تفسير سورة التوبة

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ
العياذ بالله فقد حل قتله واستباح دمه على الموحدين المتمكنين الذين يبذلون أرواحهم في ترويج كلمة التوحيد ونصرة الدين القويم والشرع المستقيم لذلك قد فرض الجهاد والغزاء على ارباب الولاء المستمسكين بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ليكون غزاتهم مع الله في عموم أحوالهم وشهداءهم احياء عند ربهم يرزقون من موائد افضاله ما لم تره عيونهم ولم تشتهيه نفوسهم ولهذا ما خلا نبي من الأنبياء من لدن آدم الى نبينا صلوات الله عليه وعليهم أجمعين من القتال والجهاد بينهم وبين مكذبيهم ومعانديهم كما فصل سبحانه بعض قصصهم وسيرهم في كتابه وأجمل البعض وقال مخاطبا لنبيه منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك والسرفى وجوب القتال للأنبياء والله اعلم ان بعثة الرسل والأنبياء انما هو لإصلاح احوال العباد وإرشادهم الى سبل الخير والصواب في معادهم ومعاشهم وذلك لا يتصور الا بعد ظهور الآراء الباطلة المتخالفة المتداعية الى انواع الاختلال وتزاحم الأهواء الفاسدة المستلزمة للضلال والإضلال وانتشار انواع البدع والجدال ورفع أمثال هذه المفاسد وقمع أهلها وقلع عرقها وأصلها انما هو باستئصال من تمسك بها وظهر عليها ولا يتيسر ذلك الا بالمقاتلة والمشاجرة لذلك قد جرت سنته سبحانه عليها وقد عدها من أفضل العبادات ثم لما كان المشركون المصرون على شركهم من أعدى الأعادي وأشدهم غيظا مع الله تعالى ورسوله وكان عهودهم ومواثيقهم غير معقول في علم الله قد تبرأ سبحانه منهم وامر رسوله ايضا بالتبري عنهم وعن عهودهم ومواثيقهم وان أكدوها وغلظوها
[الآيات]
فقال بَراءَةٌ اى هذه براءة ونقض عهد وإسقاط ذمة ورفع أمان قد كان بينكم ايها المؤمنون وبين المشركين نزلت إليكم مِنَ اللَّهِ المطلع على مخايل اهل الشرك اصالة وَمن رَسُولِهِ تبعا لتنبذوا أنتم وتطرحوا عهودكم ومواثيقكم إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وعليكم ان لا تبادروا ولا تفاجؤا الى المقاتلة بعد نبذ العهد
بل امهلوهم وقولوا لهم فَسِيحُوا اى سيروا ايها المسرفون فِي الْأَرْضِ اى في ارضنا هذا آمنين بلا خوف أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قيل هي عشرون من ذي الحجة وتمام المحرم والصفر وربيع الاول وعشر من ربيع الآخر واستعدوا في تلك المدة وهيئوا اسباب القتال فيها وَاعْلَمُوا ايها المصرون على الشرك يقينا وان زعمتم أنتم غلبتكم علينا بمظاهرة إخوانكم واستعانة قبائلكم وعشائركم أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ اى لستم أنتم غالبين على الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء المتفرد بالمجد والبهاء وَاعلموا ايضا أَنَّ اللَّهَ المنتقم الغيور من عصاة عباده مُخْزِي الْكافِرِينَ اى مهينهم ومذلهم وان امهلهم زمانا بطرين على تجبرهم وتكبرهم
وَايضا هذه أَذانٌ اى اعلام وتشييع ونداء قد صدر مِنَ اللَّهِ وَمن رَسُولِهِ باذنه سبحانه إِلَى النَّاسِ المجتمعين من أقاصي البلاد يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وصف بالأكبر لان الوقوف بعرفة كان يوم الجمعة لذلك سمى به أَنَّ اللَّهَ اى بان الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اى من عهودهم ومواثيقهم مطلقا بحيث لا تؤمنوهم بعد عامكم هذا وَرَسُولِهِ ايضا مأمور من عنده سبحانه بالبراءة منهم ونقض العهد وإسقاط الذمة إليهم وبعد اليوم قد ارتفعت الهدنة وصار الأمر والحكم من الله اما السيف أم الإسلام فَإِنْ تُبْتُمْ ورجعتم عما أنتم عليه من الكفر والشرك الى الايمان والتوحيد فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في اولاكم وأخراكم وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عن الإسلام والايمان وأصررتم على الشرك والطغيان فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ اى لستم غالبين على جنوده سبحانه وَبالجملة بَشِّرِ يا أكمل الرسل الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأصروا عليه ولم يرجعوا عنه
سيما مع ورود الزواجر المؤيدة بالخوارق بِعَذابٍ أَلِيمٍ في النشأة الاولى بالقتل والسبي والاجلاء وفي الآخرة بالحرمان عن رتبة الإنسان
ثم لما لم يصدر عن بعض المشركين شيء من امارات النقض والانباذ وعلامات المخالفة والمخادعة استثناهم الله سبحانه وامر المؤمنين بحفظ عهودهم الى انقضاء المدة المعلومة المعهودة فقال إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ بعد المعاهدة لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً مما عاهدوا عليه والتزموا حفظه بل داوموا على حفظها وَمع ذلك لَمْ يُظاهِرُوا ولم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم حفظا لعهودكم وميثاقكم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ اى أنتم اولى بايفاء العهد وإتمام مدته إِلى انقضاء مُدَّتِهِمْ التي عاهدوا عليها إِنَّ اللَّهَ المستوي على العهد القويم يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين يواظبون على إيفاء العهود وحفظ المواثيق حذرا عن تجاوز حدود الله وعهوده
فَإِذَا انْسَلَخَ وانقضى ومضى الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ المأمورة فيها السياحة والأمن فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ المصرين على الشرك الناقضين للعهد والميثاق حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في حل او حرم مستأمنين أم لا وَخُذُوهُمْ اى اسروهم واسترقوهم واستولوا عليهم وَان استحفظوا واستحصنوا احْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ ولاخذهم وقتلهم كُلَّ مَرْصَدٍ وممر من شعاب الجبال وشفا الوادي فَإِنْ تابُوا ورجعوا عن الشرك ومالوا الى الايمان وَبعد ايمانهم أَقامُوا الصَّلاةَ التي هي من أقوى اعمدة ايمانهم وتصديقهم وَآتَوُا الزَّكاةَ التي بها تطهر قلوبهم عن امارات النفاق فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ كسائر المسلمين ولا تتذكروا ولا تلتفتوا بما صدر عنهم من المخالفة والمقاتلة والشقاق فيما مضى إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ لما صدر عنهم من المعاصي والآثام رَحِيمٌ لهم يوصلهم الى دار السّلام بعد ما أخلصوا في الانابة والرجوع
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ المناقضين الذين قد أمرت بقتلهم واسرهم اسْتَجارَكَ وطلب منك يا أكمل الرسل جوارك ليأمن عما يؤذيه فَأَجِرْهُ اى فعليك يا أكمل الرسل على مقتضى شفقة النبوة والرسالة ان تجيره وتؤمنه في جوارك حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ الهادي لعباده منك ويفهم سرائر دينك وشعائر شرعك كأنه يطلع على حقيته إذ كل فرد من افراد الإنسان قد جبل على فطرة الإسلام ثُمَّ بعد حصول اليأس من إيمانه وتنبه أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ اى موضع امنه ومحل قراره تتميما للشفقة والمروءة ذلِكَ الأمن والمواساة والتليين المأمور بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ في غاية البعد عن الايمان وما يترتب عليه من المواخاة وانواع الخيرات والمبرات لا يَعْلَمُونَ اى لا يطمعون ولا يتوقعون صدورها من اهل الايمان سيما بالنسبة إليهم فمتى صدر منكم أمثال هذا عسى ان يتحابوا ويتقربوا إليكم
ثم قال سبحانه كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ المصرين على الشرك والفساد والمبالغين في العتو والاستكبار عَهْدٌ مقبول عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إذ هم من غاية انهماكهم في كفرهم وضلالهم لا يلتفتون الى الله ولا الى رسوله لذلك لا يقبل منهم العهد والميثاق بل أمرهم اما السيف واما الإسلام إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ معهم عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فإنهم وان كانوا ايضا من المشركين المصرين الا ان حرمة المسجد الحرام يوجب إيفاء عهودهم ما داموا موفين بها فَمَا اسْتَقامُوا واستحفظوا لَكُمْ عهدكم فيه فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ بل أنتم اولى برعاية حرمة المسجد الحرام إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن سوء الأدب مع الله في عموم أحوالهم وأوقاتهم سيما عند بيته الحرام
كَيْفَ يكون للمشركين معكم عهد ايها المؤمنون وَ
كيف تعتمدون أنتم على ميثاقهم وعهدهم وهم من غاية بغضهم وشدة شكيمتهم إِنْ يَظْهَرُوا ويظفروا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ اى لا يحافظوا ولا يراعوا في حقكم إِلًّا اى عهدا وميثاقا وَلا ذِمَّةً حقا لازما يلتزمون غايتها كالحقوق التي جرت بين المعاهدين بل حالهم انهم يُرْضُونَكُمْ ويعاهدون معكم بِأَفْواهِهِمْ مخادعة ومداهنة وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ عما صدر عن ألسنتهم من المعاهدة بل وَأَكْثَرُهُمْ في أنفسهم فاسِقُونَ خارجون متمردون عن العهد مطلقا لا يتفوهون به أصلا فكيف ان يعهدوا ومن غاية فسقهم وتمردهم ونهاية توغلهم في الغفلة والضلال
اشْتَرَوْا واستبدلوا بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على رسوله الدالة على توحيده مع وضوحها وسطوعها ثَمَناً قَلِيلًا اى بدلا حقيرا مبتذلا مردولا الا وهو اتباع الاهوية الباطلة والآراء الفاسدة التي قد ابتدعها المبتدعون بتسويلات شياطينهم فَصَدُّوا اى اعرضوا وانصرفوا بأنفسهم واتباعهم بسبب تلك الآراء عَنْ سَبِيلِهِ اى عن دين الله الموصل الى توحيده وبالجملة إِنَّهُمْ من غاية ضلالهم واضلالهم ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ هذا العمل ومن سوء عملهم ايضا وقبح صنيعهم انهم من غاية بغضهم مع المؤمنين
لا يَرْقُبُونَ ولا يراعون فِي حق مُؤْمِنٍ اى احد من اهل الايمان وان بالغ في ودادهم وإخائهم ومحافظة عهودهم ودممهم إِلًّا وَلا ذِمَّةً أصلا لشدة شكيمتهم وقوة بغضهم وضغينتهم وَبالجملة أُولئِكَ الأشقياء البعداء المردودون المطرودون عن عز القبول وشرف الوصول هُمُ الْمُعْتَدُونَ المقصورون على التجاوز والعدول عن حدود الله وعن مقتضى المروءة اللازمة للمرتبة الانسانية بخبث طينتهم وردائة فطرتهم
فَإِنْ تابُوا ورجعوا الى الايمان بعد ما بالغوا في العناد والاستكبار وَبعد رجوعهم أَقامُوا الصَّلاةَ المصفية لبواطنهم عن الميل الى غير الحق وَآتَوُا الزَّكاةَ المطهرة لظواهرهم عما يشغلهم عن الحق فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أنتم وهم سواء في سلوك طريق الحق والرجوع نجوه وَما نُفَصِّلُ ونوضح الْآياتِ الدالة على توحيدنا الا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ويصلون الى مرتبة اليقين العلمي ويريدون الترقي منها الى اليقين العيني والحقي
وَإِنْ نَكَثُوا ونقضوا أَيْمانَهُمْ ونبذوا عهودهم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وراء ظهورهم وَمع ذلك قد طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ بتصريح التكذيب والتقبيح في الاحكام والمعتقدات وعموم الطاعات والعبادات فَقاتِلُوا ايها الغزاة المرابطون قلوبكم مع الله ورسوله أَئِمَّةَ الْكُفْرِ اى صناديدهم ورؤساءهم لأنهم ضالون مضلون وان تفوهوا بالعهد والميثاق لا تبالوا بهم وبعهودهم إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أصلا لتخمر طينتهم على الشرك والشقاق لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ يفقهون ويتنبهون اى سفلتهم الضالون عما عليه رساؤهم المضلون بعد انقراضهم.
ثم قال سبحانه تحريضا للمؤمنين على القتال على وجه المبالغة أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا ونقضوا أَيْمانَهُمْ وَبعد نقضهم الايمان والعهود قد هَمُّوا قصدوا واهتموا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ من مكة وَالحال انه هُمْ قوم قد بَدَؤُكُمْ بالمعاداة والمخاصمة أَوَّلَ مَرَّةٍ في بدء الإسلام حين تحدوا مع رسول الله بالمعارضة مرارا فأفحموا والتجائوا الى المقارعة والمشاجرة أَتَخْشَوْنَهُمْ منهم ايها المؤمنون في مقاتلتهم ان يلحقكم مكروه من جانبهم أم تداهنون معهم وتضعفون عنهم وان خشيتم أنتم عن لحوق المكروه وعروض المنكر من قبلهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ لأنه قادر على وجوه الانتقامات فعليكم ان تخشوا من الله ومخالفة امره وحكمه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله
وبأوامره ونواهيه
وبالجملة قاتِلُوهُمْ حيث وجدتموهم فإنكم منصورون عليهم بنصر الله إياكم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ بأنواع العذاب من الأسر والقتل والاجلاء وَيُخْزِهِمْ اى يذلهم ويهنهم ما بقي منهم ومن ذرياتهم وَيَنْصُرْكُمْ دائما عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ بقهرهم وإذلالهم صُدُورَ قَوْمٍ غرباء مُؤْمِنِينَ حيث صارت قلوبهم مرضى من وعيدات أولئك الطغاة الغواة المتجبرين المتكبرين
وَيُذْهِبْ بقتل أولئك الكفرة وقمعهم واستئصالهم غَيْظَ قُلُوبِهِمْ اى ما حدث وخدش في قلوب هؤلاء الغرباء المؤمنين الذين تركوا أوطانهم بحب دين الإسلام من استيلاء الكفار وخافوا من كثرة عددهم وعددهم وجاههم ومالهم وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ان يصرف ويرجع من الباطل بسبب قلعهم وقمعهم من في قلوبهم مرض من الأقاصي والأداني وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده عَلِيمٌ بمخايلهم وامراض قلوبهم حَكِيمٌ في علاجها ودفعها.
ثم قال سبحانه على وجه التشنيع للمؤمنين تحريكا الحمية الايمان أَمْ حَسِبْتُمْ وظننتم ايها المؤمنون الكارهون للقتال المتقاعدون عن امتثال الأوامر الواقعة فيه أَنْ تُتْرَكُوا
على ما أنتم عليه ولا تؤمروا بالقتال من بعد وَزعمتم ايضا زعما فاسدا لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ ولما يفصل ويميز سبحانه بعلمه الحضوري الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ في سبيله مخلصين مخلصين خالصا لرضاه وَمع ذلك لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا من دون رَسُولِهِ المستخلف منه النائب عنه وَلا من دون الْمُؤْمِنِينَ المرابطين قلوبهم مع الله ورسوله وَلِيجَةً اى بطانة ومرجعا من الكفار يوالونهم ويفشون إليهم سرائرهم بلى ان الله عليم بجميع ما صدر عنكم من علامات الإخلاص وامارات النفاق وَاللَّهُ المطلع بجميع أحوالكم خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ اى بعموم ما تتخيلون وتخطرون ببالكم من التكاسل والتواني والالتجاء الى الأعداء والرجوع إليهم في خلواتكم واسراركم وموالاتكم معهم في قلوبكم
ثم قال سبحانه ما كانَ اى ما صح وما جاز لِلْمُشْرِكِينَ المصرين على الشرك والعناد أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ المعدة لأهل الايمان ليعبدوا فيها حتى يتحققوا بمقام المعرفة والتوحيد حال كونهم شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ والشرك قولا وفعلا وشركهم مناف لتعميرها إذ أُولئِكَ البعداء الهالكون في تيه الجحود والضلال قد حَبِطَتْ اى سقطت عن درجة الاعتبار أَعْمالُهُمْ الصالحة عند الله بحيث لا ينفعهم أصلا لمقارنتها بالشرك بل وَمآل أمرهم انهم داخلون فِي النَّارِ المعدة لأهل الشرك والضلال بل هُمْ خالِدُونَ فيها لا نجاة لهم منها أصلا سواء صدر عنهم الأعمال الصالحة أم لا
بل إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ المعدة للعبادة والتوجه نحو الحق والمناجاة معه مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وتحقق بمرتبة اليقين العلمي في توحيده وَالْيَوْمِ الْآخِرِ اى صدق باليوم الآخر الذي مصير الكل اليه وَأَقامَ الصَّلاةَ وادام الميل والرجوع نحو الحق بعموم الجوارح والأركان مستمرا دائما وَآتَى الزَّكاةَ تخفيفا وتطهيرا لنفسه عن العلائق العائقة عن التوجه الحقيقي الحقي وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ اى لم يكن في قلبه خشية من فوات شيء أصلا الا من عدم قبول الله اعماله ومن عدم رضاه سبحانه منه فَعَسى وقرب أُولئِكَ السعداء الأمناء الباذلون جهدهم في طريق التوحيد المشتاقون الى فضاء الفناء المتصفون بالأوصاف المذكورة المداومون عليها المحافظون إياها أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ المتحققين في مقام الرضا والتسليم ان وفقوا بالإخلاص من عنده سبحانه. اصنع بنا ما تحب أنت عنا وترضى يا دليل الحائرين
أَجَعَلْتُمْ اى صيرتم وسويتم ايها المشركون المعاندون المكابرون سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
مع كونهما صادرتين عنكم وأنتم على شرككم وضلالكم كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ اى كايمان من آمن بتوحيد الله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء الأعمال وَمع ذلك قد جاهَدَ بماله ونفسه فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه وكلمة توحيده كلا وحاشا لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ عملة السقاية وعمرة المساجد مع المؤمنين الموقنين بتوحيد الله المجاهدين في سبيل الله لنصرة دينه وَاللَّهُ الهادي لعباده الى توحيده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى أوامره ونواهيه المنزلة على رسله وأنبيائه
الَّذِينَ آمَنُوا اى تحققوا بمرتبة اليقين العلمي بتوحيد الله وَهاجَرُوا عن بقعة الإمكان طالبين مرتبة أعلى منها وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وفي طريق توحيده مع جنود النفوس الامارة واهل الشقاق والخلاف ساعين فيه بِأَمْوالِهِمْ اى ببذل ما نسب إليهم من امتعة الدنيا العائقة عن الوصول الى فضاء الوحدة وَأَنْفُسِهِمْ بمنعها عن مشتهياتها ومقتضياتها طالبين افناء انانياتهم وهوياتهم الباطلة في هوية الحق أَعْظَمُ دَرَجَةً وأعلى منزلة ومرتبة عِنْدَ اللَّهِ ما داموا سالكين سائرين وَبعد وصولهم وانقطاع سلوكهم أُولئِكَ السعداء الواصلون هُمُ الْفائِزُونَ المتحققون الواصلون بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
لذلك يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ إياهم اى باستعداداتهم الكامنة في عالم الأسماء والصفات بِرَحْمَةٍ وروح وراحة غير منقطعة نازلة ناشئة مِنْهُ سبحانه وَرِضْوانٍ فائض لهم من جانبه سبحانه قد كلت الألسن عن تفسيره وانحسرت العقول عن التعبير عنه وَجَنَّاتٍ متنزهات متجددات حسب تجددات التجليات الحبية لَهُمْ فِيها اى في تلك الجنات المتجددات نَعِيمٌ اى امداد عظيم من قبل الحق وفيض مُقِيمٌ دائم غير منقطع
خالِدِينَ فِيها أَبَداً مؤبدا لا تأبيد أمد ولا زمان بل لا يعرف كنهه الا هو وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المتجلى على قلوب خلص عباده عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ موهوب لهم حسب استعداداتهم وقابلياتهم بعد ما انكشفوا
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم الاجتناب عن اهل الغفلة والغرور حتى لا يسرى ضلالهم إليكم سيما اقرباءكم النسبية لا تَتَّخِذُوا ايها المهاجرون آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا واختاروا الْكُفْرَ والشرك عَلَى الْإِيمانِ والتوحيد وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ سيما بعد ورود النهى فَأُولئِكَ المتخذون المضلون الضالون هُمُ الظَّالِمُونَ المتجاوزون عن مقتضى حكم الله وامره ونهيه
قُلْ يا أكمل الرسل للمؤمنين الذين يقصدون موالاة أنسابهم إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ اى أقاربكم وذووا أرحامكم وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها اى اكتسبتموها بأيديكم وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها بمضى وقت ربحها ونمائها وَمَساكِنُ طيبة تَرْضَوْنَها اى ترضى بها نفوسكم وتطيب بها قلوبكم أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ المحبوب في قلوب أوليائه وَرَسُولِهِ الذي هو حبيبه وخليله وهو النائب المستخلف عنه سبحانه وَكذا من جِهادٍ هو عبارة عن الاجتهاد فِي سَبِيلِهِ سبحانه للفوز بشرف الوصول والشهود والنيل الى غاية المأمول والمقصود فَتَرَبَّصُوا اى فعليكم ان تتربصوا وتنتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ المنتقم الغيور من المتخذين لغيره اولياء بِأَمْرِهِ الموجب لعذابه وَاللَّهُ الهادي لعباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى ولائه وولايته اذكروا يا ايها المؤمنون
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ الحفيظ الرقيب عليكم فِي مَواطِنَ ومواقع كَثِيرَةٍ حين لا ينفعكم أحسابكم وانسابكم شيأ لا سيما في حربكم مع هوازن وثقيف وَلا سيما يَوْمَ حُنَيْنٍ هو واد بين مكة
والطائف إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ من ان تكونوا مغلوبين إذ أنتم اثنا عشر الفا وعدوكم اربعة آلاف فَلَمْ تُغْنِ حينئذ كثرتكم عَنْكُمْ شَيْئاً من غلبة العدو مع قلتهم وَقد صرتم أنتم حينئذ من شدة رعبكم وخوفكم الى حيث قد ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ اى مع وسعتها فلم تجدوا فيها مقرا تتمكنون عليها من غاية رهبتكم ثُمَّ ادى أمركم وخوفكم الى ان وَلَّيْتُمْ ورجعتم أنتم مُدْبِرِينَ صائرين ظهركم على العدو منهزمين منهم
ثُمَّ بعد انهزامكم وإدباركم قد أَنْزَلَ اللَّهُ المتولى لأموركم سَكِينَتَهُ اى رحمته الموجبة للقرار والوقار والطمأنينة عَلى قلب رَسُولِهِ وَعَلَى قلوب الْمُؤْمِنِينَ الذين تمكنوا معه واستقروا حوله اتكالا على الله واتفاقا مع رسوله وَبتثبيت الرسول وتمكينه وتقرير من تبعه قد أَنْزَلَ سبحانه نصرة لنبيه من الملائكة جُنُوداً مجندة لَمْ تَرَوْها باعينكم وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بنزولها عذابا شديدا من القتل والأسر والإذلال في النشأة الاولى وفي الاخرى بأضعافها وَذلِكَ اى ما لحقهم من انواع الإذلال جَزاءُ الْكافِرِينَ المحاربين مع الله ورسوله روى ان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج بعد فتح مكة نحو حنين لقتال هوازن وثقيف مع عشرة آلاف من المهاجرين وألفين من الطلقاء وكان العدو اربعة آلاف فاعجب المسلمين كثرتهم فلما التقوا قالوا لن نغلب اليوم لان العدو في غاية القلة فكره الله منهم قولهم هذا وإعجابهم فاقتتلوا قتالا عظيما فغلب العدو عليهم فولوا منهزمين فبقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع شرذمة قليلة فأراد ان يقتحم على العدو بنفسه فأخذ عمه العباس بعنانه فنزل صلّى الله عليه وسلّم وقبض قبضة من التراب ورمى نحو العدو وذلك عند نزول الملائكة فقال حينئذ
انا النبي لا كذب... انا ابن عبد المطلب
الآن قد حمى الوطيس اى التنور فأمر العباس ان يصيح على الناس المنهزمين فصاح يا عباد الله يا اصحاب الشجرة يا اصحاب سورة البقرة فكروا عنقا واحدا فاستقبلوا قائلين لبيك لبيك فصفوا خلف الملائكة وازدحموا وهجموا على العدو والريح من خلفهم ومن امام عدوهم فانهزم العدو بنصر الله وتأييده
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ويوفق عَلى مَنْ يَشاءُ إيمانه من أولئك المنهزمين فأتوا رسول الله وآمنوا فاعطى صلّى الله عليه وسلّم من سبى منهم بلا فدية وَاللَّهُ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ يغفر لمن تاب وآمن رَحِيمٌ يقبل توبته ويرحم عليه ان أخلص
ثم قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان تذبوا وتدفعوا اهل الشرك عن الحرم إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ المنغمسون في خباثة الشرك والضلال نَجَسٌ يجب ان يطهر بيت الله منهم فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا اى سنة حجة الوداع وَإِنْ خِفْتُمْ ايها المؤمنون بسبب إخراجهم ومنعهم عن الحرم عَيْلَةً فقرا وقلة زاد ومكسب فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وسعة رزقه إِنْ شاءَ ترفهكم واتساعكم إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده عَلِيمٌ بمصالحهم حَكِيمٌ في إتيانها عند الحاجة ومقدارها
وبالجملة قاتِلُوا ايها الغزاة الحماة لدين الله المشركين الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وتوحيده وَلا يصدقون بِالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء الأعمال وان تفوهوا بالإيمان مداهنة ونفاقا لا تبالوا بايمانهم هذا وَهم ليسوا مراعين على مقتضى الايمان إذ لا يُحَرِّمُونَ من المحرمات ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ باذنه سبحانه وَبالجملة أولئك البعداء المنهمكون في بحر الغفلة والغرور لا يَدِينُونَ ولا ينقادون دِينَ الْحَقِّ المنزل على الحق ليصلوا الى مقر التوحيد وان كانوا؟؟؟
انهم مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى يدعون إتيانه إياهم وهم ليسوا على مقتضى الكتاب وان ادعوا وبالجملة لا تبالوا بهم وبادعائهم بل قاتلوهم الى ان تذلوهم وتصاغروهم حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ اى ٢ التي يجزى او يعفى بها دينهم إياهم حماية له عَنْ يَدٍ اى حال كون اعطائهم صادرا منهم عن يد قاهرة غالبة عليهم وَهُمْ في حين العطاء والإعطاء صاغِرُونَ ذليلون مهانون بحيث يؤخذ من لحاهم ويضرب في لهازمهم وبالجملة خذوا الجزية منهم على وجه تضطروهم وتلجؤهم الى الايمان
وَكيف لا يقتل هؤلاء الكفرة المشركون إذ قالَتِ الْيَهُودُ منهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ المنزه عن مطلق الزواج والازدواج والأبوة والبنوة إذ هي من لوازم البشر وَقالَتِ النَّصارى ايضا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ذلِكَ المقول المهمل قَوْلُهُمْ دائما جاريا بِأَفْواهِهِمْ وان فرض مخالفة اعتقادهم قولهم هذا فلا اقل انهم يُضاهِؤُنَ ويشابهون بقولهم هذا قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا وأشركوا مِنْ قَبْلُ بأمثال هذه المهملات حيث قالوا الملائكة بنات الله لذلك قاتَلَهُمُ اللَّهُ واهلكهم بأمثال هذه المقالات المهملة أَنَّى يُؤْفَكُونَ اى كيف يصرفون أولئك الحمقى الناكبون عن الحق الصريح الى الباطل الزائغ الرائل
وبالجملة اتَّخَذُوا من فرط جهلهم وحيث طينتهم أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مستقلين في الوجود متأصلين فيه مِنْ دُونِ اللَّهِ المنزه عن الشريك مطلقا المستقل في الوجود المتفرد فيه بلا وجود لغيره أصلا الى حيث يعبدونهم كعبادة الله وَخصوصا الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَالحال انهم ما أُمِرُوا في كتبهم التي قد ادعوا العمل بمقتضاها إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً أحدا صمدا فردا وترا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا إذ لا إِلهَ ولا موجود إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ له من مصنوعاته واظلاله
وبالجملة يُرِيدُونَ بأمثال هذه المفتريات الباطلة أَنْ يُطْفِؤُا اى يخمدوا ويستروا نُورَ اللَّهِ المتجلى في الآفاق المتشعشع في الكائنات بِأَفْواهِهِمْ اى بشركهم الناشئ من أفواههم بلا سند من عقل او نقل او كشف صريح وشهود ظاهر وَيَأْبَى اى يمنع اللَّهِ المنزه عن التعدد مطلقا ان يكون له شريك في الوجود إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ اى سوى ان يتجلى بجميع أوصافه وأسمائه على من استخلفه من خلقه فيتراءى منه جميع آثار أسمائه وعكوس أوصافه وأخلاقه الا وهو المظهر الكامل الجامع المحمدي الذي قد اتحد دون مرتبته صلّى الله عليه وسلّم قوس الوجوب والإمكان ودائرتا الغيب والشهادة لذلك قال صلى الله عليه وسلّم انا بعثت لأتمم مكارم الأخلاق قال ايضا انا سيد ولد آدم وقال ايضا آدم ومن دونه تحت لوائى وقال ايضا من أطاعني فقد أطاع الله ومن رآني فقد رأى الحق ونزل في شانه اليوم أكملت لكم دينكم الى غير ذلك مما دل على وحدة مرتبته واحاطتها على جميع المراتب لذلك ختم به صلّى الله عليه وسلّم امر الرسالة والتشريع وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ الساترون ظهور الحق المريدون اطفاء نور الوجود في المشكاة المحمدية
وكيف يريدون اطفاء نوره اللائح اللامع من المظهر الجامع المحمدي مع انه سبحانه هُوَ القادر المقتدر والقيوم المطلق الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ الهادي بِالْهُدى العام الشامل لكافة البرايا وَدِينِ الْحَقِّ الا وهو الإسلام المنزل على خير الأنام لِيُظْهِرَهُ اى الرسول ودينه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ اى على كل الأديان وينسخ جميعها به لابتناء دينه على التوحيد الصرف الخالي عن شوب الثنوية وشين الكثرة مطلقا وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ظهوره بالهداية العامة ونسخ دينه جميع الأديان لخبث باطنهم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبرسوله
تحققوا وتيقنوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ الموسوسين لضعفاء العوام الملبسين لهم طريق الحق بالتغريرات المبتدعة من تلقاء أنفسهم كالشيخوخة التي قد ظهرت في زماننا هذا وانما غرضهم ومعظم مأمولهم لَيَأْكُلُونَ ويأخذون أَمْوالَ النَّاسِ المنحطين عن زمرة اهل الحق والتحقيق بِالْباطِلِ اى بترويج الباطل الزائغ الذي قد ابتدعوها من تلقاء أنفسهم بلا مستند لهم وَيَصُدُّونَ اى يصرفون ويضلون باباطيلهم وتلبيساتهم ضعفاء الأنام عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو الإسلام تلبيسا عليهم وتغريرا لهم ليأخذوا الرشى منهم ويكنزوها وَلم يعلموا ان الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ اى يجعلونهما مخزونين محفوظين من أية ملة كانوا وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ طلبا لمرضاته فَبَشِّرْهُمْ يا أكمل الرسل بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم مفزع اذكر لهم
يَوْمَ يُحْمى اى حين توقد وتحرق عَلَيْها اى على تلك الذهب والفضة المخزونة المحفوظة نار مع انها هي موضوعة فِي نارِ جَهَنَّمَ أمدا وهذا مبالغة لشدة احمائه وبعد ما قد حميت الى ان صارت جذوة نار وأية نار فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ ليوسموا بها ويعلموا على رؤس الاشهاد جزاء ما افتخروا بها في النشأة الاولى وَجُنُوبُهُمْ ايضا ليتألموا بها أشد تألم بدل ما قد تلذذوا بها أشد تلذذ وَتكوى بها ايضا ظُهُورُهُمْ بدل ما قد كانوا يستظهرون بها ويتعاونون بسببها ويقال لهم حين الكي والتعذيب هذا ما كَنَزْتُمْ واختزنتم لِأَنْفُسِكُمْ لتنتفعوا بها وتسروا بجمعها وادخارها وهذا نفعها فَذُوقُوا اليوم وبال ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ بدل ما قد كنتم تتلذذون بها.
ثم قال سبحانه تعليما للمؤمنين وتنبيها على ما قد ثبت عنده سبحانه من الأيام والشهور لتتميم مصالحهم ومعاملاتهم إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ على ما ثبت عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ اى في حضرة علمه ولوح قضائه يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى حين اظهر سبحانه عالم الكون والفساد المقدر بمكيال الأيام والليالى المنقسمتين الى الشهور والأعوام والأسبوع والساعات إذ في أزل الذات لا صباح ولا مساء ولا صيف ولا شتاء ولا فصول الفصول ولا شهرة الشهور ولا عدة السنين ولا الأيام ولا الساعات فسبحان من تنزه عن مطلق التبدل والتحول وتقدس عن الظهور والبطون مِنْها اى من تلك الشهور المثبتة في كتاب الله أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ هي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم سميت بها لان الله تعالى سبحانه قد حرم فيها لعباده بعض ما قد أباح لهم في الشهور الاخر كرامة لها واحتراما ولهذا جعل رأس السنة وأول العام منها فعليكم ايها المكلفون ان تواظبوا فيها على الطاعات وتداوموا على الخيرات والمبرات وتجتنبوا عن الآثام والجهالات وأكثروا فيها الأعمال الصالحات وتوجهوا نحو الحق في جميع الحالات سيما في تلك الشهور المعدة للتوجه نحوه سبحانه ذلِكَ اى تحريم الشهور الاربعة الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم الموروث لكم من ملة أبيكم ابراهيم وإسماعيل عليهما السّلام فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بالخروج عن مقتضى تحريمها وهتك حرمتها حتى لا تستحقوا عذاب الله ونكاله وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ فيها ان قاتلوكم ولا تبادروا ولا تسابقوا الى قتالهم فيها وفي غيرها بل ان بادروا على قتالكم قاتلوهم واقتلوهم كَافَّةً اى جميعا كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً بلا ترحم وتوقيت وَاعْلَمُوا ايها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ المستوي على العدل القويم مَعَ الْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن هتك حرمة الله قد حرمها الله لحكمة ومصلحة لم يطلعكم عليها
إِنَّمَا النَّسِيءُ اى تأخير حرمة الشهر المحرم الى شهر آخر بدله من غير المحرمات زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ إذ خصوصية هذه الأشهر معتبرة في الحرمة
واستبدالها ازدياد في الكفر لان هتك الحرمة كفر وتبديلها كفر آخر يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا اى بسبب تبديلهم ضلالا زائدا على ضلالهم الأصلي إذ يُحِلُّونَهُ اى النسيء الذي يؤخرونه عاماً وسنة وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً آخر وسنة اخرى بلا رعاية خصوصيته في التحريم وليس غرضهم من هذا التحليل والتحريم الا لِيُواطِؤُا ويوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وهي الاربعة من غير التفات الى خصوصية فَيُحِلُّوا بفعلهم وتبديلهم هذا ما حَرَّمَ اللَّهُ بخصوصه وما ذلك الا ان زُيِّنَ اى حسن وحبب لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ اى تحليلهم وتبديلهم القبيح وَاللَّهُ الهادي لعباده الى صوب جنابه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ الخارجين عن مقتضى مأموراته
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ماذا عرض ولحق لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لنصرة دينه وإعلاء كلمة توحيده اثَّاقَلْتُمْ تثاقلتم وتعاللتم وتباطئتم أنتم وقد صرتم من غاية ثقلكم وتكاسلكم كأنكم تلزقون وتلصقون إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ ايها الحمقى المستبطئون المتثاقلون بِالْحَياةِ الدُّنْيا الدنية الحقيرة ومزخرفاتها الفانية بدلا مِنَ الْآخِرَةِ ولذاتها الباقية فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا والاستمتاع بها والتلذذ بمستلذاتها ومشتهياتها فِي الْآخِرَةِ اى في جنب لذاتها ودرجاتها وحالاتها الدائمة الباقية ازلا وابدا إِلَّا قَلِيلٌ مستحقر مسترذل بل فان مطلق لا وجود لها أصلا عند من كحل الله عين بصيرته واذهب عمى قلبه
إِلَّا تَنْفِرُوا وما تشتغلوا الى تهيئة اسباب النفر واعداد راده وعتاده بعد ما أمرتم به يُعَذِّبْكُمْ الله المنتقم منكم عَذاباً أَلِيماً باستيلاء عدوكم عليكم واستئصالكم بافظع الوجوه وأفزعها وَبعد إهلاككم يَسْتَبْدِلْ منكم قَوْماً غَيْرَكُمْ مطيعين لأمره منقادين لحكمه لينفروا في سبيله كأهل اليمن والفرس وَاعلموا انكم بتكاسلكم وتقاعدكم عن القتال المأمور به لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً إذ هو سبحانه منزه في ذاته عن تقويتكم واضراركم وكفركم وايمانكم وَاللَّهُ المنتقم على من خرج عن مقتضى امره عَلى كُلِّ شَيْءٍ من صور الانتقام والانعام قَدِيرٌ لا يخرج عن حيطة قدرته شيء
إِلَّا تَنْصُرُوهُ أنتم اى ان لم تنصروا نبيه المؤيد من عنده فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ الرقيب عليه اذكروا نصر الله إياه وقت إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا اى اهل مكة من مكة حال كونه ثانِيَ اثْنَيْنِ اى ليس معه الأرجل واحد وهو أبو بكر رضى الله عنه فذهبا نحو الجبل فدخلا الغار واقتفى العدو اثرهما فوصلوا الغار إِذْ هُما حينئذ فِي الْغارِ فتحزن صاحبه من ادراك العدو اذكروا إِذْ يَقُولُ صلى الله عليه وسلّم في تلك الحالة لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ عن ادراكهم ولحوقهم ولا تيأس عن نصر الله وحفظه إِنَّ اللَّهَ الرقيب علينا حاضر مَعَنا غير مغيب عنا يكفينا ويكف عنا مؤنة ضررهم واضرارهم فَأَنْزَلَ اللَّهُ سبحانه بقوله صلّى الله عليه وسلّم سَكِينَتَهُ اى اطمئنانه وقراره عَلَيْهِ اى على صاحبه وَبالجملة أَيَّدَهُ سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بِجُنُودٍ اى ملائكة حافظين حارسين له صلّى الله عليه وسلّم بحيث لَمْ تَرَوْها بعيونكم ايها النظار مثل أولئك الجنود وَبالجملة قد جَعَلَ سبحانه بنصره وتأييده إياه صلّى الله عليه وسلّم كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا اى ما يدعون ويخاصمون معه صلّى الله عليه وسلّم لأجله وترويجه من الأصنام والأوثان السُّفْلى الدنيا النزلى لا يؤبه ولا يبالى بها أصلا وَكَلِمَةُ اللَّهِ اى كلمة توحيده التي قد ظهر بها حبيبه صلّى الله عليه وسلّم هِيَ الْعُلْيا إذ الحق يعلو ولا يعلى عليه وَاللَّهُ القادر المقتدر على عموم ما يشاء عَزِيزٌ غالب في نصر أوليائه
وقهر أعدائه حَكِيمٌ في عموم أفعاله وتدابيره
انْفِرُوا ايها الغزاة المجاهدون في سبيل الله خِفافاً نشطين فرحين مشتاقين منبسطين لمرتبة الشهادة وَثِقالًا قاصدين لاخذ الغنيمة ونيل الأحمال والأثقال من عدوكم او المعنى مشاة وركبانا وَبالجملة جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ لتهيئة الأسباب واعداد السفر وَأَنْفُسِكُمْ بتحمل المشاق والمتاعب فِي سَبِيلِ اللَّهِ لتفوزوا من عنده سبحانه بالمثوبة العظمى والمرتبة العليا التي لا درجة أعلى منها ذلِكُمْ اى ما أمرتم به من عند ربكم خَيْرٌ لَكُمْ في اولاكم واخراكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير وتميزونه من الشر ثم قال سبحانه في حق المتخلفين عن القتال المأمور به المستأدنين عن رسول الله المعتذرين له بالأعذار الكاذبة تعريضا وتوبيخا لهم وتقريعا
لَوْ كانَ ما تدعوهم اليه وتهديهم نحوه يا أكمل الرسل عَرَضاً متاعا دنيويا مما يشتهيه نفوسهم قَرِيباً سهلة الحصول وَمع ذلك كان السعى في حصوله سَفَراً قاصِداً متوسطا مساويا نفعه لمشقة تحصيله لَاتَّبَعُوكَ البتة طائعين طامعين لما يتأملونه من جلب النفع ولا يتبعونك لغرض ديني ونفع اخروى وان كان نفعه بأضعافه وآلافه وَلكِنْ قد بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ المسافة واشتدت الشُّقَّةُ والمشقة فيه مع جزمهم بعدم الفائدة فيه بزعمهم الفاسد واعتقادهم الكاسد وَمع ذلك سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ معتذرين متمنين بلا مواطأة قلوبهم بألسنتهم بعد ما رجعت من غزوة تبوك والله لَوِ اسْتَطَعْنا بالخروج استطاعة مالية او بدنية لَخَرَجْنا مَعَكُمْ البتة مع انهم قادرون مستطيعون تينك الاستطاعتين معا وهم من خباثة بواطنهم يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بهذا الحلف الكاذب ويعرضونها على عذاب الله ظلما وعدوانا وَاللَّهُ المطلع لمخايل عموم المنافقين يَعْلَمُ بعلمه الحضوري إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم وعذرهم هذا
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ فيما قد جئت به يا أكمل الرسل من ترك الاولى لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حين استأذنوك بالقعود اى لهؤلاء المنافقين المتخلفين المعتذرين بالأعذار الكاذبة حَتَّى يَتَبَيَّنَ ويظهر لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في الاعتذار والاعتلال وَتَعْلَمَ وتميز الْكاذِبِينَ فيه من الصادقين على مقتضى نفاقهم الكامنة في نفوسهم
وبالجملة لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ اى ليس من عادة المؤمنين الاستيذان منك الى الخروج نحو القتال مطلقا بل هم منتظرون دائما مهيئون أسبابهم مترصدون الى أَنْ يُجاهِدُوا في سبيل الله بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وينتهزوا الفرصة بالمسابقة حين أمروا فكيف ان يستأذنوا بالقعود وعدم الخروج، والمعذورون منهم متألمون متحسرون يبكون في زوايا الخمول والحرمان محزونين ملهوفين متأسفين لذلك وعدلهم سبحانه من فضله درجة عظيمة وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن مخالفة امر الله وامر رسوله بلا عذر شرعي
بل إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ بالقعود والتخلف المنافقون الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وبتوحيده وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء الأعمال وَمع ذلك قد ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ لعدم اطمئنانها ورسوخها بالإيمان والتوحيد فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ المركوز في جبلتهم يَتَرَدَّدُونَ يتحيرون ويتذبذبون لا إلى هؤلاء ولا الى هؤلاء
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ وقصدوا الوفاق والانفاق مع المؤمنين كما أظهروا لَأَعَدُّوا وهيئوا لَهُ عُدَّةً اهبة وأسبابا بوجه حسن طلق بشاش بسام وَلكِنْ لخبث بواطنهم وانهماكهم في الغفلة والضلال قد كَرِهَ اللَّهُ المطلع على قساوة قلوبهم انْبِعاثَهُمْ اهتزازهم وتحركهم نحو القتال فَثَبَّطَهُمْ لذلك وحبسهم بل اقعدهم في مكانهم بإلقاء الرعب والكسل
في قلوبهم وَكأنه قد قِيلَ لأسماعهم من قبل الحق تضليلا لهم وتغريرا حسب اسمه المضل المذل اقْعُدُوا ايها المنهمكون في الغفلة مَعَ الْقاعِدِينَ من النساء والصبيان والمرضى والزمنى وانما ثبطهم سبحانه وكره نهوضهم وانبعاثهم
إذ قد علم سبحانه منهم انهم لَوْ خَرَجُوا معكم وكانوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا فسادا وإفسادا بالغيبة والتميمة وإيقاع الفتنة بينكم وَلَأَوْضَعُوا اسرعوا وادخلوا ركائبهم خِلالَكُمْ ليخللوا بينكم ويفرقوا جمعكم حتى يشتغلوا بالنميمة وإذا ازدحم العدو هزموكم بتفريق جمعكم وتشتيت شملكم وبالجملة هم انما يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ويوقعونكم فيها باى وجه أمكن وَالحال انه فِيكُمْ ومن جمعكم وبين أظهركم قوم سَمَّاعُونَ لَهُمْ اى ضعفة يسمعون قولهم ويقبلون نصحهم ويرغبون إليهم ويطيعون أمرهم وَاللَّهُ المطلع لأحوال عباده عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى أوامره سرا وعلانية
والله لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ يعنى ليس هذا أول ابتغائهم وإيقاعهم بل هم قد أوقعوا الفتنة مِنْ قَبْلُ وأرجفوا بهلاكك وشتتوا شمل أصحابك وَقَلَّبُوا لَكَ ولأصحابك الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ اى النصر والتأييد الموعود لك يا أكمل الرسل المقرر دونه سبحانه من نصر دينك وإظهاره على عموم الأديان ونسخه إياها وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ ونفذ حكمه وقضيت حكمته وعلت كلمته وَهُمْ من خبث بواطنهم كارِهُونَ ظهور دينك وارتفاع شأنك وسمو برهانك
وَمِنْهُمْ من المستأذنين المتخلفين مَنْ يَقُولُ لك حين استأذن منك يا أكمل الرسل بالقعود ائْذَنْ لِي بالقعود إذ ليس لي قوة الخروج وَلا تَفْتِنِّي ولا توقعني في الفتنة والمعصية بالخروج انى أخاف على نفسي من انواع الفتن والمعاصي لو خرجت قل لهم يا أكمل الرسل توبيخا وتقريعا أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا يعنى تنبهوا ايها المؤمنون المتنبهون انهم قد وقعوا في فتنة التخلف واظهار النفاق والشقاق باستيذانهم هذا وقولهم هكذا واستحقوا سوء العذاب وأشد النكال وَبالجملة إِنَّ جَهَنَّمَ البعد والخذلان لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ في الدنيا والآخرة ومن شدة شكيمتهم وغيظ قلوبهم معك يا أكمل الرسل
إِنْ تُصِبْكَ في بعض أسفارك وغزواتك حَسَنَةٌ ظفر وغنيمة تَسُؤْهُمْ وتزيد غيظهم ونفاقهم وَإِنْ تُصِبْكَ أحيانا مُصِيبَةٌ كسر وهزيمة يَقُولُوا تصحيحا وتحسينا لرأيهم الفاسد قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا وقد أصبنا فيه مِنْ قَبْلُ اى حين تعوقنا وتخلفنا عن هؤلاء المستجسنين أمرهم وشأنهم وَيَتَوَلَّوْا عن مجمعهم الذي يشامتون فيه بحال المؤمنين تبحبحا وَهُمْ في رجوعهم وانصرافهم عند تفرقهم فَرِحُونَ مسرورون
قُلْ يا أكمل الرسل للمشامتين المنافقين بمقتضى كشفك وشهودك بربك لَنْ يُصِيبَنا من الحوادث والمصيبات الكائنة في علم الله ولوح قضائه إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ المقدر للآجال والأرزاق وجميع الأحوال والأفعال وعموم الحوادث والملمات الجارية في عالمي الغيب والشهادة لَنا وخصصنا به في حضرة علمه ولوح قضائه إذ هُوَ بذاته وبمقتضيات أسمائه الكاملة وأوصافه الشاملة مَوْلانا ومتولى عموم أمورنا يصنع بنا بمقتضى ما قد ثبت في حضرة علمه بلا تبديل ولا تغيير وَبالجملة مالنا الا الرضا بعموم ما جرى علينا من القضاء لذلك عَلَى اللَّهِ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية إذ مرجع الكل اليه كما ان مبدأه منه أولا وبالذات فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بتوحيد الذات وسريان سر الوحدة الذاتية الإلهية المتجلية على صفحات الكائنات وصحائف المكونات
قُلْ لهم ايضا هَلْ تَرَبَّصُونَ
وما تترقبون وتنتظرون أنتم بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ اى الا احدى العاقبتين الحميدتين اللتين كل منهما محض خير لنا ومنحة عظيمة وعطية كريمة كثيرة بالنسبة إلينا من ربنا وهما النصرة على الأعداء والشهادة في سبيل الله بيد أعدائه إذ قد وعدنا الله ايضا من فضله بأحدهما وَنَحْنُ ايضا نَتَرَبَّصُ بِكُمْ بمقتضى وحى الله والهامه أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ المنتقم الغيور بِعَذابٍ نازل مِنْ عِنْدِهِ سبحانه بلا صنع منا ودخل من قبلنا من كسف او خسف او زلزلة او طاعون او غيرها أَوْ بِأَيْدِينا اى بعذاب صادر منا واقع عليكم من القتل والأسر والاجلاء والإذلال وبالجملة فَتَرَبَّصُوا وانتظروا لما وعد لنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ منتظرون لما اوعدتم به حتى ننظر نحن وأنتم كيف يجرى حكم الله وامره بنا وبكم
قُلْ يا أكمل الرسل للمنافقين المتخلفين الذين يريدون اعانتك بالمال بدل الخروج الى الجهاد لن ينفعكم اليوم انفاقكم عند الله سواء أَنْفِقُوا طَوْعاً طائعين فيه أَوْ كَرْهاً كارهين له لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إذ الانفاق انما يقبل عنده سبحانه من المؤمنين الموقنين المصلحين المخلصين إِنَّكُمْ بسبب كفركم ونفاقكم مع الله ورسوله قد كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الحدود الإلهية مطلقا لا يقبل منكم الصدقات مطلقا لعدم مقارنتها بالإيمان والتوحيد
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ اى ليس عدم قبول نفقاتهم وصدقاتهم عند الله إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ المتوحد بذاته وأشركوا له ما هو من مصنوعاته وَبِرَسُولِهِ بتكذيبه وعدم أطاعته وانقياده وَعلامة كفرهم ونفاقهم انهم لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ الفارقة بين الكفر والايمان إِلَّا يأتونها مداهنة وَهُمْ في إتيانها كُسالى مبطؤن مؤخرون عن أوقاتها بلا انبعاث قلبي وداعية شوقية وَايضا لا يُنْفِقُونَ عموم ما ينفقون إِلَّا وَهُمْ في إنفاقه كارِهُونَ كراهة قلبية إذ لا يعتقدون ترتب الثواب عليه لعدم ايمانهم بيوم الجزاء ودار الثواب والعقاب وبعد ما قد تحقق كفرهم ونفاقهم
فَلا تُعْجِبْكَ يا أكمل الرسل أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ اى كثرتها وتفاخرهم بها إذ هي من الأسباب الجالبة لانواع العذاب والنكال عليهم وبالجملة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ المنتقم الغيور لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بجمعها وحفظها ونمائها وارتكاب الشدائد والمحن في تحصيلها وَمن كثرة محبتهم لها وحرصهم عليها تَزْهَقَ وتزول أَنْفُسُهُمْ وقت حلول الأجل عليهم وَهُمْ كافِرُونَ محجوبون عن توحيد الله والايمان به مائلون محرومون عنهما
وَمن جملة نفاقهم انهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ بالحلف الكاذب إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ اى من جملتكم وزمرتكم نفرح بفرحكم ونسر بسروركم ونتغمم بحزنكم ومصيبتكم وَالحال انه ما هُمْ مِنْكُمْ لشركهم وكفرهم المركوز في جبلتهم وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يخافون ان تفعلوا أنتم بهم فعلكم مع المشركين فاضطروا الى المداهنة والنفاق فأظهروا الإسلام حفظا لدمائهم وأموالهم وهم مضطرون على اظهار الايمان ومن غاية تذللهم واضطرارهم
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً منيعا من الحصون والقلاع أَوْ مَغاراتٍ في شعاب الجبال أَوْ مُدَّخَلًا جحرا يمكنهم الانجحار والاستتار فيه لَوَلَّوْا وانصرفوا البتة إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ويسرعون في الانصراف والانجحار اليه كالفرس الجموح
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ يعيبك ويغمزك فِي الصَّدَقاتِ اى في قسمة الغنائم ويتردد حولك حين القسمة طامعا فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها سهما او شيأ يعتد به رَضُوا منك واثنوا عليك شكرا لاعطائك وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها لعدم استحقاقهم وبسبب تخلفهم ونفاقهم إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ
ويفاجئون بالغيظ والسخط إظهارا لما في قلوبهم من الأكنة
وَلَوْ أَنَّهُمْ كانوا مؤمنين كما ادعوا قد رَضُوا في تقاسيم الغنائم وغيرها على ما آتاهُمُ اللَّهُ واعطاهم من فضله إذ هو الحكيم في قسمة أرزاق عباده على تفاوت درجاتهم وَرَسُولُهُ المستخلف له الملهم من عنده وَقالُوا من كمال إخلاصهم وتفويضهم كسائر المؤمنين حَسْبُنَا اللَّهُ المدبر الكافي لأمورنا يكفينا علمه بنا سَيُؤْتِينَا اللَّهُ المتكفل لأرزاقنا مِنْ فَضْلِهِ وسعة لطفه وجوده ما يكفينا وَسيعطينا رَسُولُهُ النائب عنه باذنه من الغنائم والصدقات ما يشبعنا ويغنينا إِنَّا بعد ما قد آمنا بالله وتحققنا بتوحيده بإرشاد رسوله إِلَى اللَّهِ الباقي بالبقاء الأزلي السرمدي لا الى غيره من الاظلال والعكوس والأموال والمزخرفات الفانية راغِبُونَ ليرزقنا من موائد رزقه المعنوي وفوائد توحيده الذاتي اى هم لو رضوا كما رضى المؤمنون الموقنون واعترفوا كما اعترفوا لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وتقريرا في قلوبهم
ثم بين سبحانه مصارف الصدقات فقال إِنَّمَا الصَّدَقاتُ والزكوات تصرف لِلْفُقَراءِ وهم الذين لا مال لهم ولا مكسب من الحرف وغيرها كأنه يكسر فقار ظهرهم الفاقة والافتقار وَالْمَساكِينِ وهم الذين لهم مكسب وصنعة لكن لا تفي لعيالهم كأن احتياجهم قد أسكنهم في زاوية المسكنة والهوان وَالْعامِلِينَ عَلَيْها اى الساعين لتحصيلها وجمعها وإيصالها الى مصارفها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم الذين قرب عهد إسلامهم يجب على المسلمين موانستهم ومواساتهم ليتقرروا على الايمان ويترسخوا في جادة الإسلام وَتصرف منها ايضا على من فِي الرِّقابِ اى فك رقبة من الرق وتحريرها وهو من أهم مهمات الإسلام وَالْغارِمِينَ الذين استغرق أموالهم في ديونهم ولم تف لأدائها تصرف إليهم منها ليؤدوها وَايضا تصرف منها سهم فِي سَبِيلِ اللَّهِ لتجهيز جيوش اهل الجهاد وتهيئة أسبابهم وعددهم إذ هي من أهم مهمات الدين وَابْنِ السَّبِيلِ وهو الذي انقطع وبعد عن الأهل والمال لمصلحة شرعية وبالجملة انما جرى هذه القسمة لهؤلاء المستحقين فَرِيضَةً صادرة مِنَ اللَّهِ مقدرة من عنده ليحافظ المؤمنون عليها وَاللَّهُ المدبر لأمور عباده عَلِيمٌ بمصارف الصدقات حَكِيمٌ في صرفها إياهم تقوية لهم وامدادا
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ويسيئون الأدب معه صلّى الله عليه وسلّم وَيَقُولُونَ في حقة افتراء واستهانة هُوَ أُذُنٌ اى سمع كله ليس له درية ودراية وتعمق في المعارف والحقائق بل يسمع منا ويجرى على ما سمع بلا تفتيش وتدبر قُلْ لهم يا أكمل الرسل مبلغا منا ناقلا عنا هو اذن لا اذن شر وفتنة بل أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ان صدر عنكم ما يتعلق بأمور دينكم موافقا لما امر الله به هو ايضا يقبله منكم لأنه صلّى الله عليه وسلّم يُؤْمِنُ بِاللَّهِ اى يقر ويصدق بوحدانيته وَيُؤْمِنُ ايضا لِلْمُؤْمِنِينَ المخلصين فيما أتوا به من الأعمال والأقوال الصادرة عن محض الإخلاص والطواعية وَكيف لا يكون الرسول اذن خير إذ هو كله رَحْمَةٌ اى شفقة وعطف لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وأخلصوا في ايمانهم وَبالجملة الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ باى وجه كان لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في النشأة الاخرى جزاء لما أتوا به من إيذاء رسوله في النشأة الاولى
ومن جملة نفاق المنافقين وشقاقهم انهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ اى لتسليتكم وتلبيسكم ايها المؤمنون على ما صدر عنهم من التخلف والتقول على سبيل العذر لِيُرْضُوكُمْ اى لترضوا أنتم عنهم وتقبلوا عذرهم وَاللَّهُ المطلع لضمائرهم وَرَسُولُهُ الملهم من لدنه سبحانه بمخايلهم وأباطيلهم أَحَقُّ وأليق أَنْ يُرْضُوهُ اى رسوله أحق بالإرضاء والمراضاة
وجد الضمير لان إرضاء الرسول مستلزم لإرضاء الله بل هو عين ارضائه ورضاه سبحانه عند من رفع سبل التعدد عن عينيه وغشاوة الكثرة عن بصره مطلقا إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ بالله وبحقية رسوله
أَلَمْ يَعْلَمُوا ولم يفهموا أولئك المتخلفون المؤذون لله ولرسوله أَنَّهُ اى الشان مَنْ يُحادِدِ ويشاقق اللَّهَ وَرَسُولَهُ ويتعد حدود الله ويخالف امر رسوله فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ جزاء لما اقترف من المعاداة فيكون خالِداً فِيها لا ينجو منها أصلا ذلِكَ اى الخلود في جهنم الحرمان الْخِزْيُ الْعَظِيمُ والهلاك الدائم الأليم ابدا دائما
ومن شدة نفاقهم وشقاقهم يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ المصرون على الكفر الكامن في قلوبهم المظهرون للايمان استهزاء ومداهنة أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ اى على المؤمنين سُورَةٌ طائفة من الكلام تُنَبِّئُهُمْ وتخبرهم بِما فِي قُلُوبِهِمْ من الكفر والنفاق فحينئذ فعلوا بهم ما فعلوا بالمشركين المجاهرين قُلِ لهم تهديدا وتقريعا اسْتَهْزِؤُا بالمؤمنين وامضوا على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق إِنَّ اللَّهَ المنتقم منكم مُخْرِجٌ ومظهر ما كنتم تَحْذَرُونَ منه وهو إنزال السورة لإفشاء حالكم انتقاما لكم
وَكيف لا ينتقم الله عنهم لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ اى لئن سألتهم واخذتهم حين استهزؤا بك وباصحابك وقت مرورهم عليك في غزوة تبوك قائلين انظروا الى هذا الرجل يريد ان يفتح قصور الشأم وحصونه هيهات هيهات فألهمت به أنت يا أكمل الرسل فدعوتهم وقلت لهم لم قلتم كذا وكذا فقالوا لا والله ما كنا في شأنك وشأن أصحابك في شيء بل إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ بالأراجيف مزاحا ليهون السفر علينا قُلْ لهم بمقتضى علمك إياهم بوحي الله والهامه توبيخا وتقريعا أَبِاللَّهِ المنزه ذاته عن ان يستهزئ به وَآياتِهِ البريئة عن النقص مطلقا وَرَسُولِهِ المطهر عن شوب الكذب كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ايها الحمقى فتربصوا وانتظروا حتى يستهزئ الله بكم فانا منتظرون
وبالجملة لا تَعْتَذِرُوا ايها المنافقون المخالفون لدين الله المعاندون لرسوله بالأعذار الفاسدة ولا تحلفوا بالحلف الكاذب انكم قَدْ كَفَرْتُمْ وأظهرتم الكفر بإيذاء الرسول وطعن دينه وقدح كتابه مدة اعماركم سيما بَعْدَ إِيمانِكُمْ اى بعد ما أظهرتم الايمان فارتفع الآن الامان عنا وعنكم بفعلكم هذا فلحقتم بالمشركين المجاهرين فنفعل بكم نحن بعد اليوم ما نفعل بهم إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ بعد ما تابوا عما صدر عنهم ورجعوا الى الله نادمين خاضعين عن ظهر القلب نُعَذِّبْ بالقتل والأسر والاجلاء والإذلال طائِفَةٍ اخرى منكم بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ مصرين على ما هم عليه من الكفر والنفاق وإيذاء الرسول والتخلف عن امره بلا توبة وندامة فعليكم ايها المؤمنون ان تعذبوهم حتما ذكرا وأنثى
إذ الْمُنافِقُونَ المصرون على النفاق اصالة وَالْمُنافِقاتُ المصرات عليه تبعا بَعْضُهُمْ ناش مِنْ بَعْضٍ يتظاهرون ويتعاونون في نفاقهم حيث يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ على عكس المؤمنين وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن عموم الخيرات والمبرات كلها وما ذلك الا انهم قد نَسُوا اللَّهَ المظهر الموجد لهم بالإعراض عن حكمه وإيذاء رسوله المبين لأحكامه فَنَسِيَهُمْ الله ايضا ولم ينظر إليهم بنظر الرحمة إِنَّ الْمُنافِقِينَ المصرين على النفاق المتمردين عن الوفاق هُمُ الْفاسِقُونَ المقصورون على الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية لذلك
وَعَدَ اللَّهُ المنتقم المقتدر على انواع الانتقام الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ المجاهرين بلا تفاوت نارَ جَهَنَّمَ منزلا لا نجاة لهم منها أصلا بل صاروا خالِدِينَ فِيها ابدا هِيَ
حَسْبُهُمْ اى النار محسبهم وقرينهم وَمع ذلك قد لَعَنَهُمُ اللَّهُ اى طردهم وابعدهم عن سعة رحمته وَلَهُمْ بسبب طرد الله إياهم ولعنه عليهم عَذابٌ عظيم فوق عذاب جهنم مُقِيمٌ دائم غير منقطع يتأملون طرد الله إياهم ويتعذبون بها ولا عذاب أعظم من حرمان الوصول الى جنة الحضور نعوذ بك منك لا ملجأ لنا غيرك يا ذا القوة المتين وبالجملة مثلكم ايها المتمردون المنهمكون في الكفر والضلال المصرون على النفاق والعناد المعادون مع الله ورسوله
كَالَّذِينَ اى كمثل الكفرة الذين مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ بطرين مفتخرين بما عندهم من حطام الدنيا ومزخرفاتها بل هم قد كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وقدرة وَأَكْثَرَ منكم أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ اى مع نصيبهم وحظهم مما قدر لهم من لذات الدنيا وشهواتها واستكبروا على من أرسل إليهم لتكميلهم وإرشادهم فَاسْتَمْتَعْتُمْ أنتم ايضا بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ اى أخذتم وشرعتم أنتم في الأباطيل وتكذيب الرسول والمعاداة معه وقصد إيذائه وقتله وقتل من آمن له كَالَّذِي خاضُوا اى كالمسرفين الذين خاضوا وشرعوا في حق أنبيائهم ورسلهم بما لا يليق بشأنهم انظروا الى وخامة عاقبتهم كيف استوصلوا فانتظروا أنتم لمثله بل باشد منها وبالجملة أُولئِكَ البعداء المردودون عن منهج الرشد والسداد قد حَبِطَتْ اى هلكت واضمحلت وبطلت أَعْمالُهُمْ التي قد عملوها لتفيدهم وتنفعهم فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فلم تنفعهم أصلا لا في الاولى ولا في الاخرى لعدم مقارنتها بالإيمان وتصديق الرسل وَأُولئِكَ الضالون عن طريق الحق هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي المقضيون بالحرمان والخذلان السرمدي وبالجملة مثلكم ايها المنافقون كمثلهم بل أنتم أسوأ حالا منهم إذ نبيكم الذي أنتم قد كذبتم به أعلى رتبة من عموم الأنبياء
أَيصر المنافقون على النفاق والشقاق ولَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ خبر إهلاك القوم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ كيف اهلكهم الله تعالى بظلمهم وذنوبهم مثل قَوْمِ نُوحٍ عليه السّلام كيف استوصلوا بالطوفان وَعادٍ بالريح وَثَمُودَ بالرجفة وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ عليه السّلام بالبعوض وَأَصْحابِ مَدْيَنَ اى قوم شعيب عليه السّلام قد اهلكوا بالنار النازلة عليهم من جانب السماء يوم الظلة وَالْمُؤْتَفِكاتِ قرى قوم لوط قد هلكوا بالزلزلة وامطار الأحجار عليهم بحيث يجعل عاليها سافلها كل من أولئك الهالكين قد أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحة الدالة على صدقهم في دعويهم فكذبوهم عنادا ومكابرة فلحقهم ما لحقهم بشؤم تكذيبهم فَما كانَ اللَّهُ المصلح لأحوال عباده لِيَظْلِمَهُمْ اى لم يكن من سنته سبحانه الانحراف عن القسط الى حيث يؤدى الى الظلم المتباعد عن ساحة ذاته سبحانه بمراحل إذ هو سبحانه مستو دائما على العدل القويم والصراط المستقيم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالخروج عن مقتضى العدل الإلهي الموضوع فيهم من قبل الحق بنيابة رسله
ثم لما ذكر سبحانه احوال المنافقين ومظاهرتهم ومعاونتهم عقب أحوالهم بأحوال المؤمنين جريا على سنته المستمرة فقال وَالْمُؤْمِنُونَ الموقنون بتوحيد الله المصدقون لرسله وَالْمُؤْمِناتُ الملحقات بهم المتفرعات عليهم بَعْضُهُمْ في الأمور الدينية أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بالمظاهرة والموالاة وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ بمقتضى ما وصل إليهم من رسلهم وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ المفروضة المصفية لبواطنهم عن الميل والانحراف الى غير الحق وَايضا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ المطهرة لظواهرهم عن الاشتغال بما سواه سبحانه وَبالجملة
يُطِيعُونَ اللَّهَ في جميع حالاتهم اطاعة تفويض وتسليم وَينقادون رَسُولَهُ في عموم ما جاء به ودعا اليه أُولئِكَ السعداء المفوضون أمورهم الى الله المنقادون لرسوله سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ الرقيب عليهم من فضله ولطفه إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده عَزِيزٌ غالب مقتدر على عموم ما أراد بهم حَكِيمٌ متقن في جزائهم حسب أعمالهم واستعدادهم لذلك
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والمكاشفات المتجددات حسب تجددات التجليات الإلهية خالِدِينَ فِيها ابدا لا يتحولون منها أصلا وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ اى مقرا ومستقرا معدا لهم في مقام التوحيد خاليا عن وصمة الكثرة طاهرا عن لوث السوى والأغيار مطلقا وَبالجملة رِضْوانٌ وقبول مِنَ اللَّهِ المستوي على العدل القويم بحيث لا يسخط لهم أصلا لتحققهم بمقام التخلق بأخلاقه سبحانه بحيث لا يبقى لهم شائبة انحراف عن صراطه المستقيم الذي هو صراط الله الأقوم الأعدل أَكْبَرُ وأكرم وارفع وأعلى من جميع ما ذكر من قبل من الدرجات العلية والمقامات السنية ذلِكَ الرضا من الله والقبول من جانبه هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واللطف الجسيم لأرباب الولاء الواصلين الى مرتبة الفناء فيه سبحانه والبقاء ببقائه لذلك وعدوا من عنده بما لا يمكن التعبير عن كنهه الا لمن كوشف به وشوهد
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ الهادي لعباد الله الى تلك المرتبة باذن الله جاهِدِ الْكُفَّارَ المتمردين عن الإطاعة والانقياد بإرشادك وتكميلك وَالْمُنافِقِينَ الذين يحيلون ويخدعون معك في اظهار الايمان وهم في سرهم ونجويهم على شركهم وكفرهم الأصلي متقررون ثابتون وَبعد ما أصروا على نفاقهم وشقاقهم اغْلُظْ عَلَيْهِمْ حسب إصرارهم واعراضهم وَلا تبال بهم إذ مَأْواهُمْ ومنقلبهم جَهَنَّمُ البعد والخذلان في الدنيا والآخرة وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصير أولئك المحرومين المطرودين عن ساحة عز القبول
ومن جملة نفاقهم وكفرهم انهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كذبا ومينا انهم ما قالُوا ما قالوا من الطعن في كتاب الله وتكذيب رسوله وَالحال انهم لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ اى كلمة الطعن والتكذيب المستلزم للكفر فحلفوا على عدم القول كذبا وَهم في أنفسهم قد كَفَرُوا بالحق واعرضوا عنه سيما بَعْدَ إِسْلامِهِمْ اى انقيادهم وتسليمهم اى اختاروا الكفر بعد ما أظهروا الإسلام مرتدين وَمع ذلك ما اقتصروا على اظهار الكفر فقط بل هَمُّوا وقصدوا بِما لَمْ يَنالُوا ولم يصلوا بما أملوا من قتل الرسول والاقتحام عليه بغتة في الليل بلا علم من أصحابه او هموا بإخراجه وبإخراج من معه من أصحابه من المدينة وَبالجملة ما نَقَمُوا وما قصدوا إهلاك رسول الله او إخراجه إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ اى اهل المدينة بسبب رسول الله وأصحابه إذ فتح سبحانه أبواب الرزق والمكاسب عليهم مذ دخلوا المدينة وَرَسُولُهُ ايضا بإعطائه الغنائم إياهم كل ذلك مِنْ فَضْلِهِ سبحانه وهم في مقام الشكر واظهار المنة ينكرون له ويكفرون نعمه وبعد ما وقع ما وقع فَإِنْ يَتُوبُوا عما صدر عنهم توبة صادرة عن محض الندم والإخلاص يَكُ خَيْراً لَهُمْ عند الله يغفر لهم ويعف عن زلاتهم وَإِنْ يَتَوَلَّوْا ويعرضوا عن التوبة ويصروا على ما هم عليه من الكفر والنفاق يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ المنتقم منهم عَذاباً أَلِيماً مؤلما فجيعا فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي والاجلاء والإذلال وانواع العقوبات وَفي الْآخِرَةِ بأضعاف ما في الدنيا وآلافها لانحطاطهم عن الرتبة الانسانية وقبول التكليفات الإلهية المقتضية لإظهار الحكمة والكرامة المودعة
في هياكلهم وَان استظهروا واستنصروا من أوليائهم ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ بعد انتشار دين الإسلام في أقطارها مِنْ وَلِيٍّ يعينهم ويتولى أمرهم وَلا نَصِيرٍ ينصرهم من بأس الله وعذابه
وَمِنْهُمْ اى من المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ مالا وأعطانا رزقا كثيرا لَنَصَّدَّقَنَّ منها للفقراء المستحقين وَلَنَكُونَنَّ بالبذل والانفاق وأداء الشكر مِنَ الصَّالِحِينَ الشاكرين المنفقين طلبا لمرضاة الله
فَلَمَّا آتاهُمْ الله مِنْ فَضْلِهِ ما طلبوا منه بَخِلُوا بِهِ ومنعوا حق الله منه وَتَوَلَّوْا عن امتثال امر الله وانصرفوا عن اطاعة رسوله وَبالجملة هُمْ قوم مُعْرِضُونَ عادتهم الاعراض عن اطاعة الله ورسوله بخبث طينتهم
فَأَعْقَبَهُمْ الله بسبب فعلهم هذا نِفاقاً راسخا متمكنا فِي قُلُوبِهِمْ مستمرا إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ اى الله سبحانه في يوم الجزاء فيجازيهم حسب نفاقهم وشقاقهم أسوأ الجزاء ذلك بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ من الصدق والصلاح والشكر والفلاح ونقضوا عهده وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ اى بكذبهم حين العهد والميثاق بلا موافقة من قبلهم
أَلَمْ يَعْلَمُوا حين هموا الى القول الكذب مع الله أَنَّ اللَّهَ المطلع لضمائرهم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري سِرَّهُمْ اى اخلافهم الوعد عند حصول مطلوبهم وَنَجْواهُمْ اى مناجاتهم معه لا عن اخلاص ناش من محض المعرفة والايمان بالله والإقرار بربوبيته لرسوخ الكفر والشرك في جبلتهم وَلم يعلموا ايضا أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في الأرض ولا في السماء فمن آمن بتوحيده واحاطة علمه وقدرته كيف يخرج عن مقتضى امره وأطاعته
ومن المنافقين المصرين على النفاق والشقاق مع المؤمنين هم الَّذِينَ يَلْمِزُونَ ويستهزؤن الْمُطَّوِّعِينَ المتطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إعطاء الصَّدَقاتِ وَخصوصا المؤمنين الَّذِينَ لا يَجِدُونَ من الصدقة إِلَّا جُهْدَهُمْ اى يبذلون مقدار طاقتهم طلبا لمرضاة الله فَيَسْخَرُونَ أولئك اللامزون المستهزءون مِنْهُمْ اى من الذين بذلوا جهدهم في امر الصدقة قد سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ في الآخرة مجازاة عن سخريتهم هذه وَلَهُمْ فيها عَذابٌ أَلِيمٌ بدل ما تلذذوا بسخريتهم. وذلك انه صلّى الله عليه وسلّم حث المؤمنين يوما على الصدقة فجاء عبد الرّحمن بن عوف باربعة آلاف دينار وقال لي ثمانية آلاف فاقرضت ربي اربعة وأمسكت لعيالي اربعة فقال صلّى الله عليه وسلّم بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت. واتى عاصم بن عدى بمائة اوسق من تمر وجاء عقيل الأنصاري بصاع تمر فقال بت ليلتي اجرّ بالجرير على صاعين وتركت صاعا لعيالي وأتيت بها فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ان ينثر على الصدقات تبركا فلمزهم المنافقون فقالوا ما اعطى عبد الرّحمن وعاصم الارياء وسمعة
ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع عقيل ولكنه أحب ان يعد نفسه من المتصدقين فنزلت اسْتَغْفِرْ لَهُمْ يا أكمل الرسل لهؤلاء اللامزين المستهزئين المستسخرين من المؤمنين بانقاذهم من العذاب او تخفيفه أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سواء عند الله في انتقامهم وعذابهم بل إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لا مرة ولا مرتين بل سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ البتة لعظم جرمهم وفسقهم ذلِكَ اى عدم غفرانهم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وأشركوا معه غيره في الألوهية مع انه منزه عن الشريك مطلقا وَرَسُولِهِ اى كذبوا برسوله وبعموم ما جاء به من عند ربه واستهزؤا بالمؤمنين المصدقين له المتصدقين في سبيل الله وَاللَّهُ الهادي لعباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى أوامر الله ونواهيه المسيئين الأدب مع الله ورسوله ومع المؤمنين.
ثم قال سبحانه
فَرِحَ المنافقون الْمُخَلَّفُونَ عن رسول الله المتخلفون لأمره المتمكنون بِمَقْعَدِهِمْ ومكان قعودهم خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ حين خرج الى غزوة تبوك وَما ذلك اى قعودهم واستقرارهم بعد رسول الله في مكانهم الا انهم قد كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لخبث بواطنهم وقساوة قلوبهم وَقالُوا ايضا للمؤمنين تغريرا وتكسيلا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ اى لا تجاهدوا ولا تقاتلوا في الصيف حتى لا تضعفوا أنتم ومواشيكم قُلْ لهم يا أكمل الرسل نارُ جَهَنَّمَ البعد والخذلان التي قد استوجبتم بها بتخلفكم وقعودكم عن الجهاد أَشَدُّ حَرًّا وابلغ احراقا وايلاما لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ ويفهمون ما هي وكيف هي لم يختاروها على حر الدنيا
وبالجملة فَلْيَضْحَكُوا أولئك المتخلفون الهالكون في العذاب المؤبد والوبال المخلد قَلِيلًا في الدنيا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً فيها لما لحقهم بعد خروجهم منها من انواع العذاب والنكال جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فيها من الجرائم العظام والمعاصي والآثام
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ وردك عن غزوتك هذه اى غزوة تبوك إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ اى من المتخلفين المستأذنين وهم الذين قعدوا في المدينة بلا عذر وبعد ما قصدت غزوة اخرى فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ تلافيا لما مضى فَقُلْ لهم لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ الى الجهاد أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا أصلا إِنَّكُمْ قوم قد رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ والتخلف أَوَّلَ مَرَّةٍ بلا عذر بل عن خديعة وغدر فَاقْعُدُوا أنتم دائما مَعَ الْخالِفِينَ المعذورين من النساء والصبيان والزمنى والمرضى
وَمتى ظهر لك حال أولئك الغواة الطغاة الهالكين في النقض والنفاق لا تُصَلِّ ولا تدع عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً اى بعد ورود النهى أصلا وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ لتستغفر له إِنَّهُمْ من خبث بواطنهم قوم قد كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ في حال حياتهم وَماتُوا على الكفر ايضا وَهُمْ فاسِقُونَ مجبولون على الفسق في اصل فطرتهم
وَبعد ما تحقق عندك يا أكمل الرسل كفرهم وظهر فسقهم وخروجهم عن مقتضى الحدود الإلهية لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ التي هي وبال عليهم إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ المضل المذل لعصاة عباده أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا بأنواع الحوادث والمصيبات وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ اى يخرج أرواحهم عن اجسادهم وصار ميلهم ومحبتهم منوطة بها وَبالجملة هُمْ كافِرُونَ بالله غير معترفين بألوهيته وربوبيته
وَمن شدة نفاقهم وبغضهم مع الله ورسوله إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن ناطقة أَنْ آمِنُوا ايها المكلفون بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ في سبيله اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ والسعة مِنْهُمْ اى صناديدهم وعظماؤهم خوفا من أموالهم وأنفسهم وَقالُوا ذَرْنا ودعنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ المعذورين الغير القادرين
وبالجملة قد رَضُوا أولئك الغواة مع قوتهم وسعتهم بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ اى الضعفاء الفاقدين للقوة والسعة وَما ذلك الا ان طُبِعَ وختم عَلى قُلُوبِهِمْ بالكفر والضلال فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ قبح ما جاءوا به من المخالفة والقعود مع أولئك المعذورين ولذلك لم يأتوا بالمأمور ولم يمتثلوا به
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وامتثلوا لأمر الله وانقادوا لحكمه سمعا وطاعة قد جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سبيله ابتغاء لمرضاته وتثبيتا في دينه وَأُولئِكَ المؤمنون المجاهدون لَهُمُ الْخَيْراتُ والمثوبات العظمى والدرجات العليا عند الله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون عنده سبحانه بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
وبالجملة قد أَعَدَّ اللَّهُ
المجازى لخلص عباده لَهُمْ اى لهؤلاء المجاهدين المرابطين قلوبهم مع الله ورسوله الباذلين مهجهم في سبيله جَنَّاتٍ متنزهات علمية وغيبية وحقية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الكشوف والشهود والواردات الغيبية والإلهامات القدسية لا دفعة ولا دفعات بل خالِدِينَ فِيها ابدا مستمرا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واللطف العميم لهؤلاء المخلصين المختصين بالعناية الازلية والسعادة السرمدية
وَمتى جاءت ونزلت سورة ناطقة بالقتال والجهاد جاءَ الْمُعَذِّرُونَ بالأعذار الكاذبة ومن في قلوبهم مرض مِنَ الْأَعْرابِ الذين لا اطمئنان لهم في الايمان لِيُؤْذَنَ لَهُمْ بالقعود وعدم الخروج الى الجهاد وَقَعَدَ المصرون الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ من غير مبالاة بأمر الله واطاعة رسوله لا تبال بهم وبمخالفتهم وكذبهم إذ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ بعد افتضاحهم وظهور نفاقهم عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا والآخرة بحيث لا نجاة لهم من العذاب أصلا
ثم قال سبحانه لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ الفاقدين استطاعة الحرب ولو كانوا أصحاء كالنسوان والصبيان والشيوخ وَلا عَلَى الْمَرْضى الفاقدين الاستطاعة بعروض العوارض كالعمى والعرج والزمانة وغيرها وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ للزاد والسلاح والمركب وغيرها حَرَجٌ اى اثم ومعصية في قعودهم وتخلفهم إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ اى أخلصوا في الايمان والإطاعة بالله ورسوله بلا مرض مكنون في قلوبهم ودعوا دائما للمجاهدين والغزاة خيرا وأحسنوا مع اهل بيتهم وأطفالهم وفعلوا معهم خيرا ان استطاعوا وبالجملة ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ القاعدين المعذورين المخلصين مع الله ورسوله والمؤمنين مِنْ سَبِيلٍ في المعاتبة والحرج الدنيوي فضلا عن العقاب والعتاب الأخروي بل هم من جملة المجاهدين وزمرتهم فيها وَاللَّهُ المطلع لضمائرهم غَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ لهم يجازيهم على قعودهم هذا خيرا لكونهم معذورين فيه
وَلا حرج ولا عقاب ايضا عَلَى المؤمنين المخلصين الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ حين هممت أنت يا أكمل الرسل وعزمت الى الخروج لِتَحْمِلَهُمْ على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وغيرهم حتى يبلغوا مكان العدو قُلْتَ لهم لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وانصرفوا من عندك آيسين وَأَعْيُنُهُمْ حين توليهم وانصرافهم تَفِيضُ وتسيل مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً وأسفا أَلَّا يَجِدُوا اى لئلا يجدوا ما يُنْفِقُونَ حتى يبلغوا المعركة ويحضروا الوغاء فهؤلاء ايضا لا عتاب لهم ولا عقاب بل يرجى لهم الأجر الجزيل من الله لإخلاصهم واسفهم
بل إِنَّمَا السَّبِيلُ بالمعاتبة والمعاقبة وانواع العذاب عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ بالقعود معتذرين وَالحال انه هُمْ أَغْنِياءُ مستطيعون قادرون بالجسد والمال الا انهم قد رَضُوا من خبث بواطنهم ومرض قلوبهم بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ المعذورين الغير المستطيعين وَما ذلك الا ان طَبَعَ اللَّهُ المذل المضل لأهل الغفلة والعناد عَلى قُلُوبِهِمْ بالجهل والضلال فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ جهلهم وضلالهم حتى يتسببوا لازاحتهما وازالتهما
ومع ذلك يَعْتَذِرُونَ أولئك المستأذنون المستطيعون إِلَيْكُمْ ايها المؤمنون إِذا رَجَعْتُمْ من غزوتكم هذه إِلَيْهِمْ بان يكونوا معكم في عموم غزواتكم ويأتون بالأعذار الكاذبة الغير المطابقة للواقع تسلية لكم وتغريرا وتتميما لنفاقهم قُلْ يا أكمل الرسل تعليما للمؤمنين في مقابلة اعذارهم لا تَعْتَذِرُوا منا مراء ومداهنة انا لَنْ نُؤْمِنَ ولن نصدق لَكُمْ سيما قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ المطلع لضمائركم وبما يجرى في صدوركم بالوحي على رسوله مِنْ أَخْبارِكُمْ التي
تكتمونها أنتم في نفوسكم من الشر والفساد بالنسبة إلينا والى نبينا وَكيف تعتذرون أنتم عن جرائمكم وتلبسونها مع انه سَيَرَى اللَّهُ الناقد البصير عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ فتفتضحون حينئذ على رؤس الاشهاد ثُمَّ تُرَدُّونَ في النشأة الاخرى إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وتحاسبون عنده عليه فَيُنَبِّئُكُمْ ويظهر عليكم مفصلا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في النشأة الاولى فيجازيكم على مقتضى علمه وخبرته
ومن جملة نفاقهم وتلبيسهم انهم سَيَحْلِفُونَ ويقسمون بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ ورجعتم مشتكين معاتبين إِلَيْهِمْ عن قعودهم وتخلفهم انما غرضهم من الحلف الكاذب تغريركم وتلبيسكم لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ وعن عتابهم ولا تسألوا عن مخالفتهم وقعودهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ وعن عتابهم قبل حلفهم وتلبيسهم ولا تلتفتوا إليهم إِنَّهُمْ في أنفسهم رِجْسٌ اى جبلتهم مجبولة على الخباثة والنجاسة لا تقبل التطهير بالتأديب أصلا وَمَأْواهُمْ اى مرجعهم ومنقلبهم في النشأة الاخرى جَهَنَّمُ الطرد والخذلان جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ في النشأة الاولى من الكفر والنفاق والإصرار على الشرك والشقاق
وانما يَحْلِفُونَ لَكُمْ حين عتابكم وشكواكم لِتَرْضَوْا أنتم عَنْهُمْ وتقبلوا إخلاصهم ومودتهم وتكونوا معهم كما كنتم فَإِنْ تَرْضَوْا أنتم عَنْهُمْ بمجرد حلفهم الكاذب وتغريرهم الفاسد لا يغنى ولا يدفع رضاكم عنهم شيأ من غضب الله عليهم فَإِنَّ اللَّهَ المطلع لما في ضمائرهم من الأكنة المكنونة والنفاق المدفون لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى الأوامر والنواهي الواردة لتطهير النفوس الخبيثة عن أرجاس الطبيعة وتصفيتها عن ادناس الأخلاق الذميمة العائقة عن الوصول الى مقر التوحيد.
ثم قال سبحانه الْأَعْرابُ اى اهل الوبر المترددون في البوادي المنهمكون في الغي والضلال والعتو والعناد أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من اهل المدر المستأنسين مع العقلاء المستفيدين منهم وَلشدة شكيمة أولئك الاعراب وفرط جهلهم وعدم قابليتهم أَجْدَرُ اى أحق وأليق أَلَّا يَعْلَمُوا اى بان لا يعلموا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده عَلى رَسُولِهِ النائب عنه المتكفل لإرشاد عباده بوحيه والهامه بإقامة حدوده المنزلة من الأوامر والنواهي المستلزمة لتأديبهم في معاشهم ومعادهم إذ هم في غاية البعد عن الهداية والصلاح وتحمل التكاليف الإلهية مطلقا وَاللَّهُ المطلع لسرائر عباده عَلِيمٌ باستعداداتهم الكامنة فيهم حَكِيمٌ في الزام التكليف عليهم
وَمِنَ منافقي الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ اى يعد ويحسب ما يُنْفِقُ بأمر الله في سبيله مَغْرَماً ويتخيله غرامة وخسرانا لعدم إيمانه واعتقاده بترتب الثواب عليه بل انما ينفق ما ينفق رياء وسمعة وتقية وَمن خباثة باطنه يَتَرَبَّصُ اى يترقب وينتظر بِكُمُ الدَّوائِرَ اى نوائب الزمان الدائرة عليكم لينقلب الأمر ويتحول الحال ويخلص من الانفاق بالنفاق بل يدور عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ على عكس مرامهم دائما متجددا مستمرا وَاللَّهُ المراقب عليهم سَمِيعٌ لمناجاتهم عَلِيمٌ بنياتهم وحاجاتهم يدبر عليهم ويعيد إليهم ما يتربصون بكم من الدوائر
وَمِنَ مخلصى الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ اى يوقن ويذعن بتوحيده وَالْيَوْمِ الْآخِرِ اى يصدق باليوم الآخر المعد لجزاء الأعمال وترتب المثوبات بالقربات والصدقات وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ في سبيل الله قُرُباتٍ ونيل مثوبات ورفع درجات عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ اى سبب استغفاره صلّى الله عليه وسلّم ودعائه له أَلا إِنَّها اى تنبهوا ان ما يتصدقون به أولئك المؤمنون المخلصون المتقربون قُرْبَةٌ لَهُمْ وسبب
وصولهم اليه سبحانه سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ الموفق لهم الرقيب عليهم فِي سعة رَحْمَتِهِ وجوده بعد انقضاء النشأة الاولى إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالهم غَفُورٌ لما صدر عنهم من المعاصي قبل ايمانهم رَحِيمٌ لهم يقبل بعد ايمانهم وإخلاصهم ما يتقربون به طلبا لمرضاته
وَالسَّابِقُونَ في الايمان المبادرون الى التصديق وقبول الاحكام الْأَوَّلُونَ الأقدمون بمتابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم مِنَ الْمُهاجِرِينَ الذين قد هاجروا من مألوفات نفوسهم ومشتهيات طباعهم الى الفناء في الله وَالْأَنْصارِ الأبرار الذين سلكوا نحو الحق بالرياضات والمجاهدات الشاقة المزيحة لدرن التعلقات ورين الإضافات المانعة من التوجه الحقيقي وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ واقتفوا أثرهم من اهل الطلب والارادة بِإِحْسانٍ اى بلا تمايل الى الرياء والسمعة والعجب والنخوة أولئك المبرورون المقبولون قد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لتحققهم بمرتبة الإخلاص والتسليم وَايضا هم قد رَضُوا عَنْهُ سبحانه لإيصالهم الى مقر التوحيد وفضاء الفناء المثمر للبقاء الأبدي والحيوة السرمدية وَأَعَدَّ لَهُمْ سبحانه في حوزة حمايته وروضة بقائه جَنَّاتٍ متنزهات تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ مملوة من مياه العلوم اللدنية والمعارف الحقيقية الحقية خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يتحولون عنها أصلا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واللطيف الجسيم لأهل العناية من ارباب المحبة والولاء المنخلعين عن جلباب ناسوتهم بالكلية
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ ايها المؤمنون مِنَ الْأَعْرابِ الذين يسكنون في البوادي قوم هم مُنافِقُونَ معكم وان أظهروا المودة والإخاء والايمان على طرف اللسان لا تبالوا بايمانهم ولا تغفلوا عن مكرهم وخداعهم وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ايضا قوم قد مَرَدُوا رسخوا وثبتوا عَلَى النِّفاقِ ومن شدة نفاقهم وتمرنهم عليه صاروا بحيث لا تَعْلَمُهُمْ ايها المتصف بالفراسة الكاملة من نهاية تلبيسهم واخفائهم بل نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ونعلم ما في ضمائرهم من الخيالات الفاسدة سَنُعَذِّبُهُمْ في الدنيا مَرَّتَيْنِ مرة بتفضيحهم واظهار ما في قلوبهم من الأكنة والشقاق والشقاوة ومرة بقتلهم وسبيهم واجلائهم ثُمَّ يُرَدُّونَ بعد انقضاء النشأة الاولى إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ هو حرمانهم وانحطاطهم عن المرتبة الكاملة الانسانية التي هي مرتبة الخلافة والنيابة الجامعة لعموم المراتب الكونية والكيانية
وَمن اهل المدينة ايضا قوم آخَرُونَ ليسوا من المصرين على النفاق المتمرنين فيه بل قد اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ التي صدرت عنهم من المخالفة والبغض والطعن والاستخفاف والغيبة حين خلوا مع المنافقين المتمرنين على النفاق وهم وان صدر عنهم الايمان والإخلاص ولكن هم قد خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً من الإخلاص والرضا والتسليم وَعملا آخَرَ سَيِّئاً وهو اتفاقهم مع المنافقين في خوضهم وطعنهم وبذلك قد انحطوا عن رتبة المؤمنين المخلصين في عموم أحوالهم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ويوفقهم على التوبة والندامة ويقبل منهم توبتهم بعد ما أخلصوا فيها إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ لمن تاب وندم عن ظهر القلب رَحِيمٌ يقبل توبتهم وان افرطوا
خُذْ يا أكمل الرسل مِنْ أَمْوالِهِمْ اى من اموال هؤلاء المذنبين التائبين النادمين عما صدر عنهم من المخالفة حين أذنوا لك ان تخرج أنت منها صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ عن ادناس الطبيعة المولعة لحب المال والحرص في جمعها ونمائها وَتُزَكِّيهِمْ بِها اى تصفى بواطنهم عن الشواغل العائقة عن اللذات الروحانية وَصَلِّ عَلَيْهِمْ واستغفر لذنوبهم وادع لهم بالدعاء الخير
إِنَّ صَلاتَكَ إياهم والتفاتك بحالهم سَكَنٌ لَهُمْ وسكينة لقلوبهم ووقار وطمأنينة لنفوسهم وسبب لتقررهم وتثبتهم على جادة التوحيد والايمان وَاللَّهُ المراقب عليهم في عموم حالاتهم سَمِيعٌ لإخلاصهم ومناجاتهم عَلِيمٌ بنياتهم وحاجاتهم
أَلَمْ يَعْلَمُوا أولئك التائبون النادمون المخلصون المتضرعون المسترجعون نحو الحق على عفو زلاتهم وتقصيراتهم أَنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالهم هُوَ سبحانه بلطفه وفضله يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ خلص عِبادِهِ بعد ما وفقهم عليها ويتجاوز عن سيئاتهم وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ من أموالهم اى يقبلها منهم تطهيرا لقلوبهم عما يشوشهم من رذائل هوياتهم وأثقال تعيناتهم ليشمروا نحو الحق محقين وَلم يعملوا أَنَّ اللَّهَ المتفضل لعباده هُوَ التَّوَّابُ الرجاع لهم من مقتضيات نفوسهم نحو جنابه الرَّحِيمُ عليهم يوصلهم الى بابه ان أخلصوا في سلوكهم وتوجههم
وَقُلِ يا أكمل الرسل للمتخلفين من الاعراب اعْمَلُوا ما شئتم من الكفر والنفاق فَسَيَرَى اللَّهُ الرقيب عليكم عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ايضا بوحيه سبحانه والهامه وَالْمُؤْمِنُونَ ايضا بتبليغه صلى الله عليه وسلّم وَاعلموا ايها الغواة الطغاة المحرومون سَتُرَدُّونَ للحساب والجزاء إِلى عالِمِ الْغَيْبِ اى السرائر والخفايا التي أنتم تسرونها من الكفر والمعاصي وانواع الضلالات والجهالات وَالشَّهادَةِ اى التي أنتم تعلنون بها فَيُنَبِّئُكُمْ ويخبركم سبحانه على التفصيل الذي صدر عنكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من طغيان نفوسكم ويجازيكم عليها
وَآخَرُونَ من المتخلفين بعد ما تنبهوا بقبح صنيعهم مُرْجَوْنَ مؤخرون منتظرون لِأَمْرِ اللَّهِ وحكمه وصاروا مترددين بين الخوف والرجاء في ما فعل الله معهم إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ أخذا على ما قد صدر عنهم بمقتضى عدله وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ويوفقهم على التوبة حسب فضله وسعة رحمته وَاللَّهُ المطلع لخفيات صدورهم عَلِيمٌ باخلاصهم ونياتهم حَكِيمٌ في فعله بهم بعد علمه بحالهم
وَمن أشد الاعراب كفرا ونفاقا وأغلظهم بغضا وشقاقا هم الَّذِينَ اتَّخَذُوا تلبيسا وتغريرا مَسْجِداً قاصدين في بنائه ضِراراً مضرة وسوأ لرسول الله وللمؤمنين وَكُفْراً اى اشتدادا وزيادة فيه إذ هم قد قصدوا ببنائه وإنشائه قتل رسول الله ومن معه من المؤمنين فيه وَقصدوا ايضا تَفْرِيقاً وتشتيتا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ المجتمعين في مسجد قباء وَبالجملة انما يبنونه إِرْصاداً اى ترقبا وانتظارا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهو ابو عامر الراهب الذي حارب مع المؤمنين مِنْ قَبْلُ يوم حنين فانهزم فهرب الى الشأم ليذهب الى قيصر فيأتى بجنود وهم منتظرون مجيئه وَبعد ما قد ظهر نفاقهم وخداعهم بوحي الله والهامه على رسوله لَيَحْلِفُنَّ وليقسمن بالإيمان الغليظة إِنْ أَرَدْنا وما قصدنا ببنائه إِلَّا الْحُسْنى والخير والصلاة المقربة لنا نحو الحق والذكر والتسبيح والتوسعة على المؤمنين وازدياد شعائر الإسلام ومعالم الدين القويم وَاللَّهُ المطلع لضمائرهم ومخايلهم يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم وايمانهم هذه وإذا عرفت يا أكمل الرسل حالهم وحلفهم وسوء قصدهم وفعالهم
لا تَقُمْ فِيهِ اى في المسجد الضرار أَبَداً للتوجه والصلاة إذ هو مبنى على الخداع والتزوير والله لَمَسْجِدٌ مبارك قد أُسِّسَ وبنى عَلَى التَّقْوى عن مطلق المحارم خالصا لرضاه سبحانه مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ بنى وهو مسجد قباء أَحَقُّ أليق واولى أَنْ تَقُومَ أنت يا أكمل الرسل فِيهِ للصلاة والميل نحو الحق والمناجاة معه سبحانه مع انه فِيهِ وفي حواليه رِجالٌ مؤمنون مخلصون كاملون في الايمان بحيث يُحِبُّونَ دائما مستمرا
أَنْ يَتَطَهَّرُوا عن المعاصي والآثام ويتوجهوا نحو الحق برفض الشواغل ونفض العوائق والعلائق وَاللَّهُ المطلع بنياتهم يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ القاصدين تطهير ذواتهم عن التوجه الى ما سوى الحق المطلق بل عن هوياتهم وتعيناتهم الباطلة مطلقا
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ ووضع بناءه عَلى تَقْوى الا وهي قاعدة محكمة وركن شديد وحصن منيع وسبب تحفظ وتحصن مِنَ غضب اللَّهِ وسخطه وَايضا على طلب رِضْوانٍ ومثوبة عظيمة ومنزلة رفيعة منه سبحانه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ اى على طرف واد قد جوفه السيول والأمطار فسقط البعض واشرف الباقي على السقوط والانهدام فوضع عليه بناءه فَانْهارَ بِهِ وسقط معه من بناه واقامه فِي نارِ جَهَنَّمَ اى الوادي الغائر الهائر المملو من نيران الحرمان والخذلان وَاللَّهُ الهادي لخلص عباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى أوامره ونواهيه ومن شدة غيظهم وخبث باطنهم
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا يورث ويزيد رِيبَةً شكا وريبا متزايدا فِي قُلُوبِهِمْ مترشحا فيها إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ بنيران الحسرة وتفتتت وتلاشت بهجوم اهوال العذاب الهائل عليها الى حيث لا يتأتى منها الإدراك وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمخايلهم الكامنة في صدورهم حَكِيمٌ في جزائها وانتقامها
ثم قال سبحانه تبشيرا للمؤمنين الباذلين مهجهم في سبيل الله إِنَّ اللَّهَ المتفضل بالفضل العظيم قد اشْتَرى واستبدل مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين الموقنين أَنْفُسَهُمْ وهوياتهم الفانية الباطلة الهالكة في حد ذاتها المبذولة في سبيله سبحانه في النشأة الاولى وَأَمْوالَهُمْ المصروفة فيها ايضا بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ الباقية واللذة المستمرة الدائمة بدلها لذلك يُقاتِلُونَ أولئك الممتثلون لأمر الله المصدقون لوعده فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ أعداءه ويستحقون المثوبة التي قد وعد من لدنه سبحانه للغزاة المجاهدين وَيُقْتَلُونَ ايضا يصلون الى درجة الشهداء الذين هم احياء عند الله يرزقون من موائد افضاله فرحون بما وعدوا من عنده سبحانه وَعْداً عَلَيْهِ بلا خلف فيه حَقًّا ثابتا مثبتا مكتوبا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ المنزلة من لدنه سبحانه وَبالجملة مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ ووفى المعهود فقد استحق مِنَ اللَّهِ الوعد الموعود فَاسْتَبْشِرُوا وافرحوا واربحوا ايها المؤمنون بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ مع ربكم حيث استبدلتم الفاني الزائل بالباقي المستمر الدائم وَبالجملة ذلِكَ الموعود الذي قد وعد لكم هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والفضل الكريم المعد لأرباب العناية والقبول
الا وهم التَّائِبُونَ النادمون على ما جرى عليهم من المعاصي والآثام المحافظون عليها بلا مراجعة أصلا الْعابِدُونَ بالعزائم الصحيحة الخالصة الصافية عن مطلق الكدورات والإخلاص التام في نيات الطاعات الْحامِدُونَ الشاكرون الصارفون عموم ما اعطاهم الحق من النعم والقوى والآلات الى ما خلق لأجله السَّائِحُونَ السائرون السالكون في سبيل الهداية والرشد لازدياد المعارف والحقائق الرَّاكِعُونَ المتواضعون المنكسرون المتذللون عند عموم مظاهر الحق تكريما له سبحانه وتعظيما لشأنه السَّاجِدُونَ المتذللون الواضعون جباههم على تراب المذلة والهوان خضوعا وانقيادا ميلا ودعاء الى الله في عموم حالاتهم الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ المستحسن عقلا وشرعا بالقلب واللسان وعموم الجوارح والأركان وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ المستقبح عقلا وشرعا على الوجه الذي ورد الشرع به وَبالجملة هم الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ الموضوعة بين ارباب التكاليف قابلين لسلوك مسالك التوحيد
والتحقيق مطلقا وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل الْمُؤْمِنِينَ الموصوفين بهذه الصفات الجميلة باللذات التي لا يمكن وصفها بلسان التعبير من لدن حكيم خبير.
ثم قال سبحانه على طريق النهى عموما ما كانَ اى ما صح وما جاز لِلنَّبِيِّ الأمي الهاشمي المبعوث الى كافة البرايا بالهداية العامة والإرشاد الكامل الشامل وَالَّذِينَ آمَنُوا معه وأخلصوا فيه أَنْ يَسْتَغْفِرُوا ويشفعوا لِلْمُشْرِكِينَ المصرين على الكفر والعناد لا بتخفيف العذاب عنهم ولا بدخول الجنة وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى من النسب إذ لا عبرة لقرابة النسب بل القرابة المعتبرة عند الله هي قرابة الدين والايمان سيما مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ موت اقربائهم على الكفر والجاهلية وظهر عندهم أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ اى ملازموها وملاصقوها لا نجاة لهم منها لاصرارهم على موجباتها
وَلا يرد على هذا استغفار ابراهيم عليه السّلام لأبيه إذ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ آزر على سبيل الشفقة والشفاعة والعطف الموجب لها بل ما هو إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وعهد قد وَعَدَها إِيَّاهُ حين أراد ان يخرجه من الكفر والشرك بان يستغفر له ما تقدم من ذنبه ان آمن فاستغفر قبل الايمان انجازا لوعده ليلين قلبه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وظهر عنده أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ مصر على كفره مطبوع على قلبه مختوم بختام الجهل والغفلة تَبَرَّأَ مِنْهُ واسترجع الى الله الخليل الجليل منيبا عن اجترائه واستغفاره في حق أبيه الكافر مع عدم علمه باستعداده وبتوفيق الله إياه وبالجملة إِنَّ إِبْراهِيمَ مع كونه متحققا بمقام الخلة مع الله لَأَوَّاهٌ كثير التأوه والتحزن عن أمثال هذه الجرأة حَلِيمٌ كثير الشفقة والمرحمة على اهل الغفلة لظهوره على مقتضى اللطف والجمال
وَاعلموا ايها المؤمنون ما كانَ اللَّهُ المصلح لأحوال عباده لِيُضِلَّ قَوْماً ويسميهم ضلالا وفساقا بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ على الايمان والإسلام حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ وينبه عليهم ما يَتَّقُونَ ويحذرون من المحارم والمعاصي لامتناع تكليف الغافل ثم بعد ارتكاب المحذر به يسميهم ما يسميهم ويأخذهم بما يأخذهم منتقما عليهم إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده بِكُلِّ شَيْءٍ مما يتعلق بصلاحهم وإصلاحهم عَلِيمٌ لا يعزب عن علمه شيء فعليكم ايها المؤمنون ان تفوضوا أموركم كلها الى الله إذ الأمر كله لله
إِنَّ اللَّهَ المستقل بالالوهية والوجود لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وما فيها من النجوم والبروج والجنود التي لا اطلاع لنا عليها وَكذا ملك الْأَرْضِ وما عليها وكذا ملك ما بينهما من الكائنات والفاسدات يُحْيِي ويظهر بلطفه متى تعلق ارادته وَيُمِيتُ ويعدم ويخفى بقهره متى جرت مشيئته وَما لَكُمْ ايها المؤمنون الموقنون بتوحيد الله مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس معه شيء ولا دونه حي مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم وَلا نَصِيرٍ ينصركم عليها
وبالجملة لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ ووفقه على التوبة والندامة بعد ما صدر عنه صلّى الله عليه وسلّم اذن المخالفين المستأذنين المعتذرين بالأعذار الكاذبة تغريرا له وتلبيسا عليه مع عدم علمه بحالهم وَقد تاب ايضا على الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ نحو تبوك حين خرج إليها فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ وايام القحط إذ ليس لهم في تلك السفر لا زاد ولا راحلة ولا ماء حيث تعاقب عشرة على بعير وقسم تمر بين اثنين في يوم وشرب الفظ والفرث من شدة العطش لذلك قد تمايل على المخالفة والمراجعة كثير من الناس مِنْ بَعْدِ ما كادَ وقرب يَزِيغُ ويميل عن المتابعة قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ من قلة التصبر وكثرة المقاسات والأحزان ثُمَّ تابَ الله عَلَيْهِمْ ووفقهم على التوبة مما اخطروا
ببالهم وتخيلوا في خيالهم وكيف لا يوفقهم سبحانه على التوبة إِنَّهُ بِهِمْ عليم باستعداداتهم وقابلياتهم رَؤُفٌ عطوف عليهم يعفو عنهم عموم زلاتهم التي صدرت عنهم وقت الاضطرار رَحِيمٌ يقبل منهم عموم ما جاءوا به من الانابة والاستغفار
وَايضا قد تاب سبحانه ووفق عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا عن غزوة تبوك بلا عذر لهم وهم كعب بن مالك وهلال بن امية ومرارة بن ربيع وهم قد صاروا مضطرين مضطربين من عدم التفات رسول الله والمؤمنين إليهم سيما بعد امر الرسول على المؤمنين ان لا يتكلموا معهم خمسين ليلة حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ اى مع فسحتها ووسعتها بل وَقد صاروا من هجوم الأغراض النفسانية الى ان ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ واشتد عليهم الأمر وانسد دونهم أبواب التدابير مطلقا فاضطروا في أمرهم وشأنهم هذا والتجأوا نحو الحق مخلصين وَظَنُّوا لا بل كشفوا أَنْ لا مَلْجَأَ ولا مفر مِنَ اللَّهِ اى من غضبه وسخطه إِلَّا إِلَيْهِ إذ ليس لغيره وجود حتى يرجع اليه ويلتجأ نحوه لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم في أمثال هذه المضائق أعوذ بك منك ثُمَّ بعد ما أخلصوا في الانابة والرجوع وفوضوا أمورهم اليه سبحانه قد تابَ الله عَلَيْهِمُ اى أقدرهم ووفقهم على التوبة بل أمرهم في سرهم لِيَتُوبُوا ويرجعوا نحو الحق نادمين عما صدر عنهم من المخالفة فيغفر لهم ويعفو عن زلاتهم إِنَّ اللَّهَ المصلح الموفق لعباده هُوَ التَّوَّابُ الرجاع لعباده نحو جنابه حين صدر عنهم المعاصي الرَّحِيمُ لهم يرحمهم ويقبل توبتهم حين رجوعهم نحوه متضرعين مخلصين
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم التقوى عن محارم الله اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور عن مخالفة امره وحكمه وَكُونُوا في السراء والضراء مَعَ الصَّادِقِينَ المصدقين لرسوله المتابعين له في عموم أموره
واعلموا انه ما كانَ وما صح وما جاز لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ يسكن فيما حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ المترددين في بواديها أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ حين خرج الى القتال واقتحم على الأعادي وَايضا لا يصح لهم ان يَرْغَبُوا ويميلوا بِأَنْفُسِهِمْ اى بحفظها وصيانتها عَنْ نَفْسِهِ صلى الله عليه وسلّم بل يجب عليهم ان يفدوا نفوسهم ويبذلوا مهجهم وأموالهم وأولادهم وعموم ما يضاف إليهم وينسب نحوهم لصيانته وحفظه صلّى الله عليه وسلّم وحيث اقتحم صلّى الله عليه وسلّم فلهم المبادرة والمسابقة ذلِكَ اى ما وجب عليهم من تحمل المشاق والمتاعب والاسراع والاقتحام والاقدام عليها بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم متى خرج صلّى الله عليه وسلّم معهم وفي أظهرهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ عطش وَلا نَصَبٌ الم عناء من انواع الآلام وَلا مَخْمَصَةٌ ومجاعة فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه وكلمة توحيده وَكذا لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً موضعا ولا يدوسون ولا يقطعون مسافة بحيث يَغِيظُ الْكُفَّارَ مرورهم عنها وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا من القتل والأسر والغلبة والنهب والغارة إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عند الله عَمَلٌ صالِحٌ موجب للمثوبة العظمى والدرجة العليا وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المحسن المتفضل لخواص عباده لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب مع الله ويعبدونه كأنهم يرونه ومع رسوله المستخلف منه النائب عنه سبحانه
وَهؤلاء المحسنون المخلصون لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً لا قليلة ولا كثيرة في سبيل الله طلبا لمرضاته وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً تجاه العدو حين أمرهم الله ورسوله إِلَّا وقد كُتِبَ لَهُمْ في صحف حسناتهم لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى
جزاء احسن بمراتب عن أعمالهم الحسنة التي قد أتوا بها.
ثم قال سبحانه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ اى ما صح لهم وما ينبغي لشأنهم وما يليق بحالهم لِيَنْفِرُوا عن بلدانهم وأماكنهم كَافَّةً بحيث تخلو بلادهم عن الحفظة والحراس مطلقا فَلَوْلا وهلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ الى الرسول لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وليتعلموا شعائره وما يتعلق به من الآداب وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ بذلك إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ويقيموا لهم ما يتعلمون ويتفقهون من شعائر الإسلام ومعالم الدين القويم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ من منهيات الدين القويم ويتصفون بمأموراته ويصلحون عقائدهم بها فيؤمنون ويوقنون بالله ويتدينون بدينه. ومن معظم شعائر الإسلام القتال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ ويقرب منكم في حواليكم وحواشيكم مِنَ الْكُفَّارِ وَلتضيقوا ولتشددوا عليهم لْيَجِدُوا ويشاهدوا فِيكُمْ غِلْظَةً تشددا وتصبرا على القتال وجرأة وتهورا عليه فيخافوا منكم ويتركوا عنادهم وإصرارهم ولا تبالوا بكثرة عددهم وعددهم واجترءوا عليهم بلا مبالاة لهم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر بالقدرة التامة الكاملة مَعَ الْمُتَّقِينَ الذين يحفظون حدود ما انزل الله عليهم فتوكلوا عليه وامتثلوا بمأموراته ان كنتم موقنين
وَكيف لا تقاتلون ولا تشددون ايها المؤمنون على الغواة الطغاة المستهزئين الذين إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من عندنا مشتملة على تكميل دينكم وزيادة ايمانكم ويقينكم فَمِنْهُمْ اى من المنافقين مَنْ يَقُولُ لأصحابه ورفقائه من خبث باطنه وركاكة فطنته استهزاء وسخرية أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ استحقارا لها واستهانة إياها إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبعموم ما نزل من عنده لإصلاح احوال عباده فَزادَتْهُمْ بعد ما تأملوا فيها وتدبروا في مرموزاتها إِيماناً يقينا واطمئنانا وَهُمْ بعد ما اطلعوا على مطلعها يَسْتَبْشِرُونَ بنزولها
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الا وهو التعامي عن آيات الله وعن مقتضى إشاراتها ورموزها فَزادَتْهُمْ هذه رِجْساً كفرا وشركا منضما إِلَى رِجْسِهِمْ الأصلي وكفرهم الجبلي بحيث صاروا منغمسين منهمكين بالكفر والضلال وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ مصرون على كفرهم وشركهم فلحقوا بشياطينهم الذين مضوا قبلهم. خسر الدنيا والآخرة. الا ذلك هو الخسران المبين
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ من خباثة بواطنهم ورجاسة نفوسهم يُفْتَنُونَ ويقتلون ويصابون فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً بلية ومصيبة واحدة أَوْ مَرَّتَيْنِ بليتين كرتين لتلين قلوبهم بها ويتنبهوا فيتوبوا ثُمَّ لا يَتُوبُونَ الى الله من كفرهم ولا يرجعون نحوه بالإيمان والتوبة ليقبل عنهم بل يصرون على ما هم عليه وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ بها ولا يتذكرون ولا يتعظون منها بل يكابرون ويعاندون
وَمن جملة إصرارهم وعنادهم انهم إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مفضحة لهم مفصحة مصرحة بما هم عليه من النفاق والشقاق ونقض العهد والميثاق نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يتغامزون بعيونهم ويقولون استهزاء وتهكما هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من هؤلاء المؤمنين ثُمَّ انْصَرَفُوا من عنده مريدين النفاق والشقاق بأضعاف ما كانوا عليه بسبب تفضيحهم بهذه السورة لذلك صَرَفَ اللَّهُ المصرف المضل قُلُوبَهُمْ عن الايمان وجادة التوحيد والعرفان وما ذلك الا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ولا يفهمون لذة الايمان ولا يتخلقون على فطرة التوحيد وفطنة العرفان مثل المؤمنين الموحدين
ولذلك لَقَدْ جاءَكُمْ ايها الاعراب المجبولون على الكفر والكفران والشرك والطغيان رَسُولٌ مؤيد بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة منتشئ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ومن جنسكم
وبنى صنفكم ومن غاية شفقته ومرحمته لكم عَزِيزٌ شاق شديد عَلَيْهِ ﷺ عموم ما عَنِتُّمْ اى عنتكم وهلاككم والقاؤكم انفسكم بالتهلكة والتقاؤكم بالمكروه مطلقا واتصافكم به إذ هي من امارات الكفر وعلامات الشرك وعدم الإطاعة والانقياد بأوامر الله ونواهيه مع انه صلّى الله عليه وسلّم حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ اى على ايمانكم وإسلامكم وإصلاح حالكم إذ هو صلّى الله عليه وسلّم بِالْمُؤْمِنِينَ الموحدين المخلصين رَؤُفٌ عطوف مشفق رَحِيمٌ يرحمهم ويرضى عنهم بخروجهم عن ظلمة الكفر بنور الايمان وبالجملة كن أنت يا أكمل الرسل كما قد كنت عليه بمقتضى شفقة النبوة والمروءة والفتوة
فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عنك وانصرفوا عن الايمان بك وبدينك فَقُلْ في نفسك ملتجأ الى ربك مستظهرا منه سبحانه حَسْبِيَ اللَّهُ المراقب علىّ الكافي لعموم مهامى يكفى بي ويكف مؤنة خصومتهم عنى إذ لا إِلهَ يرجع اليه في الوقائع ويلجأ نحوه في الخطوب إِلَّا هُوَ سبحانه عَلَيْهِ لا على غيره إذ لا غير معه في الوجود تَوَكَّلْتُ فلا أرجو ولا أخاف الا منه سبحانه وَكيف لا أتوكل عليه ولا ارجع نحوه إذ هُوَ سبحانه بذاته وبعموم أسمائه وصفاته رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ اى مربى عروش ذرائر الأكوان الكائنة في برزخ الإمكان وهو المستوي عليها بالاستقلال والاحاطة والاستيلاء التام إذ لا شيء سواه. وكل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون
خاتمة سورة البراءة
عليك ايها الطالب المشمر لسلوك مسلك الفناء كي تصل الى فضاء البقاء شكر الله سعيك وهديك الى غاية مبتغاك ان تقتفى في تشمرك هذا اثر من نبهك عليها وهديك إليها الا وهو النبي الذي اختاره الله لرسالته واصطفاه من بين خليقته لتكميل بريته وأظهره على صورته وخلقه بعموم أخلاقه لذلك اتخذه حبيبا وجعله على سائر الأنبياء اماما ونقيبا وتشبث بأذيال لطفه فعلا وقولا وشيما وخلقا صارفا عنان عزمك الى سرائر ما جاء صلّى الله عليه وسلّم به من عند ربه لإرشاد عباده وكذا ما سمح وجاد صلّى الله عليه وسلّم به من تلقاء نفسه من الرموز والإشارات التي قد استنبطها صلّى الله عليه وسلّم من كلام الله وفاض عليه بوحي الله والهامه لصفاء استعداده الفطري الذي قد صار صلّى الله عليه وسلّم به مرآة لتجليات الحق وشئونه وتطوراته وخليفة لله في ارضه وسمائه وكذا ما التقط واستنبط من فحاوي كلماته وإشاراته صلّى الله عليه وسلّم الأولياء الوارثون منه مقتفون اثره قدس الله أسرارهم وأرواحهم وكذا ما ورد عليهم وخطر في خواطرهم النقاوة وجرى على قرائحهم الوقادة على تفاوت طبقاتهم في طريق التوحيد من المواجيد والملهمات الغيبية المنتشئة من النفحات الإلهية والنفسات الرحمانية الناشئة من التجليات الجمالية والجلالية المتفرعة على الشئون والتطورات الكمالية الذاتية وبالجملة لا بدلك ان تفرغ همك عما سوى الحق مطلقا ولا يتيسر لك هذا الا بمتابعة المحققين المتحققين بمقام الكشف والشهود الواصلين الى مقام المراقبة والحضور مع الله وبالاستفادة منهم ومن ملتقطاتهم ووارداتهم حتى يمكن لك التمكن في مكمن الفناء والتقرر في مقر البقاء وحينئذ يصح لك ان تقول بلسان حالك ومقالك حسبي الله لا اله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم جعلنا الله من عباده المفوضين المتوكلين الذين يتخذون الله وقاية ووكيلا ويعتقدونه حسيبا وكفيلا
Icon