ﰡ
هى مكية وعدد آياتها ثنتان وخمسون.
وارتباطها بالسورة قبلها من وجوه:
(١) إنه قد ذكر سبحانه فى السورة السابقة أنه أنزل القرآن حكما عربيا ولم يصرح بحكمة ذلك وصرح بها هنا.
(٢) إنه ذكر فى السورة السالفة قوله: «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» وهنا ذكر أن الرسل قالوا: «ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ».
(٣) ذكر هناك أمره عليه السلام بالتوكل على الله، وهنا حكى عن إخوانه المرسلين أمرهم بالتوكل عليه جل شأنه.
(٤) اشتملت تلك على تمثيل الحق والباطل، واشتملت هذه على ذلك أيضا.
(٥) ذكر هناك رفع السماء بغير عمد ومدّ الأرض وتسخير الشمس والقمر، وذكر هنا نحو ذلك.
(٦) ذكر هناك مكر الكفار وذكر مثله هنا، وذكر من وصفه ما لم يذكر هناك.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)الظلمات: الضلالات، والنور: الهدى، وإذن ربهم: تيسيره وتوفيقه، والعزيز:
الغالب، والحميد: المحمود المثنى عليه بحمده لنفسه أزلا وبحمد عباده له أبدا، ويل:
هلاك، يستحبون: يختارون، سبيل الله: هو دينه الذي ارتضاه، يبغونها: يطلبون لها، عوجا: زيغا واعوجاجا، واللسان: اللغة.
الإيضاح
(الر) تقدم أن بينا فى سورتى يونس وهود طريق قراءته والمعنى المراد منه بما أغنى عن إعادته هنا.
(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) أي هذا كتاب أنزلناه إليك أيها الرسول.
(لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي لتنقذ الناس من ظلمات الضلالة والكفر إلى نور الإيمان وضيائه، وتبصّر به أهل الجهل والعمى، سبل الرشاد والهدى، بما اشتمل عليه من واضح الآيات البينات، المرشدة إلى النظر فى حقائق الكون، الدالة على وحدانية الله تعالى، وأنه لا شريك له وأن الواجب عبادته وحده، ثم دعاؤه لجلب النفع، وكشف الضر، وفيها أيضا سعادة البشر وصلاحهم فى الدنيا والآخرة.
(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه ولطفه بهم، بإرسال نور الهدى إلى قلوبهم، فيسلكون طرق الفلاح والصلاح.
(إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي إلى الصراط المستقيم، وهو الطريق الذي ارتضاه الله لخلقه وشرعه لهم، وهو العزيز الذي لا يغالب، المحمود فى جميع أفعاله وأقواله وأمره ونهيه.
ثم بين ما سلف بقوله:
(اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هو الله المتصف بملك ما فيهما خلقا وتصرفا وتدبيرا.
وهذه الجملة الدالة على عظمة خالق الأكوان، المنفرد بالعظمة والسلطان، قد كرّرت فى كثير من سور الكتاب الكريم، للتنبيه إلى أن من أهم مقاصد هذا الدين أن يكون فى المسلمين حكماء ربانيون، يتفهمون حقائق هذا الكون، ويدركون أسرار بدائعه، ويستخرجون للناس ما فى باطن الأرض، وينتفعون بما فى ظاهرها، ويتأملون فيما فى السموات من بديع الصنع، وما تقدمه لنا من الخير العميم الذي ينتفع منه الإنسان والحيوان، فى مأكلهما ومشربهما ومسكنهما وسائر حاجاتهما ومرافقهما.
وجاء فى سورة يوسف قوله تعالى توبيخا للغافلين، وحثا لهمم المستبصرين:
«وكأيّن من آية فى السّموات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون».
ومع كل هذا فوا أسفا، رأينا كثيرا من المسلمين الذين تتلى عليهم هذه الآية صباح مساء- يكتفون بمجرد تلاوتها والإيمان بها دون بحث ولا تفهم لمغزاها ولا المراد منها، ولا استبصار بما تنطوى عليه من المقاصد والمرامى، ولو كان ذلك كافيا لكان ذكر الخبز حين الجوع كافيا فى الشّبع، والنظر إلى الماء كافيا فى الرّى.
ثم توعد الذين جحدوا آياته، وكفروا بوحدانيته، فقال:
(وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي وهلاك بشديد العذاب يوم القيامة لمن كفر بك، ولم يستجب دعوتك، بإخلاص التوحيد لخالق السموات والأرض،
ثم وصف سبحانه أولئك الكافرين بصفات ثلاث.
(١) (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي إن أولئك الكافرين يطلبون الدنيا، ويعملون لها ويتمتعون بلذاتها، ويقترفون الآثام، ويرتكبون الموبقات، ويؤثرون ذلك على أعمال الآخرة التي تقرّبهم إلى الله زلفى، وينسون يوما تجازى فيه كل نفس بما عملت، يوم يفرّ المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن فى الأرض جميعا.
(٢) (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي ويمنعون من تتجه عزأ: بالله واتباع رسوله فيما جاء به من عند ربه، أن يؤمنوا به ويتبعوه، لما رين لهم الشيطان من سلوك سبيل الطغيان، وران على قلوبهم من الفجور والعصيان، والبعد عند كل ما يقرّب إلى الرحمن.
(٣) (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ويطلبون لها الزيغ والعوج وهى أبعد ما تكون من ذلك، فيقولون لمن يريدون صدهم وإضلالهم عن سبيل الله ودينه، إن ذلك الدين ناء عن الصراط المستقيم، وزائغ عن الحق واليقين، وإنك لتسمع كثيرا من الملحدين يقول إن القوانين الإسلامية فى الحدود والجنايات شديدة غاية الشدة وإنها تصلح للأمم العربية فى البادية، لا للأمم التي أخذت قسطا عظيما من الحضارة: «كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلّا كذبا» فتلك شريعة دانت لها أمة غيّرت وجه البسيطة، وملكت ناصية العالم ردحا من الزمان، وكانت مضرب الأمثال فى العدل وترك الجور، وثلّت عروش الأكاسرة والقياصرة، وامتلكت بلادهم وأزالت عزهم وسلطانهم، إلى أن غيّر أهلها معالمها فأركسهم الله بما كسبوا فبدّل عزهم ذلا، وسعادتهم شقاء، وتلك سنة الله، أن الأرض يرثها عباده الصالحون لاستعمارها، ثم حكم عليهم بما يستحقون فقال:
ثم بين سبحانه كمال نعمته وإحسانه إلى عباده، فذكر أنه يرسل رسله إلى أقوامهم بلغاتهم، كى لا يشق عليهم فهم الدين وحفظه فقال:
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي وما أرسلنا رسولا إلى أمة من الأمم من قبلك وقبل قومك إلا بلغة قومه الذين أرسلناه إليهم، ليفهمهم ما أرسل به إليهم من أمره ونهيه بسهولة ويسر، ولتقوم عليهم الحجة وينقطع العذر، وقد جاء هذا الكتاب بلغتهم وهو يتلى عليهم، فأى عذر لهم فى ألا يفقهوه، وما الذي صدهم عن أن يدرسوه، ليعلموا ما فيه من حكم وأحكام، وحلال وحرام، وإصلاح لنظم المجتمع، ليسعدوا فى حياتيهم الدنيا والآخرة؟.
والنبي صلى الله عليه وسلّم وإن أرسل إلى الناس جميعا، ولغاتهم متباينة، وألسنتهم مختلفة، فإرساله بلسان قومه أولى من إرساله بلسان غيرهم، لأنهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم ويوضحونه لهم، حتى يصير مفهوما لهم كما فهمره، ولو نزل بلغات من أرسل إليهم وبيّنه ولكل قوم بلسانهم لكان ذلك مظنة للاختلاف، وفتحا لباب التنازع، لأن كل أمة قد تدّعى من المعاني فى لسانها ما لا يعرفه غيرها، وقد يفضى ذلك إلى التحريف والتصحيف، بسبب الدعاوى الباطلة التي يقع فيها المتعصبون وبعد أن بين سبحانه أنه لم يكن للناس من عذر فى عدم فهم شرائعه- ذكر أن الهداية والإضلال بيده ومشيئته فقال:
(فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي إن الناس فريقان، فريق هداه الله وأضاء نور قلبه وشرح صدره للإسلام فاتبع سبيل الرشاد وفريق رانت على قلبه
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو العزيز فلا يغلب مشيئته غالب، الحكيم فى صنعه، فلا يفعل إلا ما تقتضيه السنن العامة فى خلقه، والنواميس التي وضعها لصلاح حال عباده وضلالهم: «سنّة الله الّتى قد خلت من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلا».
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٥ الى ٨]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)
تفسير المفردات
الآيات: هى الآيات التسع التي أجراها الله على يده عليه السلام، والظلمات:
الكفر والجهالات، والنور: الإيمان بالله وتوحيده وجميع ما أمروا به، وذكرهم: أي عظهم، وأيام الله: وقائعه فى الأمم السابقة ويقال فلان عالم بأيام العرب: أي بحروبها وملاحمها كيوم ذى قار ويوم الفجار قال عمرو بن كلثوم:
وأيام لنا غرّ طوال... عصينا الملك فيها أن ندينا
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أنه أرسل نبيه محمدا ﷺ إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن فى هذا الإرسال نعمة له ولقومه- أتبع ذلك بذكر قصص بعض الأنبياء وتفصيل مالاقوه من أقوامهم من شديد الأذى والتمرد والعناد، لما فى ذلك من التسلية له وجميل التأسي بهم، وبيان أن المقصود من بعثة الرسل واحد وهو إخراج الخلق من ظلمات الضلالات إلى أنوار الهدايات.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي كما أرسلناك أيها الرسول وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، أرسلنا موسى إلى بنى إسرائيل وأيدناه بالآيات التسع التي سلف ذكرها فى سورة الأعراف وأمرناه بأن يدعوهم إلى الإيمان بالله وتوحيده ليخرجوا من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى والإيمان.
(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) أي عظهم مرغّبا لهم بتذكيرهم بنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل فى الأمم السابقة، ليكون فى ذلك حافز لهم على العمل ويكون لهم بمن سلف أسوة- ومخوّفا موعدا بتذكيرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل من الأمم الغابرة كعاد وثمود، ليكون لهم فى ذلك مزدجر وليحذروا أن يحل بهم مثل ما حل بغيرهم.
وأيام الله فى جانب موسى عليه السلام منها ما كان محنة وبلاء وهى الأيام التي كان فيها بنو إسرائيل تحت قهر فرعون واستعباده، ومنها ما كانت نعمة كإنجائهم من عدوهم وفلق البحر لهم وإنزاله المنّ والسلوى عليهم.
قال قتادة: نعم العبد عبد إذا ابتلى صبر، وإذا أعطى شكر،
وفى الحديث أن رسول الله ﷺ قال: «إن أمر المؤمن كله عجب، لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له».
وفى هذا إيماء إلى أن الإنسان فى هذه الحياة يجب أن يكون بين صبر وشكر أبدا، لأنه إما فى مكروه يصبر عليه وإما فى محبوب يشكر عليه، والوقت فى هذه الحياة ذهب، فمتى ضاع من حياتنا زمن دون عمل نسدى فيه خدمة لأنفسنا ولديننا ووطننا فقد كفرنا النعمة، وأضعنا الفرصة، ولم نعتبر بما حل بمن قبلنا من الأمم الغابرة، فليحذر كل امرئ أن يضيع حياته بلا عمل، وليخف على وقت يضيع، ثم بعده عذاب سريع.
ولما سمع موسى أمر ربه امتثله وأخذ يذّكر قومه بأيام الله كما حكى الله عنه فقال:
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي واذكر لقومك حين قول موسى لقومه: يا قوم تذكروا إنعام الله عليكم إذ أنجاكم من فرعون وآله، حين كانوا يذيقونكم العذاب ويكلفونكم من الأعمال ما لا يطاق مع القهر والإذلال، ويذبحون أبناءكم ويبقون نساءكم على قيد الحياة ذليلات مستضعفات، وهذا رز من أشد الأرزاء، وأعظم ألوان البلاء، قال شاعرهم:
ومن أعظم الرزء فيما أرى | بقاء البنات وموت البنينا |
(وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي وفيما ذكر ابتلاء واختبار عظيم من ربكم
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أي واذكروا يا بنى إسرائيل حين آذنكم ربكم وأعلمكم بوعده فقال:
(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) أي لئن شكرتم ما خوّلتكم من نعمة الإنجاء وغيرها بطاعتي فيما آمركم به وأنهاكم عنه لأزيدنكم من نعمى عليكم، وقد دلت التجارب أن العضو الذي يناط به عمل كلما مرن عليه ازداد قوة، وإذا عطل عن العمل ضمر وضعف، وهكذا النعم إن استعملت فيما خلقت له بقيت، وإن أهملت ذهبت.
أخرج البخاري فى تاريخه والضياء فى المختارة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من ألهم خمسة لم يحرم خمسة- وفيها من ألهم الشكر لم يحرم الزيادة».
والخلاصة- إن من شكر الله على ما رزقه وسّع عليه فى رزقه، ومن شكره على ما أقدره عليه من طاعته زاد فى طاعته، ومن شكره على ما أنعم عليه من صحة زاده الله صحة، إلى نحو أولئك من النعم.
(وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) النعم وجحدتموها فلم تقوموا بواجب حقها عليكم من شكر المنعم بها.
(إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) بحرمانكم منها، وسلبكم ثمراتها، فى الدنيا والآخرة، فتعذبون فى الدنيا بزوالها، وفى الآخرة بعذاب لا قبل لكم به،
وفى الحديث: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصبه».
ثم بين سبحانه أن منافع الشكران ومضار الكفران لا تعود إلا إلى الشاكر أو الكافر بتلك النعم، أما المعبود المشكور فهو متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يضره الكفر، فلا جرم قال:
وقد يكون موسى قال هذه المقالة حين عاين منهم دلائل العناد، ومخايل الإصرار على الكفر والفساد، وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيب، ولا التعريض بالترهيب.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٩ الى ١٢]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)
الريبة: اضطراب النفس وعدم اطمئنانها بالأمر، وفاطر السموات والأرض أي موجدهما على نظام بديع، والسلطان. الحجة والبرهان.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما ذكّر به موسى قومه بما أولاهم به من نعمة، ورفع عنهم من نقمة، ثم ذكر وعده تعالى بالزيادة لمن شكر، ووعيده بالعذاب لمن كفر، ثم حذرهم بأن الكفران لا يضير ربهم، وأنه غنى عن حمدهم وحمد من فى الأرض جميعا يذكّرهم بأيام الله فيمن قبلهم، من الأمم السالفة والأجيال البائدة، بأسلوب طلىّ ومقال جلىّ، فذكر القول أوّلا على سبيل الإجمال، ثم أتبعه بمحاورة بين الرسل وأقوامهم، أقام فيها الرسل الحجة على أممهم، ودحض ما تمسكوا به من الترّهات والأباطيل.
الإيضاح
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) أي ألم يأتكم خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل التي غاب عن الناس علمها، وعند الله إحصاؤها.
ثم فصل هذا النبأ وفسره بقوله:
(جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي جاءتهم رسلهم بالمعجزات الظاهرة، والبينات الباهرة، وبين كل رسول لأمته طريق الحق، ودعاهم إليه، ليخرجهم من الظلمات إلى النور.
وقال أبو عبيدة والأخفش ونعمّا قالا هو مثل، والمراد أنهم لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت، قد ردّ يده فى فيه.
(وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي إنا كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم به، من البينات التي أظهرتموها حجة على صحة رسالتكم، وإنما يقصدون من الكفر بها الكفر بدلالتها على صدق رسالتهم.
(وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي وإنا لفى شك مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله ووحدانيته، وجملة ما جئتم به من الشرائع.
وخلاصة مقالهم- إنهم جاحدون نبوتهم، قاطعون بعدم صحتها، لأن ما جاءوا به من التعاليم والشرائع مما يشكّ فى صدقه، وأن الله سبحانه يدعو إلى مثله. فرد الرسل عليهم منكرين متعجبين من تلك المقالة الحمقاء كما أشار إلى ذلك عز اسمه بقوله:
(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ؟) أي أفي وجود الله شك، وكيف ذلك والفطرة شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به فالاعتراف به ضرورى لدى كل ذى رأى حصيف كما
جاء فى الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه».
ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب، فتحتاج إلى النظر فى الأدلة الموصلة، إلى ذلك، ومن ثمّ وجه الرسل أنظار أممهم إلى هذه الأدلة فقالوا:
(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو الذي خلقهما وأبدعهما على غير مثال سابق، ودلائل الحدوث ظاهرة عليهما، فلا بد لهما من صانع وهو الله الذي لا إله إلا هو، خالق
ولما أقاموا الدليل على وجوده وصفوه بكمال الرحمة بقولهم:
(يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان به بإرساله إيانا، لنخرجكم من ظلمات الوثنية، إلى نور الوحدانية، وإخلاص العبادة له، وهو الواحد القهار.
(لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي يدعوكم لمغفرة بعض ذنوبكم، وهى الذنوب التي بينكم وبين ربكم، لا المظالم وحقوق العباد.
والمتتبع لأسلوب الكتاب الكريم يرى أن كل موضع ذكر فيه مغفرة الذنوب للكافرين جاء بلفظ (من) كقوله: «وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» وقوله: «يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» لأنه يخاطبهم فى أمر الإيمان وحده.
وفى المواضع التي يذكر فيها مغفرة الذنوب للمؤمنين تجىء بدون ذكر (من) كقوله: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» لأن المغفرة منصرفة إلى المعاصي ومتوجهة إليها.
(وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت سماء الله، وجعله منتهى أعماركم إن أنتم آمنتم به، وإلا عاجلكم بالهلاك وعذاب الاستئصال، جزاء كفرانكم بدعوة الرسل إلى التوحيد، وإخلاص العبادة للواحد القهار.
ثم حكى سبحانه رد الأمم على مقالة الرسل، وهو يتضمن ثلاثة أشياء:
(١) (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فلا فضل لكم علينا، فلم خصصتم بالنبوة، أطلعكم الله على الغيب، وجعلكم مخالطين لزمرة الملائكة دوننا إلى أنه لو كان الأمر
(٢) (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) ولا حجة لكم على ما تدّعون، وليس من حصافة العقل أن نترك أمرا قبل أن يقوم الدليل على خطئه.
(٣) (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة ظاهرة تدل على صحة ما تدّعون من النبوة، أما ذكر السموات والأرض وعجائبهما فلسنا نحفل بهما، والعجائب الأرضية والسماوية لا نعقلها، والبشر لا يخضعون إلا لمن يأتى لهم بما هو خارج عن طور معتادهم، وحينئذ يعظّمونه ويبجّلونه، وهذه المشاهدات لا نرى فيها شيئا خارقا للعادة، وإذا فلا إيمان ولا تسليم إلا بما هو فوق طاقتنا، كقلب العصا حية ونقل الجبال وما إلى ذلك.
وبعد أن حكى عن الكفار شبهاتهم فى الطعن فى النبوة حكى عن الأنبياء جوابهم عنها فأجابوا عن الأولى والثانية بالتسليم، لكن التماثل لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة، لأن هذا منصب يمن الله به على من يشاء من عباده، كما لا يمتنع من أن يخص بعض عباده بالتمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب، وأن يحرم الجمع العظيم منه، وهذا ما أشار إليه بقوله:
(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وأجابوا عن الشبهة الثالثة بأن ما جئنا به حجة قاطعة وبينة ظاهرة على صدق رسالتنا، وما اقترحتموه من الآيات فأمره إلى الله إن شاء أظهره وهو زائد على قدر الكفاية، وذلك ما أومئوا إليه بقولهم:
(وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي بمشيئته وإرادته، وليس ذلك فى قدرتنا.
وبعد أن أجابهم الأنبياء عن شبهاتهم أخذ المشركون يخوفونهم ويتوعدونهم بالانتقام منهم وإيذائهم قدر ما يستطيعون، فقال لهم الأنبياء إنا لا نخاف تهديدكم
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فى دفع شرور أعدائهم عنهم، وفى الصبر على معاداتهم.
ثم زادوا أمر التوكل توثيقا وتوكيدا فقالوا:
(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) أي وكيف لا نتوكل على الله وقد هدانا إلى سبل المعرفة، وأوجب علينا سلوك طريقها، وأرشدنا إلى طريق النجاة، ومن أنعم الله عليه بنعمة فليشكره عليها بالعمل بها.
(وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) أي ولنصبرنّ على إيذائكم بالعناد واقتراح الآيات ونحو ذلك مما لا خير فيه، وندعوكم لعبادة الله وحده، ليكون ذلك منا شكرا على نعمة الهداية.
ثم ختموا كلامهم بمدح التوكل وبيان أن إيذاءهم لا يثنيهم عن تبليغ رسالة ربهم فقالوا:
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي وعلى الله وحده فليثبت المتوكلون على توكلهم وليحتملوا كل أذى فى جهادهم، ولا يبالوا بما يصيبهم من أذى ولا بما يلاقون من صعاب وعقبات.
ومن عنده مال أو علم فلينفع به الناس وليكن كالنهر يسقى الزرع والشمس تضىء العباد، وليصبر على أذى الناس كما صبر الأنبياء وأوذوا، فالهداة ما خلقوا إلا ليعملوا فهم هداة بطباعهم، ولذاتهم فى قلوبهم ومنهم تنتقل إلى الناس.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٣ الى ١٧]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
لتعودنّ: لتصيرن، والملة: الدين والشريعة، والمقام: موقف الحساب، واستفتحوا:
أي طلبوا الفتح بالنصرة على الأعداء، وخاب: هلك، والجبار: العاتي المتكبر على طاعة الله، والعنيد: المعاند للحق المخالف له، ومن ورائه: أي من بعد ذلك ينتظره، والصديد ما يسيل من جلود أهل النار، يسيغه: أي يستطيبه يقال ساغ الشراب:
إذا جاز الحلق بسهولة، يأتيه الموت: أي تأتيه أسبابه وتحيط به من كل جهة، عذاب غليظ: أي شديد غير منقطع.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مادار من الحوار والجدل بين الرسل وأقوامهم، وذكر الحجج التي أدلى بها الرسل، وقد كان فيها المقنع لمن أراد الله له الهداية والتوفيق، ومن كان له قلب يعى به الحكمة وفصل الخطاب- ذكر هنا أنهم بعد أن أفحموا لم يجدوا وسيلة إلا استعمال القوة مع أنبيائهم كما هو دأب المحجوج المغلوب فى الخصومة، فخيروا رسلهم بين أحد أمرين إما الخروج من الديار: وإما العودة إلى الملة التي عليها الآباء والأجداد، فأوحى الله إلى أنبيائه أن العاقبة لكم، وستدور عليهم الدائرة، وستحلّون محلهم فى ديارهم وسيعذبون فى الآخرة بنار جهنم، ويرون ألوانا من العذاب لا قبل لهم بها.
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي وقال الذين كفروا بالله لرسلهم حين دعوهم إلى توحيده تعالى وترك عبادة الأصنام والأوثان:
لنخرجنكم من بلادنا مطرودين منها، إلا أن تعودوا فى ديننا الذي نحن عليه، من عبادة الأصنام كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: «لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا» الآية، وكما قال قوم لوط: «أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ» الآية، وقال إخبارا عن مشركى قريش: «وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها، وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا».
وخلاصة هذا- ليكونن أحد الأمرين لا محالة: إما إخراجكم، وإما صيرورتكم فى ملتنا ملة الآباء والأجداد، وهى عبادة الآلهة والأوثان، وقد مكّن لهم فى ذلك أنهم كانوا كثرة وكان أهل الحق قلة، كما جرت بذلك العادة فى كل زمان ومكان، فإن الظّلمة يكونون متعاونين متعاضدين، ومن ثم استطاعوا أن يبرموا هذا الحكم بلا هوادة ولا رفق، كما هو شأن المعتزّ بقوته، الذي لا يخشى اعتراضا ولا خلافا.
والأنبياء صلوات الله عليهم لم يكونوا فى ملتهم ولم يعبدوا الأصنام طيلة حياتهم، لكنهم لما نشئوا بين ظهرانيهم، وكانوا من أهل تلك البلاد، ولم يظهروا فى أول أمرهم مخالفة لهم- ظنوا أنهم كانوا على دينهم.
ولما تمادت الأمم فى الكفر وتوعدوا الرسل بأخذهم بالشدة والإيقاع بهم- أوحى الله إليهم بإهلاك من كفربهم، ووعدهم بالنصر والغلب على أعدائهم كما أشار إلى ذلك بقوله:
(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي فأوحى الله إلى رسله قائلا لهم: لنهلكن من تناهى فى الظلم من المشركين، ولنسكننكم أرضهم وديارهم بعد إهلاكهم عقوبة لهم على قولهم: (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا).
ثم ذكر السبب فى نصرهم عليهم فقال:
(ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) أي هكذا أفعل بمن خاف مقامه بين يدىّ يوم القيامة، وخاف وعيدي فاتقانى بطاعتي وتجنب سخطى- أنصره على من أراد به سوءا وبغى به مكروها من أعدائى، وأورثه أرضه ودياره.
ثم بين أن كلا من الفريقين الأمم والرسل طلبوا المعونة والتأييد من ربهم وإلى ذلك أشار بقوله:
(وَاسْتَفْتَحُوا) أي واستفتحت الرسل على أممها أي استنصرت الله عليها، واستفتحت الأمم على أنفسها كما قالوا: «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ».
ثم ذكر مآل المشركين وبيّن أن النصر للمتقين فقال:
(وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي وهلك كل متكبر مجانب للحق منحرف عنه.
(مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي ومن وراء الجبار العنيد جهنم أي هى له بالمرصاد تنتظره، ليسكنها مخلدا فيها أبدا، ويعرض عليها فى الدنيا غدوّا وعشيا إلى يوم التناد.
ثم بين شرابه فيها فقال:
(وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) أي ليس له فى النار شراب إلا ماء يخرج من جوفه وقد خالطه القيح والدم، وخص بالذكر لأنه آلم أنواع العذاب.
(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي يتحساه جرعة بعد جرعة، ولا يكاد يزدرده، من شدة كراهته، ورداءة طعمه ولونه، وريحه وحرارته كما قال: «وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» وقال: «وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ».
ثم ذكر ما يحيط به من الأهوال فقال:
(وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي وتحيط به أسبابه من الشدائد وأنواع العذاب من كل جهة من الجهات من قدامه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله فى نار جهنم، ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت، لكنه لا يموت كما قال تعالى: «لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها».
ثم أكد شدائدها وعظيم أهوالها فقال:
(وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ أي مؤلم أغلظ من الذي قبله وأمرّ كما قال تعالى: «وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ» وقال: «وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ. هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ. وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ».
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠)
بعد أن ذكر سبحانه ما سيلاقيه الكافرون فى هذا اليوم العصيب من سائر أنواع العذاب التي سلف وصفها- بين هنا أن ما عملوه فى الدنيا من صالح الأعمال لا يجديهم فتيلا ولا قطميرا، فما أشبهه إذ ذاك برماد أطارته الريح فى يوم عاصف فذهبت به فى كل ناحية، فهم لا يجدون من أعمالهم فيه شيئا، ثم بين أن ذلك اليوم آت لا ريب فيه، فإن من أنشأ السموات والأرض بلا معين ولا ظهير قادر على أن يفنيهم ويأتى بخلق سواهم، وليس ذلك بعزيز ولا بممتنع عليه.
الإيضاح
(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) أي ما مثل أعمال الكافرين التي كانوا يعملونها فى الدنيا ويزعمون أنها تنفعهم يوم الجزاء- إلا كمثل رماد حملته الريح وأسرعت الذهاب به فى يوم عاصف فنسفته ولم تبق له أثرا، فهم يوم القيامة لا يجدون منها شيئا ينفعهم عند الله فينجيهم من عذابه، إذ لم يكونوا يعملونها لله خالصة، بل كانوا يشركون فيها الأصنام والأوثان:
والمراد من تلك الأعمال أعمال البر كالصدقة، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وإطعام الجائع، وإغاثة الملهوف، ونحو ذلك.
ثم أكد نفى فائدتها لهم إذ ذاك فقال:
(لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) أي لا يقدرون يوم القيامة على شىء من أعمالهم فى الدنيا، فلا يرون لها أثرا من ثواب أو تخفيف عذاب، كما لا تنتفع بالرماد إذا أرسل عليه الريح فى يوم عاصف.
ونحو الآية قوله تعالى: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» وقال: َثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ
وورد في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت «يا رسول الله إن ابن جدعان كان فى الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، هل ذلك نافعه؟ قال لا ينفعه، لأنه لم يقل:
رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين».
(ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي ذلك السعى والعمل على غير أساس ولا استقامة، حتى فقدوا ثوابهم منه أحوج ما كانوا إليه، هو الضلال البعيد عن طريق الحق والصواب.
ثم ذكر دليل وحدانيته فقال:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) أي ألم تعلم أيها الرسول أن الله أنشأ السموات والأرض بالحكمة وعلى الوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقا عليه، ومن قدر على خلقهما على أتم نظام وأحكم وضع بلا معين ولا ظهير، فهو قادر على أن يفنيكم ويأتى بخلق جديد سواكم، وما ذلك بممتنع ولا متعذر عليه ومثل الآية قوله: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
وخلاصة ذلك- إنهم بعدوا فى الضلال وأمعنوا فى الكفر بالله، مع وضوح الآيات الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة، وأنه هو الحقيق بأن يرجى ثوابه ويخشى عقابه.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣)
وبرزوا: أي صاروا بالبراز وهى الأرض المتسعة، ويراد بها مجتمع الناس فى ذلك اليوم والضعفاء: واحدهم ضعيف، ويراد به ضعيف الرأى والفكر، والذين استكبروا:
هم رؤساؤهم الذين استنفروهم، والتبع: واحدهم تابع كخادم وخدم، مغنون: أي دافعون، ومحيص: أي منجى ومهرب، والسلطان: التسلط، بمصر حكم: أي بمغيثكم، يقال استصرخنى فأصرخته: أي استغاثني فأغثته.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما يلقاه الأشقياء فى ذلك اليوم من العذاب، وذكر أن أعمالهم الطيبة التي كانت فى الدنيا أحبطت فلم تغن عنهم شيئا- ذكر هنا محاورة بين الاتباع المستضعفين والرؤساء المتبوعين، وما يحدث فى ذلك الوقت من الخجل لهم، ثم أردفها مناظرة وقعت بين الشيطان وأتباعه من الإنس. وبعد أن ذكر أحوال الأشقياء وبالغ فى بيانها وتفصيلها شرح أحوال السعداء وما أعد لهم من الثواب العظيم والأجر الجزيل.
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) أي برزت الخلائق كلها برّها وفاجرها لله الواحد القهار: أي اجتمعت فى براز من الأرض، وهو المكان الذي ليس فيه شىء يستر أحدا.
(فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي فقال الأتباع لقادتهم وسادتهم الذين استكبروا عن عبادة الله وحده وعن اتباع قول الرسل: إنا كنا تابعين لكم، تأمروننا فنأتمر وتنهوننا فتنتهى.
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي فهل تدفعون عنا اليوم شيئا من ذلك العذاب كما كنتم تعدوننا وتمنوننا فى الدنيا.
وقد حكى الله رد أولئك السادة عليهم.
(قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ) أي لو أرشدنا الله تعالى، وأضاء أنوار بصائرنا وأفاض علينا من توفيقه ومعونته، لأرشدناكم ودعوناكم إلى سبل الهدى، ووجهنا أنظاركم إلى طريق الخير والفلاح، ولكنه لم يهدنا فضللنا السبيل فأضللناكم.
ولما كان هذا القول منهم أمارة الجزع قالوا:
(سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) أي ليس لنا مهرب ولا خلاص مما نحن فيه إن صبرنا أو جزعنا.
وخلاصة ذلك- سيّان الجزع والصبر، فلا نجاة لنا من عذاب الله.
وفى مثل الآية قوله: «وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ» وقوله: «رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً».
(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أي وقال إبليس مخاطبا أتباعه من الإنس، بعد أن حكم الله بين عباده فأدخل المؤمنين فراديس الجنات، وأسكن الكافرين سحيق الدركات.
(إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) أي إن الله وعدكم على ألسنة رسله بالبعث وجزاء كل عامل على عمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ووعده حق وخبره صدق.
(وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) أي ووعدتكم أن لا جنّة ولا نار، ولا حشر ولا حساب، ولئن كانا فنعم الشفيع لكم الأصنام والأوثان، فأخلقتكم موعدى إذ لم أقل إلا بهرجا من القول وباطلا منه، فاتبعتمونى وتركتم وعد ربكم، وهو وليّكم ومالك أمركم.
ونحو الآية قوله: «يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً».
(وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي وما كان لى قوة وتسلط تجعلنى ألجئكم إلى متابعتى على الكفر والمعاصي.
(إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) أي ولكن بمجرد أن دعوتكم إلى الضلال بوسوستي وتزيينى، أسرعتم إلى إجابتى، واتبعتم شهوات النفوس، وأطعتم الهوى، وخضتم فى مسالك الردى.
(فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) لأنه ما كان منى إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة، ولوموا أنفسكم، إذا استجبتم لى باختياركم الذي نشأ عن سوء استعدادكم بلا حجة منى ولا برهان، بل بتزيينى وتسويلى، ولم تستجيبوا لربكم وقد دعاكم دعوة الحق المقرونة بالحجج والبينات.
(ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) أي ما أنا بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب فأزيل صراحكم، وما أنتم بمغيثىّ مما أنا فيه من العذاب والنكال.
ومعنى كفره بإشراكهم تبرؤه منه واستنكاره له، وهذا كقوله تعالى: «إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ».
(إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي قال إبليس ذلك، قطعا لأطماع الكفار من الإغاثة والنجاة من العذاب، وإنما حكى الله ذلك عنه ليكون تنبيها للسامعين، وحضّا لهم على النظر فى عاقبة أمرهم، والاستعداد لذلك اليوم الذي يقول فيه الشيطان ما يقول، فيثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا عن غيهم ويتذكروا هول ذلك الموقف ورهبته.
ولما جمع سبحانه فريقى السعداء والأشقياء فى قوله: «وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً» وبالغ فى وصف حال الأشقياء من وجوه كثيرة- ذكر حال السعداء وما أعد لهم من نعيم مقيم فى ذلك اليوم فقال:
(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي وأدخل الذين صدقوا الله ورسوله، فأقروا بوحدانيته تعالى ورسالة رسله، وعملوا بطاعته، فانتهوا إلى أمره ونهيه، بساتين تجرى من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا، لا يتحولون عنها ولا يزولون منها.
(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه تعالى، إذ وجّه نفوسهم فى الدنيا لكسب الخيرات، والميل إلى العمل بما يرضيه ويرضى رسوله، وأنار بصائرهم للاعتقاد بأن يوم الجزاء آت لا ريب فيه، فأعدّوا له العدّة، فكان على الله بمقتضى وعده أن يدخلهم جناته كفاء ما جدّوا فى رضاه، ونصبوا فى طاعته، خوفا من هول ذلك اليوم العصيب.
(تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي تحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم، تعظيما لشأنهم وعناية بأمرهم، وجاء فى هذا المعنى قوله تعالى فى وصف دخولهم الجنة: «حتّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم» وقوله: «وَالْمَلائِكَةُ
وقوله: «وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً» كما يحييهم ربهم جلت قدرته إظهارا لرضاه عنهم، وإجلالا وإكبارا لهم كما قال: «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ».
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٧]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧)
تفسير المفردات
المثل: قول فى شىء يشبّه بقول فى شىء آخر، لما بينهما من المشابهة، ويوضح الأول بالثاني، ليتم انكشاف حاله به، ثابت: أي ضارب بعروقه فى الأرض، فى السماء:
أي جهة العلو، تؤتى أكلها: أي تعطى ثمرها، بإذن ربها: أي بإرادة خالقها، اجتثت:
أي استؤصلت وأخذت جثتها، والقرار: الاستقرار، القول الثابت: أي الذي ثبت عندهم وتمكن فى قلوبهم.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حال الأشقياء ومآل أمرهم وما يلاقونه من الشدائد والأهوال فى نار جهنم التي لا يجدون عنها محيصا، وذكر أحوال السعداء وما ينالون من فوز عند ربهم- ضرب لذلك مثلا يبين حال الفريقين ويوضح الفرق بين الفئتين، وبه ألبس المعنويات
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) أي ألم تعلم أيها الإنسان علم اليقين، كيف ضرب الله مثلا ووضعه الموضع اللائق به.
(كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) أي إن الله جلت قدرته شبه الكلمة الطيبة وهى الإيمان الثابت فى قلب المؤمن الذي يرفع به عمله إلى السماء كما قال: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» وتنال بركته وثوابه فى كل وقت، فالمؤمن كلما قال لا إله إلا الله صعدت إلى السماء وجاءت بركتها وخيرها- بالشجرة الطيبة المثمرة الجميلة المنظر الشذّية الرائحة التي لها أصل راسخ فى الأرض به يؤمن قلعها وزوالها، وفروعها متصاعدة فى الهواء (فيكون ذلك دليلا على ثبات الأصل ورسوخ العروق، وعلى بعدها عن عفونات الأرض وقاذورات الأبنية) فتأتى الثمرة نقية خالية من جميع الشوائب، وتثمر فى كل حين بأمر ربها وإذنه، وإذا اجتمع لهذه الشجرة كل هذه المميزات كثر رغبة الناس فيها.
وخلاصة ذلك- إنه تعالى شبه كلمة الإيمان بشجرة ثبتت عروقها فى الأرض، وعلت أغصانها إلى السماء، وهى ذات ثمر فى كل حين، ذاك أن الهداية إذا حلت قلبا فاضت منه على غيره، وملأت قلوبا كثيرة، فكأنها شجرة أثمرت كل حين، لأن ثمراتها دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وكل قلب يتلّقى عما يشاكله، ويأخذ منه بسرعة أشد من سرعة إيقاد النار فى الهشيم، أو سريان الكهرباء فى المعادن، أو الضوء فى الأثير.
وعن ابن عمر قال «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال:
أخبرونى عن شجرة تشبه الرجل المسلم لا يتحاتّ ورقها لا صيفا ولا شتاء وتؤتى أكلها كل حين بإذن ربها. قال ابن عمر فوقع فى نفسى أنها النخلة، ورأيت أبابكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
النخلة. فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد كان وقع فى نفسى أنها النخلة، قال ما منعك أن تتكلم؟ قلت لم أركم تتكلمون، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا، قال عمر: لأن تكون قلتها أحبّ إلىّ من كذا وكذا» رواه البخاري.
ثم نبه سبحانه إلى عظم هذا المثل ليكون ذلك داعية تدبره ومعرفة المراد منه فقال:
(وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي إن فى ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير للناس، لأن أنس النفوس بها أكثر، فهى تخرج المعنى من خفىّ إلى جلىّ، ومما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع، وبها يطبق المعقول على المحسوس فيحصل العلم التام بالشيء الممثل له.
(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) أي ومثل كلمة الكفر وماشا كلها مثل شجرة خبيثة كالحنظل ونحوه مما ليس له أصل ثابت فى الأرض، بل عروقها لا تتجاوز سطحها، وقد اقتلعت من فوق الأرض، لأن عروقها قريبة منه، أو لا عروق لها فى الأرض، فكما أن هذه لاثبات لها ولا دوام، فكذلك الباطل لا يدوم ولا يثبت، بل هو زائل ذاهب، وثمره مرّكريه كالحنظل.
وما أقوى الحق وأثبته، وأكثر نفعه للناس، فهو ثابت الدعائم متين الأركان، وما كل حين كالنخل.
والخلاصة- إن أرباب النفوس العالية وكبار المفكّرين هم أصحاب الكلمة الطيبة، وعلومهم تعطى أممهم نعما ورزقا فى الدنيا، وهى مستقرة فى نفوسهم، وفروعها ممتدة
وأرباب الشهوات والنفوس الضعيفة والمقلّدون فى العلم هم أصحاب الكلمة الخبيثة التي لا ثبات لها كالحنظل.
وبعد أن وصف الكلمة الطيبة بما سلف أخبر بفوز أصحابها ببغيتهم فى الدنيا والآخرة فقال:
(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أي يثبتهم بالكلمة الطيبة التي ذكرت صفاتها العجيبة فيما سلف مدة حياتهم، إذا وجد من يفتنهم عن دينهم ويحاول زللهم كما جرى لبلال وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبعد الموت فى القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة، وفى مواقف القيامة فلا يتلعثمون ولا يضطربون إذا سئلوا عن معتقدهم ولا تدهشهم الأهوال.
أخرج ابن أبى شيبة عن البراء بن عازب أنه قال فى الآية: التثبيت فى الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل فى القبر فقالا له: من ربك؟ قال ربى الله، وقالا:
وما دينك؟ قال دينى الإسلام، وقالا وما نبيك؟ قال نبي محمد صلى الله عليه وسلّم.
وعن عثمان بن عفان قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» أخرجه أبو داود.
وقد وردت أحاديث كثيرة فى سؤال الملائكة للميت فى قبره وفى جوابه لهم، وفى عذاب القبر وفتنته وليس هذا موضعها. نسأل الله التثبيت فى القبر وحسن الجواب بمنه وكرمه، إنه على ما يشاء قدير.
وعلى هذا فالمراد بالحياة الدنيا مدة الحياة، والآخرة يوم القيامة، والعرض للحساب، وبعد أن وصف الكلمة الخبيثة فى الآية المتقدمة بين حال أصحابها بقوله:
والمراد بالظالمين هنا الكفار، لأنهم ظلموا أنفسهم بتبديلهم فطرة الله التي فطر الناس عليها وعدم اهتدائهم إلى القول الثابت.
أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضى الله عنهما «إن الكافر إذا حضره الموت تنزل عليه الملائكة عليهم السلام يضربون وجهه ودبره، فإذا دخل قبره أقعد فقيل له من ربك؟ لم يرجع إليهم شيئا وأنساه الله تعالى ذكر ذلك، وإذا قيل له من الرسول الذي بعث إليك؟ لم يهتد له ولم يرجع إليه شيئا، فذلك قوله تعالى: (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) ».
(وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ) أي وبيده تعالى الهداية والإضلال بحسب ما تقتضيه سننه العامة التي سنها فى عباده، بحسب استعداد النفوس وقبولها لكل منهما، فلا تنكروا قدرته على اهتداء من كان ضالا ولا ضلال من كان منكم مهتديا، فإن بيده تصريف خلقه، وتقليب قلوبهم، يفعل فيهم ما يشاء.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٨ الى ٣١]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١)
تفسير المفردات
البوار: الهلاك، يقال رجل بائر وقوم بور كما قال: «وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» ويصلونها: يقاسون حرها، والأنداد: واحدهم ندّ وهو المثل والشبيه، والمصير: المرجع، والبيع: الفدية، والخلال: المخالّة والصداقة.
بعد أن ضرب عز اسمه الأمثال بيانا لحالى الفريقين، وذكر ما يلهمه من التوفيق فى الدارين للسعداء، وما ينال الأشقياء من الخذلان والإضلال، جزاء ما كسبت أيديهم من تدسيتهم لأنفسهم باجتراحهم للشرور والآثام، وبين أن كل ذلك يفعله على حسب ما يرى من الحكمة والمصلحة.
ذكر هنا الأسباب التي أوصلتهم إلى سوء العاقبة معجبا رسوله مما صنعوا من الأباطيل التي لا تكاد تصدر ممن له حظّ من الكفر والنظر، ولم تكن هذه الطامة خصّيصى بهم، بل كانت فتنة شعواء عمتهم جميعا «واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّة».
ذاك أنهم بدلوا النعمة كفرا، والشكر جحدا وإنكارا، وليت البليّة كانت واحدة بل أضافوا إليها أخرى فاتخذوا الله الأنداد والشركاء، ثم ثلّثوا بإضلال غيرهم فكانوا دعاة الكفر وأعوان الفتنة:
فلو كان همّ واحد لا حتملته | ولكنه هم وثان وثالث |
وبعد أن أمر الكافرين على سبيل الوعيد والتهديد بالتمتع بنعيم الدنيا، أمر عباده المؤمنين بعدم المغالاة فى التمتع بها، والجد فى مجاهدة النفس والهوى، ببذل النفس والمال فى كل ما يرفع شأنهم، ويقرّبهم من ربهم، وينيلهم الفوز لديه فى يوم لا تنفع فيه فدية ولا صداقة ولا خلة: «يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم».
أخرج عطاء عن ابن عباس أن هؤلاء هم كفار مكة.
وأخرج الحاكم وابن جرير والطبراني وغيرهم عن على كرم الله وجهه أنه قال فى هؤلاء المبدّلين: هم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة، فأما بنو المغيرة فقطع الله تعالى دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
عدّد سبحانه الأسباب التي أوقعت هؤلاء الأشقياء ومن شايعهم فى سوء المنقلب وحصرها فى ثلاثة:
(١) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً) أي ألم تعلم وتعجب من قوم بدّلوا شكر النعمة غمطا لها وجحودا بها، كأهل مكة الذين أسكنهم الله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شىء وجعلهم قوّام بيته، وشرّفهم بإرسال رسوله محمد صلى الله عليه وسلّم من بينهم، فكفروا بتلك النعمة فأصابهم الجدب والقحط سبع سنين دابا وأسروا يوم بدر، وصفّدوا فى السلاسل والأغلال، وقتل منهم العدد العديد من صناديدهم ورجالاتهم ممن كانوا يضنّون بهم ويحتفظون بمواضعهم ليوم كريهة وسداد ثغر.
(وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) أي وأحلوا من شايعهم على الكفر دار الهلاك الذي لاهلاك بعده.
ثم بين هذه الدار فقال:
(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) أي هذه الدار هى جهنم دار العذاب التي يقاسون حر نارها، وبئس المستقر هى لمن أراد الله به النكال والوبال.
(٢) (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي واتخذوا الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس كمثله شىء- أندادا وشركاء من الأصنام والأوثان، أشركوهم به فى العبادة كما قالوا فى الحجّ: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
(٣) (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي لتكون عاقبة أمر الذين شايعوهم على ضلالهم، الصدّ والإعراض عن سبيله القويم ودينه الحنيف، والوقوع فى حمأة الكفر والضلال.
ولما حكى الله عنهم هذه الهنات الثلاث، تبديل النعمة، واتخاذ الأنداد والأمثال، وإضلال قومهم، أمر نبيه أن يقول لهم على سبيل التهديد والوعيد: سيروا على ما أنتم عليه، فإنه لا فائدة فى نصحكم وإرشادكم والعاقبة النار.
ثم بين جزاءهم المحتوم فقال:
(فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) أي إن مرجعكم وموئلكم إليها كما قال: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» وسمى الله تعالى ذلك تمتعا، لأنهم تلذذوا به، وأحسوا بغبطة وسرور كما يتلذذون بالمشتهيات من النعم، وهذا الأسلوب التهكمى يستعمل فى التخاطب كثيرا فترى الطبيب يأمر مريضه بالاحتماء من بعض ما يضره ويؤذيه، ثم لا يرى منه إلا تماديا فى الإعراض عن أوامره، واتباعا لشهواته فيقول له:
كل ما تريد، فإن مصيرك إلى الموت، وما مراده من ذلك إلا التهديد ليرتدع ويقبل ما يقول. وكما يقال لمن سعى فى مخالفة السلطان: اصنع ما شئت، فإن مصيرك إلى السيف.
وبعد أن هدد الكفار على انغماسهم فى اللذات، أمر نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يأمر خلّص عباده بإقامة العبادات البدنية، وأداء الفرائض المالية فقال:
(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي قل لهم:
أقيموا الصلاة على وجهها، وأدوها كما طلب ربكم، فهى عماد الدين، وهى التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهى المصباح للمؤمن يستضىء به للقرب من ربه، وأدوا الزكاة شكرا له على نعمه الجزيلة، رأفة بعباده الفقراء سدا لخلتهم وإيجادا للتضامن والتعاون بين الإخوة فى الدين: «إنّما المؤمنون إخوة».
(سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي أنفقوا ذلك فى السر والعلن، ولكل منهما حال تستحب فيها وقد تقدم القول فى تفصيل ذلك.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) أي من قبل أن يأتى اليوم الذي لا تنفع فيه فدية، ولا تجدى فيه صداقة، فلا يشفع خليل ولا يصفح، عن عقابه لمخالّته لصديقه، بل هناك العدل والقسط كما قال: «فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ
وقال: «أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ».
أدلة التوحيد المنصوبة فى الآفاق والأنفس
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
تفسير المفردات
السماء: السحاب، وكل ما علا الإنسان فأظله فهو سماء، والرزق: كل ما ينتفع به، والتسخير: التيسير والإعداد، والفلك: السفن، دائبين: أي دائمين فى الحركة لا يفتران، يقال دأب فى العمل إذا سار فيه على عادة مطردة كما قال: «تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً» آتاكم: أي أعطاكم، لا تحصوها: لا تطيقوا حصرها، والإحصاء: العد بالجصى، وكان العرب يعتمدونه فى العد كاعتمادنا فيه على الأصابع، ظلوم: أي لنفسه بإغفال شكر النعمة، كفار: شديد الكفران والجحود لها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحوال الكافرين لنعمه، حين بدّلوا الشكر بالكفر، واتخذوا الله أندادا، فكان جزاؤهم جهنم وبئس المهاد، ثم أمر المؤمنين بإقامة شعائر الدين من صلاة وزكاة، شكرا لربهم على ما أوتوا من النعم، وحثا لهم على الجهاد فى سبيل كما لهم ورقبهم ببذل النفس والنفيس وهو المال، لتكمل لهم السعادة فى الدارين-
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي الله الذي خلق لكم السموات والأرض، هما أكبر خلقا منكم، وفيهما من المنافع لكم ما تعلمون وما لا تعلمون، وتقدم تفصيل هذا فى مواضع متعددة من كتابه الكريم.
(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) أي وأنزل من السماء غيثا أحيا به الشجر والزرع، فأثمرت لكم رزقا تأكلون منه وتعيشون به.
والآية كقوله: «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى» أي من ثمار وزروع مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي وذلل لكم السفن بأن أقدركم على صنعها، وجعلها طافية على وجه الماء، تجرى عليه بأمره تعالى وسخر البحر لحملها، ليقطع المسافرون بها المسافات الشاسعة من إقليم إلى إقليم لجلب ما هناك إلى هنا ونقل ما هنا إلى هناك.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) تشق الأرض شقا من قطر إلى قطر، لانتفاعكم بها حيث تشربون منها، وتتخذون جداول تسقون بها زروعكم وجناتكم، وما أشبه ذلك.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) أي دائمين فى الحركة، لا يفتران إلى انقضاء عمر الدنيا كما قال: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» وقال: «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان، فالنهار لسعيكم فى أمور معاشكم وما تحتاجون إليه فى أمور دنياكم، والليل لتسكنوا فيه كما جاء فى الآية الأخرى «وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» فالشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار يتعارضان، فتارة يأخذ هذا من ذاك فيطول، ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر، كما قال تعالى: «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».
(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي هيّألكم كل ما تحتاجون إليه فى جميع أحوالكم من كل الذي هو حقيق أن تسألوه، سواء أسألتموه أم لم تسألوه، لأن هذه الدنيا قد وضع الله فيها منافع يجهلها الناس وهى معدّة لهم، فلم يسأل الله أحد فى الأمم الماضية أن يعطيهم الطائرات والمغناطيس والكهرباء، بل خلقها وأعطاها للناس بالتدريج، ولم يزل هناك عجائب ستظهر لمن بعدنا.
(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) أي لا تطيقوا عدّ أنواعها فضلا عن القيام بشكرها.
وفى صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم لك الحمد غير مكفىّ ولا مودّع ولا مستغنى عنه ربنا».
وأثر عن الشافعي أنه قال: الحمد لله الذي لا يؤدّى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها، وقال شاعرهم:
لو كلّ جارحة منى لها لغة | تثنى عليك بما أوليت من حسن |
لكان مازاد شكرى إذ شكرت به | إليك أبلغ فى الإحسان والمنن |
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٥ الى ٤١]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)
تفسير المفردات
واجنبنى: أي أبعدنى، وأصل التجنب أن يكون الرجل فى جانب غير ما عليه غيره، ثم استعمل فى البعد مطلقا، وتهوى إليهم: أي تسرع شوقا وحبا، ويقوم الحساب:
أي يثبت ويتحقق كما يقال قامت السوق والحرب: أي وجدتا.
المعنى الجملي
بعد أن نصب سبحانه الأدلة على أن لا معبود سواه، وأنه لا يجوز بحال أن يعبد غيره، وطلب إلى رسوله أن يعجب من حال قومه، إذ بدّلوا نعمة الله كفرا، وعبدوا لأوثان والأصنام.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) أي واذكر لقومك مذكّرا لهم بأيام الله خبر إبراهيم إذ قال: ربى المحسن إلىّ بإجابة دعائى، اجعل مكة بلدا آمنا.
وقد أجاب الله تعالى دعاءه فجعله حرما لا يسفك فيه دم، ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه كما قال: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) أي وباعدنى وبنىّ من أن نعبد الأصنام، أي ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام.
وقد استجيب دعاؤه فى بعض بنيه دون بعض ولا ضير فى ذلك.
(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) أي يا رب إن الأصنام أزلن كثيرا من الناس عن طريق الهدى وسبيل الحق حتى عبدوهن وكفروا بك.
(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن تبعني على ما أنا عليه من الإيمان بك، وإخلاص العبادة لك والبعد عن عبادة الأوثان- فإنه مستنّ بسنتى وجار على طريقتى، ومن خالف أمرى فلم يقبل منى ما دعوته إليه وأشرك بك، فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة عليه وهدايته إلى الصراط المستقيم.
(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) أي يا رب إنى أسكنت بعض ذريتى وهم أولاد إسماعيل بواد غير ذى زرع وهو وادي مكة عند بيتك الذي حرمت التعرض له والتهاون به وجعلت ما حوله حرما لمكانه.
(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أي فاجعل قلوب بعض الناس محترقة شوقا إليهم.
(وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) أي وارزق ذريتى الذين أسكنتهم هناك من أنواع الثمار بأن تجبى إليهم ذلك من شاسع الأقطار، وقد استجاب الله ذلك كما قال: «أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا» قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا فى كتابه (الإسلام والطلب الحديث) دعاء سيدنا إبراهيم يفسر ما قلناه، وهو أن الدعاء سنة طبيعية لا أكثر ولا أقل، فالنبى يدعو ربه ليلهم الناس حج البيت، فهو يستعين بسنة طبيعية وهى إلهام الخالق لنا حج البيت مع أنه يعلم أن الله قادر على أن ينزل عليهم رزقا من السماء، ولكن النبي ضرب لنا مثلا فى طريق استعمال الدعاء وقيمته، فالدعاء لا يلغى سنة طبيعية ولا يأتى بالمعجزات، ولكن الداعي يطلب من الخالق الهداية إلى إحدى السنن الطبيعية وسأضرب لك مثلا بالنسبة للمريض وعلاجه، فقد أخبرنى البعض أن من يطلب الطبيب لا يستعين بالدعاء، والحقيقة غير ذلك، فالوالد الذي يدعو ربه لشفاء ولده، لا فائدة من دعائه إذا كان ولده قد مات أو إذا كان مرضه مميتا حتما، ولكن قد يكون للمرض طرق علاج خاصة، أو يشفى من نفسه فى ظروف خاصة، فالدعاء فى هذه الحال معناه إلهام المريض ومن حوله من طبيب وغيره استعمال الطريق المؤدى إلى الشفاء، والطبيب يحتاج دائما إلى هذا الإلهام، وكم من مرة يقف فى مفترق الطرق ولا يدرى أية ناحية يسلك، وكل طريق سنة طبيعية تؤدى إلى نتيجة خاصة، والدعاء هداية إلى السنة المؤدية إلى الشفاء، وهكذا يكون الدعاء والتطبيب وكل أعمال الإنسان يكمّل بعضها بعضا وليست متناقضة، فدعاء سيدنا إبراهيم معناه أن يلهم الناس بواسطة القوانين الطبيعية حج البيت، وقد يقال ولكننا لا نشعر بإلهام من عند الله، وكل أفعالنا نتيجة مباشرة لتفكيرنا، والشخص الذي يحج
وقد أجاب الله إبراهيم إلى دعائه، فألهم الناس الحج فى آلاف السنين وإلى ما شاء الله، لا فى مدى حياته فحسب وفى هذا إظهار لقدرة الخالق وصدق وعده اه.
(لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) أي رجاء أن يشكروا تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء واجبات العبودية.
وفى هذا إيماء إلى أن تحصيل منافع الدنيا إنما هو ليستعان بها على أداء العبادات وتحصيل الطاعات، وفى دعائه عليه السلام مراعاة للأدب والمحافظة على الضراعة وعرض الحاجة واجتلاب الرأفة، ومن ثم منّ الله عليه بالقبول وإعطاء المسئول، ولا بدع فى ذلك فهو خليل الرحمن وأبو الأنبياء جميعا.
(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) أي أنت تعلم ما تخفى قلوبنا حين سؤالك ما نسأل، وما نعلن من دعائنا فنجهر به.
(وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي ولا يخفى على الله شىء يكون فى الأرض أو فى السماء، لأن ذلك كله ظاهر متجلّ له، لأنه مدبره وخالقه، فكيف يخفى عليه.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) أي الحمد لله الذي وهب لى وأنا آيس من الولد لكبر سنى- ولدين: إسماعيل وإسحاق.
(إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي إن ربى لسميع دعائى الذي أدعو به من قولى:
«اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» وقد كان إبراهيم سأله الولد
(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) أي رب اجعلنى مؤديا ما ألزمتنى من فريضتك التي فرضتها علىّ.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعل أيضا ذريتى مقيمى الصلاة، وقد خص الصلاة من بين فرائض الدين لأنها العنوان الذي يمتاز به المؤمن من غيره، ولما لها من المزية العظمى فى تطهير القلوب بترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) المراد بالدعاء العبادة أي ربنا تقبل عبادتى كما جاء فى قوله:
«وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي».
وجاء فى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ.
وقال ربّكم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ».
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أي ربنا اغفر لى ما فرط منى من الذنوب ولأبوىّ، وقد روى عن الحسن أن أمه كانت مؤمنة: واستغفاره لأبيه كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه كما قال تعالى: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ» الآية، وللمؤمنين بك ممن تبعني على الدين الذي أنا عليه، فأطاعك فى أمرك ونهيك- يوم تحاسب عبادك فتجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٢ الى ٥٢]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦)
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)
تشخص: ترتفع، مهطعين: مسرعين إلى الداعي، مقنعى رءوسهم: أي رافعيها مع الإقبال بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شىء. لا يرتد: لا يرجع، هواء:
خالية من العقل والفهم لفرط الحيرة والدهشة، ويقال للجبان والأحمق قلبه هواء: أي لا قوة ولا رأى له كما قال حسان يهجو أبا سفيان بن حرب:
ألا أبلغ أبا سفيان عنى | فأنت مجوّف نحب هواء |
وهو القميص، والقطران: دهن يتحلّب من شجر الأبهل والعرعر والتوت كالزفت تدهن به الإبل إذا جربت. ويقال له الهناء، وهو أسود اللون منتن الريح تقول هنأت البعير أهنؤه إذا طليته بالهناء، وتغشى وجوههم النار: أي تعلوها وتحيط بها، بلاغ:
كفاية فى العظة والتذكير.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه أن جزاء من بدّلوا نعمة الله كفرا وجعلوا له الأنداد جهنم يصلونها وبئس المهاد، وطلب إلى عباده المؤمنين مجاهدة النفس والهوى وإقامة فرائض الدين- ذكر هنا تسلية لرسوله وتهديدا للظالمين من أهل مكة أن تأخيرهم وتمتعهم بالحظوظ الدنيوية ليس إعمال للعقوبة ولا لغفلة عن حالهم، وإنما كان لحكمة اقتضت ذلك وهم مرصدون ليوم شديد الهول، له من الأوصاف ما بيّن بعد، وعليك أيها الرسول أن تنذر الناس بقرب حلوله، وأنهم فى ذلك اليوم سيطلبون المردّ إلى الدنيا ليجيبوا دعوة الداعي، وهيهات هيهات.
صاح هل ريت أو سمعت براع | ردّ فى الصّرع ما قرى فى الحلاب |
ألا إن وعد الله لرسله لا يحلف، وهو ناصرهم وخاذل أعدائه، كما قال: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا» وقال: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» ومحاسبهم فى يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات. يوم يخرجون من قبورهم للحساب أمام الواحد القهار، وترى حال المجرمين يجلّ عن الوصف.
الإيضاح
(وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) تقدم أن مثل هذا الخطاب من وادي قولهم: (إياك أعنى واسمعي يا جاره) فهو فى صورته للنبى صلى الله عليه وسلّم والمراد أمته، وفيه تسلية للمؤمنين وتهديد للظالمين بأن الله محص أعمالهم ومحيط بها، وسيجزيهم وصفهم فى الحين الذي سبق فى علمه، وأن عقابهم لا بد آت، فتركه بمنزلة حسبانه تعالى غافلا عن أعمالهم، إذ العلم بذلك مستوجب لعقابهم لا محلة.
ثم أوعدهم حلول يوم يحاسبون فيه على أعمالهم وفيه من الهول ما يحيّر اللب، ويدهش العقل فقال:
(إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي إنما يمهلهم ويمتعهم بكثير من لذات الحياة ولا يعجل عقوبتهم، ليوم شديد الهول ترتفع فيه أبصار أهل الموقف، وتبقى مفتوحة لا تطرف من الفزع والاضطراب.
(مُهْطِعِينَ) أي يأتون مسرعين إلى الداعي بالذلة والاستكانة كما يسرع الأسير والخائف.
(مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) أي رافعيها مع دوام النظر من غير التفات إلى شىء.
(لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم كما كانوا يفعلون فى الدنيا فى كل لحظة، بل تبقى أعينهم مفتوحة لا تطرف من شدة الفزع والخوف.
(وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي إنها مضطربة تجيش فى صدورهم، تجىء وتذهب، ولا تستقر فى مكان حتى تبلغ الحناجر، لشدة ما يرون من هول موقف الحساب.
ثم ذكر مقالتهم حين يرون هذا الهول وما فيه من العذاب فقال:
(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ
ربنا أرجعنا إلى الدنيا، وأمهلنا أمدا قريبا، نجب فيه دعوة الرسل إلى توحيدك، وإخلاص العبادة لك، بعد أن جحدنا ذلك.
ثم رد عليهم مقالتهم بقوله:
(أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أي وحينئذ يقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع: ألم تحلفوا فى الدنيا أنكم إذا متّم لا تخرجون لبعث ولا حساب كما حكى الله عنهم «وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت» فذوقوا وبال أمركم.
أخرج البيهقي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى فى أربع منها، فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا يقولون:
«رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ؟» فيجيبهم الله عزّ وجلّ «ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» ثم يقولون: «رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» فيجيبهم جل شأنه: «فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» الآية، ثم يقولون: «رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ» فيجيبهم تبارك وتعالى: «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ» الآية، ثم يقولون: «رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» فيجيبهم جل جلاله «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» فيقولون «رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ» فيجيبهم جلا وعلا «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» فلا يتكلمون بعدها إن هو إلا زفير وشهيق وحينئذ ينقطع رجاؤهم ويقبل بعضهم ينبح فى وجه بعض وتطبق عليهم جهنم. اللهم إنا نعوذ
(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) أي وأقمتم فيها واطمأننتم وسرتم سيرة من قبلكم فى الظلم والفساد، لم تفكروا فيما سمعتم من أخبار من سكنوها قبلكم ولم تعتبروا بأيام الله فيهم وأنه أهلكهم بظلمهم، وأنكم إن سرتم سيرتهم حاق بكم مثل ما حاق بهم، بعد أن تبين لكم ما فعلنا بهم من الإهلاك والعقوبة بمعاينة آثارهم وتواتر أخبارهم، ومثلنا لكم فيما كنتم مقيمين عليه من الشرك الأشباه والنظائر، فلم ترعووا ولم تتوبوا من كفركم.
الآن تسألون التأخير للتوبة حين نزل بكم من العذاب ما نزل؟ فهيهات هيهات، قد فات ما فات، ولن يكون ذلك حتى يلج الجمل فى سم الخياط.
ثم بين أن حالهم كحال من سبقهم حذو القذّة بالقذّة فقال:
(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أي وقد مكروا فى إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم الذي استفرغوا فيه كل جهدهم، وأحكموا أسبابه حتى لم يبق فى قوس الحق منزع.
ثم ذكر بعدئذ أن الله عليم بكل ما دبّروا فقال:
(وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ) أي ومكتوب عند الله مكرهم، وهو لا محالة لمجازيهم عليه، ومعذبهم من حيث لا يشعرون.
والخلاصة- عند الله جزاؤهم وما هو أعظم منه، فرأيهم آفن، إذ هم سلكوا طريقا كان ينبغى البعد عنها بعد أن استبان فسادها.
ثم ذكر أن عاقبة مكرهم الخسران والبوار فقال:
(وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) أي وما كان مكرهم لتزول به آيات الله وشرائعه، ومعجزاته الظاهرة على أيدى الرسل التي هى كالجبال فى الرسوخ والثبات.
(فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) هذا الخطاب لرسوله صلى الله عليه وسلّم على نهج سالفه، والمقصود منه تثبيت أمته على ثقتهم بوعد ربهم وتيقنهم بإنجازه، بتعذيب الظالمين وأنه منزل سخطه بمن كذّبه وجحد نبوته.
(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) أي غالب على أمره، لا يمتنع منه من أراد عقوبته، قادر على كل من طلبه، لا يفوته بالهرب منه، وهو ذو انتقام ممن كفر برسله، وكذبتهم وجحد نبوتهم، وأشرك به واتخذ معه إلها غيره.
ثم ذكر زمان الانتقام فقال:
(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) أي إنه تعالى ذو انتقام يوم تبدل الأرض غير الأرض بأن تتطاير هذه الأرض كالهباء وتصير كالدخان المنتشر ثم ترجع أرضا أخرى بعد ذلك، وتبدل السموات بانتشار كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها وخسوف قمرها.
قال ابن عباس رضى الله عنهما هى تلك الأرض إلا أنها تغيرت فى صفاتها، فتسير عن الأرض جبالها، وتفجّر بحارها وتسوّى، فلا يرى فيها عوج ولا أمت،
وروى عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يبدل الله الأرض غير الأرض فيسطها ويمدها مدّ الأديم العكاظىّ، فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا».
وهذه الآية الكريمة من معجزات القرآن التي أيدها العلم الحديث وانطبقت عليه أشد الانطباق، فعلماء الفلك الآن يقولون إن الأرض والشمس وسائر الكواكب السيارة كانت فيما مضى كرة نارية حارة طائرة فى الفضاء، ودارت على محورها ملايين السنين، ثم تكونت منها الشمس، وبعد ملايين أخرى فصلت منها السيارات ومنها الأرض، وبعد مئات الألوف انفصلت عنها الأقمار.
روى مسلم عن عائشة قالت «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قوله: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات- فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال:
على الصراط».
وروى عن أبىّ بن كعب أنه قال فى معنى التبديل: إن الأرض تصير نيرانا.
وعلى الجملة فقد اتفق العلم الحديث مع الآيات والأحاديث على أن الأرض تصير نارا وأن الناس لا يكونون عليها، بل هناك ما هو أعجب وهو ما روى عن ابن مسعود وأنس رضى الله عنهما من قولهما: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة، ولا بدع فى أن تكون أرضا جديدة لم يسكنها أحد، بل تخلق خلقا جديدا.
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي وخرجوا من قبورهم لحكم الله والوقوف بين يدى الواحد القهار، فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار سواه.
وفى هذا من تهويل الخطب ما لا يخفى، لأنهم إذا وقفوا عند ملك عظيم قهار لا يشاركه سواه فى سلطانه كانوا على خطر، إذ لا منازع له ولا مغيث سواه.
وبعد أن وصف سبحانه نفسه بكونه قهارا- بين عجز المجرمين وذلتهم فقال:
(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) وصفهم سبحانه بحملة أمور:
(١) إنه يقرن بعضهم إلى بعضهم فى القيود ويضمّ كلّ إلى مشاركه فى كفره وعمله كما قال تعالى «وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ» وقال: «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ» وفى الحديث: «أنت مع من أحببت».
لذع القطران وحرقته، وإسراع اشتعال النار فى الجلود، واللون الأسود الموحش، وننن الريح.
(٣) إن وجوههم تعلوها النار، وتحيط بها وتسعّر أجسامهم المسربلة بالقطران، وإنما ذكرت الوجوه مع أن ذلك يكون لسائر الجسم- لكونها أعز الأعضاء الظاهرة وأشرفها.
ونظير الآية قوله: «أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» وقوله:
«يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ».
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي فعل الله ذلك بهم جزاء وفاقا بما كسبوا فى الدنيا من الآثام، لكى يثيب كل نفس بما كسبت من خير أو شر، فيجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
(إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيحاسب جميع العباد فى أسرع من لمح البصر، ولا يشغله حساب عن حساب: كما لا يشغله رزق زيد عن رزق عمرو.
(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) أي هذا القرآن الكريم بلاغ للناس، أبلغ الله به إليهم فى الحجة، وأعذر إليهم بما أنزل فيه من مواعظه وعبره.
(وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) عقاب الله ويحذروا به نقمته.
(وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي وليعلموا بما احتج به عليهم من الحجج فيه، إنما هو اله واحد لا آلهة شتى كما يقول المشركون بالله، وهو الذي سخر لهم الشمس والقمر، والليل والنهار، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لهم.
(وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وليتذكروا ويتعظوا بما احتج الله به من الحجج، فيزدجروا عن أن يجعلوا معه إلها غيره، وفى تخصيص التذكر بأولى الألباب إعلاء لشأنهم، وإيماء إلى أنهم هم أهل النظر والاعتبار.
(١) إن الرسل يخوّفون الناس عقاب الله وينذرونهم بأسه، ليكمّلوهم بمعرفة ربهم وتقواه والعمل على طاعته.
(٢) إن الناس ترتقى قوتهم النظرية إلى منتهى كما لها، بتوحيد الخالق والاعتراف بأنه مدبر الكون والمسيطر عليه.
(٣) إنهم يستصلحون قوتهم العملية بتدرعهم بلباس التقوى.
فذلكة لمحتويات السورة
(١) هداية الناس إلى معرفة ربهم الخالق للسموات والأرض.
(٢) دم الكافرين الذين يستحبون الدنيا ويصدّون عن الدين القويم.
(٣) بيان أن الرسل إنما يرسلون بلغات أقوامهم، ليسهل عليهم فهم الأوامر والنواهي.
(٤) التذكير بأيام الله ببيان ما حدث للرسل مع أقوامهم، ليكون فى ذلك تسلية لرسوله، وما هدد به الأمم رسلهم من الإخراج والنفي من الديار.
(٥) وعيد الكافرين على كفرهم وذكر ما يلقونه من العذاب، وضرب الأمثلة لذلك.
(٦) وعد المؤمنين بجنات تجرى من تحتها الأنهار، وضرب المثل لذلك.
(٧) دعوة إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام التي أضلت كثيرا من الناس، ثم شكره على ما وهبه من الأولاد على كبر سنه، ثم طلبه المغفرة منه له ولوالديه وللمؤمنين يوم العرض والحساب.
ثم تفسير هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة فى صبيحة يوم الأحد لثلاثين من شهر ربيع الثاني من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه الكرام.
الصفحة المبحث ٤ تولية يوسف رئيسا لحكومة مصر ٥ اللغة التي كلم بها يوسف ملك مصر ٦ الجهل وسوء تدبير الثروة أضاعا كثيرا من الممالك الشرقية فى القرون الأخيرة ٧ جىء بيوسف مملوكا فأصبح مالكا ذا نفوذ ٩ لما ولى يوسف الوزارة ساس البلاد سياسة رشيدة وقت البلاد شر المجاعات ١١ فى سفر التكوين أنه استنبأهم عن أنفسهم متنكرا لهم ١٢ طلب من إخوته إحضار أخيه الشقيق ١٣ ممانعة الأب فى إرسال الأخ ثم الإذن لهم بذلك ١٥ أخذه العهد والميثاق عليهم ١٩ مقابلتهم ليوسف بعد إحضار الأخ وحسن معاملته لهم ٢٠ سرقة الصواع ٢١ قضت الحكمة الإلهية عقاب إخوة يوسف بما فرطوا فى يوسف ٢٣ أصح ما قيل فى سرقة يوسف ٢٦ تشاورهم فيما يفعلون عند رجوعهم إلى أبيهم ٢٧ لم يصدقهم يعقوب فى المعاذير التي أبدوها فى عدم رجوع الأخ معهم ٢٨ سبب ما أصاب يعقوب من ابيضاض عينيه ٢٩ نصيحة أولاد يعقوب له على حزنه الممضّ ٣٠ كان لدى يعقوب إلهام بأن يوسف لا يزال حيا ٣٤ لم لم يعرّف يوسف إخوته بنفسه بادئ بدء؟
٥٥ نصر الله رسله ينزل حين ضيق الحال وانتظار الفرج ٥٦ فى قصص يوسف عبرة لذوى البصائر ٦١ اهتدى المسلمون بهدى القرآن فامتلكوا أكثر المعمور ٦٣ الأدلة على وجود الله ووحدانيته وقدرته ٦٧ تفكروا فى آلاء الله ولا تتفكروا فى الله ٧٠ إنكار المشركين للبعث ٧٢ طلبهم من النبي صلى الله عليه وسلّم آية غير القرآن ٧٣ الرسول نذير لا جبار مسيطر ٧٥ أقصى المدة التي يبقى فيها الجنين حيا فى الرحم ٧٥ فى قوله عالم الغيب والشهادة دليل على وجود عوالم لا ترى بالعين المجردة كالجرائيم التي أثبتها العلم حديثا
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الرابع عشر