تفسير سورة مريم

تفسير ابن جزي
تفسير سورة سورة مريم من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي .
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ

سورة مريم
مكية إلا آيتي ٥٨ و ٧١ فمدنيتان وآياتها ٩٨ نزلت بعد فاطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة مريم) كهيعص قد تكلمنا في أول البقرة على حروف الهجاء، وكان علي بن أبي طالب يقول في دعائه: يا كهيعص، فيحتمل أن تكون الجملة عنده اسما من أسماء الله تعالى، أو ينادي بالأسماء التي اقتطعت منها هذه الحروف ذِكْرُ تقديره هذا ذكر عَبْدَهُ زَكَرِيَّا وصفه بالعبودية تشريفا له، وإعلاما له بتخصيصه وتقريبه، ونصب عبده على أنه مفعول لرحمة، فإنها مصدر أضيف إلى الفاعل، ونصب المفعول، وقيل: هو مفعول بفعل مضمر، تقديره: رحمة عبده وعلى هذا يوقف على ما قبله وهذا ضعيف، وفيه تكلف الإضمار من غير حاجة إليه، وقطع العامل عن العمل بعد تهيئته له إِذْ نادى رَبَّهُ يعنى دعاه نِداءً خَفِيًّا أخفاه لأنه يسمع الخفي كما يسمع الجهر، ولأن الإخفاء أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء، ولئلا يلومه الناس على طلب الولد وَهَنَ الْعَظْمُ أي ضعف وَاشْتَعَلَ استعارة للشيب من اشتعال النار وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أي قد سعدت بدعائي لك فيما تقدم، فاستجب لي في هذا، فتوسل إلى الله بإحسانه القديم إليه وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ يعنى: الأقارب قيل: خاف أن يرثوه دون نسله، وقيل: خاف أن يضيعوا الدين من بعده مِنْ وَرائِي أي من بعدي عاقِراً أي عقيما فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يعنى وارثا يرثني، قيل: يعنى وراثة المال، وقيل: وراثة العلم والنبوة، وهو أرجح لقوله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» «١» وكذلك يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ العلم والنبوة، وقيل: الملك، ويعقوب هنا هو يعقوب بن إسحاق على الأصح رَضِيًّا أي مرضيا فهو فعيل: بمعنى مفعول سَمِيًّا يعنى من سمي باسمه، وقيل: مثيلا ونظيرا،
(١). الحديث مشهور وورد في الصحيحين وأحمد بلفظ: لا نورث ما تركناه صدقة ج ١/ ص ٥.
والأول أحسن هنا
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ تعجب واستبعاد أن يكون له ولد مع شيخوخته وعقم امرأته، فسأل ذلك أولا لعلمه بقدرة الله عليه، وتعجب منه لأنه نادر في العادة، وقيل: سأله وهو في سنّ من يرجوه، وأجيب بعد ذلك بسنين وهو قد شاخ عِتِيًّا قيل:
يبسا في الأعضاء والمفاصل، وقيل: مبالغة في الكبر كَذلِكَ الكاف في موضع رفع، أي الأمر كذلك، تصديقا له فيما ذكر من كبره وعقم امرأته، وعلى هذا يوقف على قوله.
كذلك. ثم يبتدأ: قال ربك، وقيل: إن الكاف في موضع نصب بقال، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره: هو عليّ هين اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة على حمل امرأته سَوِيًّا أي سليما غير أخرس، وانتصابه على الحال من الضمير في تكلم، والمعنى أنه لا يكلم الناس مع أنه سليم من الخرس، وقيل: إن سويا يرجع إلى الليالي أي مستويات فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي أشار، وقيل: كتب في التراب إذ كان لا يقدر على الكلام أَنْ سَبِّحُوا قيل: معناه صلوا، والسبحة في اللغة الصلاة، وقيل: قولوا سبحان الله يا يَحْيى التقدير قال الله ليحيى بعد ولادته: خُذِ الْكِتابَ يعنى التوراة بِقُوَّةٍ أي في العلم به والعمل به وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا قيل: الحكم، معرفة الأحكام، وقيل: الحكمة، وقيل: النبوة وَحَناناً قيل: معناه رحمة وقال ابن عباس: لا أدري ما الحنان وَزَكاةً أي طهارة، وقيل، ثناء كما يزكى الشاهد.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ
خطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم والكتاب القرآن إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها
أي اعتزلت منهم وانفردت عنهم مَكاناً شَرْقِيًّا
أي إلى جهة الشرق فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
يعنى جبريل، وقيل: عيسى، والأول هو الصحيح لأن جبريل هو الذي تمثل لها باتفاق قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
لما رأت الملك الذي تمثل لها في صورة البشر، قد دخل عليها خافت أن يكون من بني آدم، فقالت له هذا الكلام، ومعناه:
إن كنت ممن يتقي الله فابعد عني، فإني أعوذ بالله منك، وقيل: إن تقيا اسم رجل معروف بالشرّ عندهم وهذا ضعيف وبعيد لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
الغلام الزكيّ هو عيسى عليه
السلام، وقرئ ليهب «١» بالياء، والفاعل فيه هو ضمير الرب سبحانه وتعالى، وقرئ بهمزة التكلم، وهو جبريل، وإنما نسب الهبة إلى نفسه، لأنه هو الذي أرسله الله بها، أو يكون قال ذلك حكاية عن الله تعالى
وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا البغيّ هي المرأة المجاهرة بالزنا، ووزن بغيّ فعول وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً الضمير للولد واللام تتعلق بمحذوف تقديره: لنجعله آية فعلنا ذلك فَحَمَلَتْهُ يعنى: في بطنها وكانت مدة حملها ثمانية أشهر، وقال ابن عباس: حملته وولدته في ساعة مَكاناً قَصِيًّا أي بعيدا، وإنما بعدت حياء من قومها أن يظنوا بها الشر فَأَجاءَهَا معناه: ألجأها وهو منقول من جاء بهمزة التعدية الْمَخاضُ أي النفاس إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ روي أنها احتضنت الجذع لشدة وجع النفاس قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ إنما تمنت الموت خوفا من إنكار قومها، وظنهم بها الشر، ووقوعهم في دمها وتمني الموت جائز في مثل هذا، وليس هذا من تمني الموت لضر نزل بالبدن فإنه منهي عنه.
وَكُنْتُ نَسْياً النسي الشيء الحقير الذي لا يؤبه له، ويقال بفتح النون «٢» وكسرها فَناداها مِنْ تَحْتِها قرئ من بفتح الميم «٣» وكسرها، وقد اختلف على كلتا القراءتين، هل هو جبريل أو عيسى، وعلى أنه جبريل قيل: إنه كان تحتها كالقابلة، وقيل: كان في مكان أسفل من مكانها أَلَّا تَحْزَنِي تفسير للنداء، فأن مفسرة سَرِيًّا جدولا وهي ساقية من ماء كان قريبا من جذع النخلة، روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فسره بذلك، وقيل: يعنى عيسى فإن السري الرجل الكريم وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ كان جذعا يابسا، فخلق الله فيه الرطب كرامة لها وتأنيسا، وقد استدل بعض الناس بهذه الآية على أن الإنسان ينبغي له أن يتسبب في طلب الرزق، لأن الله أمر مريم بهز النخلة، والباء في بجذع زائدة كقوله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا الفاعل بتساقط النخلة، وقرئ بالياء والفاعل على ذلك الجذع، ورطبا تمييز، والجني معناه: الذي طاب وصلح لأن يجتنى
فَكُلِي وَاشْرَبِي أي كلي من الرطب، واشربي من ماء الجدول، وهو السري وَقَرِّي عَيْناً أي طيبي نفسا بما جعل الله لك من ولادة نبي كريم، أو من تيسير المأكول والمشروب فَإِمَّا تَرَيِنَّ هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد، وترين
(١). قرأ أبو عمرو ورش والحلواني عن نافع: ليهب. وقرأ الباقون: لأهب.
(٢). قرأ حمزة وحفص: نسيا وقرأ الباقون: نسيا.
(٣). قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر من تحتها وقرأ الباقون: من تحتها. فيها ثلاث قراءات: حفص: تساقط وحمزة: تساقط والباقون: تساقط.
فعل خوطبت به المرأة، ودخلت عليه النون الثقيلة للتأكيد نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا عن الكلام، وقيل: يعنى الصيام لأن من شرطه في شريعتهم الصمت، وإنما أمرت بالصمت صيانة لها عن الكلام مع المتهمين لها، ولأن عيسى تكلم عنها، فإخبارها بأنها نذرت الصمت بهذا الكلام، وقيل: بالإشارة، ولا يجوز في شريعتنا نذر الصمت فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها لما رأت الآيات:
علمت أن الله سيبين عذرها، فجاءت به من المكان القصي إلى قومها شَيْئاً فَرِيًّا أي شنيعا وهو من الفرية.
يا أُخْتَ هارُونَ كان هارون عابدا من بني إسرائيل، شبهت به مريم في كثرة العبادة فقيل لها أخته بمعنى أنها شبهه، وقيل: كان أخاها من أبيها، وكان رجلا صالحا، وقيل: هو هارون النبي أخو موسى وكانت من ذريته، فأخت على هذا كقولك: أخو بني فلان أي واحد منهم، ولا يتصور على هذا القول أن تكون أخته من النسب حقيقة، فإن بين زمانهما دهرا طويلا فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي إلى ولدها ليتكلم وصمتت هي كما أمرت كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا كان بمعنى يكون، والمهد هو المعروف، وقيل المهد هنا حجرها آتانِيَ الْكِتابَ يعنى الإنجيل، أو التوراة والإنجيل مُبارَكاً من البركة وقيل: نفاعا، وقيل: معلما للخير. واللفظ أعم من ذلك وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ هما المشروعتان، وقيل: الصلاة هنا الدعاء، والزكاة: التطهير من العيوب وَبَرًّا معطوف على مباركا، روي أن عيسى تكلم بهذا الكلام وهو في المهد، ثم عاد إلى حالة الأطفال على عادة البشر، وفي كلامه هذا ردّ على النصارى، لأنه اعترف أنه عبد الله، وردّ على اليهود لقوله: وجعلني نبيا وَالسَّلامُ عَلَيَّ أدخل لام التعريف هنا لتقدّم السلام المنكر في قصة يحيى، فهو كقولك: رأيت رجلا فأكرمت الرجل، وقال الزمخشري: الصحيح أن هذا التعريف تعريض بلغة من اتهم مريم كأنه قال: السلام كله عليّ لا عليكم، بل عليكم ضدّه قَوْلَ الْحَقِّ بالرفع خبر مبتدإ تقديره: هذا قول الحق، أو بدل أو خبر بعد خبر، وبالنصب «١» على المدح بفعل مضمر، أو على المصدرية من معنى الكلام المتقدم فِيهِ يَمْتَرُونَ أي يختلفون فهو من المراء، أو يشكون فهو من المرية، والضمير لليهود والنصارى
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي من كلام عيسى وقرئ بفتح الهمزة «٢» تقديره ولأن الله ربي وربكم فاعبدوه، وبكسرها لابتداء
(١). قرأ عاصم وابن عامر: قول. وقرأ الباقون: قول.
(٢). قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: وأنّ. وقرأ أهل الشام والكوفة: وإنّ.
480
الكلام، وقيل: هو من كلام النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم، والمعنى: يا محمد قل لهم ذلك عيسى ابن مريم، وأن الله ربي وربكم، والأول أظهر فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ هذا ابتداء إخبار، والأحزاب اليهود والنصارى، لأنهم اختلفوا في أمر عيسى اختلافا شديدا، فكذبه اليهود وعبده النصارى، والحق خلاف أقوالهم كلها مِنْ بَيْنِهِمْ معناه من تلقائهم، ومن أنفسهم وأن الاختلاف لم يخرج عنهم مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعنى قوم القيامة أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة، على أنهم في الدنيا في ضلال مبين.
يَوْمَ الْحَسْرَةِ هو يوم يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت «١»، وقيل: هو يوم القيامة وانتصاب يوم على المفعولية، لا على الظرفية وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ يعنى في الدنيا، فهو متعلق بقوله في ضلال مبين أي بأنذرهم صِدِّيقاً بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق، ووصفه بأنه صدّيق قبل الوحي نبّئ بعده، ويحتمل أنه جمع الوصفين ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
يعنى الأصنام صِراطاً سَوِيًّا أي قويما لَأَرْجُمَنَّكَ قيل: يعنى الرجم بالحجارة وقيل: الشتم وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا أي حينا طويلا، وعطف اهجرني على محذوف تقديره احذر رجمي لك قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ وداع مفارقة، وقيل: مسالمة لا تحية لأن ابتداء الكافر بالسلام لا يجوز سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ وعد، وهو الذي أشير إليه بقوله: عن موعدة وعدها إيّاه قال ابن عطية، معناه: سأدعو الله أن يهديك فيغفر لك بإيمانك، وذلك لأن الاستغفار للكافر لا يجوز، وقيل: وعده أن يستغفر له مع كفره، ولعله كان لم يعلم أن الله لا يغفر للكفار حتى أعلمه بذلك، ويقوى هذا القول قوله: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء: ٨٦]، ومثل
(١). حديث ذبح الموت رواه أبو سعيد الخدري وأخرجه الشيخان والنسائي والترمذي ولفظه: بالموت يوم القيامة كهيئة كبش أملح فينادى مناد: يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم. هذا الموت وكلهم قد رأوه. وينادى مناد: يا أهل النار... فيذبح بين الجنة والنار ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر إلخ. انظر صحيح البخاري ج ٥/ ٢٣٦ كتاب التفسير رقم الباب ١٩.
481
هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي طالب: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك حَفِيًّا أي بارّا متلطفا
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ أي ما تعبدون إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ هما ابنه وابن ابنه، وهبهما الله له عوضا من أبيه وقومه الذين اعتزلهم مِنْ رَحْمَتِنا النبوّة، وقيل: المال والولد، واللفظ أعم من ذلك، لسان صدق يعنى الثناء الباقي عليهم إلى آخر الدهر مُخْلَصاً بكسر اللام أي أخلص نفسه وأعماله لله وبفتحها أي أخلصه الله للنبوّة والتقريب وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا النبي أعم من الرسول، لأن النبي كل من أوحى الله إليه، ولا يكون رسولا حتى يرسله الله إلى الناس مع النبوّة، فكل رسول نبيّ وليس كل نبي رسولا وَنادَيْناهُ هو تكليم الله له الطُّورِ وهو الجبل المشهور بالشام الْأَيْمَنِ صفة للجانب، وكان على يمين موسى حين وقف عليه ويحتمل أن يكون من اليمن نَجِيًّا النجي فعيل وهو المنفرد بالمناجاة وقيل: هو من المناجاة، والأول أصح مِنْ رَحْمَتِنا من سببية أو للتبعيض، وأخاه على الأول مفعول وعلى الثاني بدل إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ روي أنه وعد رجلا إلى مكان فانتظره فيه سنة، وقيل: الإشارة إلى صدق وعده في قصة الذبح في قوله سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: ١٠٢]، وهذا يدل على قول من قال: إن الذبيح هو إسماعيل.
إِدْرِيسَ هو أول نبيّ بعث إلى أهل الأرض بعد آدم، وهو أول من خط بالقلم، ونظر في علم النجوم وخاط الثياب، وهو من أجداد نوح عليه السلام وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا في حديث الإسراء: وإنه في السماء الرابعة «١»، وقيل: يعنى رفعة النبوة وتشريف منزلته. والأول أشهر ورجحه الحديث أُولئِكَ إشارة إلى كل من ذكر في هذه السورة، من زكريا إلى إدريس مِنَ النَّبِيِّينَ من هنا للبيان، والتي بعدها للتبعيض مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ يعنى نوحا وإدريس وَمِمَّنْ حَمَلْنا يعنى إبراهيم وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ يعنى إسماعيل وإسحاق ويعقوب وَإِسْرائِيلَ يعنى أن من ذريته موسى وهارون ومريم وعيسى وزكريا ويحيى وَمِمَّنْ هَدَيْنا يحتمل العطف على من الأولى أو الثانية بُكِيًّا جمع باك ووزنه فعول فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ يقال في عقب الخير
(١). ورد في البخاري كتاب بدء الخلق ج ٤/ ص ٧٧ وفيه: «فأتينا السماء الرابعة. قيل من هذا؟ قيل جبريل. قيل:
ومن معك؟ قيل: محمد صلّى الله عليه وسلّم قيل: وقد أرسل إليه قال: نعم. قيل: مرحبا به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على إدريس فسلمت عليه»
إلخ.
خلف بفتح اللام وفي عقب الشر خلف بالسكون وهو المعني هنا. واختلف فيمن المراد بذلك، فقيل: النصارى لأنهم خلفوا اليهود، وقل: كل من كفر وعصى من بعد بني إسرائيل أَضاعُوا الصَّلاةَ قيل: تركوها، وقيل أخرجوها عن أوقاتها يَلْقَوْنَ غَيًّا الغي: الخسران، وقد يكون بمعنى الضلال فيكون على حذف مضاف تقديره: يلقون جزاء غيّ
إِلَّا مَنْ تابَ استثناء يحتمل الاتصال والانقطاع بِالْغَيْبِ أي أخبرهم من ذلك بما غاب عنهم مَأْتِيًّا وزنه مفعول، فقيل: إنه بمعنى فاعل، لأن الوعد هو الذي يأتي وقيل إنه على بابه لأن الوعد هو الجنة، وهم يأتونها لَغْواً يعنى ساقط الكلام إِلَّا سَلاماً استثناء منقطع بُكْرَةً وَعَشِيًّا قيل: المعنى أن زمانهم يقدر بالأيام والليالي، إذ ليس في الجنة نهار ولا ليل، وقيل: المعنى أن الرزق يأتيهم في كل حين يحتاجون إليه، وعبر عن ذلك بالبكرة والعشي على عادة الناس في أكلهم.
وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ حكاية قول جبريل حين غاب عن النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم فقال له: أبطأت عني واشتقت إليك فقال: إني كنت أشوق، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست. ونزلت هذه الآية لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ أي له ما قدامنا وما خلفنا، وما نحن فيه من الجهات والأماكن، فليس لنا الانتقال من مكان إلى مكان إلا بأمر الله، وقيل ما بين أيدينا: الدنيا إلى النفخة الأولى في الصور، وما خلفنا: الآخرة، وما بين ذلك: ما بين النفختين وقيل: ما مضى من أعمارنا وما بقي منها، والحال التي نحن فيها، والأول أكثر مناسبة لسياق الآية وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا هو فعيل من النسيان بمعنى الذهول وقيل بمعنى الترك، والأول أظهر هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي مثيلا ونظيرا فهو من المسامي والمضاهي، وقيل: من تسمى باسمه، لأنه لم يتسم باسم الله غير الله تعالى وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا هذه حكاية قول من أنكر البعث من القبور، والإنسان هنا جنس يراد به الكفار، وقيل: إن القائل لذلك أبيّ بن خلف، وقيل أمية بن خلف، والهمزة التي دخلت على أإذا ما مت للإنكار والاستبعاد، واللام في قوله لسوف: سيقت على الحكاية لقول من قال بهذا المعنى، والإخراج يراد به البعث أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ احتجاج على صحة البعث، وردّ على من أنكره، لأن النشأة الأولى دليل على الثانية لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ يعنى قرناءهم من الشياطين الذين أضلوهم، والواو للعطف أو بمعنى مع فيكون الشياطين مفعول معه جِثِيًّا جمع جاث، ووزنه مفعول من قولك: جثا الرجل إذا جلس جلسة الذليل الخائف
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ الشيعة: الطائفة من الناس التي تتفق على
مذهب أو اتباع إنسان، ومعنى الآية أن الله ينزع من كل طائفة أعتاها فيقدمه إلى النار، وقال بعضهم: المعنى نبدأ بالأكبر جرما فالأكبر جرما أَيُّهُمْ اختلف في إعرابه، فقال سيبويه: هو مبني على الضم لأنه حذف العائد عليه من الصلة، وكأن التقدير: أيهم أشدّ فوجب البناء، وقال الخليل: هو مرفوع على الحكاية تقديره: الذي قال له أشدّ، وقال يونس: علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء أَوْلى بِها صِلِيًّا الصلي: مصدر صلّى النار، ومعنى الآية: أن الله يعلم من هو أولى بأن يصلّى العذاب وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها خطاب لجميع الناس عند الجمهور، فأما المؤمنون فيدخلونها، ولكنها تخمد فلا تضرهم، فالورود على هذا بمعنى الدخول كقوله:
حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: ٩٨]، وأوردهم النار، وقيل: الورود بمعنى القدوم عليها كقوله وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: ٢٣]، والمراد بذلك جواز الصراط وقيل: الخطاب للكفار، فلا إشكال حَتْماً أي أمرا لا بدّ منه ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا إن كان الورود بمعنى الدخول، فنجاة الذين اتقوا بكون النار عليهم بردا وسلاما، ثم بالخروج منها، وإن كان بمعنى المرور على الصراط فنجاتهم بالجواز والسلامة من الوقوع فيها أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا الفريقان هم المؤمنون والكفار، والمقام اسم مكان من قام، وقرئ بالضم «١» من أقام، والنديّ المجلس، ومعنى الآية: أن الكفار قالوا للمؤمنين: نحن خير منكم مقاما: أي أحسن حالا في الدنيا، وأجمل مجلسا فنحن أكرم على الله منكم.
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ كم مفعول بأهلكنا، ومعنى الآية: رد على الكفار في قولهم المذكور: أي ليس حسن الحال في الدنيا دليلا على الكرامة عند الله، لأن الله قد أهلك من كان أحسن حالا منكم في الدنيا هُمْ أَحْسَنُ قال الزمخشري هذه الجملة في موضع نصب صفة لكم أَثاثاً أي متاع البيت، وقال ابن عطية هو اسم عام، في المال العين والعروض والحيوان، وهو اسم جمع، وقيل هو جمع، واحده أثاثة وَرِءْياً بهمزة ساكنة قبل الياء: معناه منظر حسن، وهو من الرؤية، والرئي اسم المرئي، وقرئ بتشديد «٢» الياء من غير همز، وهو تخفيف من الهمز، فالمعنى متفق، وقيل هو من ريّ الشارب أي التنعم بالمشارب والمآكل، وقرأ ابن عباس زيا بالزاي
فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أي يمهله ويملي له، واختلف هل هذا الفعل دعاء أو خبر سيق بلفظ الأمر تأكيدا حَتَّى هنا غاية للمدّ في الإضلال إِمَّا الْعَذابَ يعنى عذاب الدنيا
(١). قرأ ابن كثير: مقاما. والباقون: مقاما.
(٢). قرأ نافع وابن عامر: وريّا وقرأ ورش عن نافع: ورئيا بالهمزة وهي قراءة الباقين.
484
شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً في مقابلة قولهم خير مقاما وأحسن نديا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ ذكر في [الكهف: ٤٧] خَيْرٌ مَرَدًّا أي مرجعا وعاقبة أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ هو العاصي بن وائل وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً كان قد قال: لئن بعثت كما يزعم محمد ليكونن لي هناك مال وولد أَطَّلَعَ الْغَيْبَ الهمزة للإنكار، والردّ على العاصي في قوله كَلَّا ردّ له عن كلامه سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ إنما جعله مستقبلا لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا أي نزيد له فيه وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ أي نرث الأشياء التي قال إنه يؤتاها في الآخرة، وهي المال والولد، ووراثتها هي بأن يهلك العاصي ويتركها، وقد أسلم ولداه هشام وعمرو رضي الله عنهما وَيَأْتِينا فَرْداً أي بلا مال ولا ولد ولا ولي ولا نصير.
سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ قيل: إن الضمير في يكفرون للكفار وفي عبادتهم للمعبودين، فالمعنى كقولهم: ما كنا مشركين، وقيل: إن الضمير في يكفرون للمعبودين، وفي عبادتهم للمعبودين، فالمعنى كقولهم: ما كنا مشركين، وقيل: إن الضمير في يكفرون للمعبودين، وفي عبادتهم للكفار، فالمعنى كقولهم: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ [يونس: ٢٨] وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا معناه يكون لهم خلاف ما أمّلوه منهم فيصير العز الذي أمّلوه ذلة، وقيل: معناه: أعداء أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تضمن معنى سلطانا، ولذلك تعدّى بعلى تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي تزعجهم إلى الكفر والمعاصي فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ أي لا تستبطئ عذابهم وتطلب تعجيله إنما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أي نعد مدّة بقائهم في الدنيا، وقيل: نعدّ أنفاسهم وَفْداً قيل: معناه ركبانا، ومعنى الوفد لغة: القادمون وعادتهم الركوب فلذلك قيل ذلك، وقيل مكرمون، لأن العادة إكرام الوفود وِرْداً معناه عطاشا، لأن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ الضمير يحتمل أن يكون للكفار، والمعنى لا يملكون أن يشفعوا لهم، ويكون من اتخذ: استثناء منقطعا بمعنى لكن، أو يكون الضمير للمتقين فالاستثناء متصل، والمعنى: لا يملكون أن يشفعوا إلا لمن اتخذ عهدا أو لا يملكون أن يشفع منهم إلا من اتخذ عهدا، أو يكون الضمير للفريقين إذ قد ذكروا قبل ذلك فالاستثناء أيضا متصل، ومن اتخذ: يحتمل أن يراد به الشافع أو المشفوع له عَهْداً يريد به الإيمان والأعمال الصالحة، ويحتمل أن يريد به الإذن في الشفاعة. وهذا أرجح لقوله:
لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن، والظاهر أن ذلك إشارة إلى شفاعة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم في
485
الموقف حين ينفرد بها، ويقول غيره من الأنبياء: نفسي نفسي
شَيْئاً إِدًّا أي شيئا صعبا يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ أي يتشققن من قول الكفار: اتخذ الله ولدا هَدًّا أي انهداما أَنْ دَعَوْا أي من أجل أن دعوا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وقرئ ولدا «١» بضم الواو وإسكان اللام، وهي لغة إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ردّ على مقالة الكفار، والمعنى أن الكل عبيده، فكيف يكون أحد منهم ولدا له، وإن نافية، وكل مبتدأ وخبره آتى الرحمن سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا هي المحبة والقبول الذي يجعله الله في القلوب لمن شاء من عباده، وقيل: إنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ الضمير للقرآن وبلسانك أي بلغتك قَوْماً لُدًّا جمع ألد، وهو الشديد الخصومة والمجادلة، والمراد بذلك قريش، وقيل: معناه فجارا أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً هو الصوت الخفي، والمعنى أنهم لم يبق منهم أثر، وفي ذلك تهديد لقريش.
(١). هي قراءة حمزة والكسائي.
486
فهرس المحتويات
مقدمة المحقق ٥ مقدمة ٩ المقدمة الأولى ١٢ المقدمة الثانية ٢٨ تمهيد في القراءات وتأريخها ٥٠ سورة الفاتحة مكية وآياتها سبع ٦٣ سورة البقرة مدنية وآياتها ست وثمانون ومائتان ٦٨ سورة آل عمران مدنية وآياتها مائتان ١٤٤ سورة النساء مدنية وآياتها ست وسبعون ومائة ١٧٦ سورة المائدة مدنية وآياتها عشرون ومائة ٢١٩ سورة الأنعام مكية وآياتها خمس وستون ومائة ٢٥٣ سورة الأعراف مكية وآياتها ست ومائتان ٢٨٤ سورة الأنفال مدنية وآياتها خمس وسبعون ٣٢٠ سورة التوبة مدنية وآياتها تسع وعشرون ومائة ٣٣١ سورة يونس مكية وآياتها تسع ومائة ٣٥٢ سورة هود مكية وآياتها ثلاث وعشرون ومائة ٣٦٥ سورة يوسف مكية وآياتها إحدى عشر ومائة ٣٨١ سورة الرعد مدنية وآياتها ثلاث وأربعون ٣٩٩ سورة إبراهيم مكية وآياتها ثنتان وخمسون ٤٠٨ سورة الحجر مكية وآياتها تسع وتسعون ٤١٥ سورة النحل مكية وآياتها ثمان وعشرون ومائة ٤٢٢ سورة الإسراء مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة ٤٤٠ سورة الكهف مكية وآياتها عشر ومائة ٤٥٨ سورة مريم مكية وآياتها ثمان وتسعون ٤٧٧
487
Icon