تفسير سورة القيامة

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة القيامة من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة [ القيامة وهي مكية ]١
١ من م، في الأصل: يذكر فيها القيامة..

سُورَةُ الْقِيَامَةِ، وهي مَكِّيَّة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (٣) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (٥) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (٦) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلَّا لَا وَزَرَ (١١) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥).
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)، اختلف في تأويله:
فمنهم من ذكر: أنه أقسم اللَّه تعالى بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة، ذكر ذلك عن الحسن، ويكون معناه: لأقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة.
لكن ذكر عنه أنه يقول في قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ): إن القسم يقع على البلد ووالد وما ولد، والوالد هو آدم عليه السلام، وما ولد جملة أولاده عليه السلام، فإذا كان القسم جائزا بالوالد والمولود جميعا، كانت النفس اللوامة داخلة في جملة المولود فقد أقسم بالنفس اللوامة عنده؛ فلا معنى للرد هاهنا ثم موقع " لا " في قوله: (لَا أُقْسِمُ) وتأويله - يذكر في قوله: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) في سورة يذكر فيها الكبد.
ومنهم من ذكر أن القسم وقع بهما جميعا، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه.
ثم صرف بعض أهل التأويل معنى القسم إلى قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ)، وجعله موضع القسم، فإن كان على هذا، فالإشكال عليه أن يقول قائل: كيف أكد أمر البعث، وجمع العظام بالقسم بيوم القيامة، وقد جرى من القوم الذين احتج عليهم بهذه الآية الإنكار بيوم القيامة، فكأنه أكد القسم بشيء جرى به الإنكار؟
334
والجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن يكون القسم منصرفا إلى الحكمة التي توجب القول بالبعث؛ إذ قد بينا في غير موضع: أنه بالبعث ما خرج خلق هذا العالم مخرج الحكمة، ولولا البعث، لكان خلقه عبثا باطلا، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، كأنه قال: لا أقسم بحكمته الداعية إلى كون القيامة كذا أن يكون كذا.
وجائز أن يكون القسم في الحقيقة بالدلائل والبراهين التي من تفكر وأمعن النظر فيها، حمله ذلك على القول بالبعث، وإذا كان محتملا صح القسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة؛ لأن التفكر في النفس اللوامة والاعتبار بها يدعو إلى القول بالبعث.
ثم العادة جرت على القسم بالأشياء التي عظم خطرها، وجل قدرها في القلوب؛ وجلالة خطرها يكون بأحد وجهين:
إما بما كثرت منافعها؛ فيكون خطرها مشاهدا معروفا.
أو بعظم خطرها بالدلائل والأخبار، فالسماوات والأرضون قد عرف الخلق جلالة أقدارهما بالعيان؛ بما كثرت منافع الخلق بهما.
وعظم يوم القيامة بما جل خطره في القلوب؛ وثبت القول بكونه بالدلالات والبراهين.
ثم قد وصفنا أن اللَّه - تعالى - أقسم بأشياء؛ لتأكيد ما يعرف بيانه ويجب القول به لولا القسم لو أمعن النظر فيه؛ وأعملت فيه الروية؛ لذلك استقام القسم بها، واللَّه أعلم.
واختلف في النفس اللوامة:
قَالَ بَعْضُهُمْ: النفس اللوامة هي النفس الكافرة، تلوم ربها في الدنيا أبدا في تضييق العيش عليها، وتشكو ربها من الفقر والإقتار عليها، مع كثرة نعم اللَّه عليها وإحسانه إليها.
ومنهم من صرف التأويل إلى كل نفس مؤمنة كانت أو كافرة، فهي تلوم غيرها؛ لتعاطيها أشياء قد تعاطت نفسه مثلها، وامتحنت بها، والحق على كل أحد ألا يلوم أخاه بما تعاطى فعلا قد أتى هو ذلك الفعل بعينه أو مثله، ولكنها أنشئت كذلك لوامة، كما قال: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا).
ومنهم من ذكر أن هذا يكون في الآخرة، فالكافر إذا أيقن بالعذاب وما حل به من نقمة اللَّه تعالى ند على ما فرط في جنب اللَّه، وأدركته الحسرة؛ فعند ذلك يلوم نفسه،
335
والمؤمن إذا عاين الثواب يلوم نفسه لما أمسك عن المعصية وتاب، وأطال المقام في المحراب؛ وأبصر للعاملين بالطاعة حسن المآب، وللعاصي نفسه بما شذ منه وغاب، عند كمال القوة وعنفوان الشباب، وقال: كيف لم أزدد في العمل؛ لأزداد في الثواب!
ومنهم من خص الكافر في الآخرة باللوم على نفسه، وهذا أظهر؛ لأن المسلم إذا أكرم بالثواب فشكره لذلك يشغله عن اللوم على نفسه؛ فلا يتفرغ له.
ولأن اللَّه - تعالى - يضاعف له من الحسنات، ويعطيه من الدرجات زيادة على ما استوجبه بعمله؛ فضلا منه وإنعاما، فكيف يلوم نفسه بتقصيرها في العمل، وهو يعلم أن ما وصل إليه من الكرامات، لم ينل جملتها بعمله، بل بفضل اللَّه تعالى وبكرمه، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (٣):
فقوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ) وإن خرج مخرج الاستفهام في الظاهر فليس هو باستفهام؛ ولكنه تحقيق حسبان من الإنسان؛ فجائز أن يكون ما حمله على الحسبان هو أن القدرة لا تنتهي إلى هذا في أن تجمع العظام وتؤلف بعد تفتتها وتلاشيها، فيدفع حسبانه هذا بقوله: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)، فمن تفكر في النشأة الأولى، علم أن القدرة تنتهي إلى جمع العظام بعد أن صارت رميما، وأن الذي قدر على إنشائها لقادر على جمعها بعد تفريقها.
وجائز أن يكون حسب أن العظام لا تجمع بعد تفريقها؛ لأنها لو جمعت بعد التفريق، لم تكن تفرق بعد أن وجدت مجموعة؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد لا يقصد إلى نقض ما بنى؛ ليعيده مرة أخرى إلى الجهة المتقدمة، ومن فعل ذلك كان عابثا في هدمه، ولم يكن حكيما، فإن كان هذا المعنى هو الذي حمله على الحسبان، فجوابه أن يقال بأن الجمع الأول وقع لمكان المحنة والابتلاء، والجمع بعد التفريق لمكان الجزاء؛ فإذا كان الجمع الثاني لغير الوجه الذي وقع له الجمع في الابتداء، كان مستقيما صحيحًا، وإنما يخرج عن حد الحكمة إذا لم تكن الإعادة إلا للوجه الذي وقع الابتداء له؛ ألا ترى أن الذي نقض بناءه إذا أعاده لا للوجه الذي كان بني أول مرة، لم ينكر عليه.
وفيما ذكرنا رد قول الباطنية؛ لأنهم زعموا أن هذه الأنفس تتلاشى وتتلف؛ فلا تبعث،
وأن البعث يقع على الأنفس الروحانية، ولو كان كما زعموا، لم يكن لقوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ) معنى؛ لأن العظام لا تجمع على قولهم بعدما صارت رميمة؛ فيكون الأمر إذن على ما وقع في حسبان هذا الإنسان؛ فلا معنى للرد عليه بقوله: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ)؛ ألا ترى أن الذي حمله على الإنكار لجمع العظام بعد تفريقها هو أنه لم ير هذا موجودا في الشاهد، ولو كان الأمر على ما زعمت الباطنية، لكان الإنكار مدفوعا؛ إذ وجد النفس الروحانية مبعوثة في الشاهد بعد توفيها، وقال اللَّه تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)، فأخبر أن الأنفس التي أنشئت أول مرة هي التي تحيا، لا غير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (٤):
فمنهم من حمل هذه الآية على الابتداء، وزعم أنه ليس فيها جواب لما يقتضيه قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ).
ومنهم من ذكر أن قوله: (بَلَى)، جواب لقوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ)، فاكتفى بقوله: (بَلَى) بما سبق منه من الدلالات والحجج على القول بالبعث؛ فاقتصر على قوله: (بَلَى) على الوصل بما تقدم من الدلالات.
ومنهم من جعل جوابه في قوله: (قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ)، معنى تسوية البنان: هو الجعل من عظم واحد، مجموعا غير متفرق، مثل خف البعير، وحافر الدواب.
ووجه الاستدلال: أنهم أقروا بأن اللَّه تعالى قادر على أن يسوي البنان؛ لما رأوا التسوية موجودة في الدواب، ثم الجمع بعد التفريق أظهر وجودا وأيسر فعلا من تسوية البنان؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد قد يقدر على التأليف والجمع بين أشياء متفرقة، ويعجز عن تسوية البنان؛ فإذا كانت التسوية أعسر وجودا من الجمع بعد التفريق، ثم وصفوا اللَّه تعالى بالقدرة على تسوية البنان، فكيف أنكروا قدرته على جمع العظام بعد تفريقها؟ تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا!!.
ومنهم من يقول بأن اللَّه تعالى لما لم يسو بين بنان الإنسان، وسوى بين بنان الدواب؛ ليصل إلى الأخذ والإعطاء، وإلى التقديم والتأخير، والقبض والبسط، وأنواع المنافع التي
خص بها من نحو ما يملكون بالبنان تسخير الدواب والأنعام؛ فعلم بالتفريق بين الدواب وبينهم أن البشر هم المقصودون بالمحنة، وألا يتركهم سدى، لا يأمرهم، ولا ينهاهم، ولا يستأديهم شكر ما أنعم اللَّه عليهم؛ وقد ائتمر البعض وعصى البعض؛ فلا بد من دار أخرى للمجازاة؛ فالنظر في هذا يحمله على القول بالبعث والجزاء.
ولأن الاستواء يقع في الابتداء، والجمع بعد التفريق يكون عند الإعادة، والعقول تشهد على أن أمر الإعادة أيسر من أمر الابتداء، فإذا لم يتعذر عليه الاستواء في الابتداء؛ فأنى يعسر عليه إعادة الجمع مع قدرته على الجمع في الابتداء؟
ولأنهم لما لم يخلقوا مستوية البنان، فليعلموا أن في ترك الاستواء حكمة، ولو كان الأمر على ما قدروا أن لا بعث لكان ذلك يخرج عن حد الحكمة؛ فيكون فيما ذكر تثبيت البعث والقول بالقدرة على جمع العظام بعد تفرقها، وتفتتها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (٥):
قال أهل التفسير: يؤخر التوبة، ويقدم المعصية، ويقول: " سوف أتوب "، فيأتيه الموت على شر حاله.
وعندنا يخرج على وجهين:
أحدهما: جائز أن يكون ذكر الإرادة لا على تحقيقها؛ ولكن من فعل شيئا فعله على الإرادة والاختيار، فكنى بالإرادة عن الفعل، لأنها تقترن بالفعل؛ فيكون في ذكرها ذكر الفعل، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)، ولم يظن أحد من الكفرة أن السماء والأرض خلقتا باطلًا، ولكن خلقهما خرج على الحكمة بالبعث والجزاء، ففي ترك القول بالبعث وصف بأن خلقهما للعب والباطل، ويؤدي إلى هذا؛ فيصير كأنهم قالوا ذلك، وظنوا كذلك؛ فعلى هذا يحمل الأمر على الظن، لا أن وجد منهم الظن في الحقيقة؛ فكذلك إذا فعلوا فعل الفجور، وكان فعلهم على الإرادة والاختيار؛ فكأنهم أرادوا أن يفجروا أمامهم، لا أن كانت الإرادة منهم متحققة لذلك مقصودا.
وجائز أن يكون ذلك على تحقيق الإرادة، وذلك أن للشر والفجور سبلا من سلكها أفضى به إلى أن يستحق اسم الفجور، وللخير والهدى سبلا من سلكها أفضى به الأمر إلى
أن يستحق اسم البر والتقوى، فإنما صار إلى الفجور وإلى أنواع الشرور بسلوكه ذلك السبيل، وصار مريدا من هذه الجهة.
ثم قوله: (أَمَامَهُ)، يحتمل وجهين:
أحدهما: فيما بقي من عمره؛ لأنه يترك الاستهداء والاسترشاد، ويمضي على العادة التي عود نفسه على ذلك من الشرور والضلال.
ويحتمل أن يكون الأمام هو يوم القيامة، ثم قال في موضع: (وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا)، بعد ذكر ذلك اليوم بالأمام والوراء جميعا؛ فيكون قوله: (وَرَاءَهُمْ)، أي: وراء الأوقات التي خلت ومضت؛ فعلى اعتبار الإضافة إلى الأوقات الماضية يكون يوم القيامة وراءها، وعلى اعتبار الإضافة إلى ذلك الفاجر يكون أماما؛ لأنه يكون أمام هذا الفاجر؛ فكذلك استقام الوصف بالأمام والوراء جميعا.
ثم ذكر الفجور، ولم يذكر الكفر وإن كان الإنسان الذي يريد أن يفجر أمامه كافرًا؛ لأن في ذكر الفجور تعييرًا وتشيينًا؛ إذ هو اسم للتعيير خاصة، وليس في نفس الكفر تعيير؛ إذ كل أحد -مؤمنا كان أو كافرا- مؤمن بشيء كافر بشيء، فالكافر من حيث اسمه لم يصر قبيحا؛ بل بمعناه ما قبح؛ فكان الفجور أبلغ في التعيير من الكفر؛ فسمي به، واللَّه أعلم.
وقال أبو بكر: معنى قوله: (يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ)، أي: يريد أن يعاين يوم القيامة، ويعلم به أنه متى هو؟ تفسيره على أثره.
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (٦) أي: يريد أن يعلمه بسؤاله متى هو؟ فأخبر أنها تقوم إذا (بَرِقَ الْبَصَرُ)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) سؤاله هذا سؤال تعنت واستهزاء؛ لما ذكرنا أنه ليس في تعرف وقت كونه مزجر ولا مرغب، وإنَّمَا يقع الزجر والرغبة بتذكير الأحوال التي تكون في ذلك اليوم؛ فلذلك ذكر الأحوال التي تكون في ذلك اليوم، ولم يوقفهم على ذلك الوقت متى يكون؟ إذ ليس في معرفة وقته كثير حكم، فيجيبهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بجواب الحكماء، لا أن يجيبهم بجواب مثلهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧):
قيل: دهش وتحير، ثم اختلف بعد هذا:
339
فمنهم من صرف هذا إلى حالة الموت.
ومنهم من ذكر أن هذه الأحوال تكون يوم القيامة.
وإلى أي الحالين صرف التأويل، فهو مستقيم؛ لأن المنكر بالبعث إذا جاءه بأس الله تعالى، ورأى ما حل به من الأهوال - أيقن بالبعث، وعلم به.
ثم إن كان المراد به حالة الموت؛ فقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) يخرج على التمثيل، ليس على التحقيق؛ لأن بصره إذا دهش وتحير، صار بحيث لا ينتفع ببصر وجهه، ولا ببصر قلبه، لا يرى ضوء القمر؛ فيصير القمر كالمنخسف، وتصير الشمس والقمر كالمجموعين، ولا يرى ضوء الشمس ولا نور القمر؛ فيصير النهار عليه ليلا، والليل نهارا؛ شغلا بما حل به من البلايا والأهوال، وهو كما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والآخرة جنة المؤمن وسجن الكافر "، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من كره لقاء اللَّه، كره الله لقاءه، ومن أحب لقاء اللَّه، أحب اللَّه لقاءه " فصرفوا تأويل هذين الخبرين إلى حالة الموت؛ وذلك أن الكافر يعاين في ذلك الوقت ما أوعد من الأهوال والشدائد؛ فكره مفارقة روحه من جسده؛ لئلا يقع في تلك الأهوال والشدائد، وتصير الدنيا له في ذلك الوقت كالجنة، لا يجب مفارقتها.
والمؤمن إذا عاين ما وعد له من البشارات، وأنواع الكرامات، ود الخروج من الدنيا؛ ليصل إلى ما أعد له؛ فتصير الدنيا عليه كالسجن في ذلك الوقت؛ فيكون هذا كله على التمثيل من الوجه الذي ذكرنا.
وإن كان ذلك على يوم القيامة، فهو على تحقيق الخسف، وجمع الشمس والقمر.
وقوله - عز وجل -: (يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ):
يحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (أَيْنَ الْمَفَرُّ)، أي: ليس لي موضع فرار عما حل بي.
أو يقول: إلى أين أفر؟ وإلى من ألتجئ؛ لأتخلص من العذاب؟ واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ):
340
الآية ٧ : ثم قوله تعالى :﴿ فإذا برق البصر ﴾ قال بعضهم : إذا شخص البصر نحو الداعي يوم القيامة، وهو كقوله عز وجل :﴿ ليوم تشخص فيه الأبصار ﴾[ إبراهيم : ٤٢ ] فيشخص ببصره إلى الداعي، لأنه قد علم أن الذي حلّ به من بأس الله تعالى هو لامتناعه عن الإجابة للداعي في هذه الدنيا، فيتسارع يوم القيامة في إشخاص بصره إلى الداعي ابتداء منه إلى إجابة الداعي.
قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا شخص البصر نحو الداعي يوم القيامة، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)، فيشخص ببصره إلى الداعي؛ لأنه قد علم أن الذي حل به من بأس اللَّه تعالى هو لامتناعه عن الإجابة للداعي في هذه الدنيا؛ فيسارع يوم القيامة في إشخاص بصره إلى الداعي؛ ابتدارا منه إلى إجابة الداعي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) أي ذهب ضوءه ونوره؛ ففيه أن أن عالم في ذلك اليوم يغير ويبدل، كقوله - تعالى -: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ)، وقال: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً)، وقال: (يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا).
وقوله - تعالى -: (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩):
فيه أن سلطانهما يذهب؛ فلا يعملان عملهما بعد ذلك.
ثم من الناس من زعم أنهما يجمعان يوم القيام كالبعيرين القرينين، أو الثورين القرينين، فيلقيان في النار، ويعذبان بها.
وذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه أنكر هذا، وقال: " إنهما خَلقان لله تعالى، طائعان له - عَزَّ وَجَلَّ - ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ)، يدأبان في طاعة اللَّه تعالى، ومن كان هذا وصفه؛ فلا يجوز أن يعذب ".
وعندنا أن إلقاءهما إن ثبت، فهما يلقيان في النار؛ ليعذب بهما غيرهما، وهم الذين عبدوهما من دون اللَّه تعالى، وذلك كقوله - عز وجل -: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) الآية، ومعلوم أن الأصنام التي عبدت من دون اللَّه لا تعذب بالنار، ولكنها تجعل حصبا ونارا يعذب بها من عبدها، وقال اللَّه تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً)، ولا يجوز أن يكون الملائكة يمسهم أذى النار، بل هم الذين يُعَذّبُون؛ فعلى ذلك الشمس والقمر إن ثبت أنهما يلقيان في النار، فهما يلقيان؛ ليعذب بهما من عبدهما، لا أن يعذبا بأنفسهما، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) جائز أن يكون قوله: (أَيْنَ الْمَفَرُّ) على طلب الحيلة أن كيف أحتال إلى أن أفر؟ وإلى من ألتجئ؛ لأتخلص من بأس اللَّه وعذابه؟!
ويحتمل أن يكون قوله: (أَيْنَ الْمَفَرُّ)، أي: ليس لي موضع فرار عما حل بي؛
الآية٩ : وقوله تعالى :﴿ وجمع الشمس والقمر ﴾ ففيه أن سلطانهما يذهب فلا يعملان عملهما بعد ذلك. ثم من الناس من زعم أنهما يجمعان يوم القيامة كالبعيرين القريبين أو الثورين القريبين، فيلقيان في النار، ويعذبان بها.
وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه أنكر هذا، وقال :/ ٦١٦ – أ/ إنهما خلقا الله تعالى طائعان له عز وجل ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ﴾[ إبراهيم : ٣٣ ] يدأبان في طاعة الله تعالى. ومن كان هذا وصفه فلا يجوز أن يعذب ؟.
وعندما أن إلقاءهما، إن ثبت، فهما يلقيان في النار ليعذب بهما غيرهما، وهم الذين عبدوها من دون الله تعالى، وذلك كقوله عز وجل :﴿ وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ﴾[ الأنبياء : ٩٨ ] الآية.
ومعلوم بأن الأصنام التي عبدت من دون الله تعالى، لا تعذب بالنار، ولكنها تجعل حصبا ونارا يعذب بها من عبدها. وقال الله تعالى :﴿ وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ﴾[ المدثر : ٣١ ] ولا يجوز أن يكون الملائكة يمسهم أذى النار، بل هم الذين يعذبون. فعلى ذلك الشمس والقمر، إن ثبت أنهما في النار، فهما ليعذب بهما من عبدهما لا أن يعذبا نفساهما، والله أعلم.
الآية ١٠ : وقوله تعالى :﴿ يقول الإنسان يومئذ أين المفر ﴾ فجائز أن يكون قوله :﴿ أين المفر ﴾ على طلب الحيلة أن كيف أحتال إلى أن أفرّ، أو إلى من ألتجئ لأتخلص من بأس الله وعذابه ؟.
ويحتمل أن يكون قوله :﴿ أين المفر ﴾ أي ليس لي موضع فرار عما حلّ بي لإيقانه أن ليس له مفر.
وجائز أن يكون هذا كله عند الموت على ما ذكرنا.
لإيقانه أن ليس له مفر.
وجائز أن يكون هذا كله عند الموت على ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا لَا وَزَرَ (١١).
وذكر أهل التأويل أن الوزر هو الجبل بلغة حمير.
وذكر عن الحسن قال: كانت العرب يخيف بعضها بعضا، ويغير بعضها على بعض؛ فكان يكون الرجلان في ماشيتهما فلا يشعران حتى يريا نواصي الخيل، فيقول أحدهما لصاحبه: الوزر الوزر، يعني: الجبل؛ فكأنه يقول: ليس لهما إذ ذاك تفريج ولا تسل من الأحزان كما يتسلى من يأوي إلى الجبل في الدنيا عن بعض ما يحل به من الأفزاع.
وقيل: الوزر: الملجأ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) فتأويله: أنه ينبأ من أول ما عمل إلى آخر ما انتهى إليه عمله؛ كقوله: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا).
وقال بعض أهل التأويل: بما قدم من أنواع الطاعة، وما أخر من حق اللَّه تعالى من اللوازم التي كانت عليه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بما أعلن، وأسر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بما قدم في حياته من أعمال، وما أخر، أي: ما سن من سنة، فاستن بها بعد موته.
وقد ذكرنا أنه باللطف من اللَّه تعالى ما يعلم بالذي قدم من الأعمال وأخرها، فيتذكر بذلك حتى يصير ما كتب في الكتاب حجة عليه؛ وإلا فالمرء في هذه الدنيا إذا كتب كتابا، ثم أتت عليه مدة، لم يتذكر جميع ما كتب فيه، ولا وقف على علم ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥):
هذا يخرج على وجهين:
342
أحدهما: جائز أن يكون أراد بهذا في الدنيا: أن الإنسان بصير بعمل نفسه، وإن جادل عنها: أنه لم يفعل ذلك، وأسر ذلك عن الناس، (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)، أي: أرخى الستور بما كسبت نفسه، والمعذار هو الستر.
والوجه الثاني: أن يكون في الآخرة، وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن الإنسان وإن كان يعتذر يوم القيامة بقوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وقال: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)، فيقدمون على الحلف؛ اعتذارا منهم على العلم منهم أنهم مبطلون في جدالهم.
والثاني: أن يكون معنى البصيرة: الشاهد، أي: أن الإنسان على نفسه شاهد يوم القيامة بسوء أفعاله، (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)، أي: وإن ستر على نفسه، شهدت عليه جوارحه، وذلك نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ...) الآية.
فَإِنْ قِيلَ: إن الإنسان مذكر، كيف وصف بالبصر بلفظة التأنيث بقوله: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، ولم يقل " بصير "؟
فجوابه من أوجه:
أحدها: ما قيل: إن الإنسان تسمية جنسٍ فيه الجماعة، لا أن يكون تسمية للشخص الواحد فقط؛ ألا ترى إلى قوله: (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، استثنى الذين آمنوا من قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، ولا يستثنى الجماعة من الواحد، وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، فاستثنى الذين آمنوا من الإنسان؛ فثبت أن الإنسان تسمية جنس، والجنس جماعة، وتكون الجماعة مضمرة فيه؛ كأنه قال: إن جماعة الناس على أنفسهم بصيرة؛ فيكون قوله: (بَصِيرَةٌ) راجعا إلى الجماعة، واللَّه أعلم.
وجواب ثان قوله: (بَصِيرَةٌ) وصف للإنسان بالغاية من البصر بكل ما عمل، حتى لا يعزب عنه شيء، والهاء قد تدخل في خطاب المذكر عند الوصف بالمبالغة؛ كقولك: فلان علامة ونسابة، وراوية للشعر، وبالغة في النحو.
والثالث: أن الإنسان تسمية ما يراه بجوارحه كلها من الأيدي والأرجل والسمع والبصر
343
الآيتان : ١٢و١٣ : وقوله تعالى :[ ﴿ إن ربك يومئذ المستقر ﴾ ]١ ﴿ ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخّر ﴾ فتأويله : أنه ينبأ من أول ما عمل إلى آخر ما انتهى إليه عمله كقوله :﴿ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ﴾[ الكهف : ٤٩ ].
وقال بعض أهل التأويل :﴿ بما قدم ﴾ من أنواع الطاعة﴿ وأخر ﴾ من حق الله تعالى من اللوازم التي كانت عليه.
وقال بعضهم : بما أعلن، وستر. وقال بعضهم :﴿ بما قدم ﴾ في حياته من أعمال﴿ وأخر ﴾ ما سنّ من سنة، فاستن [ به ]٢ بعد موته.
وقد ذكرنا أنه باللطف من الله تعالى ما لم يعلم بالذي قدّم من الأعمال، وأخرها، فيتذكر بذلك حتى يصير ما كتب في الكتاب حجة عليه، وإلا فالمرء في هذه الدنيا إذا كتب كتابا، ثم أتت عليه مدة، لم يتذكر جميع ما كتب فيه، ولا وقف على علم ذلك.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:الآيتان : ١٢و١٣ : وقوله تعالى :[ ﴿ إن ربك يومئذ المستقر ﴾ ]١ ﴿ ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخّر ﴾ فتأويله : أنه ينبأ من أول ما عمل إلى آخر ما انتهى إليه عمله كقوله :﴿ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ﴾[ الكهف : ٤٩ ].
وقال بعض أهل التأويل :﴿ بما قدم ﴾ من أنواع الطاعة﴿ وأخر ﴾ من حق الله تعالى من اللوازم التي كانت عليه.
وقال بعضهم : بما أعلن، وستر. وقال بعضهم :﴿ بما قدم ﴾ في حياته من أعمال﴿ وأخر ﴾ ما سنّ من سنة، فاستن [ به ]٢ بعد موته.
وقد ذكرنا أنه باللطف من الله تعالى ما لم يعلم بالذي قدّم من الأعمال، وأخرها، فيتذكر بذلك حتى يصير ما كتب في الكتاب حجة عليه، وإلا فالمرء في هذه الدنيا إذا كتب كتابا، ثم أتت عليه مدة، لم يتذكر جميع ما كتب فيه، ولا وقف على علم ذلك.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ من م، ساقطة من الأصل..

الآيتان ١٤و١٥ : وقوله تعالى :﴿ بل الإنسان على نفسه بصيرة ﴾﴿ ولو ألقى معاذيره ﴾ هذا يخرج على وجهين :
أحدهما : جائز أن يكون أراد بهذا في الدنيا أن الإنسان بصير بعمل نفسه، وإن جادل عنها أنه لم يفعل ذلك، وأسر ذلك عن [ الناس ]١﴿ ولو ألقى معاذيره ﴾ أي ألقى الستور بما كسبت نفسه، والمعذار هو الستر.
والوجه الثاني : أن يكون في الآخرة، وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الإنسان وإن كان يعتذر يوم القيامة بقوله :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾[ النعام : ٢٣ ] وقوله٢ :﴿ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ﴾[ المجادلة : ١٨ ] فيقدمون على الحلف اعتذارا منهم[ على العلم منهم ]٣ أنهم مبطلون في جدالهم.
والثاني : أن يكون معنى البصيرة الشاهد أي أن الإنسان على نفسه[ شاهد يوم القيامة بسوء أفعاله، وإن ألقى معاذيره، أي وإن ]٤ شهدت عليه جوارحه، وذلك نحو قوله عز وجل :﴿ اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ﴾[ يس : ٦٥ ] وقوله تعالى :﴿ شهد عليهم سمعهم وأبصارهم ﴾ الآية[ فصلت : ٢٠ ].
فإن قيل : إن الإنسان مذكّر كيف وصفه٥ بالبصيرة بلفظة التأنيث بقوله :﴿ بل الإنسان على نفسه بصيرة ﴾ ولم يقل : بصير ؟ فجوابه من أوجه :
أحدها : ما قيل : إن الإنسان تسمية جنس، فيه الجماعة، ولا أن يكون تسمية للشخص الواحد فقط. ألا ترى إلى قوله :﴿ والعصر ﴾﴿ إن الإنسان لفي خسر ﴾﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾[ العصر : ١و٢و٣ ] استثنى الذين آمنوا من قوله :﴿ إن الإنسان لفي خسر ﴾ ولا تستثنى الجماعة من الواحد، وكذلك قوله عز وجل :﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾ ﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ الآية[ التين : ٤و٥و٦ ] فاستثنى الذين آمنوا من الإنسان، فثبت أن الإنسان تسمية جنس، والجنس جماعة، وتكون الجماعة مضمرة فيه ؛ كأنه قال : إن جماعة الناس على أنفسهم بصيرة، فيكون قوله﴿ بصيرة ﴾ راجعا إلى الجماعة، والله أعلم.
[ والثاني ]٦ : قوله :﴿ بصيرة ﴾ وصف للإنسان بالغاية من البصر بكل ما عمل حتى لا يغرب عنه شيء، والهاء قد تدخل في خطاب المذكر عند الوصف بالمبالغة كقولك : فلان علاّمة ونسّابة ورواية للشعر وبالغة في النحو
والثالث : أن الإنسان تسمية ما يراه بجوارحه كلها من الأيدي والأرجل والسمع والبصر والرأس، ونحو ذلك : نفس أمارة بالسوء، فتصير جوارحه كلها بصيرة أي شاهدة عليه بما قدم، وأخر.
وجائز أن يكون هذا على الإضمار، فيكون قوله :﴿ بل الإنسان على نفسه بصيرة ﴾ أي نفس الإنسان بصيرة بما عملت.
ثم من الناس من يثبت للجوارح العلم بما كسبت نفسه حتى تصير شاهدة عليه يوم القيامة لقوله :﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ﴾[ النور : ٢٤ ] ولو لم يكن لها العلم بما قدمت نفسه لا تشهد بما لا تعلم.
وليس الأمر عندنا على ما زعموا لأنها لو علمت بذلك لكان صاحبها يصل إلى العلم من جهتها.
ألا ترى أن القلب لما ثبتت له المعرفة وقع لصاحبه العلم من جهته ؟ كذلك السمع لما جعل منه وقع لصاحبه علم المسموع به، ولما كان بعينه يبصر الأشياء كان علم البصر واقعا من جهتها.
فلما لم يقع له العلم بيديه ولا برجليه ولا بشيء من جوارحه سوى القلب علم أنه لا حظّ لها في المعرفة، ولكن جعلت هي شاهدة وحجة يوم القيامة، تشهد على صاحبها بما يحدث الله تعالى فيها علما ضروريا بذلك، لا أن كان لها علم بالذي شهدت قبل ذلك كما جعلت ناطقة٧ في ذلك الوقت، لا أن كان النطق فيها موجودا من قبل، والله أعلم.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ في الأصل و م: وقال..
٣ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م..
٤ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م..
٥ في الأصل و م: وصف..
٦ في الأصل و م: وجواب ثان..
٧ في الأصل و م: نطقة..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤:الآيتان ١٤و١٥ : وقوله تعالى :﴿ بل الإنسان على نفسه بصيرة ﴾﴿ ولو ألقى معاذيره ﴾ هذا يخرج على وجهين :
أحدهما : جائز أن يكون أراد بهذا في الدنيا أن الإنسان بصير بعمل نفسه، وإن جادل عنها أنه لم يفعل ذلك، وأسر ذلك عن [ الناس ]١﴿ ولو ألقى معاذيره ﴾ أي ألقى الستور بما كسبت نفسه، والمعذار هو الستر.
والوجه الثاني : أن يكون في الآخرة، وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الإنسان وإن كان يعتذر يوم القيامة بقوله :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾[ النعام : ٢٣ ] وقوله٢ :﴿ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ﴾[ المجادلة : ١٨ ] فيقدمون على الحلف اعتذارا منهم[ على العلم منهم ]٣ أنهم مبطلون في جدالهم.
والثاني : أن يكون معنى البصيرة الشاهد أي أن الإنسان على نفسه[ شاهد يوم القيامة بسوء أفعاله، وإن ألقى معاذيره، أي وإن ]٤ شهدت عليه جوارحه، وذلك نحو قوله عز وجل :﴿ اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ﴾[ يس : ٦٥ ] وقوله تعالى :﴿ شهد عليهم سمعهم وأبصارهم ﴾ الآية[ فصلت : ٢٠ ].
فإن قيل : إن الإنسان مذكّر كيف وصفه٥ بالبصيرة بلفظة التأنيث بقوله :﴿ بل الإنسان على نفسه بصيرة ﴾ ولم يقل : بصير ؟ فجوابه من أوجه :
أحدها : ما قيل : إن الإنسان تسمية جنس، فيه الجماعة، ولا أن يكون تسمية للشخص الواحد فقط. ألا ترى إلى قوله :﴿ والعصر ﴾﴿ إن الإنسان لفي خسر ﴾﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾[ العصر : ١و٢و٣ ] استثنى الذين آمنوا من قوله :﴿ إن الإنسان لفي خسر ﴾ ولا تستثنى الجماعة من الواحد، وكذلك قوله عز وجل :﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾ ﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ الآية[ التين : ٤و٥و٦ ] فاستثنى الذين آمنوا من الإنسان، فثبت أن الإنسان تسمية جنس، والجنس جماعة، وتكون الجماعة مضمرة فيه ؛ كأنه قال : إن جماعة الناس على أنفسهم بصيرة، فيكون قوله﴿ بصيرة ﴾ راجعا إلى الجماعة، والله أعلم.
[ والثاني ]٦ : قوله :﴿ بصيرة ﴾ وصف للإنسان بالغاية من البصر بكل ما عمل حتى لا يغرب عنه شيء، والهاء قد تدخل في خطاب المذكر عند الوصف بالمبالغة كقولك : فلان علاّمة ونسّابة ورواية للشعر وبالغة في النحو
والثالث : أن الإنسان تسمية ما يراه بجوارحه كلها من الأيدي والأرجل والسمع والبصر والرأس، ونحو ذلك : نفس أمارة بالسوء، فتصير جوارحه كلها بصيرة أي شاهدة عليه بما قدم، وأخر.
وجائز أن يكون هذا على الإضمار، فيكون قوله :﴿ بل الإنسان على نفسه بصيرة ﴾ أي نفس الإنسان بصيرة بما عملت.
ثم من الناس من يثبت للجوارح العلم بما كسبت نفسه حتى تصير شاهدة عليه يوم القيامة لقوله :﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ﴾[ النور : ٢٤ ] ولو لم يكن لها العلم بما قدمت نفسه لا تشهد بما لا تعلم.
وليس الأمر عندنا على ما زعموا لأنها لو علمت بذلك لكان صاحبها يصل إلى العلم من جهتها.
ألا ترى أن القلب لما ثبتت له المعرفة وقع لصاحبه العلم من جهته ؟ كذلك السمع لما جعل منه وقع لصاحبه علم المسموع به، ولما كان بعينه يبصر الأشياء كان علم البصر واقعا من جهتها.
فلما لم يقع له العلم بيديه ولا برجليه ولا بشيء من جوارحه سوى القلب علم أنه لا حظّ لها في المعرفة، ولكن جعلت هي شاهدة وحجة يوم القيامة، تشهد على صاحبها بما يحدث الله تعالى فيها علما ضروريا بذلك، لا أن كان لها علم بالذي شهدت قبل ذلك كما جعلت ناطقة٧ في ذلك الوقت، لا أن كان النطق فيها موجودا من قبل، والله أعلم.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ في الأصل و م: وقال..
٣ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م..
٤ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م..
٥ في الأصل و م: وصف..
٦ في الأصل و م: وجواب ثان..
٧ في الأصل و م: نطقة..

والرأس وغير ذلك، وفيها نفس أمارة بالسوء؛ فتصير جوارحه كلها بصيرة، أي: شاهدة عليه بما قدم وأخر.
وجائز أن يكون هذا على الإضمار؛ فيكون قوله: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، أي: نفس الإنسان بصيرة بما عملت.
ثم من الناس من يثبت للجوارح العلم بما كسبت نفسه؛ حتى تصير شاهدة عليه يوم القيامة بقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، ولو لم يكن لها العلم بما قدمت نفسه، لكانت لا تشهد بما لا تعلم.
وليس الأمر عندنا على ما زعموا؛ لأنها لو علمت بذلك، لكان صاحبها يصل إلى العلم من جهتها؛ ألا ترى أن القلب لما ثبت له المعرفة، وقع لصاحبه العلم من جهته، وكذلك السمع لما حصل فيه السمع، وقع لصاحبه علم المسموع به، ولما كان بعينه يبصر الأشياء كان علم البصر واقعا من جهتها؛ فلما لم يقع له العلم بيديه، ولا برجليه، ولا بشيء من جوارحه سوى القلب - علم أنه لا حظ لها في المعرفة، ولكن جعلت هي شاهدة وحجة يوم القيامة تشهد على صاحبها، بما يحدث اللَّه تعالى فيها علما ضروريا بذلك، لا أن كان لها علم بالذي شهدت قبل ذلك، كما جعلت نطوقة في ذلك الوقت، لا أن كان النطق فيها موجودا من قبل، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ):
هذا كلام مبتدأ منفصل عن الأول، وذكر أهل التأويل أن جبريل - عليه السلام - كان إذا أتى نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالوحي، فكان لا يفرغ من آخر آية حتى يقول نبي اللَّه - عليه السلام - في أولها؛ مخافة النسيان، على ما عليه عرف الخلق أنهم إذا أرادوا وعي الكلام وحفظه، كرروها بألسنتهم؛ كي يضبطوها ولا ينسوها؛ فكان النبي - عليه السلام - يفعل ذلك؛ خشية النسيان؛ فَنُهي عن ذلك بقوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)، وهو كقوله: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ).
وهذا عندنا مما لا يجوز أن نشهد على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يحرك لسانه قبل مجيء
344
هذه الآية، ويستذكره؛ مخافة النسيان إلا بأخبار متواترة؛ لأن هذا في حق الشهادة على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا تجوز الشهادة على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يفعل كذلك إلا بتواتر الأخبار، فأما أن يثبت بخبر واحد فلا.
ولا يقال بأنه لو لم يتقدم منه التحريك، لكان لا معنى للنهي؛ فإنه ليس فيه ما يثبت مقالتهم، ويصحح تأويلهم، ويسوغ لهم الشهادة؛ لأنه يستقيم في الابتداء أن ينهى فيقال: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ)، ولا تفعل كذا، وإن لم يسبق منه ارتكاب ذلك الفعل، ولا تقدم منه تحريك لسان؛ فثبت أنه ليس في ضمن هذه الآية بيان ما ادعوا.
هذا إذا ثبت أن قوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ)، وقوله: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)، على النهي؛ فكيف وهو يحتمل معنى آخر غير النهي، وهو أن يكون هذا على البشارة له بالكفاية: أن قد كفيت مؤنة الاستذكار للحفظ، وهذا من عظيم آيات الرسالة أن السورة تلقى عليه؛ فيحفظها كما هي، مما يشتد على الناس حفظه وقراءته إلا أن يتكلفوا، ويجتهدوا في ذلك؛ فيعلم بهذا أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هو الذي أقدره على ذلك، وجعله آية من آياته، واللَّه أعلم.
ثم الأصل أن من ألقى إلى آخر كلاما متتابعا، نظر في ذلك الكلام:
فإن كان القصد منه حفظ عين الكلام، فإن المخاطب به لا ينتظر فراغ المتكلم عن ذلك الكلام، بل يشتغل بالتقائه وتحفظه ساعة ما يلقى إليه، كمن ينشد بين يدي آخر شعرًا، وأراد الآخر أن يحفظ ذلك الشعر ويعيه، فهو لا ينتظر فراغ المنشد عن شعره، بل هو يأخذ بالتقائه في أول ما يسمع منه؛ إذ الغرض من الأشعار حفظ أعينها دون معانيها؛ ألا ترى أن الألفاظ إذا حذفت منها خرجت عن أن تكون شعرا.
وأما إذا لم يكن القصد من الكلام ضبط عينه، وإنما أريد به تفهيم ما أودع فيه من المعنى، فالعادة في مثله الإصغاء إلى آخر الكلام؛ ليفهم معناه، وما يراد به؛ ألا ترى أن من كتب إلى آخر كتابا فإن المكتوب إليه يقرأ الكتاب من أوله إلى آخره؛ ليعرف مراد الكتاب، لا أن يشتغل بضبط ما أودع به من الألفاظ؛ إذ ليس يقصد بالكتابة إلى حفظ الألفاظ.
345
فإذا كان المراد يتوجه من الكلام إلى ما ذكرنا، ثم القرآن قصد به الوجهان جميعا: ضبط حروفه ونظمه، وتعرف ما أودع فيه من المعاني؛ إذ صار حجة بنظمه ولفظه، وبالمعاني المودعة فيه - فقيل: لا تعجل بتحريك اللسان كما يفعل من يريد التقاء الكلام الذي يلقى إليه؛ فإنك وإن أحوجت إلى حفظ نظمه وحروفه، فقد كفيت حفظه بدون تحريك اللسان.
وجائز أن يكون نُهي عن تحريك اللسان والمبادرة إلى حفظه قبل أن يُقضى إليه بالوحي؛ لما فيه من ترك التعظيم لمن يأتيه بالوحي، فأمر أن يصغي إليه سمعه، ويستمع إلى آخره؛ تعظيما للذي أتاه بالوحي، وتوقيرا له.
ثم هذه الآية تنقض على الباطنية قولهم؛ لأن من قولهم: إن القرآن لم ينزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مؤلفا منظوما؛ بل أنزل على قلبه كالخيال، فصوره بقلبه، وألفه بلسانه؛ فأتى بتأليف، عجز الآخرون عن أن يؤلفوا مثله.
ونحن نقول: بل أنزل هذا القرآن مؤلفا منظوما على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن التأليف من فعله؛ والذي يدل على صحة مقالتنا قوله تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ)؛ لأن التأليف لو كان من فعله - عليه السلام - لكان لا يوجد منه تحريك اللسان وقتما تزل عليه؛ لأنه إذا كان كالخيال فهو يحتاج إلى أن يصوره في قلبه، ثم يصل إلى التأليف بعد التصوير، وتتأتى له العبارة باللسان، وإنما يقع التحريك من مؤلَّف منظوم؛ ثبت أنه أُنزل هذا مؤلف منظوم.
والثاني: أنه قال: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)، فهذه الآية نفت طعن أُولَئِكَ الكفرة الذين زعموا أن هذا ليس بقرآن، بل إنما علمه فلان، وكان لسان ذلك البشر أعجميا، وهذا القرآن عربي؛ فكيف يستقيم أن يعلمه ذلك البشر، ولسانه غير هذا اللسان، ولو كان هذا القرآن وقتما أنزل كالخيال، لكان ذلك الطعن قائما؛ لأنه كان يؤلفه، ويجمعه باللسان العربي، وإن علم بالأعجمية لما قدر أن يؤلفه، وينظمه بعد أن كان خيالا باللسان العربي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧):
فقوله: (عَلَيْنَا) يخرج على أوجه ثلاثة:
أحدها: أن علينا في حق الوعد جمعه وقرآنه؛ لأنه قد سبق منا الوعد في الكتب المتقدمة بإنزال هذا القرآن وإرسال هذا الرسول؛ فعلينا إنجاز ذلك الوعد ووفاؤه.
أو علينا في حق الحكمة جمعه؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمر بتبليغ الرسالة، ولا يتهيأ له ذلك إلا بعد أن يجمع له فيؤديه إلى الخلق.
ولأن اللَّه تعالى حكيم في فعله؛ ففعله موصوف بالحكمة، وإن لم نعرف نحن وجه الحكمة في فعله.
وجائز أن يكون قوله: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) في حق الرحمة والرأفة على الخلق، لا أن يكون ذلك حقا لهم قبله تعالى، وهو كقوله - تعالى -: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ...) إلى قوله: (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)، فأخبر أنه أبقى القرآن، ولم يذهب به؛ رحمة منه على عباده وفضلا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَقُرْآنَهُ)، أي: قراءته، وتسميته: قرآنا؛ كما قيل في تأويل قوله: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ)، أي: جعلناه فرقانا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨):
أي: جمعناه في قلبك، أو جمعنا حدوده، وما أودع فيه من المعاني.
أو جمعناه بعد أن فرقناه في التنزيل.
وقوله: (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) اتباعه يكون بأوجه: في أن يبلغه إلى الخلق، ويعلم أمته، ويتبع حلاله، ويجتنب حرامه، وغير ذلك.
وقوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩):
جائز أن يكون قوله: (عَلَيْنَا بَيَانَهُ)، أي: بيان ما أنزلناه إليك مجملا؛ فيكون بيانه في تعريف ما هو بحق الائتمار، وما هو في حق الجواز، وما هو في حق التحسين والتزيين؛ لأن الفرائض لها شعب وأركان وحواشٍِ.
أو نقول: فيها فرائض، ولوازم، وآداب، وأركان.
على هذا ففيه منع تعليق الحكم بظاهر المخرج؛ لأنه لو كان متعلقا به، لكان البيان منقضيا بنفس المنزل؛ فلا يحتاج إلى أن يبين، وفيه دلالة تأخير البيان عن وقت وقوع الخطاب في السمع.
الآية ١٩ : وقوله تعالى :﴿ ثم إن علينا بيانه ﴾ جائز أن يكون قوله :﴿ علينا بيانه ﴾ أي بيان ما أنزلناه مجملا، فيكون بيانه في تعريف ما هو بحق الإتمام وما هو في حق الجواز وما هو في حق التحسين والتزيين، لأن الفرائض لها شعب وأركان وحواش، أو نقول : فيها فرائض ولوازم وآداب وأركان على هذا، وفيه منع تعليق الحكم بظاهر المخرج، لأنه لو كان متعلقا به لكان البيان منقضيا بنفس المنزل، فلا يحتاج إلى أن يبين.
وفيه دلالة تأخير البيان عن وقت قرع١ الخطاب السمع، ويحتمل أن يكون قوله عز وجل :﴿ ثم إن علينا بيانه ﴾ أي بيان ما هو بحق الكنايات والنتائج منها، وما هو بحق الأصول والفروع، وما هو بحق المقصود.
فيبين لرسوله عليه السلام معنى الأصول والكنايات ليتعرف به[ على ]٢ فروعها ونتائجها، ويبين لمن بعده من جاهد في الله حق جهاده، ويهديه لذلك[ كما ]٣ قال الله تعالى :﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ﴾[ العنكبوت : ٦٩ ] أو يكون قوله :﴿ ثم إن علينا بيانه ﴾ في أن يحفظك، ويعصمك، لتتمكن من تبليغ ما أنزل إليك إلى الخلق، وتبين لهم، والله أعلم.
ووجه آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى كل من كان شاهدا من الخلائق إلى يوم التنادي، ثم لم يمكن من تبليغ الرسالة إلى كل أحد مما ذكرنا بنفسه، فكأنه ضمن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التبليغ إلى الخلائق كافة بما شاء، جل جلاله، إما بتسخير الرواة والحفّاظ والعلماء ليبلغوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدي إليهم، وإما٤ بكون قوله :﴿ ثم إن علينا بيانه ﴾ أي بيان المحق من المبطل والوليّ من العدوّ ؛ وذلك يكون يوم القيامة، فيعرف الأولياء بما يحيّون من الكرامات، ويتبين الأعداد/٦١٧ – أ/ والمبطلون ما يحل بهم من الحساب وأنواع العذاب.
١ في الأصل و م: وقوع..
٢ ساقطة من الأصل و م..
٣ ساقطة من الأصل و م..
٤ في الأصل و م: أو..
ويحتمل أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَيْنَا بَيَانَهُ) أي: بيان ما هو بحق الكنايات والنتائج منها، ما هو بحق الأصول والفروع، وما هو بحق المقصود، فبين لرسوله - عليه السلام - معنى الأصول والكنايات؛ ليتعرف به فروعها ونتائجها، ويبين لمن بعده ممن جاهد في اللَّه حق جهاده، ويهديه لذلك، قال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).
أو يكون قوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) في أن نحفظك ونعصمك من الناس؛ لتمكن من تبليغ ما أنزل إليك إلى الخلق، وتبين لهم، واللَّه أعلم.
ووجه آخر: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعث إلى كل من كان شاهدا من الخلائق إلى يوم التناد، ثم لم يمكن من تبليغ الرسالة إلى كل أحد مما ذكرنا بنفسه؛ فكأنه ضمن عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - التبليغ إلى الخلائق كافة بما شاء - جل جلاله - بتسخير الرواة والحفاظ والعلماء ليبلغوا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما أدى إليهم.
أو يكون قوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)، أي: بيان المحق من المبطل، والولي من العدو، وذلك يكون يوم القيامة؛ فيعرف الأولياء بما يجنون من الكرامات، ويبين للأعداء والمبطلين ما يحل بهم من الحساب وأنواع العذاب.
* * *
قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ).
فقوله: (كَلَّا) ردع ومنع عما سبق منهم.
وفي قوله: (بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) إبانة أن الذي حملهم على ما هم فيه من الحسبان: أن العظام لا تجمع، وأن البعث ليس بشيء - حبهم العاجلة، وذلك أنهم أولعوا بالعاجلة، وأحبوها حبا أنساهم عن الإيمان بالآخرة، أو عن النظر في الحجج والبراهين التي لو أمعنوا النظر فيها أدتهم إلى القول بالبعث، وحتى صاروا إلى ألا يرجوا الآخرة كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (٢٥):
348
ففيه بيان ما ينتهي إليه عواقب من التزم طاعة اللَّه تعالى، وآمن بالبعث والحساب، وبيان ما ينتهي إليه عواقب من تولى عن طاعته؛ فقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) جائز أن يكون أريد بها نفس الوجوه.
وجائز أن يكون أريد بها الأنفس، وتكون الوجوه كناية عنها، والذي يدل على أنه أريد بها الأنفس لا أعينها قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ)، والوجوه لا تظن ذلك، ولا تعلم به، فثبت أن ذكر الوجوه على الكناية، لا أن أريد بها أعينها، فهذا التأويل أوفق بما يقتضيه ظاهر اللفظ، وإنما صلح أن تكون الوجوه كناية عن الأنفس؛ وذلك أن النفس إذا تلذذت بأمر، ونالت شهوتها، ظهر سرور ذلك في وجهه، وإذا تألمت بأمر فاعتراها الحزن، ظهر أثر الحزن في وجهه؛ فيكون في قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) وصف لهم بما هم عليه من غاية السرور بالكرامات التي أكرموا بها حتى نضرت وجوههم بذلك.
وإذا ثبت أنهم قد نالوا الكرامات، ووصلوا إلى أنواع اللذات، لم يبق لقوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) موضع، إلا أن يصرف إلى حقيقة النظر؛ فيكون في هذا إثبات القول بالرؤية.
والثاني: أن الملوك الذين من عادتهم الاحتجاب عن الخلق، إذا قربوا إنسانا لم يحتجبوا عنه، ويكون تركهم الاحتجاب آثر إلى ذلك الذي أكرم بالتقريب من سائر ما يكرمه به؛ فجائز أن يكون اللَّه تعالى يكرم أولياءه بالنظر إليه، ويتفضل عليهم لذلك.
وجائز أن يكون قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) منصرفا إلى انتظار الثواب؛ كما قاله بعض أهل التأويل، فتنتظر ما يأتيها من التحف والكرامات حتى وصفوا بنضارة الوجوه؛ فجائز أن يكون بعد تلك الكرامات كرامات وتحف أخر لم تأتهم بعد؛ ألا ترى إلى قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) والبسور من أدنى أحوال التغير، وغاية التغير أن تسود الوجوه وتكلح؛ فإذا لم يحل بهَؤُلَاءِ بعد غاية ما أوعدوا من العذاب، فجائز أن يكون الذين وعد لهم الكرامات لم ينتهوا بعدُ إلى أقصاها، ولم ينالوا بعد أرفعها؛ وإنما أكرموا ببعضها، وهم منتظرون لما يأتيهم من بعد.
وجائز أن يكون قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، أي: نجعل نظرها فيما أكرمت إلى اللَّه تعالى، ولا ترى ذلك الفضل مستوجبا من جهتها كما قد يرى المرء في الشاهد بعض ما خول من المال بحيله وسعيه، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، أن ليس كل الكرامات في نفسه خاصة وإلى ما
349
ينتهي إليه نظره؛ بل يكون وراء ذلك كرامات أخر، فينصرف قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) إلى ذلك.
ويحتمل: أي: إلى أمر ربها ناظرة.
وإذا كان قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) محتملا أن يصرف إلى حقيقة النظر، ويصرف إلى الكرامات من الوجوه التي بيناها - لم يكن لأحد أن يجعل الأمر على الكرامات، فينفي عنه حقيقة الرؤية للأبد؛ لا بل ظاهره يُحِيلُ القول بالرؤية؛ فيدفع هذا التأويل بتلك الدلائل.
فأما إذا لم يمكنه إقامة الدلائل على إحالة الرؤية، فليس له قطع هذا التأويل، وصرف التأويل إلى انتظار الكرامات؛ فيكون الآية حجة في جواز الرؤية، وإن لم تكن حجة في الوجوب، والخلاف فيهما واحد.
واحتج من نفى صرف التأويل إلى حقيقة الرؤية بأن قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ) هو مقابل قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ)، وقوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) مقابل قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ثم لم يكن قوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) على فقد الرؤية، ولكن على العقاب نفسه؛ فكذلك قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ليس هو على حقيقة الرؤية ووجودها؛ ولكن واقع على الثواب نفسه.
وجواب هذا الفصل من وجهين:
أحدهما: أن أهل العقاب بعد لم ينزل بهم جميع ما أوعدوا في هذه الدنيا من العقاب، لما ذكرنا أن نهاية العذاب في تسود الوجوه وتكلحها، ليس في بسورها؛ فلذلك استقام أن يكون قوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) على نفس العذاب، وأهل الجنة قد وصلوا إلى رفيع الدرجات وعظيم الكرامات بما وصفوا بنضارة الوجوه؛ فاستقام أن يكون قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) منصرفا إلى حقيقة النظر، لا إلى غيره من الكرامات.
ولأن الرؤية من أعلى الكرامات وأرفعها، وأهل العقاب لم ينالوا أدنى الكرامات، فكيف يتوقعون أرفعها؟! أما أهل الجنة فهم قد نالوا من النعم والكرامات ما لا يحصى؛ فجائز أن يكرموا بالرؤية أيضا.
والأصل أن القول بالرؤية عندنا واجب، والنظر إليه ثابت؛ كما قال - عَزَّ وَجَلَّ - ولما جاء في غيرِ خبرٍ النظرُ إلى اللَّه تعالى، وقد قال - عليه السلام -: " إنكم سترون ربكم يوم
350
القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته " وأهل التوحيد لم يختلفوا في صحة الأخبار التي جاءت في إثبات الرؤية، ولكن من نفى الرؤية بالبصر صرف الأخبار إلى العلم، وذلك غير مستقيم لوجهين:
أحدهما: أن البشارة بالرؤية خص بها أهل الجنة، ولو كان المراد من الرؤية العلم، لارتفع الاختصاص؛ لأن العلم به مما يقع به الاشتراك بين الفريقين.
ولأن كلا يجمع على العلم باللَّه تعالى في الآخرة، العلم الذي لا يعتريه الوسواس ولا الريب، والعلم الذي لا يعتريه الوسواس والريب هو علم العيان والمشاهدة، لا علم الاستدلال؛ لأن الآيات لا تضطر أهلها إلى العلم الحقيقي؛ ألا ترى إلى قوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى...)، وقال: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وقال: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ)، فإذا ثبت ما ذكرنا، فقد صاروا مثبتين للرؤية من الوجه الذي أرادوا نفيها؛ فتثبت الرؤية على نفي جميع معاني الشبه عن اللَّه تعالى، ولا نصف الرؤية بالكيفية؛ إذ الكيفية تكون لذي صورة؛ وهو يُرى بلا كيف، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) جائز أن يكون الظن في موضع العلم هاهنا.
وجائز أن يكون على حقيقة الظن، وذلك أن الظن يتولد من ظواهر الأشياء، فالأسباب إذا كثرت، وازدحمت، وقع بها العلم، وإذا قلت وخفيت، لم يقع بها علم؛ فجائز أن تكون أسباب الشر أحاطت به من كل جانب حتى وقع له اليأس من النجاة، وأيقن أنه يفعل به الشر.
وجائز أن يكون الأمر بعد لم يبلغ مبلغ الإياس؛ فيتوقع النجاة، ولا يتيقن أن يفعل به فاقرة، بل يكون منه على ظن، واللَّه أعلم.
والفاقرة: قيل: الشر، والمنكر، والداهية.
وقيل: الفقير: هو كسير الظهر، والفقر: الكسر، والفقار: عظم في الظهر يكسر، فكأن عظم الظهر يكسر في الآخرة ويسحب في النار على وجهه.
351
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٠:الآيتان ٢٠و٢١ : وقوله تعالى :﴿ كلا بل تحبون العاجلة ﴾﴿ وتذرون الآخرة ﴾ يقول :﴿ كلا ﴾ ردع ومنع عما سبق منهم. وفي قوله :﴿ بل تحبون العاجلة ﴾ إبانة أن الذي حملهم على ما هم فيه من الحسبان أن العظام، لا تجمع، وأن البعث، ليس بشيء، وحبهم١ العاجلة ؛ وذلك أنهم أولعوا بالعاجلة، وأحبوها حبا أنساهم الإيمان٢ بالآخرة والنظر٣ في الحجج والبراهين التي لو أمعنوا النظر فيها أدّتهم إلى القول بالبعث، حتى صاروا إلى ألا يرجوا الآخرة كقوله :﴿ إن الذين لا يرجون لقاءنا ﴾الآية[ يونس : ٧ ].
١ الواو ساقطة من الأصل و م..
٢ أدرج قبلها في الأصل و م: عن..
٣ في الأصل و م: أو عن النظر..

الآيات ٢٢و٢٣و٢٤و٢٥ : وقوله تعالى :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ ﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ ﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ [ يحتمل وجوها :
أحدها ]١ : ما تنتهي إليه عواقب من التزم طاعة الله، وآمن بالبعث والحساب، وبيان ما تنتهي إليه عواقب من تولى عن طاعته.
فقوله :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ جائز أن يكون أريد بها الأنفس، وتكون الوجوه كناية عنها. والذي يدل على أنه أريد بها الأنفس لا أعينها قوله :﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ والوجوه لا تظن ذلك، ولا تعلم له. فثبت أن ذكر الوجوه على الكناية لا أن يريد بها أعينها. فهذا التأويل أوفق بما يقتضيه ظاهر اللفظ. وإنما صلح أن تكون الوجوه كناية عن الأنفس ؛ وذلك أن النفس إذا تلذذت بأمر، ونالت شهوتها، ظهر سرور ذلك في وجهه، وإذا تألمت بأمر، واعتراها الحزن ظهر أثر الحزن في وجهه.
فيكون في قوله :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ وصف لهم بما هم عليه من غاية السرور بالكرامات التي أكرموا بها حتى نضرت وجوههم بذلك.
فإذا ثبت أنهم قد نالوا الكرامات، ووصلوا إلى أنواع الملذات، لم يبق لقوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ موضع إلا أن يصرف إلى حقيقة النظر، فيكون في هذا إثبات القول بالرؤية.
والثاني : أن الملوك الذين من عادتهم الاحتجاب عن الخلق إذا قربوا إنسانا، لم يحتجبوا عنه، ويكون تركهم٢ الاحتجاب آثر إلى ذلك الذي أكرم بالتقريب من سائر ما يكرم به.
فجائز أن يكون الله تعالى يكرم أولياءه بالنظر إليه، ويتفضل عليهم بذلك.
[ والثالث ]٣ : جائز أن يكون قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ منصرفا إلى انتظار الثواب كما قاله بعض أهل التأويل، فتنتظر ما يأتيها من التحف والكرامات حتى وصفوا بنضارة الوجوه، وجائز أن يكون بعد تلك الكرامات تحف أخر، لم تأتهم بعد.
ألا ترى إلى قوله :﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ ؟ والبسور من أدنى أحوال التغير، وغاية التغير أن تسود الوجوه، وتكلح. فإذا لم يحل بهؤلاء بعد غاية ما أوعدوا من العذاب، فجائز أن يكون الذين وعد لهم الكرامات، بعد لم ينتهوا إلى أقصاها، ولم ينالوا بعد أرفعها، وإنما أكرموا ببعضها، وهم منتظرون لما يأتيهم من بعد.
[ والرابع ]٤ : جائز أن يكون قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ أن يجعلها ناظرة٥ في ما أكرمت إلى الله تعالى، ولا ترى ذلك الفضل مستوجبا من جهتها كما قد يرى المرء في الشاهد بعض ما خول من المال بحيله وسعيه، والله أعلم.
[ والخامس ]٦ : جائز أن يكون قوله﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ أن ليس كل الكرامات في نفسه خاصة وإلى ما ينتهي إليه نظره، بل يكون قدر٧ ذلك كرامات أخر، فينصرف قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ إلى ذلك.
[ والسادس : جائز أن يكون ]٨ : إلى أمر ربها ناظرة.
وإذا كان قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ محتملا أن يصرف إلى حقيقة النظر، ويصرف إلى الكرامات من الوجوه التي بيّنّاها، لم يكن لأحد أن يجعل الأمر على الكرامات، فينفي عنه حقيقة الرؤية للأبد، لا بل ظاهره يحيل القول بالرؤية، فيدفع هذا التأويل بتلك الدلائل.
فأما إذا لم يمكنه إقامة الدلائل إلى حالة الرؤية فليس له قطع هذا التأويل، وصرف التأويل إلى انتظار الكرامات، فتكون الآية حجة في جواز[ الرؤية ]٩ وإن لم تكن حجة في الوجوب١٠، والخلاف فيهما واحد.
واحتج من صرف التأويل إلى حقيقة الرؤية أن قوله :﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ هو مقابل قوله :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ وقوله :﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾[ لا ]١١ على فقد الرؤية، ولكن على العقاب نفسه.
فكذلك قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ ليس هو على حقيقة الرؤية ووجودها، ولكن واقع على الثواب نفسه.
وجواب هذا الفصل من وجهين :
أحدهما : أن أهل العقاب بعد لم ينزل بهم جميع ما أوعدوا في هذه الدنيا من العقاب لما ذكرنا أن نهاية العذاب في تسوّد الوجوه وتكلّحها، ليس في بسورها. فلذلك استقام أن يكون قوله :﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ على نفس العذاب.
[ والثاني : أن ]١٢ أهل الجنة قد وصلوا إلى رفيع الدرجات وعظيم الكرامات، فوصفوا١٣ بنضارة الوجوه، فاستقام أن يكون قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ منصرفا إلى رفيع حقيقة النظر لا إلى غيره من الكرامات.
ولأن الرؤية[ من أعلى الكرامات وأرفعها، وأهل العقاب لم ينالوا أدنى الكرامات، فكيف يتوقعون أرفعا ؟.
أما أهل الجنة فهم قد نالوا من النعم والكرامات ما لا يحصى، فجائز أن يكرموا بالرؤية ]١٤ أيضا.
والأصل أن القول بالرؤية عندنا واجب، والنظر إليه ثابت كما قال عز وجل :﴿ جاء أمرنا ﴾[ هود : ٤٠و. . . ] في غير خبر النظر إلى الله تعالى، وقد قال عليه السلام :( إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته )[ البخاري : ٦٥٧٣ ومسلم ١٨٢/٢٩٩ ].
وأهل التوحيد لم يختلفوا في صحة الأخبار التي جاءت في إثبات الرؤية. ولكن من نفى الرؤية بالبصر صرف الأخبار إلى العلم ؛ وذلك غير مستقيم لوجهين :
أحدهما : أن البشارة بالرؤية خص بها أهل الجنة. ولو كان المراد من الرؤية العلم لارتفع الاختصاص.
[ والثاني ]١٥ : لأن العلم مما يقع به الاشتراك بين الفريقين، ولأن كلا[ منهما ]١٦ يجمع على١٧ العلم بالله تعالى في الآخرة العلم الذي لا يعتريه الوسواس ولا الريب.
والعلم الذي لا يعتريه الوسواس والريب هو علم الاستدلال لأن الآيات لا يضطر أهلها إلى الحقيقي. ألا ترى إلى قوله :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ﴾[ النعام : ١١١ ] وقوله١٨ :﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ﴾[ الأنعام : ٢٣ ] وقوله١٩ :﴿ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ﴾ ؟ [ المجادلة : ١٨ ].
فإذا ثبت ما ذكرنا فقد صاروا مثبتين للرؤية من[ الوجوه التي ]٢٠ أرادوا نفيها، وثبتت الرؤية على نفي جميع معاني الشبه عن الله تعالى، ولا نصف الرؤية بالكيفية ؛ إذ الكيفية تكون لذي صورة، وهو يرى بلا كيف ؟ والله الموفق.
وقوله تعالى :﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ فجائز أن يكون الظن في موضع العلم ههنا، وجائز أن يكون على حقيقة الظنّ ؛ وذلك أن الظن يتولد من ظواهر الأشياء، فالأسباب إذا كثرت، وازدحمت، وقع بها العلم، وإذا قلت، وخفيت، لم يقع بها علم. فجائز أن تكون أسباب الشر أحاطت به من كل جانب حتى وقع البأس من النجاة، وأيقن أنه يفعل به الشر.
وجائز أن يكون الأمر٢١ بعد لم يبلغ مبلغ الإياس، فيتوقع النجاة، ولا يتيقن أنه يفعل بها فاقرة، بل يكون منه ظن، والله أعلم.
والفاقرة : قيل : الشر والمنكر والداهية، وقيل : الفقير هو كسير الظهر، والفقر الكسر، والفقار عظم في الظهر يكسر. فكان عظم الظهر يكسر في الآخرة، ويسحب في النار على وجهه.
قال : رحمه الله : كأن هذه السورة من أولها إلى/ ٦١٧ – ب/ أخرها إلا آيات منها، وهي٢٢ قوله تعالى :﴿ بل تحبون العاجلة ﴾ ﴿ وتذرون الآخرة ﴾ ﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ ﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ ﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ [ الآيات : ٢٠ -٢٥ ].
نزلت في تبيين معاملة أحد من الكفرة على الإشارة٢٣ إليه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشترك في حكم من يشاركه في معاملته.
فأمر الله نبيه عليه السلام أن يعامله، ويستقبله بالذي[ يحق ]٢٤ على الحكماء معاملة السفهاء، ولم يأمره أن يعامله [ مثل معاملة ]٢٥ السفهاء. وبين معاملته في هذه السورة ليعلم أمته ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهد والبلاء في إظهار دين الله تعالى، فيعلموا قدره ومنزلته، ويعظموا دين الله تعالى بما نالوه سمحا وسهلا.
وأمره أن يعامل[ من ]٢٦ معه معاملة من يرجع إلى المنعة والشركة بقوله :﴿ أولى لك فأولى ﴾ ﴿ ثم أولى لك فأولى ﴾[ الآيتان : ٣٤و٣٥ ] والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ في الأصل و م: بركة..
٣ في الأصل و م: و..
٤ في الأصل و م: و..
٥ في الأصل و م: و..
٦ في الأصل و م: و..
٧ في م: بعد..
٨ في الأصل و م: ويحتمل أي..
٩ من م، ساقطة من الأصل..
١٠ في الأصل و م: الوجوه..
١١ ساقطة من الأصل و م..
١٢ في الأصل و م: و..
١٣ من م، ساقطة من الأصل..
١٤ من م، ساقطة من الأصل..
١٥ ساقطة من الأصل و م..
١٦ ساقطة من الأصل و م..
١٧ من م، في الأصل: علم..
١٨ في الأصل و م: وقال..
١٩ في الأصل و م: وقال..
٢٠ في الأصل و م: الوجه الذي..
٢١ من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: الأمن..
٢٢ في الأصل و م: وهو..
٢٣ من م، في الأصل: الاستتارة..
٢٤ من م، ساقطة من الأصل..
٢٥ في الأصل و م: مثله من..
٢٦ ساقطة من الأصل و م..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:الآيات ٢٢و٢٣و٢٤و٢٥ : وقوله تعالى :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ ﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ ﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ [ يحتمل وجوها :
أحدها ]١ : ما تنتهي إليه عواقب من التزم طاعة الله، وآمن بالبعث والحساب، وبيان ما تنتهي إليه عواقب من تولى عن طاعته.
فقوله :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ جائز أن يكون أريد بها الأنفس، وتكون الوجوه كناية عنها. والذي يدل على أنه أريد بها الأنفس لا أعينها قوله :﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ والوجوه لا تظن ذلك، ولا تعلم له. فثبت أن ذكر الوجوه على الكناية لا أن يريد بها أعينها. فهذا التأويل أوفق بما يقتضيه ظاهر اللفظ. وإنما صلح أن تكون الوجوه كناية عن الأنفس ؛ وذلك أن النفس إذا تلذذت بأمر، ونالت شهوتها، ظهر سرور ذلك في وجهه، وإذا تألمت بأمر، واعتراها الحزن ظهر أثر الحزن في وجهه.
فيكون في قوله :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ وصف لهم بما هم عليه من غاية السرور بالكرامات التي أكرموا بها حتى نضرت وجوههم بذلك.
فإذا ثبت أنهم قد نالوا الكرامات، ووصلوا إلى أنواع الملذات، لم يبق لقوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ موضع إلا أن يصرف إلى حقيقة النظر، فيكون في هذا إثبات القول بالرؤية.
والثاني : أن الملوك الذين من عادتهم الاحتجاب عن الخلق إذا قربوا إنسانا، لم يحتجبوا عنه، ويكون تركهم٢ الاحتجاب آثر إلى ذلك الذي أكرم بالتقريب من سائر ما يكرم به.
فجائز أن يكون الله تعالى يكرم أولياءه بالنظر إليه، ويتفضل عليهم بذلك.
[ والثالث ]٣ : جائز أن يكون قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ منصرفا إلى انتظار الثواب كما قاله بعض أهل التأويل، فتنتظر ما يأتيها من التحف والكرامات حتى وصفوا بنضارة الوجوه، وجائز أن يكون بعد تلك الكرامات تحف أخر، لم تأتهم بعد.
ألا ترى إلى قوله :﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ ؟ والبسور من أدنى أحوال التغير، وغاية التغير أن تسود الوجوه، وتكلح. فإذا لم يحل بهؤلاء بعد غاية ما أوعدوا من العذاب، فجائز أن يكون الذين وعد لهم الكرامات، بعد لم ينتهوا إلى أقصاها، ولم ينالوا بعد أرفعها، وإنما أكرموا ببعضها، وهم منتظرون لما يأتيهم من بعد.
[ والرابع ]٤ : جائز أن يكون قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ أن يجعلها ناظرة٥ في ما أكرمت إلى الله تعالى، ولا ترى ذلك الفضل مستوجبا من جهتها كما قد يرى المرء في الشاهد بعض ما خول من المال بحيله وسعيه، والله أعلم.
[ والخامس ]٦ : جائز أن يكون قوله﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ أن ليس كل الكرامات في نفسه خاصة وإلى ما ينتهي إليه نظره، بل يكون قدر٧ ذلك كرامات أخر، فينصرف قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ إلى ذلك.
[ والسادس : جائز أن يكون ]٨ : إلى أمر ربها ناظرة.
وإذا كان قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ محتملا أن يصرف إلى حقيقة النظر، ويصرف إلى الكرامات من الوجوه التي بيّنّاها، لم يكن لأحد أن يجعل الأمر على الكرامات، فينفي عنه حقيقة الرؤية للأبد، لا بل ظاهره يحيل القول بالرؤية، فيدفع هذا التأويل بتلك الدلائل.
فأما إذا لم يمكنه إقامة الدلائل إلى حالة الرؤية فليس له قطع هذا التأويل، وصرف التأويل إلى انتظار الكرامات، فتكون الآية حجة في جواز[ الرؤية ]٩ وإن لم تكن حجة في الوجوب١٠، والخلاف فيهما واحد.
واحتج من صرف التأويل إلى حقيقة الرؤية أن قوله :﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ هو مقابل قوله :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ وقوله :﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾[ لا ]١١ على فقد الرؤية، ولكن على العقاب نفسه.
فكذلك قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ ليس هو على حقيقة الرؤية ووجودها، ولكن واقع على الثواب نفسه.

وجواب هذا الفصل من وجهين :

أحدهما : أن أهل العقاب بعد لم ينزل بهم جميع ما أوعدوا في هذه الدنيا من العقاب لما ذكرنا أن نهاية العذاب في تسوّد الوجوه وتكلّحها، ليس في بسورها. فلذلك استقام أن يكون قوله :﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ على نفس العذاب.
[ والثاني : أن ]١٢ أهل الجنة قد وصلوا إلى رفيع الدرجات وعظيم الكرامات، فوصفوا١٣ بنضارة الوجوه، فاستقام أن يكون قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ منصرفا إلى رفيع حقيقة النظر لا إلى غيره من الكرامات.
ولأن الرؤية[ من أعلى الكرامات وأرفعها، وأهل العقاب لم ينالوا أدنى الكرامات، فكيف يتوقعون أرفعا ؟.
أما أهل الجنة فهم قد نالوا من النعم والكرامات ما لا يحصى، فجائز أن يكرموا بالرؤية ]١٤ أيضا.
والأصل أن القول بالرؤية عندنا واجب، والنظر إليه ثابت كما قال عز وجل :﴿ جاء أمرنا ﴾[ هود : ٤٠و... ] في غير خبر النظر إلى الله تعالى، وقد قال عليه السلام :( إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته )[ البخاري : ٦٥٧٣ ومسلم ١٨٢/٢٩٩ ].
وأهل التوحيد لم يختلفوا في صحة الأخبار التي جاءت في إثبات الرؤية. ولكن من نفى الرؤية بالبصر صرف الأخبار إلى العلم ؛ وذلك غير مستقيم لوجهين :
أحدهما : أن البشارة بالرؤية خص بها أهل الجنة. ولو كان المراد من الرؤية العلم لارتفع الاختصاص.
[ والثاني ]١٥ : لأن العلم مما يقع به الاشتراك بين الفريقين، ولأن كلا[ منهما ]١٦ يجمع على١٧ العلم بالله تعالى في الآخرة العلم الذي لا يعتريه الوسواس ولا الريب.
والعلم الذي لا يعتريه الوسواس والريب هو علم الاستدلال لأن الآيات لا يضطر أهلها إلى الحقيقي. ألا ترى إلى قوله :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ﴾[ النعام : ١١١ ] وقوله١٨ :﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ﴾[ الأنعام : ٢٣ ] وقوله١٩ :﴿ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ﴾ ؟ [ المجادلة : ١٨ ].
فإذا ثبت ما ذكرنا فقد صاروا مثبتين للرؤية من[ الوجوه التي ]٢٠ أرادوا نفيها، وثبتت الرؤية على نفي جميع معاني الشبه عن الله تعالى، ولا نصف الرؤية بالكيفية ؛ إذ الكيفية تكون لذي صورة، وهو يرى بلا كيف ؟ والله الموفق.
وقوله تعالى :﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ فجائز أن يكون الظن في موضع العلم ههنا، وجائز أن يكون على حقيقة الظنّ ؛ وذلك أن الظن يتولد من ظواهر الأشياء، فالأسباب إذا كثرت، وازدحمت، وقع بها العلم، وإذا قلت، وخفيت، لم يقع بها علم. فجائز أن تكون أسباب الشر أحاطت به من كل جانب حتى وقع البأس من النجاة، وأيقن أنه يفعل به الشر.
وجائز أن يكون الأمر٢١ بعد لم يبلغ مبلغ الإياس، فيتوقع النجاة، ولا يتيقن أنه يفعل بها فاقرة، بل يكون منه ظن، والله أعلم.
والفاقرة : قيل : الشر والمنكر والداهية، وقيل : الفقير هو كسير الظهر، والفقر الكسر، والفقار عظم في الظهر يكسر. فكان عظم الظهر يكسر في الآخرة، ويسحب في النار على وجهه.
قال : رحمه الله : كأن هذه السورة من أولها إلى/ ٦١٧ – ب/ أخرها إلا آيات منها، وهي٢٢ قوله تعالى :﴿ بل تحبون العاجلة ﴾ ﴿ وتذرون الآخرة ﴾ ﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ ﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ ﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ [ الآيات : ٢٠ -٢٥ ].
نزلت في تبيين معاملة أحد من الكفرة على الإشارة٢٣ إليه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشترك في حكم من يشاركه في معاملته.
فأمر الله نبيه عليه السلام أن يعامله، ويستقبله بالذي[ يحق ]٢٤ على الحكماء معاملة السفهاء، ولم يأمره أن يعامله [ مثل معاملة ]٢٥ السفهاء. وبين معاملته في هذه السورة ليعلم أمته ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهد والبلاء في إظهار دين الله تعالى، فيعلموا قدره ومنزلته، ويعظموا دين الله تعالى بما نالوه سمحا وسهلا.
وأمره أن يعامل[ من ]٢٦ معه معاملة من يرجع إلى المنعة والشركة بقوله :﴿ أولى لك فأولى ﴾ ﴿ ثم أولى لك فأولى ﴾[ الآيتان : ٣٤و٣٥ ] والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ في الأصل و م: بركة..
٣ في الأصل و م: و..
٤ في الأصل و م: و..
٥ في الأصل و م: و..
٦ في الأصل و م: و..
٧ في م: بعد..
٨ في الأصل و م: ويحتمل أي..
٩ من م، ساقطة من الأصل..
١٠ في الأصل و م: الوجوه..
١١ ساقطة من الأصل و م..
١٢ في الأصل و م: و..
١٣ من م، ساقطة من الأصل..
١٤ من م، ساقطة من الأصل..
١٥ ساقطة من الأصل و م..
١٦ ساقطة من الأصل و م..
١٧ من م، في الأصل: علم..
١٨ في الأصل و م: وقال..
١٩ في الأصل و م: وقال..
٢٠ في الأصل و م: الوجه الذي..
٢١ من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: الأمن..
٢٢ في الأصل و م: وهو..
٢٣ من م، في الأصل: الاستتارة..
٢٤ من م، ساقطة من الأصل..
٢٥ في الأصل و م: مثله من..
٢٦ ساقطة من الأصل و م..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:الآيات ٢٢و٢٣و٢٤و٢٥ : وقوله تعالى :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ ﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ ﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ [ يحتمل وجوها :
أحدها ]١ : ما تنتهي إليه عواقب من التزم طاعة الله، وآمن بالبعث والحساب، وبيان ما تنتهي إليه عواقب من تولى عن طاعته.
فقوله :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ جائز أن يكون أريد بها الأنفس، وتكون الوجوه كناية عنها. والذي يدل على أنه أريد بها الأنفس لا أعينها قوله :﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ والوجوه لا تظن ذلك، ولا تعلم له. فثبت أن ذكر الوجوه على الكناية لا أن يريد بها أعينها. فهذا التأويل أوفق بما يقتضيه ظاهر اللفظ. وإنما صلح أن تكون الوجوه كناية عن الأنفس ؛ وذلك أن النفس إذا تلذذت بأمر، ونالت شهوتها، ظهر سرور ذلك في وجهه، وإذا تألمت بأمر، واعتراها الحزن ظهر أثر الحزن في وجهه.
فيكون في قوله :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ وصف لهم بما هم عليه من غاية السرور بالكرامات التي أكرموا بها حتى نضرت وجوههم بذلك.
فإذا ثبت أنهم قد نالوا الكرامات، ووصلوا إلى أنواع الملذات، لم يبق لقوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ موضع إلا أن يصرف إلى حقيقة النظر، فيكون في هذا إثبات القول بالرؤية.
والثاني : أن الملوك الذين من عادتهم الاحتجاب عن الخلق إذا قربوا إنسانا، لم يحتجبوا عنه، ويكون تركهم٢ الاحتجاب آثر إلى ذلك الذي أكرم بالتقريب من سائر ما يكرم به.
فجائز أن يكون الله تعالى يكرم أولياءه بالنظر إليه، ويتفضل عليهم بذلك.
[ والثالث ]٣ : جائز أن يكون قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ منصرفا إلى انتظار الثواب كما قاله بعض أهل التأويل، فتنتظر ما يأتيها من التحف والكرامات حتى وصفوا بنضارة الوجوه، وجائز أن يكون بعد تلك الكرامات تحف أخر، لم تأتهم بعد.
ألا ترى إلى قوله :﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ ؟ والبسور من أدنى أحوال التغير، وغاية التغير أن تسود الوجوه، وتكلح. فإذا لم يحل بهؤلاء بعد غاية ما أوعدوا من العذاب، فجائز أن يكون الذين وعد لهم الكرامات، بعد لم ينتهوا إلى أقصاها، ولم ينالوا بعد أرفعها، وإنما أكرموا ببعضها، وهم منتظرون لما يأتيهم من بعد.
[ والرابع ]٤ : جائز أن يكون قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ أن يجعلها ناظرة٥ في ما أكرمت إلى الله تعالى، ولا ترى ذلك الفضل مستوجبا من جهتها كما قد يرى المرء في الشاهد بعض ما خول من المال بحيله وسعيه، والله أعلم.
[ والخامس ]٦ : جائز أن يكون قوله﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ أن ليس كل الكرامات في نفسه خاصة وإلى ما ينتهي إليه نظره، بل يكون قدر٧ ذلك كرامات أخر، فينصرف قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ إلى ذلك.
[ والسادس : جائز أن يكون ]٨ : إلى أمر ربها ناظرة.
وإذا كان قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ محتملا أن يصرف إلى حقيقة النظر، ويصرف إلى الكرامات من الوجوه التي بيّنّاها، لم يكن لأحد أن يجعل الأمر على الكرامات، فينفي عنه حقيقة الرؤية للأبد، لا بل ظاهره يحيل القول بالرؤية، فيدفع هذا التأويل بتلك الدلائل.
فأما إذا لم يمكنه إقامة الدلائل إلى حالة الرؤية فليس له قطع هذا التأويل، وصرف التأويل إلى انتظار الكرامات، فتكون الآية حجة في جواز[ الرؤية ]٩ وإن لم تكن حجة في الوجوب١٠، والخلاف فيهما واحد.
واحتج من صرف التأويل إلى حقيقة الرؤية أن قوله :﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ هو مقابل قوله :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ وقوله :﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾[ لا ]١١ على فقد الرؤية، ولكن على العقاب نفسه.
فكذلك قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ ليس هو على حقيقة الرؤية ووجودها، ولكن واقع على الثواب نفسه.

وجواب هذا الفصل من وجهين :

أحدهما : أن أهل العقاب بعد لم ينزل بهم جميع ما أوعدوا في هذه الدنيا من العقاب لما ذكرنا أن نهاية العذاب في تسوّد الوجوه وتكلّحها، ليس في بسورها. فلذلك استقام أن يكون قوله :﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ على نفس العذاب.
[ والثاني : أن ]١٢ أهل الجنة قد وصلوا إلى رفيع الدرجات وعظيم الكرامات، فوصفوا١٣ بنضارة الوجوه، فاستقام أن يكون قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ منصرفا إلى رفيع حقيقة النظر لا إلى غيره من الكرامات.
ولأن الرؤية[ من أعلى الكرامات وأرفعها، وأهل العقاب لم ينالوا أدنى الكرامات، فكيف يتوقعون أرفعا ؟.
أما أهل الجنة فهم قد نالوا من النعم والكرامات ما لا يحصى، فجائز أن يكرموا بالرؤية ]١٤ أيضا.
والأصل أن القول بالرؤية عندنا واجب، والنظر إليه ثابت كما قال عز وجل :﴿ جاء أمرنا ﴾[ هود : ٤٠و... ] في غير خبر النظر إلى الله تعالى، وقد قال عليه السلام :( إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته )[ البخاري : ٦٥٧٣ ومسلم ١٨٢/٢٩٩ ].
وأهل التوحيد لم يختلفوا في صحة الأخبار التي جاءت في إثبات الرؤية. ولكن من نفى الرؤية بالبصر صرف الأخبار إلى العلم ؛ وذلك غير مستقيم لوجهين :
أحدهما : أن البشارة بالرؤية خص بها أهل الجنة. ولو كان المراد من الرؤية العلم لارتفع الاختصاص.
[ والثاني ]١٥ : لأن العلم مما يقع به الاشتراك بين الفريقين، ولأن كلا[ منهما ]١٦ يجمع على١٧ العلم بالله تعالى في الآخرة العلم الذي لا يعتريه الوسواس ولا الريب.
والعلم الذي لا يعتريه الوسواس والريب هو علم الاستدلال لأن الآيات لا يضطر أهلها إلى الحقيقي. ألا ترى إلى قوله :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ﴾[ النعام : ١١١ ] وقوله١٨ :﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ﴾[ الأنعام : ٢٣ ] وقوله١٩ :﴿ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ﴾ ؟ [ المجادلة : ١٨ ].
فإذا ثبت ما ذكرنا فقد صاروا مثبتين للرؤية من[ الوجوه التي ]٢٠ أرادوا نفيها، وثبتت الرؤية على نفي جميع معاني الشبه عن الله تعالى، ولا نصف الرؤية بالكيفية ؛ إذ الكيفية تكون لذي صورة، وهو يرى بلا كيف ؟ والله الموفق.
وقوله تعالى :﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ فجائز أن يكون الظن في موضع العلم ههنا، وجائز أن يكون على حقيقة الظنّ ؛ وذلك أن الظن يتولد من ظواهر الأشياء، فالأسباب إذا كثرت، وازدحمت، وقع بها العلم، وإذا قلت، وخفيت، لم يقع بها علم. فجائز أن تكون أسباب الشر أحاطت به من كل جانب حتى وقع البأس من النجاة، وأيقن أنه يفعل به الشر.
وجائز أن يكون الأمر٢١ بعد لم يبلغ مبلغ الإياس، فيتوقع النجاة، ولا يتيقن أنه يفعل بها فاقرة، بل يكون منه ظن، والله أعلم.
والفاقرة : قيل : الشر والمنكر والداهية، وقيل : الفقير هو كسير الظهر، والفقر الكسر، والفقار عظم في الظهر يكسر. فكان عظم الظهر يكسر في الآخرة، ويسحب في النار على وجهه.
قال : رحمه الله : كأن هذه السورة من أولها إلى/ ٦١٧ – ب/ أخرها إلا آيات منها، وهي٢٢ قوله تعالى :﴿ بل تحبون العاجلة ﴾ ﴿ وتذرون الآخرة ﴾ ﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ ﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ ﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ [ الآيات : ٢٠ -٢٥ ].
نزلت في تبيين معاملة أحد من الكفرة على الإشارة٢٣ إليه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشترك في حكم من يشاركه في معاملته.
فأمر الله نبيه عليه السلام أن يعامله، ويستقبله بالذي[ يحق ]٢٤ على الحكماء معاملة السفهاء، ولم يأمره أن يعامله [ مثل معاملة ]٢٥ السفهاء. وبين معاملته في هذه السورة ليعلم أمته ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهد والبلاء في إظهار دين الله تعالى، فيعلموا قدره ومنزلته، ويعظموا دين الله تعالى بما نالوه سمحا وسهلا.
وأمره أن يعامل[ من ]٢٦ معه معاملة من يرجع إلى المنعة والشركة بقوله :﴿ أولى لك فأولى ﴾ ﴿ ثم أولى لك فأولى ﴾[ الآيتان : ٣٤و٣٥ ] والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ في الأصل و م: بركة..
٣ في الأصل و م: و..
٤ في الأصل و م: و..
٥ في الأصل و م: و..
٦ في الأصل و م: و..
٧ في م: بعد..
٨ في الأصل و م: ويحتمل أي..
٩ من م، ساقطة من الأصل..
١٠ في الأصل و م: الوجوه..
١١ ساقطة من الأصل و م..
١٢ في الأصل و م: و..
١٣ من م، ساقطة من الأصل..
١٤ من م، ساقطة من الأصل..
١٥ ساقطة من الأصل و م..
١٦ ساقطة من الأصل و م..
١٧ من م، في الأصل: علم..
١٨ في الأصل و م: وقال..
١٩ في الأصل و م: وقال..
٢٠ في الأصل و م: الوجه الذي..
٢١ من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: الأمن..
٢٢ في الأصل و م: وهو..
٢٣ من م، في الأصل: الاستتارة..
٢٤ من م، ساقطة من الأصل..
٢٥ في الأصل و م: مثله من..
٢٦ ساقطة من الأصل و م..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:الآيات ٢٢و٢٣و٢٤و٢٥ : وقوله تعالى :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ ﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ ﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ [ يحتمل وجوها :
أحدها ]١ : ما تنتهي إليه عواقب من التزم طاعة الله، وآمن بالبعث والحساب، وبيان ما تنتهي إليه عواقب من تولى عن طاعته.
فقوله :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ جائز أن يكون أريد بها الأنفس، وتكون الوجوه كناية عنها. والذي يدل على أنه أريد بها الأنفس لا أعينها قوله :﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ والوجوه لا تظن ذلك، ولا تعلم له. فثبت أن ذكر الوجوه على الكناية لا أن يريد بها أعينها. فهذا التأويل أوفق بما يقتضيه ظاهر اللفظ. وإنما صلح أن تكون الوجوه كناية عن الأنفس ؛ وذلك أن النفس إذا تلذذت بأمر، ونالت شهوتها، ظهر سرور ذلك في وجهه، وإذا تألمت بأمر، واعتراها الحزن ظهر أثر الحزن في وجهه.
فيكون في قوله :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ وصف لهم بما هم عليه من غاية السرور بالكرامات التي أكرموا بها حتى نضرت وجوههم بذلك.
فإذا ثبت أنهم قد نالوا الكرامات، ووصلوا إلى أنواع الملذات، لم يبق لقوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ موضع إلا أن يصرف إلى حقيقة النظر، فيكون في هذا إثبات القول بالرؤية.
والثاني : أن الملوك الذين من عادتهم الاحتجاب عن الخلق إذا قربوا إنسانا، لم يحتجبوا عنه، ويكون تركهم٢ الاحتجاب آثر إلى ذلك الذي أكرم بالتقريب من سائر ما يكرم به.
فجائز أن يكون الله تعالى يكرم أولياءه بالنظر إليه، ويتفضل عليهم بذلك.
[ والثالث ]٣ : جائز أن يكون قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ منصرفا إلى انتظار الثواب كما قاله بعض أهل التأويل، فتنتظر ما يأتيها من التحف والكرامات حتى وصفوا بنضارة الوجوه، وجائز أن يكون بعد تلك الكرامات تحف أخر، لم تأتهم بعد.
ألا ترى إلى قوله :﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ ؟ والبسور من أدنى أحوال التغير، وغاية التغير أن تسود الوجوه، وتكلح. فإذا لم يحل بهؤلاء بعد غاية ما أوعدوا من العذاب، فجائز أن يكون الذين وعد لهم الكرامات، بعد لم ينتهوا إلى أقصاها، ولم ينالوا بعد أرفعها، وإنما أكرموا ببعضها، وهم منتظرون لما يأتيهم من بعد.
[ والرابع ]٤ : جائز أن يكون قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ أن يجعلها ناظرة٥ في ما أكرمت إلى الله تعالى، ولا ترى ذلك الفضل مستوجبا من جهتها كما قد يرى المرء في الشاهد بعض ما خول من المال بحيله وسعيه، والله أعلم.
[ والخامس ]٦ : جائز أن يكون قوله﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ أن ليس كل الكرامات في نفسه خاصة وإلى ما ينتهي إليه نظره، بل يكون قدر٧ ذلك كرامات أخر، فينصرف قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ إلى ذلك.
[ والسادس : جائز أن يكون ]٨ : إلى أمر ربها ناظرة.
وإذا كان قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ محتملا أن يصرف إلى حقيقة النظر، ويصرف إلى الكرامات من الوجوه التي بيّنّاها، لم يكن لأحد أن يجعل الأمر على الكرامات، فينفي عنه حقيقة الرؤية للأبد، لا بل ظاهره يحيل القول بالرؤية، فيدفع هذا التأويل بتلك الدلائل.
فأما إذا لم يمكنه إقامة الدلائل إلى حالة الرؤية فليس له قطع هذا التأويل، وصرف التأويل إلى انتظار الكرامات، فتكون الآية حجة في جواز[ الرؤية ]٩ وإن لم تكن حجة في الوجوب١٠، والخلاف فيهما واحد.
واحتج من صرف التأويل إلى حقيقة الرؤية أن قوله :﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ هو مقابل قوله :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ وقوله :﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾[ لا ]١١ على فقد الرؤية، ولكن على العقاب نفسه.
فكذلك قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ ليس هو على حقيقة الرؤية ووجودها، ولكن واقع على الثواب نفسه.

وجواب هذا الفصل من وجهين :

أحدهما : أن أهل العقاب بعد لم ينزل بهم جميع ما أوعدوا في هذه الدنيا من العقاب لما ذكرنا أن نهاية العذاب في تسوّد الوجوه وتكلّحها، ليس في بسورها. فلذلك استقام أن يكون قوله :﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ على نفس العذاب.
[ والثاني : أن ]١٢ أهل الجنة قد وصلوا إلى رفيع الدرجات وعظيم الكرامات، فوصفوا١٣ بنضارة الوجوه، فاستقام أن يكون قوله :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ منصرفا إلى رفيع حقيقة النظر لا إلى غيره من الكرامات.
ولأن الرؤية[ من أعلى الكرامات وأرفعها، وأهل العقاب لم ينالوا أدنى الكرامات، فكيف يتوقعون أرفعا ؟.
أما أهل الجنة فهم قد نالوا من النعم والكرامات ما لا يحصى، فجائز أن يكرموا بالرؤية ]١٤ أيضا.
والأصل أن القول بالرؤية عندنا واجب، والنظر إليه ثابت كما قال عز وجل :﴿ جاء أمرنا ﴾[ هود : ٤٠و... ] في غير خبر النظر إلى الله تعالى، وقد قال عليه السلام :( إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته )[ البخاري : ٦٥٧٣ ومسلم ١٨٢/٢٩٩ ].
وأهل التوحيد لم يختلفوا في صحة الأخبار التي جاءت في إثبات الرؤية. ولكن من نفى الرؤية بالبصر صرف الأخبار إلى العلم ؛ وذلك غير مستقيم لوجهين :
أحدهما : أن البشارة بالرؤية خص بها أهل الجنة. ولو كان المراد من الرؤية العلم لارتفع الاختصاص.
[ والثاني ]١٥ : لأن العلم مما يقع به الاشتراك بين الفريقين، ولأن كلا[ منهما ]١٦ يجمع على١٧ العلم بالله تعالى في الآخرة العلم الذي لا يعتريه الوسواس ولا الريب.
والعلم الذي لا يعتريه الوسواس والريب هو علم الاستدلال لأن الآيات لا يضطر أهلها إلى الحقيقي. ألا ترى إلى قوله :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ﴾[ النعام : ١١١ ] وقوله١٨ :﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ﴾[ الأنعام : ٢٣ ] وقوله١٩ :﴿ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ﴾ ؟ [ المجادلة : ١٨ ].
فإذا ثبت ما ذكرنا فقد صاروا مثبتين للرؤية من[ الوجوه التي ]٢٠ أرادوا نفيها، وثبتت الرؤية على نفي جميع معاني الشبه عن الله تعالى، ولا نصف الرؤية بالكيفية ؛ إذ الكيفية تكون لذي صورة، وهو يرى بلا كيف ؟ والله الموفق.
وقوله تعالى :﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ فجائز أن يكون الظن في موضع العلم ههنا، وجائز أن يكون على حقيقة الظنّ ؛ وذلك أن الظن يتولد من ظواهر الأشياء، فالأسباب إذا كثرت، وازدحمت، وقع بها العلم، وإذا قلت، وخفيت، لم يقع بها علم. فجائز أن تكون أسباب الشر أحاطت به من كل جانب حتى وقع البأس من النجاة، وأيقن أنه يفعل به الشر.
وجائز أن يكون الأمر٢١ بعد لم يبلغ مبلغ الإياس، فيتوقع النجاة، ولا يتيقن أنه يفعل بها فاقرة، بل يكون منه ظن، والله أعلم.
والفاقرة : قيل : الشر والمنكر والداهية، وقيل : الفقير هو كسير الظهر، والفقر الكسر، والفقار عظم في الظهر يكسر. فكان عظم الظهر يكسر في الآخرة، ويسحب في النار على وجهه.
قال : رحمه الله : كأن هذه السورة من أولها إلى/ ٦١٧ – ب/ أخرها إلا آيات منها، وهي٢٢ قوله تعالى :﴿ بل تحبون العاجلة ﴾ ﴿ وتذرون الآخرة ﴾ ﴿ وجوه يومئذ ناضرة ﴾ ﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ ﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ ﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ [ الآيات : ٢٠ -٢٥ ].
نزلت في تبيين معاملة أحد من الكفرة على الإشارة٢٣ إليه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشترك في حكم من يشاركه في معاملته.
فأمر الله نبيه عليه السلام أن يعامله، ويستقبله بالذي[ يحق ]٢٤ على الحكماء معاملة السفهاء، ولم يأمره أن يعامله [ مثل معاملة ]٢٥ السفهاء. وبين معاملته في هذه السورة ليعلم أمته ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهد والبلاء في إظهار دين الله تعالى، فيعلموا قدره ومنزلته، ويعظموا دين الله تعالى بما نالوه سمحا وسهلا.
وأمره أن يعامل[ من ]٢٦ معه معاملة من يرجع إلى المنعة والشركة بقوله :﴿ أولى لك فأولى ﴾ ﴿ ثم أولى لك فأولى ﴾[ الآيتان : ٣٤و٣٥ ] والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ في الأصل و م: بركة..
٣ في الأصل و م: و..
٤ في الأصل و م: و..
٥ في الأصل و م: و..
٦ في الأصل و م: و..
٧ في م: بعد..
٨ في الأصل و م: ويحتمل أي..
٩ من م، ساقطة من الأصل..
١٠ في الأصل و م: الوجوه..
١١ ساقطة من الأصل و م..
١٢ في الأصل و م: و..
١٣ من م، ساقطة من الأصل..
١٤ من م، ساقطة من الأصل..
١٥ ساقطة من الأصل و م..
١٦ ساقطة من الأصل و م..
١٧ من م، في الأصل: علم..
١٨ في الأصل و م: وقال..
١٩ في الأصل و م: وقال..
٢٠ في الأصل و م: الوجه الذي..
٢١ من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: الأمن..
٢٢ في الأصل و م: وهو..
٢٣ من م، في الأصل: الاستتارة..
٢٤ من م، ساقطة من الأصل..
٢٥ في الأصل و م: مثله من..
٢٦ ساقطة من الأصل و م..

قال - رحمه اللَّه -: كان هذه السورة من أولها إلى آخرها إلا آيات منها؛ وهي قوله: قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) - نزلت في تبيين معاملة واحد من الكفرة على الإشارة إليه مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، يشترك في حكم من يشاركه في معاملته، فأمر اللَّه تعالى نبيه - عليه السلام - أن يعامله ويستقبله بالذي يحق على الحكماء معاملة السفهاء، ولم يأمره أن يعامله معاملة مثله من السفهاء، وبين معاملَته في هذه السورة؛ ليعلم أمته ما لقي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الجهد والبلاء في إظهار دين الله تعالى، فيعلموا قدره ومنزلته، ويعظموا دين اللَّه تعالى بما نالوه سمحا سهلا، وأمره أن يتعامل معه معاملة من يرجع إلى المنعة والشوكة بقوله: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى. ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ. وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (٣٠) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (٣١) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ) فقوله: (كَلَّا)، يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون أريد به: حقا.
ويحتمل أن يكون على الردع والرد؛ أي: لا تفعل مثل هذا؛ فإنك ستندم في الوقت الذي قال: (إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ)؛ كأنهم سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن وقت ندمه، فبين لهم ذلك بقوله تعالى: (إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ)، والتراقي: هي عروق العنق، كأنه يقول: حين تزول النفس، أي: الروح عن مكانها، وتنتهي إلى التراقي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (٢٧) جائز: أن يكون الملائكة هم الذين يقولون هذا، فيقول بعضهم: من يرقى بروحه: أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ مِنْ رقي يرقى، أي: صعد. أو: مَن يقبض روحه؟
ويحتمل أن يقول أهله: من الذي يرقيه رقية فيشفى؟ فيكون فيه إخبار عما حل به من الضعف والشدة؛ أنه يمتنع عن أن يقول: ادعوا لي راقيا لعلي أُشفَى؛ فيكون أهله هم الذين يقولون هذا فيما بينهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (٢٨):
جائز أن يكون الظن على الإيقان هاهنا؛ لما وقع له اليأس من الحياة، وكذلك روي
الآية ٢٧ : وقوله تعالى :﴿ وقيل من راق ﴾ فجائز أن يكون الملائكة هم الذين يقولون هذا ؛ يقول بعضهم : من يرقى بروحه : أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ ﴿ من راق ﴾ يرقى أي يصعد ؟ ومن يقبض روحه ؟.
ويحتمل أن يقول أهله : من الذي يرقيه فيشفى ؟ فيكون فيه إخبار عما حل به من الضعف والشدة :
إنه يمتنع عن أن يقول : ادعوا لي راقيا لعلي أشقى، فيكون أهله هم الذين يقولون هذا في ما بينهم.
الآية ٢٨ : وقوله تعالى :﴿ وظن أنه الفراق ﴾ فجائز أن يكون الظن على الإيقان ههنا لما وقع له اليأس من الحياة.
وكذلك روي في قراءة ابن عباس رضي الله عنه :{ وأيقن١ أنه الفراق.
وجائز أن يكون على حقيقة الظَّنَّ لما لم يقع له اليأس من حياته بعد، فهو يأمل بعد.
١ انظر معجم القراءات القرآنية ج ٨/١١..
في قراءة ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وأيقن أنه الفراق).
وجائِز أن يكون على حقيقة الظن؛ لما لم يقع له الإياس من حياته بعد، فهو يأملها بعد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩):
اختلفوا في تأويله:
قيل: لفت ساقاه إحداهما على الأخرى؛ فلا يفترقان؛ كالتفاف الأشجار حتى لا يجد نفاذا فيها ولا هربا.
وقيل: إن ساقيه في القيامة لتضعف عن حمله؛ من شدة الفزع.
وقيل: أريد بالساق: الشدة، يقال: قامت الحرب على ساق؛ أي: على شدة؛ أي وصلت شدة الموت بشدة الآخرة، واجتمعت شدة الدنيا مع شدة الآخرة عليه؛ لأنه قد حل به سكرات الموت، ونزلت به شدائد الآخرة، وذلك آخر يومه من الدنيا وأول يومه من الآخرة.
وقيل: ما من ميت يموت إلا التفت ساقاه من شدة ما يقاسي من الموت.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ)، معناه: أن الملائكة يجهزون روحه، وبني آدم يجهزون بدنه، فذلك التفاف الساق بالساق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (٣٠):
أي: إلى ما وعد ربك يومئذ يساق: إما إلى خير، وإما إلى شر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا صَدَّقَ... (٣١) أي: فلا صدق بما جاء من عند اللَّه تعالى من الأخبار، ولا صدق رسوله - ﷺ -.
(وَلَا صَلَّى) يحتمل أن يكون أريد به نفس الصلاة، وذلك أن الصلاة حببت إلى الأنفس كلها حتى لا ترى أهل دين إلا وقد حببت الصلاة إليهم؛ فيكون في قوله: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى) إبانة سفهه وجهله.
أو يكون قوله: (وَلَا صَلَّى)، أي: ولا أتى بالمعنى الذي له الصلاة، وهو الاستسلام
الآية ٣٠ : وقوله تعالى :﴿ إلى ربك يومئذ المساق ﴾ أي إلى ما وعد ربك يومئذ يساق إما إلى خير وإما إلى شر.
الآية ٣١ : وقوله تعالى :﴿ فلا صدّق ولا صلى ﴾ أي فلا صدق بما جاء من عند الله تعالى من الأخبار، ولا صدق رسوله صلى الله عليه وسلم﴿ ولا صلى ﴾ يحتمل أن يكون أريد به نفس الصلاة، وذلك أن الصلاة جيئت إلى الأنفس كلها حتى لا ترى أهل دين إلا وقد وجبت الصلاة عليهم، فيكون في قوله :﴿ فلا صدق ولا صلى ﴾ إبانة سفهه وجهله، أو يكون قوله :﴿ ولا صلى ﴾ أي ولا أتى بالمعنى الذي له الصلاة، وهو الاستسلام والانقياد لله تعالى.
والانقياد لله تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢):
أي: ولكن كذب بالأخبار التي جاءته.
(وَتَوَلَّى)، أي: أعرض عن طاعة اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أي: يتبختر ويتكبر، وذلك أن الاحتيال والتكبر إنما يليق بمن أتى بفعل عظيم يعجز غيره عن إتيان مثله؛ نحو أن يهزم جندا عظيما، أو يفتح كورة حصينة، وهذا الذي تمطى لم يفعل سوى أن كذب بآيات الله تعالى، وأعرض عن طاعته، وما هذا إلا فعل السفهاء الحمقى، فأنى يليق بمثله التمطي؟!
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥):
جائز أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قيل له: قل: أولى لك فأولى.
أو كان رسول اللَّه قال له: أولى لك فأولى، فبين اللَّه تعالى ذلك في كتابه.
وقال أهل التأويل: هذا وعيد على وعيد، كأنه قال: " ويل لك فويل، ثم ويل لك فويل ".
وذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخذ [بجميع ثيابه]، وقال له هذا، فلم يتهيأ لذلك المسكين أن يدفع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن نفسه، وكان يفتخر بكثرة أنصاره، وأنه أعز من يمشي بين الجبلين، فاللَّه تعالى بلطفه أذله وأهانه حتى لم يتهيأ له الحراك عما نزل به، ولا نفعه قواه وكثرة أتباعه.
وجائز أن يكون قوله: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) أي: أجدر لك، وأحرى، لا أن يكوك محمولًا على الإبعاد؛ فيكون قوله: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)، أي: الأجدر لك أن تنظر فيما جاء به محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وفي الذي كان عليه آباؤك؛ ليظهر لك الصواب من الخطأ، والحق من الباطل، فتتبع الصواب من ذلك، فتحرز به شرف الدنيا والآخرة؛ إذ كان يفتخر بشرفه وعزه، فإن أردت أن يدوم لك الشرف، فالأولى لك أن تنظر إلى ما ذكرنا، فتتبع الصواب من ذلك.
والثاني: أن العرب كانت عادتها أن تقوم بنصر قبيلتها والذب عنها، سواء كانت ظالمة في ذلك أو لم تكن ظالمة، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان من قبيلة أبي جهل - لعنه اللَّه - فلو كان على غير حق عنده، كان الأولى به أن ينصره، ويعينه، على ما عليه عادة العرب، وإن كان محقا فهو أولى، فترك ما هو أولى به من النصر والحماية، واللَّه أعلم.
الآية ٣٣ : وقوله تعالى :﴿ ثم ذهب إلى أهله يتمطى ﴾ أي يتبختر، ويتكبر ؛ وذلك أن الاختيال والتكبر إنما يليق بمن أتى بفعل عظيم، يعجز غيره عن إتيان مثله نحو أن يهزم جندا عظيما أو يفتح كورة حصينة، وهذا الذي تمطى لم يفعل سوى أن كذب بآيات الله تعالى، وأعرض عن طاعته، وما هذا إلا فعل السفهاء الحمقى، فأنى يليق بمثله التمطّي ؟.
الآيتان ٣٤و٣٥ : وقوله تعالى :﴿ أولى لك فأولى ﴾ ﴿ ثم أولى لك فأولى ﴾[ فيه وجهان :
أحدهما :]١ جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : قل :﴿ أولى لك فأولى ﴾وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له :﴿ أولى لك فأولى ﴾ وبين الله تعالى ذلك في كتابه.
وقال أهل التأويل : هذا وعيد على وعيد ؛ كأنه قال : ويل لك فويل، ثم ويل لك فويل ؛ ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بجميع ثيابه، وقال له هذا، فلم يتهيأ لذلك المسكين لأن يدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه، وكان يفتخر بكثرة أنصاره أنه أعز من يمشي بين الجبلين. والله تعالى بلطفه أذله، وأهانه، حتى لم يتهيأ له الحراك مما نزل به، ولا نفعته قواه وكثرة أتباعه.
وجائز أن يكون قوله :﴿ أولى لك فأولى ﴾ أي لأجدر بك أن تنظر في ما جاء[ به ]٢ محمد صلى الله عليه وسلم وفي الذي كان عليه آباؤك ليظهر لك الصواب من الخطإ والحق من الباطل، فتتبع الصواب من ذلك. فتتجهز به شرف الدنيا والآخرة، إذ كان يفتخر بشرفه وعزه ؛ فإن أردت أن يدوم لك الشرف، فالأولى لك أن تنظر إلى ما ذكرنا، فتبع الصواب من ذلك.
والثاني : أن العرب كانت عادتها أن تقوم بنصر قبيلتها، وتذب عنها : كانت ظالمة في ذلك أو لم تكن ظالمة في ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان من قبيلة أبي جهل. فلو كان على غير حق عنده كان الأولى به أن ينصره ويعينه على ما عليه عادة العرب، وإن كان محقا فهو أولى. فترك ما هو أولى من النصر والحماية.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ ساقطة من الأصل و م..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:الآيتان ٣٤و٣٥ : وقوله تعالى :﴿ أولى لك فأولى ﴾ ﴿ ثم أولى لك فأولى ﴾[ فيه وجهان :
أحدهما :]١ جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : قل :﴿ أولى لك فأولى ﴾وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له :﴿ أولى لك فأولى ﴾ وبين الله تعالى ذلك في كتابه.
وقال أهل التأويل : هذا وعيد على وعيد ؛ كأنه قال : ويل لك فويل، ثم ويل لك فويل ؛ ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بجميع ثيابه، وقال له هذا، فلم يتهيأ لذلك المسكين لأن يدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه، وكان يفتخر بكثرة أنصاره أنه أعز من يمشي بين الجبلين. والله تعالى بلطفه أذله، وأهانه، حتى لم يتهيأ له الحراك مما نزل به، ولا نفعته قواه وكثرة أتباعه.
وجائز أن يكون قوله :﴿ أولى لك فأولى ﴾ أي لأجدر بك أن تنظر في ما جاء[ به ]٢ محمد صلى الله عليه وسلم وفي الذي كان عليه آباؤك ليظهر لك الصواب من الخطإ والحق من الباطل، فتتبع الصواب من ذلك. فتتجهز به شرف الدنيا والآخرة، إذ كان يفتخر بشرفه وعزه ؛ فإن أردت أن يدوم لك الشرف، فالأولى لك أن تنظر إلى ما ذكرنا، فتبع الصواب من ذلك.
والثاني : أن العرب كانت عادتها أن تقوم بنصر قبيلتها، وتذب عنها : كانت ظالمة في ذلك أو لم تكن ظالمة في ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان من قبيلة أبي جهل. فلو كان على غير حق عنده كان الأولى به أن ينصره ويعينه على ما عليه عادة العرب، وإن كان محقا فهو أولى. فترك ما هو أولى من النصر والحماية.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ ساقطة من الأصل و م..

قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى. ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣٩) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (٤٠).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى).
جائز أن يكون هذا الإنسان دهري المذهب؛ فيكون قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ) على حقيقة الحسبان؛ لأنه يحسب أن لا بعث ولا حساب، وقد كان في أهل مكة من هو دهري المذهب، وإن كان الخطاب في قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) ليس على تحقيق الحسبان، ولكن معناه: أيفعل فعل من يُؤْذِن عن أمره، كان فعله موافقا لفعل من يحسب أنه يترك سدى؛ كما ذكرنا في قوله: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ)، وهو لا يريد أن يكون فاجرا في الحقيقة؛ ولكن يفعل فعل في يعقب فعله الفجور، وهو كقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)، وليس على حقيقة الظن؛ ولكن إذا لم يقل بالبعث، ولم يؤمن به، فقد وصف أن خلقهما إذن على باطل، وذلك الفعل الذي ذكرنا يكون في ترك الإيمان بالبعث وفي جحد الرسالة؛ لأن المحاسن لا بد من أن يكون لها عواقب، وكذلك المساوئ، ثم تمر هذه الدار على المسيء والمحسن مرًّا واحدا؛ فلا بد من أن يكون بعده دار أخرى فيها تتبين مرتبة المحسن ومذلة المسيء، فما لم يؤمن بالبعث فهو لا يجعل للمحاسن والمساوئ عواقب، وسوى بين مرتبة المسيء ومرتبة المحسن، وذلك عبث.
والثاني: أن من عرف أنه لم يخلق عبثا، ولا يترك سدى؛ فلا بد لمثله من أن يرغب ويرهب، ويؤمر وينهى؛ ولا يعرف ذلك إلا بالرسول، فالضرورة أحوجت إلى رسول، يبين لهم ما يأتون وما يتقون، وما يرغبون في مثله، وعما يحذرون، فمن أنكر الرسالة فقد أهمل نفسه عن المرغوب والمرهوب، وعن الأمر والنهي، وذلك حال من خلق سدى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (٣٧):
فالوجه فيه أن كل أحد يعلم أن نشوءه كان من نطفة، وتلك النطفة لو رئيت موضوعة على طبق، ثم اجتمع حكماء الأرض على أن يقدروا منها بشرا سويا كما قدره اللَّه - عز وجل - في تلك الظلمات، لم يصلوا إليه أبدا وإن استفرغوا مجهودهم وأنفدوا حيلهم
الآيات ٣٧و٣٨و٣٩ : وقوله تعالى :﴿ ألم يك نطفة من منيّ يُمنى ﴾ ﴿ ثم كان علقة فخلق فسوّى ﴾ ﴿ فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ﴾ والوجه فيه أن كل أحد يعلم أن نشوءه كان من نطفة، وتلك النطفة لو رئيت موضوعة على طبق، ثم اجتمع حكماء الأرض على أن يقدروا منها بشرا سويا كما قدره الله تعالى في تلك الظلمات لم يصلوا إليه أبدا، وإن استفرغوا جهودهم، وأنفدوا حيلهم وقواهم، ولو أرادوا أن يتعرفوا المعنى الذي لذلك المعنى صلحت النطفة على أن ينشأ منها العلقة والمضغة إلى أن ينشأ بشر سوي عليه، لعلموا١ أن من بلغت قدرته هذا، هو أحكم الحاكمين.
ولو كان الأمر على ما زعموا أن لا بعث لم يكن هو أحكم الحاكمين، بل كان واحدا من اللاعبين.
ويتبين مما ذكرنا أن قدرته٢ لا توصف بالعجز، ومن زعم أن قدرته لا تنتهي إلى البعث فقد وصف الرب بالعجز﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾[ الروم : ٤٠والزمر : ٦٧ ].
١ في الأصل و م: فيعلموا..
٢ أدرج قبلها في الأصل و م: الذي..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٧:الآيات ٣٧و٣٨و٣٩ : وقوله تعالى :﴿ ألم يك نطفة من منيّ يُمنى ﴾ ﴿ ثم كان علقة فخلق فسوّى ﴾ ﴿ فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ﴾ والوجه فيه أن كل أحد يعلم أن نشوءه كان من نطفة، وتلك النطفة لو رئيت موضوعة على طبق، ثم اجتمع حكماء الأرض على أن يقدروا منها بشرا سويا كما قدره الله تعالى في تلك الظلمات لم يصلوا إليه أبدا، وإن استفرغوا جهودهم، وأنفدوا حيلهم وقواهم، ولو أرادوا أن يتعرفوا المعنى الذي لذلك المعنى صلحت النطفة على أن ينشأ منها العلقة والمضغة إلى أن ينشأ بشر سوي عليه، لعلموا١ أن من بلغت قدرته هذا، هو أحكم الحاكمين.
ولو كان الأمر على ما زعموا أن لا بعث لم يكن هو أحكم الحاكمين، بل كان واحدا من اللاعبين.
ويتبين مما ذكرنا أن قدرته٢ لا توصف بالعجز، ومن زعم أن قدرته لا تنتهي إلى البعث فقد وصف الرب بالعجز﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾[ الروم : ٤٠والزمر : ٦٧ ].
١ في الأصل و م: فيعلموا..
٢ أدرج قبلها في الأصل و م: الذي..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٧:الآيات ٣٧و٣٨و٣٩ : وقوله تعالى :﴿ ألم يك نطفة من منيّ يُمنى ﴾ ﴿ ثم كان علقة فخلق فسوّى ﴾ ﴿ فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ﴾ والوجه فيه أن كل أحد يعلم أن نشوءه كان من نطفة، وتلك النطفة لو رئيت موضوعة على طبق، ثم اجتمع حكماء الأرض على أن يقدروا منها بشرا سويا كما قدره الله تعالى في تلك الظلمات لم يصلوا إليه أبدا، وإن استفرغوا جهودهم، وأنفدوا حيلهم وقواهم، ولو أرادوا أن يتعرفوا المعنى الذي لذلك المعنى صلحت النطفة على أن ينشأ منها العلقة والمضغة إلى أن ينشأ بشر سوي عليه، لعلموا١ أن من بلغت قدرته هذا، هو أحكم الحاكمين.
ولو كان الأمر على ما زعموا أن لا بعث لم يكن هو أحكم الحاكمين، بل كان واحدا من اللاعبين.
ويتبين مما ذكرنا أن قدرته٢ لا توصف بالعجز، ومن زعم أن قدرته لا تنتهي إلى البعث فقد وصف الرب بالعجز﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾[ الروم : ٤٠والزمر : ٦٧ ].
١ في الأصل و م: فيعلموا..
٢ أدرج قبلها في الأصل و م: الذي..

وقواهم، ولو أرادوا أن يتعرفوا المعنى الذي لذلك المعنى صلحت النطفة على أن ينشئ منها العلقة والمضغة إلى أن أنشأ منها بشرا سويا، لم يقفوا عليه، فيعلمون أن من بلغت قدرته هذا هو أحكم الحاكمين.
ولو كان الأمر على ما زعموا: أن لا بعث، لم يكن هو أحكم الحاكمين؛ بل كان واحدا من اللاعبين. وتبين بما ذكرنا أن الذي بلغت قدرته ذلك لا يوصف بالعجز، ومن زعم أن قدرته لا تنتهي إلى البعث فقد وصف الرب بالعجز، تعالى اللَّه عما يشركون.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (٤٠):
فقوله: (أَلَيْسَ)، في موضع التحقيق والتقرير، وإن كان خارجا مخرج الاستفهام على ما ذكرنا: أن ما يخرج مخرج الاستفهام من اللَّه تعالى، فحقه أن نصرفه إلى الوجه الذي يقتضيه ذلك الخطاب أن لو كان من مستفهم؛ فمن قال لآخر في الشاهد: أليس اللَّه تعالى بقادر على إحياء الموتى؟ فحقه أن يقول: بلى هو قادر على ذلك، وكذلك ذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال حين تلا هذه الآية: " سبحانك، فبلى " فقوله: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ) أي: هو قادر على إحياء الموتى، واللَّه الموفق.
* * *
Icon