تفسير سورة الطارق

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة الطارق من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الطارق مكية وآياتها سبع عشرة، نزلت بعد سورة البلد. وهي من السور المكية التي جاءت لتنبه الناس من غفلتهم إلى عظمة الخالق، وفيها طرْقات عنيفة قوية عالية، وصيحات بأناس غافلين لاهين، تتوالى على حسهم بإيقاع واحد، ونذير واحد. وهي نموذج واضح للسور المكية التي توجه الأنظار إلى هذا الكون وعظمته، وأن خالق هذا الكون أكبر وأعظم. وقد جاء فيها : الطارق، والثاقب، والدافق، والرّجع، والصّدع.
افتتحت السورة بقسَم يشير إلى دلائل القدرة، ويؤكد أن كل نفس عليها مهيمن ورقيب، ﴿ إن كل نفس لما عليها حافظ ﴾ وطلبت أن يفكر الإنسان في نشأته، وأنه خُلق من ماء دافق، ليستدل بذلك على أن الذي أنشأه هكذا، قادر على إعادته بعد موته. ثم ثنّت بقسم آخر على أن القرآن قول فصل وما هو بالهزل، ومع كونه كذلك فقد أصرّ الكفار على إنكاره والكيد له، فردّ الله كيدهم بكيد أشدّ.
ثم ختمت السورة بطلب إمهال الكافرين ﴿ فمهِّل الكافرين أمهلهم رويدا ﴾. وبيْن المشاهد الكونية والحقائق الموضوعية في السورة تناسق دقيق ملحوظ، يتضح من استعراض هذه السورة الكريمة في سياقها القرآني الجميل.

طَرَق طَرْقا وطروقا : أتاهم ليلا، وطَرَقَ النجم طروقا : طلع ليلا.
لقد أقسَم الله تعالى في مطلع هذه السورة بالسماء ونجومها اللامعة المضيئة، أنّ النفوسَ لم تُترك سُدى، ولن تبقى مهمَلة، بل تكفَّل بها مَنْ يحفظها ويحصي أعمالَها، وهو اللهُ تعالى.
وفي هذه تسليةٌ للرسول الكريم وأصحابِه، ووعيدٌ للكافرين الجاحدين.
﴿ والسمآء والطارق ﴾
أُقسِم بالسماء وبالنجم الطالع ليلا. ولقد أقسَم الله تعالى بالسماء والشمس وبالقمر والليل، لأن في أحوالِها وأشكالها وسَيْرِها ومطالِعها ومغاربها عجائبَ وأيَّ عجائب.
استفهام للتفخيم والتعظيم. ما الذي أعلمكَ يا محمد ما حقيقةُ هذه النجوم.
النجم الثاقب : النجم المضيء، ثقب الكوكب : أضاءَ فهو ثاقب.
ثم فسّر الطارقَ بقوله :﴿ النجم الثاقب ﴾ هذه النجوم المضيئة التي لا تحصى
ولا نعلم من أكثرها شيئا.
حافظ : رقيب.
ثم بين الذي حلف عليه فقال :﴿ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾ أي إن كلَّ نفس عليها رقيبٌ يحفظها ويدير شؤونها في جميع أطوارها، ويُحصي عليها أعمالها.
لَمَّا، هنا بمعنى إلاّ، يعني أن كل نفس عليها حافظ. وفي قراءة من قرأها بالتخفيف أنّ كل نفس لَما عليها حافظ، يعني : أن كل نفس لَعَلَيْها حافظ، وهما قراءتان سَبْعِيَّتان.
وهذا المعنى كما قال تعالى :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [ الإنفطار : ١٠-١٢ ].
قراءات
قرأ عاصم وحمزة وابن عامر : إن كل نفسٍ لمّا عليها حافظ، بتشديد لمّا، وهي بمعنى إلاّ. وقرأ الباقون : لما بغير تشديد وهي بمعنى اللام : لَعليها حافظ.
ثم أمر الله تعالى الإنسانَ أن ينظر ويتفكر في بدءِ خَلْقه ومنشئه.
ماء دافق : ماء مندفع بسرعة.
وأنه خُلق من ماءٍ دافق فيه ملايين الحُوينات التي لا تُرى بالعين المجردة، فالذي خلقه على هذه الأوضاع قادرٌ على أن يُعيدَه إلى الحياة الأخرى.
فلينظر الإنسانُ ويفكّر في مبدأ خلْقه. لقد خلقه الله من ماءٍ متدفق، من مَنِيٍّ فيه ملايينُ المخلوقات التي لا تُرى بالعين المجردة.
الصلب : فقار الظهر، منطقة العمود الفقري، يقال : من صُلب فلان يعني من ذريته.
الترائب : عظام الصدر.
أيْ من الصُّلب وعظم الصدر من الرجل والمرأة، فإذا دخَل المنيُّ رحِمَ المرأة وكانت مهيَّأةً للحمل التقى بالبيضة التي في الرحم، وكوّنت معه جرثومة الجَنين.
وقد بينت الدراسات الحديثة أن نواةَ الجهاز التناسلي والجهاز البولي في الجَنين تظهر بين الخلايا الغضروفية المكوِّنةِ لعظام العَمودِ الفَقري وبين الخلايا المكونةِ لعظام الصدر.
وتبقَى الكُلى في مكانها وتنزل الخَصيةُ إلى مكانها الطبيعي في الصَفَنِ عند الولادة. كما أن العصب الذي ينقل الإحساسَ إليها ويساعدها على إنتاج الحيوانات المنوية وما يصاحب ذلك من سوائل، متفرعٌ من العصَب الصدريّ العاشر الذي يغادر النخاعَ الشوكيَّ بين الضِلعَين العاشر والحادي عشر.
وواضح من ذلك أن الأعضاءَ التناسلية وما يغذّيها من أعصابٍ وأوعية تنشأ من موضع في الجسم بين الصُّلب والترائب، « العمود الفقري والقفص الصدري ».
وهذه الأمور الدقيقة لم يكتشِفها العِلم إلا حديثاً بعد هذه القرون الطويلة. ومن هذه يتبين بوضوحٍ أن الإنسانَ يُخْلَق وينشأ من ماءِ الرجل الدافق، وأهمُّ ما فيه الحيوانُ المنوي ؛ وماء المرأة وأهم ما فيه البُوَيضة. ونشوؤهما وغذاؤهما وأعصابُهما كلُّها من بين الصلب والترائب.
إن الله تعالى الذي قَدَّر خَلْق الإنسان ابتداءً من هذه الموادّ التي لا تُرى بالعين المجردة، بتلك العملية الدقيقة، قادرٌ بكل سهولة على إعادة حياته مرةً أخرى بعدَ أن يموت. ﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ].
تُبلى : تختبر وتمتحن.
السرائر : الضمائر، وما يُسِره الإنسان في نفسه.
ثم بيَّن وقتَ الرجع، ذلك اليوم العظيم فقال :
﴿ يَوْمَ تبلى السرآئر ﴾
إنه يوم القيامة، يوم يعيدُ الله الخَلْقَ فتنكشف السرائر، وتتّضح الضمائر، وتُمتحَن القلوبُ وتختبر.
فليس للإنسانِ في ذلك اليوم قُوّةٌ تدفع عنه العذابَ ولا ناصرٌ ينصره ويجيرُه، فلا قوةَ له في نفسه، ولا أحدَ ينصره، إلا ما قدّمه أمامه من عمل صالح.
الرجع : إعادة الشيء إلى ما كان عليه، والمراد هنا المطر.
وبعد أن بين الله تعالى أمر المبدأ والمعاد، وأنه قادر على إعادة الحياة، ووجّه الأنظار إلى التدبر في برهان هذه القدرة، شرع يثبت صحةَ رسالة النبي الكريم إلى الناس كافّة، وصحةَ ما يأتيهم به من عند الله، وهو القرآن الكريم، ذلك الكتابُ الذي لا ريبَ فيه، فأَقسم على صدق هذا الكتاب فقال :
﴿ والسمآء ذَاتِ الرجع ﴾، أُقسِم بالسماء ذاتِ المطر ( وهو أنفعُ شيء ينتظره الخلْق، الذي يرجع حينا بعد حين، ولولاه لهلَك الناسُ، وهلَك الخلق، هذا الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي.. )
الصدع : الشق، الأرض التي تنشق عن النبات.
كما أُقْسِم بالأرض التي تتصدّع وتنشق، فيخرج منها النباتُ والأشجار والزهر وكل ما يفيد الناس ويقيتهم.

فصل : فاصلٌ بين الحق والباطل.


إن ما جاء به محمد ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بالهزل ﴾ أيْ إن هذا القرآن لهو قولٌ فاصل بين الحق والباطل، قد بلغ الغايةَ في بيانه وتشريعِه وإعجازه.
وهو جِدٌّ ليس فيه شيء من الهزل والعبث، لأنه كلامُ أحكَمِ الحاكمين.
يكيدون : يمكرون، ويدبّرون المضرة خفية.
ثم بين ما يدبره الكافرون للمؤمنين، وما تحويه صدورهُم من غلٍّ ومكرٍ فقال :﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً ﴾ ويمكرون بالمؤمنين، ويحاولون صَرْفَ الناس عن الدِّين القويم، كما جاء في قوله تعالى :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ].
وأكيدُ كيدا : الكيد من الله التدبيرُ بالحق لمجازاة أعمالهم.
ثم ذَكَرَ ما قابلَهم ربُّهم به، وما جازاهم عليه، وطلبَ من رسوله الكريم أن يتأنّى عليهم ليرى أخْذَه لهم فقال :﴿ وَأَكِيدُ كَيْداً ﴾.
إن هؤلاء المشركين يعملون المكايد لإطفاء نور الله، وصدِّ الناس عن شريعته،
رويدا : قريبا.
وأنا أُجازيهم على كيدهم بالإمهال ثم النَّكال، حيث آخذُهم أخذَ عزيزٍ مقتدر.. لكن بعد أن أمهلهم قليلاً. وقد صدق وعده، ووعدُه الحق.
Icon