تفسير سورة التكوير

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُورَةُ التَّكْويرِ
مكية، وآيها: تسع وعشرون آية، وحروفها: أربع مئة وخمسة وعشرون حرفًا، وكلمها: مئة وأربع كلمات.

بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)﴾.
[١] ﴿إِذَا الشَّمْسُ﴾ رفع بفعل يفسره ﴿كُوِّرَتْ﴾ أي: أظلمت، وأصل التكوير: جمعُ بعض شيء إلى بعض، ثم يلف، فإذا فعل بها ذلك، ذهب ضوءها.
* * *
﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢)﴾.
[٢] ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ تناثرت من السماء، وتساقطت على الأرض، وذلك لأن النجوم معلقة بالسلاسل، والسلاسل في أيدي الملائكة، فإذا مات مَنْ في السماء والأرض، تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة، ثم سقطت النجوم وتناثرت.
* * *
﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣)﴾.
[٣] ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾ ذُهب بها عن وجه الأرض.
* * *
﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (٤)﴾.
[٤] ﴿وَإِذَا الْعِشَارُ﴾ الحواملُ من الإبل التي أتى عليها عشرة أشهر، واحدتها عُشَراء ﴿عُطِّلَتْ﴾ تُركت هَمَلًا بلا راع.
* * *
﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥)﴾.
[٥] ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ﴾ كلُّ دوابِّ الأرض (١) ﴿حُشِرَتْ﴾ جُمعت بعدَ البعث؛ ليقتص بعض من بعض، فإذا اقتص منها، صارت ترابًا.
* * *
﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦)﴾.
[٦] ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (سُجِرَتْ) بتخفيف الجيم، والباقون: بتشديدها (٢)؛ أي: أُوقدت وصارت نارًا تضطرم.
* * *
(١) في "ت": "البحر".
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٢٢٠)، و "تفسير البغوي" (٤/ ٥٦٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٩٨)، و "معجم القراءات القرآنية" (٨/ ٨١).
﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قُرنت بأشكالها.
روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أنه سئل عن هذه الآية، فقال: "يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن بين (١) الرجل السوء مع الرجل السوء في النار" (٢). قرأ أبو عمرو: (النُّفُوس زُّوِّجَتْ) بإدغام السين في الزاي في هذا الحرف لا غير (٣).
* * *
﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨)﴾.
[٨] ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ﴾ هي البنت تُدفن حيةً؛ سميت بذلك؛ لما يُطرح عليها من التراب فيؤودها؛ أي: يثقلها حتى تموت، وكان العرب يفعلون ذلك مخافة العار والحاجة ﴿سُئِلَتْ﴾ تبكيتًا لقاتلها.
* * *
﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)﴾.
[٩] ﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ لم وُئدت؟ فتقول: قُتلت بغير ذنب. قرأ أبو جعفر: (قُتِّلَتْ) بتشديد التاء، والباقون: بتخفيفها (٤).
(١) "بين" زيادة من "ت".
(٢) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (٣٤٤٩٢)، والطبري في "تفسيره" (٣٠/ ٦٩)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (١٠/ ٣٤٠٤). وانظر: "تغليق التعليق" لابن حجر (٤/ ٣٦٢).
(٣) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٨١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ٨١).
(٤) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٥٦٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =
﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ﴾ صحفُ الأعمال ﴿نُشِرَتْ﴾ فُتحت وبُسطت، فتقع صحيفة المؤمن في يده فيها مكتوب: ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾، وتقع صحيفة الكافر في يده فيها مكتوب: ﴿فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ﴾. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وعاصم، ويعقوب: بتخفيف الشين، والباقون: بتشديدها.
* * *
﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (١١)﴾.
[١١] ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ﴾ نُزعت عن أماكنها، وطُويت.
* * *
﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن ذكوان عن ابن عامر، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (سُعِّرَتْ) بتشديد العين، والباقون: بتخفيفها؛ بخلاف عن أبي بكر راوي عاصم (١).
* * *
﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾ قُرِّبت للمتقين ليدخلوها.
= (٢/ ٣٩٨)، و "معجم القراءات القرآنية" (٨/ ٨٣).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٧٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٢٠)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٥٦٢)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ٨٤).
﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (١٤)﴾.
[١٤] فذكر الله سبحانه اثني عشر شيئًا، وقال: إذا وقعت هذه الأشياء، فهنالك ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ﴾ أي: كلُّ النفوس ﴿مَا أَحْضَرَتْ﴾ من خير وشر.
* * *
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ (لا) زائدة، معناه: أقسم ﴿بِالْخُنَّسِ﴾ الرواجع، جمع خانسة وخانس.
* * *
﴿الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (١٦)﴾.
[١٦] ونعت (الخنس) ﴿الْجَوَارِ﴾ السيارة. قرأ يعقوب: (الْجَوَارِي) بإثبات الياء وقفًا، وأمال فتحة الواو: الدوري عن الكسائي (١) ﴿الْكُنَّسِ﴾ الغُيَّب، نعت (الْجَوَارِ)، وأصل الخنوس: الرجوع إلى خلف، والكنوس: الاستتار، المراد بها: النجوم الخمسة: زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد، و (٢) سميت بذلك؛ لأنها تخنس؛ أي: ترجع في مجراها؛ وتكنس (٣)؛ أي: تستتر بضوء الشمس كما تستتر الظباء في كنسها؛ أي: بيوتها.
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ١٣٨)، وذكر الإمالة الدمياطي في "إتحاف فضلاء البشر" (ص: ٤٣٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ٨٥).
(٢) "و" ساقطة من "ت".
(٣) "وتكنس" زيادة "ت".
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ أقبل بظلامه.
* * *
﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ انتشر ضوءه بطلوع الفجر، فشبه ذلك بالتنفس مجازًا.
* * *
﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩)﴾.
[١٩] وجواب القسم: ﴿إِنَّهُ﴾ أي: القرآنَ ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ على الله، وهو جبريل عليه السلام، وأضيف القول إليه؛ لأنه قاله عن الله سبحانه.
* * *
﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿ذِي قُوَّةٍ﴾ أي: شديد القوى ﴿عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ﴾ أي: عند الله.
﴿مَكِينٍ﴾ في المنزلة.
* * *
﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ﴾ أي: في السموات، يطيعه الملائكة، ومن طاعتهم أنهم فتحوا أبواب السماء ليلة المعراج بقوله لرسول الله - ﷺ -، وطاعة
جبريل فريضة على أهل السموات، كما أن طاعة محمد - ﷺ - فريضة على أهل الأرض ﴿أَمِينٍ﴾ على الوحي.
* * *
﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ﴾ يعني: محمدًا - ﷺ - ﴿بِمَجْنُونٍ﴾ خطاب لأهل مكة، وهو أيضًا من جواب القسم، أقسم على أن القرآن نزل به جبريل، وأن محمدًا - ﷺ - ليس كما يقوله أهل مكة، وذلك أنهم قالوا: إنه مجنون، وما يقوله من عند نفسه.
* * *
﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿وَلَقَدْ رَآهُ﴾ أي: رأى محمد جبريل -عليهما الصلاة والسلام- على صورته التي خُلق عليها. قرأ ورش (١)، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر بخلاف عنه: (رَآكَ) و (رَآهُ) و (رَآهَا) بإمالة الهمزة والراء، وأمال الدوري عن أبي عمرو الهمزة بخلاف عنه، وأمال السوسي الراء، وقرأ الباقون: بالفتح فيهما (٢) ﴿بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ مطلع الشمس الأعلى من ناحية المشرق.
* * *
(١) "ورش" ساقطة من "ت".
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٨١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ٨٥).
﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿وَمَا هُوَ﴾ يعني: محمدًا - ﷺ - ﴿عَلَى الْغَيْبِ﴾ أي: ما غاب عن أهل الأرض من خبر السماء ﴿بِضَنِينٍ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ورويس عن يعقوب: (بِظَنِينٍ) بالظاء؛ أي: بمتَّهَم، وقرأ الباقون: بالضاد؛ أي: ببخيل بالدعاء به، ورسمُها بالضاد في جميع المصاحف (١).
* * *
﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿وَمَا هُوَ﴾ أي: القرآن ﴿بِقَوْلِ شَيْطَانٍ﴾ مسترِقٍ للسمع ﴿رَجِيمٍ﴾ مرجومٍ بالكواكب.
* * *
﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ توقيف وتقرير على معنى: أين المذهب لأحد عن هذه الحقائق؟
* * *
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿إِنْ هُوَ﴾ أي: القرآنُ ﴿إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ عظة للخلق أجمعين.
* * *
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٧٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٢٠)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٥٦٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٩٨ - ٣٩٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ٨٦).
﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨)﴾.
[٢٨] وتبدل من ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ باتباع الحق، وخصص من يشاء الاستقامة بالذكر؛ تشريفًا وتنبيهًا منهم، وذكرًا لتكسبهم أفعال الاستقامة.
* * *
﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ولما نزلت هذه الآية، قال المشركون: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فنزل: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ﴾ (١) الاستقامةَ ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ لأن المشيئة في التوفيق إليه ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ مالكُ الخلائق.
في الحديث: "يا بنَ آدم! تريدُ وأريدُ، فتتعبُ فيما تريد، ولا يكونُ إلا ما أُريد" (٢)، والله أعلم.
* * *
(١) رواه الطبري في "تفسيره" (٣٠/ ٨٤)، عن سليمان بن موسى. ورواه الثعلبي في "تفسيره" (١٠/ ١٤٤)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) ذكره ابن عطية في "المحرر الوجيز" (٥/ ٤٤٥) دون التصريح أو التلميح إلى أنه حديث أو أثر، وإنما ذكره بيانًا وإيضاحًا، ومثالًا مناسبًا فمعنى الآية. وقد نقله المؤلف هنا على أنه حديث، والعصمة من الله وحده.
Icon