ﰡ
مكية، وهي تسع وثلاثون آية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) " لا " صلة، تزاد لتأكيد القسم، مثلها في (لئلا يعلم)؛ لتأكيد العلم. وقيل: هذا إنما يكون إذا وقعت في خلال الكلام كقوله: (فَلَا وَرَبِّكَ)، وأما إذا وقعت في صدر الكلام كما في هذه السورة وسورة البلد فهي للنفي. والمعنى: نفى أن يقسم بيوم القيامة؛ لأن الإقسام بالشيء إعظام له؛ ليتوسل به إلى تأكيد المقسم عليه. وحاصله: أن يوم القيامة في نفسه أعظم من أن يعظم بالقسم. ويجوز أن يكون " لا " رداً لقولهم: (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)، والمعنى: أقسم باليوم لا النفس اللوامة. وقرأ ابن كثير (لَا أُقسِمُ) على أن اللام جواب القسم.(وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) هي: المتقية التي تلوم النفوس المقصرة يوم القيامة على التقصير، أو نفس السالك التي تلوم نفسها إذا ترقت إلى مقام أعلى، فهي أبداً في اللوم،
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (٣) بعد تفرقها. قيل: نزلت في عدي بن ربيعة ختن الأخنس بن شريق سأل رسول اللَّه - ﷺ - عن أمر الساعة فأخبره فقال: " واللَّه لو عاينت ذلك لم أومن بك ".
(بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (٤) مع صغر العظام فكيف بكبارها؟، وإذا قدرنا على الألطف الأبعد عن العادة فعلى الغير أقدر. ومآله إلى عدم التفاوت بين الإعادة والبدء. وقيل: معنى تسوية بنانه جعلها كخف البعير؛ دلالة على كمال القدرة. والظاهر: أن تخصيص البنان بالذكر؛ لأنه أعجب شيء في الإنسان، وأخص به من بين الحيوانات. ثم في تصدير الكلام بالقسم بيوم البعث والمبعوث فيه على تحقق البعث على أسلوب: " وثناياكِ إنها
(يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (٦) سؤال تعنّت لما تقدم من إنكاره.
(فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) تحيّر فزعاً، كأنه نظر البرق فدُهِشَ بصره. وقرأ نافع (بَرَقَ) بفتح الراء أي: لمع، من البريق. وعن الفراء هما لغتان والكسر أفصح. (وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) بذهاب ضوءه.
(وَجُمِعَ الشَمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) في الطلوع من المغرب، أو في النار يعذب بهما من عبدهما. وتذكير الفعل؛ لأنه أحد الجائزين. ولموافقة " خسف " ومقارنة " القمر " حسن.
(إِلَى رَبِّكَ... (١٢) خاصة. (يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) لا ملجأ غيره، أو إلى حكمه ترجع أمور العباد، أو إلى مشيئته استقرار فريق في الجنة وفريق السعير.
(يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بما قدم من ماله فتصدق، وبما خلفه، أو بما قدم من الأعمال وأَخر لم يعمل، أو بما أخر من سنة حسنة أو سيئة، أو بأول عمله وآخره.
(بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) حجة واضحة، فلا يحتاج معها إلى أن ينبأ؛
لأنه الذي ينبأ بما قدم وأخر حين تنطق جوارحه.
(وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥) أي: لو أتى يكل معذرة لا تقبل؛ لأن الشاهد من نفسه لا يقبل الجرح. وعن مجاهد: " المعاذير: الستور " عليه. والمعنى: ولو ألقى الستور عليه حين عصيانه لا يغني عنه شيئاً؛ لأن عليه من نفسه بصيرة. لاحظ قوله. (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ) والمعاذير: اسم جمع كالمناكير؛ لأن قياس جمع المعذرة بدون التاء، وجمع معذار على تفسير مجاهد.
(لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ... (١٦) أي: بالقرآن عند أخذه من جبرائيل. (لِتَعْجَلَ بِهِ) تحفظ مخافة أن يشذ عنك شيء.
(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ | (١٧) في صدرك. (وَقُرْآنَهُ) وقراءته على لسانك. |
(كَلَّا... (٢٠) ردع له عما كان عليه. واستطراده بين حبّي العاجلة المدلول عليه بقوله: (بَل يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ)، وقوله: (بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ)؛ للدلالة على أن العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو رحمة وشفاء فكيف بما هو محنة وشقاء؟. وفي (تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) تغليب للمخاطب، كأنه قال: وأنتم يا بني آدم عادتكم العجلة في كّل شيء؛ لجبلتكم على ذلك. (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) " فإن قلت: إذا كانت العجلة جِبلّة في الإنسان، فما معنى الردع في " كلا "؟ قلت: وإن كانت من مقتضى الطبع إلا أنَّها قابلة العلاج كسائر الملكات الرديّة، ومن كان في أعلى منصب الرسالة لا ينبغي له إلا استئصال شأفة تلك الملكات. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر تحبون.
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) بهيّة عليها أثر السرور. (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣) قصداً، لا إلى غيره، كالطالب رؤية الهلال، أو إن النظر إلى غيره تعالى كـ " لا نظر " كما تقدم في ذلك الكتاب، أو التقدم؛ للاهتماتم ورعاية الفاصلة. والحمل على الانتظار موت أحمر كناية عن الرجاء لا يلائم. روى الترمذي والإمام أحمد بن حنبل أن رسول اللَّه - ﷺ - قال: " أكرم الخلق على اللَّه تعالى من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ الآية ".
(كَلَّا... (٢٦) ردع عن حب العاجلة، وإيثار الدنيا على الآخرة بذكر ما هو أوعظ شيء للإنسان وهو الموت وأهواله. (إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ) الضمير للنفس، وإن لم تتقدم؛ لأن قرينتها " أظهر من نار على علم ". ألا ترى أن حاتماً من بلغاء العرب، وهو الذي لا يشق غباره في قوى الأرواح بحكمة، كما حاز قصب السبق في مضمار قِرَى الأشباح بنعمة سلك هذه الطريقة:
أَماوِيُّ ما يُغني الثَّراءُ منِ الفَتى | إِذا حشرَجَت يوماً وَضاقَ بِها الصَّدرُ |
(وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (٢٧) القائل الأحباب والخلان بعضهم لبعض من يرقيه منكم لعل أن يكون ببركة الرقية نجاة. وهذا إنما يقال عند اليأس وعجز الأطباء. وقرأ حفص بسكتة لطيفة على " مَن "؛ للدلالة على أن الإدكم فيه غير لازم، وخلاصاً من ثقل التقارب.
(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (٢٨) أي: ظن الحاضر أنه الفراق الحقيقي.
(إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (٣٠) لا إلى غيره وهو عليم بذات الصدور، وقد علمتم أن حب الدنيا رأس كل خطيئة فكيف تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة؟.
(فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (٣١) أي: الإنسان الحاسب (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ) لا صدّق بقلب، ولا أتى بالأعمال المصدقة لعقد القلب، وعبر عنها بالصلاة؛ لأنها رئيسة العبادات. أو لا يصدّق بما له يقال صدقاً إذا أعطى الصدقة. (وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) عن الطاعة.
(أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) أي: أولاك ما تكرهه فأولاك مرة بعد أخرى. واللام مثل اللام في (رَدِفَ لَكُمْ). وقيل: أفعل من الويل بعد القلب. (ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥) أبلغ فأبلغ.
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) مهملاً لا جزاء ولا حساب. أي: لا يكون ما حسب؛ لأن فيه بطلان الحكمة.
(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (٣٧) قرأ حفص بالتذكير. والضمير للمني.
(ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فقدره وعدله (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ... (٣٩) الصنفين (الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى).
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (٤٠) الصانع. روى أبو داود عن موسى بن أبي عائشة أن رسول اللَّه - ﷺ - كان إذا قرأها قال: " " سبحانك بلى ".
* * *
* * *