي : اجتمعت إحداهما بالأخرى إذ الالتفاف الاجتماع، قال تعالى :
﴿ جئنا بكم لفيفاً ﴾ [ الإسراء : ١٠٤ ] ومعنى الكلام اتصلت شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن وغيرهما. وقال الشعبي : التفت ساق الإنسان عند الموت من شدة الكرب. قال قتادة : أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى، وقال سعيد بن المسيب : هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفن. وقال زيد بن أسلم : التفت ساق الكفن بساق الميت. وقال الضحاك : الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه. وقال السدي : لا يخرج من كرب إلا جاءه أشد منه، وأول الأقوال كما قال النحاس : أحسنها، والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد والمحن العظام، ومنه قولهم قامت الحرب على ساق، قال أهل المعاني : لأنّ الإنسان إذا دهمته شدة شمر لها عن ساقيه، فقيل للأمر الشديد : ساق. قال الجعدي :
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها | وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا |
ولما صور وقت تأسفه على الدنيا وإعراضه عنها ذكر غاية ذلك، فقال تعالى مفرداً النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهم هذا حق فهمه غيره ﴿ إلى ربك ﴾ أي : المحسن إليك بجميع ما أنت فيه ﴿ يومئذ ﴾ أي : إذ وقع هذا الأمر ﴿ المساق ﴾ أي : السوق إلى حكمه تعالى فقد انقطعت عنه أحكام الدنيا فإما أن تسوقه الملائكة إلى سعادة وإمّا إلى شقاوة.
والضمير في قوله تعالى :﴿ فلا صدّق ﴾ راجع للإنسان المذكور في ﴿ أيحسب الإنسان ﴾ أي : فلا صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أخبره به بما كان يعمل من الأعمال الخبيثة ولا في ماله بالإنفاق في وجوه الخير التي ندب إليها واجبة كانت أو مندوبة. وحذف المعمول لأنه أبلغ في التعميم.
﴿ ولا صلى ﴾ أي : ما أمر به من فرض وغيره فلا تمسك بحبل الخالق ولا وصل حبل الخلائق، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لم يصدق بالرسالة ولا صلى، أي : دعا لربه عز وجلّ وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وقال قتادة : فلا صدق بكتاب الله تعالى ولا صلى لله جل ذكره.
﴿ ولكن ﴾ أي : فعل ضد ما أمر به بأن ﴿ كذب ﴾ أي : بما أتاه به النبيّ صلى الله عليه وسلم من قرآن وغيره ﴿ وتولى ﴾ أي : أعرض عنه وهذا الاستدراك واضح إذ لا يلزم من نفي التصديق والصلاة التكذيب والتولي. وقال القرطبي : معناه : كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان. وقيل : نزلت في أبي جهل.
﴿ ثم ذهب ﴾ أي : هذا الإنسان أو أبو جهل ﴿ إلى أهله ﴾ غير متفكر في عاقبة ما فعل من التكذيب حالة كونه ﴿ يتمطى ﴾ أي : يتبختر افتخاراً بتكذيبه وإعراضه وعدم مبالاته بذلك وأصله يتمطط أي : يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه، وإنما أبدلت الطاء الثانية ياء كراهة اجتماع الأمثال، وقيل : هو من المطا وهو الظهر لأنه يلويه تبختراً في مشيته.
وقوله تعالى :﴿ أولى لك ﴾ فيه التفات من الغيبة والكلمة اسم فعل واللام للتبيين أي : وليك ما تكره ﴿ فأولى ﴾ أي : فهو أولى بك من غيرك.
وقوله تعالى :﴿ ثم أولى لك فأولى ﴾ تأكيد وقيل : هذه الكلمة تقولها العرب لمن قاربه المكروه، وأصلها من الولي وهو القرب. قال الله تعالى :﴿ قاتلوا الذين يلونكم ﴾ [ التوبة : ١٢٣ ] وقال قتادة : ذكر لنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية «أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء، وقال له :﴿ أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ﴾ فقال أبو جهل : أتوعدني يا محمد فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً، وإني والله لأعز من مشى بين جبليها ». فلما كان يوم بدر صرعه الله شر مصرع وقتله أسوأ قتلة، قال : وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول :«لكل أمة فرعون، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل ».
﴿ أيحسب ﴾ أي : يجوّز لقلة عقله ﴿ الإنسان ﴾ أي : الذي هو عبد مربوب ضعيف عاجز محتاج بما يرى من نفسه وأبناء جنسه ﴿ أن يترك ﴾ أي : يكون تركه بالكلية ﴿ سدى ﴾ أي : هملاً لاغياً لا يكلف ولا يجازى ولا يعرض على الملك الأعظم الذي خلقه فيسأله عن شكره فيما أسدى إليه، فإنّ ذلك مناف للحكمة فإنها تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن المساوئ والجزاء على كل منهما، وأكثر الظالمين والمظلومين يموتون من غير جزاء فاقتضت الحكمة أنه لا بدّ من البعث للجزاء.
﴿ ألم يك ﴾ أي : الإنسان ﴿ نطفة ﴾ أي : شيئاً يسيراً ﴿ من منيَ ﴾ أي : ماء من صلب الرجل وترائب المرأة ﴿ يمنى ﴾ أي : تصب في الرحم سبب الله تعالى للإنسان المعالجة في إخراجها بما ركب فيه من الشهوة، وجعل له من الزوج التي يسرها لقضاء وطره حتى إنّ وقت صبها في الرحم تصب منه بغير اختياره حتى كأنه لا فعل له فيها أصلاً.
فإن قيل : ما فائدة ﴿ يمنى ﴾ بعد قوله تعالى :﴿ من منيَ ﴾ ؟ أجيب : بأن فيه إشارة إلى حقارة حاله كأنه قيل : إنه مخلوق من المني الذي يجري على مجرى النجاسة فلا يليق بمثل هذا أن يتمرد عن طاعة الله تعالى إلا أنه عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمز كما في قوله تعالى في عيسى عليه السلام وأمه مريم ﴿ كانا يأكلان الطعام ﴾ [ المائدة : ٧٥ ] والمراد منه قضاء الحاجة.
﴿ ثم كان ﴾ أي : كوناً محكماً ﴿ علقة ﴾ أي : دماً أحمر غليظاً شديد الحمرة والغلظ ﴿ فخلق ﴾ أي : قدر سبحانه عقب ذلك لحمه وعظامه وعصبه وغير ذلك من جواهره وأعراضه ﴿ فسوى ﴾ أي : عدّل من ذلك خلقاً آخر غاية التعديل شخصاً مستقلاً.
﴿ فجعل ﴾ أي : بسبب النطفة ﴿ منه ﴾ أي : من المنيّ الذي صار علقة، أي : قطعة دم ثم مضغة أي : قطعة لحم ﴿ الزوجين ﴾ أي : النوعين ﴿ الذكر والأنثى ﴾ يجتمعان تارة وينفرد كل منهما عن الآخر تارة. قال القرطبيّ : وقد احتج بهذه الآية من رأى إسقاط الخنثى، وأجيب بأن هذه الآية وقرينتها خرجت مخرج الغالب أو أنه في نفس الأمر ذكر أو أنثى.
﴿ أليس ذلك ﴾ أي : الخالق المسوي الإله الأعظم الذي قدر على تمييز ما يصلح من ذلك للذكر وما يصلح منه للأنثى ﴿ بقادر على أن يحيي الموتى ﴾ أي : أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البلى. «روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال : سبحانك اللهم بلى » رواه أبو داود والحاكم، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : من قرأ سبح اسم ربك الأعلى إماماً كان أو غيره فليقل سبحان ربي الأعلى ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة إلى آخرها فليقل سبحانك اللهم بلى إماماً كان أو غيره. وروى البغوي بسنده من طريق أبي داود عن أعرابيَ عن أبي هريرة قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها ﴿ أليس الله بأحكم الحاكمين ﴾ [ التين : ٨ ] فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى ﴿ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ﴾ فليقل : بلى، ومن قرأ والمرسلات فبلغ ﴿ فبأي حديث بعده يؤمنون ﴾ [ المرسلات : ٥٠ ] فليقل : آمنا بالله ». وروي أنّ رجلاً كان يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ ﴿ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ﴾ قال : سبحانك اللهم بلى، فسألوه عن ذلك فقال : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.