تفسير سورة البقرة

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
مقدمة سورة البقرة
سورة البقرة : سورة البقرة مدنية وآياتها٢٨٦ آية وهي أول سورة نزلت بعد هجرة النبي صلى الله عليه سلم إلى المدينة.
قصة التسمية :
سميت سورة البقرة بهذا الاسم لأنها انفردت بذكر حادثة قتل وقعت في بني إسرائيل على عهد موسى عليه السلام.
واختلف الناس بشأن قاتله، ثم رفعوا الأمر إلى موسى عليه السلام ليحكم في هذه الجناية التي خفي مرتكبها.
وسأل موسى ربه ؛ فأمرهم أن يذبحوا بقرة وأن يضربوا القتيل بلسانها فيحيا فيخبر عن قاتله.
وقد أكثر بنو إسرائيل من السؤال عن صفة البقرة وشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ولو ذبحوا أي بقرة في أول الأمر لكفتهم.
قال تعالى : فقلنا اضربوه ببغضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون. ( البقرة : ٧٣ ).
الأهداف العامة لسورة البقرة
اشتملت سورة البقرة على الأهداف الآتية :
١- بيان أصناف الخلائق أمام هداية القرآن، وقد ذكرت السورة أنهم أصناف ثلاثة : المؤمنون والكافرون والمنافقون.
٢- دعوة الناس جميعا إلى عبادة الله، وذكر أدلة التوحيد ومبدأ خلق الإنسان.
٣- تعرضت السورة لتاريخ اليهود الطويل، وناقشتهم في عقيدتهم، وذكرتهم بنعم الله على أسلافهم، وبما أصاب هؤلاء الأسلاف حينما التوت عقولهم عن تلقي دعوة الحق من أنبيائهم السابقين، وارتكبوا صنوف العناد والتكذيب والمخالفة.
٤- رسمت صورة واضحة لاستقبال بني إسرائيل للإسلام ورسوله وكتابه.
لقد كانوا أول كافر به، وكانوا يلبسون الحق بالباطل، وكانوا يأمرون الناس بالبر وهو الإيمان وينسون أنفسهم وكانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، وكانوا يخادعون الذين آمنوا بإظهار الإيمان وإذا خلا بعضهم إلى بعض حذروا أنفسهم من إطلاع المسلمين على ما يعلمونه من أمر النبي وصحة رسالته.
كانوا يريدون أن يردوا المسلمين كفارا.. وكانوا يدعون من أجل هذا أن المهتدين هم اليهود وحدهم كما كان النصارى يدعون هذا أيضا وكانوا يعلنون عداءهم لجبريل عليه السلام بما أنه هو الذي حمل هذا الوحي إلى محمد دونهم، وكانوا يكرهون كل خير للمسلمين ويتربصون بهم السوء. وكانوا ينتهزون كل فرصة للتشكيك في صحة الأوامر النبوية، كما فعلوا عند تحويل القبلة، وكانوا مصدر إيحاء وتوجيه المنافقين كما كانوا مصدر تشجيع للمشركين.
وتنتهي هذه الحملة بتيئيس المسلمين من الطمع في إيمانهم لهم، وهم على الحالة الملتوية القصد، كما تنتهي بفصل الخطاب في دعواهم أنهم وحدهم المهتدون، بما أنهم ورثة إبراهيم، وتبين أن ورثة إبراهيم الحقيقيين هم الذين يمضون على سنته ويتقيدون بعهده مع ربه، وأن وارثة إبراهيم قد انتهت إذن إلى محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به( ٧ ).
٥- والنصف الأخير من السورة ( ٨ ) يتجه إلى التشريع الإسلامي الذي اقتضى أن يكون المسلمون جماعة متميزة عن غيرها في عباداتها ومعاملاتها وعاداتها.
وقد ذكرت السورة من ذلك القصاص في القتل العمد، وذكرت الصيام والوصية والاعتكاف والتحذير من أكل أموال الناس بالباطل، وذكرت الأهلة وأنها جعلت ليعتمد الناس عليها في أوقات العبادة والزراعة وغيرها، وذكرت الحج والعمرة وذكرت القتال وسببه الذي يدعو إليه وغايته التي ينتهي إليها، . وذكرت الخمر والميسر اليتامى، وحكم الحيض والتطهر منه، والطلاق والعدة والخلع والرضاع، وذكر الأيمان وكفارة الحنث فيها، وذكرت الإنفاق في سبيل الله وذكرت البيع والربا، وذكرت طرق الاستيثاق في الديون بالكتابة والرهن.
وكان يتخلل كل ذلك على طريقة القرآن ما يدعو المؤمنين إلى التزام هذه الأحكام وعدم الاعتداء فيها، من قصص ووعد ووعيد، وإرشاد إلى سنن الله في الكون والجماعات، ثم تختم سورة البقرة ببيان عقيدة المؤمنين على نحو ما بدأت في بيان أوصاف المتقين( ٩ ).
ومن ثم يتناسق البدء والختام في السورة، وتتضح الروابط بين موضوعات السورة.

افتتاح السورة
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ آلم( ١ ) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين( ٢ ) ﴾
﴿ آلم ﴾ هذه فاتحة سورة البقرة، وقد تنوعت فواتح السور في القرآن الكريم تبعا لتنوع موضوعاتها، فمنها من بدئ بالثناء إثبات الحمد لله، كما في سورة الفاتحة الحمد لله رب لعالمين( الفتحة : ٢ ) وكما في سورة الأنعام : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور( الأنعام : ١ ).
ومنها من بدء بالنداء مثل : يا أيها النبي( التحريم١، الطلاق١ ) يا أيها المزمل( المزمل : ١ ) يا أيها المدثر. ( المدثر : ١ ).
ومنها من بدئ بالقسم مثل والصافات( الصافات١ ) والذاريات ( الذاريات١ ) والطور
( الطور ١ ) والنجم( النجم١ ) والفجر( الفجر١ ) والشمس( الشمس١ ) والليل ( الليل ١ )والضحى ( الضحى١ ) والعاديات ( العاديات : ١ ) والعصر ( العصر١ ).
حروف المعجم
من سور القرآن ما بدأ ببعض الحروف الهجائية التي لا تكون كلمات مثل : ألف، لآم، ميم.
وفي القرآن صيغ مختلفة من هذه الفواتح منها ما هو ذو حرف واحد، مثل :﴿ ص والقرآن ذي الذكر ﴾( ص١ ) ﴿ ق والقرآن المجيد ﴾( ق١ ) ﴿ ن والقلم وما يسطرون ﴾. ( الليل١ ).
ومنها ما هو ذو حرفين مثل :﴿ طه( ١ ) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ﴾( طه ١-٢ )، ﴿ يس( ١ ) والقرآن الحكيم ﴾( يس١-٢ )، ﴿ حم( ١ ) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾( غافر : ١-٢ ).
ومن السور ما بدئ بثلاثة حروف مثل : طسم، آلر، آلم.
وقد تكررت آلم. في بداية سورة البقرة وآل عمران، والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة. ومن السور ما بدئ بأربعة أحرف مثل : المص، آلمر، ومنها ما بدئ بخمسة أحرف مثل : كهيعص، حم( ١ )عسق.
معاني هذه الفواتح
ليس لهذه الفواتح في لغة العربية معان مستقلة ولم يرد من طريق صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان للمراد منها، بيد أنه قد أثرت عن السلف آراء متعددة في معاني هذه الحروف، وهذه الآراء على كثرتها ترجع إلى رأيين اثنين :
أحدهما : أنها جميعا مما استأثر الله به، ولا يعلم معناها أحد سواه وهذا رأي كثير من الصحابة والتابعين.
ثانيهما : أن لها معنى وقد ذهبوا في معناها مذاهب شتى.
١- فمنهم من قال : هي أسماء للسور التي بدئت بها، أو أن كلا منها علامة على انتهاء سورة والشروع في أخرى.
٢- ومنهم من قال : إنها رموز لبعض أسماء الله تعالى وصفاته، فنسب إلى ابن عباس في : كهيعص أن الكاف من الملك، والهاء من الله والياء من العزيز والصاد من المصور. ونسب إليه أنها إشارة إلى الكاف، هاد، أمين، عالم، صادق، وروي عن الضحاك في معنى آلر : أن الله أرفع.
٣- ومنهم من قال : إنها قسم أقسم الله به لبيان شرف هذه الحروف وفضلها إذ هي مباني كتابه المنزل على رسوله.
٤- ومنهم من قال : إن المقصود بها هو تنبيه السامعين وإيقاظهم.
٥- ومنهم من قال : إن المقصود منها سياسة النفوس المعرضة واستدراجها إلى استماع القرآن والإنصات إليه، فقد كان العرب يتواصون بعد الاستماع إلى القرآن، فلما سمعوا هذه الحروف أنصتوا إليها ثم استمعوا إلى ما بعدها.
٦- ومنهم من ذهب إلى أن هذه الحروف ذكرت للتحدي وبيان إعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن، مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وفي هذا دليل على أنه ليس من صنع البشر بل تنزيل من حكيم حميد، وقد لاحظ أصحاب هذا الرأي أن فواتح السور مكونة في جملتها من أربعة عشر حرفا، هي نصف حروف الهجاء، كما أنها حوت فوق كل ذلك من كل جنس من الحروف نصفه، فقد حوت نصف الحروف المهموسة ونصف الحروف المهجورة، ونصف الشديدة ونصف الرخوة ونصف المطبقة ونصف المنفتحة، وكأنه قيل«من زعم أن القرآن ليس بآية فليأخذ الشطر الباقي ويركب عليه لفظا معارضة للقرآن » ويؤيد هذا الرأي أن السورة الكريمة التي بدئت بحروف الهجاء تتحدث في الأعم الأغلب عن نزول القرآن وإعجازه.
سر الإعجاز
ولا يبعد أن يكون سر الإعجاز في هذه الحروف هو اشتمالها على جميع الوجوه التي ذكرها العلماء في معانيها :
فهي بداية للسورة، وهي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته وهي لون من التنبيه الذي يقرع الأذهان ويلفت الغافلين وهي مما أقسم الله به لبيان شرف القرآن وفضله، وهي مما استأثر الله بحقيقة المراد منه، فكل ما ذكره العلماء اجتهاد محمود لإدراك أسرارها أو حكمة الابتداء بها.
﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ﴾. هذا هو القرآن لا شك في نزوله من عند الله كما قال تعالى في سورة السجدة :﴿ آلم( ١ ) تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ﴾ ( السجدة : ١-٢ ). ( ١٠ )
هدى للمتقين : أي بيان لهم وإرشاد على ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم لما تضمنته آيات القرآن من العقائد والأحكام والأخلاق التي لا غاية وراءها » ( ١١ ).
والمتقون في هذه الآية هم الذين سلمت فطرتهم فأصابت عقولهم من الرشاد، ووجدوا في أنفسهم شيء من الاستعداد لتلقي نور الحق يحملهم على اتقاء سخط الله تعالى، والسعي في مرضاته بحسب ما وصل إليه علمهم وأداهم نظرهم واجتهادهم » ( ١٢ ).
إن القرآن هداية لمن آمن بالله وأخلص نيته وفتح قلبه على القرآن عندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه مستقيما خائفا حساسا، مهيأ للتلقي.
وقد عرف البعض التقوى بقولهم :
«هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل »، وقيل التقوى هي : ذوبان الحشا لما سبق من الخطى. وورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبى بن كعب عن التقوى فقال له :
أما سلكت طريقا ذا شوك.. ؟ قال : بلى، قال : فما عملت ؟ قال شمرت واجتهدت. قال : فذلك التقوى.
فالتقوى حساسية في الضمير، وشفافية في الشعور، ومراقبة لله، واستقامة على الطريق القويم.
المتقون وجزائهم
﴿ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون( ٣ ) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون( ٤ ) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون( ٥ ) ﴾
ثم يأخذ السياق في وصف المتقين فيقول :
﴿ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ﴾. الصفة الأولى من صفات المتقين هي الإيمان بالغيب، أي التصديق القلبي به، والمراد بالغيب ما غاب عن الحس من شئون الدين وقام الدليل على ثبوته، فالله تعالى لا تدركه الأبصار والإيمان به من الإيمان بالغيب، وما يتعلق بالملأ الأعلى أو بأحوال يوم القيامة من بعث وحشر وحساب غيب.
«قال أبو العالية : يؤمنون بالغيب : يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث فهذا كله غيب » ( ١٣ ).
ومن الإيمان بالغيب الإيمان بصدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، مع عدم رِؤيته بل ذلك الإيمان أيضا يضاعف لصاحبه الأجر مرتين، لأنه تصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدم مشاهدته.
روى الإمام أحمد عن أبي جمعة قال :«تغذينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة ابن الجراح، فقال : يا رسول الله، هل أحد خير منا.. ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك.. ؟ قال :«نعم قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني » ورواه ابن مردويه بأطول من هذا وفي آخره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ما يمنعكم من ذلك رسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي، بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه أعظم منكم أجرا مرتين » ( ١٤ ).
ويقيمون الصلاة : يؤدونها تامة الأركان مستوفية الخشوع والخضوع مخلصين فيها لله.
قال ابن عباس : إقامة الصلاة : إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع، وقال قتادة : إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها.
ومما رزقناهم ينفقون : أي يخرجون زكاة أموالهم ويتصدقون وينفقون المال في وجوه البر، وقد شرع الإنفاق قبل أن تشرع الزكاة، لأنه الأصل الشامل الذي تخصصه نصوص الزكاة ولا تستوعبه، «واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات، فإنه قال : وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع اللازم في أموالهم مؤدين، زكاة كان ذلك أو نفقة من لزمته من أهل وعيال وغيرهم ممن يجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك لأن الله وصفهم ومدحهم بذلك وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح محمود عليه " ( ١٥ ).
وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي طريق إلى الطهارة النفسية، وإلى صدق الإيمان والتوكل على الله ؛ والإنفاق هو الإحسان إلى عباد الله وبذلك يتم للمؤمن قلب نقي موصل بالخالق، وعمل نافع يفيد المخلوقين.
﴿ والذين يؤمون بما أنزل بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ﴾. من صفات المتقين ( الإيمان بما أنزل إليك ) أي بالقرآن المنزل عليك، وما أنزل من قبلك على المرسلين، فهم يؤمنون بالنبي وبالقرآن ويؤمنون بالرسل أجمعين وبالكتب التي نزلت عليهم، وهي التوراة والإنجيل والزبور وسائر الصحف السالفة فيؤمنون بها إيمانا إجماليا لا تفصيليا.
وبالآخرة هم يوقنون : أي يتيقنون بوقوع البعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان ( وإنما سميت«الآخرة » لأنها بعد الدنيا ) ( ١٦ ).
الإيقان : إتقان العلم والتصديق الجازم الذي لا شبهة فيه ولا تردد.
﴿ أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ﴾. يقول تعالى : أولئك أي المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة والإنفاق من أموالهم، والإيمان بالقرآن والكتب السابقة، والإيقان بالدار الآخرة والاستعداد لها بعمل الصالحات وترك المحرمات ( على هدى ) أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى.
وأولئك هم المفلحون، ( في الدنيا والآخرة ) ( ١٧ ).
وهذه الآيات من أوائل ما نزل من القرآن في المدينة، وقد وصف القرآن المؤمنين السابقين بتقوى الله، والإيمان بالغيب، ثم بالسخاء والإيثار، ثم بامتداد إيمانهم بالكتب والرسل واليقين بالآخرة بلا تردد، ولا تأرجح في هذا اليقين وقد منحتهم الآيات وسام الهدى والاستقامة والسداد، ووسام الفلاح والنجاح والفوز، وإنه لتكريم أي تكريم.
﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون( ٦ ) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم( ٧ ) ﴾
اشتملت بداية سورة البقرة على أربع آيات في وصف المتقين وهاتان الآيتان في وصف الكافرين، وسيأتي بعد ذلك وصف المنافقين، تصف الآيتان موقف الكافرين في عهد البعثة المحمدية، فقد رفضوا الإيمان وقاوموا الدعوة ؛ ووقفوا في وجهها وعذبوا أتباعها وصموا أذانهم وأغلقوا قلوبهم واستغشوا ثيابهم حتى لا يسمعوا القرآن ولا ينظرون في أدلته ولا يتفكروا في هدايته، فلما رأى الله منهم شدة إعراضهم وقسوة قلوبهم وظلام نفوسهم طبع الله على قلوبهم فلم تتفتح وختم على سمعهم فلم تسمع الحق وجعل على أبصارهم غشاوة فلم تبصر أدلة الإيمان، وقد تكرر مضمون الآيتين في مواضع عديدة من القرآن الكريم، والقرآن يفسر بعضه بعضا.
وحاشا لله أن يظلم الكافر، ولكن الآيات الأخرى أفادت أن الكافرين هم الذين خبثت سرائرهم وقست قلوبهم فسلب الله هدايته عنهم جزاء كفرهم وعنادهم، قال تعالى :﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾. ( المطففين : ٤ ).
﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾. ( عن ابن عباس في قوله تعالى : إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول ) ( ١٨ ).
﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ﴾.
قال الراغب : المراد بالقلب في كثير من الآيات العقل والمعرفة ا. ه ( ١٩ ) لقد أنكروا وجود الله ورفضوا قبول الرسالة وعموا وصموا فطبع على قلوبهم جزاء وفاقا لطبعهم المطموس العنيد، قال تعالى :﴿ بل طبع الله عليها بكفرهم ﴾. ( النساء : ١٥٥ ) وقال تعالى :﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ﴾. ( الصف : ٥ ).
وقد ذهب المعتزلة في تفسير هذه الآية مسلك التأويل وذكروا في ذلك عدة من الأقاويل.
منها أن القوم لما عرضوا عن الحق وتمكن ذلك في قلوبهم، حتى صار كالطبيعة لهم شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه.
ومنها أن ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولونه مثل :﴿ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ﴾. ( فصلت : ٥ )( ٢٠ ).
وقال ابن جرير الطبري : والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبر عن رسوا الله صلى الله عيه وسلم أنه قال :
«إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فان تاب نزع واستعتب ( ٢١ ). صقل قلبه( ٢٢ ) وان زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي قال – تعالى- ﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾. ( المطففين١٤ ) » رواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح. ( ٢٣ )
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذ تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ولا للكفر عنها مخلص ( ٢٤ ).
وجاء في التفسير الحديث ( وننبه هنا بهذه المناسبة من أن هذا إنما هو تسجيل لواقع أمر الكفار حينما نزلت الآيات لا على سبيل التأبيد لأن معظم الذين وصفوا به قد آمنوا فيما بعد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يظل قائما بالنسبة للذين كفروا وماتوا وهم كفار )( ٢٥ ).
﴿ ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين( ٨ ) يخادعون الله والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون( ٩ ) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون( ١٠ ) ﴾
تناولت الآيات وصف المنافقين، وهو وصف ينطبق على كل منافق في كل زمان ومكان. ( قال ابن جريج : المنافق يخالف قوله فعله وسره علانيته ومدخله مخرجه ومشهده مغيبه )( ٢٦ ).
النفاق بالمدينة :
لم يظهر النفاق بمكة لضعف المسلمين هناك، فلما هاجر المسلمون هناك، إلى المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وتوحدت دولة الإسلام حتى تم النصر في بدر ( فاضطر نفر من الكبراء أن يتظاهروا باعتناق الدين الجديد، ومن هؤلاء عبد اله بن أبي بن سلول الذي كان قومه ينظمون له الخرز ليتوجهوه ملكا عليهم قبيل مقدم الإسلام إلى المدينة، وقد وصفتهم سورة البقرة بالنفاق والتلون وألقت عليهم الأضواء، وذكر المنافقون في سورة التوبة بصفات متعددة منها التخلف عن الجهاد والتظاهر بالإيمان والتخلي عن تبعاته وفرائضه، كما ذكر المنافقون في سورة خاصة بهم تسمى سورة ( المنافقون ) ولا نكاد نجد سورة مدنية تخلو من ذكرهم ولفت الأنظار إلى أوصافهم وتحذير المؤمنين من كيدهم وخداعهم( ٢٧ ).
ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين.
إنهم يدعون الإيمان بالله واليوم الآخر، وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين، إنما هم منافقون لايجرؤون على الإنكار والتصريح بحقيقة شعورهم في مواجهة المؤمنين.
وما هم بمؤمنين : أي وما هم بداخلين في عداد المؤمنين الصادقين الذين يشعرون بعظيم سلطان الله ويعلمون أنه مطلع على سرهم ونجواهم إذ هم كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات ظنا منهم أن ذلك يرضى ربهم ثم هم بعد ذلك منغمسون في الشرور والمآتم من كذب وغش وخيانة وطمع، إلى نحو دلك مما حكاه الكتاب الكريم عنهم ونقلة الرواة أجمعون( ٢٨ ).
ويرى صاحب المنار : أن الآيات وإن انطبقت على المنافقين في عصر الرسالة إلا أنها أبرزت عنصر النفاق في كل زمان ومكان، وهي تتناول كل منافق في التاريخ إلى قيام الساعة( ٢٩ ).
﴿ يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ﴾.
الخداع ( أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه له من الشر ليحسن الظن بك )( ٣٠ ).
( ولما كان المولى سبحانه لا يخفى عليه سرهم ونجواهم فلذا يكون الخداع هنا بحسب زعمهم جهلا منهم ) ( ٣١ ).
وما يخدعون إلا أنفسهم : أي ما يعود ضرر خداعهم إلا عليهم ( ٣٢ ).
وما يشعرون : الشعور إدراك ما فيه دقة وخفاء، أي وما يفطنون لهذه العاقبة، إنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر بقصد خداع الله والمؤمنين في حين أنهم لا يخدعون إلا أنفسهم لأن الله يعرف حقائقهم ولأن هذه الحقائق غير خافية على المؤمنين.
فقد كان المؤمنون يعرفون المنافقين بسيماهم الغالبة وصفاتهم العامة قال تعالى : ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم. ( محمد٣٠ )( ٣٣ ).
﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ﴾.
( المرض : في الأصل هو السقم، وهو نقيض الصحة، بسبب ما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويتوجب الخلل في أفاعيله( ٣٤ ).
ويطلق المرض مجازا على شك القلوب وارتيابها، فمرض القلوب هنا يقصد به شكهم في الدين وضعف يقينهم وفساد طبيعتهم، وهذا هو ما يحيد بهم عن الطريق الواضح المستقيم ويجعلهم يستحقون من الله أن يزيدهم مما هم فيه.
فزادهم الله مرضا، فالمرض أو الانحراف يبدأ يسيرا ثم تنفرج الزاوية وتزداد.
ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون : ولهم عذاب أليم بسبب كذبهم ونفاقهم وقولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، والكذب أقبح الصفات ( ولذلك حذر القرآن منه أشد التحذير وتوعد عليه أسوأ الوعيد، وما فشا الكذب في قوم إلا فشت فيهم كل جريمة وكبيرة لأنه ينشأ من دناءة النفس وضعف الحياء والمروءة ومن كان كذلك لا يترك قبيحا إلا بالعجز عنه نعوذ بالله تعالى من عمله ومنه )( ٣٥ ).
الفساد والسفه
﴿ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون( ١١ ) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون( ١٢ ) وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون( ١٣ ) ﴾
المفردات :
الفساد : خروج الشيء من حد الاعتدال، والصلاح ضده، والفساد في الأرض، إثارة الفتن والحروب التي تؤدي إلى اختلال أمر المعاش والمعاد.
التفسير :
﴿ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ﴾. تصف الآيات أخلاق المنافقين وقبح أفعالهم، وسوء طويتهم، فهم إذا نصحوا ونهوا عن الفساد وعن نفاقهم وخداعهم ودسهم وكيدهم أنكروا ودعوا الصلاح
﴿ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ﴾
مع أن ما هم فيه هو الفساد بعينه ولكنهم لا ينتبهون إلى ما هم فيه من تناقض( ٣٦ ).
ومن صفتهم كذلك التطاول والتعالي على عامة الناس ليكسبوا لأنفسهم مقاما في أعين الناس.
﴿ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ﴾
المفردات :
والسفه : خفة في العقل وفساد في الرأي، ومنه قيل ثوب سفيه : أي رديء النسيج.
التفسير :
فإذا نصحهم المؤمنون بأن يصدقوا في إيمانهم وأن يؤمنوا بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن يخلصوا لله في عملهم كما أخلص المهاجرون والأنصار :﴿ قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ﴾. يعنون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار.
أما المهاجرون فلأنهم عادوا قومهم وأقاربهم وهجروا أوطانهم وتركوا ديارهم ليتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وأما الأنصار فلأنهم شاركوا المهاجرين في ديارهم وأموالهم، ولا يستبعد ممن انهمك في السفاهة وتمادى في الغواية، وممن زين له سوء عمله فرآه حسنا أن يسمي الهدى سفها : ألا إنهم هم السفهاء. لانحرافهم عن هدى الله :﴿ ولكن لا يعلمون ﴾. يعني ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى والبعد عن الهوى( ٣٧ ).
اختيار الضلالة
﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون( ١٤ ) الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون( ١٥ ) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ( ١٦ ) ﴾
المفردات :
شياطينهم : رؤساؤهم في النفاق أو كبار اليهود الذين يحرضونهم ويؤيدونهم.
الاستهزاء : السخرية
الطغيان : مجاوزة الحد في كل شيء.
التفسير :
﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ﴾
فهم إذا لقوا المؤمنين سايروهم وخادعوهم وقالوا إننا مؤمنون، ثم إذا خلوا إلى شياطينهم الذين يحرضونهم ويوسوسون لهم أكدوا لهم بقائهم في جانبهم وأن ما يتظاهرون به ليس إلا من قبيل الهزء والسخرية.
فالله هو الذي يهزأ بهم، ويمهلهم ليبقوا مستمرين في رجسهم، ( يترددون حيارى ضلالا لا يجدون إلى المخرج سبيلا )( ٣٨ ).
وما أبأس من يستهزئ به جبار السماوات والأرض ومن أشقاه...
( وان الخيال يمتد إلى مشهد مفزع غريب، وإلى مصير من هوله تقشعر القلوب. وهو أن يقرأ ).
﴿ الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ﴾.
المفردات :
العمه : ظلمة البصيرة كالعمى في البصر وآثره : الحيرة الاضطراب، وفي هذه الآيات بيان لأحوال المنافقين في معاملة المؤمنين والكفار.
التفسير :
فيدعهم يتخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون غايته، واليد الجبارة تتلقفهم في نهايته كالفئران الهزيلة تتواثب في الفخ غافلة عن المقبض المكين. وهذا هو الاستهزاء الرعيب، لاستهزائهم الهزيل الصغير ( ٣٩ ).
﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ﴾.
أي هؤلاء قد رغبوا عن الهدى وسلوك الطريق المستقيم ومالوا إلى الضلال واشتروا ولكن لم تكن تجارتهم رابحة إذ هم أضاعوا رأس المال وهو الهدى واستبدلوا به الضلال فخسروا بذلك رأس المال وهو الهدى ولم تربح صفقتهم في هذه البيعة، وما كانوا مهتدين. أي راشدين في صنيعهم ذلك، وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ومن الجماعة إلى الفرقة ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة. ( ٤٠ ) وقد طال وصف المنافقين في هذه السورة وفي غيرها من السور لإلقاء الضوء عليهم وكشف حالهم وفضح أعمالهم ( على أن هذه الإطالة توحي كذلك بضخامة الدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء الجماعة وتبين مدى التعب والقلق والاضطراب الذي كانوا يحدثونه، كما توحي بضخامة الدور الذي يمكن أن يقوم به المنافقون في كل وقت ) ( ٤١ ) داخل صفوف المسلمين، وزيادة في الإيضاح يمضي السياق بضرب الأمثلة لهذه الطائفة ويكشف عن طبيعتها وتقلباتها وتأرجحها ليزيد هذه الطبيعة جلاء وإيضاحا.
هيئات المسلمين
﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون( ١٧ ) صم بكم عمي فهم لا يرجعون( ١٨ ) ﴾
المفردات :
مثلهم : أي صفتهم وقصتهم العجيبة في الإيمان ثم الإحجام.
استوقد : بمعنى أوقد، أو سعى حتى أوقد.
أضاءت : ضاءت النار وأضاءت ما حوله، أي أظهرته بضوئها.
أمثال القرآن :
سلك القرآن إلى النفوس كل مسلك لتأكيد دعوته، ومن مسالك القرآن إلى الهداية ضرب الأمثال للناس وإبراز المعقول في صور المحسوس، وعرض الغائب في معرض الحاضر، وهي ألوان من ضروب القرآن وإعجازه، ودعوته الهادفة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وقد تنوعت أمثلة القرآن ومنها الأمثلة المصرحة ( ٤٢ ) وهي ما صرح فيها بلفظ المثل أو ما يدل على التشبيه وهي كثيرة في القرآن منها ما يأتي :
قوله تعالى في حق المنافقين :﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ﴾.
﴿ أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق… ﴾إلى قوله تعالى :﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾. ( البقرة١٧-٢٠ ).
ففي هذه الآيات ضرب الله للمنافقين مثلين : مثلا ناريا في قوله : كمثل الذي استوقد نارا. لما في النار من مادة النور، ومثلا مائيا في قوله : أوكصيب من السماء. ( ٤٣ )، لما في الماء من مادة الحياة.
وقد نزل الوحي من السماء متضمنا لاستنارة القلوب وحياتها، وذكر الله حظ المنافقين في الحالين، فهم منزل من استوقد نارا للإضاءة والنفع، حيث انتفعوا ماديا بالدخول في الإسلام ولكن لم يكن له أثر نوري في قلوبهم، فذهب الله بما في النار من إضاءة : ذهب الله بنورهم. وأبقى ما فيها من الإحراق، وهذا مثلهم الناري.
وقد ذكر مثلهم المائي، فشبههم بحال من أصابه مطر، فيه ظلمة ورعد وبرق، فخاوت قواه ووضع أصبعيه في أذنيه وغمض عينيه خوفا من صاعقة تصيبه، لأن القرآن بزواجره وأوامره ونواهيه وخطابه نزل عليهم نزول الصواعق( ٤٤ ).
التفسير :
هذه الآيات استمرار في وصف المنافقين عن طريق ضرب مثل يجسم المعنى، ويبرز أمر المنافق الذي ظهر له نور الإسلام فاهتدى إليه ثم تركه، وظل حائرا مترددا.
لقد اشتروا الضلالة بالهدى، فلم تربح تجارتهم ولم يهتدوا، وان مثلهم كمثل الذي أوقد نارا في الظلمة، فلم تكد تضيء ما حوله حتى استحب العمى على الهدى بعدما استوضح الأمر وتبينه عندئذ : ذهب الله بنورهم، الذي عرفوه ثم تركوه.
﴿ صم بكم عمي فهم لا يرجعون ﴾.
المفردات :
الصم : آفة تمنع السمع.
البكم : الخرس
العمى : من لا يبصرون.
التفسير :
لقد عطلوا ملكاتهم الفطرية وصاروا صورة شكلية للإنسان، ليس فيهم قلب متفتح ولا عقل مفكر ولا أذن تسمع لصوت الحق، ولا لسان ينطق بالصدق، ولا عين تبصر نور الهدى، وقد استحكمت أهواؤهم وغلبتهم شهواتهم، فلا يرجعون عما هم فيه من الضلال.
حيرة المنافقين
﴿ أوكصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في ءاذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين( ١٩ ) ﴾
المفردات :
الصيب : المطر الشديد الانهمار.
السماء : السحاب وهي في الأصل كل ما علاك.
فيه ظلمات ورعد وبرق : التنوين في الكل للتفخيم والتهويل كأنه قيل فيه ظلمات داجية، ورعد قاصف وبرق خاطف. والبرق والرعد متلازمان غالبا، ولكنا نرى البرق تم نسمع بعده الرعد لأن سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت أضعافا مضاعفة، وظواهر الرعد والبرق والصواعق تحدث عند تكاثف السحب واختلاف درجات الحرارة بين طبقات الهواء( ٤٥ ).
التفسير :
﴿ أو كصيب من السماء… ﴾
هذا مثال آخر مثل ضربه الله لتردد المنافقين بين الهدى والضلال، وحيرتهم بين الإيمان والكفر.
فمثالهم كمثل الذي يسير في ليلة شديدة المطر والرعد والبرق، وقد اكتنفته الظلمات وملأه الخوف من الصواعق، واصطكت أذناه من الرعد حتى انه ليسدها بيده من شدته، ( ويتخطف البرق عيونه، فإذا لمع البرق وأضاء ما حول سار، غير أن البرق لا يلبث أن ينقطع فيقف حائرا ذهلا، وان الله لوشاء لأخذ سمعهم وأبصارهم، فهو القادر على كل شيء والمحيط بالمنافقين فلن يفلتوا منه ) ( ٤٦ ).
﴿ يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير( ٢٠ ) ﴾
المفردات :
وإذا أظلم عليهم قاموا : بمعنى أقاموا أي توقفوا عن السير.
التفسير :
﴿ يكاد البرق يخطف أبصارهم ﴾.
قال ابن عباس : يكاد البرق يخطف أبصارهم : أي بشدة الحق، كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا : أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعرض لهم الشكوك فتظلم قلوبهم فيقفون حائرين )( ٤٧ ).
والآيات قوية رائعة في تمثيلها ووصفها وتنديدها، لقد رسمت مشهدا حافلا بالحركة مشوبا بالاضطراب، فيه تيه وضلال وفيه هول ورعب، وفيه فزع وحيرة، وفيه أضواء وأصداء...
( وان الحركة تغمر المشهد كله من النصيب الهاطل إلى الظلمات والرعد والبرق إلى الحائرين المفزعين منه، والى الخطوات المروعة الوجلة التي تقف عندما يخيم الظلام.. إن هذه الحركة في المشهد لترسم عن طريق التأثير الإيجابي حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون.. بين لقائهم للمؤمنين، وعودتهم للشياطين، بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة، بين ما يطلبونه من هدى ونور، وما يفيئون إليه من ضلال وظلام. فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ويجسم بصورة شعورية، وهو طرف من طريقة القرآن.. في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس ) ( ٤٨ ).
عبادة الله
﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ( ٢١ ) ﴾
التفسير :
﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم... ﴾
بعد أن تم استعراض الصور الثلاث للمؤمنين والكافرين والمنافقين، اتجه السياق إلى نداء الناس كافة هزا لمشاعرهم وتنشيطا لهممهم ثم دعوتهم جميعا إلى عبادة ربهم المستحق للعبادة وحده، اتقاء لغضبه واستحقاقا لرضائه، فهو الذي خلقهم جميعا ودلهم على معرفته، وأرشدهم لعبادته، فالعبادة طريق إلى تقوى الله، وإدراك حق الربوبية، وهي وقاية منه المعاصي وطريق لبلوغ درجة الكمال.
وإنما كثر النداء في كتابه تعالى على طريق، يا أيها الناس. لاستغلاله بأوجه من التأكيد وأسباب المبالغة كالإيضاح بعد الإبهام، واختيار لفظ البعيد، ولتأكيد معناه بحرف التنبيه، ومعلوم أن ما نادى الله به عباده من أوامره ونواهيه وعظاته وزواجره ووعده ووعيده وغير ذلك... مما أنطق به كتابه أمور عظام وخطوب جسام ومعان علهم أن يتيقظوا لها ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها، وهم غافلون، فاقتضت أن ينادوا بالآكد الأبلغ( ٤٩ ).
﴿ الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون( ٢٢ ) ﴾
المفردات :
جعل الأرض فراشا : مبسوطة ممهدة كالفراش.
السماء بناء : أي قبة مرفوعة محكمة البناء. والبناء في الأصل مصدر سمي به المبنى بيتا كان أو قبة أو خفاء، ومنه قولهم : بنى الرجل على زوجته إذا ضرب فوقها قبة، والمراد انه جعل السماء فوقهم سقفا مرفوعا كالقبة، قال تعالى : وجعلنا السماء سقفا محفوظا( الأنبياء ( ٢٣ ).
أندادا : شركاء والند التشبيه والنظير.
التفسير :
﴿ الذي جعل لكم الأرض فراشا... ﴾ مبسوطة ممهدة لتيسير الإقامة والحياة منها، وأمدها بكل مقومات الحياة وسخر فيها وسائل الراحة والمتاع، ويسر فيها التوافق العجيب في الهواء والماء والنبات والمناخ والسطح والتربة.
والسماء بناء. لقد رفع الله السماء وزينها بالكواكب، وهي بحرارتها وضوئها وجاذبية أجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض وبينها تمهد لقيام الحياة على الأرض وتعين عليها.
وأنزل من السماء ماء. فأخرج به شتى أنواع الثمار، وأحيا به الأرض بعد موتها، وأكمل به الحياة في جميع صورها، وأشكالها... وجعلنا من الماء كل شيء حي.
وفي ذلك النداء تبرز كليتان من كليات التصور الإسلامي هما : وحدة الخالق لكل الخلائق ووحدة الكون وتناسق وحداته وصدقاته للحياة والإنسان.
فالأرض مفروشة والسماء مبنية بنظام، والماء ينزل ويخرج به الثمرات، رزقا للناس، والفضل يعود في هذا إلى الخالق الواحد.
﴿ فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ﴾. إنكم تعلمون قدرة الخالق وبديع صنعه ودقة إحكام خلقه، فينبغي أن تفردوه بالعبادة وألا تعبدوا معه أصناما ولا تقصدوا سواه، ولا تتخذوا أندادا أو شركاء مع الله.
أن الوحدانية عقيدة وسلوك، ويقين جازم بقدرة الله وصدق الاعتماد عليه، والإيمان بأنه الخالق الرازق، وأن تصرف الإنسان سبب مباشر والمسبب الحقيقي هو الله وفي الحديث الشريف :
" إن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه، ولا تشكروا به شيئا " ( ٥٠ ).
( وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لاشريك له، وقد استدل بها كثير من المفسرين-كالرازي مثلا وغيره- على وجود الصانع تعالى، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى فان من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية، واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه )( ٥١ ).
التحدي و الإعجاز
﴿ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين( ٢٣ ) فان لم تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين( ٢٤ ) ﴾
لله عز وجل كتابان : كتاب مفتوح مشاهد، وهو كتاب الكون يدل على الله بنظامه واتساقه وإحكامه، وكتاب مقروء وهو القرآن أنزله الله بلسان عربي مبين :﴿ آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ﴾. ( هود١ ) فقد أحكمت آياته وفصلت معانيه، قال تعالى :﴿ وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا ﴾. ( الأنعام١١٥ ) صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب وغيرها من المجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها كما قيل في الشعر : إن أعذبه أكذبه.
وقد اشتمل القرآن على أسمى درجات البلاغة والفصاحة، ولون في أساليب هدايته ونوع في طريق بيانه، فإذا تأملت أخباره وجدتها في غاية الصدق والحلاوة، وكلما تكرر حلا وعلا، لا يخلق على كثرة الرد ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات فما ظنك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمان، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي اشتملت على الأمر بالمعروف الحسن النافع الطيب المحبوب والنهي عن كل قبيح دنيء.
وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم بشرت به وحذرت وأنذرت ودعت إلى فعل الخير واجتناب المنكرات، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم( ٥٢ ).
ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أتيت وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تبعا » ( ٥٣ ).
لقد جمع القرآن بين السهولة والجزالة، وخاطب الخاصة بما لا يصعب فهمه على العامة وظل مع ذلك في الذروة العليا من أساليب البيان.
وأتى من أخبار الأمم السابقة بما أيدته الكتب المنزلة، وفي القرآن مع ذلك أخبار لم ترد في هذه الكتب، كما انفرد القرآن بإضافات خاصة لبعض قصص الأنبياء، وقد أنزل على نبي أمي لم يقرأ كتب السابقين، وتكوّن القرآن من حروف عربية يؤلف العرب منها قصائدهم ونثرهم، وقد عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن وتحداهم الله أن يأتوا بعشر سور من مثله، وكان ذلك في سورة مكية.
وفي هذه الآيات تحداهم فيما إذا كانوا في ريب من صحة ما أنزله على نبيه وصدق صلته به الإتيان بسورة من مثله، والاستعانة على ذلك بمن يريدون من الشركاء والأنصار.
فإذا عجزوا عن استجابة هذا التحدي فإن الحجة تكون قد لزمتهم، ومن إعجاز القرآن تقديره بأنهم سيظلون عاجزين عن ذلك أبدا.
وقد حذرتهم الآية من عذاب جهنم التي تتميز غيظا وتتقد بالناس والحجارة وقد أعدت للكافرين وهيئت لعذابهم. ووقود النار هنا صنفان : الناس والحجارة، أما الإنسان فلأنه عبد غير الله أو كفر بالله وأشرك به وكذب الشرائع والرسل ولم يتدبر ما أنزله الله عليه.
أما الحجارة فلأنها أظهر ما عبده المشركون، وقد حشرت في النار لبيان عدم جدوى عبادتهم لها، قال تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون. ( الأنبياء٩٨ ).
إعجاز القرآن :
أورد علماء البيان أنواع الأدلة على إعجاز القرآن، وفي تفسير المنار بحث مسهب عن أنواع الإعجاز التي اشتمل عليها القرآن، منها إعجازه بأسلوبه ونظمه، وبلاغته وفصاحته، وبما فيه من علم الغيب من ماض وحاضر ومستقبل، ولسلامته من الاختلاف والتعارض والتناقض.
وباشتماله على العلوم الإلهية، وأصول العقائد الدينية وأحكام العبادات وقوانين الفضائل والآداب، وقواعد التشريع السياسي والمدني والاجتماعي، والموافقة لكل زمان ومكان. ومن إعجاز القرآن عجز القرون التي ارتقت فيها جميع العلوم والفنون، أن تنقض بناء آية من آياته، أو تبطل حكما من أحكامه، أو تكذب خبرا من أخباره.
ومن إعجاز القرآن اشتماله على تحقيق كثير من المسائل العلمية والتاريخية، التي لم تكن معروفة في عصر نزوله، ثم عرفت بعد ذلك بما انكشف للباحثين والمحققين، من طبيعة الكون وتاريخ البشر وسنن الله في الخلق ؟.
ومن قدرة القرآن إبداعه في رسم الحالات النفسية ومشاهد الكون وتجسيم المعنويات وتخير الأسلوب المناسب للفكرة التي يعرضها.
وهكذا تتكشف للناظر في القرآن آفاق وآفاق، من التناسق والاتساق، فمن نظم فصيح إلى سرد عذب، إلى معنى مترابط، إلى نسق متسلسل إلى لفظ معبر، إلى تعبير مصور إلى تصوير مشخص، إلى تخييل مجسم إلى موسيقى داخلية، إلى اتساق في الأجزاء إلى تناسق في الإطار، وبهذا كله يتم الإبداع ويتحقق الإعجاز.
بشرى
﴿ وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون( ٢٥ ) ﴾
المفردات :
البشارة : الخبر السار
أتوا به متشابها : يشبه بعضه بعضا في الشكل مع اختلاف الطعم.
أزواج مطهرة : نظيفة من الحيض والأذى والألم.
التفسير :
من شأن القرآن أن يقابل بين الأتقياء والأشقياء، والعذاب والنعيم فبضدها تتميز الأشياء.
وهذا معنى تسمية القرآن المثاني، على أصح أقوال العلماء، وهو أن يذكر الإيمان ويتبعه بذكر الكفر أو عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء وعكسه، وحاصله ذكر الشيء ومقابله.
لقد ذكر القرآن صفة النار التي أعدت للكافرين في الآية السابقة تم بشر المؤمنون الذين استقاموا على أمر الله وقدموا الأعمال الصالحة بأن لهم جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار ولهم في الجنة نعيم دائم وظل وارف وخيرات لا تحد، وثمار الجنة متشابهة في اللون ولكنها مختلفة في الطعم والمذاق، وتقدم إليهم أطباق ثمار في الصباح والعشى، فإن أتوا بالفاكهة في صحاف الدر والياقوت في مقدار بكرة الدنيا وأتوا بالفاكهة غيرها على مقدار عشاء الدنيا، وإذا نظروا إلى رزقهم وجدوه متشابه الألوان، قالوا هذا الذي رزقنا به من قبل، يعني أطعمنا بكرة فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير الذي أتوه بكرة فذلك قوله سبحانه : وأتوا به متشابها. يعني يشبه بعضه بعضا في الألوان مختلفا في الطعم( ٥٤ )، ( وذلك أجلب للسرور وأزيد في التعجب وأظهر للمزية، وأبين للفضل. وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها دليل على تناهي الأمر في استحكام الشبه، وأنه الذي يستملى تعجبهم، ويستدعي استغرابهم ويفرط ابتهاجهم ) ( ٥٥ ).
﴿ ولهم فيها أزواج مطهرة ﴾. من الحيض والاستحاضة، ومن دنس الطباع وسوء الأخلاق ومن سائر مثالبهن وكيدهن.
﴿ وهم فيها خالدون ﴾ : خلودا أبديا على الدوام، وهذا هو تمام السعادة فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر لهذه النعمة ولا انقضاء.
الأمثال في القرآن
﴿ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين( ٢٦ ) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون( ٢٧ ) ﴾
المفردات :
مثلا ما : أي مثل كان، وضرب المثل استعماله فيما ضرب له أي فيما ذكر له.
بعوضة : البعوضة واحدة البعوض وهو نوع صغير من الذباب.
الفاسقين : الخارجين عن طاعة الله.
ضرب الأمثال :
ضرب الله الأمثال في القرآن لتقريب المعنى الى الأذهان، وإظهار المعقول في صورة المحسوس، وقد أخبر سبحانه أنه لايستصغر شيئا يضرب به مثلا، ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله تعالى : يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب. ( الحج ٧٣ ). وقال سبحانه : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون. ( العنكبوت ٤١ ).
كما ضرب سبحانه مثلا للكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وللكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة ( ٥٦ ). وضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه في أمور كثيرة منها : التذكير، والوعظ والحث والزجر والتقرير، وتقريب المراد للعقل، وتصويره بصورة المحسوس ؛ فإن الأمثال تصور المعاني بصورة الأشخاص، لأنها أثبتت في الأذهان لاستعانة الذهن منها بالحواس، ومن ثم كان الغرض تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالشاهد( ٥٧ ).
والأمثال في القرآن مقصود بها إبراز المعنى في صورة رائعة موجزة. والعبرة في المثل ليست في الحجم والشكل، وإنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير، وليس في ضرب الأمثال ما يعاب.
وما من شأنه الحياء من ذكره، لأن العبرة ليست في لفظ المثل، لكن في مدلوله وفي المعنى الذي يعبر. فإذا رأيت إنسانا مترددا وقلت له ( أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى )، كان المقصود هنا الإقدام على أمر ثم الإحجام عنه.
وضرب المثل بالذباب والعنكبوت، مقصود به مدلول المثل لا لفظه، ( فما استنكره السفهاء وأهل العناد والمراء واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروبا بها المثل ليس بموضع للاستنكار والاستغراب من قبل أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب وإدناء المتوهم من المشاهد، فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك ). ( ٥٨ ).
التفسير :
يقرر سبحانه أنه لا يرد في حقه الحياء من ضرب الأمثال للناس في القرآن، مهما بدا أنها بديهية أو تافهة كبعوضة أو ما هو أعظم منها في الحجم كالذباب والعنكبوت وغيرهما، فأما الذين آمنوا فيقبلون على تدبر هذه الأمثال، لأنها وحي من الله لتعينهم على فهم المعاني الصحيحة.
وأما الكافرون منهم الذين يتمحلون ويتساءلون عن مدى مراد الله منها، وليس غرضهم بهذا السؤال الاستفهام عن الحكمة من ضرب الأمثال، بنحو العنكبوت والذباب، بل غرضهم الإيذان بما فيها من الدناءة والحقارة بحيث لا يليق أن يريد الله شيئا من التمثيل بها لهذا يستحيل صدور التمثيل بها عن الله ( وإنما يقول هذه الأمثال محمد من تلقاء نفسه ) ( ٥٩ ).
وأن الله ليضل بالأمثال القرآنية كثيرين ممن ساء اختيارهم وأظلمت قلوبهم، ويهدي بها كثيرا ممن حسن اختيارهم واستنارت قلوبهم.
﴿ وما يضل به إلا الفاسقين ﴾. الذين فسقت قلوبهم من قبل وخرجت عن الهدى والحق إلى النفاق والضلال، فجزاؤهم زيادتهم ممن هم فيه، قال ابن مسعود وغيره. ﴿ يضل به كثيرا ﴾. يعني به المنافقين، ويهدي به كثيرا. يعني به المؤمنين( ٦٠ ).
سبب النزول :
روى المفسرون ( ٦١ ) عزوا إلى ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين روايتين كسبب لنزول هذه الآية :﴿ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها... ﴾
الرواية الأولى : تذكر أن الله لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت والنمل قال المشركون، أو قال اليهود والمشركون معا : ماذا أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة، إنه أجل من أن يضرب بها الأمثال.
الرواية الثانية : جاء فيها أن الله لما ضرب المثلين السابقين للمنافقين قال المنافقون : الله أعلى وأجل من ضرب هذه الأمثال( ٦٢ ).
وقد ذكر صاحب التفسير الحديث أن الرواية الثانية هي الأكثر مناسبة للمقام. وأرى أن الرواية الأولى أكثر اتساقا مع مدلول الآية، لأن ضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت والنمل واستبعاد المنافقين أو المشركين أن يصدر ذلك عن الله أنسب للآية التي نفسرها.
وقد ذكر الرواية الأولى وحدها مقاتل بن سليمان في تفسيره، وأوردها ابن كثير مع الرواية الأخرى من غير ترجيح إحداهما ؛ والله حين يضرب المثل للمنافقين فيما سبق ضرب لهم مثلين أحدهما ناري والآخر مائي، وليس أحدهما بالحقير ولا بالصغير، وهذا يرجح عند الرواية الأولى.
﴿ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه... ﴾
تصف هذه الآية الفاسقين بنقض العهد، والرجوع عن الإيمان بعد معرفته، أو برفض آلة التوحيد والإيمان وهي مبثوثة في فطرة الإنسان.
وقال مقاتل بن سليمان : المراد بهم اليهود ( فقد نقضوا العهد الأول، ونقضوا ما أخذ عليهم في التوراة أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وأن يؤمنوا بالنبي عليه السلام وكفروا بعيسى وبمحمد عليهما السلام وآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض ) ( ٦٣ ).
آراء في تفسير عهد الله :
قال ابن كثير :( وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه، فقال بعضهم : هو وصية الله إلى خلقه، وأمره بما أمرهم به من طاعته، ونهيه عما نهاهم عنه من معصيته، وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك وتركهم العمل به ).
وقال آخرون : بل هو في كفر أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه، هو ما أخذ عليهم في التوراة من العمل بما فيها، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق بما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته، وإنكارهم وكتمانهم علم ذلك عن الناس، بعد إعطائهم الله الميثاق من أنفسهم ليبيننه للناس ولا يكتمونه.
فأخبر الله تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وهو قول مقاتل بن حيان ( ٦٤ ).
وقال آخرون : بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق، وعهده إلى جميعهم في توحيده بما وضح لهم من الأدلة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه، ما احتج لرسله من المعجزات، التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله، الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا ونقضهم ذلك : تركهم الإقرار بما ثبت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبهم الرسل والكتب، مع علمهم أنما أتوا به حق، وهو رأى حسن.
وقال آخرون : العهد الذي ذكره تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم، الذي وصف في قوله تعالى : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا. ( الأعراف ١٧١-١٧٢ )، ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره( ٦٥ ).
وهذه الآراء كما ترى قريبة من بعضها، وقد تكون مرادة جميعها، ولذلك يقول الأستاذ سيد قطب :( وعهد الله المقصود مع البشر يتمثل في عهود كثيرة : إنه عهد الفطرة المركوزة في طبيعة كل حي.. أن يعرف خالقه وأن يتجه إليه بالعبادة.. وهو عهد استخلاف في الأرض. الذي أخذه على آدم، وفي عهود كثيرة في الرسالات لكل قوم أن يعبدوا الله وحده... ) ( ٦٦ ).
﴿ ويقطعون ما أمر الله به يوصل ﴾ : لقد أمر الله بصلة الرحم والقربى، وأمر بصلة العقيدة والأخوة الإنسانية والإيمان بجميع الرسل والكتب، قال النسفي : هو قطعهم للأرحام وموالاة المؤمنين أو قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض ( ٦٧ ).
﴿ ويفسدون في الأرض ﴾ : بالمنع عن الإيمان والاستهزاء بالحق والعمل على تهييج الحرب بين المؤمنين وغيرهم.
﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾ : لقد خسروا في الدنيا بافتضاحهم وتخبطهم وفسادهم، وخسروا في الآخرة بغضب الله وحرمانهم من رحمته، واستحقاقهم العذاب الأليم، قال تعالى : أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار. ( الرعد ٢٥ ).
نعم الله
﴿ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون( ٢٨ ) هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم( ٢٩ ) ﴾
التفسير :
على أي أساس قام كفركم بالله تعالى، وليس لكم حجة عليه إلا قولكم :﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾. ( الزخرف ٢٣ ).
﴿ كيف تكفرون بالله ﴾ : أي تجحدون وجوده وتعبدون غيره ؟
﴿ وكنتم أمواتا فأحياكم ﴾ : أي قد كنتم عدما فأخرجكم إلى الوجود، قال ابن عباس :﴿ كنتم أمواتا فأحياكم ﴾. أمواتا في أصلاب آبائكم ولم تكونوا شيئا حتى خلقكم ثم يميتكم موته الحق ثم يحييكم حين يبعثكم ( ٦٨ ) قال وهي مثل قوله :﴿ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ﴾. ( غافر ١١ ).
وفي الآية تعقيب تنديدي بالكفار في صيغة التساؤل الإنكاري عن جرأتهم على الكفر بالله وانحرافهم عن سبيله، وهو الذي أحياهم بعد أن كانوا أمواتا ثم يميتهم ثم يحييهم، وإليه مرجعهم في النهاية( ٦٩ ).
لقد كان الإنسان في عالم العدم فأحياه الله بالوجود في هذه الدنيا، ثم يموت عند خروج روحه وانتهاء أجله ثم يبعثه الله حين ينفخ إسرافيل في الصور فيقوم الناس لرب العالمين، فالإنسان مدين لله بالوجود، وبيد الله الموت والحياة والحساب والجزاء.
﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا.. ﴾ خلق الله للإنسان جميع ما في الأرض من ماء ومعادن وبترول وغير ذلك، وحثه على تعمير الأرض واستخراج كنوزها واستغلال خيراتها، وفي هذه الآية دعوة صريحة إلى الاستفادة مما خلقه الله لنا في هذه الأرض.
( وهناك مظهر آخر من مظاهر القدرة والعظمة اختص الله بمعرفة سره ودقائقه، وهو هذه السماوات السبع التي رفعها بقدرته وعلم هو كنهها وحقيقتها ومن ذا الذي يعلم المخلوق إلا خالقه ) ( ٧٠ ).
فالله خالق الكون كله، وهو خالق الأرض وباعث الحياة فيها، وهو رافع السماء بغير عمد وهو العليم بكل شيء خلقه.
***
خليفة الله في الأرًض
﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لاتعلمون( ٣٠ ) ﴾.
تمهيد :
خلق الله الإنسان ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة ومنحه الإرادة والاختيار وكرمه بالعقل، وسخر له الكون كله، وأخضع له الحيوانات وأسرار الوجود وأمده بالذكاء والمعرفة والقدرة على النظر والملاحظة والتجربة، والترقي والاستزادة من المعارف ؛ وبهذا كان صالحا للخلافة في الأرض والتصرف فيها خليفة عن الله محققا هدف الخالق من عمارة الأرض وإثارة التنافس والتسابق بين أفرادها وتزويدهم بالقدرة على اختيار طريق الهدى أو الضلال، لتظهر حكمته من الخلق وليتبين المطيع من العاصي ( ٧١ ).
﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة... ﴾
المفردات :
الملائكة : جمع ملك وهم ذوات نورانية خلقوا لطاعة الله فيما أمرهم به، ولهم القدرة على التشكل بالأشكال الحسنة المختلفة، ولهذا كان الرسل يرونهم.
خليفة : أي خليفة مني لأن آدم كان خليفة الله في أرضه، وكذلك كل نبي، قال تعالى :﴿ يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ﴾ ( ص٢٦ ).
التفسير :
لقد أراد الله أن يسلم هذا الكائن الجديد في الوجود زمام هذه الأرض، وأن يطلق يده فيها ( وأن يكل إليه إبراز مشيئة الخلق في الإبداع والتكوين والتحليل والتركيب والتحوير والتبديل وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات وكنوز و خامات، وتسخير هذا كله بإذن الله في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه، ( وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من قوى وطاقات وكنوز وخامات، ووهب من القوى الخفية المشيئة الإلهية ) ( ٧٢ )
أو تعظيما لشأن آدم وتنويها بفضله بأن بشر بذكره في الملء الأعلى قبل إيجاده ولقبه بالخليفة ( ٧٣ ).
الحكمة من إخبار الملائكة :
والغرض من إخبار الملائكة بخلافة آدم في الأرض، هو أن يسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به حتى يعرفوا حكمته، صيانة لهم من اعتراض الشبهة، أو الحكمة على تعليم العباد المشاورة في أمورهم، قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان المستشير بعمله وحكمته غنيا عن المشاورة ) ( ٧٤ ).
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون.
لقد تشوقت الملائكة لمعرفة الحكمة في استخلاف ذلك المخلوق الذي سيمنح الإرادة والاختيار والقدرة على القتل وسفك الدماء، مع أنهم أولى منه بالخلافة في الأرض، حيث إنهم يسبحون بحمد الله وينصرفون لعبادته وتقديس أسمائه وتحقيق القصد من خلقهم بعبادته فهم أولى بالخلافة في الأرض لأنهم معصومون من الخطأ.
وما علموا أن الأرض لو ملئت بالملائكة لانصرفوا للعبادة وبقيت الأرض خرابا بيانا، لعدم حاجة الملائكة إلى زراعتها وعمارتها، ( ويوحي قول الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها بأنه كان لديهم من شواهد الحال، أو من تجارب سابقة في الأرض، أو إلهام البصيرة ما يكشف لهم عن فطرة هذا المخلوق، أو من مقتضيات حياته على الأرض، ما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض وأنه سيسفك الدماء، ثم هم بفطرة الملائكة البريئة، التي لا تتصور إلا أن الخير المطلق هو وحده الغاية المطلقة للوجود، وهو وحده العلة الأولى للخلق وهو متحقق بوجودهم هم، يسبحون بحمد الله ويقدسونه ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته... ).
( لقد خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا، في بناء هذه الأرض وعمارتها، وفي تنمية الحياة وتنويعها، وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها على يد خليفة الله في أرضه، هذا الذي قد يفسد أحيانا وقد يسفك الدماء أحيانا ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر، خير أكبر وأشمل، خير النمو والرقي الدائم، خير الحركة الهادمة البانية، خير المحاولة التي لا تكف، والتطلع الذي لا يقف والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير ) ( ٧٥ ).
عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء والخبير بمصائر الأمور :﴿ قال إني أعلم ما لا تعلمون ﴾، إني أعلم أن الأرض لا يعمرها إلا إنسان يملك الإرادة والاختيار والطاعة والمعصية، ويكون جزاءه التواب، والعقاب على المعصية. ﴿ ونبلوكم بالشر وخير الفتنة ﴾. ( الأنبياء ٣٥ ).
آدم
﴿ وعلم ءادم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين( ٣١ ) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم( ٣٢ ) قال يا ءادم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون( ٣٣ ) ﴾
( عرض الله على آدم من أفراد كل نوع ما يصلح أن يكون نموذجا : يتعرف منه على أحوال البقية وأحكامها ).
﴿ وعلم آدم الأسماء كلها... ﴾ اختلف في هذه الأسماء التي علمها الله سبحانه آدم أعني الإنسان والرأي في هذا أن الله سبحانه أودع في الإنسان القدرة على البحث والنظر والكشف عن خصائص الأشياء وعللها وأسبابها والوقوف على أسرارها المودعة فيها، وحلها وتركيبها...
وبهذه القدرة عرف حقائق كثير من الأشياء، وهو جاد أبدا في الكشف عن المزيد منها يوما بعد يوم وجيلا بعد جيل وعصرا إثر عصر، وكلما عرف حقيقة وضع لها اسما تعرف به.
فالمراد بالأسماء هنا هو مسميات تلك الأسماء، والمراد بالمسميات خصائص هذه المسميات وحقائقها.
( والأسماء كلها لا يراد بها أسماء جميع الموجودات في هذا الوجود إذ إن آدم لا يمكن أن يحيط علمه بكل موجود ظاهر أو خفي، قريب أو بعيد، وإنما المراد والله أعلم المسميات التي تكشف حقائقها لآدم وذريته واهتدوا إلى التعرف عليها وتحديد موقفهم منها إيجابا أو سلبا.
ففي دائرة هذه المعرفة كان امتحان الملائكة وكان عجزهم، وكان إعلام آدم بما عجزوا عن معرفته.. فكان ذلك أبلغ رد على اعتراض الملائكة وجلاء الموقف الذي وقفوه من آدم.
( فالمراد من آدم هنا هو الإنسانية كلها، وكان امتحان الملائكة فيها عرف أبناء آدم من أسرار هذا الوجود ) ( ٧٦ ).
وفي تفسير ابن كثير عن ابن عباس أن الله علم آدم الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجمل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
( وفي الصحيح أن الله علم آدم أسماء كل شيء ) ( ٧٧ ).
﴿ ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ﴾. أي عرض المسميات المدلول عليها بالأسماء التي علمها آدم. ﴿ فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ﴾.
فالمعروض لنظر الملائكة ذوات مشخصة يراد من الملائكة أن يضعوا لها أسماء تدل عليها، وتكشف عن حقيقة كل واحدة منها.
﴿ إن كنتم صادقين ﴾. أي في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة ممن استخلفته، وإنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء إظهارا لعجزهم عن إقامة ما علقوا به رجاءهم من أمر الخلافة ( ٧٨ ).
﴿ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ﴾. اعترفت الملائكة بالعجز عن معرفة الأشياء المعروضة عليها، واتجهت الملائكة إلى تقديس الله وتنزيهه تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، واعترفت بالعجز والقصور عما كلفوه، وأنه سبحانه العالم بكل المعلومات التي من جملتها استعداد آدم عليه السلام للخلافة بالأرض وعجز الملائكة عن هذه الخلافة.
﴿ قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ﴾.
أمر الله آدم أن يخبر الملائكة بأسماء دواب الأرض والطير كلها ففعل.
فلما ظهر فضل آدم على الملائكة في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء قال الله للملائكة : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض.
وأعلم ما تبدون. من قولكم. وما كنتم تكتمون. في نفوسكم، فلا يخفى على شيء، سواء عندي سرائركم وعلانيتكم.
سجود الملائكة
﴿ وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين( ٣٤ ) ﴾
في هذه الآية تذكير بنعمة الله على نبينا آدم عليه السلام والآية ناطقة بالتعظيم لقدره، والتنويه لشأنه حيث أمر الله الملائكة بالسجود له، والآية معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة، فقد عطفت فيها قصة السجود على قصة الخلق لنستكمل بها نعمه تعالى التي تفضل بها على خلقه.
إنه التكريم في أعلى صوره لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكنه وهب من الأسرار ما يرفعه على الملائكة، لقد وهب المعرفة، كما وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق.. إن ازدواج طبيعته وقدرته على تحكيم إرادته في شق طريقه، واضطلاعه بأمانة الهداية إلى الله بمحاولته الخاصة، إن هذا كله بعض أسرار تكريمه.
ولقد سجد الملائكة امتثالا للأمر العلوي الجليل. ﴿ إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ﴾. ، وهنا ننبدي خليقة الشر مجسمة، عصيان الجليل سبحانه والاستكبار عن معرفة الفضل لأهله، والعزة بالإثم، للاستغلاق عن الفهم.
إبليس :
تعرض القرآن لذكر إبليس في أكثر من موضع كما ذكر القرآن الجن والشيطان والملائكة، ولكن حديث القرآن عن الإنسان كان كثيرا ومستفيضا. وقد أفاد القرآن عن الملائكة بأنها قوة من قوى الخير في هذا العالم وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وتحدث القرآن عن الجن، وتوجد سورة الجن، وفي أكثر من موضع يذكر إبليس الشيطان والجن على أنها قوى خفية تتحرك في المجال الإنساني وتراه دون أن يراه، وإبليس والشيطان يذكران دائما في معرض التحذير والتخويف من إغرائهما إذ كان من شأنهما العداوة للإنسان والنقمة عليه.
ويذكر إبليس وحده في مقام دعوة الملائكة للسجود لآدم وامتناعه هو عن السجود استكبارا لذاته وعلوا على آدم الذي خلق من طين، على حين أنه خلق من نار، ويذهب بعض المفسرين إلى أن إبليس كان من الملائكة( ٧٩ ). ثم إنه كان في درجة دنيا في هذا العالم الروحي هي درجة الجن، وهم وإن أشبهوا عالم الملائكة في أنهم خلقوا من شعلة مقدسة إلا أن الملائكة كانوا من نور هذه الشعلة على حين كان الجن من نارها، كما يقول تعالى :﴿ والجان خلقناه من قبل من نار السموم ﴾. ( الحجر ٢٧ ). ولهذا كان الملائكة صفاء خالصا، بينما كان الجن صفاء مشوبا بكدر، وكان من الجن الأخيار والأشرار، ولم يظل إبليس في جماعة الجن بل أخرجه الله من بينهم ولعنه حين أبى أن يسجد لآدم، فإبليس كان من عالم الجن، ثم نزل إلى إبليس، ثم تحول من إبليس إلى شيطان رجيم.
وإذا نظرنا إلى سياق الآية أدركنا أن إبليس لم يكن من جنس الملائكة، ( إنما كان معهم فلو كان منهم ما عصى، وصفتهم الأولى أنهم لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون، وإبليس من الجن لقوله تعالى في آية أخرى.. ﴿ كان من الجن ﴾. ( الكهف ٥٠ ).
«وإنما جاز استثناؤه من الملائكة لأنه لما كان بينهم عابدا بعبادتهم ؛ جعل منهم فإن من طالت إقامته مع قوم واندمج فيهم، اعتبر منهم وإن لم يكن من قبيلتهم ».
وقد خلق الله من مارج من نار، وهذا يقطع بأنه ليس من الملائكة، والآن لقد انكشف ميدان المعركة الخالدة، المعركة بين خليفة الشر في إبليس وخليفة الله في الأرض، المعركة الخالدة في ضمير الإنسان ( المعركة التي ينتصر فيها الخير بمقدار ما يستعصم الإنسان بإرادته وعهده مع ربه، وينتصر فيها الشر بمقدار ما يستسلم الإنسان لشهواته ويبعد عن ربه )( ٨٠ ).
الأكـل مـــن الشــجرة
﴿ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين( ٣٥ ) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين( ٣٦ ) فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ( ٣٧ ) ﴾
خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وأسكنه فسيح جناته وزوجه حواء وأباح له خيرات الجنة ما عدا شجرة واحدة هي رمز للمخالفة.
جاء في تفسير المنار للسيد رشيد رضا ( ٨١ ).
( قال الأستاذ الإمام ـ محمد عبده ـ وتقرير التمثيل في قصة آدم هكذا : إن إخبار الله ـ تعالى ـ الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه، لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها ويكون به كمال الوجود في هذه الأرض. وسؤال الملائكة عن جعل خليفة في الأرض لأنه يعمل باختياره ويعطي استعدادا في العلم لا حد لهما وتصويرا لما في استعداده لذلك، وتمهيدا لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض، وتعليم آدم الأسماء كلها، بيان لاستعداد الإنسان لتعلم كل شيء في الأرض، وانتفاعه به في استعمارها، وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها، وتنصلهم في الجواب، تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته، وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله ـ تعالى ـ في ذلك.
وإباء إبليس واستكباره عن السجود، تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء، التي هي مثار التنازع والتخاصم، والتعدي والإفساد في الأرض، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون أفراده فيه كالملائكة، بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشري، ويراد بالجنة الراحة والنعيم، فإن من شأن الإنسان، أن يجد في الجنة التي هي الحديقة ما يلذ له من مأكول ومشروب ومشموم ومسموع في ظل ظليل، وهو عليل، وماء سلسبيل، ويراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق أبو القبيلة الأكبر على القبيلة فيقال : كلب فعلت كذا ويراد قبيلة كلب، ويراد بالشجرة معنى الشر والمخالفة، كما عبر الله ـ تعالى ـ في مقام التمثيل عن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وفسرت بكلمة التوحيد، وعن الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة وفسرت بكلمة الكفر.
والمعنى على هذا أن الله ـ تعالى ـ كون النوع البشري في أطوار ثلاثة :

١-
طور الطفولة لا هم فيه ولا كدر، بل هو لهو ولعب وكأنه في جنة ملتفة بالأشجار ويانعة الثمار

٢-
طور التمييز الناقص : ويكون فيه الإنسان عرضة لاتباع الهوى بوسوسة الشيطان.

٣-
طور الرشـــد : وهو الذي يعتبر فيه الأمر بنتائج الحوادث ويلتجئ فيه حين الشدة إلى القوة الغيبية العليا، التي منها كل شيء واليها يرجع الأمر كله.
والإنسان في أفراده مثال الإنسان في مجموعه، فقد كان الإنسان في ابتداء حياته الاجتماعية ساذجا سليم الفطرة، مقتصرا في طلب حاجاته على القصد والعدل، متعاونا على دفع ما عساه يصيبه من مزعجات الكون، وهذا هو العصر الذي يذكره جميع طوائف البشر ويسمونه بالعصر الذهبي، ى ولكن لم يكفه هذا النعيم العظيم، فمد بعض أفراده أيديهم إلى تناول ما ليس لهم طاعة للشهوة، وميلا مع خيال اللذة وتنبه من ذلك ما كان نائما في نفوس سائرهم، فثار النزاع وعظم الخلاف، وهذا هو الطور الثاني وهو معروف في تاريخ الأمم.
وبقي طور آخر من هذه الأطوار، هو منتهى الكمال، وهو طور الدين الإلهي والوحي السماوي، الذي به كمال الهداية الإنسانية ( ٧٢ ).

مجمل تفسير الآيات :

علمت مما سلف أن الحكمة الإلهية اقتضت إيجاد النوع الإنساني في الأرض واستخلافه فيها، وأن الملائكة فهموا أنه يفسد نظامها ويسفك الدماء فأعلمهم المولى بالحكمة من خلق آدم، فقد أوجده الله مزودا بالقدرة على التعلم، وقد علمه الله الأسماء كلها، وأخضع له الملائكة إلا إبليس، فقد أبى واستكبر عن السجود لما فيه طبيعته من الاستعداد للعصيان.
وهنا ذكر أنه تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بما فيها، ونهاهم أن يأكل من شجرة معينة، وأعلمها أن القرب منها ظلم لأنفسها، وأن الشيطان أزلهما عنها فأخرجهما من ذلك النعيم، وأن آدم أناب إلى الله من معصيته فقبل توبته، وقد سيقت هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يلاقي من الإنكار، ليعلم أن المعصية من شأن البشر، فالضعف غريزة فيهم ينتهي إلى أول سلف منهم.
وهو أبوهم آدم عليه السلام فقد تغلبت عليه الوساوس. فلا تأس أيها الرسول الكريم على القوم الكافرين، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات( ٨٣ ).
التفسير :
﴿ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ﴾ : أي وقلنا له اتخذ الجنة مسكنا لك ولزوجك، واختلفت آراء العلماء في الجنة المراد هنا، فمن قائل إنها دار الثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة، لسبق ذكرها في هذه السورة، وفي ظواهر السنة ما يدل عليه فهي إذا في السماء، حيث شاء الله منها.
ومن قائل إنها جنة أخرى خلقها الله امتحانا لآدم عليه السلام، وكانت بستانا في لأرض وعلى هذا جرى أبو حنيفة وتبعه أبو منصور الماتريدي في تفسيره المسمى بالتأويلات، فقال : نحن نعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين أو غيضة من الغياض، كان آدم وزوجته منعمين فيها، وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها، وهذا هو هب السلف، ولا دليل لمن خاض في تعيين مكانها من أهل السنة وغيرها.
قال ابن كثير : " وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم أهي في السماء أو في الأرض فالأكثرون على الأول " ( ٨٤ ).
وقد رجح الآلوسي في تفسيره ( روح المعاني ) أن الجنة في الأرض، واستدل على ذلك بأن الله خلق آدم ليكون خليفة فيها هو وذريته، فالخلافة منهم مقصودة بالذات، فلا يصح أن يكون وجودهم فيها عقوبة عارضة. ثم ساق عددا من الأدلة في وصف جنة الآخرة بأنها لاتكليف فيها، ولا يدخلها إلا المتقون المؤمنون. فكيف دخلها الشيطان الكافر للوسوسة.
وأرى أن نؤمن بأن الله أسكن آدم الجنة، ونفوض المراد منها إلى الله سبحانه وتعالى :
وكلا منها رغدا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين.
لم يبين لنا ربنا هذه الشجرة، فلا نستطيع أن نعينها من تلقاء أنفسنا بلا دليل قاطع، ولأن المقصود يحصل بدون التعيين.
" قال الإمام أبو جعفر ابن جرير رحمه الله : والصواب في ذلك أن يقال : إن الله عز وجل ثناءه نهى آدم وذريته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، وأكلا منها ولاعلم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا في السنة الصحيحة، وقد قيل : كانت شجرة البر، وقيل كانت شجرة العنب، وقيل كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها وذلك علم لم ينفع العالم به علمه، وان جهله جاهل لم يضره جاهل لم يضره جهله به والله أعلم " ( ٨٥ ).
والقرآن الكريم إذ وقف بالشجرة دون أن يحدد نوعها فإنما ذلك لأنها معروفة معهودة لآدم ولزوجه ثم ان عدم تحديد نوعها في الحديث إلينا لا يمنع أن يكون للشجرة مفهوم خاص عندنا وان لم يدخل فيه نوعها أيا كان.
فلنحاول فهم الشجرة على أنها مجرد شجرة ليس لها صفة خاصة تمتاز بها عن الأشجار التي معها إلا في تحديد ذاتها بالإشارة إليها.
فلتكن هذه الشجرة ما تكون، شجرة كرم أو تين أو كافور بين العديد من مثيلاتها إلا أن النهي والتحريم وقع عليها دون غيرها.
وهذا التحريم لشجرة بعينها إنما هو امتحان لآدم وابتلاء بعزيمته أمام الإغراء وحب الاستطلاع الذي هو غريزة قوية عاملة فيه( ٨٦ ).
قال تعالى :﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ﴾ ( طه١١٠ ).
وقوله تعالى :﴿ فتكونا من الظالمين ﴾ : المراد من ظلمهما ظلم أنفسهما بأن مخالفة النهي كانت سببا في حرمانهما مما كانا فيه من نعيم وراحة.
﴿ فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ﴾.
الأكـل مـــن الشــجرة
﴿ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين( ٣٥ ) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين( ٣٦ ) فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ( ٣٧ ) ﴾
خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وأسكنه فسيح جناته وزوجه حواء وأباح له خيرات الجنة ما عدا شجرة واحدة هي رمز للمخالفة.
جاء في تفسير المنار للسيد رشيد رضا ( ٨١ ).
( قال الأستاذ الإمام ـ محمد عبده ـ وتقرير التمثيل في قصة آدم هكذا : إن إخبار الله ـ تعالى ـ الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه، لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها ويكون به كمال الوجود في هذه الأرض. وسؤال الملائكة عن جعل خليفة في الأرض لأنه يعمل باختياره ويعطي استعدادا في العلم لا حد لهما وتصويرا لما في استعداده لذلك، وتمهيدا لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض، وتعليم آدم الأسماء كلها، بيان لاستعداد الإنسان لتعلم كل شيء في الأرض، وانتفاعه به في استعمارها، وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها، وتنصلهم في الجواب، تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته، وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله ـ تعالى ـ في ذلك.
وإباء إبليس واستكباره عن السجود، تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء، التي هي مثار التنازع والتخاصم، والتعدي والإفساد في الأرض، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون أفراده فيه كالملائكة، بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشري، ويراد بالجنة الراحة والنعيم، فإن من شأن الإنسان، أن يجد في الجنة التي هي الحديقة ما يلذ له من مأكول ومشروب ومشموم ومسموع في ظل ظليل، وهو عليل، وماء سلسبيل، ويراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق أبو القبيلة الأكبر على القبيلة فيقال : كلب فعلت كذا ويراد قبيلة كلب، ويراد بالشجرة معنى الشر والمخالفة، كما عبر الله ـ تعالى ـ في مقام التمثيل عن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وفسرت بكلمة التوحيد، وعن الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة وفسرت بكلمة الكفر.
والمعنى على هذا أن الله ـ تعالى ـ كون النوع البشري في أطوار ثلاثة :

١-
طور الطفولة لا هم فيه ولا كدر، بل هو لهو ولعب وكأنه في جنة ملتفة بالأشجار ويانعة الثمار

٢-
طور التمييز الناقص : ويكون فيه الإنسان عرضة لاتباع الهوى بوسوسة الشيطان.

٣-
طور الرشـــد : وهو الذي يعتبر فيه الأمر بنتائج الحوادث ويلتجئ فيه حين الشدة إلى القوة الغيبية العليا، التي منها كل شيء واليها يرجع الأمر كله.
والإنسان في أفراده مثال الإنسان في مجموعه، فقد كان الإنسان في ابتداء حياته الاجتماعية ساذجا سليم الفطرة، مقتصرا في طلب حاجاته على القصد والعدل، متعاونا على دفع ما عساه يصيبه من مزعجات الكون، وهذا هو العصر الذي يذكره جميع طوائف البشر ويسمونه بالعصر الذهبي، ى ولكن لم يكفه هذا النعيم العظيم، فمد بعض أفراده أيديهم إلى تناول ما ليس لهم طاعة للشهوة، وميلا مع خيال اللذة وتنبه من ذلك ما كان نائما في نفوس سائرهم، فثار النزاع وعظم الخلاف، وهذا هو الطور الثاني وهو معروف في تاريخ الأمم.
وبقي طور آخر من هذه الأطوار، هو منتهى الكمال، وهو طور الدين الإلهي والوحي السماوي، الذي به كمال الهداية الإنسانية ( ٧٢ ).

مجمل تفسير الآيات :

علمت مما سلف أن الحكمة الإلهية اقتضت إيجاد النوع الإنساني في الأرض واستخلافه فيها، وأن الملائكة فهموا أنه يفسد نظامها ويسفك الدماء فأعلمهم المولى بالحكمة من خلق آدم، فقد أوجده الله مزودا بالقدرة على التعلم، وقد علمه الله الأسماء كلها، وأخضع له الملائكة إلا إبليس، فقد أبى واستكبر عن السجود لما فيه طبيعته من الاستعداد للعصيان.
وهنا ذكر أنه تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بما فيها، ونهاهم أن يأكل من شجرة معينة، وأعلمها أن القرب منها ظلم لأنفسها، وأن الشيطان أزلهما عنها فأخرجهما من ذلك النعيم، وأن آدم أناب إلى الله من معصيته فقبل توبته، وقد سيقت هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يلاقي من الإنكار، ليعلم أن المعصية من شأن البشر، فالضعف غريزة فيهم ينتهي إلى أول سلف منهم.
وهو أبوهم آدم عليه السلام فقد تغلبت عليه الوساوس. فلا تأس أيها الرسول الكريم على القوم الكافرين، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات( ٨٣ ).
المفردات :
الزلل : السقوط، يقال زل في طين أو منطق يزل بالكسر زليلا، وقال الفراء بالفتح زللا.
مستقر : أي قرار وأرزاق وآجال.
إلى حين : أي إلى وقت مؤقت ومقدار معين ثم تقوم القيامة ( ٨٩ ).
التفسير :
وسوس الشيطان لآدم وأغراه بالأكل من الشجرة فطرد الله آدم وحواء من الجنة إلى الدنيا، وأوجب عليه أن يعمل ليكسب رزقه بعرق جبينه وكد يمينه، وأن يمارس دوره في الحياة وفي خلافة الأرض، وقد حذره الله من الشيطان وبين أن عداوة إبليس لآدم وذريته مستمرة إلى يوم القيامة.
﴿ فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه ﴾.
وبالتعبير المصور أزلهما ( انه لفظ يرسم صورة الحركة التي يعبر عنها وانك لتكاد تلمح الشيطان وهو يزحزحها عن الجنة ويدفع بأقدامها فتزل وتهوى ).
عندئذ تمت التجربة : " نسى آدم عهده وضعف إمام الغواية " ( ٨٧ )، وعندئذ حقت كلمة الله وصرح قضاؤه.
﴿ وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ﴾.
المأمور بالهبوط هو آدم وزوجه وإبليس، وهو المأثور عن ابن عباس ومجاهد وكثير من السلف.
﴿ اهبطوا بعضكم لبعض عدو ﴾ : اهبطوا حال كون بعض أولادكم عدوا للآخر ( بما ركزه الله فيهم من غرائز صالحة للخير والشر، يستغلها الشيطان فيوسوس لهم ويزين القبح حسنا فتندفع الغرائز نحو البغي والعدوان على الناس إلا من اعتصم بالشرع وحكم العقل فكان من المخلصين( ٨٨ )، كما قال تعالى : لأغوينهم أجمعين* إلا عبادك منهم المخلصين. ( الحجر ٣٩-٤٠ ).
﴿ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ﴾
وعن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها " رواه مسلم والنسائي ( ٩٠ ).
الأكـل مـــن الشــجرة
﴿ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين( ٣٥ ) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين( ٣٦ ) فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ( ٣٧ ) ﴾
خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وأسكنه فسيح جناته وزوجه حواء وأباح له خيرات الجنة ما عدا شجرة واحدة هي رمز للمخالفة.
جاء في تفسير المنار للسيد رشيد رضا ( ٨١ ).
( قال الأستاذ الإمام ـ محمد عبده ـ وتقرير التمثيل في قصة آدم هكذا : إن إخبار الله ـ تعالى ـ الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه، لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها ويكون به كمال الوجود في هذه الأرض. وسؤال الملائكة عن جعل خليفة في الأرض لأنه يعمل باختياره ويعطي استعدادا في العلم لا حد لهما وتصويرا لما في استعداده لذلك، وتمهيدا لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض، وتعليم آدم الأسماء كلها، بيان لاستعداد الإنسان لتعلم كل شيء في الأرض، وانتفاعه به في استعمارها، وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها، وتنصلهم في الجواب، تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته، وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله ـ تعالى ـ في ذلك.
وإباء إبليس واستكباره عن السجود، تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء، التي هي مثار التنازع والتخاصم، والتعدي والإفساد في الأرض، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون أفراده فيه كالملائكة، بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشري، ويراد بالجنة الراحة والنعيم، فإن من شأن الإنسان، أن يجد في الجنة التي هي الحديقة ما يلذ له من مأكول ومشروب ومشموم ومسموع في ظل ظليل، وهو عليل، وماء سلسبيل، ويراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق أبو القبيلة الأكبر على القبيلة فيقال : كلب فعلت كذا ويراد قبيلة كلب، ويراد بالشجرة معنى الشر والمخالفة، كما عبر الله ـ تعالى ـ في مقام التمثيل عن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وفسرت بكلمة التوحيد، وعن الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة وفسرت بكلمة الكفر.
والمعنى على هذا أن الله ـ تعالى ـ كون النوع البشري في أطوار ثلاثة :

١-
طور الطفولة لا هم فيه ولا كدر، بل هو لهو ولعب وكأنه في جنة ملتفة بالأشجار ويانعة الثمار

٢-
طور التمييز الناقص : ويكون فيه الإنسان عرضة لاتباع الهوى بوسوسة الشيطان.

٣-
طور الرشـــد : وهو الذي يعتبر فيه الأمر بنتائج الحوادث ويلتجئ فيه حين الشدة إلى القوة الغيبية العليا، التي منها كل شيء واليها يرجع الأمر كله.
والإنسان في أفراده مثال الإنسان في مجموعه، فقد كان الإنسان في ابتداء حياته الاجتماعية ساذجا سليم الفطرة، مقتصرا في طلب حاجاته على القصد والعدل، متعاونا على دفع ما عساه يصيبه من مزعجات الكون، وهذا هو العصر الذي يذكره جميع طوائف البشر ويسمونه بالعصر الذهبي، ى ولكن لم يكفه هذا النعيم العظيم، فمد بعض أفراده أيديهم إلى تناول ما ليس لهم طاعة للشهوة، وميلا مع خيال اللذة وتنبه من ذلك ما كان نائما في نفوس سائرهم، فثار النزاع وعظم الخلاف، وهذا هو الطور الثاني وهو معروف في تاريخ الأمم.
وبقي طور آخر من هذه الأطوار، هو منتهى الكمال، وهو طور الدين الإلهي والوحي السماوي، الذي به كمال الهداية الإنسانية ( ٧٢ ).

مجمل تفسير الآيات :

علمت مما سلف أن الحكمة الإلهية اقتضت إيجاد النوع الإنساني في الأرض واستخلافه فيها، وأن الملائكة فهموا أنه يفسد نظامها ويسفك الدماء فأعلمهم المولى بالحكمة من خلق آدم، فقد أوجده الله مزودا بالقدرة على التعلم، وقد علمه الله الأسماء كلها، وأخضع له الملائكة إلا إبليس، فقد أبى واستكبر عن السجود لما فيه طبيعته من الاستعداد للعصيان.
وهنا ذكر أنه تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بما فيها، ونهاهم أن يأكل من شجرة معينة، وأعلمها أن القرب منها ظلم لأنفسها، وأن الشيطان أزلهما عنها فأخرجهما من ذلك النعيم، وأن آدم أناب إلى الله من معصيته فقبل توبته، وقد سيقت هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يلاقي من الإنكار، ليعلم أن المعصية من شأن البشر، فالضعف غريزة فيهم ينتهي إلى أول سلف منهم.
وهو أبوهم آدم عليه السلام فقد تغلبت عليه الوساوس. فلا تأس أيها الرسول الكريم على القوم الكافرين، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات( ٨٣ ).
﴿ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم ﴾ أي ألهم الله آدم أن يتوب إليه، وأن يعترف بذنبه وأن يطلب المغفرة من الله فيغفر الله له، وقد فتح الله بابه لكل تائب.
فمن شأن الإنسان أن يخطئ ومن شأن الإله أن يغفر الذنب وأن يقبل التوبة وأن يفتح بابه للتائبين.
وقيل أن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه مفسرة بقوله تعالى : قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ( ٩١ ).
وعن ابن عباس :﴿ فتلقى آدم من ربه كلمات ﴾. ( قال : أي رب ألم تخلقني بيدك ؟ قال بللا. قال : أي رب ألم تنفخ في من روحك ؟ قال بلى. قال : أرأيت إن تبت وأصلحت أراجع أنت إلى الجنة ؟ قال : بلى ). رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ( ٩٢ ).
وقد أثبتت الآية التوبة لآدم وحده فقال تعالى : فتاب عليه. مع أن حواء شريكة له في الذنب بإجماع العلماء، لأن حواء تابعة له في الحكم إذ النساء شقائق الرجال في الأحكام.
فكرة الخطيئة والتوبة في الإسلام :
نحس من خلال قصة آدم أن خطيئته فردية وأن توبته فردية فهو قد أكل من الشجرة هو وحواء بإغراء الشيطان وتزيينه السوء لهما ثم ندم آدم وندمت حواء وتابا وقبل الله منهما التوبة فهو التواب الرحيم، وهو العليم بطبيعة الإنسان حيث يقول سبحانه ﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ﴾( ٣٢ ). ( النجم : ٣٢ ).
فالله خالق الإنسان وهو العليم بضعفه ونزواته ولذلك أرسل له الرسل وفتح له باب التوبة. ( وليست هناك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده كما تقول نظرية الكنيسة، وليس هناك تفكير لاهوتي كالذي تقول الكنيسة أن عيسى عليه السلام ( ابن الله بزعمهم ) قام بصلبه تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم كانت خطيئته كذلك شخصية والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة، تصوير مريح صريح يحمل كل إنسان وزوره، ويوحي إلى كل إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس والقنوط ) ( ٩٣ ). ﴿ انه هو التواب الرحيم ﴾.
الهدى والكفر
﴿ قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٣٨ ) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون( ٣٩ ) ﴾
المفردات :
الهدى : الرشد بإرسال رسول ومعه كتاب وشرائع لهداية البشر.
الخوف : ألم الإنسان مما قد يصيبه من مكروه أو حرمانه من محبوب يتمتع به أو يطلبه.
الحزن : ألم يلم به إذا فقد ما يحب.
التفسير :
كرر الله تعالى أمره بالهبوط من الجنة إلى دار الدنيا لبيان أن ذلك أمر محتوم لا محالة، وأن قبول التوبة لا يدفعه ( أو لاختلاف المقصود، فإن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف فمن اتبع الهدى نجا ومن ضل عنه هلك ) ( ٩٤ ). ( يقول تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجه وإبليس حين أهبطهم من الجنة، والمراد الذرية : أنه سينزل الكتب ويبعث الأنبياء والرسل فمن تبع هداي. أي من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل فلا خوف عليهم : أي فيما يستقبلون من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمور الدنيا( ٩٥ ) ).
( كما قال في سورة طه :﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ﴾( طه ١٢٣ ) قال ابن عباس فلا يضل ولا يشقى في الآخرة ) ( ٩٦ ).
إن رحلة الإنسان في هذه الدنيا هي اختبار وابتلاء، فقد أرسل الله إليه الرسل وأعطاه العقل والفكر وبين له سبيل الرشاد والهدى، فمن اتبع وصدق في الإيمان والإحسان فلا خوف عليهم في دنياه ولا حزن عليه في أخراه، بل هو دائم الابتهاج والسرور.
﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا ألئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾
المفردات :
والآيات : مفردها آية وهي العلامة الظاهرة، والمراد بها كل ما يدل على وجود الخالق ووحدانيته مما في الكون ومما نشاهده في الأنفس.
أصحاب النار : ملازموها فكأنهم ملكوها فصاروا أصحابها.
الخلود : الدوام.
التفسير :
وهذه الآية معطوفة على ما قبلها. فمن اتبع الهدى فله الفوز والنجاة.
ومن كفر بآيات الله وكذب بالقرآن وجحد أدلة الربوبية والألوهية وعتا واستكبر فهم ملازم النار خالدا فيها جزاء كفره وعناده.
في ختام القصة :
توحي قصة آدم بما يأتي :
١- التحذير من المعصية، فهي طريق الشر والغواية.
٢- الدعوة إلى التوبة والهداية.
٣- فضل الله الإنسان بالعلم فكلما زاد علمه كان جديرا بخلافة الأرض.
٤- المسئولية فردية فمن أخطأ استحق العقاب ومن أطاع أستحق الثواب ومن تاب تاب الله عليه.
وفي القصة دعوة الإيمان بالغيب والتسليم، وانحناء أمام قدرة الله، والإيمان بالنصوص كما وردت، وتفويض المراد منها إلى الله تعالى، يقول الأستاذ سيد قطب :
فأين الذي كان ؟ وما الجنة التي عاش فيها آدم وزوجه حينا من الزمان ؟ ومن هم الملائكة ؟ ومن هو إبليس ؟ كيف الله تعالى ؟ وكيف أجابوه ؟.
هذا وأمثاله في القرآن الكريم غيب من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وعلم بحكمته أن لا جدوى للبشر في معرفة كنهه وطبيعته، فلم يهب لهم القدرة على إدراكه والإحاطة به بالأداة التي وهبهم إياها لخلافة الأرض، وليس من مستلزمات الخلافة أن نطلع على الغيب ( ٩٧ ).
إن أبرز إيحاءات قصة آدم هو أن الإنسان سيد في هذا الأرض، ومن أجله خلق كل شيء فيها، فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي، ومن كل قيمة مادية، ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية، فهذه الماديات كلها مخلوقة من أجله، من أجل تحقيق إنسانيته. فالإنسان مخلوق ليكون خليفة الله في الأرض.
وقد رفع الإسلام من شأن الإرادة في الإنسان، فهي مناط العهد مع الله، وهي مناط التكليف والجزاء، إنه يملك الارتفاع على مقام الملائكة، بحفظ عهده مع ربه، عن طريق تحكيم إرادته وعدم الخضوع لشهواته، والاستعلاء على الغواية التي توجه إليه ( ٩٨ ). بينما يستطيع الإنسان أن يشقى الإنسان أن يشقى نفسه بتغليب الشهوة على الإرادة ونسيان عهده مع الله.
ذلك وحي قصة آدم خليفة الله في أرضه ( ومفرق الطريق في عهد آدم مع ربه، إنه إما أن يسمع ويطيع لما يتلقاه من الله وإما أن يسمع لما يمليه عليه الشيطان وليس هناك طريق ثالت.
إما الهدى وإما الضلال، إما الحق وإما الباطل، إما الفلاح وإما الخسران، وهذه الحقيقة هي التي يعبر عنها القرآن كله بوصفها الحقيقة الأولى التي تقوم عليها سائر التصورات. وسائر الأوضاع في عالم الإنسان ) ( ٩٩ ).
دعوة اليهود إلى الإيمان
﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون( ٤٠ ) وءامنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون( ٤١ ) ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ( ٤٢ ) وأقيموا الصلاة وأوتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين( ٤٣ ) ﴾.
المفردات :
إسرائيل : لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومعناه صفى الله وقيل الأمير المجاهد وبنوه أولاده وهم اليهود.
عهد الله : هو أن يعبدوا الله وحده لاشريك له، وأن يعملوا بشرائعه وأحكامه وأن يؤمنوا برسله.
عهدكم : ما عاهدتكم عليه من الثواب على الإيمان.
التفسير :
( يقول تعالى آمرا بني إسرائيل بالدخول في الإسلام ومتابعة محمد عليه الصلاة والسلام، ومهيجا لهم بذكر أبيهم إسرائيل وهو نبي الله يعقوب عليه السلام، وتقديره : يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق، كما تقول يا بن الكريم افعل كذا، يا بن الشجاع بارز الأبطال، يا بن العالم أطلب العلم ) ( ١٠٥ ).
اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم لقد أنعم الله على بني إسرائيل نعما متعددة ولكنهم قابلو هذه النعم بالجحود والكنود. قال ابن جرير : نعمه التي أنعم بها على بني إسرائيل هي :
اصطفاؤه منهم الرسل، وإنزاله عليهم الكتب واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والفقر من فرعون وقومه إلى التمكين لهم في الأرض وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المن والسلوى( ١٠٦ ).
وقد أمر الله الذرية أن تتذكر هذه النعم، وأن لا يقابلوها بالجحود حتى لا تنزل بهم نقمة الله وعقابه.
ومن ذلك قول موسى عليه السلام لهم : يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين. ( المائدة ٢٠ ).
أحدا من العالمين يعني في زمانهم ( ١٠٧ ).
وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم. والعهد هنا عهد الفطرة المعقود بين الإنسان وبارئه أن يعبده وحده لا شريك له، وهو العهد الذي يحتاج إلى البيان ولا يحتاج إلى برهان لأن فطرة الإنسان بذاتها تتجه غليه بأشواقها ولا يصدها عنه إلا الغواية والانحراف.
وقال ابن عباس : بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ( ١٠٨ )، أن تؤمنوا به وأن تنصروه( ١٠٩ ) لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، وعهده تعالى إياهم هو أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة.
وقيل العهد هنا هو عهد الله لآدم : فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٣٨ ) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( البقرة ٣٨-٣٩ ).
وهذه العهود جميعها إن هي إلا عهد واحد في صميمها، إنه العهد بين البارئ وعباده، أن يصغوا قلوبهم إليه وأن يسلموا أنفسهم كلها له، وهذا هو الذين الواحد، وهذا هو الإسلام الذي جاءت به الرسل جميعا وسار موكب الإيمان يحمله شعارا له على مدار القرون ( ١١٠ ).
ووفاء بهذا العهد يدعو الله بني إسرائيل أن يخافوه وحده وأن يفردوه بالخشية.
وإياي فارهبون ( قال ابن عباس : أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره ) ( ١١١ ).
وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول والاتعاظ بالقرآن وزواجره وامتثال أوامره وتصديق أخباره، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( ١١٢ ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:المناسبة :
هذه الآيات بداية سلسلة طويلة في بني إسرائيل وموقفهم من الدعوة الإسلامية.
( لقد احتوت الآيات السابقة بيان حالة ثلاث من الناس وهم : المؤمنون والكفار والمشركون، والمنافقون، فجاءت هذه الآيات لبيان حالة فئة أخرى وهم الكتابيون، ولما كان اليهود هم الفئة الأكبر عددا والأرسخ قدما والأوسع حيزا ونفوذا في المدينة فقد اقتضت حكمة التنزيل أن يدار الكلام عليهم ) ( ١٠٠ ).

مضمون الآيات :

لقد بدأت هذه الآيات هذه الجولة مع يهود المدينة.
فذكرت نعم الله على بني إسرائيل وحثتهم على الوفاء بعهده واتقاء غضبه، ودعت اليهود إلى الدخول في الدعوة الجديدة والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم يعرفون صدقه من كتبه فلا يصح أن يكونوا أول كافر بدعوته، ولا يصح أن يرفضوا الإيمان بمحمد طمعا في عرض قليل من أعراض الدنيا، ولا يصح أن يكتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ويمنعوا الاعتراف به مع ادعائهم الإيمان بالله، فيخلطون الحق بالباطل ويكتمون الحق عن علم ومعرفة لا عن سهو أو جهل.
ثم دعتهم الآيات إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين، دون انفراد.

جنسية يهود المدينة :

ذكر الأستاذ محمد عزة دروزة :( أن يهود المدينة إسرائيليون أصلا وطارئون على الحجاز وأنهم كانوا يتكلمون بالعبرية ويحافظون على لغة آبائهم الأصلية ويقرؤون كتبهم بها ؛ ولذلك ربط القرآن أخلاق اليهود في الحجاز بأخلاق آبائهم ومواقفهم وخطابهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض ).
ولقد ذكر ابن سعد في طبقاته ( ١٠١ ) أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسل سرية لقتل أبى رافع بن أبى الحقيق في خيبر، وقد اختير رئيسا لها عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية، أي يعرف العبرانية لغة اليهود، حيث يدل ذلك على أن اليهود كانوا ما يزالون يتكلمون فيما بينهم بلغتهم الأصلية، وبالتالي يدل على أنهم إسرائيليون.
والمتبادر من وقائع التاريخ القديم أنهم جاءوا من فلسطين في القرنين للأول والثاني بعد الميلاد، إثر الغربة الشديدة التي أنزلها بهم الرومان سنة٧٠ بعد الميلاد، والتي شتت من بقي حيا منهم في آفاق الأرض، وقد نزلوا في المدينة وأماكن أخرى في طريق يثرب ـ الشام مثل وادي القرى وخيبر وفدك ومتنا وتيماء، وقد امتلكوا الأرضين فيها واستثمروها، وأنشأوا كثيرا من بساتين النخل والعنب، بالإضافة إلى الزراعات الموسمية، واشتغلوا بالتجارة والصناعة والربا، وقد شادوا الحصون والقلاع ليكون لهم منعة في الوسط الجديد الذي حلوا فيه، والذي كان مباءة تجوال القبائل العربية، وتكلموا اللغة العربية والعادات العربية، واستطاعوا بما كان لهم من أموال ونشاط زراعي وتجاري وصناعي ومعارف دينية وغير دينية، أن يحتلوا في نفوس العرب وبيئتهم مكانة، وان يصبحوا عندهم ذوى نفوذ و تأثير، والراجح أنهم قدموا أنفسهم للعرب كأبناء عم قدماء لهم، وقالوا لهم أنتم أبناء إسماعيل ونحن أبناء إسحاق، وكلانا أبناء إبراهيم، وشهدوا لهم أن إبراهيم قد أسكن ابنه إسحاق قديما بين ظهراني آبائهم، وأن الكعبة والحجر هي مما أنشأه إبراهيم، فنالوا بذلك كله ترحيبهم وثقتهم ( ١٠٢ ).

القرآن واليهود :

والقرآن لا يعرض هنا قصة بني إسرائيل، إنما يشير إلى مواقف منها ومشاهد باختصار أو بتطويل مناسب، وقد وردت القصة في السور المكية التي نزلت قبل هذا، ولكنها هناك كانت تذكر مع غيرها لتثبيت القلة المؤمنة في مكة، بعرض تجارب الدعوة وموكب الإيمان الواصل منذ أول الخليقة، وتوجيه الجماعة المسلمة بما يناسب ظروفها في مكة، فأما هنا فالقصد هو كشف حقيقة اليهود ونواياها، وتحذير الجماعة المسلمة منها، وتحذيرها كذلك من الوقوع في مثل ما وقعت فيه قبلها يهود... وبسبب اختلاف الهدف بين القرآن المكي والقرآن المدني اختلفت طريقة العرض، وإن كانت الحقائق التي عرضت هنا وهناك عن انحراف بني إسرائيل ومعصيتهم واحدة( ١٠٣ ).
«وقصة بني إسرائيل هي أكثر القصص ورودا في القرآن الكريم، والعناية بعرض مواقفها عناية ظاهرة، توحي بحكمة الله في علاج أمر هذه الأمة المسلمة، وتربيتها وإعدادها للخلافة الكبرى» ( ١٠٤ ).

﴿ وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ﴾
المفردات :
ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا : البيع والشراء قد يطلق كل منهما مكان الآخر والمعنى لا تبيعوا آياتي بثمن قليل.
التفسير :
( يعني به القرآن الذي أنزله على النبي محمد الأمي العربي بشيرا ونذيرا وسراجا منيرا، مشتملا على الحق من الله تعالى مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل ) ( ١١٣ ).
ولا تكونوا أول كافر به ولا تكونوا يا أهل الكتاب أول الناس في الكفر به فأنتم أحق بالإيمان لأن عندكم في التوراة دليل صدقه.
وقال ابن كثير : وأما أقوله أول كافر به فيعني بعه أول من كفر به من بني إسرائيل ؛ لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير، وإنما المراد أول كافر من بني إسرائيل مباشرة ؛ فإن يهود المدينة أول من خوطبوا بالقرآن، فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر من جنسهم.
ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون : ولا تبيعوا آيات الله الواضحة الدالة على صدق محمد فيما ادعى، لا تبيعوها بثمن دنيوي من رياسة أو مال أو عادات قديمة، فإن الدنيا كلها ثمن قليل حين تقاس إلى الإيمان بآيات الله، وإلى عاقبة الإيمان في الآخرة، وقال تعالى : قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا. ( النساء ٧٧ ).
وإياي فاتقون : أي لا تتقوا غضب الله رؤسائكم ومرءوسيكم بدوامكم على الكفر ولكن إياي وحدي فاتقون : بالإيمان وإتباع الحق والإعراض عن متاع الدنيا.
روى ابن أبي حاتم عن طلق بن حبيب قال : التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء الله على نور من الله.
والتقوى : أن تترك معصية له مخافة عذاب الله على نور من الله ( ١١٤ ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:المناسبة :
هذه الآيات بداية سلسلة طويلة في بني إسرائيل وموقفهم من الدعوة الإسلامية.
( لقد احتوت الآيات السابقة بيان حالة ثلاث من الناس وهم : المؤمنون والكفار والمشركون، والمنافقون، فجاءت هذه الآيات لبيان حالة فئة أخرى وهم الكتابيون، ولما كان اليهود هم الفئة الأكبر عددا والأرسخ قدما والأوسع حيزا ونفوذا في المدينة فقد اقتضت حكمة التنزيل أن يدار الكلام عليهم ) ( ١٠٠ ).

مضمون الآيات :

لقد بدأت هذه الآيات هذه الجولة مع يهود المدينة.
فذكرت نعم الله على بني إسرائيل وحثتهم على الوفاء بعهده واتقاء غضبه، ودعت اليهود إلى الدخول في الدعوة الجديدة والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم يعرفون صدقه من كتبه فلا يصح أن يكونوا أول كافر بدعوته، ولا يصح أن يرفضوا الإيمان بمحمد طمعا في عرض قليل من أعراض الدنيا، ولا يصح أن يكتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ويمنعوا الاعتراف به مع ادعائهم الإيمان بالله، فيخلطون الحق بالباطل ويكتمون الحق عن علم ومعرفة لا عن سهو أو جهل.
ثم دعتهم الآيات إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين، دون انفراد.

جنسية يهود المدينة :

ذكر الأستاذ محمد عزة دروزة :( أن يهود المدينة إسرائيليون أصلا وطارئون على الحجاز وأنهم كانوا يتكلمون بالعبرية ويحافظون على لغة آبائهم الأصلية ويقرؤون كتبهم بها ؛ ولذلك ربط القرآن أخلاق اليهود في الحجاز بأخلاق آبائهم ومواقفهم وخطابهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض ).
ولقد ذكر ابن سعد في طبقاته ( ١٠١ ) أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسل سرية لقتل أبى رافع بن أبى الحقيق في خيبر، وقد اختير رئيسا لها عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية، أي يعرف العبرانية لغة اليهود، حيث يدل ذلك على أن اليهود كانوا ما يزالون يتكلمون فيما بينهم بلغتهم الأصلية، وبالتالي يدل على أنهم إسرائيليون.
والمتبادر من وقائع التاريخ القديم أنهم جاءوا من فلسطين في القرنين للأول والثاني بعد الميلاد، إثر الغربة الشديدة التي أنزلها بهم الرومان سنة٧٠ بعد الميلاد، والتي شتت من بقي حيا منهم في آفاق الأرض، وقد نزلوا في المدينة وأماكن أخرى في طريق يثرب ـ الشام مثل وادي القرى وخيبر وفدك ومتنا وتيماء، وقد امتلكوا الأرضين فيها واستثمروها، وأنشأوا كثيرا من بساتين النخل والعنب، بالإضافة إلى الزراعات الموسمية، واشتغلوا بالتجارة والصناعة والربا، وقد شادوا الحصون والقلاع ليكون لهم منعة في الوسط الجديد الذي حلوا فيه، والذي كان مباءة تجوال القبائل العربية، وتكلموا اللغة العربية والعادات العربية، واستطاعوا بما كان لهم من أموال ونشاط زراعي وتجاري وصناعي ومعارف دينية وغير دينية، أن يحتلوا في نفوس العرب وبيئتهم مكانة، وان يصبحوا عندهم ذوى نفوذ و تأثير، والراجح أنهم قدموا أنفسهم للعرب كأبناء عم قدماء لهم، وقالوا لهم أنتم أبناء إسماعيل ونحن أبناء إسحاق، وكلانا أبناء إبراهيم، وشهدوا لهم أن إبراهيم قد أسكن ابنه إسحاق قديما بين ظهراني آبائهم، وأن الكعبة والحجر هي مما أنشأه إبراهيم، فنالوا بذلك كله ترحيبهم وثقتهم ( ١٠٢ ).

القرآن واليهود :

والقرآن لا يعرض هنا قصة بني إسرائيل، إنما يشير إلى مواقف منها ومشاهد باختصار أو بتطويل مناسب، وقد وردت القصة في السور المكية التي نزلت قبل هذا، ولكنها هناك كانت تذكر مع غيرها لتثبيت القلة المؤمنة في مكة، بعرض تجارب الدعوة وموكب الإيمان الواصل منذ أول الخليقة، وتوجيه الجماعة المسلمة بما يناسب ظروفها في مكة، فأما هنا فالقصد هو كشف حقيقة اليهود ونواياها، وتحذير الجماعة المسلمة منها، وتحذيرها كذلك من الوقوع في مثل ما وقعت فيه قبلها يهود... وبسبب اختلاف الهدف بين القرآن المكي والقرآن المدني اختلفت طريقة العرض، وإن كانت الحقائق التي عرضت هنا وهناك عن انحراف بني إسرائيل ومعصيتهم واحدة( ١٠٣ ).
«وقصة بني إسرائيل هي أكثر القصص ورودا في القرآن الكريم، والعناية بعرض مواقفها عناية ظاهرة، توحي بحكمة الله في علاج أمر هذه الأمة المسلمة، وتربيتها وإعدادها للخلافة الكبرى» ( ١٠٤ ).

﴿ ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ﴾.
المفردات :
تلبسوا : تخلطوا.
التفسير :
ولا تخلطوا الحق الموجود في التوراة بالباطل الذي تخترعونه، ولا تكتموا وصف النبي وبشارته التي هي حق وأنتم تعلمون.
«ولقد زاول اليهود هذا التلبيس والتخليط وكتمان الحق في كل مناسبة عرضت عليهم، كما فصل القرآن في مواضع كثيرة وكانوا دائما عامل فتنة وبلبلة في المجتمع الإسلامي، وعامل اضطراب وخلخلة في الصف المسلم » ( ١١٥ ).
وأنتم تعلمون. أي والحال أنكم عالمون بالحق وليس لكم عذر بالجهل، وما أقبح صدور الذنب ممن يرتكبه وهو عالم، وقال ابن كثير : ولا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم ( ١١٦ ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:المناسبة :
هذه الآيات بداية سلسلة طويلة في بني إسرائيل وموقفهم من الدعوة الإسلامية.
( لقد احتوت الآيات السابقة بيان حالة ثلاث من الناس وهم : المؤمنون والكفار والمشركون، والمنافقون، فجاءت هذه الآيات لبيان حالة فئة أخرى وهم الكتابيون، ولما كان اليهود هم الفئة الأكبر عددا والأرسخ قدما والأوسع حيزا ونفوذا في المدينة فقد اقتضت حكمة التنزيل أن يدار الكلام عليهم ) ( ١٠٠ ).

مضمون الآيات :

لقد بدأت هذه الآيات هذه الجولة مع يهود المدينة.
فذكرت نعم الله على بني إسرائيل وحثتهم على الوفاء بعهده واتقاء غضبه، ودعت اليهود إلى الدخول في الدعوة الجديدة والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم يعرفون صدقه من كتبه فلا يصح أن يكونوا أول كافر بدعوته، ولا يصح أن يرفضوا الإيمان بمحمد طمعا في عرض قليل من أعراض الدنيا، ولا يصح أن يكتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ويمنعوا الاعتراف به مع ادعائهم الإيمان بالله، فيخلطون الحق بالباطل ويكتمون الحق عن علم ومعرفة لا عن سهو أو جهل.
ثم دعتهم الآيات إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين، دون انفراد.

جنسية يهود المدينة :

ذكر الأستاذ محمد عزة دروزة :( أن يهود المدينة إسرائيليون أصلا وطارئون على الحجاز وأنهم كانوا يتكلمون بالعبرية ويحافظون على لغة آبائهم الأصلية ويقرؤون كتبهم بها ؛ ولذلك ربط القرآن أخلاق اليهود في الحجاز بأخلاق آبائهم ومواقفهم وخطابهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض ).
ولقد ذكر ابن سعد في طبقاته ( ١٠١ ) أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسل سرية لقتل أبى رافع بن أبى الحقيق في خيبر، وقد اختير رئيسا لها عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية، أي يعرف العبرانية لغة اليهود، حيث يدل ذلك على أن اليهود كانوا ما يزالون يتكلمون فيما بينهم بلغتهم الأصلية، وبالتالي يدل على أنهم إسرائيليون.
والمتبادر من وقائع التاريخ القديم أنهم جاءوا من فلسطين في القرنين للأول والثاني بعد الميلاد، إثر الغربة الشديدة التي أنزلها بهم الرومان سنة٧٠ بعد الميلاد، والتي شتت من بقي حيا منهم في آفاق الأرض، وقد نزلوا في المدينة وأماكن أخرى في طريق يثرب ـ الشام مثل وادي القرى وخيبر وفدك ومتنا وتيماء، وقد امتلكوا الأرضين فيها واستثمروها، وأنشأوا كثيرا من بساتين النخل والعنب، بالإضافة إلى الزراعات الموسمية، واشتغلوا بالتجارة والصناعة والربا، وقد شادوا الحصون والقلاع ليكون لهم منعة في الوسط الجديد الذي حلوا فيه، والذي كان مباءة تجوال القبائل العربية، وتكلموا اللغة العربية والعادات العربية، واستطاعوا بما كان لهم من أموال ونشاط زراعي وتجاري وصناعي ومعارف دينية وغير دينية، أن يحتلوا في نفوس العرب وبيئتهم مكانة، وان يصبحوا عندهم ذوى نفوذ و تأثير، والراجح أنهم قدموا أنفسهم للعرب كأبناء عم قدماء لهم، وقالوا لهم أنتم أبناء إسماعيل ونحن أبناء إسحاق، وكلانا أبناء إبراهيم، وشهدوا لهم أن إبراهيم قد أسكن ابنه إسحاق قديما بين ظهراني آبائهم، وأن الكعبة والحجر هي مما أنشأه إبراهيم، فنالوا بذلك كله ترحيبهم وثقتهم ( ١٠٢ ).

القرآن واليهود :

والقرآن لا يعرض هنا قصة بني إسرائيل، إنما يشير إلى مواقف منها ومشاهد باختصار أو بتطويل مناسب، وقد وردت القصة في السور المكية التي نزلت قبل هذا، ولكنها هناك كانت تذكر مع غيرها لتثبيت القلة المؤمنة في مكة، بعرض تجارب الدعوة وموكب الإيمان الواصل منذ أول الخليقة، وتوجيه الجماعة المسلمة بما يناسب ظروفها في مكة، فأما هنا فالقصد هو كشف حقيقة اليهود ونواياها، وتحذير الجماعة المسلمة منها، وتحذيرها كذلك من الوقوع في مثل ما وقعت فيه قبلها يهود... وبسبب اختلاف الهدف بين القرآن المكي والقرآن المدني اختلفت طريقة العرض، وإن كانت الحقائق التي عرضت هنا وهناك عن انحراف بني إسرائيل ومعصيتهم واحدة( ١٠٣ ).
«وقصة بني إسرائيل هي أكثر القصص ورودا في القرآن الكريم، والعناية بعرض مواقفها عناية ظاهرة، توحي بحكمة الله في علاج أمر هذه الأمة المسلمة، وتربيتها وإعدادها للخلافة الكبرى» ( ١٠٤ ).

﴿ وأقيموا الصلاة وأوتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ﴾.
التفسير :
بعد أن دعا بني إسرائيل إلى الإيمان أمرهم بصالح العمل على الوجه المقبول عند الله، فطلب منهم إقامة الصلاة لتطهير نفوسهم، كما طلب إيتاء الزكاة لما فيها من التكافل والتعاون بين الأغنياء والفقراء، ثم دعاهم إلى الركوع مع الراكعين، أي أن يدخلوا في جماعة الإسلام مع المسلمين ويصلوا صلاتهم.
( وعبروا عن الصلاة بالركوع ليبعدهم عن الصلاة التي كانوا يصلونها قبلا إذ لا ركوع فيها ) ( ١١٧ ).
قال ابن جرير : هذا أمر من الله جل ثناؤه لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها بالإنابة والتوبة إليه، وبإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والدخول مع المسلمين في الإسلام، والخضوع له بالطاعة، ونهى منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بعد تظاهر حججه عليهم وبعد الاعتذار لهم والإنذار، وبعد تذكيره نعمه إليهم وإلى أسلافهم تعطفا منه بذلك عليهم، وإبلاغه إليهم في المعذرة ( ١١٨ ).
وقد قيل في قوله واركعوا مع الراكعين حث على إقامة الصلاة في جماعة لما فيها من تآلف القلوب وتظاهر النفوس في المناجاة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:المناسبة :
هذه الآيات بداية سلسلة طويلة في بني إسرائيل وموقفهم من الدعوة الإسلامية.
( لقد احتوت الآيات السابقة بيان حالة ثلاث من الناس وهم : المؤمنون والكفار والمشركون، والمنافقون، فجاءت هذه الآيات لبيان حالة فئة أخرى وهم الكتابيون، ولما كان اليهود هم الفئة الأكبر عددا والأرسخ قدما والأوسع حيزا ونفوذا في المدينة فقد اقتضت حكمة التنزيل أن يدار الكلام عليهم ) ( ١٠٠ ).

مضمون الآيات :

لقد بدأت هذه الآيات هذه الجولة مع يهود المدينة.
فذكرت نعم الله على بني إسرائيل وحثتهم على الوفاء بعهده واتقاء غضبه، ودعت اليهود إلى الدخول في الدعوة الجديدة والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم يعرفون صدقه من كتبه فلا يصح أن يكونوا أول كافر بدعوته، ولا يصح أن يرفضوا الإيمان بمحمد طمعا في عرض قليل من أعراض الدنيا، ولا يصح أن يكتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ويمنعوا الاعتراف به مع ادعائهم الإيمان بالله، فيخلطون الحق بالباطل ويكتمون الحق عن علم ومعرفة لا عن سهو أو جهل.
ثم دعتهم الآيات إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين، دون انفراد.

جنسية يهود المدينة :

ذكر الأستاذ محمد عزة دروزة :( أن يهود المدينة إسرائيليون أصلا وطارئون على الحجاز وأنهم كانوا يتكلمون بالعبرية ويحافظون على لغة آبائهم الأصلية ويقرؤون كتبهم بها ؛ ولذلك ربط القرآن أخلاق اليهود في الحجاز بأخلاق آبائهم ومواقفهم وخطابهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض ).
ولقد ذكر ابن سعد في طبقاته ( ١٠١ ) أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسل سرية لقتل أبى رافع بن أبى الحقيق في خيبر، وقد اختير رئيسا لها عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية، أي يعرف العبرانية لغة اليهود، حيث يدل ذلك على أن اليهود كانوا ما يزالون يتكلمون فيما بينهم بلغتهم الأصلية، وبالتالي يدل على أنهم إسرائيليون.
والمتبادر من وقائع التاريخ القديم أنهم جاءوا من فلسطين في القرنين للأول والثاني بعد الميلاد، إثر الغربة الشديدة التي أنزلها بهم الرومان سنة٧٠ بعد الميلاد، والتي شتت من بقي حيا منهم في آفاق الأرض، وقد نزلوا في المدينة وأماكن أخرى في طريق يثرب ـ الشام مثل وادي القرى وخيبر وفدك ومتنا وتيماء، وقد امتلكوا الأرضين فيها واستثمروها، وأنشأوا كثيرا من بساتين النخل والعنب، بالإضافة إلى الزراعات الموسمية، واشتغلوا بالتجارة والصناعة والربا، وقد شادوا الحصون والقلاع ليكون لهم منعة في الوسط الجديد الذي حلوا فيه، والذي كان مباءة تجوال القبائل العربية، وتكلموا اللغة العربية والعادات العربية، واستطاعوا بما كان لهم من أموال ونشاط زراعي وتجاري وصناعي ومعارف دينية وغير دينية، أن يحتلوا في نفوس العرب وبيئتهم مكانة، وان يصبحوا عندهم ذوى نفوذ و تأثير، والراجح أنهم قدموا أنفسهم للعرب كأبناء عم قدماء لهم، وقالوا لهم أنتم أبناء إسماعيل ونحن أبناء إسحاق، وكلانا أبناء إبراهيم، وشهدوا لهم أن إبراهيم قد أسكن ابنه إسحاق قديما بين ظهراني آبائهم، وأن الكعبة والحجر هي مما أنشأه إبراهيم، فنالوا بذلك كله ترحيبهم وثقتهم ( ١٠٢ ).

القرآن واليهود :

والقرآن لا يعرض هنا قصة بني إسرائيل، إنما يشير إلى مواقف منها ومشاهد باختصار أو بتطويل مناسب، وقد وردت القصة في السور المكية التي نزلت قبل هذا، ولكنها هناك كانت تذكر مع غيرها لتثبيت القلة المؤمنة في مكة، بعرض تجارب الدعوة وموكب الإيمان الواصل منذ أول الخليقة، وتوجيه الجماعة المسلمة بما يناسب ظروفها في مكة، فأما هنا فالقصد هو كشف حقيقة اليهود ونواياها، وتحذير الجماعة المسلمة منها، وتحذيرها كذلك من الوقوع في مثل ما وقعت فيه قبلها يهود... وبسبب اختلاف الهدف بين القرآن المكي والقرآن المدني اختلفت طريقة العرض، وإن كانت الحقائق التي عرضت هنا وهناك عن انحراف بني إسرائيل ومعصيتهم واحدة( ١٠٣ ).
«وقصة بني إسرائيل هي أكثر القصص ورودا في القرآن الكريم، والعناية بعرض مواقفها عناية ظاهرة، توحي بحكمة الله في علاج أمر هذه الأمة المسلمة، وتربيتها وإعدادها للخلافة الكبرى» ( ١٠٤ ).

موافقة الأفعال للأقوال
﴿ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون( ٤٤ ) واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين( ٤٥ ) الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون( ٤٦ ) ﴾.
المفردات :
البر : سعة الخير ومنه البر والبرية للفضاء الواسع.
التفسير :
يقول تعالى كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب وأنتم تأمرون الناس بالبر
وهو جماع الخير أن تنسوا أنفسكم فلا تأمروها بما تأمرون به الناس ( ١٢١ ).
وأنتم تتلون الكتاب تقرءون التوراة وتدرسونها أفلا تعقلون أي أفلا عقل لكم بحبسكم عن هذا السفه والعقل في الأصل : المنع والإمساك سمي به النور الروحي الذي تدرك به العلوم الضرورية والنظرية، لأنه يمسك النفس ويمنعها عن تعاطي ما يقبح، ويعقلها على ما يحسن.
«والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم ؛ له فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلف عنهم » ( ١٢٢ ).
كما قال شعيب عليه السلام : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ( هود٨٨ ).
والصحيح أن العالم بأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهي عن المنكر وإن ارتكبه، ولكن والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعمله بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم ( ١٢٣ ).
قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون( ٢ ) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( الصف ٢-٣ ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قصة الآيات :
روى عن ابن عباس وبعض التابعين وتابعيهم، ( أن اليهود قالوا لبعض أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن محمدا حق فاتبعوه ترشدوا ( ١١٩ ).
وقد كان اليهود يبشرون ببعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونزول القرآن عليه ويستفتحون بذلك على العرب قبل الإسلام أنهم سيكونون حزبه، فكيف يقابلونه بالكفر والجحود في أول عهد النبي في المدينة ( ١٢٠ ).

بشارة التوراة :

جاء في التوراة في صفة النبي ـ صلى الله عيه وسلم ـ «لأنه يقيم من إخوتهم نبيا يقيم الحق» وجاء في سفر تثنيه الاشتراع ( ١٧ ) قال لي الرب : أحسنوا فيما تكلموا ( ١٨ ) سوف أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه ( ١٩ ) ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أكون المنتقم منه».
وقد حرف اليهود هذه البشارة وأولوها بما يوافق أهواءهم.

﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ﴾
المفردات :
الصبر : حبس النفوس على ما تكره، أو هو احتمال المكروه بنوع من الرضا والاختيار والتسليم.
كبيرة : ثقيلة شديدة الوقع.
التفسير :
قال بن جرير :«استعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله، وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر المقربة من مراضي الله، العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله المستكنين لطاعته المتذللين من مخافته ( ١٢٤ ).
«والآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص وإنما الأسباب هي عامة لهم ولغيرهم » ( ١٢٥ ).
والصبر نصف الإيمان وهو اليقين الجازم بالقضاء والقدر والتسليم المطلق لإرادة الله مع الأخذ في الأسباب، أما الصلاة فهي الواحة الوارفة الظلال التي يلجأ إليها المؤمن من هجير الحياة فيناجي الله ويستمد منه العون والمدد، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة ( ١٢٦ ).
وروى ابن جرير أن ابن عباس نعى إليه أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ( ١٢٧ ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قصة الآيات :
روى عن ابن عباس وبعض التابعين وتابعيهم، ( أن اليهود قالوا لبعض أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن محمدا حق فاتبعوه ترشدوا ( ١١٩ ).
وقد كان اليهود يبشرون ببعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونزول القرآن عليه ويستفتحون بذلك على العرب قبل الإسلام أنهم سيكونون حزبه، فكيف يقابلونه بالكفر والجحود في أول عهد النبي في المدينة ( ١٢٠ ).

بشارة التوراة :

جاء في التوراة في صفة النبي ـ صلى الله عيه وسلم ـ «لأنه يقيم من إخوتهم نبيا يقيم الحق» وجاء في سفر تثنيه الاشتراع ( ١٧ ) قال لي الرب : أحسنوا فيما تكلموا ( ١٨ ) سوف أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه ( ١٩ ) ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أكون المنتقم منه».
وقد حرف اليهود هذه البشارة وأولوها بما يوافق أهواءهم.

﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ﴾
المفردات :
يظنون : يعتقدون.
لقاء الله : هو الحشر إليه.
إليه راجعون : يلقون الثواب والعقاب
التفسير :
الذين يتيقنون بلقاء الله بالبعث والرجوع إلى الله فيجازيهم على أعمالهم.
هؤلاء تسهل الصلاة عليهم فيتمون ركوعها وخشوعها ويستقبلون بها ربهم العليم بهم الذي يحسن جزاءهم ويكرم مثوبتهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قصة الآيات :
روى عن ابن عباس وبعض التابعين وتابعيهم، ( أن اليهود قالوا لبعض أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن محمدا حق فاتبعوه ترشدوا ( ١١٩ ).
وقد كان اليهود يبشرون ببعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونزول القرآن عليه ويستفتحون بذلك على العرب قبل الإسلام أنهم سيكونون حزبه، فكيف يقابلونه بالكفر والجحود في أول عهد النبي في المدينة ( ١٢٠ ).

بشارة التوراة :

جاء في التوراة في صفة النبي ـ صلى الله عيه وسلم ـ «لأنه يقيم من إخوتهم نبيا يقيم الحق» وجاء في سفر تثنيه الاشتراع ( ١٧ ) قال لي الرب : أحسنوا فيما تكلموا ( ١٨ ) سوف أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه ( ١٩ ) ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أكون المنتقم منه».
وقد حرف اليهود هذه البشارة وأولوها بما يوافق أهواءهم.

{ تذكير بالنعم
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين( ٤٧ ) واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون( ٤٨ ) }
المفردات :
وأنى فضلتكم على العالمين : أي على عالمي زمانهم.
التفسير :
يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين نادى الله بني إسرائيل مذكرا لهم بسالف نعمته على آبائهم وأسلافهم من إرسال الرسل منهم وإنزال الكتب عليهم، وتفضيل آبائهم على سائر الأمم من أهل زمانهم كما قال تعالى : ولقد اخترناهم على علم على العالمين ( الدخان ٣٢ ). وقال تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ( المائدة٢٠ ).
قال أبو العالية : في قوله تعالى : وأني فضلتكم على العالمين. قال : بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان فإن لكل زمان عالما، وروى عن مجاهد وقتادة نحو ذلك، ويجب الحمل على هذا ؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم ( ١٢٨ ) » لقوله تعالى خطابا لهذه الأمة :
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم " آل عمران ١١٠ ).
وتفضيل بني إسرائيل على العالمين موقوت بزمان استخلافهم واختيارهم وقيامهم بأمر ربهم، فأما بعد ما عتوا عن أمر ربهم، وجحدوا نعمته وتخلوا عن التزاماتهم وعهدهم، فقد غضب الله عليهم وكتب عليهم اللعنة والذلة والمسكنة، وقضى عليهم بالتشريد جزاء فسادهم وبغيهم وعدوانهم.
﴿ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ﴾.
المفردات :
الشفاعة : الشفع ضد الوتر، لأن الشفيع ينضم إلى الطالب في تحصيل ما يطلب فيصير معه شفعا بعد أن كان وترا.
العدل : الفدية، أصل العدل( بالفتح ) ما يساوي الشيء قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه ( وبالكسر )المساوي في الجنس والحجم.
التفسير :
لما ذكرهم بنعم الله أولا، عطف على ذلك التحذير من حلول نقمته بهم يوم القيامة.
في ذلك اليوم لا يغنى أحد عن أحد شيئا، فالمسؤولية فردية ولكل إنسان جزاء عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ولا يقبل من إنسان قضاء حق من الحقوق عن إنسان آخر قال تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى. ( فاطر ١٨ ). أي تحمل نفس ذنب نفس أخرى.
ولو استأذن الكافر في شفاعة شفيع فإنه لا يجاب إلى رغبته قال تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين. ( المدثر ٤٨ ) وقال سبحانه في وصف يوم القيامة : لا بيع ولا خلة ولا شفاعة ( ١٢٩ ).
ولا يؤخذ منها عدل : أي ولا يؤخذ منها فداء إن هي استطاعت أن تأتي بذلك.
ولا هم ينصرون : أي يمنعون من العذاب.
والخلاصة أن ذلك يوم تنقطع فيه الأسباب وتبطل منفعة الأنساب، وتتحول فيه سنة الحياة الدنيا من دفع المكروه عن النفس بالفداء أو بشفاعة الشافعين، عند الأمراء والسلاطين، أو بأنصار ينصرونها بالحق والباطل على سواها، وتضمحل فيه جميع الوسائل إلا ما كان من إخلاص في العمل قبل حلول الأجل، ولا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الله.
( وقد كان اليهود كغيرهم من الأمم الوثنية يقيسون أمور الآخرة على أمور الدنيا. فيتوهمون أنه يمكن تخليص المجرمين من العذاب بفداء يدفع، أو بشفاعة بعض المقربين، فيغير رأيه وينقض ما عزم عليه.
فجاء الإسلام ومحا هذه العقيدة ليعلم المؤمنون أنه لا ينفع في ذلك اليوم إلا مرضاة الله في العمل الصالح والإيمان الذي يبلغ قرارة النفس، ويتجلى في أعمال الجوارح ) ( ١٣٠ ).
قال ابن جرير : وتأويل قوله : و لا هم ينصرون يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية، بطلت هنالك المحاباة، واضمحلت الرشا والشفاعات، وارتفع من القوم التعاون والتناصر، وصار الحكم إلى عدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء.
فيجزى بالسيئة مثلها، وبالحسنة أضعافها ( البقرة ٢٥٤ )، وذلك نظير قوله تعالى :﴿ وقفوهم إنهم مسئولون( ٢٤ ) ما لكم لا تناصرون( ٢٥ ) بل هم اليوم مستسلمون ﴾ ( الصافات٢٤-٢٦ ).
الشفاعة :
جاءت في القرآن الكريم آيات تثبت الشفاعة، وآيات تنفيها ( ولا شك أن في القيامة مواطن ويومها معدود بخمسين ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زمانا للشفاعة، وبعضها هو الوقت الموعود وفيه المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد وردت آيات كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها واختلاف أوقاتها منها قوله تعالى :﴿ فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ﴾ ( المؤمنون ١٠١ ).
﴿ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ ( الصافات ٢٧، والطور٢٥ ) فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين ووقتين متغايرين أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس محلا له ( ١٣١ ).
قال الإمام محمد عبده في تفسير المنار «فما ورد في إثبات الشفاعة يكون على هذا من المتشابهات فيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم وأنها مزية يختص الله بها من يشاء يوم القيامة عبر عنها بهذه العبارات ( الشفاعة ) ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه الله جل جلاله عن المعروف من معنى الشفاعة في لسان التخاطب العرفي ».
( وأما مذهب الخلف في التأويل فلنا أن نحمل الشفاعة فيه على أنها دعاء يستجيبه الله تعالى ( ١٣٢ ) والأحاديث الواردة في الشفاعة تدل على هذا، ففي رواية الصحيحين وغيرهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم يسجد يوم القيامة ويثنى على الله عز وجل بثناء يلهمه يومئذ فيقال له :«ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع » وليس في الشفاعة بهذا المعنى أن الله سبحانه يرجع عن إرادة كان أرادها لأجل الشافع، وإنما هي إظهار كرامة للشافع بتنفيذ الإرادة الأزلية عقيب دعائه، وليس فيها إظهار ما يقوى غرور المغرورين الذين يتهاونون بأوامر الدين ونواهيه اعتمادا على شفاعة الشافعين، بل فيه أن الأمر كله لله، وأنه لا ينفع أحد في الآخرة إلا طاعته ورضاه ) ( ١٣٣ )، «فما تنفعهم شفاعة الشافعين، فما لهم عن التذكرة معرضين ؟ » ( المدثر٤٨-٤٩ ). ولا يشفعون إلا لمن ارتضى. ( الأنبياء٢٨ ).
قتل أطفال بني إسرائيل
﴿ وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم( ٤٩ ) ﴾
المفردات :
إذ : بمعنى الوقت وهي مفعول فيه لفعل ملاحظ في الكلام، وهو اذكروا، أي اذكروا وقت أن نجيناكم، والمراد من التذكير بالوقت تذكيرهم بما وقع فيه من أحداث.
نجيناكم : النجو المكان العالي من الأرض لأن من صار إليه يخلص وينجو ثم سمى كل فائز ناجيا لخروجه من الضيق إلى السعة.
الآل : من آل يئول بمعنى رجع، وآل الرجل أهله وخاصته وأتباعه لأنه يرجع إليهم في قرابة أو رأى أو مذهب. ولا يضاف إلا لذوي القدر والشأن من الناس.
فرعون : أسم لمن ملك مصر قبل البطالسة، كما يقال لملك الروم قيصر، ولملك الفرس كسرى، ولملك اليمن تبع، ولملك الحبشة النجاشي.
سامه : كلفه.
السوء : السيئ القبيح.
سوء العذاب : أشده وأفظعه.
البلاء : الاختبار والامتحان، وهو تارة يكون بما يسر ليشكر العبد به، وتارة بما يضر ليصبره، وتارة غما ليرغب ويرهب، قال تعالى :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾ ( الأنبياء٣٥ ).
التفسير :
﴿ وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾( ٤٩ ). ( ١٣٤ ).
روى المؤرخون أن أول من دخل مصر من بني إسرائيل يوسف عليه السلام، وانضم إليه إخوته فيما بعد، وتكاثر نسلهم حتى بلغوا في مدى أربعمائة سنة نحو ستة آلاف، حين خرجوا من مصر باضطهاد من فرعون وقومه لهم، إذ قد رأى تبسيط اليهود في البلاد ومزاحمتهم للمصريين فراح يستذلهم ويكلفهم شاق الأعمال في مختلف المهن والصناعات، وهم في ذلك يزدادون نسلا ويحافظون على عاداتهم وتقاليدهم لا يشركون المصريين في شيء ولا يندمجون في غمارهم، إلى ما لهم من أنانية وإباء وترفع على سواهم، اعتقادا منهم بأنهم شعب الله وأفضل خلقه، فهال المصريين ما رأوا خافوا إذ هم كثروا أن يغلبوهم على بلادهم، ويستأثروا بخيراتها وينتزعوها من بين أيدي أبنائها، فعملوا على انقراضهم بقتل ذكرانهم واستحياء بناتهم فأمر فرعون القوابل أن يقتلن كل ذكر إسرائيلي حين ولادته( ١٤٥ ).
والمعنى : اذكروا يا بني إسرائيل وقت أن نجيناكم من آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم أشق العذاب وأصعبه، ويبغونكم ما فيه إذلال لكم واستئصال لأعقابكم وامتهان لكرامتكم حيث كانوا يزهقون أرواح ذكوركم، ويستبقون نفوس نسائكم، وفي ذلك العذاب، وفي النجاة منه امتحان لكم بالسراء، ولتقلعوا عن السيئات التي تؤدى بكم إلى الإذلال في الدنيا والعذاب في الآخرة.
قال الإمام الرازي ما ملخصه :
«واعلم أن الفائدة في ذكر هذه النعمة أي نعمة إنجائهم من عدوهم تتأتى من وجوه أهمها :
١- أن هذه الأشياء التي ذكرها الله تعالى لما كانت من أعظم ما يمتحن به الناس من جهة الملوك والظلمة، صار تخليص الله عز وجل لهم من هذه المحن من أعظم النعم، وذلك لأنهم عاينوا هلاك من حاول إهلاكهم، وشاهدوا ذل من بالغ في إذلالهم، ولاشك في أن ذلك من أعظم النعم، وعظم النعمة يوجب المبالغة في الطاعة والبعد عن المعصية، لذا ذكر الله هذه النعمة العظيمة ليلزمهم الحجة وليقطع عذرهم.
٢- أنهم لما عرفوا أنهم كانوا في نهاية الذل وكان عدوهم في نهاية العز إلا أنهم كانوا محقين، وكان خصمهم مبطلا لا جرم زال ذل المحقين وبطل عز المبطلين، فكأن الله تعالى يقول لهم لا تغتروا بكثرة أموالكم ولا بقوة مراكزكم، ولا تستهينوا بالمسلمين لقلة ذات يدهم فإن الحق إلى جانبهم ومن كان الحق إلى جانبه فإن العاقبة لابد أن تكون له( ١٣٦ ).
وقد خوطب بهذه النعمة اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مع أن هذا الإنجاء كان لأسلافهم لأن في نجاة أسلافهم نجاة لهم فإنه لو استمر عذاب فرعون للآباء لأفناهم ولما بقي هؤلاء الأبناء.
فلذلك كانت منة النجاة تحمل في طياتها منَّتين، منة على السلف لتخلصهم مما كانوا فيه من عذاب، ومنة على الخلف لتمتعهم بالحياة بسببها ؛ وجعلت النجاة هنا من آل فرعون ولم تجعل من فرعون مع أنه الآمر بتعذيب بني إسرائيل، للتنبيه على أن حاشيته وبطانته كانت عونا له، في إذاقتهم سوء العذاب وإنزال الإذلال والإعنات بهم.
وجعلت هذه الآية الكريمة استحياء النساء عقوبة لليهود وهي في ظاهرها خير لأن هذا الإبقاء عليهن كان المقصود منه الاعتداء على حيائهن، واستعمالهن في الخدمة بالاسترقاق، فبقاؤهن كذلك بقاء ذليل وعذاب أليم.
قال الإمام الرازي ما ملخصه :( في ذبح الذكور دون الإناث مضرة من وجوه : أحدها : أن ذبح الأبناء يقتضي فناء الرجال، وذلك يقتضي انقطاع النسل لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن البتة في ذلك، وهذا يفضي في نهاية الأمر إلى هلاك الرجال والنساء جميعا.
ثانيها : أن هلاك الرجال يقتضي فساد مصالح النساء في أمر المعيشة ؛ فإن المرأة لتتمنى الموت إذا انقطع عنها تعهد الرجال لما قد تقع فيه من نكد العيش بالإنفراد، فصارت هذه الخطة عظيمة في المحن والنجاة في العظم منها تكون بحسبها.
ثالثها : أن قتل الولد عقب الحمل الطويل، وتحمل الكبد والرجاء القوي في الانتفاع به من أعظم العذاب، فنعمة الله في تخليصهم من هذه المحنة كبيرة.
رابعها : أن بقاء النساء بدون الذكران من أقاربهم، يؤدي إلى صيرورتهن مستفرشات الأعداء وذلك نهاية الذل والهوان ( ١٣٧ ).
وقد تكرر تذكير بني إسرائيل بنعمة نجاتهم من عدوهم في مواضع متعددة من القرآن الكريم وذلك لجلال شأنها ولحملهم على الطاعة والشكر.
قال تعالى :﴿ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾. ( الأعراف ١٤١ ).
قال سبحانه :﴿ وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون( ١٣٨ ). أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾. ( إبراهيم ٦ ).
نعم الله على بني إسرائيل
﴿ وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا ءال فرعون وأنتم تنظرون ( ٥٠ ) وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون( ٥١ ) ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون( ٥٢ ) وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون( ٥٣ ) ﴾
تمهيد تاريخي :
روى المؤرخون أن الله لما أرسل موسى إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الإيمان به ويطلب إليهم إطلاق الشعب الإسرائيلي وترك تعذيبه، زاد فرعون في تعذيبهم وسماهم الخسف وشدد عليهم النكال والتعذيب.
ويؤيد ذلك ما جاء في سفر الخروج من التوراة : أن الله تعالى أنبأ موسى بأنه سيجعل قلب فرعون قاسيا على بني إسرائيل ويزيد في النكال بهم ولا يرسلهم مع موسى حتى يريه آياته، فبعد أن دعا موسى إلى الإيمان زاد فرعون ظلما وعتوا فأمر الذين كانوا يسخرون بني إسرائيل في الأعمال الشاقة أن يزيدوا في القسوة عليهم وأن يمنعوهم التبن الذين كانوا يعطونهم إياه لعمل اللبن ( الطوب ) ويكلفونهم أن يجمعوه ويعملوا كل ما يعملونه من اللبن لا يخفف عنهم من شيء.
فأعطى موسى وأخاه هارون الآيات فحاول فرعون معارضتها بسحر السحرة فلما آمن السحرة برب العالمين رب موسى وهارون ورأى من الآيات ما رأى سمح بخروج بني إسرائيل بل طردهم طردا.
وفي سفر الخروج أنهم خرجوا في شهر أبيب بعد أن أقاموا بمصر ثلاثين وأربعمائة سنة من عهد يوسف عليه السلام، ثم أتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأنجى الله بني إسرائيل وأغرق فرعون ومن معه.
وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى عل أيديهم لترشد الناس إلى أن السنن والنواميس الكونية لا تحكم على واضعها، ومدبرها هو الحاكم المتصرف فيها، وهي أيضا سنة أخرى في الكون، يخلقها الله متى شاء على يد من يصطفيه من عباده.
المفردات :
الفرق : الفصل بين الشيئين.
البحر : هو بحر القلزم ( البحر الأحمر ) فرقه الله اثني عشر فرقة بعدد أسباط بني إسرائيل.
السبط : ولد الولد وهو من بني إسرائيل مثل القبائل لدى العرب.
التفسير :
﴿ وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ﴾.
واذكروا من نعمتنا عليكم نعمة فرق البحر بكم وانفصاله بعد اتصاله حين ضرب موسى بعصاه فجعلنا لكم فيه طرقا متعددة فولجتموها وسرتم فيها هربا من فرعون وجنده، وبذلك تمت لكم النجاة وحصل الغرق لأعدائكم وقت أن عبروا وراءكم وقد شاهدتموهم والبحر يلفهم بأمواجه مشاهدة لا لبس فيها ولا غموض. ولقد كان فيما رأيتم ما يدعو إلى الاتعاظ ويحمل على الشكر وعرفان الفضل لله العلي الكبير.
وأسند سبحانه فرق البحر إلى ذاته الكريمة ليدل على أن القوم عبروه وقطعوه بعنايته سبحانه. وقوله تعالى :﴿ فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون ﴾. بيان للمنة العظمى التي امتن بها عليهم والتي ترتبت على فرق البحر، لأن فرق البحر لهم ترتب عليه أمران :
أولهما : نجاتهم.
ثانيهما : إهلاك عدوهم، وكلاهما نعمة عظيمة.
وزعم بعض الناس أن عبور إسرائيل البحر كان وقت الجزر، وفي بحر القلزم ( البحر الأحمر ) رقارق يتيسر للإنسان أن يعبر بها البحر إذا كان الجزر شديدا، ولما أتبعهم فرعون وجنوده ورآهم عبروا البحر مشى في إثرهم وكان المد قد بدأ ولم يتم خروج بني إسرائيل إلا وقد علا المد وطغى حتى أغرق فرعون وجميع من معه، وتحققت نعمة الله على بني إسرائيل، وتم لهم التوفيق ولعدوهم الخذلان.
والأمر كما ترى معجزة إلهية، ومنة من الله على بني إسرائيل بالعديد من النعم، ويبعد أن يكون حادثة طبيعية منشؤها المد والجزر، وخاصة أن الآيات تفيد غرق فرعون وجميع من معه، ولو كان حادثة طبيعية لفر من الغرق كثير من أتباع فرعون قبل تمام المد لأن مد البحر وجزره يتم تدريجيا.
وقال تعالى :﴿ فأغرقناه ومن معه جميعا ﴾. ( الإسراء١٠٣ )
وقال سبحانه :﴿ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم ﴾ ( الذاريات ٢٠٨ )
وقد صرحت آيات أخرى بأن فرق البحر كان بسبب ضرب موسى له بالعصا.
قال تعالى :﴿ فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون( ٦١ ) قال كلا إن معي ربي سيهدين( ٦٢ ) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ( ٦٣ ) وأزلفنا ثم الآخرين( ٦٤ ) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ( ٦٥ ) ثم أغرقنا الآخرين ﴾. ( الشعراء ٦١-٦٦ )
وقد ألحق المفسرون كثيرا من الإسرائيليات بتفسير هذه الآية، والقرآن الكريم غني عن هذه الإسرائيليات التي لا تنهض على دليل من العقل أو سند من النقل.
والإسرائيليات عموما تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : ما كان موافقا لما في القرآن والسنة الصحيحة فنقبله.
الثاني : ما كان مخالفا لما جاء في القرآن والسنة الصحيحة فنرفضه.
الثالث : ما جاء بأمر جديد ليس معنا دليل على صدقه أو كذبه فنتوقف في قبوله.
وقد فسر القرطبي هذه الآية ثم كتب عدة ملحقات بها منها ما يأتي :
القول في اختلاف العلماء في كيفية إنجاء بني إسرائيل :
( فذكر الطبري أن موسى عليه السلام أوحى إليه أن يسرى من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط، وأحل الله ذلك لبني إسرائيل فسرى بهم موسى من أول الليل فعلم فرعون فقال لا يتبعهم أحد حتى يصيح الديكة فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك، وأمات الله تلك الليلة كثيرا من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الإتباع مشرقين كما قال الله تعالى : فأتبعوهم مشرقين. ( الشعراء ٦٠ ).
وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه، وكانت عدة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف وكانت عدة فرعون ألف ألف ومائتي ألف، وقيل إن فرعون اتبعه ألف ألف حصان سوى الإناث، وقيل دخل إسرائيل، وهو يعقوب عليه السلام مصر في ستة وسبعين نفسا من ولده إلى ولد ولده، فأنمى الله عددهم وبارك في ذريته حتى خرجوا إلى البحر يوم فرعون وهم ستمائة ألف من المقاتلة سوى الشيخ والذرية والنساء، وذكر أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة قال : حدثنا شبابة بن سوار عن يونس بن أبي إسحاق عن عمروا بن ميمون عن عبد الله بن مسعود أن موسى عليه السلام حينما أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون فأمر بشاة فذبحت، ثم قال : لا والله لا يفرغ من سلخها حتى تجتمع علي ستمائة ألف من القبط. قال : فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر فقال له : أفرق. فقال له البحر : لقد استكبرت ياموسى.. وهل فرقت لأحد من ولد آدم فأفرق لك.. فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر. فضربه موسى بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم. ( الشعراء ٦٣ ). فكان فيه اثنا عشر فرقا لاثنى عشر سبطا لكل سبط طريق.
فلما خرج أصحاب موسى وقام أصحاب فرعون التطم البحر عليهم فأغرقهم، ويذكر أن البحر هو بحر القلزم.
وأن الله تعالى أوحى إلى البحر أن انفرق لموسى إذا ضربك فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب موسى البحر وكناه أبا خالد ( ١٣٩ ) ذكره ابن أبي شيبة، أيضا، وقد أكثر المفسرون من القصص في هذا المعنى وما ذكرناه كاف ( ١٤٠ ).
( فصل ) ذكر الله تعالى الإنجاء والإغراق، ولم يذكر اليوم الذي كان فيه فروى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ماهذا اليوم الذي تصومونه ) فقالوا : هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( فنحن أحق وأولى بموسى منكم ). فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه. وأخرجه البخاري أيضا عن ابن عباس، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه :( أنتم أحق بموسى منهم فصوموا )( ١٤١ ).
( فضيلة ) روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ). أخرجه مسلم والترمذي، وقال : لا نعلم في شيء من الروايات أنه قال ( صيام يوم عاشوراء كفارة سنة ) إلا في حديت أبى قتادة ( ١٤٢ ).
وقوله تعالى : وأنتم تنظرون جملة في موضع الحال ومعناه بإبصاركم فيقال إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم يغرقون وإلى أنفسهم ينجون ففي هذا أعظم المنة.
قال الفخر الرازي :
اعلم أن واقعة فلق البحر تضمنت نعما كثيرة على بني إسرائيل في الدين والدنيا، أما نعم الدنيا فمن وجوه :
أولها : أنهم لما اقتربوا من البحر أصبحوا في موقف حرج لأن فرعون وجنوده من ورائهم والبحر من أمامهم، فإن هم توقفوا أدركهم عدوهم وأهلكهم وإن هم تقدموا أغرقوا فحصل لهم خوف عظيم جاءهم بعده الفرج بانفلاق البحر وهلاك عدوهم.
ثانيها : أن الله تعالى خصهم بهذه النعمة العظيمة والمعجزة الباهرة تكريما ورعاية لهم.
ثالثها : أنهم بإغراق فرعون وآله تخلصوا من العذاب وتم لهم الأمن والاطمئنان وذلك نعمة عظمى لأنهم لو نجوا دون هلاك فرعون لبقي خوفهم على حاله، فقد يعود لتعذيبهم مستقبلا لأنهم لا يأمنون شره، فلما تم الغرق تم الأمان والاطمئنان لبني إسرائيل.
وأما نعم الدين فمن وجوه :
أولها : أن قوم موسى لما شاهدوا تلك المعجزة الباهرة زالت عن قلوبهم الشكوك والشبهات لأن دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصانع الحكيم وعلى صدق موسى تقترب من العلم الضروري.
ثانيها : أنهم لما شاهدوا ذلك صار داعيا لهم على الثبات والانقياد لأوامر نبيهم.
ثالثها : أنهم عرفوا أن الأمور كلها بيد الله، فإنه لا عز في الدنيا أكمل ممن كان لفرعون، ولا ذل أشد مما كان لنبي إسرائيل، ثم إن الله تعالى في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلا، والذليل عزيزا والقوي ضعيفا والضعيف قويا، وذلك يوجب انقطاع القلب عن علائق الدنيا، ولإقبال كلية على اتباع أوامر الخالق عز وجل.
تمهيد تاريخي :
روى المؤرخون أن الله لما أرسل موسى إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الإيمان به ويطلب إليهم إطلاق الشعب الإسرائيلي وترك تعذيبه، زاد فرعون في تعذيبهم وسماهم الخسف وشدد عليهم النكال والتعذيب.
ويؤيد ذلك ما جاء في سفر الخروج من التوراة : أن الله تعالى أنبأ موسى بأنه سيجعل قلب فرعون قاسيا على بني إسرائيل ويزيد في النكال بهم ولا يرسلهم مع موسى حتى يريه آياته، فبعد أن دعا موسى إلى الإيمان زاد فرعون ظلما وعتوا فأمر الذين كانوا يسخرون بني إسرائيل في الأعمال الشاقة أن يزيدوا في القسوة عليهم وأن يمنعوهم التبن الذين كانوا يعطونهم إياه لعمل اللبن ( الطوب ) ويكلفونهم أن يجمعوه ويعملوا كل ما يعملونه من اللبن لا يخفف عنهم من شيء.
فأعطى موسى وأخاه هارون الآيات فحاول فرعون معارضتها بسحر السحرة فلما آمن السحرة برب العالمين رب موسى وهارون ورأى من الآيات ما رأى سمح بخروج بني إسرائيل بل طردهم طردا.
وفي سفر الخروج أنهم خرجوا في شهر أبيب بعد أن أقاموا بمصر ثلاثين وأربعمائة سنة من عهد يوسف عليه السلام، ثم أتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأنجى الله بني إسرائيل وأغرق فرعون ومن معه.
وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى عل أيديهم لترشد الناس إلى أن السنن والنواميس الكونية لا تحكم على واضعها، ومدبرها هو الحاكم المتصرف فيها، وهي أيضا سنة أخرى في الكون، يخلقها الله متى شاء على يد من يصطفيه من عباده.
﴿ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ﴾.
التفسير :
أي اذكروا نعمة أخرى كفرتم بها وظلمتم أنفسكم. وذلك أنهم بعد أن اجتازوا البحر سألوا موسى أن يأتيهم بكتاب من عند الله ليعملوا بأحكامه فوعده سبحانه أن يعطيه التوراة، بعد أربعين ليلة ينقطع فيها لمناجاته، وبعد انقضاء تلك الفترة وذهاب موسى لتلقي التوراة من ربه اتخذ بنو إسرائيل عجلا جسدا له خوار فعبدوه من دون الله. وأعلم الله موسى بما كان من قومه بعد فراقه لهم، فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا، وقال لهم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل إلها، وكان الأولى أن تعبدوا الله الواحد الذي أنقذكم من فرعون وأنجاكم من البحر.
وقد حذف المفعول الثاني لاتخذتم وهو إلها أو معبودا لشناعة ذكره ولعلمهم بأنهم اتخذوه إلها.
وقوله تعالى : من بعده معناه من بعد مضيه لميقات ربه إلى الطور وغيابه عنهم، وجملة وأنتم ظالمون حالية مقيدة لاتخذتم ليكون اتخاذهم العجل معبودا، مقرونا بالتعدي والظلم من بدئه إلى نهايته، وللإشعار بانقطاع عذرهم فيما فعلوا.
تمهيد تاريخي :
روى المؤرخون أن الله لما أرسل موسى إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الإيمان به ويطلب إليهم إطلاق الشعب الإسرائيلي وترك تعذيبه، زاد فرعون في تعذيبهم وسماهم الخسف وشدد عليهم النكال والتعذيب.
ويؤيد ذلك ما جاء في سفر الخروج من التوراة : أن الله تعالى أنبأ موسى بأنه سيجعل قلب فرعون قاسيا على بني إسرائيل ويزيد في النكال بهم ولا يرسلهم مع موسى حتى يريه آياته، فبعد أن دعا موسى إلى الإيمان زاد فرعون ظلما وعتوا فأمر الذين كانوا يسخرون بني إسرائيل في الأعمال الشاقة أن يزيدوا في القسوة عليهم وأن يمنعوهم التبن الذين كانوا يعطونهم إياه لعمل اللبن ( الطوب ) ويكلفونهم أن يجمعوه ويعملوا كل ما يعملونه من اللبن لا يخفف عنهم من شيء.
فأعطى موسى وأخاه هارون الآيات فحاول فرعون معارضتها بسحر السحرة فلما آمن السحرة برب العالمين رب موسى وهارون ورأى من الآيات ما رأى سمح بخروج بني إسرائيل بل طردهم طردا.
وفي سفر الخروج أنهم خرجوا في شهر أبيب بعد أن أقاموا بمصر ثلاثين وأربعمائة سنة من عهد يوسف عليه السلام، ثم أتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأنجى الله بني إسرائيل وأغرق فرعون ومن معه.
وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى عل أيديهم لترشد الناس إلى أن السنن والنواميس الكونية لا تحكم على واضعها، ومدبرها هو الحاكم المتصرف فيها، وهي أيضا سنة أخرى في الكون، يخلقها الله متى شاء على يد من يصطفيه من عباده.
﴿ ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون ﴾.
المفردات :
العفو : محو الجريمة بالتوبة.
التفسير :
أي ثم تركنا معاجلتكم بالعقوبة وأمهلناكم حتى جاءكم موسى وأخبركم بكفارة ذنوبكم ليعدكم بهذا العفو للاستمرار على الشكر فإن الإنعام يوجب الشكر على النعم.
تمهيد تاريخي :
روى المؤرخون أن الله لما أرسل موسى إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الإيمان به ويطلب إليهم إطلاق الشعب الإسرائيلي وترك تعذيبه، زاد فرعون في تعذيبهم وسماهم الخسف وشدد عليهم النكال والتعذيب.
ويؤيد ذلك ما جاء في سفر الخروج من التوراة : أن الله تعالى أنبأ موسى بأنه سيجعل قلب فرعون قاسيا على بني إسرائيل ويزيد في النكال بهم ولا يرسلهم مع موسى حتى يريه آياته، فبعد أن دعا موسى إلى الإيمان زاد فرعون ظلما وعتوا فأمر الذين كانوا يسخرون بني إسرائيل في الأعمال الشاقة أن يزيدوا في القسوة عليهم وأن يمنعوهم التبن الذين كانوا يعطونهم إياه لعمل اللبن ( الطوب ) ويكلفونهم أن يجمعوه ويعملوا كل ما يعملونه من اللبن لا يخفف عنهم من شيء.
فأعطى موسى وأخاه هارون الآيات فحاول فرعون معارضتها بسحر السحرة فلما آمن السحرة برب العالمين رب موسى وهارون ورأى من الآيات ما رأى سمح بخروج بني إسرائيل بل طردهم طردا.
وفي سفر الخروج أنهم خرجوا في شهر أبيب بعد أن أقاموا بمصر ثلاثين وأربعمائة سنة من عهد يوسف عليه السلام، ثم أتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأنجى الله بني إسرائيل وأغرق فرعون ومن معه.
وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى عل أيديهم لترشد الناس إلى أن السنن والنواميس الكونية لا تحكم على واضعها، ومدبرها هو الحاكم المتصرف فيها، وهي أيضا سنة أخرى في الكون، يخلقها الله متى شاء على يد من يصطفيه من عباده.
﴿ وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ﴾.
المفردات :
الكتاب : التوراة.
الفرقان : الآيات التي أيد الله بها موسى ودلت على صدق نبوته وبها يفرق بين الحق والباطل، والشكر يكون لمن كان فوقك بطاعته ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان إليه.
التفسير :
ومعنى الآية الكريمة : اذكروا يا بني إسرائيل نعمة إعطاء نبيكم موسى عليه السلام التوراة وفيها الشرائع والأحكام لكي تهتدوا بها إلى طريق الفلاح والرشاد في الدنيا، والفوز والسعادة في الآخرة.
فالمراد بالكتاب التوراة التي أوتيها موسى عليه السلام، فأل للعهد، والفرقان هو ما يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال، وقد يطلق لفظ الفرقان على الكتاب السماوي المنزل من عند الله كما في قوله تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ( الفرقان ١ ).
كما يطلق على المعجزة في قوله : لقد آتينا موسى وهارون الفرقان. ( الأنبياء ٤٨ ). أي المعجزات ؛ لأن هارون لم يؤت وحيا، والمراد بالفرقان في الآية التي نفسرها ويكون المراد بالعطف التفسير.
قال ابن جرير الطبري :( وأولى الأقوال بتأويل الآية ما روى عن ابن عباس وأبى العالية ومجاهد، من أن الفرقان الذي ذكر الله تعالى أنه آتاه موسى في هذا الموضع هو الكتاب الذي فرق به بين الحق والباطل، وهو نعت للتوراة وصفة لها، فيكون الكتاب نعتا أقيم مقامها استغناء به عن ذكر التوراة، ثم عطف عليه الفرقان إذ كان من نعتها. وقوله تعالى : لعلكم تهتدون بيان لثمرة المنة بإيتاء التوراة لأن إتيان موسى الكتاب والفرقان المقصود منه هدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
ولكن بني إسرائيل قابلوا هذه النعمة بالجحود فامتدت أيديهم إلى التوراة فحرفوها، كما شاءت لهم أهواؤهم وشهواتهم.
عبادة العجل
( وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم( ٥٤ ) وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون( ٥٥ ) ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون( ٥٦ ) وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون( ٥٧ )(
المفردات :
اتخاذكم العجل : أي عبادتكم العجل. فالمفعول الثاني محذوف تقديره : اتخاذكم العجل إلها أو معبودا.
برأه : ذرأه وأوجده.
تمهــــيد :
ذكر الله من الآيات السابقة أنواعا من النعم التي آتاها لبني إسرائيل، وفي هذه الآيات بين بلادة حسهم ومقابلتهم نعم الله عليهم بالجحود والكنود.
فقد اتخذوا العجل إلها، ثم طلبوا من موسى أن يريهم الله عيانا حتى يؤمنوا به فأخذتهم الصاعقة وهم يرون ذلك رأى العين، ثم أتبع ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما، أولهما تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة، وإنزال المن والسلوى عليهم مدة أربعين سنة.
التفسير :
٥٤- وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم واذكروا يا بني إسرائيل لتنتفعوا وتعتبروا وقت أن قال موسى لقومه الذين عبدوا العجل حين كان يناجي ربه بعيدا عنهم، يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم وهبطتم بها إلى الحضيض بعبادتكم العجل، فإذا أردتم التكفير عن خطاياكم فتوبوا إلى بارئكم صادقة نصوحا، واقتلوا أنفسكم لتنالوا عفو ربكم فذلكم خير لكم عند خالقكم من الإقامة على المعصية.
ففعلتم ما أمركم به موسى فقبل الله توبتكم وتجاوز عن سيئاتكم إنه هو التواب الرحيم بأنه هو قابل التوبة واسع الرحمة.
«وقصة القتل مذكورة في التوراة التي يتدارسها اليهود إلى اليوم ففيها دعا موسى : من للرب فإلي، فأجابه بنو لاوى، فأمرهم أن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضا ففعلوه، فقتل في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل. والعبرة من القصة لا تتوقف على عدد معين فلنمسك عنه مادام القرآن يتعرض له » ( ١٤٣ ).
قال صاحب الكشاف :
«حمل قوله فاقتلوا أنفسكم على الظاهر وهو البخع( ١٤٤ ). وقيل معناه قتل بغضهم بعضا، وقيل أمر من لم يعبد العجل أن يقتلوا العبدة، وروى أن الرجل كان يبصر ولده ووالديه وجاره وقريبه فلم يمكنهم المضي لأمر الله، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم، وقيل لهم اصبروا فلعن الله من مد طرفه أو حل حبوته أو اتقى بيد أو رجل فيقولون آمين، فقتلوهم إلى المساء حتى دعا موسى وهارون وقالا : يارب هلكت بنو إسرائيل البقية الباقية، فكشفت السحابة ونزلت التوبة، فسقطت الشفار ( ١٤٥ ) من أيديهم وكان القتلى سبعين ألفا ( ١٤٦ ).
وفي الدر المنثور : قال قوم موسى له : ما توبتنا ؟ قال : يقتل بعضكم بعضا. فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه، والله لا يبالي من قتل حتى قتل سبعون ألفا، فأوحى الله إلى موسى مرهم فليعرفوا أيديهم وقد غفر لمن قتل وتيب على من بقي.
وهذه الآية الكريمة قد تضمنت نعمة كبرى على بني إسرائيل فإن الله تعالى لطف بهم ورحمهم وقبل توبتهم، وعفا عن قتلهم أنفسهم، بعد أن صدر منهم ما يدل على صدقهم في توبتهم، كما تضمنت أيضا تذكير بني إسرائيل المعاصرين للعهد النبوي بنعم الله عليهم، لأنه لولا عفوه سبحانه عن آبائهم لما وجدوا هم، وفيها كذلك إشارة إلى سماحة الشريعة التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم وإغراء لليهود المعاصرين له بالدخول في الإسلام ؛ لأنه إذا كان آباؤهم لم يقبل توبتهم إلا بقتلهم أنفسهم، فإن شريعة الإسلام تقول لهم : لقد جاءكم النبي الذي رفع عنكم إصركم والأغلال التي كانت على أسلافكم، فآمنوا به واتبعوه لعلكم ترحمون.
تمهــــيد :
ذكر الله من الآيات السابقة أنواعا من النعم التي آتاها لبني إسرائيل، وفي هذه الآيات بين بلادة حسهم ومقابلتهم نعم الله عليهم بالجحود والكنود.
فقد اتخذوا العجل إلها، ثم طلبوا من موسى أن يريهم الله عيانا حتى يؤمنوا به فأخذتهم الصاعقة وهم يرون ذلك رأى العين، ثم أتبع ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما، أولهما تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة، وإنزال المن والسلوى عليهم مدة أربعين سنة.
المفردات :
الصاعقة : نار محرقة تنزل من السماء، ومن أسباب الصواعق اتحاد كهربية السحاب المختلفة النوع بموجبها أو اتحادها مع كهربية الأرض السالبة.
التفسير :
وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. يرى جمهور المفسرين أن القائلين لموسى أرنا الله جهرة هم السبعون الذين اختارهم موسى للذهاب معه إلى ميقات ربه وقد وردت آثار في تفسير ابن جرير الطبري وابن كثير. وقيل إن الذين طلبوا من موسى رِؤية الله جهرة هم عامة بني إسرائيل بدون تحديد لهؤلاء السبعين ( ١٤٧ ).
ومعنى الآية : واذكروا يا بني إسرائيل وقت أن تجاوزتم حدودكم وتعنتم في الطلب فقلتم لنبيكم موسى بجفاء وغلظة : لن نؤمن لك ولن نصدقك في قولك إن هذا كتاب الله حتى نرى الله عيانا لا ساتر بيننا وبينه، فيكون كالجهر في الوضوح. فأخذتكم العقوبة التي صعقتكم بسبب جهلكم وتطاولكم وأنتم تشاهدونها بعيونكم.
قال بن جرير :
الصاعقة كل أمر هائل رآه الرائي أو عاينه أو أصابه، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل صوتا كان ذلك أو نارا أو زلزلة أو رجفة، ومما يدل على أن الشخص قد يكون مصعوقا وهو حي غير ميت، قوله تعالى : وخر موسى صعقا ( الأعراف ١٤٣ ) لأن الله أخبر عنه أنه لما أفاق قال : سبحانك تبت إليك ( الأعراف١٤٣ ) وفي التوراة :( إن طائفة من بني إسرائيل قالوا : لماذا اختص موسى وهارون بكلام الله من دوننا، وشارع ذلك في بني إسرائيل وقالوا لموسى بعد موت هارون : إن نعمة الله على شعب إسرائيل لأجل إبراهيم وإسحاق فتعم الشعب جميعه، وأنت لست أفضل منه فلا يحق لك أن تسودنا بلا مزية، وإنا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذهم إلى خيمة العهد فانشقت الأرض وابتلعت طائفة منهم وجاءت نار من الجانب الآخر فأخذت الباقين ) ١٤٨ ). وهكذا كان بنو إسرائيل يتمردون ويعاندون وسوط العذاب يصب عليهم صبا جزاء كفرهم وعنادهم.
قال الإمام ابن جرير :
ذكرهم الله تعالى بذلك اختلاف آبائهم وسوء استقامة أسلافهم مع أنبيائهم مع كثرة معاينتهم من آيات الله وعبرة ما تثلج بأقلها الصدور، وتطمئن بالتصديق معها النفوس. وذلك مع تتابع الحجج عليهم وسبوغ النعم من الله لديهم، وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله، ومرة يعبدون العجل من دون الله، ومرة يقولون : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. ( البقرة ٥٥ ) وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ( المائدة ٢٤ ). ومرة يقال لهم : وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم. ( الأعراف ١٦١ ) فيقولون حنطة في شعيرة، ويدخلون الباب من قبل أستاهم، مع غير ذلك من أفعالهم التي آذوا بها نبيهم التي يكثر إحصاؤها ) ( ١٤٩ ).
تمهــــيد :
ذكر الله من الآيات السابقة أنواعا من النعم التي آتاها لبني إسرائيل، وفي هذه الآيات بين بلادة حسهم ومقابلتهم نعم الله عليهم بالجحود والكنود.
فقد اتخذوا العجل إلها، ثم طلبوا من موسى أن يريهم الله عيانا حتى يؤمنوا به فأخذتهم الصاعقة وهم يرون ذلك رأى العين، ثم أتبع ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما، أولهما تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة، وإنزال المن والسلوى عليهم مدة أربعين سنة.
المفردات :
بعثناكم : أكثرنا نسلكم.
التفسيرك
ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون : يرى بعض المفسرون أن الله أحياهم بعد أن وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم، وكانت تلك الموتة لهم كالسكتة القلبية لغيرهم، ويرى آخرون أن المراد بالبعث كثرة النسل، أي أنه بعد أن وقع فيهم الموت بشتى الأسباب وظن أنهم سينقرضون، بارك الله في نسلهم ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحق الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حل بهم العذاب بكفرهم لها.
تمهــــيد :
ذكر الله من الآيات السابقة أنواعا من النعم التي آتاها لبني إسرائيل، وفي هذه الآيات بين بلادة حسهم ومقابلتهم نعم الله عليهم بالجحود والكنود.
فقد اتخذوا العجل إلها، ثم طلبوا من موسى أن يريهم الله عيانا حتى يؤمنوا به فأخذتهم الصاعقة وهم يرون ذلك رأى العين، ثم أتبع ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما، أولهما تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة، وإنزال المن والسلوى عليهم مدة أربعين سنة.
المفردات :
المن : مادة حلوة لزجة تشبه العسل تقع في الحجر وورق الشجر وتنزل سائلة كالندى ثم تجمد وتجف فيجمعها الناس.
السلوى : السماني ( السمان ) الطائر المعروف.
التفسير :
وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. تذكر هذه الآية بني إسرائيل بنعمة من أجل النعم عليهم وهي تظليلهم بالغمام في التيه بين مصر والشام وإنزال المن والسلوى عليهم، ولكن بني إسرائيل لم يشكروا الله على نعمه ؛ ولذا أرسل عليهم رجزا من السماء بسبب ظلمهم وفسقهم. وفي تفسير القمي ( أن إسرائيل لما عبر موسى بهم البحر نزلوا في مفازة فقالوا : يا موسى أهلكتنا وقتلتنا وأخرجتنا من العمران إلى مفازة لا ظل، ولا شجر، ولا ماء، وكانت تجيء بالنهار غمامة تظلهم من الشمس وينزل عليهم بالليل المن فيقع على النبات والشجر والحجر فيأكلونه وبالعشي يأتيهم طائر مشوي يقع على موائدهم فإذا أكلوا وشربوا طار ومر، وكان مع موسى حجر يضعه وسط العسكر ثم يضربه بعصاه فتنفجر منه اثنتا عشر عينا كما حكى الله فيذهب إلى كل سبط في رحله وكانوا ثنى عشر سبطا ( ١٥٠ ).
وفي تفسير ابن كثير رواية عن السدى تفيد ما ورد في تفسير القمى ( ١٥١ ).
ومعنى الآية الكريمة : واذكروا يا بني إسرائيل من بين نعمي عليكم إظلالكم بالغمام وأنتم في التيه ليقيكم حر الشمس وحرارة الجو، ولولا منحى إياكم الطعام اللذيذ المشتهى بدون تعب منكم في تحصيله لهلكتم، وقلنا لكم كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الذي رزقكم هذه النعم، ولكنكم كفرتم بها، فظلمتم أنفسكم دون أن ينالنا من ذلك شيء لأن الخلق جميعا لن يبلغوا ضرى فيضروني ولن يبلغوا نفعي فينفعوني.
وقوله تعالى : وما ظلمونا معطوف على محذوف، أي رفضوا ولم يقابلوا النعم بالشكر. ويرى البعض أنه لا حاجة إلى التقدير وأن جملة : وما ظلمونا معطوفة على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بني إسرائيل( ١٥٢ ).
قال الإمام ابن جرير في تفسير قوله تعالى : وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون هذا من الذي استغنى بدلالة ظاهره على ما ترك منه، وذلك أن معنى الكلام : كلوا من طيبات ما رزقناكم فخالفوا ما أمرناهم به، وعصوا ربهم، ثم رسولنا إليهم، وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها، فإن الله تعالى لا تضره معصية عاص ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم، ولا تنفعه طاعة مطيع، ولا يزيد في ملكه عدل عادل، بل نفسه يظلم الظالم وحظها يبخس العاصي، وإياها ينفع المطيع، وحظها يصيب العادل ( ١٥٣ ).
تبديل القول
( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ( ٥٨ ) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ( ٥٩ ) (
المفردات :
القرية : لغة مجتمع الناس ومسكن النمل، ثم غلب استعمالها في البلاد الصغيرة، وليس ذلك المراد هنا بل المراد المدينة الكبيرة ؛ لأن الرغد لا يتسنى إلا فيها.
الرغد : الهنىء ذو السعة.
والباب : هو أحد أبواب بيت المقدس ويدعى الآن ( باب حطة )
وسجدا : أي ناكسي الرؤوس.
والمحسن : من فعل ما يجمل في نظر العقل ويحمد في لسان الشرع.
تمهـــيد :
ذكر سبحانه في هاتين الآيتين بعض ما اجترحوه من السيئات، فقد أمرهم الله أن يدخلوا قرية من القرى خاشعين لله فعصى بعضهم وخالف أمر ربه، فأنزل عليهم عذابا من السماء جزاء ما ارتكبوه من المعاصي واقترفوه من الآثام.
التفسير :
اذكروا يا بني إسرائيل لتتعظوا وتعتبروا وقت أن أمرنا أسلافكم بدخول بيت المقدس بعد خروجهم من التيه. وأبحنا لهم أن يأكلوا من خيرات هذه البلدة أكلا هنيئا ذا سعة، وقلنا لهم : ادخلوا من بابها راكعين شكرا لله على ما أنعم به عليكم من نعمة فتح الأرض المقدسة متوسلين إليه سبحانه بأن يحط عنكم ذنوبكم، فإن فعلتم ذلك العمل اليسير وقلتم هذا القول القليل غفرنا لكم ذنوبكم وكفرنا عنكم سيئاتكم، وزدنا المحسن منكم خيرا جزاء إحسانه، ولكنهم جحدوا نعم الله وخالفوا أوامره، فبدلوا بالقول الذي أمرهم الله به قولا آخر أتوا به من عند أنفسهم على وجه العناد والاستهزاء فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون.
وقوله تعالى : فكلوا من حيث شئتم رغدا فيه إشعار بكمال النعمة عليهم واتساعها وكثرتها حيث أذن لهم في التمتع بثمرات القرية وأطعمتها من أي مكان شاءوا.
وقوله تعالى : وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة. إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم نحو خالقهم من الشكر والخضوع، وتوجيههم إلى ما يعنيهم على بلوغ غايتهم، بأيسر الطرق وأسهل السبل، فكل ما كلفوا به أن يدخلوا من باب المدينة التي فتحها الله لهم خاضعين مخبتين، وأن يضرعوا إليه بأن يحط عنهم آثامهم ويمحو سيئاتهم.
وقوله تعالى : نغفر لكم. بيان للثمرة التي تترتب على طاعتهم لله.
قال الإمام ابن جرير : نغفر لكم خطاياكم. أي نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها، وأصل الغفر التغطية والستر، فكل ساتر شيئا فهو غافر، والخطايا جمع خطية بغير همز كالمطايا جمع مطية( ١٥٤ ).
وسنزيد المحسنين أي وسنزيد المحسنين ثوابا من فضلنا، وقد أمرهم بشيئين : عمل يسير وقول صغير، ووعدهم بغفران السيئات وزيادة الحسنات.
وقد أمرهم سبحانه أن يدخلوا باب المدينة التي فتحوها خاضعين وأن يلتمسوا منه مغفرة خطاياهم، ولأن تغلبهم على أعدائهم، ودخولهم الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم نعمة من أجل النعم وهي تستدعي منهم أن يشكروا الله بالقول والفعل، لكي يزيدهم من فضله، فشأن الأخيار أن يقابلوا نعم الله بالشكر.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر أقصى درجات الخضوع لله تعالى عند النصر والظفر وبلوغ المطلوب.
فعندما تم له فتح مكة دخلها على راحلته حتى أوشك أن يسجد عليها وهو يقول : " تائبون آيبون حامدون لربنا شاكرون " ( ١٥٥ ).
ولكن ماذا كان من بني إسرائيل عند دخول بيت المقدس ؟ بل إنهم لم يفعلوا ما أمروا به، ولم يقولوا ماكلفوا بقوله، بل خالفوا ما أمروا به من قول وفعل ولذا قال تعالى :﴿ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم... ﴾
المفردات :
فبدل.. قولا غير الذي قيل : أي جاء بذلك القول مكان القول الأول.
والرجز : العذاب.
التفسير :
فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم.
أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فال :( قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فبدلوا ودخلوا يزحفون على أستاهم وقالوا حبة في شعيرة )( ١٥٦ ).
وقال الإمام ابن كثير ( وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل، فأمروا أن يقولوا حطة، أي احطط عنا ذنوبنا وخطايانا فاستهزؤوا وقالوا حنطة في شعيرة، وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ؛ ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وخروجهم عن طاعته ) ( ١٥٧ ).
والفعل ( بدل ) يقتضي بدلا ومبدلا منه، إلا أن مقام الإيجاز في الآية استدعى الاكتفاء بذكر البدل دون ذكر المبدل منه. والتقدير فاختار الذين ظلموا بالقول الذي أمرهم الله به قولا آخر اخترعوه من عند أنفسهم على وجه المخالفة والعصيان.
وقوله تعالى : فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون. والرجز في لغة العرب هو العذاب سواء أكان بالأمراض المختلفة أم بغيرها.
ولم يعين الكتاب هذا الرجز فنتركه مبهما، وإن كان كثير من المفسرين قالوا إنه الطاعون، وقد ابتلى الله بني إسرائيل بضروب من النقم عقب كل نوع من أنواع الفسوق والظلم، فأصيبوا بالطاعون كثيرا وسلط عليهم أعداؤهم، وقوله بما كانوا يفسقون أي بسبب تكرار فسقهم وعصيانهم ومخالفتهم أوامر دينهم.
الاستسقاء
( وإذا استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٦٠ ) (
المفردات :
استسقى : طلب السقيا عند عدم الماء أو قلته، قال أبوا طالب يمدح النبي صلى الله عيه وسلم.
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
والانفجار، والانبجاس. والسكب بمعنى.
والمشرب : مكان الشرب
ولا تعثوا في الأرض : لا تعتدوا حال كونكم مفسدين.
تمهيد :
ذكر الله سبحانه في هذه الآية نعمة أخرى آتاها بني إسرائيل فكفروا بها، ذلك أنهم حين خرجوا من مصر إلى التيه أصابهم ظمأ من لفح الشمس فاستغاثوا بموسى فدعا ربه أن يستقيم فأجاب دعوته. وقد كان من أدب بني إسرائيل أن يعودوا باللوم على موسى إذا أصابهم الضيق ويمنون عليه بالخروج معه من مصر، ويصارحونه بالندم على ما فعلوا، فقد روى أنهم قالوا : من لنا بحر الشمس ؟ فظلل عليهم الغمام. وقالوا : من لنا بالطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن والسلوى. وقالوا : من لنا بالماء ؟ فأمر موسى بضرب الحجر.
التفسير :
٦٠- وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين. واذكروا يا بني إسرائيل وقت أن أصاب آباءكم العطش وهم في صحراء مجدبة فطلب موسى لهم السقيا من الله تعالى فأجابه الله إلى ما طلب فأوحينا إليه أن أضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشر عينا بمقدار عدد الأسباط. وصار لكل سبط منهم مشرب يعرفه ولا يتعداه إلى غيره، وقلنا لهم : تمتعوا بما من الله به عليكم من المن والسلوى، واشربوا بما فجرنا لكم من الحجر الصلب من غير تعب منكم ولا مشقة.
ولا تنشروا فسادكم في الأرض فتتحول النعم التي بين أيديكم إلى نقم وتصبحوا على ما فعلتم نادمين.
وقد جاء هذا النهي عقب الإنعام عليهم بطيب الأكل والمشرب خيفة أن ينشأ الفساد فيهم بزيادة النعم عليهم، ولئلا يقابلوا النعم بالكفران.
قال تعالى : كلا إن الإنسان ليطغى*أن رآه استغنى. ( ٦، ٧ ).
والحجر الذي ضربه موسى لم يكن حجرا معينا بل أي حجر من أحجار الصحراء، وأل في الحجر لتعريف الجنس أي اضرب أي حجر شئت بدون تعيين، وقيل للعهد، ويكون المراد حجرا معينا معروفا لموسى عليه السلام بوحي من الله تعالى.
وقد أورد المفسرون في وصف هذا الحجر آثارا حكم المحققون بضعفها.
( قال الحسن : لم يكن حجرا معينا بل أي حجر ضربه انفجر منه الماء، وهذا أظهر في حجة موسى عليه السلام وأدل على قدرة الله، وقد سماه في سفر الخروج الصخرة ) ( ١٥٨ ).
والفاء في قوله تعالى : فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. للعطف على محذوف تقديره : ضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وقد حذفت هذه الجملة المقدرة لوضوح المعنى.
وكانت العيون اثنتي عشرة عينا، لأن بني إسرائيل كانوا اثني عشر سبطا، والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وهم ذرية أبناء يعقوب عليه السلام الاثنى عشر، ففي انفجار الماء من اثنتي عشرة عينا إكمال للنعمة عليهم حتى لا يقع بينهم تنازع وتشاجر.
وقوله تعالى : كلوا واشربوا من رزق الله. مقول لقول محذوف تقديره وقلنا لهم : كلوا واشربوا من رزق الله. مقول لقول محذوف تقديره وقلنا لهم : كلوا واشربوا من رزق الله.
وبذلك تكون الآية الكريمة، قد ذكرت بني إسرائيل بنعمة جليلة ونصحتهم بأن يشكروا الله وحذرتهم من الفساد والجحود.
غضب الله عليهم
( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وبآءو بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون( ٦١ ) (
المفردات :
الصبر : حبس النفس وكفها عن الشيء.
الطعام : ما رزقوه في التيه من المن والسلوى.
البقل : ما تنبته الأرض من الخضر مما يأكله الناس والأنعام من نحو النعناع والكراث وغيرهما.
الفوم : الحنطة وقال جماعة منهم الكسائي إنه الثوم.
القثاء : نوع من المأكولات أكبر حجما من الخيار، وتسميه العامة القتة.
والاستبدال : طلب شيء بدل من آخر، وأصل الأدنى الأقرب ثم استعمل للأخس الدون.
الهبوط : الانحدار والنزول.
المصر : البلد العظيم.
ضربت عليهم : أي أحاطت بهم كما تحيط القبة بمن ضربت عليه أو ألصقت به.
الذلة : الذل والهوان.
المسكنة : الفقر، وسمى الفقير مسكينا لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة.
تمهيد :
ذكر في هذه الآية حرما آخر من جرائم أسلافهم التي تدل على كفرانهم بأنعم الله وترشد إلى أنهم دأبوا على إعنات موسى وأنهم أكثروا من الطلب فيما يستطاع وما لا يستطاع حتى ييأس منهم ويرتد بهم إلى مصر حيث ألفوا الذلة.
وقد بلغ من إعناتهم لموسى أن قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. ( البقرة : ٥٥ ) وأن قالوا : لن نصبر على طعام واحد. وهم يريدون بذلك أنه لا أمل لك من بقائنا معك على هذه الحال من التزام طعام واحد، وربما لم يمن صدر منهم هذا القول عن سأم وكراهية لوحدة الطعام، بل صدر عن بطر وطلب للخلاص مما يخشون.
التفسير :
واذكروا يا بني إسرائيل بعد أن أسبغنا عليكم نعمنا ما كان من سوء اختيار أسلافهم وفساد أذواقهم، وإعانتهم لنبيهم موسى عليه السلام حيث قالوا له ببطر وسوء أدب : لن نصبر على طعام المن والسلوى في كل وقت، فسل ربك أن يخرج لنا مما تنتبه الأرض من خضرها وفاكهتها وحنطتها وعدسها وبصلها، لأن نفوسنا قد عافت المن والسلوى، فوبخهم نبيهم موسى عليه السلام وقال : أتختارون الذي هو أقل فائدة وأدنى لذة وتتركون المن والسلوى وهو خير مما تطلبون.
انزلوا إلى أي مصر من الأمصار فإنكم تجدون فيه ما طلبتموه من البقول وأشباهها. وأحاطت بني إسرائيل المهانة والاستكانة كما تحيط القبة بمن ضربت عليه، وحق عليهم غضب الله، بسبب كفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وتكرار العصيان والعدوان منهم.
ملحقات التفسير :
١- في الآية ما يشعر بسوء أدبهم في مخاطبتهم لنبيه موسى ليه السلام، إذ عبروا عن عدم رغبتهم في تناول المن السلوى بحرف لن. المفيد لتأكد النفي فقالوا لن نصبر.
قال الحسن البصري :( بطروا طعم المن والسلوى فلم يصبروا عليه، واذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوما أهل أعداس وبصل وبقل وثوم ) ( ١٥٩ ).
٢- وصفوا الطعام بالوحدة مع أن المن والسلوى نوعان، لأنهم أرادوا من الوحدة أنه طعام متكرر في كل يوم لا يختلف بحسب الأوقات. والعرب تقول لمن يجعل على مائدته في كل يوم أنواعا من الطعام لا تتغير إنه يأكل من طعام واحد «أو ضرب واحد لأنهما طعام أهل التلذذ، وهم كانوا أهللا فلاحة فنزعوا إلى عادتهم واشتهوا ما ألفوه ». ( ١٦٠ ).
٣- جملة : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير. من مقول موسى عليه السلام لهم، وفيها توبيخ شديد لهم على سوء اختيارهم وضعف عقولهم لإيثارهم الأدنى وهو البقل وما عطف عليه خير منه وهو المن والسلوى.
قال الطبري :( أي قال لهم موسى : أتأخذون الذي هو أخس خطرا وقيمة وقدرا من العيش، بدلا بالذي منه خطرا وقيمة وقدرا، وذلك كان استبدالهم ) ( ١٦١ ).
٤- قوله تعالى : اهبطوا مصر.
قال البيضاوي : أي انحدروا إليه من التيه. يقال هبط الوادي إذا نزل وهبط منه إذا خرج منه.
وقال ابن كثير : مصرا. هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية وهو قراءة الجمهور بالصرف. ( ١٦٢ ).
وقال الطبري :( فأما القراءة بالألف والتنوين «اهبطوا مصر » ) وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها، لاجتماع مصاحف المسلمين واتفاق قراءة القراء على ذلك ( ١٦٣ ).
وقال أبو حيان في البحر المحيط :( قرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان بن تغلب ( مصر ) بغير تنوين، وقد وردت كذلك في مصحف أبى ابن كعب وعبد الله ابن مسعود، وبعض مصاحف عثمان رضي الله عنه ( ١٦٤ ).
والمعنى على القراءة الأولى : اهبطوا مصر من الأمصار لأنكم في البدو، والذي طلبتم لا يكون فيه البوادي والفيافي، وإما أن يكون في القرى والأمصار، فإن لكم إذا هبطتموه ما سألتم من العيش.
والمعنى على القراءة الثانية : اتركوا المكان الذي انتم فيه واهبطوا مصر التي كنتم تسامون فيها سوء العذاب فإنكم تجدون فيها ما تبتغون، لأنكم قوم لا تقدرون نعمة الحرية ولا ترتاحون للفضائل النفسية، بل شأنكم دائما أن تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
٥- قوله تعالى : وضربت عليهم الذلة والمسكنة. الفرق بين الذلة والمسكنة : أن الذلة هوان تجيء أسبابه من الخارج كأن يغلب المرء على أمره نتيجة انتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو، أما المسكنة فهي هوان ينشأ داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق واستيلاء المطامع والشهوات عليها، وتوارث الذلة قرونا طويلة يورث هذه المسكنة ويجعلها كالطبيعة الثابتة في الشخص المستذل.
٦- قوله تعالى : وباءوا بغضب من الله. أي رجعوا منصرفين متحملين غضب الله، وقد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم منه سخط ( ١٦٥ ).
ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.
ذلك. إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب.
والجملة الكريمة استئناف بياني جواب عن سؤال تقديره : لم فعل بهم كل ذلك ؟ فكان الجواب فعلنا بهم ذلك بسبب كفرهم بآيات الله وبالمعجزات التي من جملتها ما عد عليهم من فلق البحر وإظلال الغمام وإنزال المن والسلوى وانفجار العيون من الحجر، أو بالكتب المنزلة كالإنجيل والفرقان( ١٦٦ ).
ويقتلون النبيين. فإنهم قتلوا أشعياء وزكرياء ويحيى وغيرهم. بغير الحق. إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى وحب الدنيا.
ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، أي جرهم العصيان والاعتداء والتمادي فيه إلى الكفر بالآيات وقتل النبيين، فإن صغار الذنوب سبب يؤدي إلى ارتكاب كبارها ؛ كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها.
وقيل : كرر الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما هو سبب الكفر والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم على حدود الله تعالى. وقيل : الإشارة إلى الكفر والقتل والباء بمعنى مع ( ١٦٧ ).
الإيمان
( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٦٢ ) (
المفردات :
آمنوا : صدقوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
هادوا : صاروا يهودا يقال هاد يهود إذا دخل في اليهودية، ويهود إما عربي من هاد إذا تاب، سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل، وإما معرب يهوذا وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه السلام ( ١٦٨ ).
النصارى : جمع نصران بمعنى نصراني كندامى وندمان والياء في النصراني للمبالغة، وهم قوم عيسى عليه السلام، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام، أولأنهم كانوا معه في قرية يقال لها نصران أو ناصرة فسموا باسمها أو من اسمها ( ١٦٩ ).
الصابئين : قوم بين النصارى والمجوس، وقيل أصل دينهم دين نوح عليه السلام، وقيل : هم عبد الملائكة، وقيل : عبدة الكواكب.
وقد شاهدت هذه الطائفة حين كنت في العراق ويسمون الصبة، ولهم طقوس خاصة بهم في الزواج والموت وغير ذلك. وهم قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم ويقرون ببعض الأنبياء. ويشتهرون في بغداد بسوق معينة تسمى سوق الصابئة حيث يشتغلون بضرب الفضة وتزيينها ونقشها، وبيع قطع الفضة والنيكل بعد زخرفتها.
والإيمان المشار إليه في قوله تعالى :
من آمن بالله واليوم الآخر. أي من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملا بمقتضى شرعه.
وقيل : من آمن من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا ودخل في الإسلام دخولا صادقا( ١٧٠ ) فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. إن هؤلاء الذين آمنوا عن تصديق وإذعان، وقدموا العمل الصالح لهم أجرهم عظيم عند ربهم ولا يفزعون من هول يوم القيامة كما يفزع الكافرون، ولا يفوتهم نعيم فيحزنون عليه كما يحزن المقصرون.
قال الإمام الغزالي :
إن الناس في شأن بعثته صلى الله عليه وسلم أصناف ثلاثة :
١- من لم يعلم بها بالمرة وهذا ناج حتما.
٢- من بلغته الدعوة على وجهها ولم ينظر في أدلتها إهمالا أو عنادا واستكبارا وهذا مؤاخذ حتما.
٣- صنف ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم محمد صلى الله عليه سلم ولم يبلغهم نعته ووصفه، بل سمعوا منذ الصبا أن كذابا مدلسا اسمه محمد ادعى النبوة كما سمع صبياننا أن كذابا يقال له المقنع تحدى بالنبوة كاذبا، فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، مع أنهم لم يسمعوا اسمه لم يسمعوا ضد أوصافه. وهؤلاء سمعوا ضد أوصافه، وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب. ا. ه.
نقض العهد
( وإذ أخدنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون( ٦٣ ) ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين٦٤ ) (
المفردات :
الطور : هو الجبل المعروف الذي ناجى عليه موسى ربه تعالى ورفع الجبل فوق رؤوسهم كان لإرهابهم بعظمة القدرة من دون أن يكون لإجبارهم وإكراههم على العمل بما أوتوه. قال تعالى في سورة الأعراف : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع به. ( الأعراف : ١٧١ ). والنتق هو الهز والزعزعة والجذب والإقتلاع.
التفسير :
٦٣- وإذ أخدنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور... هذا بيان لنعمة أخرى أنعمها الله على اليهود مع بيان حالهم فيها عرض عليهم من التكاليف. أي واذكروا وقت أن أخذنا عليكم بأن تتبعوا موسى وتعملوا بالتوراة التي يجيئكم بها من عند الله. ورفعنا فوقكم الطور. تخويفا لكم.
فعن ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما جاءهم بالتوراة وما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم وأبوا قبولها، فأمر الله جبريل بقلع الطور فظلله فوقهم حتى أقبلوا، لأنهم ظنوا أنه واقع بهم ( ١٧١ ).
خذوا ما أتيناكم بقوة. المراد من القوة : الجد والاجتهاد كما قال ابن عباس : أي قلنا لهم، خذوا ما آتيناكم بجد واجتهاد مع حسن النية والإخلاص، فإن ذلك يدفعهم إلى النظر في الآيات حتى يقتنعوا ويحسنوا العمل.
وهنا سؤال وهو أنه يأخذ من الآية أن إيمانهم كان بالإلجاء والإكراه، وهذا ينافي التكليف الذي يقوم على الاختيار، فهو الذي يكون العقيدة الصحيحة المبينة على الإقناع، ولهذا قال تعالى : لا إكراه في الدين ( البقرة٢٥٦ ). وقال لنبيه وكان حريصا على إيمان الناس : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ( يونس٩٩ ).
والجواب أن الاختيار كان موكولا إليهم في كل عروض الإيمان عليهم، ولما لم يمتثلوا، كانت آيات التخويف لهم بمنزلة مشروعة القتال للكفار، لإصلاح حالهم مع الله تعالى، فإن الحكمة تدعوا إلى الأخذ بالقوة إذا فشل النصح والإرشاد، ولهذا ينبغي أن يؤدب الوالد بالقوة ابنه المعوج السلوك إذا لم ينفع معه تكرار النصح حتى لا يستمر فساده ( ١٧٢ ).
واذكروا ما فيه لعلكم تتقون : أي بعد أخذ الكتاب بقوة ادرسوا ما فيه وداوموا على تذكره حتى يرسخ في قلوبكم، فإذا فعلتم ذلك صفت قلوبكم وارتقت في السلوك إلى ربكم، وبهذا تصير نقية من أدران الرذائل، راضية مرضية عند ربها. والعاقبة للتقوى.
المفردات :
والخسران : ذهاب رأس المال أو نقصه.
التفسير :
( ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين(. هذا بيان لنقضهم وإعراضهم عن العمل بالميثاق الذي أخذ عليهم، ونبذوه خلف ظهورهم، والمعنى ثم أعرضتم من بعد أخذ الميثاق عليكم وقبولكم إياه وذلك نقض للعهد تستحقون من أجله العقاب ولكن حال دون حلوله بكم فضل الله عليكم وإمهاله إياكم وتوفيقكم للتوبة، ولولا ذلك لكنتم من الخاسرين في دنياكم وآخرتكم بسبب ما اجترحتم من نقض ميثاقكم.
وبذلك تكون الآيات قد ذكرت بني إسرائيل المعاصرين للعهد النبوي بما كان من أسلافكم من جحود النعمة، ونقض للعهد، وفي هذا التذكير تحذيره لهم من السير على طريق أسلافهم ودعوة لهم إلى الدخول في للإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
عقوبة اليهود
( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين( ٦٥ ) فجعلنا نكلا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ( ٦٦ ) (
المفردات :
الاعتداء : تجاوز الحد في كل شيء.
السبت : هو اليوم المعروف في الأسبوع واعتداؤهم فيه تجاوزهم في حكمه.
خاسئين : صاغرين مطرودين.
عــــدوان الســـبت :
ملخص قصة بني إسرائيل في السبت : أن الله تعالى أخذ عليهم عهدا بأن يتفرغوا لعبادته في ذلك اليوم. وحرم عليهم الاصطياد فيه دون سائر الأيام، وقد أراد سبحانه أن يختبر استعدادهم للوفاء بعهودهم فابتلاهم بتكاثر الحيتان في يوم السبت دون غيره، فكانت تتراءى على الساحل في ذلك اليوم قريبة المأخذ سهلة الاصطياد فقالوا : لو حفرنا إلى جانب ذلك البحر الذي يزخر بالأسماك يوم السبت حياضا تناسب إليها المياه في ذلك اليوم ثم نصطادها من تلك الحياض في يوم الأحد وما بعده، وبذلك نجمع بين احترام ما عهد إلينا يوم السبت، وبين ما تشتهيه أنفسنا من الحصول على تلك الأسماك، فنصحهم فريق منهم بأن عملهم هذا هو امتثال ظاهري لأمر الله ولكنه في حقيقته خروج عن أمره من ترك الصيد في يوم السبت فلم يعبأ أكثرهم بذلك، بل نفذ تلك الحيلة، فغضب الله عليهم ومسخهم قردة وجعلهم عبرة لمن عاصرهم ولمن أتى بعدهم. والحديث عن أصحاب السبت قد جاء ذكره مفصلا في سورة الأعراف( ١٧٤ ) كما جاءت الإشارة إليه في سورتي النحل والنساء.
التفسير :
٦٥- ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت.. : أي ولقد عرفتم نبأ الذين تجاوزوا منكم الحد الذي رسمه لهم الكتاب، وركبوا ما نهاهم عنه من ترك العمل الدنيوي، والتفرغ للعمل الأخروي يوم السبت.
فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين. أي حولهم إلى قردة صاغرين مطرودين مبعدين عن الخير أذلاء.
والخسوء : الطرد والإبعاد يقال : خسأت الكلب خسأ وخسوءا من باب منع طردته وزجرته، وذلك إذا قلت له : اخسأ.
وجمهور المفسرين على أنهم مسخوا على الحقيقة ثم ماتوا بعد ذلك بوقت قصير.
«وروى أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام »( ١٧٤ ).
ويرى مجاهد أنهم لم تمسخ صورهم ولكن مسخت قلوبهم، أي أنهم مسخوا مسخا نفسيا فصاروا كالقردة في شرورها وإفسادها لما تصل إليها أيديها.
قال الأستاذ الإمام محمد عبده : والآية ليست نصا في رأى الجمهور ولم يبق إلا النقل، ولو صح لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة، لأنهم يعلمون بالمشاهدة أن الله لا يمسخ كل عاص فيخرجه من نوع الإنسان، إذ ليس من سننه في خلقه، وإنما العبرة الكبرى في العلم بأن من سنن الله في الذين خلوا من قبل أن من يفسق عن أمره ويتنكب الصراط الذي شرعه له ينزله عن مرتبة الإنسان ويلحقه بعجماوات الحيوان وسنة الله وحده، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية ا ه.
وفي هذا تأييد لرؤى مجاهد، روى ابن جرير عن مجاهد أنه قال :«ما مسخت صورهم، ولكن مسخت قلوبهم فلا تقبل وعظا ولا تعي زجرا ».
وذاك على حد تمثيلهم بالحمار في قوله تعالى : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا. ( الجمعة : ٥ )
وقد نقل الحافظ ابن كثير آثارا عن بعض الصحابة والتابعين، في مسخ هؤلاء المعتدين على صورة القردة، وفي تفصيل قصتهم ثم قال :( قلت ) : والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد رحمه الله من أن مسخهم إنما كان ( معنوبا ) لا ( صوريا ) بل الصحيح أنه معنوي صوري والله تعالى أعلم ( ١٧٥ ).
عــــدوان الســـبت :
ملخص قصة بني إسرائيل في السبت : أن الله تعالى أخذ عليهم عهدا بأن يتفرغوا لعبادته في ذلك اليوم. وحرم عليهم الاصطياد فيه دون سائر الأيام، وقد أراد سبحانه أن يختبر استعدادهم للوفاء بعهودهم فابتلاهم بتكاثر الحيتان في يوم السبت دون غيره، فكانت تتراءى على الساحل في ذلك اليوم قريبة المأخذ سهلة الاصطياد فقالوا : لو حفرنا إلى جانب ذلك البحر الذي يزخر بالأسماك يوم السبت حياضا تناسب إليها المياه في ذلك اليوم ثم نصطادها من تلك الحياض في يوم الأحد وما بعده، وبذلك نجمع بين احترام ما عهد إلينا يوم السبت، وبين ما تشتهيه أنفسنا من الحصول على تلك الأسماك، فنصحهم فريق منهم بأن عملهم هذا هو امتثال ظاهري لأمر الله ولكنه في حقيقته خروج عن أمره من ترك الصيد في يوم السبت فلم يعبأ أكثرهم بذلك، بل نفذ تلك الحيلة، فغضب الله عليهم ومسخهم قردة وجعلهم عبرة لمن عاصرهم ولمن أتى بعدهم. والحديث عن أصحاب السبت قد جاء ذكره مفصلا في سورة الأعراف( ١٧٤ ) كما جاءت الإشارة إليه في سورتي النحل والنساء.
المفردات :
الاعتداء : تجاوز الحد في كل شيء.
السبت : هو اليوم المعروف في الأسبوع واعتداؤهم فيه تجاوزهم في حكمه.
خاسئين : صاغرين مطرودين.
فجعلناها نكالا : النكال ما يفعل بشخص من إيذاء وإهانة ليعتبر به غيره. والمراد جعنا عقوبتهم عبرة لغيرهم، تنكلهم وتمنعهم عن مثل ما فعلوا.
لما بين يديها وما خلفها : للمعاصرين لها ولمن بعدها من الأمم.
الموعظة : ما يبقى من الكلام لاستشعار الخوف من الله بذكر ثوابه وعقابه.
٦٦- فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين. أي فجعلنا هذه العقوبة عبرة ينكل من يعلم بها أي يمتنع من الاعتداء على حدود الله سوء منهم من وقعت في زمانه أو من جاء بعدهم إلى يوم القيامة.
وموعظة للمتقين. أي لهم، وهم من يقون أنفسهم من عقاب الله من كل أمة، أو من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أو من بني إسرائيل، خص المتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بالمواعظ.
قال الحافظ ابن كثير : المراد بالموعظة هنا الزجر، أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم، كما روى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل » وهذا إسناد جيد ( ١٧٦ ).
البقرة
( وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين( ٦٧ ) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون( ٦٨ ) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين( ٦٩ ) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون( ٧٠ ) قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلولا تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الأنا جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون( ٧١ ) (
المفردات :
البقرة : اسم الأنثى. والثور اسم الذكر.
أتتخذنا هزوا : أتجعلنا موضع استهزاء أي سخرية.
الجهل : هنا فعل ما لا ينبغي أن يفعل، وقد يطلق على اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه.
قصة البــــقرة :
قال ابن كثير في تفسيره ( عن عبيدة السلماني : قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض فقال ذوا الرأي منهم والنهي : علام يقتل بعضكم بعضا وهذا رسول الله فيكم ؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شددوا فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوا عند رجل ليس له بقرة فيها غيرها فقال : والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا، فأخذوها بملء جلدها ذهبا فذبحوها فضربوه ببعضها فقام، فقالوا : من قتلك ؟ فقال هذا لابن أخيه ثم مال ميتا فلم يعط من ماله شيئا ولم يورث قاتل بعد ) ( ١٧٧ ).
التفسير :
٦٧- وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. أي واذكروا يا بني إسرائيل لتعتبروا وتتعظوا وقت أن حدث في أسلافكم قتيل ولم يعرف الجاني. فطلب بعض أهله وغيرهم من موسى عليه السلام أن يدعو الله ليكشف لهم القاتل الحقيقي فقال لهم : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
ويجوز أن يكون المعنى، واذكر يا محمد الوقت الذي قال فيه موسى لقومه، والأمر هنا لكل من يصلح للخطاب، ليعرف ما كان عليه بنو إسرائيل من اللجاجة و العناد، والفرار من الرشاد : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. ليكون وسيلة إلى معرفة القاتل.
وتنكير لفظ ( بقرة ) يشير إلى أنهم لو ذبحوا أية بقرة بعد الأمر لكفتهم ولكنهم كعادتهم شددوا بتكرار الأسئلة فشدد الله عليهم( ١٧٨ ).
وقد أمر الله بذبح بقرة دون غيرها من الحيوانات، لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل، وفي أمرهم بذلك تهوين لشأن هذا الحيوان الذي عظموه وعبدوه وأحبوه، فكان سبحانه يقول لهم : إن هذا البقر الذي يضرب به المثل في البلادة، لا يصلح أن يكون معبودا من دون الله، وإنما يصلح للحرث والسقي والعمل والذبح.
وهذا استئناف بياني، كأن سائلا قال : ماذا قال بنو إسرائيل لموسى بعد أن أمرهم بذبح البقرة، فكان الجواب، قالوا أتتخذنا هزوا. وهزوا أي سخرية وهو بتقدير مضاف أي موضع هزو.
استبعدوا أن يكون ذبح البقرة له صلة بتبرئة المتهم بالقتل فظنوا لجهلهم أنه يسخر بهم، فسألوه مستنكرين.
أتتخذنا هزوا : وكان حقهم أن يمتثلوا ولا يقولوا ما قالوا، فقد عرفوا في رسولهم الجد في أمره كله، ولاسيما ما ينقله لهم عن الله تعالى.
قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين : أي ألتجئ إلى الله وأبرأ إليه من أن أكون من السفهاء الذين يروون عنه الكذب والباطل.
وفي هذا الجواب تبرؤ وتنزه عن الهزء، وهو المزاح الذي يخالطه احتقار واستخفاف بالممازح معه، لأنه لا يليق بعقلاء الناس فضلا عن رسل الله عليهم السلام.
قال الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين عليه رحمة الله :
«وقد نبهت الآية الكريمة على أن الاستهزاء بأمر من أمور الدين جهل كبير، ومن الجهل ما يلقى صاحبه في أسوأ العواقب، ويقذف به في عذاب الحريق، ومن هنا منع المحققين من أهل العلم استعمال الآيات كأمثال يضربونها في مقام المزح والهزل ( ١٧٩ ). وقالوا : إنما أنزل القرآن الكريم ليتلى بتدبر وخضوع، وليعمل به بتقبل وخضوع. ا ه ( ١٨٠ ).
قصة البــــقرة :
قال ابن كثير في تفسيره ( عن عبيدة السلماني : قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض فقال ذوا الرأي منهم والنهي : علام يقتل بعضكم بعضا وهذا رسول الله فيكم ؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شددوا فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوا عند رجل ليس له بقرة فيها غيرها فقال : والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا، فأخذوها بملء جلدها ذهبا فذبحوها فضربوه ببعضها فقام، فقالوا : من قتلك ؟ فقال هذا لابن أخيه ثم مال ميتا فلم يعط من ماله شيئا ولم يورث قاتل بعد ) ( ١٧٧ ).
المفردات :
لا فارض : الفارض المسنة التي انقطعت ولادتها، فمعنى لا فارض غير مسنة.
ولا بكر : البكر الصغيرة التي لم تحمل بعد.
عوان بين ذلك : نصف بين المسنة والفتية.
التفسير :
٦٨- قالوا دع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون.
أي قال بنو إسرائيل لموسى، بعد أن عرفوا من جوابه الجد : أطلب لنا من ربك أن يبين لنا حالها وصفاتها ( ١٨١ ).
فقال لهم موسى إنه تعالى يقول : إن البقرة التي أمركم الله بذبحها لا مسنة ولا صغيرة، بل نصف بينهما، فاتركوا الإلحاح في الأسئلة وسارعوا إلى امتثال ما أمرتم به.
قصة البــــقرة :
قال ابن كثير في تفسيره ( عن عبيدة السلماني : قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض فقال ذوا الرأي منهم والنهي : علام يقتل بعضكم بعضا وهذا رسول الله فيكم ؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شددوا فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوا عند رجل ليس له بقرة فيها غيرها فقال : والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا، فأخذوها بملء جلدها ذهبا فذبحوها فضربوه ببعضها فقام، فقالوا : من قتلك ؟ فقال هذا لابن أخيه ثم مال ميتا فلم يعط من ماله شيئا ولم يورث قاتل بعد ) ( ١٧٧ ).
المفردات :
فاقع لونها : الفقع هو شديد الصفرة
تسر الناظرين : لحسنها.
التفسير :
٦٩- قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين. قال : بنو إسرائيل لنبيهم، مشددين على أنفسهم بعد أن عرفوا صفة البقرة من جهة سنها، سل لنا ربك يبين لنا ما لونها، لكي يسهل لنا الحصول عليها فأجابهم بقوله : إنه تعالى يقول : إن البقرة التي أمرتكم بذبحها صفراء فاقع لونها.
الفقوع : أشد ما يكون من الصفرة وأبلغه. ولذا يكون وصف الصفرة للتأكيد كأمس الدابر، وكما يختص الأصفر بالفاقع يختص الأسود بالحالك، والأخضر بالناضر، والأحمر بالقاني، والأبيض بالناصع.
قال ابن جرير الطبري :( والفقوع في الصفرة نظير النصوع في البياض وهو شدته وصفاؤه )( ١٨٢ ).
تسر الناظرين. أي تعجبهم وتشرح صدورهم، لشعورهم باللذة القلبية لحسن منظرها، وجمهور المفسرين يقولون إن الصفرة من الألوان السارة( ١٨٣ ).
قصة البــــقرة :
قال ابن كثير في تفسيره ( عن عبيدة السلماني : قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض فقال ذوا الرأي منهم والنهي : علام يقتل بعضكم بعضا وهذا رسول الله فيكم ؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شددوا فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوا عند رجل ليس له بقرة فيها غيرها فقال : والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا، فأخذوها بملء جلدها ذهبا فذبحوها فضربوه ببعضها فقام، فقالوا : من قتلك ؟ فقال هذا لابن أخيه ثم مال ميتا فلم يعط من ماله شيئا ولم يورث قاتل بعد ) ( ١٧٧ ).
المفردات :
إن البقر : أي أن البقر الفاقع هو وسط بين الفارض والبكر.
تشابه علينا : لاشتراك كل البقر مع مثيلتها في الأوصاف المطلوبة، فلا نستطيع أن نفرق بين البقر فيها، حتى نحصل على البقرة المطلوبة.
وإنا إنشاء الله لمهتدون : إلى عينها لنذبحها، يظهرون بقولهم هذا، أنهم يريدون معرفة ما وقعت مشيئة الله عليه من هذا النوع من البقر، بذكر وصف مميز للمطلوب.
التفسير :
٧٠- قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون. كرروا سؤالهم الأول لطلب الاستكشاف الزائد بعد أن عرفوا سن البقرة ولونها، فقالوا لموسى : سل من أجلنا ربك أن يزيد إيضاحا لحال البقرة التي أمرنا بذبحها حيث إن البقر الموصوف بالوصفين السابقين كثير، فاشتبه علينا أيها نذبح، وإنا إن شاء الله بعد هذا البيان منك لمهتدون إليها ومنفذون لما تكلفنا به.
وقولهم : وإنا إن شاء الله لمهتدون : فيه تخفيف لصورة عنادهم وإتيانهم بالمشيئة لتحسين الظن بهم.
وفي الحديث ( لو لم يستثنوا أي يقولون إن شاء الله لما بينت لهم صفتها إلى آخر الأبد ) ( ١٨٤ ).
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ( وإنما لم يعتذروا في المرتين الأوليين واعتذروا في الثالثة لأن للثلاثة في التكرير وقعا من النفس في التأكيد والسآمة وغير ذلك، ولذا كثر في أحوال البشر وشرائعهم التوقيت بالثلاثة. ) ( ١٨٥ ).
وقولهم : لمهتدون. أي إلى مطلوب ذبحه منها أو إلى معرفة القاتل بسببها قال الطبري :( وأما قوله تعالى : وإنا إن شاء الله لمهتدون. فإنهم عنوا وإنا الله لمبين لنا ما التبس علينا وتشابه من أمر البقرة التي أمرنا بذبحها، ومعنى اعتدائهم في هذا الموضع تبينهم أن ذلك الذي لزمهم ذبحه مما سواه من أجناس البقر )( ١٨٦ ).
قصة البــــقرة :
قال ابن كثير في تفسيره ( عن عبيدة السلماني : قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض فقال ذوا الرأي منهم والنهي : علام يقتل بعضكم بعضا وهذا رسول الله فيكم ؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شددوا فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوا عند رجل ليس له بقرة فيها غيرها فقال : والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا، فأخذوها بملء جلدها ذهبا فذبحوها فضربوه ببعضها فقام، فقالوا : من قتلك ؟ فقال هذا لابن أخيه ثم مال ميتا فلم يعط من ماله شيئا ولم يورث قاتل بعد ) ( ١٧٧ ).
المفردات :
الذلول : الريض الذي زالت صعوبته، يقال دابة ذلول بينة، ( الذل ) بالكسر، ورجل ذلول بين الذل ( بالضم )، فمعنى لا ذلول أي ليست مذللة وميسرة.
تثير الأرض : أي تقلبها بالمحراث.
ولا تسقي الحرث : أي ولا تروي الزرع.
مسلمة : سليمة من العيوب وآثار العمل.
لاشية فيها : لا لون فيها يخالف معظم جلدها، من وشى الثوب يشيه إذا زينه بخطوط مختلفة الألوان.
جئت بالحق : جئت ولم يبق فيها إشكال.
وما كادوا يفعلون : وما قربوا من أن يذبحوها لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة.
التفسير :
٧١- قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها. أي أنها بقرة لم تذلل بالعمل في الحراثة والسقي، فلفظ. لا. نافية بمعنى غير. ولا. في قوله تعالى : ولا تسقي الحرث. مزيدة لتوكيد الأولى لأن المعنى ( لا ذلول تثير و تسقي ) ( ١٨٧ ). وأعيد في قوله : ولا تسقي الحرث. مراعاة للاستعمال الفصيح. قال ابن كثير : إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي قي الساقية بل هي مكرمة حسنة صبيحة لا عيب فيها ا ه. ومعنى مسلمة : أي سلمها الله من العيوب. ومعنى لا شية : لا لون فيها يخالف جلدها الأصفر والشية في الأصل : مصدر وشاه يشيه وشيا وشية، إذا خلط لونه بلون آخر.
قالوا الآن جئت بالحق. أي جئت بحقيقة وصف البقرة وما بقي في أمرها، ولا وجه لنا في طلب الإيضاح بعد ذلك. فذبحوها. أي فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها.
وما كادوا يفعلون : معناه وما قربوا أن يفعلوا الذبح، والمقصود منه المبالغة في تباطئهم وتعمدهم. إطالة الزمن بكثرة المراجعات في وصف البقرة. وجملة وما كادوا يفعلون. حالية. قال الزمخشري : وما كادوا يفعلون.
استثقال لاستقصائهم واستبطاء لهم وإنهم لتطويلهم المفرط وكثرة استكشافهم ما كادوا يذبحونها، وما كادت تنتهي سؤالا تهم وما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها وتعمقهم، وقيل وما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها، وقيل لخوف الفضيحة في ظهور القاتل، وروى أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال : اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر، وكان بارا بوالديه، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير. ( ١٨٨ ).
يؤخذ من الآية النهي عن كثرة السؤال، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسئكم. ( المائدة ١٠١ ).
وروى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلكم، واختلافهم على الأنبيائهم » ( ١٨٩ ).
وكتب عمر ابن عبد العزيز إلى عامله : إذا أمرتك أن تعطى فلانا شاة سألتني أضائن أم ما عز ؟ فإن بينت لك قلت أذكر أم أنثى ؟ فإن أخبرتك قلت أسوداء أم بيضاء ؟ فإذا أمرتك بشيء فلا تراجعني.
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات ( ١٩٠ ). أخرجه الإمام أحمد وفسره الأوزاعي وقال : هي شداد المسائل وما لا يحتاج إليه من كيف وكيف.
وقال الأوزاعي : إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علما.
الحياة
( وإذ قتلتم نفسا فادأرتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون( ٧٢ ) فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون( ٧٣ ) (
المفردات :
فادرأتم فيها : أي تدافعتم وتخاصمتم في شأنها وكل واحد يدرأ عن نفسه ويدعي البراءة ويتهم سواه.
والله مخرج ما كنتم تكتمون : أي مظهره مهما كتمتم.
التفسير :
٧٢- وإذ قتلتم نفسا فادرأتم فيها..
واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفسا، فاختلفتم وتنازعتم في قتلها، ودفع كل واحد منكم التهمة عن نفسه، والله عز وجل لا محالة ما كتمتم من أمر القاتل فقد بين سبحانه الحق في ذلك فقال على لسان رسول موسى عليه السلام.
واضربوا القتيل بأي جزء من أجزاء البقرة، فضربتموه ببعضها فعادت إليه الحياة بإذن الله، واخبر عن قاتله، وبمثل هذا الإحياء لذلك القتيل بعد موته يحيي الله الموتى للحساب والجزاء يوم القيامة، ويبين لكم الدلائل الدالة على أنه قدير على كل شيء.
وجمهور المفسرين على أن واقعة قتل النفس وتنازعهم فيها حصلت قبل الأمر بذبح البقرة، إلا أن القرآن الكريم أخرها في الذكر ليعدد على بني إسرائيل جناياتهم وليشوق النفوس إلى معرفة الحكمة من وراء الأمر بذبحها فتتقبلها بشغف واهتمام.
وقد أسند القرآن الكريم القتل إلى جميعهم في قوله : وإذ قتلتم. مع أن القاتل بعضهم، للإشعار بأن الأمة في مجموعها وتكافلها كالشخص الواحد، ولأن المسؤولية في القتل مشتركة بين الجميع حتى يتعين القاتل فيبرأ من عداه.
وقوله تعالى : والله مخرج ما كنتم تكتمون : معناه، والله تعالى مظهر ومعلن ما كنتم تسترونه من أمر القتيل الذي قتلتموه، ثم تنازعتم في شأن قاتله، وذلك ليتبين القاتل الحقيقي بدون أن يظلم غيره.
وهذه الجملة الكريمة : والله مخرج ما كنتم تكتمون. معترضة بين قوله تعالى : فادارأتم. وبين قوله تعالى : فقلنا اضربوه ببعضها، وفائدته إشعار المخاطبين قبل أن يسمعوا ما أمروا بفعله، بأن القاتل الحقيقي سينكشف أمره لا محالة.
قال صاحب تفسير التحرير والتنوير :( وإنما تعلقت إرادة الله بكشف حال من قتل هذا القتيل مع أنه ليس أول قتيل طل دمه في الأمم إكراما لموسى عليه السلام أن يضيع دم قومه وهو بين أظهرهم وبمرأى ومسمع منه، لاسيما وقد قصد القاتلون استغفاله ودبروا المكيدة في إظهار المطالبة بدمه، فلو لم يظهر الله تعالى هذا الدم ويبين سافكه لضعف يقين القوم برسولهم موسى عليه السلام، ولكان ذلك مما يزيد شكهم في صدقه فينقلبوا كافرين. فكان إظهار القاتل الحقيقي إكراما من الله تعالى لموسى ورحمة بالقوم لئلا يضلوا ) ( ١٩١ ).
٧٣- وقوله تعالى : فقلنا اضربوه ببعضها..
أي اضربوا القتيل ببعض البقرة المذبوحة ولا قطع بتعين هذا البعض، إنه اللسان أو الفخذ أو عجب الذنب، فضربوه بجزء منها، فأحياه الله تعالى ونطق باسم القاتل ثم مات بعد أن أخبر به.
قال الزمخشري :( فإن قلت : هلا أحياه ابتداء، ولم شرط في إحيائه ذبح البقرة وضربه ببعضها ؟ قلت : قي الأسباب والشروط حكم فوائد، وإنما شرط ذلك لما في ذبح البقرة من التقرب وأداء التكاليف، واكتساب الثواب، والإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب، وما في التشديد عليهم لتشديدهم، من اللطف لهم والآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر الله تعالى، وارتسامها على الفور من غير تفتيش وتكثير سؤال، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة، والدلالة على بركة البر بالوالدين، والشفقة على الأولاد، وتجهيل الهازئ بما لا يعلم كنهه ولا يطلع على حقيقته، من كلام الحكماء، بيان أن من حق المتقرب إلى ربه أن يتأنق في اختيار ما يتقرب به، وأن يختاره فتى السن غير قحم ولا ضرع، حسن اللون بريئا من العيوب، يونق من ينظر إليه، وأن يغالي بثمنه، كما يروى من عمر رضي الله عنه أنه ضحى بنجيبة بثلاثمائة دينار ( ١٩٢ ).
رأي تفسير المنار :
ذهب صاحب المنار إلى أن المراد بالإحياء في قوله تعالى : كذلك يحيي الله الموتى. حفظ الدماء واستبقاؤها وليس المراد به الإحياء الحقيقي بعد الموت وأن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله ليعرف الجاني من غيره، فمن غسل يده وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برئ من الدم، ومن لم يفعل ثبتت عليه الجناية ( ١٩٣ ).
والذي نراه أن المراد بالإحياء في قوله تعالى : كذلك يحيي الله الموتى. الإحياء الحقيقي للميت بعد موته وأن تفسيره بحفظ الدماء واستبقاؤها ضعيف لما يأتي :
١- مخالفته لما ورد عن السلف في تفسير الآية( ١٩٤ ).
٢- قال تعالى : كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون.
وهي قرينة على أن المراد بالإحياء رد أرواحهم بعد موتهم وليس هناك نص صحيح يعتمد عليه في مخالفة هذا الظاهر، ولا توجد قرينة مانعة من إرادة هذا المعنى المتبادر من الآية بأدنى تأمل، وما دام الأمر كذلك فلا يجوز تأويله بما يخلف ما يدل عليه اللفظ دلالة واضحة( ١٩٥ ) ومن التعسف الظاهر أن يراد من الموتى الأحياء من الناس، وبإحياء الموتى تشريع العقوبات صونا لدماء الأحياء منهم. والله تعالى حينما أراد أن يدل على هذا المعنى قال : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون.
فهذه الآية الكريمة تدل على أن القصاص من الجناة يحفظ على الناس حياتهم بدون التواء أو تعمية.
٣- الإراءة في الآية بصرية ولا عقلية، وسياق الكلام يأبى أن يصرف عن الظاهر وخاصة قوله تعالى : فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى. ( ١٩٦ ).
قسوة القلوب
( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعلمون( ٧٤ ) (
المفردات :
القسوة : اليبس والصلابة.
يتفجر : يتفتح ويتشقق بكثرة وسعة.
يهبط : يتردى وينزل.
الخشية : الخوف.
المناسبة :
وصف الله حال بني إسرائيل بعد أن رأوا من آياته التي أتاها موسى عليه السلام ما رأوا، كانفجار الماء، ورفع الجبل، ومسخهم قردة، وإحياء القتيل إلى نحو ذلك، وصفهم بقسوة القلوب. وضعف الوازع الديني فيها، حتى أصبحت كالصم الصلاد بل أشد منها قسوة.
التفسير :
٧٤- ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة.
ثم صلبت قلوبكم يا بني إسرائيل وغلظت بعد أن رأيتم ما رأيتم من معجزات، منها إحياء القتيل أمام أعينكم فهي كالحجارة في صلابتها ويبوستها، بل هي أشد صلابة منها لأن الحجارة ما فيه ثقوب متعددة وخروق متسعة، فتدفق منه مياه الأنهار التي تعود بالمنافع على المخلوقات، ولأن منها ما يتصدع تصدعا قليلا فيخرج منه ماء العيون والآبار ولأن منها ما يتردى من رأس الجبل إلى الأرض من خوف الله وخشيته.
وقد شاهدوا كل ذلك حين ضرب موسى الحجر فتفجرت منه اثنتا عشرة عينا وشاهدوا الجبل يندك دكا حين تجلى الله له.
ولكن قلوبهم كلت وعميت وأغلقت مفاتيحها فلا تتأثر بموعظة، ولا تنقاد للخير، ولا تفعل ما تِؤمر به، مهما تعاقبت عليها النعم والنقم والآيات
والله تعالى حافظ لأعمالهم، يحصيها عليهم ثم يجازيهم بها، فهو سبحانه يمهل ولا يهمل، وهو بكل شيء عليم
واسم الإشارة ذلك، مشار به إلى إحياء القتيل بعد ضربه بجزء من البقرة، أو إلى جميع النعم والمعجزات الواردة في للآيات السابقة
وقوله تعالى : وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله.
بيان لفضل الحجارة على قلوبهم القاسية، قصد به إظهار زيادة قسوة قلوبهم عن الحجارة، لأن هذا الأمر لغرابته يحتاج إلى بيان سببه.
فكأنه سبحانه يقول لهم : إن هذه الحجارة على صلابتها ويبوستها منها ما تحدث فيه المياه خروقا واسعة تتدفق منها الأنهار الجارية النافعة، ومنها ما تحدث فيه المياه شقوقا مختلفة تنجم عنها العيون النابعة والأنهار الجوفية المفيدة، ومنها ما ينقاد لأوامر الله عن طواعية وامتثال، أما قلوبكم أنتم فلا يصدر عنها نفع ولا تتأثر بالعظات والعبر، ولا تنقاد للحكم التي من شأنها هداية النفوس وقوله تعالى : وما الله بغافل بما تعلمون. تهديد لهم وتخويف حيث إنه سبحانه سيحاسبهم على أعمالهم وسيذيقهم ما يستحقون من عقاب جزاء جحودهم لنعمه، وعصيانهم لأوامره.
تحريفهم كلام الله
( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون( ٧٥ ) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون( ٧٦ ) أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون( ٧٧ ) (
المفردات :
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم : الهمزة لإنكار طمع المؤمنين في إيمان اليهود بعد ما علموا حالهم، أي استنكاره واستبعاده عنهم، والفاء عطفت ما بعدها على مقدر، والتقدير :( أتحسبون قلوبهم صالحة للإيمان بعد ما علمتموه من حالهم، أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ) والمراد نهيهم عن الطمع بعد علمهم بحالهم.
فريق منهم : جماعة منهم.
كلام الله : المراد به التوراة.
تمهــــــيد :
انقضى المقطع من السورة في تذكير بني إسرائيل بأنعم الله عليهم وجحودهم لهذا الإنعام المتواصل، وباستعراض مشاهد الإنعام والجحود، بعضها باختصار وبعضها بتطويل، وانتهى هذا الاستعراض بتقرير ما انتهت إليه قلوبهم في نهاية المطاف من قسوة وجفاف وجدب، أشد من قسوة الحجارة وجفافها وجدبها، ( فالآن يأخذ السياق في الاتجاه بالخطاب إلى الجماعة المسلمة يحدثها عن بني إسرائيل، ويبصرها بأساليبهم ووسائلهم في الكيد والفتنة، ويحذرها كيدهم ومكرهم على ضوء تاريخهم وجبلتهم، فلا تنخدع بأقوالهم و دعاويهم ووسائلهم الماكرة في الفتنة والتضليل، ويدل طول هذا الحديث وتنوع أساليبه على ضخامة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من الكيد المنصوب لها والمرصود لدينها من أولئك اليهود ) ( ١٩٧ ).
لقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه شديدي الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه ؛ لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم في تعاليمه ومبادئه وأغراضه فهم يشتركون معهم في الاعتقاد بالتوحيد والتصديق والبعث والنشور، وكتابهم مصدق لما معهم.
فقص الله في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم ما أزال أطماعهم وأيئسهم من إيمانهم.
التفسير :
٧٥- أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
ما كان ينبغي لكم أيها المؤمنون أن تطمعوا في أن يؤمن اليهود بدينكم وينقادوا لكم وقد اجتمعت في مختلف فرقهم أشتات الرذائل التي تباعد بينهم وبين الإيمان بالحق، فقد كان فريق منهم( وهم الأحبار ) يسمعون كلام الله في التوراة ويفهمونه حق الفهم ثم يتعمدون تحريفه وهم يعلمون أنه الحق وأن كتب الله المنزلة لا يجوز تغييرها ( ١٩٨ ).
وجملة : وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله. حالية، مشتملة على بيان أحد الأسباب الداعية إلى القنوط من إيمانهم، وبذلك يكون التقنيط من إيمانهم قد علل بعلتين :
إحداهما : ما سبق هذه الآية من تصوير لأحوالهم السيئة.
ثانيتهما : ما تضمنته هذه الجملة الكريمة من تحريفهم لكلام الله عن علم وتعمد، وجملة. وهم يعلمون. حال مؤكد لاستهجان قبح ما اجترءوا عليه من التحريف.
والمعنى : إن كفر هؤلاء وحرفوا فلهم سابقة في ذلك( ١٩٩ ).
تمهــــــيد :
انقضى المقطع من السورة في تذكير بني إسرائيل بأنعم الله عليهم وجحودهم لهذا الإنعام المتواصل، وباستعراض مشاهد الإنعام والجحود، بعضها باختصار وبعضها بتطويل، وانتهى هذا الاستعراض بتقرير ما انتهت إليه قلوبهم في نهاية المطاف من قسوة وجفاف وجدب، أشد من قسوة الحجارة وجفافها وجدبها، ( فالآن يأخذ السياق في الاتجاه بالخطاب إلى الجماعة المسلمة يحدثها عن بني إسرائيل، ويبصرها بأساليبهم ووسائلهم في الكيد والفتنة، ويحذرها كيدهم ومكرهم على ضوء تاريخهم وجبلتهم، فلا تنخدع بأقوالهم و دعاويهم ووسائلهم الماكرة في الفتنة والتضليل، ويدل طول هذا الحديث وتنوع أساليبه على ضخامة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من الكيد المنصوب لها والمرصود لدينها من أولئك اليهود ) ( ١٩٧ ).
لقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه شديدي الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه ؛ لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم في تعاليمه ومبادئه وأغراضه فهم يشتركون معهم في الاعتقاد بالتوحيد والتصديق والبعث والنشور، وكتابهم مصدق لما معهم.
فقص الله في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم ما أزال أطماعهم وأيئسهم من إيمانهم.
المفردات :
فتح الله عليكم : بين لكم خاصة، أو حكم وقضى عليكم.
ليحاجوكم : ليخاصموكم ويقيمون عليكم الحجة.
عند ربكم : أي في كتاب ربكم وشرعه كما تقول : هو عند الله كذا، أي كتابه وشرعه.
التفسير :
٧٦- وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تفعلون.
وكان فريق من منافقيهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا مخادعين لهم آمنا بأنكم على الحق وأن محمدا هو النبي الذي جاء وصفه في التوراة.
وإذا خلا بعضهم إلى بعض عاتبهم الفريق الآخر على غفلتهم إذ تنزلق ألسنتهم في أثناء خداعهم للمؤمنين بعبارات تفيد خصومهم ولا يستدعيها الخداع، أتحدثونهم بما فتح الله عليم ؟ : أتخبرون المؤمنين بما فتح الله عليكم من أبواب العلم التي كتمناها عنهم كالبشارة بالنبي وعلاماته، وأخذ الميثاق على أنبيائهم بالإيمان به، وتبليغ أممهم أن يؤمنوا به وأن ينصروه إن أدركوا. ليحاجوكم به عند ربكم : أي ليقيموا عليكم به الحجة في كتاب ربكم وشرعه.
وقيل المراد بقوله : عند ربكم. يوم القيامة، أي ليحاجوكم به يوم القيامة، توبيخا لكم، وزيادة في فضيحتكم على رؤوس الأشهاد ؟.
وهذا الرأي غير مقبول، فإنهم عالمون بأنهم محجوجون بما في كتابهم يوم القيامة، حدثوا به أو أخفوه، فلا وجه لتوبيخ إخوانهم على إظهاره للمؤمنين، إذا كان المراد بقوله : عند ربكم. يوم القيامة.
روى عن ابن عباس أن ناسا منهم أسلموا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين بما عذب به آباؤهم، فقالت لهم اليهود : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم، أي بما حكم به عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أكرم على الله منكم ؟.
وقيل : إن عليا لما نازل قريظة يوم خيبر سمع سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف إليه وقال : يا رسول، لا تبلغ إليهم، وعرض له فقال : أظنك سمعت شتمي منهم لو رأوني لكفوا عن ذلك، ونهض إليهم، فلما رأوه أمسكوا. فقال لهم :«أنقضتم العهد يا إخوة القردة والخنازير أخزاكم الله وأنزل بكم نقمة » فقالوا : ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا، من حدثك بهذا ؟ ما خرج هذا الخبر إلا من عندنا ( ٢٠٠ ).
والتعبير بالفتح في قولهم : بما فتح الله عليكم. للإيذان بأنه سر مكتوم وباب مغلق في وجه غيرهم فلا ينبغي أن يطلع عليهم سواهم.
تمهــــــيد :
انقضى المقطع من السورة في تذكير بني إسرائيل بأنعم الله عليهم وجحودهم لهذا الإنعام المتواصل، وباستعراض مشاهد الإنعام والجحود، بعضها باختصار وبعضها بتطويل، وانتهى هذا الاستعراض بتقرير ما انتهت إليه قلوبهم في نهاية المطاف من قسوة وجفاف وجدب، أشد من قسوة الحجارة وجفافها وجدبها، ( فالآن يأخذ السياق في الاتجاه بالخطاب إلى الجماعة المسلمة يحدثها عن بني إسرائيل، ويبصرها بأساليبهم ووسائلهم في الكيد والفتنة، ويحذرها كيدهم ومكرهم على ضوء تاريخهم وجبلتهم، فلا تنخدع بأقوالهم و دعاويهم ووسائلهم الماكرة في الفتنة والتضليل، ويدل طول هذا الحديث وتنوع أساليبه على ضخامة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من الكيد المنصوب لها والمرصود لدينها من أولئك اليهود ) ( ١٩٧ ).
لقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه شديدي الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه ؛ لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم في تعاليمه ومبادئه وأغراضه فهم يشتركون معهم في الاعتقاد بالتوحيد والتصديق والبعث والنشور، وكتابهم مصدق لما معهم.
فقص الله في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم ما أزال أطماعهم وأيئسهم من إيمانهم.
٧٧- أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون : كان اليهود يتصورون أن الله لا يأخذ عليهم الحجة إلا أن يقولوها بأفواههم للمسلمين، أما إذا كتموا وسكتوا فلن تكون لله عليهم حجة ولا يعلمون أن الله سبحانه وتعالى محيط بما يسرونه من أقوالهم عن المؤمنين، وما يعلنونه من النفاق، فلا تخفى عليهم خافية من أمرهم، وأنه مطلع رسوله صلى الله عليه وسلم بالوحي على كيدهم فتحصل المحاجة، كما حدث في آية الرجم وتحريم بعض المحرمات عليهم، فأي فائدة في اللوم والعتاب، فليرتدعوا عن ذلك ولينزجروا، وليدخلوا في الإيمان بقلوبهم.
والاستفهام في : أولا يعلمون : إنكاري مؤذن بشناعة نفاق المنافقين منهم وقبح اللوم من أصحابهم لهم على إطلاع المؤمنين على صفة الرسول وغيرها في التوراة مع علمهم أن الله يعلم سرهم ونجواهم.
أماني باطلة
( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون( ٧٨ ) فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ( ٧٩ )(.
المفردات :
أميون : جمع أمي وهو الذي لا يقرأ ولا يكتب، منسوب إلى الأم، وإذانا بأنه في الخلو عن العلم والكتابة كما ولدته أمه.
أماني : جمع أمنية، وهي في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه مأخوذة من منى إذا قدر، والمراد بها هنا الأكاذيب التي أخذوها عن شياطينهم المحرفين للتوراة كما قاله ابن عباس ومجاهد.
التفسير :
بعد أن بين سبحانه جنايات اليهود في ماضيهم وحاضرهم وفي جملتها تحريفهم لكتاب الله التوراة، من بعد ما عقلوه، عقب ذلك بذكر فريق جاهل منهم تأثر بتحريف أخبارهم وضل بإضلالهم وهم الأميون.
٧٨- ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون : أي ومن اليهود قوم أميون لا يحسنون الكتابة، ولا يعلمون من كتابهم التوراة سوى أكاذيب اختلقها لهم علماؤهم، أو أمنيات باطلة يقدرونها في أنفسهم بدون حق، أو قراءات عارية من التدبر والفهم، وقصارى أمرهم الظن من غير أن يصلوا إلى مرتبة اليقين المبني على البرهان القاطع والدليل الساطع.
( ومن هذه الأمنيات والأكاذيب : أن آبائهم الأنبياء يشفعون لهم، وأن الله سبحانه وتعالى يعفوا عنهم ويرحمهم، وإن كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وان الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة، وأنهم صفوة الإنسانية وشعب الله المختار لعمارة الأرض، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن لهم السيطرة على الناس، وغير ذلك من الأماني التي عنوها فهؤلاء ضلوا، تبعا لأضاليل أحبارهم ) ( ٢٠١ ).
ومن قوله تعالى : وإن هم إلا يظنون زيادة تجهيل لهم، لأن أمنياتهم هذه من باب الأوهام التي لا تستند إلى دليل أو شبه دليل، أو من باب الظن الذي هو ركون النفس إلى وجه من وجهين يحتملهما الأمر دون أن تبلغ في ذلك مرتبة القطع واليقين، وهذا النوع من العلم لا يكفي في معرفة أصول الدين التي يقوم عليها الإيمان العميق، فهم ليسوا على يقين من أمور دينهم، وإنما هم يظنون ظنا بدون استيقان، والظن لا يغني من الحق شيئا.
المفردات :
فويل لهم : الويل في الأصل مصدر لا فعل له من لفظه، مثل ويح، والمعنى هلاك لهم وشدة وعذاب، وهي كلمة دعاء.
ثم أنذر سبحانه الأحبار المحرفين للحق بالهلاك فقال :
٧٩- فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
أي هلاك عظيم لهؤلاء الذين يحرفون كتاب الله وهو التوراة، إذ يكتبونها بأيديهم ويدسون فيها أكاذيبهم وما يحفظ عليهم رياستهم وجاههم، موهمين العوام أنها من عند الله ليحملوهم على اعتقادهم، والتعلق بالأماني التي زينوها في التوراة، يبتعون بهذا الفعل ثمنا قليلا هو الاحتفاظ بالرياسة، وأكل أموال الناس بالباطل، وهم بهذا يرتكبون أكبر جريمة، وهي افتراء الكذب على الله، ويختارون الباطل وينبذون الحق فيكونون بذلك كمن يبيع شيئا نفيسا غالي القيمة بثمن تافه.
قال السدى : كان ناس من اليهود كتبوا كتابا من عندهم يبيعونه من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله ليأخذوا به ثمنا قليلا( ٢٠٢ ).
وقال الزهري ابن عباس : يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرأونه غضا لم يشب، وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ؟ ولا والله ما رأينا منهم أحدا سألكم عن الذي أنزل عليكم( ٢٠٣ ).
ومن أسباب تحريف التوراة، ضعف علماء اليهود وانصراف الناس عنهم فعمد العلماء إلى أمور ترغب الناس فيهم وألحقوها بالتوراة وقالوا : هذا من عند الله ليقبلوه عنهم فتتأكد رياستهم، وكان مما أحدثوا فيها أن قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل( آل عمران : ٧٥ ). يعنون بالأميين العرب، ويعنون بأنهم ليس عليهم في الأميين سبيل. أن ما أخذوا من أموالهم فهو حل لهم، ومنه قولهم : لا يضرنا ذنب فنحن أبناء الله وأحباؤه، وأن النار لن تمسنا إلا أياما معدودات، إلى غير ذلك مما كذبهم الله فيه فقال : فويل لهم مما كتبت أيديهم. من تحريف كلام الله وسوء تأويله وويل لهم مما يكسبون. بالباطل من جاه ورياسة ومال.
غرور وادعاء
( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون( ٨٠ ) بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون( ٨١ ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون( ٨٢ ) (
المفردات :
لن تمسنا النار : لن تصيبنا، والمس : اتصال أحد الشيئين بالآخر وإصابته له.
أياما معدودة : يضبطها العد فهي إذن قليلة، والعرب تقول : شيء معدود أي قليل، وغير معدود أي كثير.
تمهيـــد :
ذكر الله في هذه الآية ضربا من ضروب غرورهم وصلفهم وادعائهم أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، فهو لا يعذبهم دوما بل يعذبهم تعذيب الأب ابنه والحبيب حبيبه، وقتا قصيرا ثم يرضى عنهم.
التفسير :
٨٠ - و قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة. أكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام لأن عمر الدنيا عندهم سبعة آلاف سنة فمن لم تدركه النجاة يمكث في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة يوم. وقيل إنها تمسهم أربعين يوما، هي المدة التي عبدوا فيها العجل.
روى الأمام أحمد والبخاري والنسائي وابن مردويه واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اجمعوا لي من كان من اليهود هنا ».
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من أبوكم ؟ » قالوا : فلان. قال :«كذبتم بل أبوكم فلان » فقالوا : صدقت وبررت. ثم قال لهم :«هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه ؟ قالوا : نعم يا أبى القاسم وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفت في أبينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمن أهل النار ؟ فقالوا نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبدا ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه ؟ قالوا نعم يا أبا القاسم. قال : هل جعلتم في هذه الشاة سما ؟ فقالوا : نعم. فقال :( فما حملكم على ذلك ؟ فقالوا : أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك وإن كنت نبيا لم يضرك ) ( ٢٠٤ ).
قل أتخذتم عند الله فلن يخلف الله عهده. أي أعهد إليكم ربكم بذلك ووعدكم به وعدا حقا ؟ إن كان كما تقولون فلن يخلف الله عهده.
أم تقولون على الله ما لا تعلمون. أي أم أنتم تقولون على الله شيئا لا علم لكم به، فإن مثله لا يكون إلا بوحي يبلغه الرسل عنه وبدون هذا يكون اقتياتا على الله وجراءة عليه، لأنه قول بلا علم فهو كفر صراح.
وخلاصة هذا : إن مثل ذلك القول يحتمل أمرين لا ثالث لهما :
إما اتخاذ عهد عند الله به، وإما القول عليه سبحانه بدون علم، وما دام قد ثبت أن اتخاذ العهد لم يحصل، إذا فأنتم يا معشر اليهود كاذبون فيما تدعون من أن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة.
قال الإمام الرازي : قوله تعالى : أتخذتم. ليس باستفهام بل هو إنكار لأنه لا يجوز أن يجعل الله تعالى حجة رسوله في إبطال قولهم أن يستفهم بل المراد التنبيه على طريقة الاستدلال، وهي أنه لا سبيل إلى معرفة هذا التقدير إلا بالسمع، فلما لم يوجد الدليل السمعي وجب ألا يجوز الجزم بهذا التقدير( ٢٠٥ ).
المفردات :
بلى : حرف جواب كنعم، إلا أنها لا تقع إلا جوابا لنفي متقدم سواء أدخله استفهام أم لا، وتفيد إثبات ما بعدها.
الكسب : جلب النفع واستعماله في السيئة من باب التهكم.
وأحاطت به خطيئتة : الخطيئة : السيئة التي استمكنت من النفس وحملتها على تجنب الصواب عمدا.
وإحاطتها به : شمولها له واستيلاؤها على جميع تصرفاته، كما يحيط الثوب بلابسه.
تمهيـــد :
ذكر الله في هذه الآية ضربا من ضروب غرورهم وصلفهم وادعائهم أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، فهو لا يعذبهم دوما بل يعذبهم تعذيب الأب ابنه والحبيب حبيبه، وقتا قصيرا ثم يرضى عنهم.
التفسير :
٨١ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. أي ليس الأمر كما ذكرتم، بل تمسكم النار وتمس غيركم دهرا طويلا، فكل من أحاطت به خطيئاته، وأخذت بجوانب إحساسه ووجدانه، واسترسل في شهواته، وأصبح سجين آثامه فجزاؤه النار خالدا فيها أبدا لما اقترف من أسبابها بانغماسه غي الشهوات التي استوجبت ذلك العقاب، والمراد بالسيئة هنا الشرك بالله، وصاحبه مخلد في النار، وبعض العلماء حمل السيئة على معناه العام، وقال إن الخلود هنا المكث الطويل بمقدار ما يشاء الله، فالعاصي مرتكب الكبائر يمكث فيها ردحا من الزمان ثم يخرج منها متى أراد الله تعالى( ٢٠٦ ).
وفي الآية تحذير من ارتكاب السيئات، فإنها تؤدي إلى التمادي فيها فلا يبالي صاحبها بالكفر، فعلى من يرتكب سيئة أن يبادر بالتوبة منها، فإن لم يبادر بها، أحاطت الخطيئة بقلبه فأصبح مظلما لا ينفذ إليه النور، فيكفر والعياذ بالله تعالى.
روى الإمام احمد والترمذي والحاكم والنسائي وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله تعالى في القرآن : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " ( ٢٠٧ ).
تمهيـــد :
ذكر الله في هذه الآية ضربا من ضروب غرورهم وصلفهم وادعائهم أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، فهو لا يعذبهم دوما بل يعذبهم تعذيب الأب ابنه والحبيب حبيبه، وقتا قصيرا ثم يرضى عنهم.
٨٢ والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. أي والذين أمنوا بالله ورسوله وأطاعوا الله فأقاموا حدوده وأدوا فرائضه واجتنبوا محارمه، فأولئك هم أصحاب الجنة الجديرون بدخولها والخلود فيها أبديا.
وفي هذا دليل على أن دخول الجنة منوط بالإيمان الصحيح والعمل الصالح معا، كما روى أن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا وأقلل فيه لعلي أعيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " قل آمنت بالله ثم استقم " ( ٢٠٨ ) رواه مسلم.
الميثاق
( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون( ٨٣ ) (
المفردات :
الميثاق : العهد المؤكد وهو قسمان : عهد خلقة وفطرة، وعهد نبوة ورسالة وهو المراد هنا، وهذا العهد أخذ عليهم على لسان موسى وغيره من أنبيائهم.
وبالوالدين إحسانا : أي تحسنون إلى الوالدين إحسانا مطلقا بلا حدود.
والمساكين : الذين أذلتهم الحاجة وأسكنتهم.
وقولوا للناس حسنا : أي قولهم لهم حسنا وهم ما تطيب به النفوس ومنه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في غير عنف ولا خشونة.
التفسير :
٨٣ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا : واذكروا يا بني إسرائيل لتعتبروا وتستجيبوا للحق وليذكر معكم كل من ينتفع بالذكرى وقت أن أخذنا عليكم العهد وأمرناكم بالعمل على لسان رسلنا عليهم السلام، وأمرناكم فيه بألا تعبدوا سوى الله، وأمرناكم فيه كذلك بأن تحسنوا إلى آبائكم وتقوموا بأداء ما أوجبه الله لهما من حقوق، وأن تصلوا أقرباءكم وتعطفوا على اليتامى الذين فقدوا آبائهم، وعلى المساكين الذين لا يملكون ما يكفيهم في حياتهم، وأمرناكم فيه أيضا أن تقول للناس قولا حسنا فيه صلاحهم ونفعهم، وأن تحافظوا على فريضة الصلاة، وتؤذوا بإخلاص ما أوجبه الله عليكم من زكاة، ولكنكم نقضتم أنتم وأسلافكم الميثاق وأعرضتم عنه إلا قليل منكم استمروا على رعايته والعمل بموجبه.
وقد تضمنت الآية الكريمة لونا فريدا من التوجيه المحكم الذي لو اتبعوه لحسنت صلتهم مع الخالق والمخلوق، لأنها ابتدأت بأمرهم بأعلى الحقوق وأعظمها وهو حق الله تعالى عليهم، بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم ثنت ببيان حقوق الناس فبدأت بأحقهم بالإحسان وهما الوالدان لما لهما من فضل الولادة والعطف والتربية. ثم الأقارب الذين تجمع الناس بهم صلة وقرابة من جهة الأب والأم، ورعايتهم تكون بالقيام بما يحتاجون إليه على قدر الاستطاعة، ثم باليتامى لأنهم في حاجة إلى العون بعد أن فقدوا الأب الحاني، ثم بالمساكين لعجزهم عن كسب ما يكفيهم، ثم الإحسان إلى سائر الناس عن طريق الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة، لأن الناس إن لم يكونوا في حاجة إلى المال فهم في حاجة إلى حسن المقال، ثم أرشدتهم إلى العبادات التي تعينهم على إحسان صلتهم بالخالق والمخلوق، فأمرتم بالمداومة على الصلاة بخضوع وإخلاص، وبالمحافظة على أداء الزكاة بسخاء وطيب خاطر، ولعظم شأن هاتين العبادتين البدنية والمالية ذكرتا على وجه خاص بعد الأمر بعبادة الله، تفخيما لشأنها وتوطيدا لأمرهما، وكان من الواجب على بني إسرائيل أن ينتفعوا بهذه الأوامر الحكيمة، ولكنهم عموا وصموا عنها فوبخهم القرآن الكريم بقوله : ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون.
فقد أفصحت الآية عما كان من أكثرهم، بعد أخذ الميثاق عليهم، بما فيها خيرهم وسعادتهم وهو أنهم تولوا عن العمل به، وهم معرضون غير مكترثين بما يترتب على إعراضهم، أما القليلون منهم فإنهم التزموا العمل بالميثاق، وحافظوا على تنفيذه وهم المخلصون في إيمانهم من أسلافهم قبل أن تنسخ شريعتهم بالإسلام ومن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وحافظ على هذا الميثاق الموجود في سائر الأديان كعبد الله ابن سلام وزيد بن سعنة.
وقوله : أنتم معرضون. لتأكيد توليهم، أي ثم توليتهم وأعرضتم عن تنفيذ هذا الميثاق وأنتم قوم عادتكم التولي والإعراض عن المواثيق، وهي عادة ورثتموها عن آبائكم، ويؤخذ كونها عادة لهم من الجملة الاسمية الدالة على الثبوت. وأنتم معرضون.
وفي لآية التفات من الغيبة إلى خطاب للحاضرين من اليهود في قوله : ثم توليتم لأنهم خلف لهؤلاء السابقين، في السير على نهجهم في نقض العهود وعدم احترام المواثيق فإنهم هم، فلذا خوطبوا بتوليتهم وإعراضهم.
قال السيد رشيد رضا في تفسير المنار :( قد يتولى الإنسان منصرفا عن شيء وهو عازم على أن يعود إليه، ويوفيه حقه، فليس كل متول عن شيء معرضا عنه ومهملا له على طول الدوام، لذلك كان ذكر هذا القيد وأنتم معرضون. لازما لابد منه وليس تكرارا كما يتوهم. ) ( ٢٠٩ ).
تناقض
( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمآءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون( ٨٤ ) ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسرى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنوا ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون( ٨٥ ) أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون( ٨٦ ) (
المفردات :
لا تسفكون دماءكم : تريقونها، بأن يقتل بعضكم بعضا.
تمــــهيد :
ذكر الله بني إسرائيل في الآية السابقة، بأهم الأوامر التي أخذ عليهم العهد والميثاق أن يفعلوها.
وهنا ذكرهم بأهم المنهيات التي أخذ الميثاق عليهم في التوراة بأن ينتهوا عنها فلم ينتهوا.
جاء في عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير :
يقول الله منكرا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج ـ وهم الأنصار ـ كانوا في الجاهلية عباد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل : بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريضة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهود أعداءه، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ثم إذا وضعت الحرب أوزارهم استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملا بحكم التوراة ولهذا قال تعالى : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض. ( ٢١٠ ).
ويحكي التاريخ أن العرب كانونا يعيرون اليهود فيقولون لهم كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم ؟ فكان اليهود يقولون : قد حرم علينا قتالهم ولكننا نستحيي أن نخذل حلفاءنا، وقد أمرنا أن نفتدي أسرانا.

المعنى الإجمالـــي للآيـــات :

واذكروا ـ أيضا ـ يا بني إسرائيل وقت أن أخذنا عليكم العهد، وأوصينا فيه بألا يتعرض بعضكم لبعض بالقتل، وبألا يخرج بعضكم بعضا من مساكنهم، ثم أقررت وأنتم تشهدون على الوفاء بهذا العهد والالتزام به.
ثم أنتم هؤلاء ـ يا معشر اليهود ـ بعد إقراركم بالميثاق وبعد شهادتكم المؤكدة على أنفسكم بأنكم قد قبلتموه، خرجتم على تعاليم التوراة، فنقضتم عهودكم وأراق بعضكم دماء بعض، وأخرجتم إخوانكم في الملة والدم كم ديارهم وتعاونتم على قتلهم وإخراجهم مع من ليسوا من ملتكم أو قرابتكم، ومع ذلك فإذا وقع إخوانكم الذين قاتلتموهم وأخرجتموهم من ديارهم في الأسر فاديتموهم، فلم تتبعوا حكم التوراة في النهي عن قتالهم وإخراجهم، كما اتبعتم حكمها في مفاداتهم، وكيف تستبيحون القتل والإخراج من الديار، ولا تستبيحون ترك الأسرى في أيدي عدوهم ؟ إن هذا التفريق بين أحكام الله، جزاء فاعله الهوان في الدنيا والعذاب الدائم في الآخرة، وما الله بغافل عما تفعلون، ولاشك أن أولئك اليهود الذي نقضوا عهودهم وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، قد باعوا دينهم بدنياهم فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
في أعقاب التفسير :
١- جعل الله الأمة المتواصلة بالدين وحدة متكاملة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا فإذا اعتدى أحد على أخيه فكأنما يعتدي على نفسه ويضعف نفسه.
قال ابن كثير :
ولهذا قال تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم. أي : لا يقتل بعضكم بعضا ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه كما قال تعالى :
فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم. ( البقرة : ٥٤ ) وذلك من أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال عليه الصلاة والسلام :«مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. » ( ٢١١ ).
٢- وقال السيد رشيد رضا في تفسير المنار :
وقد أورد سبحانه النهي عن سفك بعضهم دم بعض وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم وأوطانهم، بعبارة تؤكد وحدة الأمة، وتحدث في النفس أثرا شريفا، ببعثها على الامتثال إن كان هناك قلب يشعر ووجدان يتأثر فقال تعالى :
لا تسفكون دماءكم. فجعل دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه بخع وانتحر بيده، وقال تعالى : ولا تخرجون أنفسكم من دياركم. على هذا النسق، وهذا التعبير المعجز ببلاغته، خاص بالقرآن الكريم( ٢١٢ ).
تمــــهيد :
ذكر الله بني إسرائيل في الآية السابقة، بأهم الأوامر التي أخذ عليهم العهد والميثاق أن يفعلوها.
وهنا ذكرهم بأهم المنهيات التي أخذ الميثاق عليهم في التوراة بأن ينتهوا عنها فلم ينتهوا.
جاء في عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير :
يقول الله منكرا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج ـ وهم الأنصار ـ كانوا في الجاهلية عباد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل : بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريضة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهود أعداءه، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ثم إذا وضعت الحرب أوزارهم استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملا بحكم التوراة ولهذا قال تعالى : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض. ( ٢١٠ ).
ويحكي التاريخ أن العرب كانونا يعيرون اليهود فيقولون لهم كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم ؟ فكان اليهود يقولون : قد حرم علينا قتالهم ولكننا نستحيي أن نخذل حلفاءنا، وقد أمرنا أن نفتدي أسرانا.

المعنى الإجمالـــي للآيـــات :

واذكروا ـ أيضا ـ يا بني إسرائيل وقت أن أخذنا عليكم العهد، وأوصينا فيه بألا يتعرض بعضكم لبعض بالقتل، وبألا يخرج بعضكم بعضا من مساكنهم، ثم أقررت وأنتم تشهدون على الوفاء بهذا العهد والالتزام به.
ثم أنتم هؤلاء ـ يا معشر اليهود ـ بعد إقراركم بالميثاق وبعد شهادتكم المؤكدة على أنفسكم بأنكم قد قبلتموه، خرجتم على تعاليم التوراة، فنقضتم عهودكم وأراق بعضكم دماء بعض، وأخرجتم إخوانكم في الملة والدم كم ديارهم وتعاونتم على قتلهم وإخراجهم مع من ليسوا من ملتكم أو قرابتكم، ومع ذلك فإذا وقع إخوانكم الذين قاتلتموهم وأخرجتموهم من ديارهم في الأسر فاديتموهم، فلم تتبعوا حكم التوراة في النهي عن قتالهم وإخراجهم، كما اتبعتم حكمها في مفاداتهم، وكيف تستبيحون القتل والإخراج من الديار، ولا تستبيحون ترك الأسرى في أيدي عدوهم ؟ إن هذا التفريق بين أحكام الله، جزاء فاعله الهوان في الدنيا والعذاب الدائم في الآخرة، وما الله بغافل عما تفعلون، ولاشك أن أولئك اليهود الذي نقضوا عهودهم وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، قد باعوا دينهم بدنياهم فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
المفردات :
تظاهرون عليهم : أصله تتظاهرون، فحذفت إحدى التاءين، أي تتعاونون عليهم.
الإثم : هو الفعل الذي يستحق صاحبه الذم، واللوم.
العدوان : تجاوز الحد في الظلم.
أسارى : جمع أسير بمعنى مأسور، وهو من يؤخذ في سبيل الله القهر والغلبة.
تفادوهم : تنقذوهم بدفع الفداء، وهو ما يدفع في فك الأسير.
خزي : هوان.
يردون : يرجعون.
التفسير :
٣- قوله تعالى : وإن يأتوكم أسارا تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم. بيان لتناقضهم وتزييفهم لأحكام الله تعالى.
أي أنتم يا معشر اليهود إن وجدتم الذين قاتلتموهم وأخرجتموهم من ديارهم أسرى تسعون في فكاكهم، وتبذلون عوضا لإطلاقهم، والشأن أن قتلهم وإخراجهم محرم عليكم كتركهم أسرى في أيدي أعدائكم، فلماذا لم تتبعوا حكم التوراة في النهي عن قتالهم وإخراجهم كما اتبعتم في مفاداتهم ؟.
وصدرت الجملة الكريمة : وهو محرم عليكم وإخراجهم. بضمير الشأن للاهتمام بها والعناية بشأنها، وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم وليس خافيا عليهم، وقوله تعالى : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟. توبيخ وتقريع لهم على تفريقهم بين أحكام الله.
والمعنى : أفتتبعون أحكام كتابكم في فداء الأسرى، ولا تتبعونها عن قتال إخوانكم وإخراجهم من ديارهم ؟ فالاستفهام للإنكار والتوبيخ على التفريق بين أحكامه تعالى، بالإيمان ببعضها والكفر بالبعض الآخر.
قال الأستاذ أحمد شاكر معلقا على تفسير ابن كثير للآية الكريمة :
( ومما يملأ النفس ألما وحزنا، أن صار أكثر الأمم التي تنسب إلى هذا الوصف المكروه، ووقعوا في مثل هذا العمل الذي ذم الله اليهود من أجله، وجعل جزاء من يفعله خزيا في الحياة الدنيا وعذابا شديدا في الآخرة، فنرى أكثر الأمم المنتسبة إلى الإسلام يعتقدون صحة القرآن ويشهدون بذلك ويعرفونه، ويزعمون القيام بأمره ثم هم يخالفونه في التشريع في شؤونهم المالية والجنائية والخلقية، ولا يستحون أن يعلنوا أن تشريعه وتشريع رسول الله في سنته لا يوافق هذا العصر، ويجعلون من حقهم أن يشرعوا ما شاءوا، وافق الكتاب والسنة أم خالفه، أو يصطنعون قوانين أوربا الوثنية الملحدة، ويشربونها في قلوبهم، يزعمونهم أهدى وأنفع للناس مما أنزل إليهم من ربهم، ولا يتعظون بما أنذرهم به ربهم من المثل بالأمم قبلهم )( ٢١٣ ).
يقول الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين : " وإنما سمى سبحانه عصيانهم بالقتل والإخراج من الديار كفرا، لأن من عصى أمر الله تعالى بحكم عملي معتقدا أن الحكمة الصلاح فيما فعله، بحيث يتعاطاه دون أن يكون في قلبه أثر من التحرج، ودون أن يأخذه ندم وحزن من أجل ما ارتكب، فقد خرج بهذه الحالة النفسية عن سبيل المؤمنين، وفي الآية الكريمة دليل واضح على أن الذي يؤمن ببعض ما تقرر في الدين بالدليل القاطع ويكفر ببعضه، يدخل في زمرة الكافرين لأن الإيمان كل لا يتجزأ " ( ٢١٤ ).
تمــــهيد :
ذكر الله بني إسرائيل في الآية السابقة، بأهم الأوامر التي أخذ عليهم العهد والميثاق أن يفعلوها.
وهنا ذكرهم بأهم المنهيات التي أخذ الميثاق عليهم في التوراة بأن ينتهوا عنها فلم ينتهوا.
جاء في عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير :
يقول الله منكرا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج ـ وهم الأنصار ـ كانوا في الجاهلية عباد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل : بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريضة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهود أعداءه، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ثم إذا وضعت الحرب أوزارهم استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملا بحكم التوراة ولهذا قال تعالى : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض. ( ٢١٠ ).
ويحكي التاريخ أن العرب كانونا يعيرون اليهود فيقولون لهم كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم ؟ فكان اليهود يقولون : قد حرم علينا قتالهم ولكننا نستحيي أن نخذل حلفاءنا، وقد أمرنا أن نفتدي أسرانا.

المعنى الإجمالـــي للآيـــات :

واذكروا ـ أيضا ـ يا بني إسرائيل وقت أن أخذنا عليكم العهد، وأوصينا فيه بألا يتعرض بعضكم لبعض بالقتل، وبألا يخرج بعضكم بعضا من مساكنهم، ثم أقررت وأنتم تشهدون على الوفاء بهذا العهد والالتزام به.
ثم أنتم هؤلاء ـ يا معشر اليهود ـ بعد إقراركم بالميثاق وبعد شهادتكم المؤكدة على أنفسكم بأنكم قد قبلتموه، خرجتم على تعاليم التوراة، فنقضتم عهودكم وأراق بعضكم دماء بعض، وأخرجتم إخوانكم في الملة والدم كم ديارهم وتعاونتم على قتلهم وإخراجهم مع من ليسوا من ملتكم أو قرابتكم، ومع ذلك فإذا وقع إخوانكم الذين قاتلتموهم وأخرجتموهم من ديارهم في الأسر فاديتموهم، فلم تتبعوا حكم التوراة في النهي عن قتالهم وإخراجهم، كما اتبعتم حكمها في مفاداتهم، وكيف تستبيحون القتل والإخراج من الديار، ولا تستبيحون ترك الأسرى في أيدي عدوهم ؟ إن هذا التفريق بين أحكام الله، جزاء فاعله الهوان في الدنيا والعذاب الدائم في الآخرة، وما الله بغافل عما تفعلون، ولاشك أن أولئك اليهود الذي نقضوا عهودهم وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، قد باعوا دينهم بدنياهم فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة : آثروا متاعها على نعيم الآخرة.
لقد توعد الله من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه بالخزي والمذلة في الدنيا، وبأشد ألوان العذاب يوم القيامة ثم أكد سبحانه هذا الوعيد الشديد وبين علته فقال تعالى : أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
والمعنى : أولئك اليهود الذين فرقوا أحكام الله، وباعوا دينهم بدنياهم وآثروا متاع الدنيا على نعيم الآخرة قد استحقوا غضب الله فلا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة، ولا يجدون من دون الله وليا ولا نصيرا.
تكذيب وقتل
( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وءاتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون( ٨٧ ) وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون( ٨٨ ) (
المفردات :
الكتاب : التوراة.
وقفينا من بعده بالرسل : أي بعثناهم على إثره إليهم يقال : قفاه به أي اتبعه إياه وأرسله على إثره.
عيسى : بالسريانية يسوع.
مريم بالعبرية : الخادم لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس.
وأيدناه : قويناه، من آد الرجل إذا اشتد وقوى.
بروح القدس : القدس الطهارة. وروح القدس هو جبريل عليه السلام أي الروح المطهر.
تمـــــهيد :
جرت سنة الله في البشر أنه إذا طال عليهم الأمد بعد أن يأتيهم الرسل تقسو منهم القلوب، ويذهب أثر الموعظة من الصدور، ويفسقون عن أمر ربهم، قال تعالى : ألم يئن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون. ( الحديد : ١٦ )، من أجل هذا كان سبحانه يرسل الرسل بعضهم إثر بعض حتى لا يطول الإنذار فتقسوا القلوب، وقد كان الشعب الإسرائيلي أكبر الشعوب حظا في عدد الرسل الذين أرسلوا إليهم، فليس لهم من العذر، ما يسوغ نسيان الشرائع أو تحريفها وتأويلها، ولكن كانوا يطيعون أهواءهم ويتبعون شهواتهم ويعصون رسلهم فمنهم من كذبوه ومنهم من قتلوه.
التفسير :
٨٧- ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل. هذا تذكير من الله لبني إسرائيل بضرب من النعم التي أنعم بها عليهم فقابلوها بالكفر والعصيان. وهي أن الله سبحانه أرسل موسى عليه السلام إليهم، وآتاهم التوراة فيها هدى ونور لهدايتهم فحرفوها وبدلوها وخالفوا أوامرها.
وأرسل الله الرسل والنبيين من بعد موسى ليحكموا بشريعته ويقتفوا أثره ( ٢١٥ ). ومن هؤلاء الرسل : يوشع وداود وسليمان وعزير وإلياس واليسع ويونس وزكرياء ويحيى عليهم السلام، فلم يكن لبني إسرائيل عذر يعتذرون به عن مخالفة الشرائع وتحريفها أو تغيير أوضاعها.
فقد تولت الرسل بعد موسى ليتوالى تفسير التوراة بما تلاها من أسفار رسل بني إسرائيل، ولطول الفترة بين موسى وعيسى فقد كانت خمسا وعشرين وتسعمائة وألف سنة على ما قيل. قال تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترا( المؤمنون٤٤ ).
حتى ختم الله أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم فجاء بمخافة التوراة في بعض الأحكام، ولهذا أعطاه الله من البينات وهي المعجزات ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به.
قال تعالى : وأتينا عيسى ابن مريم البينات. أي أعطاه الله الآيات الواضحة الدالة على نبوته، كإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، والإخبار ببعض المغيبات، وكذلك آيات الإنجيل.
وأيدنا بروح القدس. أي قواه الله بجبريل الأمين الذي يؤيد الله به أنبياءه.
قال ابن كثير :
وروح القدس هو جبريل كما نص عليه ابن مسعود في تفسير الآية وتابعه على ذلك ابن عباس وغيره مع قوله تعالى : نزل به الروح الأمين( ١٩٣ ) على قلبك لتكون من المنذرين( ١٩٤ ) ( الشعراء١٩٣-١٩٤ ).
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله :«اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك » ( ٢١٦ ).
رواه البخاري، ورواه أبو داود والترمذي موصلا، وقال الترمذي حسن صحيح.
وعن أبي هريرة :( أن عمر بن الخطاب مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه، فقال : قد كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك. ثم التفت إلى أبى هريرة فقال : أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أجب عني، اللهم أيده بروح القدس ؟ فقال اللهم نعم ) ( ٢١٧ )
وفي بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان :«اهجهم أو هاجهم وجبريل معك » ( ٢١٨ ).
«وإنما خص عيسى عليه السلام بالذكر من بين أنبياء بني إسرائيل لكونه صاحب كتاب نسخ بعض أحكام شريعة موس عليه لسلام » ( ٢١٩ ).
أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ؟
أي أبلغ بكم الأمر كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهوى أنفسكم استكبرتم عليه تجبرا وبغيا في الأرض ؟
ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون. أي فبعضا منهم تكذبون كعيسى ومحمد عليهما السلام وبعضا تقتلون كزكريا ويحيى عليها السلام، فلا عجب بها بعد هذا إن لم تؤمنوا بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن العناد والجحود من طبعكم.
تمـــــهيد :
جرت سنة الله في البشر أنه إذا طال عليهم الأمد بعد أن يأتيهم الرسل تقسو منهم القلوب، ويذهب أثر الموعظة من الصدور، ويفسقون عن أمر ربهم، قال تعالى : ألم يئن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون. ( الحديد : ١٦ )، من أجل هذا كان سبحانه يرسل الرسل بعضهم إثر بعض حتى لا يطول الإنذار فتقسوا القلوب، وقد كان الشعب الإسرائيلي أكبر الشعوب حظا في عدد الرسل الذين أرسلوا إليهم، فليس لهم من العذر، ما يسوغ نسيان الشرائع أو تحريفها وتأويلها، ولكن كانوا يطيعون أهواءهم ويتبعون شهواتهم ويعصون رسلهم فمنهم من كذبوه ومنهم من قتلوه.
المفردات :
غلف : جمع أغلف : أي مغشاة بأغلفة مانعة من وصول الهدى إليها.
التفسير :
٨٨- وقالوا قلوبنا غلف. أي أمر اليهود على العناد الكفر وعدم الاستماع إلى ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم معللين عدم إيمانهم بأن قلوبهم مغشاة بأغطية لا ينفذ منها إلى قلوبهم ما جاء به صلوات الله عليه حتى تفقه عقولهم.
على حد قول مشركي مكة. وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب. ( فصلت : ٥ ).
يعنون أن قلوبهم ليس فيها استعداد لقبول ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وقد كذبوا، فإنه دين الفطرة، فلو تركوا فطرتهم كما خلقت عليه لقبلته وآمنت به، ولكنهم استكبروا وآثروا الضلالة على الهدى فلعنهم الله بكفرهم وأوهن يقينهم.
بل لعنهم الله بكفرهم. و. بل. هنا للإضراب الإبطالي، ورد ما يقولونه أي : ليس الأمر كما زعموا بل أبعدهم الله عن رحمته بأن خذلهم وتركهم وشأنهم، بسبب إصرارهم على الكفر وعنادهم في قبول الحق، فاستحقوا أن يحرمهم الله من لطفه ورحمته. وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون. ( آل عمران : ١١٧ ).
فقليلا ما يؤمنون. أي فهم يؤمنون إيمانا قليلا، وهو إيمانهم ببعض الكتاب وتحريف بعضه الآخر أو ترك العمل به، والذين آمنوا به كان قولا باللسان تكذبه الأعمال، إذ لم يكن للإيمان سلطان على قلوبهم، فيكون هو المحرك لإرادتهم، وإنما يحركها الهوى والشهوة، ويصرفها عامل اللذة.
وقد يكون المعنى كما قال ابن جرير الطبري : إنه لا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به إلا القليل منهم، فالمخالفة لم تغير كل الشعب، بل غيرت الأكثر منهم ونجا نفر قليل.
حسد وبغى
( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين( ٨٩ ) بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين( ٩٠ ) وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين( ٩١ )(
المفردات :
يستفتحون : يستنصرون من الاستفتاح وهو طلب الفتح والنصرة.
فلعنة الله : اللعنة : الإبعاد والطرد من مواقع الرحمة.
اشتروا به : شرى واشترى يستعملان حينا بمعنى باع، وآخر بمعنى أخذ والمراد هنا الأول.
بغيا : البغي في الأصل الفساد من قولهم بغى الجرح إذا فسد ثم أطلق على مجاوزة الحد في كل شيء.
باءوا : رجعوا.
مهين : فيه مهانة وإذلال.
وراءه : سواه كما يقول الرجل لمن يتكلم بجيد الكلام ما وراء هذا الكلام شيء.
تمهـــيـد :
كانت اليهود تبشر العرب بنبي سيظهر، ويقولون للعرب سنتبعه وننتصر به عليكم، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم من نسل إسماعيل ولم يكن من نسل إسحاق تركوا دعوته حسدا وكبرا.
روى محمد ابن إسحاق عن ابن عباس : أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ ابن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة : يا معشر اليهود، اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل الشرك، وتخبروننا بأنه مبعوث. وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مسلم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكركم فأنزل الله في ذلك من قولهم ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم.
التفسير :
٨٩- ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدقا لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين.
ولما جاءهم رسولنا بالقرآن وهو كتاب من عند الله مصدق لما أنزل عليهم من التوراة وموافق له في التوحيد وأصول الدين ومقاصده. وكانوا يستنصرون بهذا النبي على مشركي العرب وكفارة مكة ويقولون إن كتابه سينصر التوحيد الذي جاء به موسى، ويخذل الوثنية التي تنتحلونها.
فلما جاءهم الكتاب الذي عرفوا أنه من عند الله كفروا به، وسبب هذا أنهم حسدوا العرب على أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم فحملهم ذلك على الكفر به جحودا وعنادا فسجل الله عليهم الطرد والإبعاد من رحمته لجحودهم بالحق بعد أن تبين لهم.
وقيل إن المراد بلفظ. ما عرفوا. هو النبي صلى الله عليه وسلم واستعمال. ما. فيمن يعلم كثير كقوله تعالى : والسماء وما بناها. ( الشمس : ٥ ) يعني ومن بناها وعلى هذا تكون جملة كفروا به. جوابا عن فلما جاءهم ما عرفوا.
أما جواب : ولما جاءهم كتاب. فمقدر تقديره كذبوه، وقد دل عليه جواب الثانية. والمعنى عليه : فلما جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي عرفوا صفاته ونبوته من التوراة معرفة لا يخالجها ريب حسدوه لأنه من العرب أولاد إسماعيل وملأ الحسد قلوبهم غيظا، ألا لعنة الله على أمثالهم من المعاندين الجاحدين.
تمهـــيـد :
كانت اليهود تبشر العرب بنبي سيظهر، ويقولون للعرب سنتبعه وننتصر به عليكم، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم من نسل إسماعيل ولم يكن من نسل إسحاق تركوا دعوته حسدا وكبرا.
روى محمد ابن إسحاق عن ابن عباس : أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ ابن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة : يا معشر اليهود، اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل الشرك، وتخبروننا بأنه مبعوث. وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مسلم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكركم فأنزل الله في ذلك من قولهم ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم.
٩٠- بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين.
كان اليهود ينتظرون بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاءهم حسدوه واستبدلوا بالإيمان الذي هيأ الله لهم أسبابه ليسعدوا.. استبدلوا به الكفر الذي يؤدي بهم إلى الشقاء الدائم، وآثروه عليه فكان اختيارهم الكفر على الإيمان، بمنزلة بيع أنفسهم بالكفر على النار.
ولما كانت الخسارة في ذلك الاستبدال عظيمة قال سبحانه : بئسما اشتروا به أنفسهم : أي بئسما باعوها به. أن يكفروا بما أنزل الله. فالكفر هو الثمن الذي باعوا به أنفسهم والمشتري الشيطان أو جهنم، وكل ذلك من باب التصوير والتمثيل لتهويل سوء ما اختاروه وتقبيحه.
وقوله تعالى : بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. تعليل لكفرهم وبيان للباعث عليه، أي كفروا بما أنزل الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بدافع من البغي والحقد ناقمين على غيرهم أن خصهم الله دونهم بإرسال رسول منهم منكرين على الله أن يكون له مطلق الخيرة في أن ينزل من فضله على من يشاء من عباده.
فباءوا بغضب على غضب. أي استوجبوا واستحقوا ورجعوا بغضب شديد مؤكد لصدوره من الله تعالى.
وقال ابن عباس : فالغضب على الغضب : غضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم( ٢٢٠ ).
وقال الزمخشري : فباءوا بغضب على غضب. فصاروا أحقاء بغضب مترادف لأنهم كفروا بنبي الحق وبغوا عليه.
وقيل كفروا بمحمد بعد عيسى وقيل بعد قولهم عزير ابن الله، وقولهم : يد الله مغلولة، وغير ذلك.
وللكافرين عذاب مهين. أي ولهم عذاب مهين مذل جزاء كفرهم واستكبارهم، وهذا العذاب مطلق يشمل عذاب الدنيا والآخرة.
تمهـــيـد :
كانت اليهود تبشر العرب بنبي سيظهر، ويقولون للعرب سنتبعه وننتصر به عليكم، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم من نسل إسماعيل ولم يكن من نسل إسحاق تركوا دعوته حسدا وكبرا.
روى محمد ابن إسحاق عن ابن عباس : أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ ابن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة : يا معشر اليهود، اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل الشرك، وتخبروننا بأنه مبعوث. وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مسلم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكركم فأنزل الله في ذلك من قولهم ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم.
٩١- وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا. أي وإذا دعوا إلى الإيمان والتصديق بما أنزل الله على نبيه محمد أنكروا وعارضوا وقالوا مستكبرين : إنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل على أنبيائهم، زاعمين أنه لا حق إلا عندهم يريدون بذلك أن يتحكموا في وحي الله وفضله.
ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم. أي وهم يكفرون بما سوى التوراة وهو القرآن الذي جاء مصدقا لها، وهو الحق الذي لا شك فيه، وكيف يكفرون به وهو مؤيد عنده بالعقل والنقل. ثم إن كفرهم بهذا الكتاب المصدق لما في كتابهم هو كفر بكتابهم نفسه.
قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين. أي قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين إذا دعوتهم إلى الإيمان بك قالوا : نؤمن بما أنزل علينا. قل لهم : إن كنتم حقا مؤمنين بما أنزل عليكم وهو التوراة، فلأي شيء تقتلون أنبياء الله مع أن التوراة تحرم عليكم قتلهم، بل هي تأمركم باتباعهم وتصديقهم وطاعتهم.
إن قتلكم لهم أكبر دليل على أنكم لم تؤمنوا، لا بما أنزل عليكم ولا بغيره، وأنكم كاذبون في مدعاكم لأن جميع ما أنزل الله من وحي يحرم قتل الأنبياء ويأمر الناس باتباعهم وطاعتهم.
ويرجع معنى الآية إلى نفي فعل الشرط وهو كونهم مؤمنين، إذ لا وجه لقتلهم الأنبياء إلا عدم إيمانهم بالتوراة، وهذا كما تريد أن تنفى عن رجل العقل لفعله ما ليس ن شأنه أن يصدر عن عاقل فتقول له : إن كنت عاقلا فلم فعلت كذا ؟ أي أنت لست بعاقل.
والفاء في فقوله تعالى : فلم تقتلون. واقعة في جواب شرط محذوف دل عليه ما بعده، والتقدير إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم فلم تقتلون أنبياء الله تعالى. وقد نسب القتل إليهم مع أنه فعل أسلافهم، لبيان وحدة الأمة وتكافلها، وأنها في الطبائع والأخلاق المشتركة كالشخص والواحد، فما يصيبها من حسنة أو سيئة، فإنما مصدره الأخلاق الغالبة عليها فما حدث منهم كان عن أخلاق راسخة في الشعب تبع فيها الآخرون الأولين، إما بالعمل بها، وإما بترك الإنكار لها، ( وللإشعار بأن الخلف يمشون على عماية السلف في التعدي والعصيان، فلقد حاول اليهود المعاصرون للعهد النبوي قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الله تعالى عصمه منهم ونجاه من مكرهم ).
وأضاف سبحانه الأنبياء إليه فقال : أنبياء الله. للتنبيه على شرفهم العظيم، وللدلالة على فظاعة عصيان اليهود واجتراحهم المنكر، إذ قابلوا بالقتل من يجب عليهم أن يقابلوهم بالتصديق والتوقير والطاعة.
عصيان ومخالفة
( ولقد جاءكم موسى بالبيانات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون( ٩٢ ) وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما أتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين( ٩٣ ) (
المفردات :
البينات : جمع بينة وهي الآيات الدالة على صدقه، وحقيقة نبوته، كانقلاب العصا حية، وفلق البحر، وانفجار العيون من الحجر.
العجل : هو من صنعه له السامري من الحلي تمثالا على صورة العجل.
التفسير :
٩٢- ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون. أي ولقد أرسلنا إليكم موسى بالآيات الواضحة، والأدلة القاطعة، والبراهين الناصعة على توحيد الله وعظيم قدرته، فخالفتم ذلك وعصيتم أمره، وعبدتم عجل السامري من بعد ذلك، فهذا ظلم ووضع للشيء في غير موضعه اللائق به، لأنكم تركتم عبادة من يستحق العبادة وهو الله تعالى. وعبدتم العجل الذي لا يملك ضرا ولا نفعا( ٢٢١ ).
والتعبير بالجملة الاسمية : وأنتم ظالمون فيه دلالة على ثبات الظلم واستقراره فيهم، وأنه شأن من شؤونهم، ولقد سبق التبكيت باتخاذهم العجل في قوله تعالى : وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون. ( البقرة : ٥١ ) وأعيد هنا بعبارة أخرى في سياق آخر، وهو أن الآيات الدالة على النبوة والوحدانية، مثل الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد وفلق البحر وتظليلهم بالغمام والمن والسلوى والحجر. هذه الآيات لم تزدهم إلا إيغالا في الشرك وانهماكا في الوثنية. ثم اتخذتم العجل من بعده : أي اتخذتم العجل من بعد مجيء موسى بالبنيات على رسالته. وصحة ما دعاكم إليه من توحيد الله بالعبادة.
والتعبير بقوله : من بعده. يفيد أنه لم يكن لهم عذر في ذلك الاتخاذ فإنه بعد بلوغ الدعوة قامت الحجة عليهم.
والآية الكريمة فيها إبطال دعواهم بما أنزل عليهم لأنهم لو كانوا مؤمنين حقا بنبيهم الذي جاء بالبينات لما تركوه ما أمرهم به وهو عبادة الله، وفعلوا ما نهاهم عنه وهو عبادة العجل.
وقال ابن كثير :
من بعده. أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله كما قال تعالى : واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه ل يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين. ( الأعراف : ١٤٨ ).
المفردات :
الطور : هو الجبل المعروف في شبه جزيرة سيناء.
وأشربوا في قلوبهم : أشرب قلبه كذا أي حل محل الشراب، كأن الشيء يساغ فهو يسري في القلب المحب ويمازجه كما يسري الشراب العذب البارد في اللهاة، وحقيقة أشربه كذا : جعله شاربا له.
التفسير :
٩٣- وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا. واذكروا يابني إسرائيل، إذ أخذنا الميثاق المؤكد عليكم بأن تعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، وأن تعلموا بشرعه، وكان أخذ الميثاق علبكم في موقف كله رهبة وخشوع وبيان لقدرة الله على عقاب من لم يمتثل إذ رفع فوقكم جبل الطور كأنه ظلة تظللكم، وظننتم أنه سيقع عليكم، وطلب منكم حينئذ أن تأخذوا ما آتاكم من الشرع بقوة : بأن تسمعوا سماع تدبر، وفهم وقبول وتعملوا بما جاءكم فيه من التكاليف بحزم وعزم، ولكنكم لم تلبثوا أن نقضتم العهد بمجرد أن زال عنكم هذا الموقف.
ومعنى قوله تعالى : خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا. أي قلنا لكم خذوا ما أمرناكم به من التوراة بجد واجتهاد واسمعوا ما تؤمرون به سماع طاعة وتفهم، ثم حكى سبحانه جوابهم الذي يدل على عنادهم فقال : قالوا سمعنا وعصينا.
أي كانت حالهم في المخالفة مثل حال من قالوا سمعنا قولك وعصينا أمرك. وقال الزمخشري : في الكشاف :
( فإن قلت كيف طابق قوله جوابهم ؟ قلت : طابقه من حيث إنه قال لهم اسمعوا، وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة ) ( ٢٢٢ ).
وقد اختلف المفسرون : هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا أو أنهم فعلوا فعلا مقام القول فيكون مجازا ؟
قال الفخر الرازي :( الأكثرون من المفسرين على أنهم قالوا هذا القول حقيقة )
وقال أبو مسلم : وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول ولم يقولوه، كقوله تعالى : فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين. ( فصلت١١ ) قال : والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير الدليل لا يجوز( ٢٢٣ ).
وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم. واختلط حب غبادة العجل بقلوبهم، تقليدا لسادتهم من الفراعنة : الذين كانوا يعبدونه ويقدسونه، ولم ينتفعوا بتحرير الله لهم من ذل العبودية والقتل، حيث شق البحر لهم ونجاهم.
ولهذا انتهزوا فرصة ذهاب موسى عليه السلام لتلقي ألواح التوراة : فأرضوا حبهم لمعبودهم القديم، وعبدوا صنما على شكل العجل، صنعه لهم موسى السامرى من حليهم( ٢٢٤ ).
وفي تفسير ابن كثير : وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم.
قال قتادة : أشربوا حبه حتى خلص إلى قلوبهم، وروى أحمد عن أبى الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حبك الشيء يعمى ويصم " رواه أبو داود ( ٢٢٥ ).
قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين : قل لهم هذا يا محمد : بئس الذي يأمركم به إيمانكم المزعوم بالتوراة من الأعمال التي تقترفونها، كعبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق، وقولكم : سمعنا وعصينا. وإضافة الإيمان إليهم في قولهم : إيمانكم. للإيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة كما ينبئ عنه قوله تعالى : إن كنتم مؤمنين. فإنه قدح في دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم من التوراة وإبطال لهذه الدعوى، وتقرير الإبطال : إن كنتم فيما اقترفتموه من الشرك والمعاصي مؤمنين بها، عاملين فبها كما ادعيتم، فبئسما يأمركم به إيمانكم المزعوم بها، إذ إن الإيمان الصادق بها لا يأمركم بما اقترفتموه من الشرك والمعاصي، فليس فيها إباحة شيء من ذلك، وهذا برهان على عدم إيمانكم بها.
قال الطبري : قوله : إن كنتم مؤمنين. أي إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم، إنما كذبهم الله بذلك لأن التوراة تنهى عن ذلك كله وتأمر بخلافه، فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة إن كان يأمرهم بذلك، فبئس الأمر تأمر به، إنما ذلك نفي من الله تعالى عن التوراة أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم، وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله، وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمر بذلك أهواؤهم، والذي يحملهم عليه البغي والعدوان( ٢٢٦ ).
وقد ذكر الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز ألوانا من الإعجاز البياني والنفسي تنطوي عليها الآيات السابقة في حجاج اليهود.
ففي تفسير الآية( ٩١ ) من سورة البقرة : وإذا قيل لكم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم...
قال الأستاذ دراز : هذه الآية قطعة من فصل من قصة بني إسرائيل والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة تتلخص فيما يلي :
١- مقالة ينصح بها الناصح لليهود : إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن.
٢- إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوي على مقصدين.
٣- الرد على هذا الجواب بركنيه من عدة وجوه. وفي ختام الآية ٩١ : قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين.
يقول الأستاذ دراز :
لقد استوى القرآن إلى الرد على المقصد الأصلي الذي تبجحوا بإعلانه، فأوسعهم تكذيبا وتفنيدا، وبين أن داء الجحود فيهم داء قديم، قد أشربوه في قلوبهم، ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضا مزمنا، وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد ماهو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم، وساق على ذلك الشواهد التاريخية المفظعة التي لا سبيل إلى إنكارها، في جهلهم بالله، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه وتمردهم على أوامره.
قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين. تأمل كيف أن هذا انتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة إذ يفهم السامع من تكذيبهم لما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين كتابهم نفسه، وهل الذي يكذب من يصدقك يبقى مصدقا لك ؟
ثم انظر بعد أن سجل القرآن على بني إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة. بعد كل ذلك تراه لا يزيد على أن يقول في الأمر : إن هذا ( ظلم ) وفي الثانية ( بئسما ) صنعتم، أذلك ما تقابل به هذه الشناعات ؟ نعم إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فهمتا على وجههما، ولكن أين حدة الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام.
بل أين الإقذاع والتشنيع ؟ وأين الإسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس، إذا أحفظوا بالنيل من مقامهم.
لله ما أعف هذه الخصومة وما أعز هذا الجناب وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين، وتالله إن هذا الكلام لا يصدر عن نفس بشر( ٢٢٧ ).
حرصهم على الحياة
( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين( ٩٤ ) ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين( ٩٥ ) ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون( ٩٦ ) (
المفردات :
خالصة : سالمة لكم مختصة بكم، لا يشارككم فيها أحد من الناس.
التمني : هو الرغبة القوية في الشيء.
المعـــنى الإجمــــالي :
قل يا محمد لأولئك اليهود الذين ادعوا أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا : إن كانت الجنة مختصة بكم، وسالمة لكم دون غيركم وليس لأحد سواكم حق فيها، فليكن الموت محببا إليكم ولتتمنوه حتى لا يبطئ عنكم هذا النعيم الذي تدعونه.
ولكنهم في الواقع لا يرغبون في الموت أبدا لما اقترفوه من ظلم لا يخفى أمره على الله، والله عليم بظلمهم وبكذبهم فيما يدعون.
بل إنك لتجدهم أحرص الناس جميعا على حياتهم على أي شكل عزيزة أو ذليلة، وحرصهم أكثر من حرص المشركين الذين لا يؤمنون ببعث ولا جنة، ولذلك يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، ولن يبعد عنه تعميره مهما طال ما ينتظر من عذاب الله، والله عليم بأعمالهم محيط بما يخفون وما يعلنون، وسيجازيهم على كل ذلك بما يستحقون.
٩٤- قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين : لقد ادعى اليهود دعاوي كثيرة، ادعوا الإيمان بما أنزل عليهم، فبينت الآيات السابقة كذب ادعائهم بعبادتهم العجل، واقترافهم كبائر الإثم.
وادعوا : أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا، فهي خالصة لهم دون غيرهم، فأبطل الله دعواهم به الآية.
والمعنى : قل لهم يا محمد : إن كانت لكم جنة الآخرة عند الله وفي حكمه وكتابه خالصة لكم، وخاصة بكم من دون الناس جميعا كما زعمتم، إذ قلتم لن يدخلها إلا من كان هودا، فتمنوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص لكم، والخاص بكم، إن كنتم صادقين في دعواكم، فإن النفس تستعجل خيرها.
قال الإمام الرازي : وبيان هذه الملازمة أن نعم الدنيا قليلة حقيرة بالقياس إلى نعم الآخرة، ثم إن نعم الدنيا على قلتها كانت منغصة عليهم بسبب ظهور محمد صلى الله عليه وسلم ومنازعته معهم، بالجدال والقتال، ومن كان في النعم القليلة المنغصة، ثم تيقن أنه بعد الموت لابد أن ينتقل إلى تلك النعم العظيمة، فإنه لابد أن يكون راغبا في الموت، لأن تلك النعم العظيمة مطلوبة، ولا سبيل إليها إلا الموت، وحيث كان الموت يتوقف عليه المطلوب، وجب أن يكون هذا الإنسان راضيا بالموت متمنيا له، فثبت أن الدار الآخرة، لو كانت خالصة لهم، لوجب أن يتمنوا الموت.
ثم إن الله تعالى أخبر أنهم ما تمنوا، بل لن يتمنوا أبدا، وحينئذ يلزم قطعا بطلان ادعائهم في قولهم : إن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ( ٢٢٨ ).
المعـــنى الإجمــــالي :
قل يا محمد لأولئك اليهود الذين ادعوا أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا : إن كانت الجنة مختصة بكم، وسالمة لكم دون غيركم وليس لأحد سواكم حق فيها، فليكن الموت محببا إليكم ولتتمنوه حتى لا يبطئ عنكم هذا النعيم الذي تدعونه.
ولكنهم في الواقع لا يرغبون في الموت أبدا لما اقترفوه من ظلم لا يخفى أمره على الله، والله عليم بظلمهم وبكذبهم فيما يدعون.
بل إنك لتجدهم أحرص الناس جميعا على حياتهم على أي شكل عزيزة أو ذليلة، وحرصهم أكثر من حرص المشركين الذين لا يؤمنون ببعث ولا جنة، ولذلك يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، ولن يبعد عنه تعميره مهما طال ما ينتظر من عذاب الله، والله عليم بأعمالهم محيط بما يخفون وما يعلنون، وسيجازيهم على كل ذلك بما يستحقون.
٩٥-ولن يتمنوا أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين. أي : لا يتمنى اليهود الموت أبدا بسبب ما قدمت أيديهم من آثام، والله عز وجل لا تخفى عليه خافية من سيئاتهم واعتداءاتهم بل هو سيسجلها عليهم ويجازيهم عليها الجزاء الذي يستحقونه.
واختار ابن كثير في تفسيره أن المراد من الآيتين الدعاء بالموت على أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة.
روى عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن ذلك يكون عن طريقة المباهلة بأن يحضروا مع المؤمنين في صعيد واحد ثم يدعوا الفريقان بالموت على الكاذب منها.
وروى ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال :«لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه » ( ٢٢٩ ). وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس. وروى ابن جرير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا » رواه الإمام أحمد( ٢٣٠ ).
وعلق ابن كثير على الكلام السابق بقوله :
وهذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين، وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب : منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة، نقله ابن جرير عن قتادة وأبى العالية والربيع بن أنس، نظير هذه الآية في قوله تعالى في سورة الجمعة : قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين( ٦ ) ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين( ٧ ) قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون( ٨ ). ( الجمعة٦-٨ ).
فهم عليهم لعائن الله لما زعموا أنهم أنبياء الله وأحباؤه، وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، دعوا إلى المباهلة والدعاء إلى أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون، لأنهم لو كانوا جاذمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا علم كذبهم، وهذا كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال تعالى : فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين. ( آل عمران : ٦١ ).
فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض : والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف، فعند ذلك جنحوا إلى السلم وبذل الجزية عن يد وهم صاغرون، فضربها عليهم وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أمينا، ومثل هذا المعنى أو قريب منه قوله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدا. أي من كان في الضلالة منا أو منكم فزاده الله مما هو فيه ومد له واستدرجه( ٢٣١ ).
وقد انتصر ابن كثير لرأى ابن عباس وبين أنه هو المتعين في تفسير الآية. وهاجم رأى جمهور المفسرين الذين قالوا معنى. إن كنتم صادقين. في دعواكم فتمنوا الموت الآن، لم يتعرض هؤلاء للمباهلة.
وقد انتصر بعض المفسرين المحدثين لرأى الجمهور ورجحه لأنه اقرب إلى موافقة اللفظ الذي نطقت به الآية وأقرب أيضا إلى معناها( ٢٣٢ ).
وأرى أن كلا التفسيرين محتملان في فهم الآية ولا حاجة بنا إلى إبطال أحدهما ولا يمنع أن يفهم منها المعنى الآخر، ومن أسرار الإعجاز القرآني، أن الآية تفيد معنى وتشير إلى معنى وتستتبع معنى.
وهي في ذاتها قطعة من الأدب الرفيع على السبك المحكم أو الرد المفحم أو الحجة البالغة.
ولعل من المعاني التي تشير إليها الآية أن المؤمن لا يهاب الموت ولا يرهب الردى ثقة منه بأن أجله محدود، ورزقه مقسوم، والموت رحلة إلى الآخرة، يشاهد فيها المؤمن ما أعد للأبرار، ويقدم على العزيز الغفار، مطمئنا راضيا مرضيا.
وقد روي عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم تمنى الموت عند القتال، معبرين بألسنتهم عما يجول في صدورهم، من صدق الإيمان بما أعد للمؤمنين من الدار الآخرة، فقد جاء في الأخبار أن عبد الله بن رواحة كان ينشد وهو يقاتل الروم :
يا حبذا الجنة واقترابها **** طيبة وبارد شرابها
وأن عمار بن ياسر قال في حرب صفين :
غدا نلقى الأحبه **** محمدا وصحبه
ويقول الشاعر :
أرى كلنا يهوى الحياة بسعيه ****حرصا عليها مستلهما بها صبا
فحب الجبان النفس أرده التقى**** وحب الشجاع النفس أورده الحربا
المعـــنى الإجمــــالي :
قل يا محمد لأولئك اليهود الذين ادعوا أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا : إن كانت الجنة مختصة بكم، وسالمة لكم دون غيركم وليس لأحد سواكم حق فيها، فليكن الموت محببا إليكم ولتتمنوه حتى لا يبطئ عنكم هذا النعيم الذي تدعونه.
ولكنهم في الواقع لا يرغبون في الموت أبدا لما اقترفوه من ظلم لا يخفى أمره على الله، والله عليم بظلمهم وبكذبهم فيما يدعون.
بل إنك لتجدهم أحرص الناس جميعا على حياتهم على أي شكل عزيزة أو ذليلة، وحرصهم أكثر من حرص المشركين الذين لا يؤمنون ببعث ولا جنة، ولذلك يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، ولن يبعد عنه تعميره مهما طال ما ينتظر من عذاب الله، والله عليم بأعمالهم محيط بما يخفون وما يعلنون، وسيجازيهم على كل ذلك بما يستحقون.
المفردات :
يعمر : يطول عمره.
بمزحزحه : بمبعده من العذاب.
البصير : العالم بكنه الشيء الخبير به.
التفسير :
٩٦- ولتجدنهم أحرص على الحياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة. أي أنهم يحبون الإخلاد إلى الأرض، ويعملون كل ما يوصلهم إلى البقاء فيها فلا ثقة لهم بأنفسهم فيما يزعمون، وتلك سيرتهم في كل زمان الكلام مع من كان في عصر التنزيل.
وهكذا نجد القرآن، يرسل من الحجاج، فيشاغبون ويعاندون، اعتزازا بشعبهم، واعتزازا بكتابهم.
ومن الذين أشركوا : أي وهم أشد حرصا على الحياة من الذين أشركوا، ولم يؤمنوا بالله ولا باليوم الأخر، وفي هذا توبيخ وإيلام عظيم لهم، إذ المشركون لا يؤمون ببعث، ولا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا، فحرصهم عليها ليس بالغريب، أما من يؤمن بالكتاب ويقر بالجزاء فمن حقه ألا يكون شديد الحرص عليها.
وقوله : ومن الذين أشركوا : معطوف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل : أحرص من الناس ومن الذين أشركوا، فقوله : أحرص الناس فيه كلمة ( من ) مقدرة بعد أحرص.
قال صاحب الكشاف : وفيه توبيخ عظيم، لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة، ولا يعرفون إل الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم، فإذا زاد عليها في الحرص من له من الكتاب وهو مقر بالجزاء، كان حقيقا بأعظم التوبيخ، فإن قلت : لم زاد حرصهم على حرص المشركين ؟
قلت : إنهم عملوا بأنهم صائرون إلى النار ولا محالة، والمشركون لا يعلمون ذلك، وقيل : أراد بالذين أشركوا المجوس لأنهم كانوا يقولون لملوكهم : عش ألف نيروز، وألف مهرجان( ٢٣٣ ).
يود أحدهم لو يعمر ألف سنة : أي بلغ من شدة غلوهم في الحرص على الحياة، أن الواحد منهم يتمنى أن يعيش السنين الكثيرة، ولو تجاوزت الحد الذي يبلغه الإنسان في العادة، فكلمة ( ألف سنة ) كناية عن المدة الطويلة التي يود أن يحياها، وليس المراد خصوصا العدد، لأن العرب تذكر الألف وتريد الكثرة.
وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، وما ذلك التعمير لو تم، بنافعه ولا مبعده من عذاب الله المحتوم، لأنه لا بد من الموت والعرض على الله، ليجازى على ما قدم في دنياه.
والله بصير بما يعملون : أي والله عالم بأعمالهم، محيط بما يخفون وما يعلنون، وسيجازيهم على كل ذك بما يستحقون.
ومن هذا العرض للآيات الكريمة نرى أنها قد ردت على اليهود زعمهم الباطل بأن الجنة خالصة لهم، فأبطلت حجتهم وكشف مزاعمهم، وأخرست ألسنتهم، وبينت أن الجنة لمن أسلم وجهه لله وهو محسن، وهم ليسوا من هذا النوع من الناس، ولذلك حرصوا على الحياة وفزعوا من الموت، بسبب ما ارتكبوا من سيئات وما اقترفوا من آثام ( ٢٣٤ ).
عداوة جبريل
( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين( ٩٧ ) من كان عدوا لله وملائكته و رسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين( ٩٨ ) ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون( ٩٩ ) أو كلما عهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون( ١٠٠ ) (
المفردات :
العدو : ضد الصديق، يطلق على الواحد والمثنى والجمع المذكر والمؤنث.
جبريل : أمين الوحي بين الله تعالى ورسله، وهو روح القدس.
مصدقا لما بين يديه : أي مؤيدا ما تقدمه من الكتب السماوية التي نزلت على من سبق نبينا من الرسل.
المعـــنى الإجـمالــي :
ذكر الله في آيات سابقة معاذير لليهود اعتذروا بها عن عدم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم كقولهم إنهم مؤمنون بكتاب من ربهم وقولهم إنهم ناجون حتما في الآخرة.
وفي هذه الآيات ذكرت علة أخرى هي أعجب من كل ما تقدم فندها كما فند من قبلها، تلك هي قولهم إن جبريل الذي ينزل على محمد الوحي عدوهم فلا يؤمنون بما يجيء به منه.
قد بين القرآن أن جبريل لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه إنما بأمر الله مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية، مصدقا لكتابهم نفسه، وليكون هداية وبشارة للمؤمنين.
فمن كان عدوا لجبريل أو ميكائيل أو لأي ملك أو رسول من ملائكة الله ورسله الذين لا يفعلون ولا يبلغون إلا ما يأمرهم به الله، فإنه يكون عدوا لله وكافرا به. والله عدو للكافرين. وما ينزل جبريل على النبي بآيات بينات لا يسع طالب الحق إلا الإيمان بها، وما يكفر بمثلها إلا المعاندون الخارجون من سنة الفطرة. وكما تذبذبوا في العقيدة والإيمان تذبذبوا كذلك فيما يبرمونه من عهود. فكانوا كلما عاهدوا المسلمين وغيرهم عهدا نبذه فريق منهم لأن معظمهم لا يؤمن بحرمة عهد ولا بقداسة ميثاق.
التفسير :
٩٧- قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن من الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين.
قال الإمام ابن جرير الطبري :( أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا، على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم وميكائيل ولي لهم ) ( ٢٣٥ ).
ومن قبائح اليهود قولهم في جبريل عليه السلام هو عدونا، وأرادوا من هذا القول : أنهم لا يؤمنون بوحي يجيء به عدوهم فهم لا يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن جبريل هو الذي ينزل عليه الوحي.
فهم يثبتون أن جبريل ملك مرسل من عند الله ومع ذلك يبغضونه وهذا أحط درجات الانحطاط في العقل والعقيدة.
قال ابن كثير في معنى الآية : أي من عادى جبريل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل الله، ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل كما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل.
وكذلك من عادى جبريل فإنه عدو لله، لأن جبريل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه( ٢٣٦ )، كما قال : وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا. ( مريم٦٣ )
وقال تعالى : وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين. ( الشعراء١٩٢-١٩٣ ).
وقد نزل القرآن على قلب النبي الأمين مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية وهدى لقلوب المؤمنين وبشارة لهم بالجنة.
وقد ورد في البخاري وفي مسند الإمام أحمد وفي مسند الترمذي والنسائي روايات متعددة تفيد أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن ينزل عليه الوحي ؟ فقال : جبريل، فقالوا ذاك عدونا عادانا مرارا( ٢٣٧ ).
وقيل : دخل عمر رضي الله عنه مدارس اليهود يوما فسألهم عن جبريل فقالوا : ذاك عدونا يطلع محمد على أمورنا وإنه صاحب كل خسف وعذاب وميكائيل صاحب الخصب والسلام. فقال : لئن كانا كما تقولون فليسا بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير، ومن كان عدوا لأحدهما فهو عدوا لله. ثم رجع عمر وتوج نحو النبي صلى الله عليه وسلم ليحدثه فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله. الآيات( ٢٣٨ ).
المعـــنى الإجـمالــي :
ذكر الله في آيات سابقة معاذير لليهود اعتذروا بها عن عدم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم كقولهم إنهم مؤمنون بكتاب من ربهم وقولهم إنهم ناجون حتما في الآخرة.
وفي هذه الآيات ذكرت علة أخرى هي أعجب من كل ما تقدم فندها كما فند من قبلها، تلك هي قولهم إن جبريل الذي ينزل على محمد الوحي عدوهم فلا يؤمنون بما يجيء به منه.
قد بين القرآن أن جبريل لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه إنما بأمر الله مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية، مصدقا لكتابهم نفسه، وليكون هداية وبشارة للمؤمنين.
فمن كان عدوا لجبريل أو ميكائيل أو لأي ملك أو رسول من ملائكة الله ورسله الذين لا يفعلون ولا يبلغون إلا ما يأمرهم به الله، فإنه يكون عدوا لله وكافرا به. والله عدو للكافرين. وما ينزل جبريل على النبي بآيات بينات لا يسع طالب الحق إلا الإيمان بها، وما يكفر بمثلها إلا المعاندون الخارجون من سنة الفطرة. وكما تذبذبوا في العقيدة والإيمان تذبذبوا كذلك فيما يبرمونه من عهود. فكانوا كلما عاهدوا المسلمين وغيرهم عهدا نبذه فريق منهم لأن معظمهم لا يؤمن بحرمة عهد ولا بقداسة ميثاق.
٩٨- من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين. أي من كان عدوا لله بمخالفته أمره عنادا، والخروج عن طاعته مكابرة، وعدوا لملائكته برفضه الحق الذي جاءوا به من عنده تعالى لرسله، وعدوا لرسله بتكذيبهم وعدوا لجبريل وميكائيل خاصة، من كان عدوا لهؤلاء، وعداوتهم كفر، عاداه الله فإن الله عدو للكافرين، ومن عاداه باء بالعذاب المهين.
قال ابن كثير :
( يقول تعالى : من عاداني وملائكتي ورسلي  ( ورسله ) ليشمل رسله من الملائكة والبشر، كما قال تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس. وجبريل وميكال  وهذا من باب عطف خاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل، ثم خصصنا بالذكر لأن السياق في الانتصار لجبريل وهو السفير بين الله وأنبيائه وقرن معه ميكال في اللفظ، لأن اليهود زعموا ن جبريل عدوهم، وميكائيل وليهم فأعلمهم أنه من عادى واحدا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضا، لأنه أيضا ينزل على الأنبياء بعض الأحيان كما قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر، ولكن جبريل أكثر وهو وظيفته، وميكائيل موكل بالنبات والقطر، هذا بالهدى وهذا بالرزق، كما أن إسرافيل موكل بالصور للنفخ بالبعث يوم القيامة ) ( ٢٣٩ )، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )( ٢٤٠ ). وميكال هو ميكائيل، وجبريل هم جبرائيل.
قال البيضاوي ( وفي جبريل ثمان لغات قرئ بهن أربع في المشهور وأربع فير الشواذ )( ٢٤١ ).
عن ابن عباس قال : إنما كان قوله جبرائيل كقوله عبد الله وعبد الرحمن. قيل جبر : عبد، إيل : الله.
المعـــنى الإجـمالــي :
ذكر الله في آيات سابقة معاذير لليهود اعتذروا بها عن عدم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم كقولهم إنهم مؤمنون بكتاب من ربهم وقولهم إنهم ناجون حتما في الآخرة.
وفي هذه الآيات ذكرت علة أخرى هي أعجب من كل ما تقدم فندها كما فند من قبلها، تلك هي قولهم إن جبريل الذي ينزل على محمد الوحي عدوهم فلا يؤمنون بما يجيء به منه.
قد بين القرآن أن جبريل لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه إنما بأمر الله مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية، مصدقا لكتابهم نفسه، وليكون هداية وبشارة للمؤمنين.
فمن كان عدوا لجبريل أو ميكائيل أو لأي ملك أو رسول من ملائكة الله ورسله الذين لا يفعلون ولا يبلغون إلا ما يأمرهم به الله، فإنه يكون عدوا لله وكافرا به. والله عدو للكافرين. وما ينزل جبريل على النبي بآيات بينات لا يسع طالب الحق إلا الإيمان بها، وما يكفر بمثلها إلا المعاندون الخارجون من سنة الفطرة. وكما تذبذبوا في العقيدة والإيمان تذبذبوا كذلك فيما يبرمونه من عهود. فكانوا كلما عاهدوا المسلمين وغيرهم عهدا نبذه فريق منهم لأن معظمهم لا يؤمن بحرمة عهد ولا بقداسة ميثاق.
المفردات :
آيات : المراد بها آيات القرآن.
بينات : واضحة الدلالة على معانيها.
الفاسقون : الخارجون عن الحق إلى الباطل والفساد.
التفسير :
٩٩- ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون.
لقد أنزلنا إليك القرآن حججا على نبوتك وعلامات واضحات عليها.
قال ابن كثير :
( وتلك الآيات هي ما حكاه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماءهم وما حرفه أوائلهم وأواخرهم و بدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة فأطلع الله عليها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف نفسه ولم يدعه إلى هلاكها الحسد والبغي، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل من جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات ) ( ٢٤٢ ).
قال تعالى : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون.
وما يكفر بها إلا الفاسقون أي المتمردون في الكفر الخارجون عن حدود الإيمان.
قال الحسن : إذ استعمل الفسق في نوع من المعاصي، وقع على أعظم أفراده من كفر أو غيره، ومن أشد هؤلاء الفاسقين فسقا : اليهود إذ أنهم بالآيات البينات مع تأكدهم من صدق من جاء بها عنادا لمن ظهر الحق على يديه وحسدا له، فإنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
المعـــنى الإجـمالــي :
ذكر الله في آيات سابقة معاذير لليهود اعتذروا بها عن عدم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم كقولهم إنهم مؤمنون بكتاب من ربهم وقولهم إنهم ناجون حتما في الآخرة.
وفي هذه الآيات ذكرت علة أخرى هي أعجب من كل ما تقدم فندها كما فند من قبلها، تلك هي قولهم إن جبريل الذي ينزل على محمد الوحي عدوهم فلا يؤمنون بما يجيء به منه.
قد بين القرآن أن جبريل لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه إنما بأمر الله مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية، مصدقا لكتابهم نفسه، وليكون هداية وبشارة للمؤمنين.
فمن كان عدوا لجبريل أو ميكائيل أو لأي ملك أو رسول من ملائكة الله ورسله الذين لا يفعلون ولا يبلغون إلا ما يأمرهم به الله، فإنه يكون عدوا لله وكافرا به. والله عدو للكافرين. وما ينزل جبريل على النبي بآيات بينات لا يسع طالب الحق إلا الإيمان بها، وما يكفر بمثلها إلا المعاندون الخارجون من سنة الفطرة. وكما تذبذبوا في العقيدة والإيمان تذبذبوا كذلك فيما يبرمونه من عهود. فكانوا كلما عاهدوا المسلمين وغيرهم عهدا نبذه فريق منهم لأن معظمهم لا يؤمن بحرمة عهد ولا بقداسة ميثاق.
المفردات :
نبذه : طرحه وألقاه، من النبذ، وهو إلقاء الشيء وطرحه لعدم الاعتداد به.
التفسير :
١٠٠- أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون. والاستفهام في. أو كلما. للإنكار والتوبيخ والتعجب من شأنهم. والواو للعطف على مقدار يستدعيه المقام والتقدير : أكفروا بهذه الآيات وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم. كلما. لإفادة تكرارهم لنبذ العهود.
قال الزمخشري : واليهود موسومون بالغدر ونقض العهد وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا وكم عاهدوا رسول الله فلم يفوا.
قال تعالى : الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون. ( الأنفال٥٦ )
السحر
( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون( ١٠١ ) واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم وقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون( ١٠٢ ) ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون( ١٠٣ ) (
المعـــنى الإجـــمالي :
بين الله في هذه الآيات علة ما يصدر عن اليهود من جحود وعناد، ومعاداة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاءهم محمد برسالة سماوية تصدق ما معهم من التوراة وتطابق أوصاف ما في أسفارهم.
ولكن فريقا منهم نبذ ما ذكر في التوراة عن رسالة محمد كأنه لم يرد فيها ولم يعلموا شيئا عنه.
ولقد صدقوا ما تقوله شياطينهم وفجرتهم على ملك سليمان، إذ زعموا أن سليمان لم يكن نبيا ولا رسولا ينزل عليه الوحي من الله بل مجرد ساحر يستمد العون من سحره، وأن سحره هذا هو الذي وطد له الملك وجعله يسيطر على الجن والطير والرياح فنسبوا ذلك الكفر لسليمان وما كفر سليمان ولكن هؤلاء الشياطين الفجرة هم الذين كفروا، إذ تقولوا عليه هذه الأقاويل، وأخذوا يعلمون الناس السحر من عندهم ومن آثار ما أنزل ببابل على الملكين هاروت وماروت مع أن هذين الملكين ما كانا يعلمان أحدا حتى يقولا له إنما نعلمك ما يؤدي إلى الفتنة والكفر فاعرفه واحذره، وتوق العمل به، ولكن الناس لم ينتصحوا بهذه النصيحة، فاستخدموا مما تعلموه منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، نعم كفر هؤلاء الشياطين الفجرة إذ تقولوا هذه الأقاويل من أقاويلهم وأساطيرهم ذريعة لتعليم اليهود السحر، وما هم بضارين بسحرهم هذا من أحد، ولكن الله هو الذي يأذن بالضرر إن شاء، وإن ما يؤخذ عنهم من سحر ليضر من تعلمه في دينه ودنياه ولا يفيد شيئا، وهم أنفسهم يعلمون حق العلم أن من اتجه هذا الاتجاه لن يكون له حظ في نعيم الآخرة، ولبئس ما اختاروه لأنفسهم لو كانت لهم بقية من علم.
ولو أنهم آمنوا الإيمان الحق وخافوا مقام ربهم لأثابهم الله ثوابا حسنا، ولكان ذلك الثواب خيرا لهم من كل ما يتوقعون من المنافع لو كانوا يتميزون النافع من الضار.
التفسير :
١٠١- ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.
الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفه بأنه جاءهم من عند الله فيه تعظيم له، فإن عظمة المرسل تقتضي عظمة رسوله، وفيه مع ذلك مبالغة في استنكار كفرهم.
أي ولما جاءهم رسول عظيم من عند الله مصدق لما معهم من التوراة من حيث إنه جاء على الوصف الذي وصفته التوراة لخاتم الرسل. كما أن كتابه الذي جاء به موافق لما فيها من قواعد التوحيد وأصول الدين والأخلاق وأخبار الأمم.
نبذ فريق من اليهود كتاب الله وهو التوراة التي بشرت بالنبي وأهملوها تاما كأنهم لا يعلمون أنها من عند الله أو أن محمدا رسول الله.
والواقع أنهم يعلمون ذلك علما يقينا ولكنهم نبذوه مكابرة وعنادا وجريا على سنتهم في نبذ العهود، فإنه قد أخذ عليهم في التوراة أنه إذا جاءهم هذا الرسول المنعوت، يؤمنون به وينصرونه، فنقضوا هذا العهد بكفرهم به.
وقوله تعالى : وراء ظهورهم : كناية عن إعراضهم الشديد عنه وتوليهم عن تعاليمهم.
جاء في تفسير المنار :
ليس المراد بنبذ الكتاب وراء ظهورهم، أنهم طرحوه برمته، وتركوا التصديق به في جملته وتفصيله، وإنما المراد أنهم طرحوا أجزاء منه وهو ما يبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم ويبين صفاته، ويأمرهم بالإيمان به وإتباعه، فهو تشبيه لتركهم إياه وإنكاره، بمن يلقى الشيء وراء ظهره حتى لا يراه فيتذكروه وترك الجزء منه كتركه كله، لأن ترك البعض يذهب بحرمة الوحي من النفس ويجرى على ترك الباقي( ٢٤٤ ).
هل السحر حقيقة أم خداع ؟
السحر نوع من الابتلاء والاختبار، أو نوع من البلاء الذي يتعرض له الناس في هذه الدنيا.
«والسحر ثابت بالحس والمشاهدة ونص القرآن وتواترت به الآثار عن الصحابة والسلف وأهل التفسير والحديث والفقهاء، والسحر يؤثر مرضا وثقلا وعقدا وحبا وبغضا ونزيفا وغير ذلك من الآثار الموجودة والتي تعرفها عامة الناس وكثير منهم قد علمه ذوقا بما أصيب به » ( ٢٤٠ ).
رأى الإمام محمد عبده في السحر :
يذهب الأستاذ الإمام إلى أن السحر تخييل للأعين وخداع للناظرين، ونستطيع أن نوجز آراءه في السحر فيما يلي :
١- السحر ليس جزءا من العقيدة الدينية بل هو من الأمور العادية والعلوم الإنسانية، متروك إلى بحوث الناس وتقدم معلوماتهم عنه وتوضيحهم لحقائقه.
٢- جاء ذكر السحر في القرآن في مواضع متعددة ومجموعها يدل على أن السحر أحد الشيئين :
أ‌- إما حيلة وشعوذة.
ب‌- وإما صناعة علمية خفية يعرفها بعض الناس ويجهلها الأكثرون فيسمون العمل بها سحرا لخفاء سببه ولطف مأخذه، ويمكن أن يعد منه تأثير نفس في نفس أخرى.
٣- السحر تخييل وخداع للأعين وليس حقيقة، ولذلك قال سبحانه : يخيل إليهم من سحرهم أنها. تسعى فسحرة فرعون قد استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصي بصورة الحيات والثعابين وتخييل أنها تسعى.
٤- اعتاد من يتخذ لسحر وسيلة أن يستعين بأسماء الجان والشياطين فيعتقد الدهماء أنهم يستجيبون له ويلقى ذلك في روعهم، وهذا الوهم يصنع صنع السحر ولا يستطيع الساحر أن يؤثر إلا في شخص عزيمته هباء ونفسه هواء وعنده قابلية لتأثير غيره فيه، فينتهز ذلك الساحر ليوهمه بما يشاء( ٢٤٦ ).
مذهب الأشعرية :
مذهب الأشعرية أن للسحر تأثيرا حقيقيا وليس كله حيلا ومنه أنه أثر في جسم النبي صلى الله عليه وسلم وخياله دون عقله وروحه فكان يخيل إليه أنه أتى نساءه ولم يكن آتاهن ولم يتجاوز هذا الحد( ٢٤٦ ).
تأمل في الموضوع :
والمتأمل في موضوع السحر يرى أن بعضه خداع وخفة حركة و براعة وحيلة وذكاء وتفرس.
وبعضه حقيقة نسلم بها كنوع من البلاء الذي يصيب الناس. قال تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون.
وفي التراث الإسلامي والهدى النبوي ما يفيد أن هناك عدة أشياء تحمي الإنسان من السحر والحسد والشياطين منها :
١- قراءة آية الكرسي.
٢- قراءة. قل هو الله أحد. والمعوذتين.
٣- قراءة خواتيم صورة البقرة من قوله تعالى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون...
٤- إخراج صدقة.
٥- قراءة :( لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ) عشر مرات بعد صلاة الصبح وبعد صلاة المغرب.
٦- قراءة :( باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) وفي الأثر : من أعجبه شيء من أهل أو مال أو ولد فقال باسم الله لا قوة إلا بالله لم ير فيه مكروها.
٧- الاعتقاد الجازم واليقين الصادق بأن الله هو النافع وهو الضار وهو المانع وهو الكافي وأن أحدا لا ينفع ولا بضر إلا بإذن الله. وهذا العنصر الأخير هو أهم شيء في الموضوع وهو الصخرة العاتية التي تنكسر عليها آثار كل حسد أو سحر أو شر.
آية السحر
المعـــنى الإجـــمالي :
بين الله في هذه الآيات علة ما يصدر عن اليهود من جحود وعناد، ومعاداة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاءهم محمد برسالة سماوية تصدق ما معهم من التوراة وتطابق أوصاف ما في أسفارهم.
ولكن فريقا منهم نبذ ما ذكر في التوراة عن رسالة محمد كأنه لم يرد فيها ولم يعلموا شيئا عنه.
ولقد صدقوا ما تقوله شياطينهم وفجرتهم على ملك سليمان، إذ زعموا أن سليمان لم يكن نبيا ولا رسولا ينزل عليه الوحي من الله بل مجرد ساحر يستمد العون من سحره، وأن سحره هذا هو الذي وطد له الملك وجعله يسيطر على الجن والطير والرياح فنسبوا ذلك الكفر لسليمان وما كفر سليمان ولكن هؤلاء الشياطين الفجرة هم الذين كفروا، إذ تقولوا عليه هذه الأقاويل، وأخذوا يعلمون الناس السحر من عندهم ومن آثار ما أنزل ببابل على الملكين هاروت وماروت مع أن هذين الملكين ما كانا يعلمان أحدا حتى يقولا له إنما نعلمك ما يؤدي إلى الفتنة والكفر فاعرفه واحذره، وتوق العمل به، ولكن الناس لم ينتصحوا بهذه النصيحة، فاستخدموا مما تعلموه منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، نعم كفر هؤلاء الشياطين الفجرة إذ تقولوا هذه الأقاويل من أقاويلهم وأساطيرهم ذريعة لتعليم اليهود السحر، وما هم بضارين بسحرهم هذا من أحد، ولكن الله هو الذي يأذن بالضرر إن شاء، وإن ما يؤخذ عنهم من سحر ليضر من تعلمه في دينه ودنياه ولا يفيد شيئا، وهم أنفسهم يعلمون حق العلم أن من اتجه هذا الاتجاه لن يكون له حظ في نعيم الآخرة، ولبئس ما اختاروه لأنفسهم لو كانت لهم بقية من علم.
ولو أنهم آمنوا الإيمان الحق وخافوا مقام ربهم لأثابهم الله ثوابا حسنا، ولكان ذلك الثواب خيرا لهم من كل ما يتوقعون من المنافع لو كانوا يتميزون النافع من الضار.
المفردات :
تتلوا : تخبر وتحدث أو تقول.
على ملك سليمان : على عهد ملكه وفي زمانه.
السحر : إخراج الباطل في صورة الحق، وهو في الأصل مصدر سحر يسحر بفتح الحاء فيهما، والسحر لغة كل ما لطف مأخذه وخفي سببه، وسحره : خدعه، جاء في كلامهم : عين ساحرة وعيون سواحر وفي الحديث «إن من البيان لسحرا » ( ٢٤٣ ). والمراد هنا، أمر غريب يشبه الخارق المعجز وليس بالخارق إذ يجري فيه التعلم، كالذي حصل من سحرة فرعون. حيث أظهروا لموسى حبالهم وعصيانهم أنهم تسعى.
ببابل : بلدة قديمة، كانت بالعراق ينسب إليها السحر.
هاروت وماروت : اسمان للملكين اللذين أنزل عليهما علم السحر.
فتنة : ابتلاء واختبار.
اشتروه : استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله.
خلاق : نصيب في الخير.
التفسير :
١٠٢- واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر.
هذه الآية معطوفة على الآية السابقة. التي أفادت أن فريقا من اليهود نبذوا كتاب الله وأعرضوا عنه ثم عطف هنا على هذه الجريمة وهي نبذهم لكتاب الله جريمة أخرى هي إتباعهم الشياطين بمزاولة السحر بدل كتاب الله.
والمعنى أن اليهود لما جاءهم الرسول بالقرآن نبذوه أو نبذوا التوراة التي بشرت به، واشتغلوا بالسحر. والمراد مما تتلوه الشياطين : أي المتمردون من الإنس والجن. وقد كانت الشياطين في عهد سليمان تلقى كهان اليهود وتتلو عليهم قواعد السحر وتخبرهم كذبا : أن ملك سليمان وسلطانه على الإنس والجن، والطير والريح، لم يقم إلا على تلك القواعد، فكانوا يدونونها عن الجن في كتب لديهم : توارثها الخلف عن السلف حتى وصلت إلى اليهود في المدينة فكانوا يشتغلون بها قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولما بعث رفضوا كتاب الله وفضلوا عليه الاستمرار في السحر.
وقد زعموا أن سليمان جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيه، ثم استخرجها، وهذا من مفتريات الأهواء نسبوها إليه كذبا وبهتانا.
قال الزمخشري وقوله تعالى : على ملك سليمان : أي على عهد ملكه وفي زمانه وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها إلى الكهنة، وقد دونوها في كتاب يقرءونها ويعلمونها للناس، وفشا ذلك في زمان سليمان عليه السلام حتى قالوا : إن الجن تعلم الغيب، وكانوا يقولون : ما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه يسحر الإنس والجن ولريح التي تجري بأمره( ٢٤٨ )،
وما كفر سليمان : تنزيه لسليمان عن الردة والشرك وتبرئة له من عمل السحر الذي كان يتعاطاه أولئك الشياطين وينسبونه إليه زورا وبهتانا( ٢٤٩ ).
وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان، وأنه ارتدى في آخر عمره وعبد الأصنام وبني لها المعابد، وكانوا عندما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم سليمان بين الأنبياء يقولون : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء وإنما كان ساحرا يركب الريح.
ولكن الشياطين كفروا : أي ولكن الشياطين من الإنس والجن الذين نسبوا إلى سليمان ما انتحلوه من السحر ودونوه وعلموه الناس هم الذين كفروا.
يعلمون الناس السحر : أي الشياطين يعلمون الناس السحر إغواء وإضلالا. والجملة حال من الضمير، والمراد من السحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس فإن التناسب شرط في التضامن والتعاون.
وبهذا تميز الساحر عن النبي والولي.
وأما ما يتعجب فيه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات أو الأدوية، أو يصنعه صاحب خفة اليد فغير مذموم وتسميته سحرا من التجوز أو لما فيه من الدقة لأنه في الأصل لما خفي سببه( ٢٥٠ ).
وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت : أي اتبع اليهود ما كانت تقرئه الشياطين على الكهنة من أبواب السحر من عهد سليمان.
واتبعوا أيضا ما أنزل على الملكين هاروت وماروت ببابل.
( وهاروت وماروت ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس وتمييزا بينه وبين المعجزة. وما روى أنهما مثلا بشرين وركبا فيهما الشهوة فتعرضا لامرأة يقال لها زهرة فحملتهما على المعاصي والشرك ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما فمحكى عن اليهود ولعله من رموز الأوائل وحله لا يخفى على ذوي البصائر. وقيل رجلان سميا ملكين باعتبار صلاحهما )( ٢٥١ ).
والمقصود من إنزال السحر على هذين الرجلين المشبهين بالملائكة، وإلقاؤه في قلبيهما وتعليمهم إياه.
فكانا يعلمان الناس السحر لكي يتخلصوا بتعلمه من سيطرة السحرة من الصابئة ويتقوا شرورهم وكانا يمزجان التعليم بالتحذير : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر : أي ما يعلمان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له إنما نحن ابتلاء من الله فمن تعلم منا وعمل به كفر ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان فلا تكفر، باعتقاد جوازه والعمل به.
أو يقولا : إنما نحن مفتونان فلا تكن مثلنا( ٢٥٢ ).
وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية :
أراد الله أن يبتلى به الناس فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.
وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار. ( ٢٥٣ ).
فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه : أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون فيه من الأفاعيل المذمومة، ما أنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف، واختص الإفساد بين الزوجين بالذكر لأنه من الصور التي تظهر فيها مفسدة للسحر بأشد ما تكون، فلهذا آثر إبرازها، ليعلم الناس منها مدى ما يصل إليه السحر من الإضرار بالمجتمع، فإن إفساد الأسرة إفساد للمجتمع، لما فيه من تشريد الأولاد الذين هم أساسه.
روى المسلم عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، يجيء أحدهم فبقول : ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس : لا والله ما صنعت شيئا، ويجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، قال : فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول : نعم أنت » ( ٢٠٤ ).
وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر، ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلق أو بغض أو شك أو اتهام أو نحو ذلك.
والمرء عبارة عن الرجل وتأنيثه امرأة ويثنى كل منهما ولا يجمعان( ٢٥٥ ).
وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله. أي ما يضر السحرة بهذا أحدا كائنا من كان إلا بعلم الله وإرادته، فهم إذن لا يستطيعون أن يحدثوا بسحرهم ضررا دون إرادة الله.
ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم. من قبل أنه سبب في إضرار الناس، هذا مما يعاقب الله عليه من عرف بإيذاء الناس أبغضوه واجتنبوه ولا نفع لهم فيه، فإنا نرى منتحلي هذه المهن من أفقر الناس وأحقرهم، وذلك حالهم في الدنيا، فما بالك بهم في الآخرة يوم يجزي كل عامل بما عمل.
ولقد علموا لمن اشتروا ما له في الآخرة من خلاق. ولقد علم هؤلاء اليهود الذين نبذوا كتاب الله واتبعوا السحر أن من استبدل السحر بكتاب الله وآثره على شرعه سبحانه، ليس له أي حظ من الجنة ولا أي نصيب من الخير يوم القيامة ؛ لأنه لم يكن له إيمانا ولا عمل صالح يكافأ عليه. الضمير في. علموا. يعود إلى أولئك اليهود الذين ارتكبوا كتاب الله واستبدلوا به السحر.
وهي تفيد أن اختيارهم للسحر لم ينشأ عن جهلهم بضرره، إنما الذين اختاروه ومالوا إليه متعمدين وعالمين بعاقبته السيئة.
ولبئس ما شروا به أنفسهم ولو كانوا يعلمون. شروا : أي باعوا، وهي من الأضداد فتأتي بمعنى البيع والشراء.
بيع الأنفس هنا معناه بيع نصيبها من الجنة ونعيمها.
المعنى : ولبئس هذا الذي باعوا به حظ أنفسهم من الخير، هو تعلم السحر والعمل به، لو كان عندهم علم وعقل لأدركوا أن هذا السحر ضار مفسد للنفس والعقل والناس، ولامتنعوا عن تعلمه والعمل به. قال ابن كثير : لبئس البديل ما استبدلوا به من السحر عوضا عن الإيمان ومتابعة الرسل لو كان فيهم علم بما وعظوا.
المعـــنى الإجـــمالي :
بين الله في هذه الآيات علة ما يصدر عن اليهود من جحود وعناد، ومعاداة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاءهم محمد برسالة سماوية تصدق ما معهم من التوراة وتطابق أوصاف ما في أسفارهم.
ولكن فريقا منهم نبذ ما ذكر في التوراة عن رسالة محمد كأنه لم يرد فيها ولم يعلموا شيئا عنه.
ولقد صدقوا ما تقوله شياطينهم وفجرتهم على ملك سليمان، إذ زعموا أن سليمان لم يكن نبيا ولا رسولا ينزل عليه الوحي من الله بل مجرد ساحر يستمد العون من سحره، وأن سحره هذا هو الذي وطد له الملك وجعله يسيطر على الجن والطير والرياح فنسبوا ذلك الكفر لسليمان وما كفر سليمان ولكن هؤلاء الشياطين الفجرة هم الذين كفروا، إذ تقولوا عليه هذه الأقاويل، وأخذوا يعلمون الناس السحر من عندهم ومن آثار ما أنزل ببابل على الملكين هاروت وماروت مع أن هذين الملكين ما كانا يعلمان أحدا حتى يقولا له إنما نعلمك ما يؤدي إلى الفتنة والكفر فاعرفه واحذره، وتوق العمل به، ولكن الناس لم ينتصحوا بهذه النصيحة، فاستخدموا مما تعلموه منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، نعم كفر هؤلاء الشياطين الفجرة إذ تقولوا هذه الأقاويل من أقاويلهم وأساطيرهم ذريعة لتعليم اليهود السحر، وما هم بضارين بسحرهم هذا من أحد، ولكن الله هو الذي يأذن بالضرر إن شاء، وإن ما يؤخذ عنهم من سحر ليضر من تعلمه في دينه ودنياه ولا يفيد شيئا، وهم أنفسهم يعلمون حق العلم أن من اتجه هذا الاتجاه لن يكون له حظ في نعيم الآخرة، ولبئس ما اختاروه لأنفسهم لو كانت لهم بقية من علم.
ولو أنهم آمنوا الإيمان الحق وخافوا مقام ربهم لأثابهم الله ثوابا حسنا، ولكان ذلك الثواب خيرا لهم من كل ما يتوقعون من المنافع لو كانوا يتميزون النافع من الضار.
المفردات :
لمثوبة : لأجر وثواب.
التفسير :
١٠٣- ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون : أي أن أولئك اليهود النابذين لكتاب الله المتبعين للأوهام والأباطيل، آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو بالتوراة إيمانا حقا، واتقوا الله فاجتنبوا ما يؤثمهم ومنه السحر، كانت لهم مثوبة من عند الله هي خير لهم من السحر، ولو كانوا من أولى العلم الذين ينتفعون بما يعلمون، لم يفعلوا ذلك، ولكنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة فكفروا وعصوا فكانوا من الخاسرين.. وقريب منه ما ورد في قصة قارون من قوله تعالى :
وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون. ( القصص : ٨٠ ).
الترهيب من السحر :
في الآية السابقة دليل على أن من يستخدم السحر ويؤمن به يكون من الكافرين، لأن قوله تعالى : وما كفر سليمان. حجة على أن السحر ضرب من ضروب الكفر.
وقد أطلق القول بكفر من يزاوله العلامة التفتازاني.
قال ابن كثير :( وقد يستبدل بقوله( ولو أنهم أمنوا واتقوا ) من ذهب إلى تكفير الساحر كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وقول طائفة من السلف ) ( ٢٥٦ ).
لكن الشيخ أبا منصور ذهب إلى أن إطلاق القول بأن السحر كفر خطأ وأنه يجب التفصيل فيه، فإن كان فيه رد ما لزم من شروط الإيمان فهو كفر وإلا فلا.
وعلى هذا فالمراد من السحر الذي هو كفر ما كان بالتقرب إلى الشيطان بالسجود له أو لصنم غيره، أو بالرقى بعبارات فيها شرك بالله تعالى، أو نحو ذلك مما ينافي أصول العقيدة الإسلامية، كاعتقاد الساحر أن ما يستعين به في سحر مثل الجن والنجوم لها قدرة على النفع والضر )( ٢٥٧ ).
وعقاب السحر الذي هو كفر : قتل الذكور وحبس الإناث وضربهن ما لم تقع منهم توبة.
وأما ما ليس بكفر، وفيه إهلاك نفس، ففيه حكم قطاع الطريق ويستوي فيه الذكور والإناث، وتقبل توبة صاحبه إذا تاب، هذا رأي بعض الفقهاء.
والمشهور عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن الساحر يقتل مطلقا إذا علم أنه ساحر، سواء أكان ذكرا أم أنثى وتقبل توبته إذا تاب.
ومذهب مالك رضي الله عنه كما نقله القرطبي : أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا فإنه يقتل، ولا يستتاب، ولا تقبل توبته.
( وقد روى الشافعي وأحمد بن حنبل عن بجالة بن عبدة قال : كتب عمر ابن الخطاب رضي الله عنه : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة قال : فقتلنا ثلاث سواحر. وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضا( ٢٥٨ ). وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها فأمرت بها فقتلت( ٢٥٩ ). قال الإمام أحمد بن حنبل : صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قتل الساحر ) ( ٢٦٠ )
طريقة فك السحر :
حكى القرطبي عن وهب : أنه قال : يؤخذ سبع ورقات من سدر( ٢٦١ ) فتدق بين حجرين، ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به، وهو جيد للرجل الذي يأخذ عن امرأته، قال ابن كثير : أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في إذهاب ذلك وهما المعوذتان.
وفي الحديث :«لم يتعود بممثلهما » وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشيطان( ٢٦٢ ).
حديت شريف :
قال صلى الله عليه وسلم :«اجتنبوا السبع الموبقات، قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : الشرك بالله وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والسحر، وأكل مال اليتيم » ( ٢٦٣ ).
أدب الخطاب
( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم( ١٠٤ ) ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم( ١٠٥ ) (.
المفردات :
راعنا : أي انتظرنا وتأن بنا حتى نفهم كلامك، وأصله من المراعاة، في الرعي. وهو الحفظ والتدبير وتدارك المصالح.
انظرنا : انتظرنا وتأن بنا وأمهلنا.
تمهيـــــــد :
هذا خطاب وجه إلى المؤمنين في شأن له اتصال باليهود وبه انتقل من الأحاديث الخاصة بهم إلى حديث مشترك بينهم وبين المؤمنين والنصارى.
١٠٤- يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم : كان المسلمون إذا ألقى الرسول عليهم شيئا من العلم يقولونا راعنا يا رسول الله يريدون منها : انتظرنا وتأن بنا حتى نفهم كلامك ونحفظه.
فتلقف اليهود هذه الكلمة لموافقتها كلمة سيئة عندهم في كلمة( راعينو ) العبرية التي معناها شرير.
وكان سعيد بن عبادة يعرف لغتهم فبما سمعهم يقولون ذلك قال لهم : عليكم لعنة الله لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا : أولستم تقولونها.
فأنزل الله الآية نهيا للمؤمنين عن مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه اللفظة : قطعا لألسنة اليهود، حتى لا يتخذونها ذريعة لسب النبي صلى الله عليه وسلم، وإيذائه والاستهزاء به.
وأمرهم أن يقولوا بدلا منها. انظرنا. أي انتظرنا وتأن بنا حتى نحفظ ونفهم ما تقوله، فإنها تؤدى المعنى الذي يقصدونه بقولهم. راعنا. ولا يمكن لليهود أن يحرفها إلى سبه عليه السلام والاستهزاء به.
واسمعوا : وأحسنوا الاستماع في قبول وامتثال مع وعي قلبي، حتى تحفظوا ما يلقيه عليكم ولا يفوتكم منه شيء.
وللكافرين عذاب أليم : وأن الله ليدخر عذابا أليما يوم القيامة لهؤلاء المستهزئين بالرسول.
وقال ابن كثير : نهى الله عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص فإذا أرادوا أن يقولوا : اسمع لنا، يقولون ( راعنا ) ويورون بالرعونة كما قال تعالى : من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا. ( النساء : ٤٦ ).
قال ابن جرير الطبري : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم راعنا لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه صلى الله عليه وسلم( ٢٦٤ ).
تمهيـــــــد :
هذا خطاب وجه إلى المؤمنين في شأن له اتصال باليهود وبه انتقل من الأحاديث الخاصة بهم إلى حديث مشترك بينهم وبين المؤمنين والنصارى.
المفردات :
المودة : محبة الشيء وتمني حصوله.
التفسير :
١٠٥- ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم. لا يحب الكافرين من اليهود والنصارى ولا المشركون : أن ينزل الله عليكم أيها المؤمنون شيئا من الخير وذلك لعداوتهم وحسدهم لكم، فهم لا يحبون لكم الخير.
والخير : النعمة والفضل، والمراد به في الآية الكريمة النبوة وما تبعها من الوحي الصادق والقرآن العظيم المشتمل على الحكمة الرائعة والبلاغة الباهرة والتوجيه النافع.
وأهل الكتاب قد كرهوا ذلك للمؤمنين لعنادهم وحسدهم وكراهتهم أن تكون النبوة في رجل عربي ليس منهم.
وكذلك المشركون : كانوا يرون في تتابع نزول القرآن، قوة للإسلام وتثبيتا لدعائمه وأركانه، وهم يكرهون ذلك ويودون أن تدور الدائرة على المسلمين، ويستنكرون أن يكون نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم من بينهم، وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمة ربك. ( الزخرف ٣١-٣٢ ).
والنبوة فضل الله تعالى يهبها من يشاء من عباده ولا ينبغي لإنسان أن يعترض على فضله سبحانه.
قال صاحب الجوهرة :
ولم تكن نبوة مكتسبه ولو رقى في الخير أعلى عقبه
بل ذاك فضل الله يؤتيه لمن يشاء جل الله واهب المنن
فالله سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته، وهو سبحانه يصطفي للنبوة من يشاء من عباده. الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس. ( الحج : ٧٥ ).
وبذلك تكون الآية قد نبهت إلى أن الفضل والنبوة بيد الله، وهو الحكيم في تصرفه والعليم ما ينفع الناس، كما أنها حذرت المؤمنين مما يبيته لهم الكافون من حقد وبغضاء وبشرتهم، بأن ما يبيتونه لهم لن يضرهم ما داموا معتصمين بكتاب ربهم وسنة نبيهم.
النسخ
( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير( ١٠٦ ) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير( ١٠٧ ) أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل( ١٠٨ ) (
المفردات :
النسخ : في اللغة الإزالة، يقال نسخت الشمس الظل : أي أزالته.
الإنساء : إذهاب الآية من ذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد تبليغها إياه. ( أو ننسها ) نبح لكم تركها من نسى : بمعنى ترك، دخلت عليه الهمزة للتعدية، قال أبو علي وغيره من أئمة اللغة : هذا متجه لأنه بمعنى : نجعلك تتركها. وقرئ ننسأها بفتح النون مهموزا من نسأه إذا أخره، أي نؤخر نزولها عليكم.
سبـــــب النــزول :
روى أن هذه الآيات نزلت حين قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه و يأمرهم بخلافة ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، فقد أمر في حد الزنا بإيذاء الزانيين باللسان، حيث قال :( فآذوهما ) ثم غيره وأمر بإمساكهن في البيوت حيث قال : فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت( النساء : ١٥ ). ثم غيره بقوله : فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ( النور : ٢ )، فما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه يناقض بعضهم بعضا، ومقصدهم من ذلك الطعن في الدين ليثبطوا عزيمة من يريد الدخول فيه.
التفسير :
١٠٦- ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير : أي شيء من الآيات والأحكام ننهي عن التعبد به، أو نجعلكم تتركونه، نأتي بأفضل منهك مثوبة أو نفعا أو خفة على المكلفين، أو نأتي بمثله في ذلك، فإن تنزيل الآيات المشتملة على الأحكام الشرعية، يكون وفقا للحكم والمصالح، وذلك يختلف باختلاف الأحوال فرب حكم تقتضيه الحكمة في حال، وتقتضي نقيضه في حال أخرى. فلو لم يجز النسخ، لاختل مابين الحكمة والأحكام من النظام. وهذا الحكم غير مختص بالآية الواحدة كاملة، بل هو جار فيما فوقها وما دونها وتخصيصها بالذكر، باعتبار الغالب.
لقد كان هناك تدرج في تشريع الأحكام بما يتناسب مع كل مرحلة، فحين كان المسلمون في مكة قبل الهجرة ضعافا في العدة والعدد أمرهم الله بالصبر والاحتمال، ولما هاجروا إلى المدينة وقامت دولتهم وقويت شوكتهم سمح الله لهم بالجهاد والقتال، وقال سبحانه :
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير* الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. ( الحج ٣٩-٤٠ ).
وقد قال بعض المفسرين إن هذا نسخ، أي نسخت آية القتال الأمر بالصبر والاحتمال ولكن الزركشي في كتابه( البرهان في علوم القرآن ) جعله من باب التدريج في التشريع.
فقد ناسب حال الضعف والقلة الصبر والاحتمال كما ناسب حال القوة والكثرة، الدعوة للجهاد والقتال. فكلما كان المسلمون ضعافا ناسبهم الصبر والمهادنة، وكلما كانوا أقوياء ناسبهم الجهاد والمقاتلة.
وقال بعض المفسرين إن المراد من الآية الشريعة، والمراد من نسخها على هذا تغييرها بشريعة أخرى تأتي بعدها.
أي ما نغير شريعة من الشرائع المعلومة للناس كالتوراة والإنجيل والزبور أو نجعلها منسية دارسة لا علم للناس بها، كالشرائع المجهولة لنا النازلة على بعض من قصهم الله علينا من الأنبياء، ومن لم يقصصهم علينا.
نأت بشريعة خير منها أو مثلها حسبما ينبغي لحال الأمة التي شرعت لها. ومن الباحثين من قال : المراد من الآية المعجزة، ونسخها تغييرها، ويكون معنى الآية : ولقد طلبوا منك يا محمد أن تأتيهم بالمعجزات التي جاءهم بها موسى وأنبياء بني إسرائيل، وحسبنا أننا أيدناك بالقرآن، وأننا إذا تركنا تأييد نبي متأخر بمعجزة كانت لنبي سابق أو أنسينا الناس أثر هذه المعجزة فإننا نأتي على يديه بخير منها أو مثلها في الدلالة على صدقه فالله على كل شيء قدير.
ما هو النسخ :
النسخ في اللغة الإزالة والإبطال، يقال نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وأبطلته.
والنسخ شرعا : إزالة حكم شرعي سابق بخطاب ورد متأخر عنه لولا هذا الخطاب لاستمر الحكم على مشروعيته بمقتضى النص الذي تقرر به أولا.
وقد أنكرت النسخ طوائف من اليهود، زاعمين أن ذلك من البداء، وهو مستحيل على الله، وقد كذبوا، فإن النسخ هو النقل من حكم إلى حكم لضرب من المصلحة.
ولا خلاف بين العقلاء في أن شرائع الرسل قصد بها مصالح الخلق الدنيوية والأخروية.
وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه أولا والعدول عنه كقولك لشخص امض إلى فلان ثم يبدو لك نقض الرأي الأول فتقول لا تمض. على سبيل التناقض والتقلب في الرأي، وهذا محال على الله تعالى، لكمال علمه وحكمته.
ونسخ الحكم إما أن يكون بأيسر منه في العمل كما نسخت عدة المتوفى عنها زوجها من الحول إلى أربعة أشهر وعشرة أيام، وإما بمساو له كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة عند الصلاة، وإما بأشق منه يكون ثوابه أكثر كما نسخ ترك القتال بإيجابه على المسلمين.
قال الأستاذ سيد قطب :
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها. سواء كانت المناسبة هي مناسبة تحويل القبلة، كما يدل سياق هذه الآيات وما بعدها، أم كانت مناسبة أخرى من تعديل بعض الأمور والتشريعات والتكاليف، التي كانت تتابع نمو الجماعة المسلمة وأحوالها المتطورة، أم كانت خاصة بتعديل بعض الأحكام التي وردت في التوراة مع تصديق القرآن في عمومه للتوراة.
سواء كانت هذه، أم هذه، أم هي جميعا المناسبة التي اتخذها اليهود ذريعة للتشريك في صلب العقيدة…فإن القرآن يبين هنا بيانا حاسما في شأن النسخ والتعديل، وفي القضاء على تلك الشبهات التي أثارتها اليهود، على عادتها وخطتها في محاربة هذه العقيدة بشتى الأساليب.
ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير. الخطاب فيه لكل من لديه علم أو عقل، والاستفهام للتقرير، والمراد بهذا التقرير الاستشهاد بعلم المخاطب بأنه تعالى : على كل شيء قدير. على قدرته على النسخ، والإتيان بما هو خير من المنسوخ أو مثله.
المفردات :
الولي : من يلي أمرك أو يملكك كالمولى.
النصير : المعين.
سبـــــب النــزول :
روى أن هذه الآيات نزلت حين قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه و يأمرهم بخلافة ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، فقد أمر في حد الزنا بإيذاء الزانيين باللسان، حيث قال :( فآذوهما ) ثم غيره وأمر بإمساكهن في البيوت حيث قال : فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت( النساء : ١٥ ). ثم غيره بقوله : فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ( النور : ٢ )، فما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه يناقض بعضهم بعضا، ومقصدهم من ذلك الطعن في الدين ليثبطوا عزيمة من يريد الدخول فيه.
١٠٧- ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير( ٢٦٥ ). لما ذكر في الآية السابقة أنه تعالى على كل شيء قدير ذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك وهو أنه تعالى له ملك السماوات والأرض واستشهد على ذلك بعلم كل ذي علم.
والمعنى : أنه سبحانه مالك لجميع الكائنات العلوية والسفلية وهو سبحانه المتصرف كما يشاء في ذواتها وأحوالها. وأنه سبحانه يتصرف في أمورهم ويجريها على حسب ما يصلحهم، وهو أعلم بما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ.
والخطاب هنا للمؤمنين يحمل رائحة التحذير، ورائحة التذكير بأن الله هو وليهم وناصرهم وليس لهم من دونه ولي ولانصير.
قال ابن كثير :
وقوله تعالى : ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير. يرشد تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء فله الخلق والأمر، وهو المتصرف. فكما خلقهم كما يشاء، ليسعد من يشاء، ويشقى من يشاء، ويصح من يشاء ويمرض من يشاء، ويوفق من يشاء ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره، واتباع رسله في تصديق ما أخبروا : وامتثال ما أمروا به، وترك ما عنه زجروا، وفي هذا المقام رد عظيم، وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله في دعوى استحالة النسخ، إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا، وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا. وقال الإمام أبو جعفر الطبري : فتأويل الآية : ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء وأنهى عما أشاء وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذا أشاء، وأقر فيهما ما أشاء.
ثم قال : وهذا الخبر وإن كان من الله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
وعلق ابن كثير على كلام الطبري بقوله :
قلت : الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد في فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى، لأنه يحكم ما يشاء، كما يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثم نسخ حل بعضها، وكان نكاح الأختين مباح لإسرائيل وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأشياء كثيرة يطول ذكرها، هم يعترفون بذلك ويصدقون عنه، أو ما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية، فلا يصرف الدلالة في المعنى، إذ هو المقصود، كما في كتبهم مشهورا من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، والأمر بإتباعه فإنه يفيد وجوب متابعته عليه السلام وأنه لا يقبل عمل إلا شريعته وسواء قيل : إن الشرائع المتقدمة مغياة إلى بعثته عليه السلام، فلا يسمى ذلك نسخا، كقوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل. أو قيل إنها مطلقة. وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب متابعته، لأنه جاء في بكتاب هو آخر الكتب عهدا بالله تبارك وتعالى( ٢٦٦ ).
سبـــــب النــزول :
روى أن هذه الآيات نزلت حين قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه و يأمرهم بخلافة ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، فقد أمر في حد الزنا بإيذاء الزانيين باللسان، حيث قال :( فآذوهما ) ثم غيره وأمر بإمساكهن في البيوت حيث قال : فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت( النساء : ١٥ ). ثم غيره بقوله : فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ( النور : ٢ )، فما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه يناقض بعضهم بعضا، ومقصدهم من ذلك الطعن في الدين ليثبطوا عزيمة من يريد الدخول فيه.
١٠٨- أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل. نهى القرآن عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التعنت والاقتراح كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتا وتكذيبا وعنادا. قال تعالى :
يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم. [ النساء : ١٥٣ ]
وقد اختلف المفسرون في سبب نزول الآية.. أم تريدون أن تسألوا رسولكم. والراجح أنها نزلت في شأن اليهود حين قالوا يا محمد ائتنا بكتاب من السماء جملة، كما أتى موسى بالتوراة جملة.
واختار هذا الإمام الرازي وقال : إنه الأصح لأن الحديث من أول قوله تعالى : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي، ( البقرة : ٤٠ ) إلى حكايته عن اليهود ومحاجته معهم، ولأنه جرى ذكرهم قبل ذلك دون غيرهم.
وقيل إنها تنزلت في المؤمنين توصية لهم بالثقة بالرسول صلى الله عليه وسلم وترك الاقتراح عليه، وقد ذهب إلى هذا الرأي ابن كثير في تفسيره.
ويكون معنى الآية :
لا يصلح لكم أيها المؤمنون أن تقترحوا على رسولكم مقترحات تتنافى مع الإيمان الحق كأن تسألوه أسئلة لا خير من ورائها لأنكم لو فعلتم ذلك لصرتم كبني إسرائيل الذين طلبوا من نبيهم موسى عليه السلام بعد أن جاءهم بالبينات مطالب تدل على تعنتهم وجهلهم، فقالوا : أرنا الله جهرة. ( النساء : ١٥٣ ) وقالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. ( الأعراف : ١٣٨ )، ولو صرتم مثلهم لكنتم ممن يختار الكفر على الإيمان ولخرجتم على الصراط المستقيم الذي يدعوكم إليه نبيكم صلى الله عليه وسلم.
فلاستفهام في الآية الكريمة للإنكار وفي أسلوبها مبالغة في التحذير من الوقوع فيما وقع فيه اليهود من تعنت مع رسولهم، إذ جعل محط الإنكار إرادتهم السؤال. وفي النهي عن إرادة الشيء نهي عن فعله بأبلغ عبارة.
قال ابن كثير :
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل حدوثها كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسئكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم.
أي وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل وقوعه، فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة، ولهذا جاء في الصحيح :«إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته » ( ٢٦٧ ).
وثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال » ( ٢٦٨ ).
وفي الصحيح مسلم :«ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » ( ٢٦٩ ).
وروى البزار عن ابن عباس قال : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما سألوه إل عن اثنتي عشرة مسألة، كلها في القرآن : يسألونك عن الخمر والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام، ويسألونك عن اليتامى. يعنى هذا وأشباهه( ٢٧٠ ).
تحذير
( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير( ١٠٩ ) وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعلمون بصير( ١١٠ )(
المفردات :
ود : تمنى وأحب.
فاعفوا واصفحوا : العفو : ترك العقوبة على الذنب، والصفح ترك اللوم عليه، وهو أبلغ من العفو، إذ قد يعفو ولا يصفح.
حتى يأتي الله بأمره : بإذنه ومعونته.
تجدوه عند الله : تجدوا ثوابه عنده.
معـــنى الآيـتـين :
ولقد تمنى كثير من اليهود أن يردوكم إلى الكفر بعد إيمانكم، مع أنه قد تبين لهم من كتابهم نفسه أنكم على الحق، وما لك إلا أنهم يحسدونكم ويخشون أن ينتقل إليكم السلطان ويفلت من أيديهم، فأعرضوا عنهم، وأعفوا واصفحوا حتى يأذن الله لكم بمسلك آخر حيالهم فهو القادر على أن يمكنكم منهم، وهو على كل شيء قدير.
وحافظوا على شعائر دينكم، فأقيموا الصلاة، وأعطوا الزكاة، وما تقدموا لأنفسكم من أعمال طيبة وصدقة تجدوا ثوابه عند الله إن الله بما تعملون عليم، علم من يبصر ويرى.
متعلقات المعنى :
١- قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا. بيان للون من ألوان الشرور التي يضمرها أهل الكتاب، وعلى رأسهم اليهود، وهو تمنيهم ارتداد المسلمين عن دينهم الحق الذي أنقذهم الله منه، وإنما أسند سبحانه هذا التمني الذميم إلى الكثرة منهم، إنصافا للقلة المؤمنة التي لم ترض أن ينتقل المسلمون إلى الكفر بعد أن هداهم الله على الإسلام.
٢- يشير قوله تعالى : حسدا من عند أنفسهم : إلى أن تمني كفر المؤمنين لم يكن له من سبب أو علة سوى الحسد الذي استولى على نفوس اليهود، واستحوذ على قلوبهم فجعلهم يحسدون المؤمنين على نعمة الإيمان، ويتمنون التحول عنه إلى الكفر، والجملة الكريمة علة لما تضمنته الجملة السابقة من محبتهم نقل المؤمنين إلى الكفر.
( والحسد ) : قلق النفس لرؤية نعمة يصيبها الإنسان، وينشأ عن هذا القلق تمني زوال تلك النعمة عن الغير، وتمني زوال النعم مذموم بكل لسان، إلا نعمة أصابها فاجر أو جائر يستعين بها على الشر والفساد، فأن تمني زوالها كراهة للجور والفساد لا يدخل في قبيل الحسد المذموم، فإن لم تتمن زوال النعمة عن شخص وإنما تمنيت لنفسك مثلها فهي الغبطة والمنافسة، وهي محمودة لأنها تنتهي بالشخص إلى اكتساب محامد لولا المنافسة لظل في غفلة عنها، والحسد قد يهجم على الإنسان ولا يكون في وسعه دفعه لشدة النفرة بينه وبين المحسود، وإنما يؤاخذ الإنسان على رضاه به، وإظهار ما يستدعيه من القدح في المحسود، والقصد إلى إزالة النعمة عنه ) ( ٢٧١ ).
وفي الحديث الشريف :«ثلاث لا ينجو منهن أحد : الحسد والطيرة، والظن، قيل : فما المخرج منهن يا رسول الله ؟ قال : إذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تتبع » ( ٢٧٢ ).
فهذه الأشياء تهجم على الإنسان، والمؤمن مطالب بألا يسترسل فيها فإذا حسد أو أحس ببوادر الحسد فلا ينبغي له العدوان أو القدح أو البغي على المحسود.
وإذا تطير وتشاءم من شيء فلا يرجع ولا يسترسل في تشاؤمه بل يقل :«اللهم لا يأتي بالخير إلا أنت، ولا يذهب السوء إلا أنت اللهم اكفني السوء بما شئت إنك على ما تشاء قدير ».
وإذا ظن الإنسان بآخر فلا يسترسل في تتبعه، ولا يتابعه بالتجسس عليه، وبذلك يسلم المسلم من بوادر هذه الأمور الثلاثة حيث يوقفها عند حدها، ولا يسمح لها بالتعدي على الآخرين.
٣- قوله تعالى : من بعد ما تبين لهم الحق. يدل على أن محبة اليهود لتحويل المؤمنين من الكفر إلى الإيمان وقعت بعد أن ظهر لهم صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن تبين لهم أن الصفات التي وردت في التوراة بشأن النبي المبشر به، لا تنطبق عليه، وإذا فكفرهم به لم يكن عن جهل وإنما كان عن عناد وجمود على الباطل، ذلك هو الشأن أحبارهم الذين كانوا على علم بالتوراة، وتبشيرها بالنبي صلى الله عليه وسلم.
٤- قوله تعالى : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير. أي لا تعاقبوهم ولا تلوموهم حتى يأذن الله بالقتال في الوقت الذي يختاره لكم، وقد أنزل الله تعالى بعد ذلك الإذن بقتال اليهود في قوله : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية على يد وهم صاغرون. ( التوبة : ٢٩ ). كما أذن بإجلائهم عن المدينة.
٥- قال السيد رشيد رضا في تفسير المنار :
قال الأستاذ الإمام : وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قتلهم هم أصحاب القدرة والشوكة، لأن الصفح إنما يطلب من القادر على خلافه، كأنه يقول :
لا يغرنكم أيها المؤمنين كثرة أهل الكتاب مع باطلهم، فإنكم على قتلكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق، فعاملوهم معاملة القوي العادل، للقوى الجاهل، وفي إنزال المؤمنين على ضعفهم منزلة الأقوياء ووضع أهل الكتاب على كثرتهم موضع الضعفاء، إيذان بأن أهل الحق هم المؤيدون بالعناية الإلهية، وأن العزة لهم ما ثبتوا على حقهم، ومهما يتصارع الحق والباطل فإن الحق هو الذي يصرع الباطل كما قلنا غير مرة، وإنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه( ٢٧٣ ).
معـــنى الآيـتـين :
ولقد تمنى كثير من اليهود أن يردوكم إلى الكفر بعد إيمانكم، مع أنه قد تبين لهم من كتابهم نفسه أنكم على الحق، وما لك إلا أنهم يحسدونكم ويخشون أن ينتقل إليكم السلطان ويفلت من أيديهم، فأعرضوا عنهم، وأعفوا واصفحوا حتى يأذن الله لكم بمسلك آخر حيالهم فهو القادر على أن يمكنكم منهم، وهو على كل شيء قدير.
وحافظوا على شعائر دينكم، فأقيموا الصلاة، وأعطوا الزكاة، وما تقدموا لأنفسكم من أعمال طيبة وصدقة تجدوا ثوابه عند الله إن الله بما تعملون عليم، علم من يبصر ويرى.
المفردات :
وأقيموا الصلاة : أدوها بأركانها وشروطها وهيئاتها في أوقاتها، وأصله أفعل من قام الحق : ظهر وثبت، أي أظهروها على النحو الذي يرتضيه الشارع.
التفسير :
١١٠- وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعلمون بصير : أمر الله المسلمين بالمحافظة على عمودي الإسلام وهما العبادة البدنية التي تؤكد حسن صلة العبد بخالقه وهي الصلاة والعبادة المالية التي تؤلف بين قلوب الموسرين والمعسرين وهي الزكاة.
وجاءت جملة : وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدونه عند الله.
لترغبهم في فعل الخير على وجه عام ولتحثهم على التزود من الأعمال الصالحة سواء أكانت فرضا أم نفلا.
وجاءت جملة : إن الله بما تعلمون بصير، لتأكيد المعنى.
روى أن الإمام علي كرم الله وجهه كان إذا دخل المقبرة قال : السلام عليكم أهل هذه الديار الموحشة، والمحال المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات، ثم قال : أما المنازل فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الأزواج فقد نكحت، فهذا خبر ما عندنا، فليت شعري ما عندكم ؟ والذي نفسي بيده لو أنهم في الكلام لقالوا : إن خير الزاد التقوى.
وفي الحديث الصحيح :«إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له » ( ٢٧٤ ).
أماني كاذبة
( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين( ١١١ ) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ١١٢ ) (
المفردات :
هودا : جمع هائد، كعوذ جمع عائذ، ومعنى الهائد في الأصل التائب والمقصود هنا بالهود : اليهود.
أو نصارى : يعنون المسيحيين، جمع نصران ونصرانة، سموا بذلك نسبة إلى بلدة الناصرة التي كان ينزل بها عيسى، أو لأنهم أجابوا عيسى إلى نصره لما قال لهم : من أنصارى إلى الله ؟.
الأماني : واحدها أمنية وهي ما يتمناه المرء ولا يدركه، والعرب تسمي كل ما لا حجة عليه ولا برهان له تمنيا وغرورا، وضلالا وأحكاما.
برهانكم : حجتكم.
التفسير :
قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، يعنون بذلك : أن المسلمين لن يدخلوها، تنفيرا للمسلمين من دينهم، وإثارة للفتنة بينهم، لأنهم كما تقدم يودون ردتهم.
وجمع بين الكلام الفريقين في النظم الكريم للإيجاز، وثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله، لأن العداوة بين الفريقين معلومة( ٢٧٥ )، ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بالدليل على صحة ما يدعون فقال تعالى : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. أي قل يا محمد لهؤلاء الزاعمين أن الجنة لهم خاصة من دون الناس : هاتوا حجتكم على خلوص الجنة لكم إن كنتم صادقين في دعواكم.
لأنه لما كانت دعواهم اختصاص بدخول الجنة لا تثبت إلا بوحي من الله وليس لمجرد التمني، أمر الله تعالى نبيه أن يطالبهم بالدليل من كتبهم على صحة دعواهم، وهذه المطالبة من قبيل التعجيز لأن كتبهم خالية مما يدل على صحتها.
المفردات :
إسلام الوجه لله : هو الانقياد والإخلاص له في العمل بحيث لا يجعل العبد بينه وبين ربه وسطاء.
التفسير :
١١٢- بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أي : بلى يدخل الجنة من أخلص نفسه وذاته لله، فآمن به ونزهه تعالى عن الولد ( وهو محسن ) في جميع أعماله التي منها الإسلام.
والإحسان أداء العمل على وجه حسن أي مطابق للصواب وهو ما جاء به الشرع الشريف.
ومقصود الآية ليس الحق فيما زعمه كل فريق منكم يا معشر اليهود والنصارى من أن الجنة لكم دون غيركم، وإنما الحق أن كل من أخلص نفسه لله وأتى بالعمل الصالح على وجه حسن، فإنه يدخل الجنة، وينال أجره اللائق به ولا يخاف في الدارين من لحوق مكروه ولا يحزن على فوت مطلوب.
وقد أفادت الآية الكريمة ما يأتي :
١- إثبات ما نفوه من دخلوا غيرهم الجنة.
٢- بيان أنهم ليسوا من أهل الجنة إلا إذا أسلوا وجوههم لله.
٣- بيان أن العمل المقبول عند الله تعالى يجب أن يتوافر فيه أمران أولهما : أن يكون خالصا لله وحده. ثانيهما : أن يكون مطابقا الشريعة التي ارتضاها الله تعالى وهي شريعة الإسلام.
قال ابن كثير في تفسيره :
فإن للعمل المتقبل شرطين، أحدهما : أن يكون خالصا لله وحده والآخر أن يكون صوابا موافقا للشريعة، فمتى كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) ( ٢٧٦ ) رواه مسلم من حديث عائشة.
فعمل الرهبان ومن شابههم وإن فرض أنهم يخلصون فيه لله فإنه لا يتقبل منهم حتى يكون ذلك متابعا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم قال تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا. ( الفرقان : ٢٣ )
وقال تعالى : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ( النور : ٣٩ ).
وروى عن أمير المؤمنين عمر : أنه تأولها في الرهبان، وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة ولكن لم يخلص عامله القصد لله، فهو أيضا مردود على فاعله وهذا حال المنافقين والمرائين.
كما قال تعالى : إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا. ( النساء ٣٩ )، وقال تعالى : فويل للمصلين*الذين هم عن صلاتهم ساهون *الذين هم يراءون*ويمنعون الماعون. ( الماعون : ٤-٧ ).
ولهذا قال تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ( الكهف : ١١٠ ).
تهم متبادلة
( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا يختلفون( ١١٣ ) (
المفردات :
قال الذين لا يعلمون : المراد بهم عبدة الأصنام والمعطلة ونحوهم من الجهلاء.
مثل قولهم : بأن قالوا عن أهل كل دين آخر : ليسوا على شيء.
التفسير :
أنكرت اليهود رسالة المسيح مع أن التوراة بشرت به، ومازالوا يزعمون أن المسيح المبشر به في التوراة لم يأت وسيأتي بعد، فهم يعتقدون أن النصارى بإتباعهم له ليسوا على أمر حقيقي من التدين.
والنصارى تكفر اليهود لعدم إيمانهم بالمسيح الذي جاء لإتمام شريعتهم، ونشأ عن هذا النزاع عداوة اشتدت بها الأهواء والتعصب حتى صار كل فريق يطعن في دين الآخر، وينفي عنه أن يكون له أصل من الحق، ثم بين الله مدى جهلهم وعنادهم جميعا فقال سبحانه : وهم يتلون الكتاب. وهي جملة حالية، والكتاب للجنس، أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب، إذ اليهود يقرؤون التوراة والنصارى يقرؤون الإنجيل، وحق من حمل التوراة والإنجيل وغيرها من كتب الله وآمن بها ألا يكفر بالباقي لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني، شاهد بصحته، وكذلك كتب الله جميعا متواردة على تصديق بعضها بعضا.
كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم. أي مثل هذا القول الذي لم يبن على برهان، قال الجهلة من عبدة الأوثان لأهل كل دين، لستم على شيء، والحق وراء هذه المزاعم، فهو إيمان خالص وعمل صالح لو عرفه الناس حق المعرفة لما تفرقوا ولا اختلفوا في أصوله، لكنهم تعصبوا لأهوائهم فاختلفوا وتفرقوا طرائق قددا.
فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون : صدرت هذه الجملة بالفاء، لأن التوعد بالحكم بينهم يوم القيامة، وإظهار ما أكنته ضمائرهم من الهوى والضلال، متفرع من هذه المقالات ومسبب عنها، وهو خبر المقصود منه التوبيخ والوعيد.
والضمير في بينهم ( راجع إلى الفرق الثلاث، وقيل الضمير يعود على اليهود والنصارى ).
قال ابن كثير :
قوله تعالى : فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون : أي أنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج في الآية ١٧ : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد.
وكما قال تعالى : قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم( ٢٧٧ ).
ولم تصرح الآية الكريمة بماذا يحكم الله بينهم، فإنه من المعلوم من مظاهر حكم الله يوم القيامة إثابة من كان على حق وعقاب من كان على باطل.
قال الزمخشري : فالله يحكم. بين اليهود والنصارى يوم القيامة، بما يقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه، وعن الحسن : حكم الله أن يكذبهم ويدخلهم النار( ٢٧٨ ).
تخريب المساجد
( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيه اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم( ١١٤ )(
المفردات :
من أظلم : استفهام إنكاري بمعنى النفي، والمعنى : لا أحد أظلم.
مساجد الله : المراد بها جميع مساجد الله وأماكن عبادته، فالآية قاعدة عامة وإن كان سبب النزول خاصا كما سيأتي.
لهم في الدنيا خزي : هوان وذلة.
تمهيد :
تعددت أقوال المفسرين فيما تشير إليه الآية :
١- فيرى بعض المفسرين أنها تشير إلى ما وقع من تيطس الروماني إذ دخل بيت المقدس بعد موت المسيح بنحو سبعين سنة وخرب المسجد حتى لم يبق منه حجرا على حجر، وهدم هيكل سليمان حتى لم يترك إلا بعض جدران مبعثرة، وأحرق بعض نسخ التوراة، وكان هذا بإيعاز وتحريض من المسيحيين انتقاما من اليهود.
٢- ويرى بعض المفسرين أنها نزلت في كفار قريش حين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية، روى ابن حاتم عن ابن عباس أن قريشا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه.
ويرجح ابن جرير القول الأول، واحتج بأن قريش لم تسع في خراب الكعبة، وأما الروم فسعوا في تخريب بيت القدس.
وقال ابن كثير : الذي يظهر والله أعلم القول الثاني : وأما اعتماد ابن جرير على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة فأي خراب أعظم مما فعلوه ؟ أخرجوا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم، قال تعالى : هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله.
فإذا كان الرسول مطرودا منها مصدودا عنها فأي خراب للكعبة أعظم من ذلك ؟ وليس المراد بعمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط، وإنما عمارتها بذكر الله وإقامة شرعه فيها ورفعها عن الدنس والشرك( ٢٧٩ ).
والمتأمل في الآية يرى أنها عامة، تشمل بذمها ووعيدها كل من عطل المساجد عن أداء رسالتها، أو أرهب المؤمنين ومنعهم من دخولها.
قال القرطبي : وخراب المساجد قد يكون حقيقيا، كتخريب بختنصر والرومان لبيت المقدس حيث قذفوا فيه القاذورات وهدموه، ويكون مجازا كمنع المشركين حين وصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام، وعلى الجملة فتعطيل المساجد عن الصلاة وإظهار شعائر الإسلام فيها خراب لها( ٢٨٠ ).
وظاهر الآية يفيد أنه لا يوجد أحد أظلم ممن حال بين المساجد وبين أن يعبد فيها الله.
قال الزمخشري : إن قلت : فكيف قيل مساجد الله وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد هو بيت المقدس أو المسجد الحرام ؟ قلت : لا بأس أن يجيء الحكم عاما، وإن كان السبب خاصا، كما تقول لمن آذى صالحا واحدا، من أظلم ممن آذى الصالحين، كما قال عز وجل.
ويل لكل همزة. والمنزل فيه الأخنس بن شريف.
وسعى في خرابها بانقطاع الذكر أو بتخريب البنيان، وينبغي أن يراد بمن منع العموم كما أريد بمساجد الله، ولا يراد الذين منعوا بأعيانهم من أولئك النصارى أو المشركين( ٢٨١ ).
أولئك ما كان لهم أن يدخلوا إلا خائفين. معناه ما ينبغي لأولئك الذين يحولون بين المساجد وذكر الله ويسعون في خرابها أن يدخلوها إلا خائفين من الله تعالى لمكانها من الشرف والكرامة بإضافتها إليه تعالى، أو إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم عقوبة لهم على إفسادهم لدين الله وبيوته.
أي أنهم يستحقون الدفع والمطاردة والحرمان من الأمن، إلا أن يلجئوا إلى بيوت الله مستجيرين محتمين بحرمتها مستأمنين ( وذلك كالذي حدث في عام الفتح بعد ذلك إذ نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح : من دخل المسجد الحرام فهو آمن... فلجأ إليه المستأمنون من جبابرة قريش بعد أن كانوا هم الذين يصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه ويمنعونهم من زيارة المسجد الحرام ) ( ٢٨٢ ).
قال ابن كثير :( وفي هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام، ويذل لهم المشركين حتى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفا يخاف أن يؤخذ فيعاقب )( ٢٨٣ ).
لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم. أي لهم في الدنيا هوان وذلة بسبب ظلمهم وبغيهم، ولهم في الآخرة عذاب عظيم يخلدون معه في النار، وليس هناك أشقى ممن يعيش دنياه في هوان ومذلة ثم يلقى العذاب العظيم في الآخرة.
وفسر قتادة الخزي في الدنيا : بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون ( والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله، وقد ورد في الحديث الاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ).
روى الإمام أحمد عن بسر بن أرطاة، قال :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ) وهذا حديث حسن( ٢٨٤ ).
فضل الله
( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ( ١١٥ ) (
المفردات :
المشرق : موضع الشروق.
المغرب : موضع الغروب، والمراد بهما هنا : هما وما بينهما من الجهات والأماكن.
فثم وجه الله : أي فهناك جهته، أي قبلته التي أمر عباده أن يتجهوا إليها فالوجه والجهة شيء واحد.
إن الله واسع عليم : أي يوسع على عباده، أو لا يحصر ولا يتحدد، أو واسع العلم محيط بما تستطيعون علمه فلا يكلفكم ما يشق عليكم.
التفسير :
وردت عدة روايات في معنى هذه الآيات وأسباب نزولها، ومن هذه الروايات ما يأتي :
١- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه، فلما قدم المدينة توجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد ذلك.
١١٥- ولهذا يقول تعالى : ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله. روى أبو عبيدة القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ عن ابن عباس قال : أول ما نسخ من القرآن، فيما ذكر لنا والله أعلم، شأن القبلة، قال الله تعالى : ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله. فاتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ثم صرفه الله إلى بيته العتيق ونسخها فقال :
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره( ٢٨٥ ).
٢- وقال ابن عمر وآخرون : نزلت هذه الآية إذنا من الله أن يصلي المتطوع حيثما توجهت به راحلته من شرق أو غرب، وفي حال المسايفة وشدة الخوف.
أخرج مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيث كان وجهه وفيه نزلت : فأينما تولوا فثم وجه الله( ٢٨٦ ). نقله القرطبي، ونقله أيضا ابن كثير عن ابن جرير الطبري.
٣- وقال آخرون : بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض الله التوجه إلى الكعبة، وإنما أنزلها تعالى ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية إلا كان علم الله جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية لأن له تعالى المشارق والمغارب كما قال تعالى : ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا. ( المجادلة : ٧ ).
قالوا : ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجه على المسجد الحرام( ٢٨٧ ).
٤- وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في قوم عميت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها فصلوا على أنحاء مختلفة، فقال الله تعالى لي المشارق والمغارب، فأين وليتم وجوهكم فهناك وجهي وهو قبلتكم، فعليكم بذلك إن صلاتكم ماضية.
روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما بين المشرق والمغرب قبلة » قال الترمذي : حسن صحيح( ٢٨٨ ).
وقال : وقد روى من غير واحد من الصحابة ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) منهم عمر ابن الخطاب وعلي وابن عباس.
٥- قال ابن جرير : ويحتمل : فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهناك وجهي أستجيب لكم دعاءكم، ثم روى عن مجاهد قال : لما نزلت ادعوني أستجب لكم، قالوا : إلى أين ؟ فنزلت : فأينما تولوا فثم وجه الله.
وإذا ربطنا الآية بما سبقها من أن الظالمين قد يمنعون المصلين من الصلاة في مساجد الله، رأينا أن المقصود من الآية الإذن بإقامة الصلاة في أي مكان في الأرض دون أن تختص بها المساجد ففي الحديث الشريف «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا فأيما رجلا من أمتي أدركته الصلاة فليصل » ( ٢٨٩ ).
وكان السابقون لا يصلون إلا في بيعهم أو كنائسهم وكأن الآية تومئ إلى أن سعى أولئك الظالمين في منع المساجد من أداء رسالتها وتخريبها لا يمنع من أداء العبادة، لأن لله المشرق والمغرب وما بينهما فأينما حل الإنسان واتجه بعبادة إلى الله فهي مقبولة، والله تعالى راض عنه مقبل عليه. إن الله واسع. يوسع على عباده في دينهم ولا يكلفهم بما ليس في وسعهم. عليم بمصالحهم وبما يعملون في مختلف أماكنهم.
تنزيه الله عن الولد
( وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون( ١١٦ ) بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمر فإنما يقول له كن فيكون( ١١٧ ) (
المفردات :
اتخذ : من الاتخاذ وهو الصنع والجعل والعمل.
الولد : تطلق على الذكر والأنثى والواحد والجمع.
سبحانه : تنزيها وتبرئة لله لائقة به مما قالوا.
قانتون : منقادون خاضعون.
التفسير :
جاء الإسلام بتوحيد الخالق وتنزيهه عن الولد بين أهل كتاب و مشركين يزعمون أن لله ولدا.
فاليهود يزعمون أن عزيزا ابن الله، والنصارى يزعمون مثل ذلك لعيسى، والمشركون يزعمون مثله للملائكة فيقولون إنها بنات الله. ولا فارق بين أن يكون هذا القول قد صدر من جميع أفراد الأمة أو بعضها فإن أفرادها متكافلون في كل ما يعملون وما يقولون، مما يعود أثره من خير أو شر إلى الجميع. فيصح أن يكون الضمير في. وقالوا اتخذ الله ولدا. عائدا إلى الفرق الثلاث أو على بعضهم، فمن المعروف أن القرآن يجري على الأسلوب المعروف في المخاطبات حيث يسند إلى القوم ما صدر عن بعضهم، فحين قال : وقالت اليهود عزير ابن الله. ( التوبة : ٣٠ ) أصبح من السائغ في صحة المعنى أن يكون هذا القول قد صدر من طائفة منهم.
سبحانه : أي تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك تعالى علوا كبيرا، لاقتضاء الوالدية الجنسية والتناسل والافتقار والتشبيه والحدوث.
بل لم ما في السماوات والأرض : إضراب عن مقالتهم التي نسبوا بها الله اتخاذ الولد وشروع في الاستدلال على بطلانها.
قال ابن كثير :«أي ليس الأمر كما افتروا وإنما له ملك السماوات والأرض وهو المتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ومقدرهم ومسخرهم ومسيرهم ومصرفهم كما يشاء، والجميع عبيد له وملك له. فكيف يكون له ولد منهم ؟ والولد إنما يكون متولدا من شيئين متناسبين، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه، ولا صاحبة له، فكيف يكون ولدا ؟ ».
كما قال تعالى : بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم.
وقال تعالى :
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً﴿ ٨٨ ﴾ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً﴿ ٨٩ ﴾ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً﴿ ٩٠ ﴾ أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً﴿ ٩١ ﴾ وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴿ ٩٢ ﴾ إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً﴿ ٩٣ ﴾ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً﴿ ٩٤ ﴾ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً﴿ ٩٥ ﴾ ( مريم : ٨٨-٩٥ )
وقال تعالى : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴿ ١ ﴾ اللَّهُ الصَّمَدُ﴿ ٢ ﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴿ ٣ ﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴿ ٤ ﴾ ( الإخلاص ).
فقرر تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه السيد العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له، وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة فكيف يكون له منها ولد ؟
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
لا احد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم( ٢٩٠ ).
كل له قانتون : كل له مطيعون طاعة تسخير وانقياد، خاضعون لا يستعصي منهم شيء على مشيئته وإرادته، شاهدون بلسان الحال والمقال على وحدانيته من القنوت وهو لزوم الطاعة من الخضوع، وإنما جاء قانتون، بجمع المذكر المختص بالعقلاء، مع أن الخضوع لله يكون من العقلاء وغبرهم، تغليبا للعقلاء على غيرهم، لأنهم أهل القنوت عن إرادة وبصيرة، لأن ظهوره فيهم أكمل من ظهوره في غيرهم.
وفصلت جملة : كل له قانتون. عن سابقتها لقصد استقلالها بالاستدلال على نفى أن يكون لله ولد، حتى لا يظن السامع أنها مكملة للدليل المسوق له قوله تعالى : له ما في السماوات والأرض.
المفردات :
بديع : البديع بمعنى : المبدع، والإبداع هو إيجاد الشيء بصورة مخترعة على غير مثال سابق.
بديع السماوات والأرض : مبدعهما ومخترعهما على غير مثال سابق، وكما يأتي فعيل بمعنى مفعول، كجريح بمعنى مجروح، يأتي فاعل كما هنا ونظيره السميع بمعنى المسمع في قول الشاعر :( أمن ريحانة الداعي السميع ). وكل من أنشأ ما لم يسبق يقال لم مبدع ومنه أصحاب البدع.
التفسير :
١١٧- بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون : أي مبدع السموات والأرض ومنشئهما بلا احتذاء ولا اقتداء وبلا آلة ولا مادة، صفة مشبهة من أبدع، والذي ابتدعهما من غير أصل ولا مثال هو الله تعالى، وخص السموات والأرض بالإبداع لأنهما أعظم ما يشاهد من مخلوقات.
قال ابن جرير : فمعنى الكلام : سبحان الله، أنى يكون له ولد وهو مالك السموات والأرض، تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه، وهذا إعلام من الله عباده أن ممن يشهد به بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله بنوته وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته( ٢٩١ ).
وقوله تعالى : وإذا قضى أمرا فإنما يقول له من فيكون : معناه وإذا أراد سبحانه إحداث أمر من الأمور حدث فورا. و. كن فيكون : فعلا الكون بمعنى الحدوث، ويرى كثير من أهل السنة أن الجملة واردة على وجه التمثيل لحدوث ما تتعلق به إرادته سبحانه بلا مهلة وبلا توقف. وليس المراد أنه إذا أراد إحداث أمر أتى بالكاف والنون، ففي الكلام استعارة تمثيلية.
وقال الزمخشري : كن فيكون : من كان التامة أي أحدث فيحدث، وهذا مجاز من الكلام تمثيل ولا قول ثم، وإنما المعنى : أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء، أكد بها استبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها( ٢٩٢ ).
ويرى آخرون أن الأمر بكن محمول على حقيقته، وأنه تعالى أجرى سنته في تكوين الأشياء أن يكونها بكلمة كن أزلا.
وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد حكتا بعض الشبهات الباطلة التي أوردها الضالون حول وحدانية الله، وردتا عليها بما يدحضها ويثبت كذبها.
تعنت وعناد
( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون( ١١٨ ) (
المفردات :
لولا : كلمة لحض الفاعل على الفعل وطلبه منه.
الآية : الحجة والبرهان.
التشابه : التماثل.
اليقين : هو العلم بالدليل والبرهان.
تمهيد :
اختلف المفسرون في المراد من الذين لا يعلمون :
١- فقال ابن عباس هم اليهود، ويؤيد هذا الرأي أن السياق من أول السورة في الحديث عن اليهود. وأن القرآن قد حكى عنهم سؤالهم لموسى عددا من للآيات على سبيل التعنت والمكابرة.
قال تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة. ( النساء : ١٥٣ ).
وقال تعالى : وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. ( البقرة : ٥٥ )
٢- وقال مجاهد هم النصارى، وهو اختيار ابن جرير الطبري لأن السياق فيهم، قال ابن كثير : وفي هذا الكلام نظر، أي فهو لا يسلم أمام المناقشة، فليس النصارى وحدهم الذين قالوا تخذ الله ولدا. ( البقرة : ١١٦ ) وإنما اليهود أيضا قالوا ذلك، قال تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله. ( التوبة : ٣٠ ).
٣- وأكثر أهل التفسير على أن المراد من. الذين لا يعلمون : هم مشركو العرب، ويؤيد هذا القول أن القرآن المكي قد حكى عنهم الكثير من التعنت والعتو وسؤالهم ما لا حاجة لهم به وإنما هو الكفر والمعاندة، قال تعالى : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أتي رسل الله، الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون. ( الأنعام : ١٢٤ ).
وقال تعالى : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا. ( الإسراء : ٩٠-٩٣ )
وقال تعالى : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا ( الفرقان : ٢١ ).
وقد عبر القرآن عنهم بالذين لا يعلمون استهجانا لذكرهم لقبح ما صدر عنهم، ولأن ما يحكى عنهم لا يصدر إلا عن الجهلاء.
ولا يبعد أن يكون المراد من الذين لا يعلمون جميع الطوائف المشركة من اليهود والنصارى والعرب، ويكون الأميون من المشركين هم المقصودون قصدا أوليا، فكثيرا ما تحدوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم الله أو تأتيهم خارقة من الخوارق المادية.
كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم : أي مثل هذه الأسئلة التي يراد بها التعنت قد قالها من قبلهم من الأمم السابقة، أو من اليهود والنصارى.
إذ قالوا : أرنا الله جهرة. ( النساء : ١٥٣ )
وقالوا : لن نصبر على طعام واحد. ( البقرة : ٦١ ).
وقالوا : هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ( المائدة : ١١٢ ).
وقالوا : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ( الأعراف : ١٣٨ ).
تشابهت قلوبهم. أي : تشابهت قلوب السابقين مع قلوب اللاحقين في الكفر والإعراض عن الحق والعناد والمكابرة.
والمعنى : أن تشابه أقوالهم نابع من تشابه قلوبهم، كما قال تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون.
قد بينا الآيات لقوم يوقنون : أي أننا لم نتركك بلا آية بل بينا للناس الآيات على يديك بما لا يدع مجالا للريب.
قال ابن كثير :
أي قد وضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها سؤال آخر وزيادة أخرى لمن أيقن وصدق واتبع الرسل وفهم ما جاءوا به من الله تبارك وتعالى، وأما من ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة فأولئك الذين قال الله فيهم : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون*ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم. ( يونس : ٩٦ ).
البشير النذير
( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم( ١١٩ ) ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير( ١٢٠ ) الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون( ١٢١ ) (
المفردات :
الحق : هو الشيء الثابت المتحقق الذي لا شك فيه.
بشيرا : البشير : المبشر وهو المخبر بالأمر السار للمخبر به الذي لم يسبق له علم به.
نذيرا : النذير : المنذر وهو المخبر بالأمر المخيف ليحذر منه.
الجحيم : المتأجج من النار، وأصحابها الملازمون لها، والسؤال كناية عن المؤاخذة واللوم.
التفسير :
لا تذهب نفسك عليهم حسرات يا محمد، فإن وظيفتك أن تبشر ولست بعد ذلك مؤاخذا ببقاء الكافرين على كفرهم ولست مسئولا عن عدم اهتدائهم. وهذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان لمهمته كي يتوجه إليها بكليته ولا يلتفت إلى معارضة أهل الكتاب والمشركين، بعدما سجل تعنتهم.
وعن ابن عباس قال : بشيرا بالجنة ونذيرا من النار.
وروى أحمد عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ؟ فقال : أجل، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن ؛ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ( الأحزاب : ٤٥ ) وحرزا للأميين، وأنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا : لا إله إلا الله، فيفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا( ٢٩٣ ). انفرد بإخراجه البخاري ورواه ابن مردويه.
١٢٠- ولن ترضى لك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير. تحذر هذه الآية الأمة المحمدية من اتباع اليهود والنصارى والتفريط في أمور دينهم.
ولقد حرص السلف الصالح على التمسك بدينهم فنالوا عز الدنيا وشرف الآخرة.
ثم دل حرص المسلمون لأعدائهم من اليهود والنصارى فزادوا في التشبيه بهم قيلا قليلا.
ثم كشفوا عن وجوههم فضربوا على المسلمين قوانين أوربا الوثنية المجرمة الملعونة، ثم استباحوا أكثر المحرمات يصرحون بإباحتها من غير حياء ولا غيرة، ثم صاروا ينبذون الشرائع الإسلامية والأخلاق الكريمة التي هدانا الله إليها ورسوله بالتقاليد والرجعية لينفروا الناس منها.
بل إن بعض الماجنات ينشرون في الصحف الدعوة السافرة إلى السفور، فلئن لم يدفع المسلمون هذه المنكرات عن دينهم وبلادهم، ليسلطن الله عليهم عدوهم وليستبدلن بهم قوما غيرهم. قال تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم. ( ٢٩٤ ).
وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يبين لرسوله غاية أعدائه من اقتراح الآيات، ويحذره منهم فقال ما معناه : إن اليهود والنصارى يقترحون الآيات تعجيزا لا طلبا للهداية، فلو أتيتهم يا محمد بكل ما يسألون فلن يرضوا عنك ولن تنال رضاهم حتى تتبع دينهم الزائف المحرف.
قال ابن جرير الطبري : يعني جل ثناءه بقوله : ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم.
وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعاءهم إلى ما بعثك الله به من الحق، وقوله تعالى : قل إن هدى الله هو الهدى. يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل : ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير. فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى بعدما علموا من القرآن والسنة، عياذا بالله من ذلك، فإن الخطاب مع الرسول، والأمر لأمته( ٢٩٥ ).
وبعد أن ذكر القرآن في الآيات السابقة أحوال الكافرين من أهل الكتاب أخذ في بيان حال المؤمنين منهم فقال :
١٢١- الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون. المراد بالذين أوتوا الكتاب مؤمنو أهل الكتاب، والمراد بالكتاب : التوراة والإنجيل.
قال قتادة : هم اليهود والنصارى، وهو قول عبد الرحمن بن أسلم، واختاره ابن جرير الطبري.
وحمل بعض المفسرين الآية على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب على القرآن، والرأي الأول أولى. فإن عرف القرآن جرى على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، ولم يذكر المسلمون فيه إلا بعنوان المسلمين والمؤمنين، كما أن السياق واللحاق في بني إسرائيل.
ومعنى الآية :
الذين آتيناهم الكتاب يتلونه : أي من قام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته، آمن بما أرسلتك به يا محمد. أولئك يؤمنون به أي بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته والأمر بإتباعه ونصره ومؤازرته. ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون.
والكفر بالكتاب يتحقق بتحريفه وإنكار بعض ما جاء فيه، أي ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون في الدنيا حيث لا يعيشون فيها عيش المؤمنين، وهم الخاسرون في الآخرة، حيث خسروا نعيم الآخرة وحق عليهم العذاب الذي أعده الله للكافرين.
أو معنى : ومن يكفر : ومن يكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم ويكتم صفته ونعته فقد خسر الهدى في الدنيا والسعادة في الآخرة.
ملحقات :
قال عبد الله ابن مسعود : والذي نفسي بيده إن حق تلاوته : أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله.
وعن ابن عباس : يتلونه حق تلاوته. قال : يتبعونه حق اتباعه ثم قرأ : والقمر إذا تلاها. يقول اتبعها، وروى عن عكرمة وعطاء ومجاهد نحو ذلك( ٢٩٦ ).
٢- في الآية إيماء إلى أن الذين يتلون الكتاب دون أن يتدبروا معانيه لا حظ لكم من الإيمان لأنهم لا يفقهون هداية الله فيه ولا تصل العظة إلى أفئدتهم بتلاوته.
قال تعالى : ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب. ( ص : ٢٩ ). ولكن واأسفا إن كل هذه الآيات والعبر لم تحل بين هذه الأمة وتقليدها من قبلها وحذوها حذوهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ( والقرآن حجة لك وعليك ).
أنعم الله
( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين( ١٢٢ ) واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفعة ولا هم ينصرون( ١٢٣ ) (
المفردات :
إسرائيل : هو يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم، عليه السلام،
اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم : تذكروا ما أنعمت به عليكم من الإنجاء من بطش الفراعنة، وإنزال التوراة وغير لك. والمقصود من أمرهم بتذكرها أن يشكروها بالإيمان بما يجب الإيمان به.
وأني فضلتكم على العالمين : على علمي زمانهم.
تمهـــيد :
يذكر الله بني إسرائيل بنعمه التي أنعمها عليهم، وقد سبق التذكير بهذه النعم في الآيتين٤٧، ٤٨ من هذه السورة. ولكنه كرر تذكيرهم بها هنا تأكيدا لوجوب شكرها بالإيمان، وليرتب على الكفر بها الوعيد الشديد يوم القيامة.
التفسير :
يا أبناء النبي إسرائيل تذكروا ما أنعمنا به من النعم على آبائكم. ومن أجل ما أنعم الله به عليهم التوراة، وفيها وصف النبي صلى الله عليه وسلم ونعته وأمره وأمته. قال ابن كثير :«يحذرهم من كتمان هذا وكتمان ما أنعم به عليهم، وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم من النعم الدنيوية والدينية، ولا يحسدوا بني عمهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم، ولا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيدة عن موافقته.
وقد فضل الله اليهود على عالمي زمانهم بما آتاهم الله من التوراة دونهم وهذا التفضيل مرتبط بأسبابه وهو إتباع التوراة والعمل بها وبتنفيذ أوامرها واجتناب نواهيها، فإذا أهملوا أوامر الله وكتموا بعضها، وحرفوا وبدلوا بعض ما في التوراة، فقد فقدوا أسباب التفضيل واستحقوا اللعنة والطرد والغضب.
كما ذلك ذكر القرآن الكريم، مثل قوله تعالى : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا. ( الجمعة : ٥ ).
ومثل قوله تعالى : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون*كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ( المائدة : ٧٨، ٧٩ ).
تمهـــيد :
يذكر الله بني إسرائيل بنعمه التي أنعمها عليهم، وقد سبق التذكير بهذه النعم في الآيتين٤٧، ٤٨ من هذه السورة. ولكنه كرر تذكيرهم بها هنا تأكيدا لوجوب شكرها بالإيمان، وليرتب على الكفر بها الوعيد الشديد يوم القيامة.
المفردات :
واتقوا يوما : المراد باليوم يوم القيامة، وباتقائه. التحفظ من عقابه.
لا تجزي نفس عن نفس شيئا : لا تحمل عنها شيئا من جزاء عملها.
ولا يقبل منها عدل : لا يقبل منها فداء.
١٢٣- واتقوا الله يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون. تقول : جزي هذا الأمر يجزي، كما تقول قضى يقضي زنة ومعنى. أي اتقوا يا معشر بني إسرائيل المبدلين كتابي، المحرفين له عن وجهه، المكذبين برسولي محمد صلى الله عليه وسلم، عذاب يوم لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا من الحقوق التي لزمتها، فلا تؤخذ نفس بذنب أخرى، ولا تدفع عنها شيئا كما ورد في الصحيحين :«يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا ».
ولا يقبل منها عدل : أي فداء مهما عظم لو وجدته.
ولا تنفعها شفاعة : ولا يشفع فيما وجب عليها من حق شافع( ٢٩٧ ).
ولا هم ينصرون : أي لا يأتيهم ناصر ينصرهم فيمنع عذاب الله إذا نزل بهم.
والتعرض لنفي الفداء والشفاعة والنصرة في هذا اليوم، لأنها هي الأمور التي اعتادها بنو آدم في تخليصهم إذا وقعوا في الشدة.
وقد كان اليهود يعتقدون بالمكفرات تؤخذ فدية عما فرطوا فيه، وبشفاعة أنبيائهم لهم، فأخبرهم الله أنه لا يقوم مقام الاهتداء والإيمان الحق شيء آخر.
وفاء إبراهيم
( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ( ١٢٤ )(
المفردات :
ابتلى إبراهيم : اختبره ببعض التكاليف.
بكلمات : هي ما كلفه الله به من التكاليف
إماما : قدوة للناس.
قال ومن ذريتي : أي واجعل من أبنائه أئمة.
لا ينال عهدي الظالمين : العهد هنا الإمامة والنبوة، وينال بمعنى يدرك أو يصيب، وعهدي فاعل، والظالمين مفعول.
التفسير :
١٢٤- وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن... الابتلاء : الامتحان، وهو عند الخلق لاستجلاء ما خفي علمه لديهم، والمراد به في حق الخالق تكليف العبد ببعض التكاليف.
أي اختبر الله إبراهيم ببعض الأوامر فأتى بها إلى الله على أتم وجه فكافأه الله على هذا الاهتمام بأن جعله للناس عامة إماما يؤتم به وقدوة يقتدى به في جميع العصور والملل من بعده، وبخلاف كل نبي فإمامته خاصة بأمته ولهذا جئ به موعظة وزجرا لأهل الكتاب والمشركين : الزاعمين أنهم يسيرون على مناهجه.
ولما بشر الله إبراهيم بهذه المكافأة، طلب إبراهيم مثلها لبعض ذريته فقال : ومن ذريتي. أي واجعل بعض ذريتي إماما للناس.
وجملة : قال ومن ذريتي. واقعة موقع الجواب عما من شأنه أن يخطر في نفس السامع، فكأنه قال : وماذا كان إبراهيم عندما تلقى من ربه تلك البشارة العظمى ؟ فكان الجواب : أن إبراهيم قد التمس الإمامة لبعض ذريته أيضا.
أي قال إبراهيم : واجعل يا رب من ذريتي أئمة يقتدى بهم، وقد رد الله تعالى على قول إبراهيم بقوله : لا ينال عهدي الظالمين.
إنما قال إبراهيم : ومن ذريتي. ولم يقل وذريتي، لأنه يعلم أن حكمته تعالى في هذا العالم لم تجر بأن يكون جميع نسل أحد ممن يصلحون لأن يقتدى بهم فلم يسأل ما هو غير مألوف عادة، لأن السؤال ذلك ليس من آداب الدعاء.
أي قال الله لإبراهيم : لقد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن على ذريتك لكن لا يصيب عهدي الذي عهدته إليك بالإمامة الذين ظلموا منهم، هنا بمعنى الإمامة المشار إليها في قوله : جعلك للناس إماما.
في هذه الجملة إيجاز بديع، إذ المراد منه إجابة طلب إبراهيم من الإنعام على بعض ذريته بالإمامة كما قال تعالى :
وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ( العنكبوت : ٢٧ )، لكنها تدل صراحة على أن الظالمين من ذريته ليسوا أهلا لأن يكونوا أئمة يقتدى بهم، وتشير إلى أن غير الظالمين منهم قد تنالهم النبوة، وقد نالت من ذريته إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وغيرهم من الأنبياء. قال تعالى : وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين. ( الصافات : ١١٣ )
وقد تكرر دعاء إبراهيم لذريته فهو أب حان رحيم، ومن دعائه : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون( إبراهيم : ٣٧ ). ومن دعائه أيضا : رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء( إبراهيم : ٤٠ ).
الكلمات التي ابتلى بها إبراهيم
لم يعين القرآن الكريم الكلمات التي ابتلى بها إبراهيم، ومن تم اختلفوا فيها، فقيل هي مناسك الحج، وقيل إنها الكواكب والشمس والقمر التي رآها واستدل بأفولها على وحدانية الله تعالى. وقيل الأوامر والتكاليف التي أتمهن وفاء وقضاء، قال تعالى : وإبراهيم الذي وفى. ( النجم : ٣٧ ) وهي شهادة من الله بالوفاء بالتزاماته.
قال ابن كثير : وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل عليه لسلام.
فروى عن ابن عباس في ذلك الروايات :
فروى عنه : ابتلاه الله بالمناسك، وروى عنه : ابتلاه بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد.
في الرأس : قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد، تقليم الأظافر، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء( ٢٩٨ ).
قلت : وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم : عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«عشرة من الفطرة : قص الشارب، وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظافر وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة، وانتقاص الماء » قال مصعب : ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، قال وكيع : انتقاص الماء يعني الاستنجاء( ٢٩٩ ).
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« الفطرة خمس : الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط » ولفظه لمسلم( ٣٠٠ ).
وعن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : ما ابتلى بها الدين أحد فقام به كله إلا إبراهيم قال تعالى : وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن.
قلت له وما الكلمات التي ابتلى إبراهيم بهن فأتمهن ؟ قال : الإسلام ثلاثون سهما، منها عشر آيات في براءة : التائبون العابدون( التوبة : ١١٢ ) إلى آخر الآية، وعشر آيات في أول سورة. قد أفلح المؤمنون ( المؤمنون : ١-١٠ )، وسأل سائل بعذاب واقع. ( المعارج : ١-١٠ )، وعشر آيات في الأحزاب. إن المسلمين والمسلمات. ( الأحزاب : ٣٥ ) إلى آخر الآية فأتمهن كلهن، فكتب له، قال الله : وإبراهيم الذي وفى. ( النجم : ٣٧ ).
رواه الحاكم وابن جرير وابن أبى حاتم، وهذا لفظ ابن أبى حاتم.
وروى ابن أبى خاتم عن الحسن البصري قال : ابتلاه بالكواكب فرضي عنه، وابتلاه بالقمر فرضي عنه، وابتلاه بالشمس فرضي عنه، وابتلاه بالهجرة فرضي عنه، وابتلاه بالختان فرضي عنه، وابتلاه بابنه فرضي عنه( ٣٠١ ).
قال ابن جرير الطبري : يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر، وجائز أن يكون بعض ذلك. ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع، قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد لا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له( ٣٠٢ ).
البيت الحرام
( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطآئفين والعاكفين والركع السجود( ١٢٥ ) (.
المفردات :
البيت الحرام : المراد به الكعبة.
مثابة : أي مرجعا يثوب إليه هؤلاء الزوار أمثالهم.
أمنا : موضع أمن.
مقام إبراهيم : هو الحجر الذي كان يقوم عليه حين بناء الكعبة.
المصلى : موضع الصلاة أي الدعاء والثناء على الله تعالى.
عهدنا : عهد إليه بكذا إذا وصاه به.
طهرا بيتي : نظفاه من كل ما لا يليق من الأوثان وجميع الخبائث.
والعاكفين : أي المعتكفين في المسجد، الملازمين له زمنا ما.
والركع السجود : الركع جمع راكع، السجود جمع ساجد، المراد به المصلون.
تمهيد :
ذكر سبحانه العرب في هذه الآية بنعم أسبغنا عليهم ومنن قلدها جيدهم، وهي جعل البيت الحرام مرجعا للناس يقصدونه ثم يثوبون إليه، وجعله مأمنا في هذه البلاد، بلاد المخاوف التي يتخطف الناس فيها من كل جانب.
التفسير :
١٢٥- وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا : أي اذكروا وقت أن أمرنا بأن يصير البيت مرجعا للحجاج يرجعون إليه بعد أن يتفرقوا عنه، أو موضع ثواب يثاب الناس بالحج إليه والاعتمار فيه.
وأمنا : أي موضع أمن، والمقصود من جعل البيت مكان أمن أن الحج إليه يجعل الحاج مطمئنا إلى رحمة الله، فإنه مكفر لكثير من الذنوب.
كما جعل الله الحرام آمنا لاحترام الناس وتعظيمهم إياه بعدم سفك دم فيه، حتى كان الرجل يرى قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرض له بسوء.
ونحو الآية قوله تعالى في سورة العنكبوت : أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ؟ ( العنكبوت : ٦٧ ).
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى : أي وقلنا لهم اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وفائدة ذكر هذا الأمر أن يستحضر السامع أو التالي المأمورين به وكان الأمر يوجه إليهم.
وشرع من قبلنا شره لنا ما لم يرد ناسخ له، فنحن مأمورون بالدعاء في مقام إبراهيم، كما أمر به من كان في عصره من المؤمنين.
روى ابن جرير عن جابر قال : استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعة، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين، وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه( ٣٠٣ ).
وروى البخاري عن عمرو بن دينار قال : سمعت ابن عمر يقول :( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف باليت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين ).
قال ابن كثير :
«فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، كلما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه، وكلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى أتم جدارات الكعبة » ( ٣٠٤ ).
وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود : أي ووصينا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن طهرا هذا البيت وما حوله من كل رجس معنوي كالشرك بالله وعبادة الأصنام أو رجس حسي كاللغو والرفث والتنازع فيه، وقد أمر بتطهيره على هذا النحو من أجل الطائفين به للتنسك من أهل الحرم، أو الوافدين عليه من بقاع الأرض، ومثلهم الزائرون. فالتطهير عام من أجل الجميع.
وكما أمر بتطهيره مما ذكر للطائفين، أشرك معهم في هذا الحكم المعتكفين فيه عن الناس لعبادة ربهم والمصلين الذين عناهم سبحانه بقوله : والركع السجود.
قال ابن كثير :
إن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له، للطائفين والعاكفين والمصلين إليه من الركع السجود كما قال تعالى : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود. ( الحج : ٢٦ ).
والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى : إن الذين كفروا يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم. ( الحج : ٢٥ ).
دعاء
( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير( ١٢٦ ) (
المفردات :
الثمرات : المأكولات مما يخرج من الأرض والشجر.
الاضطرار : الإكراه، يقال اضطررت فلانا إلى كّذا : أي ألجأته إليه وحملته عليه.
التفسير :
١٢٦- وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا... أي أضرع إليك يا إلهي أن تجعل الموضع الذي فيه بيتك مكانا إليه بأنس الناس، ويؤمنون فيه من الخوف، ويجدون فيه كل ما يرجون من أمان واطمئنان.
والمشار إليه بقوله : هذا : مكة المكرمة، والبلد كل قطعة من الأرض عامرة أو غامرة.
والمقصود من الدعاء إنما هو أمن أهله لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد وإنما يلحقان أهل البلد.
وقد فعل الله ذلك شرعا وقدرا، كقوله تعالى : ومن دخله كان آمنا. ( آل عمران : ٩٧ ).
وقوله : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم. ( العنكبوت : ٦٧ ).
وقوله عز شأنه : لإيلاف قريش*إيلافهم رحلة الشتاء والصيف*فليعبدوا رب هذا البيت*الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. ( قريش ).
وقال في هذه السورة : رب اجعل هذا بلدا آمنا. أي اجعل هذه البقعة بلدا آمنا، وناسب هذا لأنه قبل بناء الكعبة.
وقال تعالى : وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا. ( إبراهيم : ٣٥ ) وناسب هذا هناك لأنه والله أعلم كأنه وقع دعاء ثانيا بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق، الذي هو أصغر سنا من إسماعيل بثلاثة عشر سنة( ٣٠٥ ). ولهذا قال في آخر الدعاء : الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء. ( البقرة : ٣٣-٣٤ ).
وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر : أي كما أسألك يا إلهي أن تجعل هذا البلد آمنا، أسألك كذلك أن ترزق المؤمنين من أهله من الثمرات ما يسد حاجتهم، ويغنيهم عن الاحتياج إلى غيرك وقوله وارزق : مأخوذ من رزقه إذا أعطاه ما ينتفع به م مأكول وغيره.
وإنما طلب إبراهيم عليه السلام من الله أن يجعل مكة بلدا آمنا، وأن يرزق أهلها من الثمرات بما يغنيهم، لأن البلد إذا امتدت إليه ظلال الأمن وكانت مطالب الحياة فيه ميسرة، أقبل أهله على طاعة الله بقلوب مطمئنة، وتفرقوا لذلك بنفوس مستقرة. وقال في دعائه : من آمن منهم بالله واليوم الآخر، لأن أهل مكة قد يكون من بينهم كافرون : فأراد تخصيص المؤمنين منهم بدعائه، لذا اتبع قوله : وارزق أهله من الثمرات. بقوله : من آمن منهم. على وجه البدل فصار المعنى وارزق المؤمنين من أهله، على ما تقتضيه القاعدة العربية من أن البدل وهو هنا : من آمن. هو المقصود بطلب الرزق.
وخص إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصا على شيوع الإيمان بين سكان مكة لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم إنما هي خاصة بالمؤمنين تجنبوا ما يبعدهم عن الإيمان، أو أنه خص المؤمنين بذلك تأدبا مع الله، إذ سأله سؤالا أقرب إلى الإجابة، ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال : ومن ذريتي. فقال : لا ينال عهدي الظالمين. ( إبراهيم : ٣٩ ) أي غير المؤمنين ليسوا أهلا لأن يدعو لهم بإجراء رزق الله عليهم.
ثم بين سبحانه مصير الكافرين بقوله :
ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير : أي قال يا إبراهيم قد أجبت دعوتك ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات، ورزقت كفارهم أيضا، وأمتعهم بهذا الرزق أمدا قليلا وهو مدة وجودهم في الدنيا ثم أسوقهم إلى عذاب النار سوقا اضطراريا لا اختيار لهم فيه ولا يمكنهم الانفكاك، وجملة : ثم اضطره إلى عذاب النار. احترس من أن يغتر الكافر بأن تخويله النعم في الدنيا يؤذن برضا الله، فلذلك ذكر العذاب هنا.
وهذا كقوله تعالى : ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور*نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ. ( لقمان : ٢٣-٢٤ ) أي أن الله ينذرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقد أفادت الآية أن الله يرزق الكافر في الدنيا كما يرزق المؤمن، وإن كان أهلا لكل خير، فرزق الكافر لاستدراجه، ولو حرم الله الكافرين من التوسعة في الرزق في الدنيا وخص بها المؤمنين، لانساقوا إلى الإيمان قسرا. وقد قضت حكمته سبحانه أن يكون الإيمان اختياريا حتى يتجه إليه الإنسان عن طريق النظر في آيات الله التي يبصرها قوم ويعمى عنها آخرون، ووصف التمتع بالقلة، لأن مدة الدنيا قليلة بالنسبة إلى الآخرة، ولتعرض متعها إلى الزوال كل لحظة.
في الصحيح :«إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم قرأ قوله تعالى : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد( ٣٠٦ ) ».
بناء الكعبة
( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم( ١٢٧ ) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم( ١٢٨ ) ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم( ١٢٩ ) (.
المفردات :
يرفع إبراهيم القواعد : القواعد : الأسس، جمع قاعدة، ورفعها البناء عليها.
تمهيــد :
تشتمل الآية على مشهد كريم لنبي كريم يبني بيت الله تعالى ويرفع بناء الكعبة المشرفة، ويسترسل في الدعاء والابتهال أن يتقبل الله منه عمله، فهو سبحانه مطلع وشاهد وعليم بالنوايا والسرائر.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم :«فنغمة الدعاء وموسيقى الدعاء وجو الدعاء.. كلها حاضرة كأنها تقع اللحظة حية شاخصة متحركة.. وتلك إحدى خصائص التعبير القرآني الجميل. رد المشهد الغائب الذاهب، حاضرا يسمع ويرى، ويتحرك ويشخص، وتفيض الحياة منه.. إنها خصيصة ( التصوير الفني ) بمعناه الصادق اللائق بالكتاب الخالد.
وماذا في ثنايا الدعاء ؟ إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود. وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء، وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم بهذا الإيحاء( ٣٠٧ ).
التفسير :
١٢٧- وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم : واذكر يا محمد أيضا حين بنى إبراهيم فوق أسس الكعبة، ورفعها هو وإسماعيل ابنه وهما يقولان داعين : ربنا تقبل منا بناء هذا البيت الذي سيكون قبلة ومطافا لعبادتك، إنك سميع الدعاء، عليم بما وراءه من النية والشعور.
وعبر بالمضارع فقال : وإذ يرفع مع أن رفع القواعد كان قبل نزول الآية وذلك ليخرجه في صورة الحاضر في الواقع لأهميته.
تمهيــد :
تشتمل الآية على مشهد كريم لنبي كريم يبني بيت الله تعالى ويرفع بناء الكعبة المشرفة، ويسترسل في الدعاء والابتهال أن يتقبل الله منه عمله، فهو سبحانه مطلع وشاهد وعليم بالنوايا والسرائر.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم :«فنغمة الدعاء وموسيقى الدعاء وجو الدعاء.. كلها حاضرة كأنها تقع اللحظة حية شاخصة متحركة.. وتلك إحدى خصائص التعبير القرآني الجميل. رد المشهد الغائب الذاهب، حاضرا يسمع ويرى، ويتحرك ويشخص، وتفيض الحياة منه.. إنها خصيصة ( التصوير الفني ) بمعناه الصادق اللائق بالكتاب الخالد.
وماذا في ثنايا الدعاء ؟ إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود. وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء، وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم بهذا الإيحاء( ٣٠٧ ).
المفردات :
مسلمين لك : أي منقادين لك، يقال اسلم واستسلم إذا خضع وانقاد.
المناسك : واحدها منسك( بفتح السين ) من النسك وهو غاية الخضوع والعبادة، وشاع استعماله في عبادة الحج خاصة، كما شاع استعمال المناسك في معالم الحج وأعماله.
التفسير :
١٢٨ - ربنا وجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. إنه نداء مصدر بهذا الاسم الكريم : ربنا.
إنه رجاء العون من ربهما أن يكون إسلامهما خالصا لله، وأن يثبتهما على الإسلام والإيمان.
وأن يمتد إلى ذريتهما فيشملها بالهداية والتوفيق، حتى يكون بعض هذه الذرية جماعة مستسلمة ومنقادة لله في إيمانها وطاعتها، وارنا مناسكنا. وعلمنا شرائع ديننا وأعمال حجنا كالطواف والسعي والوقوف، أو متعبداتنا التي تقوم فيها شرائعنا كمنى وعرفات ونحوهما.
وتب علينا : وفقنا للتوبة والهداية إنك مانح التوبة والمتفضل بقبولها وأنت كثير الرحمة والإحسان.
وقد كان إبراهيم مسلما لك خالص الإسلام، ليس في دينه شرك ولا وثنية ولا ادعاء بنبوة الله.
قال تعالى : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين. ( آل عمران : ٦٧ )
وقد كان دين إبراهيم يسيرا في شرائعه وأحكامه، إذ جاء في صحائف ولم يأت في كتاب، كالإسلام واليهودية والنصرانية.
وقد امتاز الإسلام بأنه تناول كل فروع الحياة، وأعطاها الأحكام المناسبة لها، فكان لذلك صالحا لكل زمان ومكان. وقد طلب إبراهيم وإسماعيل من ربهما أن يجعل من ذريتهما جماعة مسلمة له تعالى ولم يعمما الذرية لما وقر في نفسيهما من أن بعضهم سيكونون كفارا، ولما عرفاه من طبائع البشر وسيرهم على هواهم، وتنكرهم لشرائع رسلهم، وخصا ذريتهما بالدعاء، لأنهم أحق بالشفقة والدعاء لهم بالصلاح مطلوب شرعا.
والتوبة إلى الله معناها الرجوع إليه والالتجاء إلى حماه وطلب التوفيق منه والهدى.
والتوبة تكون من الكبائر والصغائر، وتكون من ترك ما هو أولى أو من تقصير يؤدي إلى الاجتهاد. وعلى أحد هذين الوجهين تحمل التوبة التي يسأل الأنبياء والمرسلون ربهم قبولها أو التوفيق لها، وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم مائة مرة.
تمهيــد :
تشتمل الآية على مشهد كريم لنبي كريم يبني بيت الله تعالى ويرفع بناء الكعبة المشرفة، ويسترسل في الدعاء والابتهال أن يتقبل الله منه عمله، فهو سبحانه مطلع وشاهد وعليم بالنوايا والسرائر.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم :«فنغمة الدعاء وموسيقى الدعاء وجو الدعاء.. كلها حاضرة كأنها تقع اللحظة حية شاخصة متحركة.. وتلك إحدى خصائص التعبير القرآني الجميل. رد المشهد الغائب الذاهب، حاضرا يسمع ويرى، ويتحرك ويشخص، وتفيض الحياة منه.. إنها خصيصة ( التصوير الفني ) بمعناه الصادق اللائق بالكتاب الخالد.
وماذا في ثنايا الدعاء ؟ إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود. وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء، وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم بهذا الإيحاء( ٣٠٧ ).
المفردات :
الكتاب : القرآن
الحكمة : أسرار الأحكام الدينية ومعرفة مقاصد الشريعة. قال ابن دريد : كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة. والحكمة أيضا وضع الأمور في مواضعها.
ويزكيهم : يطهر نفوسهم من دنس الشرك وضروب المعاصي.
العزيز : القوي الغالب.
الحكيم : الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
التفسير :
١٢٩- ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم.
ونسألك أن تتم على ذريتنا نعمتك بأن تبعث فيهم رسولا منهم لا من غيرهم يتحدث بلغتهم ويتلو عليهم آياتك البينات، ويعلمهم معاني القرآن وأسراره ويرشدهم إلى ما فيه من حكم ومواعظ وآداب ويبين لهم أحكام الدين وأسرار الوحي وحكمة التشريع وأهداف الإسلام.
ويعلمهم الحكمة، أي وضع الأمور في نصابها ويربيهم فيحسن تربيتهم ويرشدهم إلى اتباع السنة النبوية التي بها يتم التفقه في الدين ويطهرهم من دنس الشرك وقبح العادات.
إنك أنت العزيز : الغالب الذي لا يقهر.
الحكيم : المدبر عن حكمة وإتقان.
وقد جاء ترتيب هذه الجمل في أسمى درجات البلاغة والحكمة، لأن أول تبليغ الرسالة يكون بتلاوة القرآن ثم بتعليم معانيه، ثم بتعليم العلم النافع الذي تحصل به التزكية والتطهير من كل ما يليق التلبس به في الظاهر أو الباطن.
لقد كان إبراهيم أبا وفيا أكثر الدعاء لذريته، وطلب من الله أن يرزقها من الثمرات. ثم طلب من الله أن يبعث فيهم رسولا منهم يبين لهم الهداية والعبادة.
وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد قرون وقرون. بعثة رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل، يقرأ القرآن ويبلغ الوحي ويعلم المسلمين ويبشر بالجنة ويحذر من النار، ويؤدي رسالة ربه، فكان نورا وهداية ودعوة مثمرة فيها الحياة والسعادة، جمعت العرب ووحدتهم ولقنتهم التوحيد والإيمان، والعلم والأحكام، وصاروا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم.
لقد كان اليهود والنصارى يدعون أنهم أولى بإبراهيم، ويربطون ديانتهم به، ويدعون دعاوي عريضة في الهدى والجنة بسبب وراثتهم لإبراهيم. فأسمعهم القرآن أن إبراهيم حين طلب الإمامة لبنيه وورثته قال له ربه : لا ينال عهدي الظالمين. وحين طلب الرزق والثمرات والبركة خص بدعوته. من آمن منهم بالله واليوم الآخر.
وحين قام هو وإسماعيل ببناء البيت والتقرب إلى الله كانا يتضرعان إلى الله طلبا للقبول، والتوفيق على الإسلام، وهداية ذريتهما إلى طريق الإسلام، ومناسكه، وأن يبعث في هذه الذرية رسولا منهم، فاستجاب الله لهما وأرسل من أهل البيت الحرام محمدا عبد الله وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة بأمر الله والوارثة لدين الله.
وقد أورد الحافظ ابن كثير حديثا طويلا رواه البخاري فيه : أن إبراهيم أخذ ولده إسماعيل وأمه هاجر قرب بيت الله الحرام، وأخذت هاجر تسعى بين الصفا والمروة سبع مرات بحثا عن الماء. ثم سمعت صوت ملاك يبشرها بنبع زمزم، ثم جاءت قبيلة جرهم واستأذنت من هاجر في أن تقيم حول البيت، وشب إسماعيل وتزوج من قبيلة جرهم.
ثم جاء إبراهيم وقد كبر ولده إسماعيل فأخبر إبراهيم ولده أن الله يبني له بيتا، فأعانه إسماعيل، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. قال : فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم( ٣٠٨ ).
البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم :
بشرت برسول الله صلى الله عليه وسلم التوراة والإنجيل، وكان صلى الله عليه وسلم استجابة لدعوة إبراهيم، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلى الله عليه وسلم رسولا في الأميين ورسولا إلى سائر العالمين.
روى الإمام أحمد عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك : دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين »( ٣٠٩ ).
ملة إبراهيم
( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين( ١٣٠ ) (.
المفردات :
رغب : في الشيء أحبه، ورغب عنه كرهه.
الملة : الطريقة، وغلب إطلاقها على الدين.
سفه نفسه : امتهنها واستخف بها، مثل سفه بفتح الفاء مشددة وأصل السفه الخفة، فمن رغب عما يرغب فيه وهو ملة إبراهيم، فقد بالغ في امتهان نفسه وإهانتها، والاستخفاف بها، وقيل : إن سفه مضمن معنى جهل أي فقد نفسه، أي : لم يفكر فيما ينفعها.
اصطفيناه : اخترناه للرسالة من بين سائر الخلق.
قصة الآية :
ذكر سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهن، وأنه عهد إليه ببناء البيت.
وأردف ذلك بذكر أن ملة إبراهيم التي كان يدعو إليها هي التوحيد وإسلام القلب لله والإخلاص في العمل، ولا ينبغي التحول عنها ولا يرضى عاقل أن يتركها إلا إذا ذل نفسه واحتقرها.
وقد روى في سبب نزول هذه الآية أن عبد الله ابن سلام دعا ابن أخيه سلمة ومهاجرا، إلى الإسلام، قال لهما : علمتما أن الله تعالى قال في التوراة : إني باعث من مولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، من آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر.
وقال أبوا العالية وقتادة : نزلت في اليهود، أحدثوا طريقا ليست من عند الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أخذوه ويشهد لصحة هذا القول قوله تعالى : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين*إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي للمؤمنين. ( آل عمران : ٦٧-٦٨ ).
وتفيد الآية أنه كان صراع بين المسلمين من جهة اليهود والنصارى والمشركين من جهة أجرى، وأن هذه الطوائف الثلاث كانت تدعى الانتساب إلى إبراهيم والوارثة لدينه وملته، فجاءت الآية لترد على هؤلاء دعواهم لأنهم انصرفوا عن التوحيد الخالص إلى الوثنية والشرك ووصف الله بما لا يليق به.
التفسير :
١٣٠- ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه : لا أحد يزهد في دين إبراهيم إلا شخص امتهن نفسه واحتقرها لأنه دين التوحيد الخالص.
ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين : ولقد اخترناه في الدنيا لرسالتنا من بين الخلق، وإنه في الآخرة لفي عداد الصالحين المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح.
قال ابن كثير ما خلاصته :
يقول تبارك وتعالى ردا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله المخالف لملة إبراهيم الخليل إمام الحنفاء فإنه جرد توحيد ربه تبارك وتعالى، فلم يدع معه غيره ولا أشرك به طرفة عين وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك سائر قومه. فقال :
يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين( الأنعام٧٨-٧٩ ).
وقال تعالى : إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين، شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم، وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ( النحل : ١٢٠-١٢٢ ).
ولهذا وأمثاله قال تعالى :
ومن يرغب عن ملة إبراهيم : أي عن طريقته ومنهجه فيخالفها ويرغب عنها.
إلا من سفه نفسه : أي ظلم نفسه بسفهه سوء تدبيره فترك طريق الحق واتبع طرق الضلالة والغي.
فأي سفه أعظم من هذا ؟ أم أي ظلم أكبر من هذا ؟ كما فقال تعال : إن الشرك لظلم عظيم.
الإسلام
( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين( ١٣١ ) ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن غلا وانتم مسلمون( ١٣٢ ) (.
المفردات :
أسلم : أخلص لي العبادة.
التفسير :
يبين القرآن سماحة إبراهيم ونقاء فطرته، وتوافقه مع الخير والهدى فقد دعاه الله إلى الإسلام بما أراه من الآيات ونصب له الأدلة على وحدانيته فأجاب إلى ذلك شرعا وقدرا، لم يتلكأ ولم يرتب ولم ينحرف واستجاب فور تلقي الأمر.
١٣١- إذ قال له ربه اسلم قال أسلمت لرب العالمين : أخلصت ديني لله الذي فطر الخلق جميعا. وقد نشأ إبراهيم في قوم عبدة أصنام وكواكب، فأنار الله بصيرته وألهمه الحق والصواب والتوحيد الخالص، ولم يكتف إبراهيم بنفسه إنما تركها في عقبه وجعلها وصيت في ذريته.
المفردات :
التوصية : إرشاد غيرك إلى ما فيه خير وصلاح له من قول أو فعل على جهة التفضل والإحسان في أمر ديني أو دنيوي.
مسلمون : مخلصون بالتوحيد.
التفسير :
١٣٢- ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين : أي وصى بهذه الملة وهي الإسلام أولاده، ووصى بها يعقوب من بعد أولاده أيضا، قائلين لهم : إن الله اصطفى لكم دين الإسلام الذي لا يتقبل الله سواه. فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون : أي فاثبتوا على الإسلام واستقيموا على أمره حتى يدرككم الموت وأنتم مقيمون عليه.
قال ابن كثير : أي أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه فإن المرء يموت غالبا على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه، وقد أجرى الله عادته بأن من قصد الخير وفق له ويسر عليه، ومن نوى صالحا ثبت عليه( ٣١٠ ).
الإسلام ملة الأنبياء
( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون( ١٣٣ ) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون( ١٣٤ )(.
المفردات :
شهداء : جمع شهيد بمعنى شاهد أي حاضر.
إذ حضرت يعقوب الموت : وقت حضور أماراته وأسبابه وقرب الخروج من الدنيا.
التفسير :
١٣٣- أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت : أي أكنتم يا معشر اليهود والنصارى المكذبين محمدا، الجاحدين نبوته، شهداء حين حضر يعقوب الموت فتدعون انه كان يهوديا أو نصرانيا، فقد روى أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية( ٣١١ ).
وخلاصة ذلك : أنتم لم تحضروا ذلك فلا تدعوا عليه الأباطيل وتنسبوه إلى اليهودية أو النصرانية فإني ما أرسلت إبراهيم وبنيه إلا بالحنيفية المسلمة وبها وصوا بنيهم وعهدوا إلى أولادهم من بعدهم.
إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي : وجه يعقوب الوصية لبنيه في صورة سؤال لبيان شدة اهتمامه بأمرهم، وليطلب بسؤاله جوابا منهم يعبر عن رسوخ إيمانهم وعقدهم النية علو أن يخصوا الإله الحق بعبادتهم، قالوا : نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون. وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه، والعم شبيه بالأب، روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«عم الرجل صنو أبيه » ( ٣١٢ ).
أي قالوا نعبد الإله الذي قامت الأدلة العقلية والحسية على وجوده ووجوب عبادته لا نشرك به سواه.
وقد كانوا في عصر فشت فيه عبادة الأصنام والكواكب والحيوانات وغيرها، وكان يكفي في جوابهم أن يقولوا نعبد الله، ولكنهم أطنبوا وأسهبوا اغتباطا وتمسكا بالحق، وإيذانا بأنه عقيدة مشتركة بين الأنبياء الثلاثة كما هو عقيدته.
وذكروا إلها واحدا للتأكيد، وللتلذذ بالإقرار بالوحدانية وأكدوا أيضا بقولهم : ونحن له مسلمون : ونحن منقادون خاضعون معترفون له بالعبودية متوجهون إليه عند الملمات.
قال ابن كثير :
كما أن الإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم.
قال تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدوني ( الأنبياء : ٢٥ ) والآيات في هذا كثيرة والأحاديث، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم :«نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد » ( ٣١٣ ).
المفردات :
الأمة : الجماعة، والإشارة إلى الأنبياء الثلاثة.
خلت : مضت وذهبت.
لها ما كسبت : ما عملت.
ولكم ما كسبتم : أي أنتم مجازون بأعمالكم.
التفسير :
١٣٤- تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.
تلك : إشارة إلى إبراهيم وبنيه.
أي أن إبراهيم وذريته أمة قد انقرضت ومضت، لها جزاء ما كسبت من خير أو شر، فإن من سنة الله في عباده أن يتحمل كل إنسان مسؤولية عمله وألا يجزي أحد إلا بكسبه وعمله هو، ور يسأل عما عمل سواه.
قال تعالى : أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. ( النجم : ٣٦-٣٩ ).
وجاء في الحديث :«يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم »( ٣١٤ ).
وقال الغزالي : إذا كان الجائع يشبع إذا أكل واله دونه، والظمآن يروي إذا شرب والده وإن لم يشرب، فالعاصي ينجو بصلاح والده.
وقد كانت الدعوة إلى الإيمان بالله والعمل الصالح رسالة الأنبياء جميعا، فهم هداة إلى التوحيد ودعاة إلى مكارم الأخلاق، ومرشدون إلى إخلاص العمل لله، وإسلام الوجه له واتباع تعاليم الإسلام.
وفي القرآن الكريم آيات صرحت بأن الإسلام للذين الذي دعا إليه كل الأنبياء، وانتسب إليه أتباعهم، فنوح قال لقومه : وأمرت أن أكون من المسلمين. ( يونس : ٧٢ ) وموسى قال لقومه : يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين. ( آل عمران : ٥٢ ).
والحواريون قالوا لعيسى : آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون. ( يونس : ٨٤ ).
بل إن فريقا من أهل الكتاب حين سمعوا القرآن أشرقت قلوبهم لدعوته وقالوا : آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين( القصص : ٥٣ ).
لقد كانت الشرائع السماوية خطوات متصاعدة، ولبنات متراكمة في بنيان الدين والأخلاق وسياسة المجتمع، وكانت مهمة اللبنة الأخيرة أن أكملت البنيان وملأت ما بقي من فراغ، وأنها في الوقت نفسه كانت بمثابة حجر الزاوية الذي يمسك أركان البناء.
يقول الدكتور محمد عبد الله دراز : يجب أن نفهم أن تعديل الشريعة المتأخرة للمتقدمة ليس نقضا لها وإنما وقوفا بها عند وقتها المناسب وأجلها المقدر.
مثل ذلك كمثل ثلاثة من الأطباء جاء أحدهم إلى الطفل في الطور الأول من حياته فقصر غذاءه على اللبن.
وجاء الثاني في مرحلته التالية فقرر له طعاما لينا وطعاما نشويا خفيفا.
وجاء الثالث في المرحلة التي بعدها فأمر له بغذاء كامل.
لا ريب أن ها هنا اعترافا ضمنيا من كل واحد منهم بأن صاحبه كان موفقا كل التوثيق في علاج الحالة التي عرضت عليه، هكذا الشرائع السماوية كلها صدق وعدل في جملتها وتفصيلها، وكلها يصدق بعضها بعضا من أنفها إلى يائها ( ٣١٥ ).
قال صلى الله عليه وسلم :«مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين( ٣١٦ ). ».
محاورة
( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين( ١٣٥ )(.
المفردات :
حنيفا : مائلا عن الباطل إلى الحق من الحنف بمعنى الميل أو مستقيما من الحنف بمعنى الاستقامة فهو يستعمل في المعنى وضده.
التفسير :
وقالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين اتركوا دينكم واتبعوا ديننا تهتدوا وتصيبوا طريق الحق. وقالت النصارى لهم : كونوا نصارى تهتدوا.
قل لهم يا محمد : ليس الهدى في اتباع ملتكم، بل الحق في أن نتبع ملت إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين، فاتبعوا أنتم يا معشر أهل الكتاب ما اتبعناه، لتكونوا حقا سالكين ملة إبراهيم الذي لا تنازعون في هداه.
روى محمد ابن إسحاق عن ابن عباس قال :
قال عبد الله ابن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله : وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا.
ومقصود الآية : إمعان اليهود والنصارى في اللجاجة وادعاء كل فريق منهم أن الملة المثلى ورغبته في أن يدخل المسلمين فيها.
والمسلم لا يتبع هذه الملة ولا تلك، لأن كلتيهما قد حرفت وخرجت عن أصولها الصحيحة، ومازجها الشرك، وبعدت عن ملة إبراهيم. وإنما يتمسك المسلم بالإسلام الذي أحيا ملة إبراهيم نقية طاهرة.
الإيمان بالكتب والرسل
( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ومآ أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن لم مسلمون( ١٣٦ ) فإن آمنوا بمثل ما أمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم( ١٣٧ ) صبغة الله ومن أحسن من الله ونحن له عابدون( ١٣٨ ) )
المفردات :
الأسباط : جمع سبط وهو ولد الولد، من السبط وهم التتابع، وكان ليعقوب اثنا عشر ولدا خرجت من كل منهم ذريات كثيرة، أطلق على الذرية كل واحد منهم سبط بالنسبة لجدهم يعقوب. فالأسباط في بني إسرائيل، قبائل يهودية، تنتمي إلى أصل واحد كالقبائل العربية وكانوا اثنتي عشر قبيلة كما قال تعالى : قطعناهم اثنتا عشر أسباطا أمما. ( الأعراف : ١٦٠ ).
المعـــنى الإجمــالي :
قولوا أيها المؤمنون آمنا بالله وما أوحى إلينا وما أوحى إلى النبيين والمرسلين كافة لا نفرق بين أحد منهم، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما يفعل غيرنا من أهل الملل ونحن لله مستسلمون، فإن أمن أهل الكتاب مثل إيمانكم فقد اهتدوا إلى سواء السبيل، وإن أعرضوا وتمادوا في عنادهم فإنما هم في نزاع مستمر وخلاف فيحميك الله من شرهم وينصرك عليهم وهم السميع لما يقولون، العليم بما يعلمون، والإيمان على هذا الوجه صبغة الله حلاكم بها، ومن أحسن من الله صبغة ونحن عابدون.
التفسير :
١٣٦- قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا : أي قولوا أيها المؤمنون لأولئك اليهود الذين يزعمون أن الهداية في اتباع ملتهم، قولوا لهم : ليست الهداية في اتباع ملتكم فقد دخلها الشرك والتحريف، وإنما الهداية في أن نصدق بالله وبالقرآن الكريم الذي أنزله الله لنعمل بما فيه.
وما أنزل إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط : والمراد بما انزل إليهم الصحف التي أنزلها الله إلى إبراهيم، والمشار إليها بقوله تعالى : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ( الأعلى : ١٨-١٩ ).
وما أوتي موسى وعيسى : وآمنا بالتوراة التي أنزلها الله على موسى وبالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، ونحن في تصديقنا بالأنبياء لا نفرق بين أحد منهم فنؤمن ببعضهم ونكفر بالبعض الأخر كما فعلتم أنتم يا معشر اليهود إذ آمنتم بموسى وكفرتم بعيسى ومحمد. وكما فعل النصارى إذ آمنوا بموسى وعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فالمؤمنون يؤمنون بالأنبياء والرسل جميعا بدون تفرقة بينهم، ونحن له مسلمون. ونحن لربنا خاضعون بالطاعة مذعنون له بالعبودية.
ومن جمال هذه الآية أنها ابتدأت بالإيمان الذي هو فعل القلب واختتمت بالإسلام الذي هو فعل الجوارح.
قال الإمام الرازي :«فإن قيل كيف يجوز الإيمان بإبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخ ؟ قلنا : نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان في زمانه، فلا يلزم منا المناقضة، أما اليهود فإنهم لما اعترفوا بنبوة بعض من ظهر المعجز على يديه، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع قيام المعجزة على يديه، فحينئذ يلزمهم المناقضة فظهر الفرق » ( ٣١٨ ).
المعـــنى الإجمــالي :
قولوا أيها المؤمنون آمنا بالله وما أوحى إلينا وما أوحى إلى النبيين والمرسلين كافة لا نفرق بين أحد منهم، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما يفعل غيرنا من أهل الملل ونحن لله مستسلمون، فإن أمن أهل الكتاب مثل إيمانكم فقد اهتدوا إلى سواء السبيل، وإن أعرضوا وتمادوا في عنادهم فإنما هم في نزاع مستمر وخلاف فيحميك الله من شرهم وينصرك عليهم وهم السميع لما يقولون، العليم بما يعلمون، والإيمان على هذا الوجه صبغة الله حلاكم بها، ومن أحسن من الله صبغة ونحن عابدون.
المفردات :
تولوا : أعرضوا.
١٣٧- فإن آمنوا بمثل ما أمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم. : فإن آمن أهل الكتاب مثل إيمانكم، وصدقوا مثل تصديقكم، فقد اهتدوا إلى سواء السبيل.
وقال ابن جرير الطبري :«فإن صدقوا مثل تصديقكم بجميع ما أنزل عليكم من كتب الله وأنبيائه فقد اهتدوا ».
حاصل معنى الآيتين :
قولوا أيها المؤمنون : آمنا بالله وما أنزل إلينا في القرآن وما أنزل إبراهيم وذرياته من الأنبياء، لا نفرق بين احد منهم ونحن له مخلصون، فإن ترتب على هذا البيان الشامل لما عند أهل الكتاب وما عندهم أنهم دخلوا في الإيمان بسبب اعتراف وشهادة مثل الشهادة التي ثبت لكم الإيمان بموجبها فقد اهتدوا إلى الحق، «وإن تولوا فإنما هم في شقاق » أي وإن أعرضوا عن الدخول في الإيمان بهذا الاعتراف، وفرقوا بين الرسل، فأمنوا ببعض، ولم يخلصوا لله، فما هم إلا غارقون في خلاف وعداوة، وليسوا طلاب حق.
فسيكفيكهم الله : يكفي من الكفاية بمعنى الوقاية والمعنى : فسيقيك الله شرهم وينصرك عليهم فهو سميع لما يقولونه فيك، عليم بما يبيتونه لك ولأتباعك من مكر وكيد، وهو الكفيل بكف بأسهم وقطع دابرهم.
وقد أنجز الله وعده بتفريق كلمتهم، وقتل بني قريظة وجلاء ابن النصير، وغير ذلك مما حاق بباقي اليهود، وكل ذلك بفضل الله.
المعـــنى الإجمــالي :
قولوا أيها المؤمنون آمنا بالله وما أوحى إلينا وما أوحى إلى النبيين والمرسلين كافة لا نفرق بين أحد منهم، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما يفعل غيرنا من أهل الملل ونحن لله مستسلمون، فإن أمن أهل الكتاب مثل إيمانكم فقد اهتدوا إلى سواء السبيل، وإن أعرضوا وتمادوا في عنادهم فإنما هم في نزاع مستمر وخلاف فيحميك الله من شرهم وينصرك عليهم وهم السميع لما يقولون، العليم بما يعلمون، والإيمان على هذا الوجه صبغة الله حلاكم بها، ومن أحسن من الله صبغة ونحن عابدون.
المفردات :
صبغة الله : فطرة الله التي أفطر الناس عليها فإنها حيلة الإنسان، كما أن الصبغة حيلة المصبوغ.
التفسير
١٣٨- صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون، صبغة الله : قال ابن عباس : دين الله، وانتصاب صبغة الله على الإغراء كقوله( فطرة الله ) أي ألزموا ذلك عليكموه، وقال بعضهم بدلا من قوله ملة إبراهيم.
وقال سيبويه : هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله تعالى : آمنا بالله، كقوله وعد الله( ٣١٨ ).
والاستفهام في قوله : ومن أحسن من الله صبغة. للإنكار والنفي.
والمعنى : لا أحد أحسن من الله صبغة لأنه هو الذي يصبغ عباده بالإيمان، ويطهرهم من أدران الكفر والضلال، فهي صبغة ثابتة لا تزول لأن الإيمان متى خالطت بشاشته القلوب يرتد عنه أحد سخطة له، وبخلاف ما يتلقنه أهل الكتاب عن أحبارهم ورهبانهم من الأديان الباطلة فهو من الصبغة البشرية التي تجعل الدين الواحد أديانا مختلفة ومذاهب متنافرة.
وهذا التركيب : ومن أحسن من الله صبغة. يدل بحسب أصل الوضع اللغوي على نفي أن يكون دينا أفضل من دين الله، ويبقى احتمال أن يوجد دين يساويه في الحسن، وهذا الاحتمال لم ينفه التركيب بحسب أصل الوضع ولكن مثل هذا التركيب صار أسلوبا يفهم منه بمعونة مقام المدح نفي مساواة دين لدين الله في الحسن، كما يفهم منه نفي أن يكون هناك دين أحسن منه، وأفضلية دين الله من جهة هدايته إلى الاعتقاد الحق، والأخلاق الكريمة، والآداب السمحة، والعبادات الصحيحة، والسياسة الرشيدة، والمعاملات القائمة على رعاية المصالح.
وقوله تعالى : ونحن له عابدون. عطف على آمنا بالله، في قوله تعالى : قولوا آمنا بالله، والمعنى : قل لهم يا محمد إننا معشر المسلمين نعبد الله وحده وصبغته هي صبغتنا ولا نعبد غيره، فلا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا يزيدون في ديننا وينقصون، ويحلون ويحرمون، ويمحون من النفوس صبغة التوحيد، ليحلوا محلها بأهوائهم صبغة الشرك والكفر.
شبهة تفتضح وحجة تتضح
( قل أتحآجوننا في الله وهو ربنا ربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون( ١٣٩ ) أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون( ١٤٠ ) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون( ١٤١ ) (.
المفردات :
أتحاجوننا : أتجادلوننا، م حاجه محاجة وحجاجا أي جادله.
التفسير :
١٣٩- قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون. قولوا لهم أتجادلوننا في الله زاعمين أنه لا يصطفى أنبياء منكم ؟
وهو ربنا وربكم ورب كل شيء : لا يختص به قوم دون قوم، يصيب برحمته من يشاء ويجزي كل قوم بأعمالهم، غير ناظر إلى أنسابهم ولا أحسابهم، وقد هدانا الطريق المستقيم في أعمالنا ورزقنا صفة الإخلاص له.
ولم توصف أعمال المسلمين بالحسن، وأعمال سواهم بالسوء، تجنبا لنفور المخاطبين، واكتفاء بالتعريض اللطيف الذي توحي به جملته : ونحن له مخلصون.
مفردات :
والأسباط : هم أولاد يعقوب، والمراد بهم هنا أنبيائهم.
وما الله بغافل : أي وما الله بساه، بل هو عالم.
التفسير :
١٤٠- أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعلمون.
قولوا لهم : أتجادلوننا في إبراهيم وإسحاق وإسماعيل ويعقوب وأبنائه الأسباط، زاعمين أنهم كانوا يهودا أو نصارى مثلكم، مع أنه ما أنزلت التوراة والإنجيل اللذين قامت عليهما اليهودية والنصرانية إلا من بعد هؤلاء، وقد أخبرنا الله بذلك، أفأنتم أعلم أم الله ؟ بل إن الله قد أخبركم أنتم بذلك في أسفاركم، فلا تكتموا الحق المدون في أسفاركم هذه. ومن أظلم ممن كتم حقيقة يعلمها وسيجازيكم الله وما تلجون فيه من باطل فما الله بغافل عما تعلمون.
قال ابن جرير :
«وهذه الآية احتجاج من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى الذين ذكر الله قصصهم. يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى : أتحاجوننا في الله وتزعمون أن دينكم أفضل من ديننا وأنكم على هدى ونحن على ضلالة ببرهان من الله فتدعوننا إلى دينكم فهاتوا برهانكم على ذلك فنتبعكم عليه.
أم تقولون إن إبراهيم ومن بعده كانوا هودا أو نصارى على دينكم، فهاتوا برهانا على ذلك فنصدقكم، فإن الله قد جعل أئمة يقتدى بهم. ثم قال الله تعالى لنبيه : قل لهم يا محمد إن ادعوا أن إبراهيم ومن بعده كانوا هودا أو نصارى أأنتم نصارى أنتم أعلم بهم وبما كانوا عليه من الأديان أم الله ؟ »( ٣١٩ ).
وقوله تعالى : قل أأنتم أعلم أم الله : معناه قل لهم يا محمد إن زعموا أن الأنبياء المذكورين في الآية كانوا هودا أو نصارى، إن ما زعمتموه من أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب كانوا هودا أو نصارى هو على خلاف ما يعلمه الله، لأن سبحانه قد أخبرنا بأنهم كانوا مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية، وأن يعقوب عليه السلام عندما حضرته الوفاة أوصى بنيه أن يموتوا على الإسلام، وأن التوراة والإنجيل ما أتيا إلا من بعد أولئك الأنبياء جميعا، هكذا أخبرنا الله فهل أنتم أعلم بديانتهم أم الله ؟ ولا شك أنهم لن يستطيعوا أن يقولوا نحن أعلم، وإنما سيقولون الله أعلم، فإذا لزمهم هذا القول : قلنا لهم إذا فدعواكم لا أساس لها من الصحة، وبذلك تكون الجملة الكريمة قد قطعت حجتهم بأجمع بيان واحكمه.
قال ابن كثير : قل أأنتم أعلم أم الله : يعني بل الله أعلم، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى كما قال تعالى : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين. ( آل عمران : ٦٧ ).
وقوله : ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ؟
قال الحسن الصبري : كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهم، أن الدين الإسلام، وأن محمدا رسول الله، وأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا براء من اليهودية والنصرانية، فشهد الله بذلك وأقروا على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك( ٣٢٠ ).
ويجوز أن تكون الشهادة التي عندهم من الله هي أوصافه صلى الله عليه وسلم المكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل وقد عرفوا ذلك ولم يقروا به.
قال تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث. ( الأعراف : ١٥٧ ).
وقد آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فريق من أهل الكتاب وأخبر بما في كتبهم من ذكره بصفته وعلامته.
«وكان منهم من لا ينكر أن يكون قد ذكر في الكتابين ولكنه يكابر ويقول : المقصود نبي لم يأت بعد، وقد تصدى لجميع هذه البشائر من كتابي التوراة والإنجيل طائفة من أهل البحث والعلم في القديم والحديث، وبينوا وجه انطباقها على حال النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا تأخذ الناظر الطالب للحق ريبة في أنه الرسول الذي بشرت الأنباء بمبعثه وعموم رسالته، ومن هذه البشائر مل جاء في سفر التثنية من التوراة :( أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ) ».
«والنبي المماثل لموسى عليه السلام في الرسالة والشريعة المستأنفة هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم وإخوة بني إسرائيل هم العرب، لأنهم يجتمعن في إبراهيم عليه السلام، وقوله *** ( وأجعل كلامي في فمه ) يوافق حال النبي صلى الله عليه وسلم من الأمية وعدم تعاطي الكتابة » ( ٣٢١ ).
وفي ختام الآية يقول سبحانه :
وما الله بغافل عما تفعلون. وفيه تهديد ووعيد شديد، أي علمه محيط بعملك وسيجزيكم عليه.
١٤١- تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون. الأمة المشار إليها في الآية : إبراهيم وأبناؤه الرسل، ومعنى الآية :
أن أمامكم دينا دعيتم إلى إتباعه، واقترنت دعوته بالحجة الواضحة، فانظروا في دلائل صحته وسمو حكمته ولا تردوه بمجرد دعوى : أن آباءكم السابقين كانوا على ما أنتم عليه الآن. دعواكم هذه لا تفيد «ولو فرضنا تسليمها لكم، فإن الشرائع تختلف باختلاف الأمم، فتلك أمة مضت لها عملها وفق شريعتها هذه أمة أخرى لها عملها حسب شريعتها فلا تسألون عن أعمال آباءكم وشريعتهم بل عن أعمالكم أنتم، وفق شريعتكم التي شرعها الله لكم وهي الإسلام، فلا تتمسكوا بشريعة كانت لمن قبلكم، بل تمسكوا بشريعة الإسلام التي نسختها، وقام الدليل على صحتها وقد تعبدكم الله بها » ( ٣٢٢ ).
وقد تكررت هذه الآية للمبالغة في تحذير أهل الكتاب من تركهم لدين الإسلام الذي كلفوا به، وادعائهم أنهم على دين آبائهم الأنبياء.
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد دحضت ما ادعاه اليهود من أن الهدى في اتباع ملتهم، وأقامت الحجة على كذبهم وافترائهم، وأرشدتهم إلى الدين الحق. ودعتهم إلى الدخول فيه، ووبختهم على المحاجة في دين الله بغير علم، وحذرتهم من انحراف عن الصراط المستقيم اعتمادا منهم على آباء لهم كانوا أنبياء أو صالحين فإنه لن تجزي نفس عن نفس شيئا يوم الدين.
* * *
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني إن شاء الله، أتحدث في بدايته عن قصة تحويل القبلة
من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام.
قول السفهاء
﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم( ١٤٢( ﴾
المفردات :
السفهاء : خفاف العقول أو الجهلاء.
ما ولاهم : ما صرفهم.
صراط مستقيم : طريق قويم لا عوج فيه، والمراد به هنا طريق الحق.
المعنى الإجمالي :
إن ضعفاء العقول الذين أضلتهم أهواؤهم عن التفكير والتدبر من اليهود والمشركين والمنافقين، سينكرون على المؤمنين تحولهم من قبلة بيت المقدس التي كانوا يصلون متجهين إليها، ويعتقدون أنها أحق إلى قبلة أخرى وهي الكعبة، فقل لهم أيها النبي : إن الجهات كلها لله، لا فضل لجهة على أخرى بذاتها، بل الله هو الذي يختار منها ما يشاء ليكون قبلة للصلاة، وهو يهدي بمشيئته كل أمة من الأمم إلى طريق قويم يختاره لها ويخصها به، وقد جاءت الرسالة المحمدية فنسخت ما قبلها من الرسالات وصارت القبلة الحقة إلى الكعبة.
التفسير :
﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم من قبلتهم التي كانوا عليها... ﴾
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مكة متجها إلى البيت الحرام.
فلما هاجر إلى المدينة اتجه إلى بيت المقدس، وكان ذلك بتوجيه من السماء، ليقطع الله صلة المسلمين بمكة، وليصرف نفوسهم عنها بعض الوقت، وليختبر مدى صدقهم وتلبيتهم لأمر الله. قال تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه. ( البقرة ١٤٣ ).
وبعد أن توجه المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا، أمرهم الله أن يتحلوا بقبلة الصلاة إلى المسجد الحرام.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى أن تكون قبلته إلى البيت الحرام، ويرفع وجهه إلى السماء ويستحي أن يتلفظ بذلك. قال تعالى :
﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾.
وقد روى البخاري في صحيحه عن البراء :
«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول من قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها( ١ ) صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون( ٢ ) فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت » ( ٣ ).
وفي رواية ابن إسحاق وغيره، عنه، زيادة :
فأنزل الله تعالى :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها... ﴾الآية.
وقد أثار تحول القبلة ثائرة اليهود، وادعوا أن محمد أشتبه عليه دينه وحن إلى دين آبائه وأثاروا كثيرا من المشاكل، فادعوا أن صلاة المسلمين السابقة إلى بيت المقدس تعتبر باطلة لأنها كانت إلى غير القبلة الصحيحة.
وقد دافع القرآن عن تحويل القبلة ورد على هؤلاء السفهاء من المشركين والمنافقين واليهود شكوكهم وشبهاتهم. فبين أن الكون كله ملك لله، وأينما يتوجه الإنسان شرقا أو غربا فالأفق كله لله والصلاة كلها يتجه فيها المؤمن إلى الله.
والمؤمن يمتثل أمر الله بالاتجاه إلى بيت المقدس عندما يأمر الله بذلك، وبالاتجاه إلى الكعبة عندما يأمره الله بذلك.
﴿ قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾.
أي قل لهم يا محمد، إذا اعترضوا على التحويل : إن الأمكنة كلها لله، ملكا وتصرفا، وهي بالنسبة إليه متساوية، وله أن يخص بعضها بحكم دون بعض، فإذا أمرنا باستقبال جهة في الصلاة فلحكمة اقتضت الأمر، وما على الناس إلا أن يمتثلوا أوامره، والمؤمنون ما اتخذوا الكعبة قبلة لهم إلا امتثالا لأمر ربهم، لا ترجيحا لبعض الجهات من تلقاء أنفسهم، فالله هو الذي يهدي من يشاء هدايته إلى السبيل الحق، فيتوجه إلى بيت المقدس مدة حيث اقتضت حكمته ذلك، ثم إلى الكعبة، حيث يعلم المصلحة فيما أمر به.
وقد ذهب الإمام الزمخشري وغيره من المفسرين، إلى أن الله سبحانه أخبر بما سيقول السفهاء قبل وقوعه، ليكون وقعه خفيفا على قلوب المسلمين عند حدوثه، لأن مفاجأة المكروه أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع، لما يتقدمه من توطين النفس، وأن الجواب العتيد( ٤ ) قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه وفي هذا أيضا إعجاز قرآني، للإخبار بالغيب قبل وقوعه.
وذهب القرطبي وغيره إلى أن الفعل ( سيقول ) بمعنى قال، وأن الآية الكريمة أوردت الماضي بصيغة المستقبل، دلالة على استمرار ذلك القول وتجدده.
أمة وسط
﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم( ١٤٣ ) ﴾
المفردات :
( وسطا ) : خيارا عدولا، وفي القرآن " قال أوسطهم " أي أعدلهم وخيرهم، والصلاة الوسطى هي الفضلى.
العقب : مؤخر الرجل، ومعنى " ينقلب على عقبيه " يرجع إلى الخلف، والمقصود أنه يرتد عن دينه.
المعنى الإجمالي :
ولهذه المشيئة هديناكم إلى الطريق الأقوم وجعلناكم أمة عدولا خيارا بما وفقناكم إليه من الدين الصحيح والعمل الصالح لتكونوا مقرري الحق بالنسبة للشرائع السابقة، وليكون الرسول مهيمنا عليكم، ويسددكم بإرشاده في حياته، وبنهجه وسنته بعد وفاته.
وأما القبلة ( بيت المقدس ) التي شرعناها لك حينا من الدهر فإنما جعلناها امتحانا للمسلمين ليتميز من يذعن فيقبلها عن طواعية، ومن يغلب عليه هوى تعصبه العربي لتراث إبراهيم فيعصى أمر الله ويضل عن سواء السبيل.
ولقد كان الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس من الأمور الشاقة إلا على من وفقه الله بهدايته، وكان امتثال هذا الأمر من أركان الإيمان، فمن أستقبل بيت المقدس حين الأمر باستقباله فلن يضيع عليه إيمانه وعبادته رأفة من الله به ورحمة.
التفسير :
﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا..... ﴾
أي وكما هديناكم أيها المؤمنون إلى صراط مستقيم، بتوليتكم القبلة التي ترضونها، ومثل ما جعلنا قبلتكم أيها المسلمون وسطا لأنها البيت الحرام الذي هو المثابة والأمن للناس، وجعلناكم أيضا ( أمة وسطا ) أي خيارا عدولا بين الأمم ليتحقق التناسب بينكم وبين قبلتكم التي تتوجهون إليها في صلواتكم، وتشهدون على الأمم السابقة بأن أنبياءهم قد بلغوهم الرسالة ونصحوهم بما ينفعهم، ولكي يشهد الرسول صلى الله عليه وسلم عليكم بأنكم صدقتموه وآمنتم به.
ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى :﴿ هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ﴾. ( الحج : ٨٧ ).
روى الإمام أحمد عن أبى سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يدعو نوح يوم القيامة، فيقال له : هل بلغت ؟ فيقول : نعم. فيدعى قومه، فيقال لهم : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد. فيقال لنوح : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته، قال : فذلك قوله : وكذلك جعلناكم أمة وسطا. قال : الوسط العدل، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم ». رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه( ٥ ).
﴿ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ﴾.
وما جعلنا قبلتك السابقة بيت المقدس، ثم حولناك عنها إلى البيت الحرام إلا لنميز من يتبعك في كلتيهما ممن ينصرف عن اتباعك، فإن اتباع الرسول ولو فيما تكرهه النفس من آثار الإيمان والتسليم لمن هو أعلم بالحكمة، وهو الله تعالى فالحكمة في تحويل القبلة تمييز الصادق في الإيمان عن غيره ممن لم يدخل الدين في قرارة نفسه، وإنما دخل فيه على حرف بحيث يرتد عنه لأقل شبهة وأدنى ملابسة، كما حصل ذلك من ضعاف الإيمان عند تحويل القبلة إلى الكعبة.
والارتداد على العقبين، هو الرجوع إلى الخلف، وهو تمثيل للارتداد عن الإسلام، ومخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لما في كليهما من أسوأ حالات العود والارتداد.
﴿ وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ﴾.
وإن كانت هذه الفعلة، وهي تحويلنا لك إلى بيت المقدس إلى الكعبة لكبيرة وشاقة على النفوس إلا على الذين هدى الله. قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في ذلك.
قال تعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ﴾. ( الإسراء : ٨٢ ).
وقال سبحانه :﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ﴾( فصلت : ٤٤ ).
وما كان الله ليضيع إيمانكم : أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك لا يضيع ثوابها عند الله.
«وفي الصحيح عن البراء قال : مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فقال الناس : ما حالهم في ذلك ؟ فأنزل الله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم » ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه » ( ٦ ).
﴿ إن الله بالناس لرءوف رحيم ﴾ : إن الله يشمل الناس برأفته ورحمته، وبخاصة عباده المؤمنين الطائعين، فلهذا لا يضيع إيمانهم.
روى البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي، قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبايا من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ألا تطرحه ؟ قالوا : لا يا رسول الله، قال : فو الله، لله أرحم بعباده من هذه بولدها( ٧ ).
القبلة
﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون( ١٤٤ ) ﴾
المفردات :
تقلب وجهك في السماء : تردد وجهك، وتطلعك إلى السماء.
شطر : جهة وناحية.
وحيثما كنتم : في أي مكان وجدتم.
فلنولينك قبلة ترضاها : أي فلنمكننك من استقبالها، ومن قوله وليته كذا إذا صيرته واليا لنا، أو لنحولنك إليها.
فول وجهك شطر المسجد الحرام : أي فاصرفه نحوه.
المعنى الإجمالي :
ولقد رأينا كيف كنت تتطلع إلى السماء عسى أن ينزل الوحي بتغيير قبلة بيت المقدس إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم أبى الأنبياء، فها نحن أولاء نؤتيكم سؤلك، فاستقبل في صلاتك المسجد الحرام، واستقبلوه كذلك أيها المؤمنون في أي مكان تكونون، وإن أهل الكتاب الذين ينكرون عليكم التحول عن قبلة بيت المقدس قد عرفوا في كتبهم أنكم أهل الكعبة، وعلموا أن أمر الله جار على تخصيص كل شريعة بقبلة، وأن هذا هو الحق من ربهم، ولكنهم يريدون فتنتكم وتشكيككم في دينكم، والله ليس غافلا عنهم وهو يجزيهم بما يعملون.
التفسير :
﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام... ﴾
قد رأيناك تتجه بوجهك إلى السماء دائما، تصرفه في أرجائها، مرددا بصرك في ضراعة ورجاء تطلعا للوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة. وها نحن قد أجبناك إلى ما طلبت وأعطيناك ما سألت، ووجهناك إلى قبلة تحبها، وتميل إليها : فول وجهك شطر المسجد الحرام. أي فاصرف وجهك نحو المسجد الحرام لوجود الكعبة فيه، واجعله قبلتك في الصلاة.
﴿ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره... ﴾
أي وأينما وجدتم في بر أو بحر فولوا وجوهكم تلقاء المسجد الحرام ونحوه، وقد جاءت هذه الجملة موجهة على الأمة قاطبة لدفع توهم أن يكون الخطاب في الأول خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولأنه لما كان تحويل القبلة أمرا له خطره، خصهم بخطاب مفرد ليكون ذلك آكد وأبلغ.
فالآية الكريمة فيها أمر لكل مسلم أن يجعل الكعبة قبلة له فيتوجه بصدره إلى ناحيتها وجهتها حال تأدية الصلاة لربه، سواء أكان المصلي بالمدينة أم بمكة أم بغيرهما.
وفي ذكر المسجد الحرام دون الكعبة ما يؤذن بكفاية مراعاة جهتها، ولذلك لم يقع خلاف بين العلماء في أن الكعبة قبلة كل أفق، وأن من عاينها فرض عليه استقبالها ومن غاب عنها فعليه أن يستقبل جهتها، فإن خفيت عليه تحرى جهتها ما استطاع.
وفي الآية إشعار بانتشار الإسلام في بقاع الأرض، وأن المسلمين ستفتح لهم البلاد، وأن عليهم حيثما كانوا أن يتجهوا في صلاتهم نحو المساجد الحرام.
وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم :
أي وإن اليهود الذين أنكروا استقبالكم، وانصرافكم عن بيت المقدس، وأثاروا الفتنة في شأن تحويل القبلة ليعلمون أن استقبالكم الكعبة حق، لأن الذي أخبر به قد قامت الآيات البينات عندهم على أنه رسول من عند الله، أو أنه يصلي إلى القبلتين، وما وقفوا من تحويل القبلة هذا الموقف إلا لعنادهم، وكما يعلم اليهود ذلك من كتابهم، يعلمه النصارى من كتابهم أيضا.
والآية مؤكدة بعدة مؤكدات، هي إن واللام وذكر الحق ونسبته إلى الرب سبحانه لتقرير أنه وحي من الله.
﴿ وما الله بغافل بما يعلمون ﴾
أي أن الله لا يخفى عليه ما يدبره أهل الكتاب من الكيد للإسلام وسيحاسبهم عليه حسابا عسيرا، لأنهم يعلمون الحق، ويكتمون ما يعلمون.
عناد
﴿ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين( ١٤٥ ) ﴾
المفردات :
آية : الآية هي المعجزة، أو الدليل القطعي.
المعنى الإجمالي :
وما كان إنكار أهل الكتاب عليكم لشبهة تزيلها الحجة، بل هو إنكار عناد ومكابرة، فلئن جئتهم أيها الرسول بكل حجة قطعية على أن قبلتك هي الحق ما تبعوا قبلتك، وإذا كان اليهود منهم يطمعون في رجوعك إلى قبلتهم ويعلنون إسلامهم على ذلك فقد خاب رجاؤهم وما أنت بتابع قبلتهم، وأهل الكتاب أنفسهم يتمسك كل فريق منهم بقبلته، فلا النصارى يتبعون قبلة اليهود، ولا اليهود يتبعون قبلة النصارى، وكل فريق يعتقد أنه وحده على الحق، فاثبت على قبلتك ولا تتبع أهواءهم، فمن اتبع أهواءهم بعد العلم ببطلانها، والعلم بأن ما عليه هو الحق فهو من الظالمين الراسخين في الظلم.
التفسير :
﴿ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما اتبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم... ﴾
ولئن جئت يا محمد اليهود ومن على طريقتهم إلى الكفر بكل برهان وحجة، بأن الحق هو ما جئتم به، من فرض التحول من قبلة بيت المقدس في الصلاة إلى قبلة المسجد الحرام، ما صدقوا به لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة يزيلها الدليل، وإنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من أنك على الحق المبين.
وما أنت يا محمد بتابع قبلتهم، لأنك على الهدى وهم على الضلال، وفي هذه الجملة الكريمة حسم لأطماعهم، وتقرير لحقيقة القبلة وتحويلها إلى الكعبة، بعد أن أشاعوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لو ثبت على قبلتهم لكانوا يرجون أنه النبي المنتظر، فقطع القرآن الكريم آمالهم في رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم، وأخبر بأنه ليس بتابع لها.
ثم ذكر القرآن الكريم اختلاف أهل الكتاب في القبلة، وأن كل طائفة منهم لا تتبع قبلة الطائفة الأخرى. فقال تعالى :﴿ وما بعضهم بتابع قبلة بعض ﴾.
أي ما اليهود بمتبعين لقبلة النصارى، ولا النصارى بمتبعين لقبلة اليهود، فهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في باطلهم، وذلك لأن اليهود تستقبل بيت المقدس والنصارى تستقبل مطلع الشمس.
ثم ساق القرآن الكريم بعد ذلك تحذيرا للأمة كلها من اتباع أهل الكتاب، وجاء هذا التحذير في شخص النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى :
﴿ ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ﴾.
أي : لئن اتبعت يا محمد قبلتهم على سبيل الفرض والتقدير من بعد وضوح البرهان وإعلامي إياك بإقامتهم على الباطل، إنك إذا لمن الظالمين لأنفسهم، المخالفين لأمري، فالآية الكريمة : وعيد وتحذير للأمة الإسلامية من اتباع آراء اليهود المنبعثة عن الهوى والشهوة، وقد سبق الوعيد في صورة الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا يتوقع منه أن يتبع أهل الكتاب، تأكيدا للوعيد والتحذير، فكأنه يقول : لو اتبع أهواءهم أفضل الخليقة، وأعلاهم منزلة عندي، لجازيته مجازاة الظالمين، وأحق بهذه المجازاة وأولى من كانوا دونه في الفضل وعلوا المنزلة إن اتبعوا أهواء المبطلين وهم اليهود ومن على شاكلتهم من المشركين.
وشبيه بهذه الآية قوله تعالى :﴿ ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ﴾ ( ص : ٢٦ ) فإنه تحذير عام لجميع المسلمين من اتباع الهوى، والخروج به عن طاعة الله.
وما أجدر المسلمين أن يتدبروا هذه الآيات، فقد أصبح الهوى عند بعض الناس إلها معبودا حتى قاد بعضهم إلى سوء استخدام العلم فأمسى يهدد الإنسانية ومدنيتها وحضارتها قال تعالى :
﴿ أفرأيت من اتخذ إلهه وأضله الله على علم ﴾. ( الجاثية : ٢٣ ).
معرفتهم للنبي( صلى الله عليه وسلم )
﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون( ١٤٦ ) الحق من ربك فلا تكونن الممترين( ١٤٧ ) ﴾.
المعــنى الإجمـــالي :
وإن أهل الكتاب ليعلمون أن تحويل القبلة حق، ومسلمون أنك النبي المنعوت في كتبهم بنعوت من جملتها أنه يصلي إلى الكعبة، ومعرفتهم نبوتك وقبلتك كمعرفتهم أبناءهم في الوضوح والجلاء، ولكن بعضهم يخفون هذا الحق على علم به اتباعا لهواهم، وتعصبا باطلا لملتهم.
التفسير :
﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم... ﴾
يقول تعالى : إن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده. والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا( ٨ ). وذكر الأبناء لأنهم ألصق بآبائهم، فهم وآباءهم أكثر خبرة ودراية بهم، واستيثاقا من نسبهم بحكم الفطرة. فالآية تقرر : أن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا رسول الله معرفة حقيقية كمعرفة الآباء للأبناء.
قال عمر لعبد الله بن سلام، وكان من أحبار اليهود قبل إسلامه : أتعرف محمدا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك ؟ قال : نعم، وأكثر لقد بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته، فعرفته، أما ابني فلا أدري ما كان من أمر أمه، فقبل عمر رأسه.
﴿ وإن فريقا منكم ليكتمون الحق وهم يعلمون ﴾.
وإن طائفة من أهل الكتاب مع ذلك التحقيق والإيقان العلمي من أنك على حق في كل شئونك ليتمادون في إخفائه وجحوده، وهم يعلمون ما يترتب على ذلك الكتمان من سوء المصير لهم في الدنيا والآخرة.
جاء في تفسير المنار( ٩ ) :«كان أهل الكتاب من اليهود والنصارى يتناقلون خبر بعثته ( صلى الله عليه وسلم ) فيما بينهم ويذكرون البشارات به من كتبهم، حتى إذا ما بعثه الله تعالى بالهدى ودين الحق آمن به كثيرون، وكان علماءهم يصرحون بذلك كعبد الله بن سلام وأصحابه من علماء اليهود، وتميم الداري من علماء النصارى وغيرهم من الذين أسلموا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، والروايات في هذا كثيرة، ومن أعجبها قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه( ١٠ ).
وأما الذين أبوا واستكبروا فكانوا يكتمون البشارات به في كتبهم ويؤولون ما بقي منها لمن اطلع عليه، ويكتمونه عمن لم يطلع عليه، وقد أربى المتأخرون ولاسيما الإفرنج منهم على المتقدمين في المكابرة والتأويل والتضليل، لذلك وضح العلامة المحقق الشيخ رحمه الله الهندي هذه المسألة في كتابه ( إظهار الحق ) بأمور جعلها مقدمات لبشارات تلك الكتب به صلى الله عليه وسلم. ( ١١ ).
ومن هذه المقدمات نرى :
إن الأنبياء الإسرائيليين مثل أشعيا وأرميا ودانيال وحزقيال وعيسى عليهم السلام أخبوا عن الحوادث الآتية كحادثة بختنصر وقورش والإسكندر وخلفائه وحوادث أرض أدوم ومصر ونينوي وبابل، ويبعد كل البعد ألا يخبر أحد منهم عن خروج محمد صلى الله عليه وسلم الذي كسر الجبابرة والأكاسرة وبلغ دينه شرقا وغربا وامتد دهرا بحيث مضى على ظهوره أربعة عشر قرنا ويمتد إن شاء الله إلى آخر بقاء الدنيا( ١٢ ).
وقد بشرت التوراة والإنجيل بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وعلماء اليهود والنصارى يعرفون هذه البشارات ولكنهم ينكرونها لمرض في نفوسهم إلا من عصمه الله منهم فآمن.
جاء في الإصحاح الثاني والسبعين من إنجيل برنابا، على لسان المسيح عليه السلام :
«إنني قد أتيت لأهيئ الطريق لرسول الله الذي سيأتي بقوة عظيمة على الفجار، ويبيد عبادة الأصنام من العالم » ثم قال :«وسينتقم من الذين يقولون : إني أكبر من إنسان وسيجيء بحق أجلى منة سائر الأنبياء وسيمتد دينه ويعم العالم ».
وجاء في الإصحاح السابع والستين منه :«تعزيتي في مجيء الرسول الذي سيبيد كل رأى كاذب في وسيمتد دينه، ويعم العلم بأسره... ولا نهاية لدينه، لأن الله سيحفظه صحيحا ».
والأناجيل الأخرى التي يعترف بها المسيحيون، والتوراة التي بين أيدينا الآن فيها إشارات عدة ترمز إلى النبي صلى الله عليه وسلم ( ١٣ ).
المعــنى الإجمـــالي :
وإن أهل الكتاب ليعلمون أن تحويل القبلة حق، ومسلمون أنك النبي المنعوت في كتبهم بنعوت من جملتها أنه يصلي إلى الكعبة، ومعرفتهم نبوتك وقبلتك كمعرفتهم أبناءهم في الوضوح والجلاء، ولكن بعضهم يخفون هذا الحق على علم به اتباعا لهواهم، وتعصبا باطلا لملتهم.
﴿ الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ﴾.
المفردات :
الممترين : الشاكين.
التفسير :
اعلم يا محمد أن ما أوحي إليك وأمرت به من التوجه إلى المسجد الحرام هو الحق الذي جاءك من ربك وأن ما يقوله اليهود وغيرهم من المشركين هو الباطل الذي لا شك فيه، فلا تكونن من الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم به، أو في الحق الذي جاءك من ربك وهو ما أنت عليه في جميع أحوالك ومن بينها التوجه إلى المسجد الحرام.
والشك غير متوقع من الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك قال المفسرون إن النهي موجه إلى الأمة في شخص نبيها صلى الله عليه وسلم إذا كان فيها حديثو عهد بكفر يخشى أن يفتنوا بزخرف من القول يروجه اليهود.
قال الطبري :«وذلك من الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للمخاطب به، والمراد به غيره، كما قال جل ثناءه :﴿ يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين.. ﴾. ثم قال :﴿ واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعلمون خبيرا ﴾( ٢ ) ( الأحزاب : ١-٢ ) فخرج الكلام مخرج الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم والنهي له، والمراد به أصحابه المؤمنون به » ( ١٤ ).
لكل وجهة
﴿ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير( ١٤٨ ) ﴾.
المفردات :
وجهة : جهة.
موليها : متجه إليها.
فاستبقوا الخيرات : فاطلبوا السبق إليها.
المعنى الإجمالي :
إن هذه القبلة التي حولناك إليها هي قبلتك وقبلة أمتك، وكذلك لكل أمة قبلة تتجه إليها في صلاتها حسب شريعتها السابقة، وليس في ذلك شيء من التفاضل في فعل الطاعات وعمل الخيرات، فسارعوا إلى الخيرات تنافسوا فيها وسيحاسبكم الله على ذلك فإنه سيجمعكم يوم القيامة مع أي موضع كنتم، ولن يفلت منه أحد، وبيده كل شيء بما في ذلك الإماتة والإحياء والبعث والنشور.
﴿ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات... ﴾
أي لكل أهل ملة قبلة يتجهون إليها في عبادتهم، فسارعوا أنتم جهدكم إلى ما اختاره الله لكم من الأعمال التي تكسبكم السعادة الدارين، والتي من جملتها التوجه إلى البيت الحرام.
قال أبو العالية :«لليهودي وجهة هو موليها، وللنصراني وجهة هو موليها، وهداكم أنتم أيتها الأمة إلى القبلة التي هي لقبلة الحقة. وروى عن مجاهد وعطاء نحو هذا »( ١٠ ).
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى :﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا ﴾. ( المائدة : ٤٨ ).
أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير.
هو سبحانه قادر على جمعكم من الأرض وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم.
كما أنه سبحانه قادر على كل شيء، وما دام الأمر كذلك فبادروا بالأعمال الصالحة شكرا لربكم، وحافظوا على قبلتكم، حتى لا تضلوا كما ضل اليهود ومن على طريقتهم في الكفر والعناد.
الاتجاه إلى الكعبة
﴿ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعلمون( ١٤٩ ) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشون واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون( ١٥٠ ) ﴾
المــعنى الإجمــالي :
فاستقبل المسجد الحرام في صلاتك من كل مكان كنت فيه سواء أكان ذلك في حال إقامتك أم في حال سفرك وخروجك من مكان إقامتك، وإن هذا لهو الحق الموافق لحكمة ربك الرفيق بك، والله عالم علما لا يخفى عليه شيء من عملكم.
التفسير :
﴿ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾.
أي ومن أي مكان خرجت يا محمد فول وجهك تلقاء المسجد الحرام عند الصلاة، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله فولوا وجوهكم في صلاتكم اتجاهه ونحوه. وتلك هي المرة الثانية التي تكرر للمؤمنين بالتوجه إلى المسجد الحرام في صلاتهم، وسيتكرر مرة ثالثة في الآية التالية.
ويوحي هذا التكرير بأن حملة ضالعة من اليهود وأشياعهم كانت تتقول على المسلمين وتحاول فتنتهم عند تحويل القبلة إلى البيت الحرام. فكرر الله سبحانه الأمر بالتوجه إليه لتأكيد أمر القبلة في نفوس المسلمين حتى يستقر في مشاعرهم، ويذهب ما يثار حولها من شبهات أدراج الرياح.
ولأنه الله تعالى أناط بكل واحد من هذه الأوامر بالتحول ما لم ينط بالآخر من أحكام فاختلفت فوائدها.
وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعلمون.
أي وإن الاتجاه إلى المسجد الحرام في أي مكان، لهو الأمر الثابت الموافق للحكمة المنزل عليك من ربك، الذي ولاك بفضله وإحسانه، فلا تعدل على استقبال القبلة التي شرعها لك، فإنه مطلع عملك وعلى أعمال عباده جميعا فيجازيهم حسبما عملوا.
المــعنى الإجمــالي :
فاستقبل المسجد الحرام في صلاتك من كل مكان كنت فيه سواء أكان ذلك في حال إقامتك أم في حال سفرك وخروجك من مكان إقامتك، وإن هذا لهو الحق الموافق لحكمة ربك الرفيق بك، والله عالم علما لا يخفى عليه شيء من عملكم.
﴿ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره... ﴾
المفردات :
ومن حيث خرجت : حيث ظرف مكان أي ومن أية جهة خرجت.
فول وجهك شطر المسجد الحرام : أي فوجه وجهك جهة المسجد الحرام.
التفسير :
وهو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام من حيث خرج، وإلى المسلمين أن يولوا وجوههم شطره حيثما كانوا، وبيان لعلة هذا التوجيه :
لئلا يكون للناس عليكم حجة :
والمراد من الناس اليهود ومن لف لفهم من المناوئين للدعوة الإسلامية.
والمعنى : عليك أيها النبي ومن معك من المؤمنين أن تتجهوا في صلاتكم إلى الكعبة المشرفة، لكي تقطعوا دابر فتنة اليهود وحجتهم، فقد قالوا لكم وقت اتجاهكم إلى بيت المقدس، إذا كان لكم أيها المسلمون دين يخالف ديننا فلماذا تتجهون إلى قبلتنا، إلى غير ذلك من أقوالهم الفاسدة، فاتجاهكم إلى المسجد الحرام من شأنه أن يزيل هذه الحجة التي قد تبدو مقبولة في نظر ضعاف العقول.
إلا الذين ظلموا منهم :
وهذه الجملة استثناء من الناس، والمعنى لئلا يكون لأحد من اليهود حجة عليكم، إلا المعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا حبّا لدين قومه واشتياقا لمكة. وهؤلاء الظالمون لا يقفون عند الحجة والمنطق، وإنما ينساقون من العناد واللجاج، فهؤلاء لا سبيل إلى إسكاتهم فسيظلون إذن في لجاجهم فلا على المسلمين منهم.
فلا تخشوهم واخشوني :
فلا تحفلوا بهم فتميلوا عما جاءكم من عندي، فأنا الذي أستحق الخشية بما أملك من أمركم في الدنيا والآخرة.
ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون :
أي وأمرتكم بذلك لأتم نعمتي عليكم، ولعلكم تهتدون بامتثال ما أمرتكم به إلى سعادة الدارين.
ومن تمام نعمة الله على المسلمين : جمع الكلمة، وتوحيد الصف، وتوحيد القبلة، وتوحيد الهدف، وتغيير معالم الجاهلية وما فيه من شقاق ونزاع وخلاف إلى معالم الإسلام وما فيه من إيمان، ورحمة ووحدة وعزة.
وقد كان المسلمون يجدون أثر النعمة في حياتهم العامة كما وجدوه في قلوبهم وفي مكانهم من الأمم حولهم.
ونجد في تكرار الأمر بشأن القبلة الجديدة معنى جديدا في كل مرة، في المرة الأولى كان الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام استجابة فلرغبة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تقلب وجهه في السماء وضراعته الصامتة إلى ربه في قوله سبحانه :
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام. ( البقرة : ١٤٤ ).
وفي المرة الثانية كان لإثبات أنه الحق من ربه في قوله تعالى :
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك ( البقرة : ١٤٩ ).
وفي المرة الثالثة كان لقطع حجة الناس والتهوين من شأن من لا يقف عند الحق والحجة.. في قوله تعالى :
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا فلا تخشوهم واخشوني( البقرة : ١٥٠ ).
وقال القرطبي نقلا عن غيره في تعليل التكرار :
إن موقع التحويل كان معنتا في نفوسهم جدا فأكد الأمر، ليرى الناس الاهتمام به، فيخفف عليهم، وتسكن نفوسهم إليه. ويمكن حمل التكرار على أن الآية الأولى :
فول وجهك شطر المسجد الحرام. لتشريع تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
وقوله بعد ذلك :
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام. لتشريع الاتجاه إليها في الأسفار.
وقوله : وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره. لتشريع الاتجاه إليها من المقيمين في بقاع الأرض المختلفة.
الرسول الهادي
﴿ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون( ١٥١ ) ﴾
المفردات :
يزكيكم : يطهركم.
الكتاب : القرآن الكريم.
المعنى الإجمالي :
وإن توجكم إلى المسجد الحرام لهو بإرسالنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آيات القرآن، ويطهر نفوسكم عمليا من دنس الشرك وسيء الأخلاق والعادات، ويكلمكم علميا بمعارف القرآن والعلوم النافعة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون : فقد كنتم في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء.
التفسير :
﴿ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا... ﴾
الخطاب للعرب. والآية متصلة بما قبلها والمعنى : ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة كما أتممتها بإرسال رسول منكم يتلو عليكم القرآن ( ١٦ ).
وفي إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم وهو منهم نعمة تستوجب المزيد من الشكر لأن إرساله منهم يسبقه معرفتهم لنشأته الطيبة، وسيرته العطرة، ومن شأن هذه المعرفة أن تحملهم على المسارعة إلى تصديقه والإيمان به. ولأن في إرساله فيهم وهو منهم شريفا عظيما لهم. ولأن المشهور من حالهم الأنفة الشديدة من الانقياد لغيرهم، فكون الرسول منهم أدعي إلى إيمانهم به وقبولهم لدعوته.
وقوله : يتلوا عليكم آياتنا... صفة ثانية للرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الألوسي :«في هذه الجملة إشارة إلى طريق إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام لأن تلاوة الأمي للآيات الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الإخبار بالمغيبات والمصالح التي ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته »( ١٧ ).
﴿ ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ﴾.
ويطهر نفوسكم ويمحصها لله بوعظه وإرشاده حتى يكون عملكم خالصا لوجه الله تعالى وتتلاقى القلوب على محبة ورضوان من الله وتكونوا دائما في نصرة دين الله، ويعلمكم كتاب الله وما فيه من أصول التوحيد، وشعائر الدين، ومناهج الخلق الفاضل ليكون ذلك دستورا لكم.
ويعلمكم الحكمة وهي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وما يصدر عنه من الأقوال والأفعال التي جعل الله الناس فيها أسوة حسنة. ومن معاني الحكمة، إصابة الحق والصواب، ووضع الأمور في مواضعها.
﴿ ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ﴾.
أي ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي، ومما لم يكونوا يعلمونه، وعلمهم إياه... صلى الله عليه وسلم.
ولقد كان العرب قبل الإسلام في حالة شديدة من ظلام العقول وفساد العقائد.
«فانتقلوا ببركة رسالته إلى حال الأولياء وسجايا العلماء، فصاروا أعمق الناس علما، وأبرهم قلوبا، وأقلهم تكلفا، وأصدقهم لهجة » ( ١٨ ).
قال تعالى :﴿ لقد من على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ﴾. ( آل عمران : ١٦٤ ).
الذكر والشكر
﴿ فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ( ١٥٢ ) ﴾
التفسير :
﴿ فاذكروني أذكركم... ﴾
فاذكروني بالطاعة والاستجابة لما أمرتكم به والبعد عما نهتكم عنه، أذكركم بالثواب وبالثناء في الملإ الأعلى.
وفي الحديث الصحيح :«يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملئ ذكرته في ملئ خير منه »( ١٩ ).
وروى الإمام أحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«قال الله عز وجل :«يا ابن آدم، إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملئ ذكرتك في ملئ من الملائكة أو قال في ملئ خير منهم، وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا، وإن أتيتني تمشي أتيتك أهرول » صحيح الإسناد، وأخرجه البخاري( ٢٠ ). قال الإمام النووي : واعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتحميد بل كل عامل لله بطاعة فهو ذاكر الله.
﴿ واشكروا لي ولا تكفرون ﴾.
اشكروا لي ما أنعمت به عليكم من ضروب النعم، بأن تستعملوا النعم فيما خلقت له، وبأن تطيعوني في السر والعلن، وحذار من أن تجحدوا إحساني إليكم ونعمي إليكم فأسلبكم إياها.
قال تعالى :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ﴾. ( إبراهيم : ٧ ).
وقد أعطى الله قارون المال الوفير، فلما ادعى انه ناله بجهده وعلمه، وقال :﴿ إنما أوتيته على علم عندي ﴾. ( القصص : ٧٨ ) خسف الله به وبداره الأرض، ولما أعطى الله سليمان ملكه الواسع قال :﴿ هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ﴾ ( النمل : ٤٠ ). ( فشكر الله فحفظ الله عليه نعمته ).
الصبر والصلاة
﴿ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين( ١٥٣ ) ﴾
المفردات :
الصبر : ضبط النفس وقوة الاحتمال.
المعنى الإجمالي :
واستعينوا أيها المؤمنون بالله في كل ما تأتون به وما تذرون بالصبر على الأمور الشاقة، والصلاة التي هي أم العبادات، إن لله بقدرته القاهرة مع الصابرين فهو وليهم وناصرهم.
التفسير :
﴿ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة... ﴾
يعد الله المسلمين لما سيواجهونه من الفتن والمحن والحروب، ويدربهم تدريبا نفسيا على ملاقاة الشدائد، واحتمال الأهوال، فيأمرهم سبحانه وتعالى : أن يستعينوا علة خوض غمار الأحداث والمحن بسلاحين رئيسيين هما : الصبر والصلاة. كما تقدم في قوله : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين( البقرة : ٤٥ ).
وقد ذكر الصبر في القرآن في نحوه سبعين موضعا، وأورد ابن قيم الجوزية في كتابه ( عدة الصابرين ) أكثر من عشرين فضيلة للصبر.
وبعض المفسرين يقسم الصبر إلى ثلاثة أنواع : صبر على ترك المحارم، وصبر على فعل الطاعات، وصبر على المكاره والنوازل.
ومن أهم مواطن الصبر : الصبر عند لقاء العدو جهادا في سبيل الله.
ولهذا كان ثواب الصابرين غير محدود بقوله سبحانه : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ( الزمر : ١٠ ).
وأما الصلاة فهي أم العبادات : ومعراج المؤمنين إلى منازل الصالحين، واستغراق المؤمن فيها علاج لما قد يتعرض له من أخطار الحياة.
وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ﴿ إن الله مع الصابرين ﴾.
يمنحهم السكينة والعزاء والعوض، وليس الصبر بلادة في الإحساس واستسلاما للنوازل، وإنما هو ثبات على مكافحة البلاء.
حياة الشهداء
﴿ وتقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتا بل أحياء ولكن لا تشعرون( ١٥٤ ) ﴾
المعنى الإجمالي :
ولن يؤدي الصبر إلا إلى الخير والسعادة في الدارين، فلا تقعدوا عن الجهاد في سبيل الله ولا ترهبوا الموت فيه فمن مات في الجهاد فليس بميت بل هو حياة عالية وإن كان الأحياء لا يحسون بها.
التفسير :
﴿ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ﴾.
أي لا تقولوا أيها المؤمنون لمن يقتل من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه أنهم أموات، بمعنى أنهم تلفت نفوسهم وعدموا الحياة، وتصرمت عنهم الذات، وأضحوا كالجمادات كما يتبادر من معنى الموت. بل هم أحياء في عالم غير عالمكم كما قال تعالى :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون( ١٦٩ ) فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون( ١٧٠ ) يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ﴾ ( آل عمران : ١٦٩-١٧١ ).
وفي صحيح مسلم :«إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك إطلاعة فقال : ماذا تبغون ؟ فقالوا : يا ربنا، وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا، قالوا : نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى، لما يرون من ثواب الشهادة، فيقول الرب جل جلاله :«إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون »( ٢١ ).
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه » ( ٢٢ ) ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضا، وإن الشهداء قد خصصوا بالذكر تشريفا لهم وتكريما وتعظيما( ٢٣ ).
وحياة الشهداء عند ربهم حياة تكريم مصحوبة برزق من الله وفضل منه عليهم، وعلينا أن نفوض كيفية هذه الحياة وكنهها إليه سبحانه، لأنها حياة من نوع معين لا يعلمها إلا علام الغيوب.
بشرى للصابرين
﴿ ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين( ١٥٥ ) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون( ١٥٦ ) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون( ١٥٧ ) ﴾.
المفردات :
ولنبلونكم : ولنمتحننكم.
المعـــنى الإجمــالي :
وسيصادفكم كثير من الشدائد فسنمتحنكم بكثير من خوف الأعداء والجوع وقلة الزاد والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، ولن يعصمكم في هذا الامتحان القاسي إلا الصبر، فبشر يا أيها النبي الصابرين بالقلب واللسان.
التفسير :
﴿ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات... ﴾
جعل الله الدنيا دار اختبار وابتلاء قال تعالى :
﴿ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾. ( الملك : ٢ ).
ومن شأن الحكمة الإلهية أن تختبر الإنسان بالخير والشر، قال تعالى :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون. ﴾ ( الأنبياء : ٣٥ ).
فالله سبحانه يمتحن الإنسان بالمال والجاه والسلطان والنعمة وسعة الرزق حينا، قال سبحانه : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا. ( الكهف : ٨ )، كما يختبر الإنسان بالبلاء والشدة والفقر ونقص الأموال ونحو ذلك حينا آخر.
قال تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم. ( محمد : ٣١ ).
ومعنى الابتلاء من الله : أن يعاملهم الله معاملة المختبر ليتميز الصابر المجاهد المحتمل، من الضعيف في دينه ونفسه، فمن صبر أثابه، ومن قنط أحل به عقابه : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات...
والخوف يكون من قلة الموارد، ونحو ذلك.
ونقص الأموال بقلة الكسب والخسارة في التجارة وغيرها.
ونقص الأنفس بالقتل والموت.
ونقص الثمرات بنحو الآفات في المزارع والحدائق، وقيل المراد بالثمرات هنا الأولاد.
﴿ وبشر الصابرين ﴾.
وبشر يا محمد بالرحمة العظيمة والإحسان الجزيل أولئك الصابرين
﴿ الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾.
المعـــنى الإجمــالي :
وسيصادفكم كثير من الشدائد فسنمتحنكم بكثير من خوف الأعداء والجوع وقلة الزاد والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، ولن يعصمكم في هذا الامتحان القاسي إلا الصبر، فبشر يا أيها النبي الصابرين بالقلب واللسان.
التفسير :
والمعنى : الذين من صفتهم أنهم إذا نزلت بهم مصيبة في أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم أو غير ذلك، قالوا بألسنتهم وقلوبهم على سبيل التسليم المطلق لقضاء الله وقدره. إنا لله. أي إنا لله ملكا وعبودية والمالك يتصرف في ملكه ويقبله من حال إلى حال كيف يشاء.
وإنا إليه راجعون : وإنا إليه صائرون يوم القيامة فيجازينا على ما أمرنا به من الصبر والتسليم لقضائه عند نزول الشدائد التي ليس في استطاعتنا دفعها.
قال الطبري :
جعل الله هذه الكلمات وهي قوله تعالى : إنا لله وإنا إليه راجعون. ملجأ لذوي المصائب وعصمة للممتحنين، لما جمعت من المعاني المباركة، فإن قوله : إنا لله توحيد وإقرار بالعبودية والملك، وقوله : وإنا إليه راجعون إقرار بالهلاك على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الأمر كله إليه كما هو له.
قال سعيد بن جبير : لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا ولو عرفها يعقوب لما قال : يا أسفي على يوسف( ٢٤ ).
وربما حزن الإنسان لفقد حبيب أو بكى لفراقه، وهذه رحمة وعاطفة فطرية في ألإنسان. ولكن المحرم هو الجزع المفضي إلى إنكار حكمة الله فيما نزل به من بأساء أو ضراء، أو إلى فعل ما حرمه الإسلام من نحو النياحة وشق الجيوب، ولطم الجدود.
وقد ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى عند موت ابنه إبراهيم وقال :
«العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ».
ثم يبين سبحانه ما أعده للصابرين من اجر جزيل فقال :
﴿ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ﴾.
المعـــنى الإجمــالي :
وسيصادفكم كثير من الشدائد فسنمتحنكم بكثير من خوف الأعداء والجوع وقلة الزاد والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، ولن يعصمكم في هذا الامتحان القاسي إلا الصبر، فبشر يا أيها النبي الصابرين بالقلب واللسان.
المفردات :
صلوات من ربهم : الأصل في الصلاة الدعاء، والصلاة من العبد دعاء، ومن الملائكة استغفار، ومن الله رحمة.
التفسير :
تقع هذه الآية في جواب سؤال تقديره بماذا بشر الله الصابرين ؟ والجواب هو :﴿ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة... ﴾
والمعنى : أولئك الصابرون المحتسبون الموصوفون بتلك الصفات الكريمة عليهم مغفرة عظيمة من خالقهم، وإحسان منه سبحانه يشملهم في دنياهم وآخرتهم.
وأولئك هم المهتدون : إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية، فإن من نال رأفة الله لم يفته مطلب.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : نعم العدلان ونعمت العلاوة : أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة. فهذان العدلان. وأولئك هم المهتدون. فهذه العلاوة( ٢٥ ).
وقد ورود مدح الصبر والصابرين في القرآن الكريم، قال تعالى :﴿ إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾. ( الأحزاب : ٣٥ ).
وقال سبحانه :﴿ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾. ( الزمر : ١٠ ).
وقال عز شأنه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾.
( آل عمران : ٢٠٠ ).
كما حفلت كتب السنة الصحاح بالحث على الصبر وبيان أجر الصابرين.
وروى الشيخان عن أبى سعيد وأبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما يصيب المسلم من نصب ولا صب ولا هم حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه » ( ٢٦ ).
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها. قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت : من خير من أبي سلمة صاحب رسول الله ؟ ثم عزم الله لي فقلتها، قالت : فتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم. ( ٢٧ ).
الصفا والمروة
﴿ إن الصفا والمروة من شعآئر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم( ١٥٨ ) ﴾.
المفردات :
الصفا والمروة : هضبتان ملتحقتان حاليا بالمسجد الحرام يسعى بينهما الحاج والمعتمر.
من شعائر الله : من علامات دين الله في الحج والعمرة، والشعائر لغة جمع شعيرة، وهي العلامة. وكون الصفا والمروة من شعائر الله أي من أعلام دينه ومتعبداته تعبدنا الله بالسعي بينهما في الحج والعمرة. وشعائر الحج : معالمه الظاهرة للحواس، التي جعلها الله أعلاما لطاعته ومواضع نسكه وعبادته، كالمطاف والمسعى والموقف والمرمي والمنحر.
فمن حج البيت : أي قصد الكعبة لأداء المناسك في موسم الحج، والحج لغة القصد، وشرعا قصد الكعبة للنسك المشتمل على الوقوف بعرفة في زمن مخصوص.
أو اعتمر : أي زار، والعمرة الزيارة مأخوذة من العمارة كأن الزائر يعمر البيت الحرام بزيارته، وشرعا الزيارة لبيت الله المعظم بأعمال مخصوصة، وهي الإحرام والطواف والسعي بين الصفا والمروة.
فلا جناح عليه أن يطوف بهما : فلا إثم عليه في أن يسعى بينهما.
ومن تطوع خيرا : أي ومن زاد خيرا على ما طلب منه.
المعنى الإجمالي :
وكما أن الله رفع شأن الكعبة بجعلها قبلة الصلاة، رفع أمر الجبلين اللذين يشارفانها، وهما الصفا والمروة فجعلهما من مناسك الحج. فيجب بعد الطواف السعي بينهما سبع مرات، وقد كان منكم من يرى حرجا لأنه من عمل الجاهلية، ولكن الحق أنه من معالم الإسلام، فلا حرج على من ينوي الحج أو العمرة أن يسعى بين هذين الجبلين، وليأت المؤمن من الخير ما استطاع فإن الله عليم بعمله ومثيبه عليه.
التفسير :
﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ﴾.
السعي بين الصفا والمروة من معالم الحج ومناسكه فمن أراد الحج أو العمرة وجب عليه أن يسعى بينهما بالطواف سبعة أشواط لأن هذا السعي مطلوب للشارع ومعدود من الطاعات.
والمتأمل في الآية يرى أنها نفت الحرج والمؤاخذة عمن سعى بين الصفا والمروة، ولم تأمر بهذا السعي. والوقوف على سبب نزول الآية يوضح الأمر.
روى البخاري عن عاصم بن سليمان قال : سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل :﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾.
وفي رواية الترمذي عن أنس أنهما :«كانا من شعائر الجاهلية ».
وفي رواية للنسائي عن زيد بن حارثة قال :«كان على الصفا والمروة صنمان من نحاس يقال لهما " أساف ونائلة " كان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما ».
ويؤخذ من هذه الروايات أن بعض المسلمين كانوا يتحرجون من السعي بين الصفا والمروة لأسباب من أهمها أن هذا السعي كان من شعائرهم في الجاهلية. وأنه كان في الجاهلية مقترنا بالتمسح بصنمين أحدهما على الصفا والثاني على المروة.
فلما جاء الإسلام أقر السعي بين الصفا والمروة، بعد أن أزال الأصنام وجعل الذكر لله تعالى وحده، وهذا وأمثاله من السياسة الشرعية في الإسلام، فإنه إذا أقر أمرا كان معروفا في الجاهلية، لحكمة تقتضي إقراره جرده من مظاهر الوثنية، ووجهه إلى الله تعالى قصدا وذكرا.
وقد اختلف أقوال الفقهاء في حكم السعي بين الصفا والمروة. فمنهم من يرى أنه من أركان الحج كالإحرام والطواف والوقوف بعرفة، وإلى هذا الرأي ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك في أشهر الروايتين عنه.
ومنهم من يرى أنه واجب يجبر بالدم، وإلى هذا الرأي ذهب الأحناف، ومن حججهم أنه لم يثبت بدليل قطعي فلا يكون ركنا.
وقيل السعي بين لصفا والمروة مستحب.
قال ابن كثير :
والقول الأول أرجح لأنه عليه الصلاة والسلام طاف بينهما، وقال : لتأخذوا عني مناسككم.
فكل ما فعله في حجته تلك واجب لابد من فعله في الحج إلا ما خرج بدليل، والله أعلم( ٢٨ ).
وأعلم أن السعي بين الصفا والمروة، شعيرة مورثة عن أم إسماعيل عليه السلام فقد جاء في حديث طويل رواه البخاري عن ابن عباس بعدما ذكر : أن إبراهيم عليه السلام جاء بهاجر وابنها إسماعيل، عند مكان البيت وتركهما، فقالت له : " يا إبراهيم : أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟ " ثم قالت :«الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم. قالت : إذا لا يضيعنا ».
ومضى ابن عباس في الحديث إلى أن قال :«حتى إذا نفد في السقاء، عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر، هل ترى أحدا فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف ذراعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، ثم جاوزت الوادي حتى أتت المروة فقامت عليه إلى أن قال «ففعلت ذلك سبع مرات ».
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم :«فذلك سعي الناس بينهما ». ومضى في الحديث إلى أن قال :«فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء «أي ماء زمزم » ( ٢٩ ).
قال ابن كثير :
«فالساعي بين الصفا والمروة ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله عز وجل ليزيح ما هو من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبته عليه إلى مماته، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر عليها السلام » ( ٣٠ ).
***
كتمان العلم
﴿ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون( ١٥٩ ) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم( ١٦٠ ) ﴾
المفردات :
البينات : الحجج الواضحات، جمع بينة.
الهدى : ما يهدي إلى الحق والرشاد.
في الكتاب : المراد به ما يشمل جميع الكتب السماوية، ومنها التوراة والإنجيل والقرآن.
يلعنهم الله : يطردهم من رحمته.
ويلعنهم اللاعنون : يسخط عليهم الناس.
المعنـــى الإجمــالي :
وأولئك الذين أنكروا أمر دينكم فريقان : من أهل الكتاب الذين يعرفون الحق ويخفونه على علم وعناد، وفريق المشركين الذين عميت قلوبهم عن الحق فاتخذوا أربابا من دون الله، فأهل الكتاب الذين عرفوا براهين صدقك، تبينوا الحق في دينك ثم أخفوا هذه الدلائل وكتموها، أولئك يصب الله عليهم غضبه، ويبعدهم عن رحمته.
التفسير :
﴿ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ﴾.
إن الذين يخفون عن قصد وتعمد وسوء نية ما انزل الله على رسله من آيات واضحة دالة على الحق، ومن علم نافع يهدي إلى الرشد من بعد ما شرحناه للناس في كتاب يتلى، أولئك الذين فعلوا ذلك يلعنهم الله. بأن يبعدهم عن رحمته ويلعنهم اللاعنون. أي ويلعنهم كل من تتأتى منه اللعنة : كالملائكة والمؤمنين، بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله.
وتفيد هذه الجملة الأخيرة نهاية الغضب عليهم، حتى لكأنهم تحولوا إلى ملعنة ينصب عليها اللعن من كل مصدر، ويتوجه إليها من كل من يستطيع اللعن ويِؤديه. إما بلسان المقال أو الحال، أو يوم القيامة.
«قال أبو العالية : نزلت في أهل الكتاب، كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم »( ٣١ ).
والآية الكريمة، وإن كانت نزلت في أهل الكتاب بسبب كتمانهم للحق، إلا أن وعيدها يتناول كل من كتم علما نافعا، أو غير ذلك من الأمور التي يقتضي الدين بإظهارها، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد ورد في الحديث المسند من طريق يشد بعضها بعضا عن أبى هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من سئل من علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار » ( ٣٢ ).
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم تلا قوله تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات... إلى قوله «الرحيم »( ٣٣ ).
هذا وينبغي أن يعلم أن الإسلام وإن كان ينهى نهيا قاطعا عن كتم العلم الذي فيه منفعة للناس، إلا يوجب على أتباعه وخصوصا العلماء أن يحسنوا اختيار ما ينشرونه على الناس من علم، قال علماؤنا :«ليس كل من يعلم يقال، ولا كل ما يقال جاء وقته، ولا كل ما جاء وقته حضر أهله ».
وقال ابن مسعود «ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ».
وفي هذا المعنى يقول صلى الله عليه وسلم :
«حدثوا الناس بما يفهمون... أتحبون أن يكذب الله ورسوله » ( ٣٤ ).
* * *
ركبت مرة مع سائق تاكسي في رمضان وكان مفطرا يدخن السيجارة في رائعة النهار، فقلت له : لماذا لا تصوم ؟ قال : الصيام يجعلني سيئ الأخلاق على الناس، أشتمهم أو أسيئ معاملتهم، فأفطرت وسأطعم المساكين أو أتصدق عليهم، وحاول أن يستشهد بالمعنى المفهوم له من قوله سبحانه ﴿ وعلى الذين يطيقون فدية ﴾، والتمس مني الموافقة على ذلك. فقلت له : أنت قوي البنية، سليم الحواس، موفور الصحة، وتلك نعمة كبرى من الله تستحق منك الشكر، والصيام، ولو بعض أيام رمضان وأن تصلي الصلوات حتى تجد حلاوة الإيمان.
فإذا بليت بالإفطار فاستتر في مكان خال، ولا تدخن أمام جماهير المسلمين.
لقد كان هذا السائق يريد أن يستغل بعض العلم، في إطعام المساكين عند تعذر الصيام، والتمس مني مساعدته في ذلك فكتمت عنه علم هذه المسألة، لأني رأيته صحيح الجسم ويريد أن يستغلها في إفطار رمضان بدون رخصة أو عذر.
﴿ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ﴾.
المعنـــى الإجمــالي :
وأولئك الذين أنكروا أمر دينكم فريقان : من أهل الكتاب الذين يعرفون الحق ويخفونه على علم وعناد، وفريق المشركين الذين عميت قلوبهم عن الحق فاتخذوا أربابا من دون الله، فأهل الكتاب الذين عرفوا براهين صدقك، تبينوا الحق في دينك ثم أخفوا هذه الدلائل وكتموها، أولئك يصب الله عليهم غضبه، ويبعدهم عن رحمته.
المفردات :
وبينوا : أي أظهروا ما كتموه.
التفسير :
أي إلا الذين رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وبينوا للناس ما كانوا كتموه، فإن الله عز وجل يقبل توبتهم من رحمته ومغفرته، وهو سبحانه غافر الذنب وقابل التوب.
فالآية الكريمة قد فتحت للكاتمين العلم باب التوبة وأمرتهم بولوجه ويسرت لهم طريق الاستقامة والرجوع إلى الصواب.
وقد اشتملت الآية على أركان التوبة وهي :
١. الإقلاع عن الذنب، ويشير إليه قوله تعالى :( تابوا ).
٢. الندم على ما فات لأنه من تمام التوبة.
٣. رد المظالم إن وجدت، ويشير إليه قوله :( وأصلحوا ).
٤. العزم على الاستقامة في المستقبل ويشير إليه قوله :( وبينوا ).
عذاب الكافرين
﴿ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين( ١٦١ ) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون( ١٦٢ ) ﴾
المعــنى الإجمــالي :
أما الذين استمروا على الكفر، وماتوا على ذلك دون توبة ولا ندم، فجزاؤهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
التفسير :
﴿ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ﴾.
إن الذين كفروا بالهدى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وأصروا على الكفر فلم يتوبوا غير مكترثين بما يقرع أسماعهم من آيات الهدى، وما تره أبصارهم من دلائل الحق، وأقاموا على إصرارهم، حتى ماتوا وهم كفار، أولئك تستمر عليهم لعنة الله التي لازمتهم من أول كفرهم، ولعنة الملائكة والناس.
وجميع هؤلاء تستمر لعنتهم عليهم، بسبب إصرارهم على الكفر.
﴿ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ﴾.
المعــنى الإجمــالي :
أما الذين استمروا على الكفر، وماتوا على ذلك دون توبة ولا ندم، فجزاؤهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
التفسير :
خالدين في لعنة الله أو في النار، لا يخفف عنهم العذاب بأنواعه يوم القيامة، فهم فيه معذبون بغضب الله ونار جهنم، والزمهرير.
ولا هم ينظرون : أي لا يمهلون ولا يؤخرون ساعة دون عذاب، مأخوذ من الإنظار بمعنى التأخير والإمهال.
وقوله تعالى : خالدين فيها : الضمير في قوله : فيها. راجع إلى النار، مع أنه لم يسبق ذكرها، للإيذان بأنها معروفة حاضرة في الذهن وإن لم تذكر، تهويلا لأمرها.
والخلود هو البقاء إلى غير نهاية، ويستعمل بمعنى البقاء مدة طويلة، وإذا وصف به عذاب الكافر أريد به المعنى الأول، أي البقاء إلى غير نهاية.
إله واحد
﴿ وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم( ١٦٣ ) ﴾
المفردات :
إله : الإله : المعبود.
الرحمن الرحيم : صيغتان للمبالغة في الرحمة الأولى سماعية والثانية قياسية، وتختص الأولى بالله تعالى ويجوز إطلاق الثانية على غيره.
التفسير :
﴿ وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ﴾.
وإلهكم الذي يستحق العبادة والخضوع، إله واحد فرد صمد. فمن عبد شيئا دونه، أو عبد شيئا معه فعبادته باطلة فاسدة، ثم هو بليغ الرحمة، فقد عمت رحمته في الدنيا المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وعمت رحمته في الآخرة أهل الإيمان : من وفى منهم، ومن قصر وتاب.
قال تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم( ٥٣ ) وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ﴾. ( الزمر : ٥٣-٥٤ ).
سبب النزول :
عن ابن عباس رضي الله عنه أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : صف لنا ربك، فنزل قوله تعالى : وإلهكم إله واحد. ومع أن السبب خاص فالخطاب عام لكل من يصلح للخطاب.
وفي الحديث( ٣٥ ) عن أسماء بنت يزيد بن السكن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. و. آلم( ١ ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم. ( آل عمران : ١-٢ ).
***
دلائل الإيمان
﴿ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الريح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون( ١٦٤ ) ﴾.
المفردات :
اختلاف الليل والنهار : تعاقبهما، أو اختلافهما بالزيادة والنقصان.
الفلك : اسم يطلق على سفينة أو أكثر.
وبث فيها من كل دابة : ونشر فيها من كل نوع من الدواب، الدابة ما يدب ويمشى على الأرض.
وتصريف الرياح : تقليبها جنوبا وشمالا وشرقا وغربا، حارة وباردة إلى آخر أنواعها.
والسحاب المسخر : المنقاد لله يوجهه كيف يشاء.
المعنى الإجمالي :
أقام الله أدلة ملموسة في هذا الكون على وجوده وألوهيته، ومن ذلك السموات التي تسير فيها الكواكب بانتظام دون تزاحم ولا صدام، تبعث الحرارة والنور لهذا العالم، والأرض وما فيها من البر والبحر وتعاقب الليل والنهار، وما في ذلك من المنافع، وما يجري في البحر من السفن تحمل الناس والمتاع، ولا يسيرها إلا الله فهو الذي يرسل الرياح التي يسير بها المطر.
والماء مصدر الخير وهو ينزل من السماء في دورات متتابعة تبدأ بتبخير ماء البحر ثم تكاثفه ثم هطوله، وهو ما يسبب الحياة على الأرض. وتصريف الرياح وهبوبها في مهابها المختلفة، والسحاب المعلق بين السماء والأرض، أفقامت هذه الأشياء كلها بهذا الإتقان والإحكام من تلقاء نفسها أم هي صنع العليم القدير.
التفسير :
﴿ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس... ﴾
اتجهت هذه الآية إلى لفت أنظار الناس إلى مظاهر القدرة الإلهية في هذا الكون، ونبهت الأبصار والبصائر إلى عجائب هذا الكون ونظامه البديع.
أخرج ابن أبى الدنيا وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال :«ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ».
قال الألوسي :
ومن تأمل تلك المخلوقات التي وردت في هذه الآية وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الموجبة لتخصيص العبادة له، ومجمل القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه، مستتبعا لآثار معينة وأحكام مخصوصة، وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية، وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله، وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة( ٣٦ ).
وأول الأدلة في الآية : إن في خلق السماوات والأرض. وقد أشار القرآن الكريم إلى خلق السماوات والأرض في كثير من آياته، كما أشار إلى نظام السماء وتناسق خلقها، وتزيينها بالنجوم، وجعل بعض النجوم هادية للسائرين.
قال تعالى :﴿ إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب*وحفظا من كل شيطان مارد*لا يسمعون إلا الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب ﴾. ( الصافات : ٦-٨ ).
وقال سبحانه :﴿ وعلامات وبالنجم هم يهتدون ﴾. ( النحل : ١٦ ).
وكل ما في السماء عجيب نافع، فشمسها المشرقة نهارا، تبث في أرضنا الدفء، وتنشر فيها الضوء، وتنبت الزرع، وتستخلص من مياهنا المالحة بخارا حلوا نقيا، يصيره الله بقدرته سحابا، ثم يعيده إلينا مطرا عذبا، فبسلكه في جوفها ينابيع، فنعيش به، ويعيش حيواننا علو ما أوجد الله بسبب الشمس من الماء والنبات :﴿ هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ﴾. ( فاطر : ٣ )، ﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ﴾ ( المؤمنون : ١٤ ).
وكل ما في الأرض عجيب، فجبالها أوتاد لها، تحفظها من أن تميد لها، تحفظها من أن تميد بنا، وأنهارها وبحارها مصادر لأرزاقنا، ومعابر لسفننا، وسبب لحفظ حياتنا، ومعادنها نتخذ من بعضها حليا وعملتنا ونتخذ من بعضها أوانينا وأدواتنا ومواد بناءنا وأسلحة دفاعنا وهجومنا على أعدائنا، والسهل من الأرض نزرع فيها أقواتنا، والتلال والهضاب نتخذ فيها الحصون والقلاع لترد عادية خصومنا، والأشجار والزروع والطيور والحيوان لأرزاقنا ومنافعنا، والهواء حياة لنفوسنا وحيواننا ونباتنا.
قال تعالى :﴿ والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج( ٧ ) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ﴾. ( ق : ٧-٨ )
وقال عز شأنه :﴿ ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا*وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا*والله أنبتكم من الأرض نباتا*ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا*والله جعل لكم الأرض بساطا*لتسلكوا منها سبلا فجاجا ﴾. ( نوح : ١٥-٢٠ ).
والدليل الثاني :
على قدرته ووحدانيته، قوله تعالى :﴿ واختلاف الليل والنهار ﴾.
واختلافهما : تعاقبهما، فبينما الليل يلف الأرض بظلامه والناس فيه رقود ساكنون، إذ ينبعث النهار من تحت إهابه، فتسجع الأطيار، وتطير من الأوكار باحثة عن رزق الكريم الحليم، ويهب النائمون من مراقدهم يبحثون عن أرزاقهم، ويسعون في سبيل عيشهم، فالاختلاف افتعال من الخلف، وهو أن يجيء شيء عوض عن شيء آخر يخلفه على وجه التعاقب.
ويجوز أن يكون المراد باختلافهما اختلافهما أنفسهما بالطول والقصر، واختلافهما في جنسهما بالسواد والبياض.
قال تعالى :﴿ وجعلنا الليل لباسا*وجهلنا النهار معاشا ﴾. ( النبأ : ١٠-١١ ) وقال سبحانه :﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون* قل أرأيتم إن جعل لله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون*ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ﴾. ( القصص : ٧١-٧٣ ).
ومن العظات التي تؤخذ من هذا الاختلاف أن مدد الليل والنهار تختلف فلكل منهما مدة يستوفيها من السنة بمقتضى نظام دقيق مطرد. قال تعالى :﴿ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ﴾. ( يس : ٤٠ ).
والدليل الثالث في الآية :
﴿ والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ﴾.
وهذه الفلك وإن كانت من صنع الناس، إلا أن الله تعالى هو الذي خلق الآلات والأجزاء التي صارت بها سفنا، وهو الذي سخر البحر لتجري فيه مقيلة ومدبرة، مع شدة أهواله إذا هاج، وهو الذي جعلها تشق أمواجه شقا حتى تصل إلى بر الأمان، وهو الذي رعاها برعايته وهي أشبه بنقطة صغيرة وفي ذلك الماء الواسع، وهي حاملة للكثير مما ينفع الناس من الأطعمة والأشربة والأمتعة المختلفة، فسبحانه من إله قادر حكيم.
الدليل الرابع والخامس :
﴿ وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة ﴾.
وإن فيما أنزله الله من جهة السماء من ماء، عمرت به الأرض بعد خرابها، وانتشرت فيها أنواع الدواب كلها، لدليل ساطع على قدرة الله ووحدانيته.
فهو سبحانه الذي أنزل المطر من السماء، وهو وحده الذي نشر على هذه الأرض أنواعا من الدواب مختلفة في طبيعتها وأحجامها وأشكالها، وألوانها، وأصواتها، ومآكلها، وحملها وتناسلها، ووجوه الانتفاع بها، وغير ذلك من وجه الاختلاف الكثيرة، مما يشهد بأن خالق هذه الكائنات إله واحد حكيم قادر.
قال تعالى :﴿ وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبة فمنه يأكلون*وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون*ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون*سبحان الذي يخلق الأزواج كلها مما تنبث الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ﴾. ( يس : ٣٣-٣٦ ).
الدليل السادس :
﴿ وتصريف الرياح ﴾ :
أي تقليبها وتكوينها.
فأحيانا تكون نسيما عليلا رطيبا، ينعش الأرواح، وأخرى تكون جافة حارة تضيق بها النفوس،
وتارة تجدها لينة رخاء، وأخرى عاصفة هوجاء، وأحيانا ريحا عقيما : ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. ( الذاريات : ٤٢ ) إلى غير ذلك مما تقتضيه حكمة الحكيم، الذي أحسن كل شيء خلقه، ورتبه على حسب مشيئته، وما ينبغي لصلاح أرضه، ولو أمسك الريح ساعة لهلك كل شيء حي على سطحها فمن فعل هذا سوى إله واحد، حكيم عليهم، قهار مقتدر.
الدليل السابع :
﴿ والسحاب المسخر بين السماء والأرض ﴾.
فهذا السحاب جعله الله مصدر المطر الذي به حياة الكائنات ومخازن له متنقلة متجددة من آن لآخر.
والسحاب في تكوينه، وتسخيره، وجعله بين السماء والأرض ورعده وبرقه ومطره آية عظيمة، من آيات الخالق سبحانه. قال تعالى : ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار*يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار. ( النور : ٤٣-٤٤ ).
ثم ختم الله الآية بقولة :
﴿ لآيات لقوم يعقلون ﴾.
أي لدلائل ساطعة وعلامات واضحة ترشد من يعقلون ويتدبرون فيها، فإن من تأمل في كل آية مما سبق، وجدها مشتملة على وجوه كثيرة من الدلالات على وجوده تعالى ووحدانيته ورحمته وسائر صفاته كما قال تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب*الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.
( آل عمران : ١٩٠-١٩١ ).
***
قال الفخر الرازي :
واعلم أن النعم قسمين : نعم دنيوية ونعم دينية، وهذه الأمور الثمانية( ٣٧ )، التي عدها الله تعالى نعما دنيوية في الظاهر، فإذا تفكر العاقل فيها واستدل به على معرفة الصانع صارت نعما دينية، لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا تكمل إلا عند سلامة الحواس وصحة المزاج، فكذا الانتفاع بها من حيث إنها نعم دينية لا يكمل إلا عند سلامة العقول، وانفتاح بصر الباطن، فلذلك قال :﴿ لآيات لقوم يعقلون ﴾( ٣٨ ).
من مشاهد القيامة
﴿ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب( ١٦٥ ) إذ تبرأ الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب( ١٦٦ ) وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار( ١٦٧ ) ﴾.
المفردات :
أندادا : الأنداد : جمع ند، وهو النظير والشبيه والمراد به هنا الأوثان.
المعــنى الإجمـــالي :
ومع هذه الدلائل الواضحة اتخذ بعض الناس ممن ضلت عقولهم أربابا غير الله يطيعونهم ويعبدونهم كعبادة الله ويجعلونهم مثل الله، والمؤمن يسلم القيادة لله وحده، وطاعته له لا تنقطع، أما هم فإن ولاءهم لآلهتهم يتزلزل عند النوائب فيلجئون إلى الله ـ سبحانه ـ وهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم لو عاينوا ما سينالهم من عذاب يوم الجزاء، حين ينكشف ملك الله يوم القيامة، وتكون الطاعة له وحده، لانتهوا عن جرمهم وأقلعوا عن إثمهم.
التفسير :
﴿ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله... ﴾
إن من الناس من لا يعقل تلك ا|لآيات التي دلت على وحدانية الله وقدرته، وبلغت بهم الجهالة أنهم يخضعون لبعض المخلوقات خضوعهم لله بزعم أنها مشابهة ومماثلة ومناظرة له سبحانه في النفع والضر، ويحبون تعظيم تلك المخلوقات وطاعتها والتقرب إليها والانقياد لها حبا يشابه الحب اللازم عليهم نحو الله تعالى، أو يشابه حب المؤمنين لله.
والذين آمنوا أشد حبا لله :
والذين صدقوا بوحدانية الله، أشد حبا له من هؤلاء المشركين لأوثانهم ورؤسائهم، ذلك لأن حب المؤمنين لله متولد عن أدلة يقينية وعن علم تام ببديع حكمته، وبالغ حجته، وسعة رحمته، وعدالة أحكامه وعزة سلطانه، وتفرده بالكمال المطلق، والحب المتولد عن هذا الطريق يكون أشد من حب المشركين لمعبوداتهم، لأن حب المشركين لمعبوداتهم متولد عن طريق الظنون والأوهام والتقاليد الباطلة.
وهذه شهادة من الله للمؤمنين يعتزون بها، ويجب أن يكونوا أهلا لها.
ولقد ضرب المؤمنون الصادقون أرع الأمثال في حبهم لله تعالى لأنهم ضحوا في سبيله بأرواحهم وأموالهم وأبنائهم وأغلى شيء لديهم، ولأنهم لم يعرفوا عملا يرضيه إلا فعلوه، ولم يعرفوا عملا يغضبه إلا اجتنبوه.
ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب.
( لو ) شرطية، وجوابها محذوف لقصد التهويل ولتذهب النفس في تصويره كل مذهب ( القوة ) القدرة والسلطان.
والمعنى كما قال الزمخشري : ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة لله على كل شيء من العقاب والثواب، دون أندادهم، ويعلمون شدة عقابه للظالمين، لكان منهم مالا يدخل تحت الوصف، من الندم والحسرة على ظلمهم وضلالهم.
وقد قرأ نافع وابن عمر «ولو ترى » بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى له الخطاب.
أي : لو ترى ذلك أيها الرسول الكريم، أو أيها المخاطب لرأيت أمرا عظيما في الفظاعة والهول.
﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ﴾.
المعــنى الإجمـــالي :
ومع هذه الدلائل الواضحة اتخذ بعض الناس ممن ضلت عقولهم أربابا غير الله يطيعونهم ويعبدونهم كعبادة الله ويجعلونهم مثل الله، والمؤمن يسلم القيادة لله وحده، وطاعته له لا تنقطع، أما هم فإن ولاءهم لآلهتهم يتزلزل عند النوائب فيلجئون إلى الله ـ سبحانه ـ وهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم لو عاينوا ما سينالهم من عذاب يوم الجزاء، حين ينكشف ملك الله يوم القيامة، وتكون الطاعة له وحده، لانتهوا عن جرمهم وأقلعوا عن إثمهم.
المفردات :
الأسباب : معناها اللغوي : الحبال، جمع سبب والمراد بها في الآية ما يصل الرؤساء والأتباع بعضهم ببعض من الصلات، كالدين الواحد والأنساب والأتباع.
التفسير :
واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ يوم القيامة، ذلك اليوم الهائل الشديد الذي يتنصل فيه الرؤساء من مرءوسيهم والأتباع من متبوعيهم حال رؤيتهم جميعا للعذاب وأسبابه ومقدماته، وما أعد لهم من شقاء وآلام، وقد ترتب على كل ذلك أن تقطع ما بين الرؤساء والأذناب من روابط كانوا يتواصلون بها في الدنيا وصار كل فريق منهم يلعن الفريق الآخر ويتبرأ منه.
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور :
وفي قوله تعالى : وتقطعت بهم الأسباب. استعارة تمثيلية، إذ شبهت هيئتهم عند خيبة أملهم حين لم يجدوا النعيم الذي تعبوا لأجله مدة حياتهم وقد جاء إبانه في ظنهم فوجدوا عوضه العذاب، بحال المرتقى إلى النخلة ليجني الثمر الذي كد لأجله طول السنة فتقطع به السبب أي الحبل عند ارتقائه فسقط هالكا، فكذلك هؤلاء قد علموا جميعا حينئذ أن لا نجاة لهم، فحالهم كحال الساقط من علو لا ترجى له السلامة( ٣٩ ).
﴿ وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا... ﴾
المعــنى الإجمـــالي :
ومع هذه الدلائل الواضحة اتخذ بعض الناس ممن ضلت عقولهم أربابا غير الله يطيعونهم ويعبدونهم كعبادة الله ويجعلونهم مثل الله، والمؤمن يسلم القيادة لله وحده، وطاعته له لا تنقطع، أما هم فإن ولاءهم لآلهتهم يتزلزل عند النوائب فيلجئون إلى الله ـ سبحانه ـ وهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم لو عاينوا ما سينالهم من عذاب يوم الجزاء، حين ينكشف ملك الله يوم القيامة، وتكون الطاعة له وحده، لانتهوا عن جرمهم وأقلعوا عن إثمهم.
المفردات :
كرة : رجعة إلى الدنيا.
حسرات : جمع حسرة، وهي أشد درجات الندامة على شيء فات.
التفسير :
وقال الذين كانوا تابعين لغيرهم في الباطل بدون تعقل أو تدبر، ليت لن رجعة إلى الحياة الدنيا فنتبرأ من هؤلاء الذين اتبعناهم وأضلونا السبيل كما تبرءوا منا في هذا اليوم العصيب، ولنشفي غيظنا منهم لأنهم خذلونا وأوردونا موارد التهلكة والعذاب الأليم.
﴿ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ﴾.
كما أرى الله تعالى المشركين العذاب وما صاحبه من التبرؤ وتقطع الأسباب بينهم، يريهم سبحانه أعمالهم السيئة يوم القيامة فتكون حسرات تتردد في صدورهم كأنها شرر الجحيم.
والمقصود أن أعمالهم لا يجدون لها أثرا من الخير، بل يبدلها الله حسرات وزفرات حين يرون العذاب على كل عمل منها.
وما هم بخارجين من النار :
أي وما هم بخارجين من تلك النار التي عوقبوا بها بسبب شركهم، بل هم مستقرون فيها استقرارا أبديا، وقد جاءت الجملة اسمية لتأكيد نفي خروجهم من النار، وبيان أنهم ملقون ومخلدون فيها كما قال تعالى في آية أخرى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها. ( السجدة : ٢٠ ).
وهكذا يسوق لنا القرآن الكريم ما يدور بين التابعين والمتبوعين يوم القيامة من تنصل وتحسر وتخاصم بتلك الطريقة المؤثرة، حتى لكأنك أمام مشهد مجسم، ترى فيه الصور الشاخصة حاضرة، وذلك لون من ألوان بلاغة القرآن في عرضه للحقائق، حتى تأخذ سبيلها إلى النفوس وتؤتى الطيبة في القلوب.
***
أكل الحلال
﴿ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين( ١٦٨ ) إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون( ١٦٩ ) ﴾.
المفردات :
حلالا طيبا : حلالا لا شبهة فيه، أو لا تعافه النفوس.
خطوات : جمع خطوة بضم الخاء وفتحها كما قال الفراء، والمراد بالنهي عن اتباع خطوات الشيطان : ألا يسيروا تبعا لوساوسه ومغيراته.
عدو مبين : أي عدو بين العداوة واضحها.
المعــنـى الإجمـــالي :
يا أيها الناس كلوا مما خلق الله في الأرض من الحلال الذي لم ينزل تحريمه، المستطاب تستسيغه النفوس، ولا تسيروا وراء الشيطان الذي يزين لكم أكل الحرام أو تحريم الحلال، فقد علمتم عداوة الشيطان، وبيان قبح ما يأمركم به. وإنما يزين لكم الشيطان ما هو سيء في ذاته، وما يقبح فعله ؟، وتسيرون بسبب وراء الظنون والأوهام، فتنتسبون إلى الله من التحريم والتحليل ما لم يأت دليل عليه من العلم اليقين.
التفسير :
﴿ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ﴾.
نزلت هذه الآية فيمن حرموا على أنفسهم بعض الطيبات، فالمشركون لم يقتصروا على الإشراك بالله تعالى بل ضموا إلى ذلك تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وهي أنواع من الإبل حرموا ذبحها وأكلها.
واليهود كانوا يحرمون لحم الإبل على أنفسهم.
والآية الكريمة وإن نزلت في هؤلاء إلا أنها عامة في الخطاب لهم ولمن على شاكلتهم ممن يحرم حلالا كالسيخ من أهل الهند الذين يحرمون ذبح البقر وأكل لحمها، لأنهم يعبدونها، هؤلاء جميعا يناديهم ربهم :
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض من حيوانها ونباتها وثمارها حلالا لا حرمة فيه طيبا لا تعافه النفوس، فلا تمنعوا أنفسكم من هذه المطاعم التي حرمتموها وهي حلال لكم، وتمتعوا بالطيبات في غير سرف أو غرور، واشكروا الله تعالى على ما رزقكم من نعم.
ولقد أمر الله عباده في كثير من الآيات أن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات ومن ذلك قوله تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون. ( الأعراف : ٣٢ ).
ونجد أنه لا ورع في ترك المباح الذي أحله الله من حيث فيه متعة للنفس، فذلك هو التنطع في الدين، وإنما الورع في ترك الإكثار من تناول تلك المباحات، لأن الإكثار منها قد يؤدي إلى الوقوع فيما نهى الله عنه.
ولا تتبعوا خطوات الشيطان : الخطوات جمع خطوة كغرفة، وهي في الأصل ما بين القدمين عند المشي، وتستعمل على وجه المجاز في الآثار.
أي كلوا أيها الناس من الطيبات التي أحلها الله لكم، ولا تتبعوا آثار الشيطان وزلاته ووساوسه وطرقه التي يحرم بها الحلال ويحلل الحرام، والتي يقذفها في صدور بعض الناس فتجعلهم ينتقلون من الطاعات إلى المعاصي.
﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾. تعليل النهي عن إتباع الشيطان.
أي أنه عدو ظاهر العداوة لكم، فقد أخرج أبويكم آدم وحواء من الجنة حسدا لهما، والحسد كامن في نفسه لذريتهما.
قال تعالى :
﴿ إن الشيطان لكم عدوا فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ﴾. ( فاطر : ٦ ).
﴿ إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾.
المفردات :
إنما يأمركم بالسوء : أي ما يحرضكم إلا على ما يسوءكم ويحزنكم في عاقبته وهو المعاصي.
والفحشاء : ما اشتد قبحه من الذنب.
المعــنـى الإجمـــالي :
يا أيها الناس كلوا مما خلق الله في الأرض من الحلال الذي لم ينزل تحريمه، المستطاب تستسيغه النفوس، ولا تسيروا وراء الشيطان الذي يزين لكم أكل الحرام أو تحريم الحلال، فقد علمتم عداوة الشيطان، وبيان قبح ما يأمركم به. وإنما يزين لكم الشيطان ما هو سيء في ذاته، وما يقبح فعله ؟، وتسيرون بسبب وراء الظنون والأوهام، فتنتسبون إلى الله من التحريم والتحليل ما لم يأت دليل عليه من العلم اليقين.
التفسير :
إن الشيطان يوسوس لكم ويدعوكم إلى ما يحزنكم في العاجلة أم الآجلة، وبما يشتد فحشه وقبحه من الذنوب كالإشراك بالله وعقوق الوالدين والزنا وادعاء أن الله حلل ما لم يحلله مثل شرب الخمر وأكل الربا، أو حرم ما لم يحرمه كتحريم الطيبات وبعض الحيوانات.
قال الزمخشري : فإن قلت كيف كان الشيطان آمر مع قوله : ليس لك عليهم سلطان ( الحجر : ٤٢ ).
قلت : شبه تزيينه وبعثه على الشر، بأمر الآمر كما تقول : أمرتني نفسي بكذا، وفيه رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه.
التقليد الأعمى
﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباءهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون( ١٧٠ ) ﴾.
التفسير :
﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباءهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ﴾.
وقد اعتاد الظالمون عن سبيل الهدى أن يتمسكوا بما توارثوا عن آبائهم في العقيدة والعمل، وإذا دعوا إلى ما جاء من هدى الله قالوا لا نعدل عما وجدنا عليه آباءنا، ومن أكبر الجهل ترجيح اتباع الآباء على طاعة الله واتباع هداه، فكيف إذا كان آباءهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يستنيرون بنور الهداية والإيمان.
وسواء كان هؤلاء الذين تعنيهم الآية هم المشركون الذين تكرر منهم هذا القول كلما دعوا إلى الإسلام، وإلى تلقي شرائعهم وشعائرهم منه، وهجر ما ألفوه في الجاهلية مما لا يقره الإسلام. أو كانوا هم اليهود الذين كانوا يصرون على ما عندهم من مأثور آبائهم ويرفضون الاستجابة للدين الجديد جملة وتفصيلا. سواء أكان هؤلاء أم هؤلاء، وسواء أقالوا ذلك بلسان المقال أم قالوه بلسان الحال، فالآية تندد بتلقي شيء في أمر العقيدة من غير الله، وتندد بالتقليد في هذا الشأن والنقل بلا تعقل ولا إدراك.
والآية عامة تشمل كل أهل الباطل المقلدين لغيرهم فيه.
والتقليد في الباطل مذموم، أما التقليد لأهل العلم الأمناء في الحق فهو كما قال القرطبي فرض على العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها فيما يحتاج إليه، مما لا يعلمه من أمر دينه عملا بقوله تعالى :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾. ( النحل : ٤٣ ).
وتعتبر هذه الآيات مصدرا لتكوين الشخصية المستقلة الجديرة بالمسلم بحيث لا يكون إمعة، أو تابعا لسواه دون روية أو تفكير.
***
ضلال الكفار
﴿ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعآء وندآء صم بكم عمي فهم لا يعقلون( ١٧١ ) ﴾
المفردات :
ينعق : يصيح، والنعيق : التصويت على البهائم للزجر :
دعاء ونداء : الدعاء والنداء : استدعاء الآخرين، فهما بمعنى واحد، وقيل الأول لطلب القريب والثاني لطلب البعيد.
صم : لا يسمعون.
بكم : لا يتكلمون.
المعنى الإجمالي :
وإن مثل ما يدعو أولئك الكافرين الجاحدين إلى الحق والهدى فلا يستجيبون له ولا يفقهون ما يدعوهم إليه كمثل راعي الغنم يناجيها فلا تفقه منه شيئا، ولا يقرع سمعها إلا الصوت ولا تعي غيره، فهم كذلك عن الحق صم الآذان، عمي البصائر، خرس الألسنة لا ينطقون بخير ولا يصدرون عن عقل.
التفسير :
﴿ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ﴾.
ومثل هادى الذين كفروا وداعيهم إلى الحق وهم لا يعقلون كمثل الراعي الذي ينعق بماشيته، ويصيح بها، ليكفها عن الرعي في مرعى وخيم يضرها، وكما أن البهائم التي لا تعي من الداعي إلا صوت الدعاء والنداء، دون أن تفهم غرضه وهو كفهم عن المرعى الوخيم العاقبة، لعدم تمييزها، فكذلك هؤلاء المقلدون لم يدركوا من هاديهم وداعيهم إلى الحق ومحذرهم من الباطل سوى الدعاء والنداء، لانهماكهم في التقليد الذي أغلق عقولهم، فلم تدرك ما يقول، وكما أن الهائم وقعت في المرعى الوخيم العاقبة بجهلها، فكذلك هؤلاء وقعوا في مهاوي الردى بإعراضهم عن الهدى.
قال الفخر الرازي : وللعلماء من أهل التأويل في هذه الآية طريقان :
أحدهما : تصحيح المعنى بالإضمار في الآية، والثاني إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار.
أما الذين أضمروا فذكروا وجوها :
الأول : كأنه قال : ومثل من يدعو الذين كفروا إلى الحق كمثل الذي ينعق، فصار الناعق هو الراعي بمنزلة الداعي إلى الحق وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الدعاة إلى الحق، وصار الكفار بمنزلة الغنم المنعوق بها، ووجه التشبيه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تفهم المراد، وهؤلاء الكفار كانوا يسمعون صوت الرسول صلى الله عليه وسلم وألفاظه وما كانوا ينتفعون بها وبمعانيها.
الثاني : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من الأوثان كمثل الناعق في دعائه ما لا يسمع كالغنم وما يجري مجراها من البهائم، فشبه الأصنام في أنها لا تفهم بهذه البهائم، فإذا كان ولا شك من دعا بهيمة عد جاهلا فمن دعا حجرا أولى بالذم.
والفرق بين هذا القول والذي قبله أن ها هنا المحذوف هم المدعو، وفي القول الذي قبله المحذوف هو الدعي.
أما إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار فتقديره : ومثل الذين كفروا في قلة عقولهم في عبادتهم لهذه الأوثان كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم، فكما أنه يقضي على ذلك الراعي بقلة العقل فكذا هاهنا.
ثم قال الفخر الرازي : ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسرا لقلبه، وتضييقا لصدره، حيث يصير كالبهيمة، فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد( ٤٠ ).
وفي ختام الآية وصف لهؤلاء الكفار بأنهم «صم » لا يسمعون الدعوة إلى الحق لانصرافهم عنه «بكم » عن إجابة الداعي إليها «عمي » عن آيات صدقها وصحتها، فهم لإعراضهم عن الهادي لهم إلى ما ينفعهم وينجيهم من العذاب صاروا بمنزلة من فقد حواسه فأصبح لا يسمع ولا ينطق ولا يبصر.
«فهم لا يعقلون » : لا يدركون شيئا لفقد الحواس الثلاث التي هي أبواب العلم.
تحريم الميتة والدم
﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون( ١٧٢ ) إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم( ١٧٣ ) ﴾
المفردات :
الطيبات : المستلذات، أو الحلال من الرزق.
المعنــى الإجمــالي :
لقد أبحنا للناس كل حلال خلقناه لهم في الأرض ونهيناهم أن يتبعوا خطوات الشيطان فإن فعلوا اهتدوا، وإن أبوا فإنا نخص المؤمنين بهدايتنا ونبين الحلال و الحرام، فيا أيها الذين آمنوا أبيح لكم أن تأكلوا من لذيذ الطعام الطيب غير الخبيث، فاشكروا الله على ما أولاكم من نعمة التمكين من الطيبات وإباحتها ومن نعمة الطاعة والامتثال لأمره لتتم عبادتكم.
التفسير :
﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ﴾.
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله : أبحنا لكم أن تأكلوا من المستلذات، وأن تنتفعوا بما أحللناه لكم من أرزاقنا التي مننا بها عليكم، وأمرناكم أن تشكروا الله علة ما أنعم به عليكم، إن كنتم تخصونه بالعبادة ولا تشكرون معه غيره فيها فإن شأن المؤمن الذي يخص ربه بالعبادة أن يقتصر على ما أحله له، وألا يتوسع في تناوله، حتى لا تطغى نفسه، وتتجاوز الحلال والحرام.
نقل الأستاذ رشيد رضا عن الإمام محمد عبده قوله :
لا يفهم هذه الآية حق فهمها إلا من كان عارفا بتاريخ الملل عند ظهور الإسلام وقبله، فإن المشركين وأهل الكتاب كانوا فرق وأصنافا، منهم من حرم على نفسه أشياء معينة بأجناسها أو أصنافها كالبحيرة والسائبة عند العرب، وكبعض الحيوانات عند غيرهم.
وكان المذهب الشائع في النصارى أن أقرب من يتقرب إلى الله تعالى، تعذيب النفس، وحرمانها من الطيبات المستلذة، واحتقار الجسد ولوازمه، واعتقاد أنه لا حياة للروح إلا بذلك.
ثم قال : وقد تفضل الله على هذه الأمة بأن جعلها أمة وسطا تعطي الجسد حقه والروح حقها، فأحل لنا الطيبات لتتسع دائرة نعمه الجسدية علينا، وأمرنا بالشكر عليها ليكون لنا منها فوائد روحانية عقلية، فلم نكن جثمانيين محضا كالأنعام، ولا روحانيين خلصا للملائكة، وإنما جعلنا أناسى كملة بهذه الشريعة المعتدلة، فله الحمد والشكر والثناء الحسن( ٤١ ).
﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله... ﴾
المعنــى الإجمــالي :
لقد أبحنا للناس كل حلال خلقناه لهم في الأرض ونهيناهم أن يتبعوا خطوات الشيطان فإن فعلوا اهتدوا، وإن أبوا فإنا نخص المؤمنين بهدايتنا ونبين الحلال و الحرام، فيا أيها الذين آمنوا أبيح لكم أن تأكلوا من لذيذ الطعام الطيب غير الخبيث، فاشكروا الله على ما أولاكم من نعمة التمكين من الطيبات وإباحتها ومن نعمة الطاعة والامتثال لأمره لتتم عبادتكم.
المفردات :
وما أهل به لغير الله : أي ما ذبح مذكور عليه اسم الله، وأصل الهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم أطلق على رفع الصوت مطلقا، ومنه إهلال الصبي عند الولادة.
فمن اضطر غير باغ : فمن أجبرته الضرورة على تناول شيء مما ذكر لإنقاذ نفسه من الهلاك غير ظالم لغيره.
ولا عاد : ولا معتد بتجاوزه ما يمسك الرمق ويدفع الجوع.
التفسير :
والميتة تأباها النفس السليمة، وكذلك الدم، فضلا عما أتبته الطب بعد فترة طويلة من تحريم القرآن والتوراة قبله بإذن الله من تجمع المكروبات والمواد الضارة في الميتة والدم. ولا ندري إن كان الطب الحديث قد استقصى ما فيهما من الأذى أم أن هناك أسبابا أخرى للتحريم لم يكشف عنها بعض الناس.
ويستثنى من تحريم الميتة السمك والجراد، لما أخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا :«أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال ».
والدم المحرم : ما يسيل من الحيوان الحي كثيرا كان أم قليلا، وكذلك يحرم من دم الحيوان ما جرى منه بعد تذكيته، وهو الذي عبر عنه القرآن بالمسفوح عن قوله تعالى : قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إل أن يكون ميتة أو دما مسفوحا( الأنعام : ١٤٥ ).
والدم المسفوح هو الدم الجاري المهراق من البهيمة بعد ذبحها. أما الدم المتبقي في أجزاء لحم البهيمة بعد تذكيتها فلا شيء فيه.
قال القرطبي : وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى، ومعفو عما تعم به البلوى، والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه.
«لحم الخنزير » وحرمة الخنزير شاملة للحمه وشحمه وجلده، وإنما خص لحمه بالذكر لأنه الذي يقصد بالأكل، ولأن سائر أجزاء الخنزير كالتابعة للحمه.
ومن الحكم في تحريم لحم الخنزير قذارته، واشتماله على دودة تضر ببدن آكله، وربما كان لتحريمه حكم أخرى لا تزال مجهولة لنا.
وما أهل به لغير الله : أي ما ذبح، وقد ذكر عليه اسم غير الله، وإذا كانت المحرمات السابقة قد حرمت لخبث ذاتها، فما ذكر اسم غير الله عليه، حرم لخبثه معنويا، فقد ذكر اسم غير خالقه المنعم به عند ذبحه ولولا ذلك لكان حلالا.
وسمي الذكر إهلالا : لما فيه من الإهلال، أي رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل لرفع الصوت مطلقا، ومنه إهلال الصبي، والإهلال بالحج، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم سموا عليها أسماءها «كاللات والعزى » ورفعوا بها أصواتهم، وسمي ذلك إهلالا. فالمراد بما أهل به لغير الله هو ما ذبح للأصنام وغيرها.
وذهب عطاء والحسن ومكحول والشعبي وسعيد بن المسيب إلى تخصيص التحريم بما ذكر عليه اسم الصنم، ولهذا أباحوا ذبيحة النصراني إذا ذكر عليها اسم المسيح، وقد خالفوا بذلك ظاهر النص، وما عليه الجمهور من التحريم، وقد شمل حكم الآية ذبيحة الوثني والمجوسي، وكذا ذبيحة المعطل الذي لا يعتقد في الله تعالى فهي حرام كذبيحة أهل اسم غير الله عليها.
وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه، بل المحرم ما علم أن غير اسم الله من الأوثان والأنداد ونحو ذلك قد ذكر عليه.
﴿ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ﴾
فمن ألجأته ضرورة إلى أكل شيء من هذه لمحرمات حالة كونه غير باغ : أي غير طالب المحرم وهو يجد غيره، أو غير طالب له لإشباع لذاته، أو غير طالب له على جهة الاستئثار به على مضطر آخر، أو غير ساع في الفساد.
ولا عاد : أي وغير متجاوز ما يسد الجوع، ويحفظ الحياة.
فلا إثم عليه : أي فلا إثم عليه في أكله من هذه المحرمات.
وبهذا ترى لونا من ألوان سماحة الإسلام ويسره في تشريعاته التي أقامها الله تعالى على رفع الحرج، ودفع الضرر، قال تعالى :﴿ وما جعل عليكم في الدين حرج ﴾. ( الحج : ٨٧ )
وقال تعالى :﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾. ( البقرة : ١٨٥ ).
وليس المراد من الآية حصر التحريم فيما ذكر، فإن المحرمات أوسع منها، ولكن المقصود رد اعتقاد المشركين أن الأكل منها حلال.
وختمت الآية بقوله سبحانه :﴿ إن الله غفور رحيم ﴾.
للإيذان بأن الحرمة باقية، إلا أنه تعالى أسقط الإثم عن المضطر وغفر له لاضطراره.
جزاء من كتم العلم
﴿ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم( ١٧٤ ) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار( ١٧٥ ) ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد( ١٧٦ ) ﴾
المفردات :
ويشترون به ثمنا قليلا : ويأخذون بدله عوضا قليلا.
ما يأكلون في بطونهم إلا النار : أي ما يكو من الطعام المشتري بهذا العوض إلا ما يؤدي بهم إلى النار
ولا يزكيهم : ولا يطهرهم من دنس الذنوب.
المعنــى الإجمــالي :
هذا وقد كان من العالمين بما أنزل الله فريق يخفى بعض الوحي لقاء عرض من أعراض الدنيا، فإن اليهود كتموا كثيرا مما جاء في التوراة من نعت الرسول خشية أن يسلم أهل ملتهم فيزول أمرهم وتضيع مكاسبهن ولذيذ مطاعمهم من هذا السبيل لهى كالنار يأكلونها، لأنها ستقودهم إلى النار، وسيعرض الله عنهم يوم القيامة، ولا يطهرهم من دنسهم وأمامهم عذاب شديد موجع.
التفسير :
﴿ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ﴾.
قال الإمام الرازي : قال ابن عباس : هذه الآية نزلت في رؤساء اليهود وأحبارهم كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا فلما بعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم خافوا انقطاع تلك المنافع فكتموا أمره عليه السلام وأمر شرائعه فنزلت هذه الآية.
ثم قال الإمام الرازي : والآية إن نزلت في أهل الكتاب لكنها عامة في حق كل من كتم شيئا من باب الدين يجب إظهاره. إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب( ٤٣ ).
والمعنى : إن الذين يخفون ما أنزل الله في كتابه من الأحكام في مقابل عرض قليل من أعراض الدنيا، وكل عرضها قليل وإن كان كثيرا، هؤلاء ما يأكلون في بطونهم من هذا العرض الدنيوي إلا ما يؤدي بهم إلى النار، ولا يكلمهم الله يوم القيامة كلام رحمة وإن كان يكلمهم بلسان ملائكته كلام سخط ومؤاخذة.
﴿ ولا يزكيهم ﴾ : أي ولا يطهرهم من دنس الذنوب.
﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ : أي ولهم عذاب مؤلم، بسبب كتمانهم الحق عن عباد الله.
﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار ﴾.
المعنــى الإجمــالي :
هذا وقد كان من العالمين بما أنزل الله فريق يخفى بعض الوحي لقاء عرض من أعراض الدنيا، فإن اليهود كتموا كثيرا مما جاء في التوراة من نعت الرسول خشية أن يسلم أهل ملتهم فيزول أمرهم وتضيع مكاسبهن ولذيذ مطاعمهم من هذا السبيل لهى كالنار يأكلونها، لأنها ستقودهم إلى النار، وسيعرض الله عنهم يوم القيامة، ولا يطهرهم من دنسهم وأمامهم عذاب شديد موجع.
المفردات :
اشتروا الضلالة بالهدى : باعوا الهدى بالضلالة، وجعلوها مكانه.
التفسير :
فكأنما هي صفقة يدفعون فيها الهدى ويقبضون الضلالة. ويؤدون المغفرة ويأخذون فيها العذاب فما أخسرها من صفقة وأغباها وبالسوء ما ابتاعوا وما اختاروا، وإنها لحقيقة. فقد كان الهدى مبذولا لهم فتركوه وأخذوا الضلالة، وكانت المغفرة متاحة لهم فتركوها واختاروا العذاب.
فما أصبرهم على النار :
فيا لطول صبرهم على النار التي اختاروها اختيارا وقصدوا إليها قصدا.
فيا للتهكم من طول صبرهم على النار.
قال العلماء :
إن فعل التعجب في كلام الله، المراد منه التعجيب، أي جعل الغير يتعجب من ذلك الفعل، وهو هنا صبرهم على النار، فيكون المقصود تعجب المؤمنين من جرأة أولئك الكاتمين لما أنزل الله على اقترافهم ما يلقى بهم في النار شأن الواثق من صبره على عذابها المقيم.
وشبيه بهذا الأسلوب في التعجيب كما أشار صاحب الكشاف أن تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان : ما أصبرك على القيد والسجن، فأنت لا تريد التعجب من صبره، وإنما تريد إفهامه أن التعرض لما يغضبه لا يقع إلا عمن شأنه الصبر على القيد والسجن، والمقصود بذلك تحذيره من التمادي فيما يوجب غضب ذلك السلطان المستند.
﴿ ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ﴾.
المعنــى الإجمــالي :
هذا وقد كان من العالمين بما أنزل الله فريق يخفى بعض الوحي لقاء عرض من أعراض الدنيا، فإن اليهود كتموا كثيرا مما جاء في التوراة من نعت الرسول خشية أن يسلم أهل ملتهم فيزول أمرهم وتضيع مكاسبهن ولذيذ مطاعمهم من هذا السبيل لهى كالنار يأكلونها، لأنها ستقودهم إلى النار، وسيعرض الله عنهم يوم القيامة، ولا يطهرهم من دنسهم وأمامهم عذاب شديد موجع.
ذلك الذي تقدم من الجزاء الشديد المترتب على الكتمان، حاصل بسبب أن الله نزل القرآن بالحق، فلا يصح أن يكتم أمره وأمر من جاء به، ولا أن يفتري عليه، وأن الذين اختلفوا في شأنه لفي خلاف بعيد عن الحق موجب لأشد العذاب، إن منهم من يقول : هو سحر. ومنهم من يقول : أساطير الأولين، ومنهم من يقول : افتراه على الله كذبا، أم به جنة، ومنهم من يقول : إنما يعلمه بشر.
ويرى بعض المفسرين : أن المراد بالكتاب : جنس الكتب التي أنزلها الله، وأن المعنى، ذلك العذاب بسبب أن الله نزل كتبه بالحق، فلا جرم أن يعذب من يكتمها، أو يكذبها. وأن الذين اختلفوا في شأن ما أنزله الله في كتبه، فأظهروا منها ما يناسب أهواءهم وأخفوا ما لا يناسبها أو آمنوا ببعضها، وكفروا بالبعض الآخر، وأساءوا تأويل بعضها.
﴿ لفي شقاق بعيد ﴾ : شقاق مع الحق. ، وشقاق مع ناموس الفطرة، وشقاق فيما بينهم وبين أنفسهم، وبعد شديد عن الحق والصواب.
وبدلك تكون الآيات الكريمة قد ذكري ألوانا من العقوبات الأليمة التي توعد الله بها كل من يكتم أمرا نهى الله عن كتمانه، لكي يقلع كل من يتأى منه الخطاب عن هذه الرذيلة، وفاء للعهد أخذه الله على الناس بصفة عامة، وعلى أولي العلم بصفة خاصة.
* * *
البر
في منتصف سورة البقرة نجد آية جامعة لخصال البر والخير هي قوله تعالى :
﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم فبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وءاتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وءاتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون( ١٧٧ ) ﴾
المفردات :
البر : كل ما يتقرب به العبد إلى الله من الأيمان والعمل الصالح وكل طاعة وقربة.
قبل المشرق والمغرب : ناحيتهما.
آتى المال : أعطاه.
المسكين : هو الدائم السكون لأن الحاجة أسكنته، والعجز قد أقعده عن طلب ما يكفيه.
ابن السبيل : هو المسافر البعيد عن ماله ولا يمكنه الاتصال بأهل أو بذي قرابة.
السائلين : من ألجأتهم الحاجة إلى السؤال وتكفف الناس، والسؤال محرم شرعا إلا لضرورة ويجب على السائل ألا يتعداها.
وفي الرقاب : أي وفي تحرير الرقاب وعتقها.
وأقام الصلاة : أداها على أقوم وجه وأحسنه.
البأساء : من البؤس وهو الفقر والشدة،
الضراء : كل ما يضر الإنسان من مرض أو فقد حبيب من أهل المال.
تمهيد :
تتعلق هذه الآية بتحويل القبلة. وذلك أن المسلمين في مكة كانوا يتوجهون إلى الكعبة في صلاتهم، فلما هاجر المسلمون إلى المدينة أمرهم الله أن يتجهوا بصلاتهم إلى بيت المقدس، واستمرت صلاتهم إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا. ثم جاء الأمر الأخير بتوجههم صلاتهم إلى الكعبة.
قال تعالى :﴿ فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾. ( البقرة : ١٤٤ ) وقد انطلقت أبواب اليهود تلوم المسلمين وتشككهم في حقيقة دينهم، وقالوا لهم : إن كان الوجه إلى بيت المقدس باطلا فقد ضاعت صلاتكم طوال هذه الفترة.
وإن كان حقا فالتوجه الجديد إلى المسجد الحرام باطل وصلاتكم إليه ضائعة، وقد رد الله على اليهود شبهتهم ثم قال :﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم ﴾. أي صلاتكم إلى بيت المقدس.
وإذا نحن تلمسنا حكمة التوجه إلى بيت المقدس في بداية الهجرة إلى المدينة نجد أن ذلك تم لحكمة تربوية هي تخليص المسلمين من كل نعرة عصبية. ذلك أن العرب كانوا يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم ويعدونه عنوان مجدهم القديم.
ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغبر المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة، فقد نزع المسلمون من الاتجاه إلى البيت الحرام واختار لهم الاتجاه فترة إلى المسجد الحرام، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول اتباعا مخلصا حتى إذا استسلم المسلمون واتجهوا إلى البيت المقدس صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى البيت الحرام.
قال تعالى :﴿ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ﴾. ( البقرة : ١٤٣ )
التفسير :
توجه الخطاب في هذه الآية لأهل الكتاب، لأنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة، حين حولت إلى الكعبة، فقال الله لهم ما معناه ليس البر في أن تولوا وجوهكم، في أية ناحية من نواحي الأرض حتى يكون ذلك موضع اهتمامكم، ومثار فتنتكم للمؤمنين بغير حق.
ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر : يعني ولكن البر الذي يحق الاهتمام بشأنه هو في إيمان من آمن بالله وبالحساب والجزاء في اليوم الآخر وفي إيمان من آمن بالملائكة وبالكتب المنزلة...
وقد بين الإمام ابن كثير أن الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين وإلى اليهود : " فإن الله تعالى لما أمر المسلمين بالتوجه إلى البيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة، شق ذلك، على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين. فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجه واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه.
ولهذا قال :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ﴾. الآية.
كما قال في الأضاحي والهدايا :﴿ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ﴾.
( الحج : ٣٧ ).
لقد ضرب الله مثلا بالتوجه إلى المشرق والمغرب ليوضح عدم جدوى التمسك بظاهر الشعائر والطقوس الدينية حيث لا خير في مجرد أداء الشعائر والعبادات الشكلية أو إظهار التقوى والورع ليس بالخير الحقيقي عند الله ولا وزن لذلك في عينه تعالى.
وقد صورت هذه الآية جميع مكارم الأخلاق، وجمعت بين الإيمان والعمل، وبين حقوق الله وحقوق العباد، وبين جهاد النفوس وجهاد الأعداء، وبين صلاح الأفراد والجماعات.
قال الثوري : " في هذه الآية أنواع البر كلها ".
وصدق فإن من اتصف بهذه الآية فقد دخل إلى عرى الإسلام كلها بمجامع الخير كله.
١-﴿ من آمن بالله ﴾.
وهو الإيمان بالله سبحانه وتعالى ربا وخالقا ورازقا بيده الخير والأمر، وهو على كل شيء قدير.
٢- ﴿ واليوم الآخر ﴾.
والإيمان باليوم الآخر وما فيه من بعث وحشر وثواب وعقاب ليلقى كل إنسان جزاء عمله.
٣- ﴿ والملائكة ﴾.
والإيمان بالملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله.
٤- ﴿ والكتاب ﴾.
والإيمان بالكتاب وهو اسم جني يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء حتى ختمت بأشرفها، وهو القرآن المبين على ما فبله من الكتب.
٥- ﴿ والنبيين ﴾.
والإيمان بالنبيين هو الإيمان بالرسالات جميعا وبالرسل أجمعين.
٦- وآتى المال حلى حبه ذوي القربى.
أي أخرجه وهو محب له راغب فيه ولكن غلب جانب الإيثار وضحى بالعاجلة في سبيل الآجلة، وتحرر من عبودية المال وأنفقه في وجوه الخير على : ذوي القربى. وهم أقرباؤه، روى الإمام أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الصدقة على المساكين صدقة، وعلى ذوي الرحم ثنتان : صدقة وصلة " ورواه الترمذي وقال حديث حسن.
٧- ﴿ واليتامى ﴾.
وأنفق المال أيضا عن رغبة وطيب نفس على اليتيم الذي فقد ولده.
٨- ﴿ والمساكين ﴾.
العاجزين عن الكسب.
٩- ﴿ وابن السبيل ﴾.
وهو المسافر المنقطع عن ماله، وهو في حاجة على المساعدة والمعاونة حتى يستطع الوصول إلى بلده، وفي هذا تنبيه إلى أن المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغي أن يكونوا في التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسر الواحدة.
١٠- ﴿ والسائلين ﴾.
وفي تحرير الرقاب، وعتق الأرقاء وتخليص الأسرى من يد العدو بفدائهم. وهذه الأصناف الستة التي ذكري في تلم الجملة الكريمة : وآتى المال على حبه... ليس المقصود من ذكرها الاستيعاب والحصر، ولكنها ذكرت كأمثلة وخصت بالذكر لأنها أحوج من غيرها إلى العون والمساعدة.
ومن ينظر في القرآن الكريم يجده قد عنى عناية كبرى بالفقراء والمساكين، وجميع أصناف المحتاجين حتى لا تكاد سورة من سوره تخلوا من الحث على الإنفاق عليهم وبذل العون في مساعدتهم، وأيضا هناك العديد من الأحاديث النبوية في الحض على مد يد العون إلى ذوي القرابة والمعسرين، وذلك لأن المجتمعات تحيى وتنهض بالتراحم، وتذل وتشقى بالتقاطع والتدابير بين أبنائها.
ثم ذكرت الآية ألوانا أخرى من البر تدل على قوة الإيمان، وحسن الخلق فقالت :
١٢- ﴿ وأقام الصلاة ﴾.
أي أداها كاملة الأركان في أوقاتها مخلصا فيها مناجيا ربه ساجدا لخالقه فالصلاة صلة بين المخلوق والخالق، وهي حصن الأمان وراحة النفس ودليل الإيمان بالله رب العالمين.
١٣- ﴿ وآتى الزكاة ﴾
أي أعطى الزكاة المفروضة في ماله وهي نسبة ٣/١ العشر من رأس المال أو ٢/١ ٢%، وللزكاة أثرها في تكافل المجتمع وترابطه وهي ركن عظيم من أعمال البر ومن ثم أجمع الصحابة على محاربة مانعي الزكاة من العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مانعها يهدم ركنا من أركان الإسلام، وينقض أساس الإيمان.
١٣- ﴿ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ﴾.
أي والذين يوفون بعهودهم إذا عاهدوا عليها، وهذا شامل لما يعاهد عليه الناس بعضهم بعضا ولما يعاهد عليه المؤمنون ربهم من السمع والطاعة لكل ما أمر به.
ومثل العهود العقود فيجب علينا الوفاء بها ما لم تكن مخالفة لقواعد الدين العامة.
وفي الوفاء بالعهود والعقود حفظ كيان المجتمع من أن ينفرط عقده، كما أ الغدر والإخلاف هادم للنظام، مفسد للعمران.
ولو شمل الناس الوفاء لسلموا من التطاحن والبلاء.
١٥- ﴿ والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ﴾.
أي الصابرين لدى الفقر والشدة وعند الضر من مرض وفقد أهل أو ولد ومال، وفي ميادين القتال. والبأساء من البؤس وهي ما يصيب الناس في الأموال كالفقر والاحتياج.
والضراء من الضر وهي ما يصيبهم في أنفسهم كالأمراض والأسقام، وحين البأس أي ووقت القتال في سبيل الله لإعلاء كلمته.
﴿ أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ﴾.
أي هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من المحرزين لخصال البر هم الصادقون في إيمانهم وفي كل أحوالهم، وأولئك هم المتقون لعذاب الله تعالى بسبب امتثالهم لأوامره.
وقد رسمت هذه الآية الكريمة منهجا متكاملا للحياة الإسلامية واشتملت على خمسة عشر نوعا من أنواع البر الذي يهدي إلى الحياة السعيدة في الدنيا وإلى رضا الله تعالى في الآخرة.
وقد أرشدت إلى أن البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير وبر في العقيدة، وبر في العمل، وبر في الخلق.
أما بر العقيدة فقد بينته أكمل بيان في قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولمن البر من آمن بالله والآخر والملائكة والكتاب والنبيين. فقد جمعت في هذه الجملة الكريمة مالا يتم الإيمان إلا بتحقيقه.
وأما بر العمل فقد وضحته أبلغ توضيح في قوله تعالى : وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب. ولاشك أن إنفاق المال في تلك الوجوه من شأنه أن يسعد الأفراد والجماعات والأمم.
وأما بر الخلق فقد ذكرته بأحكم عبارة في قوله تعالى :﴿ وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ﴾.
وذلك لأن التمسك بهذه الفضائل أداء الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود، والتذرع بالصبر، يدل على صفاء الإيمان وطهارة الوجدان وحسن الخلق.
وهكذا تجمع آية واحدة من كتاب الله بين بر العقيدة وبر العمل وبر الخلق.
إن سعادة المسلمين تكون في عودتهم إلى دينهم، وإلى كتاب ربهم وهدى نبيهم : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا. ( الإسراء : ٨٢ ).
* * *
القصاص
﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم( ١٧٨ ) ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون( ١٧٩ ) ﴾
المفردات :
القصاص : المساواة والمماثلة، وأصله من قص أثره إذا تبعه ومنه القاص لأنه يتبع الآثار.
القتلى : جمع قتيل، والمعنى فرض عليكم اعتبار المماثلة والمساواة بين القتلى، فالحر يقتل الحر، والعبد يقتل العبد والأنثى بالأنثى.
التفسير :
﴿ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ﴾.
وهذا العفو يكون بقبول الدية من أولياء الدم بدلا من قتل الجاني، ومتى قبل ولي الدم هذا ورضيه فيجب إذن أن يطلبه بالمعروف والرضا والمودة، ويجب على القاتل أو وليه أن يؤديه بإحسان، وإجمال وإكمال تحقيقا لصفاء القلوب، وشفاء لجراح النفوس وتقوية لأواصر الأخوة بين بقاء الأحياء، وقد امتن الله على المؤمنين بهذا التشريع وبين ما فيه من رحمة بالأمة.
قال ابن عباس :﴿ ذلك تخفيف من ربك ورحمة ﴾. إشارة إلى الحكم بشرع القصاص والدية والعفو.
فإن هذه الأمة خيرت بينها توسعة وتيسيرا ولم يكن لليهود إلا القصاص، ولم يكن للنصارى إلا العفو، وإثبات الخيرة فضل من الرحمة في حقنا لأن ولي الدم قد تكون الدية آثر عنده من القود إذا كان محتاجا إلى المال وقد يكون القود آثر عنده إذا كان راغبا في التشفي ودفع الشر القاتل عن نفسه وقد يؤثر ثواب الآخرة فيعفوا عن القصاص وعن بدله جميعا وهو الدية( ٤٤ ).
﴿ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ﴾
أي نوع من العذاب عديد الألم في الآخرة.
وعن قتادة :( العذاب الأليم أن يقتل لا محالة، ولا يقبل منه الدية ) لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول نكث للعهود وإهدار للتراضي، وإثارة للشحناء بعد صفاء القلوب، ومتى قبل ولي الدم الدية، فلا يجوز له أن بعود فينتقم ويعتدي.
ومن ثم ندرك سعة آفاق الإسلام، وبصره بحوافز النفس البشرية عند التشريع لها ومعرفته بما فطرت عليه من النوازع : إن الغضب للدم فطرة وطبيعية. فالإسلام يلبيها بتقرير شريعة القصاص. فالعدل الجازم هو الذي يكسر شره النفوس، ويفتأ حنق الصدور، ويردع الجاني كذلك عن التمادي. ولكن الإسلام في الوقت ذاته يحبب في العفو ويفتح له الطريق، ويرسم له الحدود، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص دعوة إلى التسامي في حدود التطوع لا فرضا يكبت فطرة الإنسان ويحملها ما لا تطيق.
وتذكر بعض الروايات أنة هذه الآية منسوخة. نسختها آية المائدة التي نزلت بعدها وجعلت النفس بالنفس إطلاقا : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس... ( المائدة : ٤٥ ).
قال ابن كثير في التفسير : وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبى حاتم حدثنا أبو زرعة يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثني عبد الله بن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾. يعني إذا كان عمدا الحر بالحر، وذلك أن حيين من العرب اقتتلا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل. فكان بينهما قتلى وجراحات حتى قتل العبيد النساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ن يرضوا حتى يقتل بالعبد من ا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، فنزل فيهم ﴿ الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ﴾. منسوخة بقوله :﴿ النفس بالنفس ﴾.
وإذا علمنا أن النسخ في القديم كان يطلق على مجرد التخصيص أو التوضيح...
ولم يكن يعني النسخ عند الأصوليين : " وهو رفع حكم شرعي لاحق لحكم شرعي سابق ".
إذا علمن هذا، وراعينا سبب النزول أدركنا أن موضع هذه الآية غير موضع آية النفس بالنفس، وأن لكل منها مجالا غير مجال الأخرى، وأن آية النفس بالنفس مجالها مجال الاعتداء الفردي من فرد معين على فرد معين، أو من أفراد معينين على فرد أو أفراد معينين فيؤخذ الجاني ما دام لقتل عمدا، فأما الآية التي نحن بصددها فمجالها مجال الاعتداء لجماعي كحالة ذينك الحيين من العرب حيث تعتدي أسرة على أسرة وقبيلة على قبيلة، أو جماعة على جماعة. فتصيب منها من الأحرار والعبيد والنساء، فإذا أقيم ميزان القصاص كان الحر من هذه كالحر من تلك، والعبد من هذه بالعبد من تلك، والأنثى من هذه كالأنثى من تلك، وإلا كيف يكون القصاص في مثل هذه الحالة التي يشترك فيها جماعة في الاعتداء على جماعة ؟.
وإذ صح هذا انظر لا يكون هنا نسخ لهذه الآية، ولا تعارض في آيات القصاص.
﴿ ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب لعلكم تتقون ﴾.
قال المفسرون : القصاص إزالة الحياة، وإزالة الشيء لا تكون نفس ذلك الشيء، فالمراد : لكم في شرع القصاص حياة، وأي حياة، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفنى بكر بن وائل، وكان يقتل بالمقتول غير قاتله( ٤٥ ) ويحتمل أن يقال إن نفس القصاص سبب لنوع من الحياة وهي حاصلة بالارتداع عن القتل لأن القاتل إذا قيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل ولم يقتل فكان القصاص سبب حياة نفسين( ٤٦ ).
وقرأ أبو الجوزاء :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾. أي فيما قص عليكم كم حكم القتل والقصاص، وقيل القصص : القرآن أي لكم في القرآن حياة للقلوب.
والمتأمل في بلاغة الآية ومكانها مما قبلها يرى أن وقع لآية وجميل بيانها يتحقق بكلمة القصاص دون كلمة القصص، ويرى أن الحياة تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء.
فالذي يوقن أنه سيدفع حياته ثمنا لحياة من يقتل جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد. كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل. شفاؤها من الحقد والرغبة في الثأر. الذي لم يكن يقف عند حد في القبائل العربية، حتى لتدوم المعارك المتقطعة أربعين عاما كما في حرب البسوس المعروفة عندهم. وكما نرى نحن في واقع حياتنا اليوم، حيث تسيل الحياة على مذابح الأحقاد العائلية جيلا بعد جيل، ولا تكف عن المسيل.
وفي القصاص حياة على معناها الأشمل الأعم. فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها، واعتداء على كل إنسان حي، يشترك مع القتيل في سمة الحياة، فإذا كف القصاص الجاني عن إزهاق حياة واحدة فقد كفه عن الاعتداء على الحياة كلها. وكان في هذا الكف حياة، حياة مطلقة لا حياة فرد ولا حياة أسرة ولا حياة جماعة. بل حياة.
﴿ لعلكم تتقون ﴾. أي تحذرون القتل لخوف القصاص.
وقال النيسابوري : لعلكم تتقون. يتعلق بمحذوف، أي أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس لتكونوا على بصيرة في إقامته راجين أن تعملوا عمل أهل التقوى في الحكم به، وهو خطاب له فضل اختصاص بالحكام وولاة الأمور( ٤٧ ).
وقال ألإمام محمد عبده معناه : " ثبتت لكم الحياة في القصاص لتعدكم وتهيئكم للتقوى والاحتراس من سفك الدماء وسائر ضروب الاعتداء، إذ العاقل حريص على الحياة، ولوع بالأخذ بوسائلها، والاحتراس من غوائلها ".
حكمة التشريع الإسلامي في القصاص( ٤٩ ) :
جعلت الشريعة القصاص عقوبة للقتل العمد والجرح العمد، ومعنى القصاص أن يعاقب المجرم بمثل فعله فيقتل كما قتل ويجرح كما جرح.
ومصدر عقوبة القصاص هو القرآن والسنة، فالله عز وجل يقول : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى... إلى آخر الآيتين١٧٨-١٧٩ من سورة البقرة.
ويقول جل شأنه :﴿ وكتبنا عليكم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ﴾. ( المائدة : ٤٥ ).
وفي السنة " من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا فالقود وإن أحبوا فالقتل " أي الدية.
وفي السنة " من اعتبط مؤمنا بقتل فهو قود به إلا أن يرضى ولي المقتول ".
وليس في العلم كله قديمه وحديثه عقوبة تفضل عقوبة القصاص فهو أعدل العقوبات، إذ لا يجازى المجرم إلا بمثل فعله، وهي أفضل العقوبات للأمن والنظام، لآن المجرم حين يعلم أنه سيجازى بمثل فعله لا يرتكب الجريمة غالبا.
والذي يدفع المجرم بصفة عامة للقتل والجرح هو تنازع البقاء وحب التغلب والاستعلاء، فإذا علم المجرم أنه لن يبقى بعد فريسته أبقي على نفسه بإبقائه على فريسته، وإذا علم أنه تغلب على المجني عليه اليوم فهو متغلب عليه غدا، لم يتطلع إلى التغلب عليه عن طريق الجريمة، وأمامنا على ذلك الجريمة العملية نراها كل يوم، فالرجل العصبي المزاج السريع إلى الشر وطلب الشجار إذا رأى خصمه أقوى منه أو قدر أنه سيرد على الاعتداء بمثله.
والرجل المسلح قد لا يثنيه شيء من الاعتداء ولكنه يتراجع ويتردد إذا رأى خصمه مسلحا مثله ويستطيع أن يرد على الاعتداء، والمصارع والملاكم لا يتحدى شخصا يعلم أنه أكثر منه قوة أو مرانا أو جلدا ولكنه يتحدى بسهولة من يظنه أقل منه قوة وأضعف جلدا.
تلك هي طبيعة البشر، وضعت الشريعة على أساسها عقوبة القصاص، فكل دافع نفسي يدعو إلى الجريمة يواجه من عقوبة القصاص دافعا نفسيا مضادا يصرف عن الجريمة، وذلك ما يتفق تمام الاتفاق مع علم النفس الحديث.
وللمجني عليه ولوليه حق العفو والعقوبة، والعفو قد يكون مجانا وقد يكون مقبل الدية، ولكن سقوط عقوبة القصاص بالعفو لا يمنع ولي الأمر من أن يعاقب المجرم بعقوبة تعزيرية مناسبة.
ولقد كانت الشريعة عملية ومنطقية في منح حق العفو للمجنى عليه أو وليه لأن العقوبة فرضت أصلا لمحاربة الجريمة، ولكنها ل تمنع وقوع الجريمة في أغلب الأحوال.
أما العفو فيؤدي إلى منع الجريمة في أغلب الأحوال، لأنه لا يكون إلا بعد الصلح والتراضي وصفاء النفوس وخلوها من كل ما يدعو إلى الجريمة والإجرام.
فالعفو هنا يؤدي وظيفة العقوبة وينتهي إلى نهاية تعجز العقوبة عن الوصول إليها. جاء في تفسير المنار :
وقد تقع في كل بلاد العلم صور من جرائم القتل يكون فيها الحكم بقتل القاتل ضارا وتركه لا مفسدة فيه، كأن يقتل الإنسان أخاه أو أحد أقاربه لعارض دفعه إلى ذلك، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت وإذا قتل يفقدون بقتله المعين والظهير، بل قد تكون في قتل القاتل أحيانا مفاسد ومضار وإن كان أجنبيا من المقتول ويكون الخير لأولياء المقتول عدم قتله لدفع المفسدة أو لأن الدية أنفع لهم، فأمثال هذه الصور توجب ألا يكون الحكم بقتل القاتل حتما لازما في كل حال بل يكون هو الأصل ويكون تركه جائزا برضاء أولياء المقتول وعفوهم، فإذا ارتقت عاطفة الرحمة في شعب أو قبيلة أو بلد إلى أن صار أولياء القاتل منهم يستنكرون القتل ويرون العفو أفضل وأنفع فذلك إليهم.
والشريعة لا تمنعهم منه بل ترغبهم فيه، وهذا الإصلاح الكامل في القصاص هو ما جاء به القرآن.
وما كان ليرتقي إليه بنفسه علم( ٥٠ ).
* * *
الوصية
﴿ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين( ١٨٠ ) فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم( ١٨١ ) فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم( ١٨٢ ) ﴾
المفردات :
كتب : فوض.
خيرا : مالا كثيرا.
الوصية : الإيصاء والتوصية وتطلق على الموصى به من عين أو عمل.
المعروف : ما لا يستنكره الماس لقتله بالنسبة إلى ذلك الخير أو لكثرته التي تضر بالورثة، وتقدر الكثرة باعتبار العرف وتقاس بحسب حال الشخص لدى الناس.
التفسير :
﴿ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ﴾.
كتب الله عليكم أيها المؤمنون أنه إذا ظهرت على أحدكم أمارات الموت من مرض ثقيل، أو شيخوخة مضعفة وكان عنده مال كثير قد جمعه من طريق حلال أن يوصي بجانب منه لوالديه وأقاربه رعاية لحقهم وحاجتهم، وأن تكون وصيته لهم بالعدل الذي لا مضارة فيه بين الأقارب والوصية على هذا الوجه تعتبر حقا واجبا على المتقين الذين اتخذوا التقوى والخشية من اله طريقا لهم.
والمراد بالمعروف هنا العدل الذي جاءت به الشريعة بألا يتجاوز بالوصية الثلث، وألا يوصى الأغنياء ويترك الفقراء، أو يوصى للقريب ويترك الأقرب مع أنه أشد فقرا ومسكنة.
قال القرطبي : اختلف العلماء في هذه الآية هل منسوخة أو محكمة فقيل هي محكمة، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين وفي القرابة غير الورثة، قال الضحاك وطاوس الحسن واختاره الطبري( ٥١ ).
" وجمهور المفسرين القدماء وفي مقدمتهم ابن عباس وابن عمروا على أن هذه الآية منسوخة بآيات الميراث في سورة النساء وسندهم في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته فقال : " إن الله قد قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا تجوز لوارث وصية " ( ٥٢ ) أخرجه أحمد والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه، وكذلك ما أخرجه الإمام أحمد والبيهقي في سننه عن أبى أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصيه لوارث " ( ٥٣ ).
فهذا الحديث وذاك، فهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن آية المواريث نسخت وجوب الوصية للوالدين والأقربين المأخوذة من هذه الآية( ٥٤ ).
وحكمة الوصية لغير الوارث تتضح في الحالات التي يحجب فيها بعض الأقارب من الميراث، لأن وجود الأصل الوارث والفرع الوارث كالأب والابن يحجب الحواشي كالأعمام والأخوال.
فالوصية لون من ألوان التكافل العائلي العام في خارج حدود الوراثة.
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " قال ابن عمر : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا عندي وصيتي( ٥٥ ).
﴿ فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم ﴾
التفسير :
أي فمن غير الايصاء من شاهد ووصى فإنما إثم التبديل على من بدل وقد برئت منه ذمة الموصى وثبت له الأجر عند ربه.
والتغيير إما إنكار الوصية، أو بالنقص فيها بعد علمها حق العلم.
﴿ إن الله سميع عليم ﴾ : يسمع أقوال المبدلين والموصين، ويعلم نياتهم ويجازيهم عليها.
﴿ فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ﴾
المفردات :
خاف : علم.
الجنف : الخطأ.
الإثم : تعمد الإجحاف والإثم.
التفسير :
أي إن خرج الموصي في وصيته عن حدود العدل ورأى أمارات ذلك منه من يريد الإصلاح من الناس، وتوقع أن شرا سيترتب على هذه الوصية التي فيها جور، أو شاهد نزاعا بين الموصي والموصى لهم، أن يرشد الموصى إلى سلوك طريق العدل الحق.
وعلى هذا المعنى يكون الضمير في قوله : بينهم. يعود على الموصي والموصى لهم.
ويرى جمهور العلماء أن هذه الآية الكريمة الواردة في الوصي أن الموصي إذ حاد في وصيته عن حدود العدل، فللوصي حينئذ أن يصلح فيها بحيث يجعلها متفقة ما شرعه الله، وهي في هذه الحالة لا إثم عليه لأنه قد غير الباطل بالحق، وعلى الرأي بكون المعنى : أن الموصى إذا رأى الوصية ميلا عن الحق خطأ أو عمد وأصلح بين الموصي لهم بردهم إلى الوجه المشروع فلا إثم عليه في هذا التغيير في الوصية والضمير فيس قوله " بينهم " عائد إلى الموصي لهم.
ويتعلق بالآية ما يأتي :
١- الوصية للأقربين أولى من الأجانب فالصدقة على القريب صدقة وصلة رحم.
٢- روى الفخر الرازي رأى أبى مسلم الأصفهاني في الوصية، ومن رأيه أن الوصية للوارث باقية لم تنسخ، ولا منافاة بينهما وبين الميراث فالميراث عطية من الله، والوصية عطية من المالك للوارث، فمن شاء أن يوصي لابن بار أو وارث أشد حاجة فله ذلك عنده( ٥٦ ).
٣- قال العلماء : المبادرة بكتابة الوصية ليست مأخوذة من هذه الآية، وإنما هي من حديث ابن عمر. وفائدتها : المبالغة في زيادة الاستيثاق، وكونهما مكتوبة مشهود بها وهي الوصية المتفق على العمل بها فلو أشهد العدول وقاموا بتلك الشهادة لفظا لعمل بها وإن لم تكتب خطا( ٥٧ ).
٤- روى الدار قطني عن أنس بن مالك قال : كانوا يكتبون في صدرهم وصاياهم : هذا ما أوصى به فلان بن فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وإن الله يبعث من في القبور، وأوصى من يترك بعده من أهله بتقوى الله حق تقاته وأن يصلحوا ذات بينهم : ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين( ٥٨ ) ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. ( البقرة : ١٣٢ ).
* * *
الصيام
﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون( ١٨٣ ) أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون( ١٨٤ ) ﴾
فرض الله الصيام تهذيبا للنفس، وتعويدا على الطاعة، وتمرينا على تقوى الله ومراقبته.
وقد أثبت الطب الحديث أ للصيام فوائد طبية عدة فهو يفيد في علاج كثير من الأمراض كضغطك الدم وتصلب الشرايين والبول السكري، ويصلح الجهاز الهضمي وهبوط القلب والتهاب المفاصل ويعطي الجسم الأنسجة فرصة للراحة والتخلص من كثير من الفضلات الضارة بالجسم كما أنه وقاية من كثير من الأمراض المختلفة( ٥٩ ).
وقد كان الصوم معروفا عند الأمم السابقة، فقد عرف الصوم عند قدماء المصريين، ومنهم انتقل إلى اليونان والرومان ولا يزال الهنود الوثنيون يصومون إلى الآن، وفي التوراة مدح للصوم والصائمين وليس فيها م يدل عل أنه فرض، وثبت أن موسى صام أربعين يوما، كما أنه ليس في الإنجيل نص على فرضية الصوم، بل فيه مدحه وعده عبادة. وأشهر صيام النصارى وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وكان يصومه موسى والحواريون، وقد وضع رؤساء الكنيسة ضروبا أخرى من الصيام تختلف فيها المذاهب والطوائف :
﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ﴾
لقد فرض الله الصيام لتهذيب الإنسان وتربية المسلم وتصفية نفسه وإخلاص ضميره.
وقد أخبر الله أن الصوم عبادة معروفة عرفتها الأديان السابقة ولكن بكيفية لا يعلمها إلا الله إذ لم يرد نص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا كيف كان صيام الأمم السابقة على الأمة الإسلامية.
وقد بين الله أن الصيام فرض علينا كما فرض على الأمم السابقة. لثارة الهمم والعزائم للنهوض بهذه العبادة وتسهيلا للصيام على المسلمين لأن الشيء الشاق تخف مشقته على الإنسان عندما يعلم أن غيره قد أداه من قبله.
﴿ أياما معدودات... ﴾
أي أياما معينات بالعدد وهي أيام رمضان فالله لم يكن يفرض علينا صوم الدهر كله ولا أكثره تخفيفا ورحمة بالمكلفين : " ولو علم المؤمن فضل رمضان لتمنى أن يكون السنة كلها ".
﴿ فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ﴾
لقد شرع الله الإفطار للمريض والمسافر على سبيل الرخصة، وهما بالخيار إن شاءا أفطرا وإن شاءا صاما، إلا أن أكثر الفقهاء قالوا : الصوم أفضل لمن قوي عليه.
والذي نراه أن الله تعالى قد أباح الفطر في رمضان بسبب المرض أو السفر، لأن كلا منهما مظنة المشقة والحرج، والحكم الشرعي يوجد حيث توجد مظنته وينتفي حيث تنتفي، وعلى المسلم أن يقدر حال نفسه، فإذا أيقن أو غلب على ظنه أن مرضه أو سفره ليس في الصوم معه مشقة أو عسر صام عملا بقوله تعالى :﴿ وأن تصوموا خير لكم ﴾. وإذا أيقن أو أغلب على ظنه أن مرضه أو سفره يجعل الصوم شاقا عليه أفطر عملا بقوله :﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾. فالمسألة ترجع إلى ضمير الفرد ودينه، واستفتاء قلبه.
والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صام في السفر وأفطر، وخير بعض أصحابه بين الصوم والفطر.
روى الشيخان ومالك وأبو داود عن أنس ابن مالك قال : " كنا مع النبي صلى اله عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر فلا الصائم يعيب على المفطر ولا المفطر يعيب على الصائم " ( ٦٠ ).
ومن صام وهو مريض أو مسافر فقد أدى الفريضة، ومن أفطر وجب عليه القضاء.
وروى عن عائشة أن حمزة الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أأصوم في السفر ؟ وكان كثير الصيام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر، وفي رواية مسلم أنه أجابه بقوله : " هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه " ( ٦١ ).
وأكثر الأئمة كمالك وأبى حنيفة والشافعي على أن يصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق، ويرى أحمد و الأوزاعي أن الفطر عملا بالرخصة.
﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ﴾
والذين يطيقون الصوم هم الشيوخ والضعفاء والزمني الذين لا يجرى برء أمراضهم والعمال الذين جعل الله معاشهم الدائم بالأشغال الشاقة كاستخراج الفحم من المناجم، " والمجرمون الذين يحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة والحبلى والمرضع إذا خافتا على ولديهما، فكل هؤلاء يفطرون وعليهم الفدية، وهي إطعام مسكين من أوسط ما يطعمون منه أهليهم بقدر كفايته أكلة واحدة بقدر شبع المعتدل الأكل، عن كل يوم يفطرونه " ( ٦٢ ).
ومعنى " يطيقونه " يقدرون عليه ويتحملونه بمشقة وتعب، لأن الطاقة اسم للقدرة على الشيء مع الشدة والمشقة، والواسع اسم للقدرة على جهة السهولة.
قال الراغب :( والطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء ومنه : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به. ( البقرة : ٢٨٦ ) أي ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه : لا تحملنا مالا قدرة لنا به ) ( ٣ ).
والعرب لا تقول فلان أطاق الشيء إلا إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف بحيث يتحمله بمشقة وعسر، فلا يقال مثلا : فلان يطيق حمل نواة أو ريشة أو عشرة دراهم من حديد. وإنما يقال : هو يطيق حمل قنطار من الحديد أو حمل الأمتعة الثقيلة.
وللعلماء أقوال كثيرة في المراد بقوله تعالى :﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ﴾. أشهرها ثلاثة آراء.
الرأي الأول : أن هذا راجع إلى المقيم الصحيح خيره الله تعالى بين الصوم وبين الفداء وكان ذلك في بدء لإسلام، فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم، فرخص لهم في الإفطار، الفدية ثم نسخ ذلك وأوجب عليهم الصوم.
ويشهد لهذا القوم ما جاء في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال :
لما نزلت هذه الآية :﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ﴾. كان من أراد أن يفطر ويفتدى، حتى نزلت الآية فنسختها( ٦٤ ).
الرأي الثاني : أن قوله تعالى :﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية... ﴾
ليس بمنسوخ بل هو محكم، وأنه في شأن الشيخ الكبير الهرم والمرأة العجوز، إذا كانا لا يستطيعان الصيام فعليهما أن يفطروا وأن يطعما عن كل يوم مسكينا، وأصحاب هذا الرأي يستدلون بما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فعليهما أن يطعما مكان كل يوم مسكينا( ٦٥ ).
الرأي الثالث : أن قوله تعالى :﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ﴾.
ليس بمنسوخ أيضا بل هو محكم وأن معنى الآية عندهم : وعلى الذين يطيقونه، أي يقدرون على الصيام بمشقة شديدة إذا أرادوا أن يفطروا فعليهم أن يطعموا عن كل يوم يفطرونه مسكينا. ( بأن يقدموا له نصف صاع من بر أو صاعا من ثمر أو شعير أو قيمة ذلك )، ولم يقصروا ذلك على الرجل الكبير والمرأة العجوز كما فعل أصحاب الرأي الثاني وإنما أدخلوا في حكم الذين يقدرون على الصوم بمشقة وتعب المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما وفي حكمهما ممن يشق عليهم الصوم مشقة كبيرة، وأصحاب هذا الرأي يستدلون على ما ذهبوا إليه بمنطوق الآية، إذ إن الوسع اسم للمقدرة على الشيء على جهة السهولة، والطاقة اسم للمقدر عليه مع الشدة والمشقة. كما يستدلون أيضا على ما ذهبوا إليه بقراءة ( يطيقونه )( ٦٦ ) بضم الياء الأولى وتشديد الثانية أي يتجشمونه ويتكلفونه بمشقة وتعب، وقد انتصر بعض العلماء لهذا الرأي بناء على أن منطوق الآية يؤيده.
كما انتصر بعضهم للرأي الأول بناء على أن الأحاديث الصحيحة تسانده، وعلى أنه هو الأقرب إلى روح الشريعة الإسلامية في التدرج في تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس، كما انتصر بعضهم للرأي الثاني الذي روى عنه أبن عباس.
﴿ فمن تطوع خيرا فهو خير له ﴾
أي فمن زاد في الفدية فذلك خير له لأن الثواب عائد إليه ومنفعته له، وهذا التطوع شامل لأصناف ثلاثة :
١- أن يزيد في الإطعام على مسكين واحد فيطعم بدل كل يوم مسكينين أو أكثر.
٢- أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب.
٣- أن يصوم مع الفدية.
﴿ وأن تصوموا خير لكم ﴾ أي وصومكم أيها المرضى والمسافرون والذين يطيقونه خير لكم من الفدية لما فيها من رياضة الجسد والنفس ومراقبة الله.
﴿ إن كنتم تعلمون ﴾
وجه الخيرية فيه وكونه لمصلحة المكلفين، لأن الله غني عن العالمين، وما روى من قوله عليه الصلاة والسلام : " ليس من البر الصوم في السفر " فقد خصص بمن يجهده الصوم ويشق عليه حتى يخاف الهلاك،
شهر رمضان
ورد في هذه النبوة أنه " إذا جاء شهر رمضان، فتحت أبواب الجنان، وغلقت أبواب النيران، ونادى منادي من قبل الله تعالى : يا طالب الخير أقبل، ويا باغي الشر أدبر " ( ٦٧ ).
وقد أختص الله شهر رمضان بعدد من الفضائل والمزايا يمكن أن نذكر عشرا منها :
١. فهو شهر أنزل الله فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
٢. وهو شهر الصوم وفي الصيام صفاء النفس، وخشوع القلب ومراقبة الله سبحانه تعالى
٣. وهو شهر الصبر والاحتمال وتربية الإرادة، وخلق عادات إسلامية سليمة.
٤. وهو شهر الصدقة، وصلة الرحم، ففيه الفطرة طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين. وفي الحديث : " كان صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ".
٥. وفي السابع عشر من رمضان في العام الثاني للهجرة كانت غزوة بدر الكبرى، وهي أول معركة هامة في تاريخ الدعوة الإسلامية، وكان انتصار المسلمين فيها نقطة تحول أساسية بدأت قوة المسلمين بعدها في النمو والازدياد.
٦. وفي ٢٠ من رمضان سنة٨ه تم فتح مكة وخضعت أم القرى، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ويعتبر فتح مكة من أهم الأمور التي اعتز بها الإسلام وتمكن بسببها من الصمود والانتشار.
٧. وفي رمضان ليلة القدر، وهي ليلة مباركة يضاعف فيها الله الثواب، ويجعل ثواب العبادة فيها خيرا من ثواب العبادة في ألف شهر، فهي منحة إلهية ومكافأة ربانية وعطاء سماوي يكفأ به الصائمون المخلصون، وقد أخفى الله ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان حتى يجتهد المسلمون في أواخره فيحصلوا على قدر كبير من الثواب والأجر.
٨. وفي شهر رمضان صلاة التراويح وهي عبارة عن صلاة عشرين ركعة بعد صلاة العشاء ويجوز أن تصلى ثمانية ركعات مع إطالة القراءة.
٩. وفي ختام رمضان يأتي عيد الفطر مكافأة للصائم الذي أرضى به وصام نهار رمضان وقام ليله فيكون الفرح والسرور في عيد الفطر جزاء عاجلا، وله في الآخرة ثواب آجل
١٠. وفي أعقاب رمضان يأتي صيام الأيام البيض. وهي ستة أيام من شهر شوال، بمثابة مسك الختام لصيام رمضان.
وفي الحديث : " من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام السنة كلها " ( ٦٨ ). وقد ورد ذكر شهر رمضان في القرآن الكريم مرة واحدة في الآية ١٨٥ من سورة البقرة.
***
﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون( ١٨٥ ) ﴾
شهر رمضان مبتدأ، خبره الذي أنزل في القرآن، أو بدجل من الصيام في قوله تعالى : " كتب عليكم الصيام ".
ومعنى نزول القرآن في رمضان أن ابتداء نزوله كان في شهر رمضان، تسمية للشيء باسم أوله.
وفي سورة القدر تحديد لليلة ابتدأ فيه نزول القرآن، قال تعالى :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك من ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر ﴾. ( سورة القدر ).
والملاحظ أن القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة هي مدة الرسالة. قال تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه الناس على مكث ونزلناه تنزيلا. ( الإسراء : ١٠٦ ).
وقال عز شأنه :﴿ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه الفرقان جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ﴾. ( الفرقان : ٣٢-٣٣ ).
روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن أنه قال في قول الله عز وجل :﴿ ورتلناه ترتيلا ﴾. قال : كان ينزل آية وآيتين وآيات، جوابا لهم عما يسألون وردا على النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن قتيبة : " ولو أتاهم القرآن نجما واحدا لسبق حدوث الأسباب التي أنزل الله بها، ولثقلت جملة الفرائض على المسلمين، وعلى من أراد الدخول في الدين ".
وللعلماء في كيفية نزول القرآن آراء ثلاثة :
الرأي الأول : وهو رأي شعبي، أنه ابتدأ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأزمان على النبي صلى الله عليه وسلم.
فقول القرآن :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾. من باب تسمية الشيء باسم أوله تيمنا به وتعظيما لشأنه، ( ومبادئ الملل هي التي يؤرخ بها لشرفها وانضباطها ).
الرأي الثاني : وهو رأي مقاتل بن سليمان، أنه نزل إلى سماء الدنيا في ثلاث وعشرين ليلة قدر من ثلاث وعشرين سنة، ينزل في كل ليلة قدر ما قدر إنزاله في تلك السنة، ثم ينزل به جبريل منجما على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرأي الثالث : وهو رأي الجمهور، أن القرآن نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجما في ثلاث وعشرين سنة، وأصحاب هذا الرأي يذهبون إلى أن القرآن تنزيلات ثلاثة :
أ- التنزل الأول إلى اللوح المحفوظ قال تعالى : بل هو قرآن مجيد*في لوح محفوظ. ( البروج : ٢١-٢٢ ).
ب- التنزل الثاني من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ودليله قوله سبحانه : إنا أنزلناه في ليلة القدر.
ج- التنزل الثالث من سماء الدنيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة، ودليله قوله تعالى :﴿ وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ﴾.
التفسير :
﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان... ﴾
بين الله أن الحكمة في تخصيص هذا الشهر بالعبادة والصيام هي أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن وأفيضت على البشر فيه هداية الرحمان، فحق أن يعبد الله تعالى فيه ما لا يعبده في غيره. تذكرا لإنعامه بهذه الهداية. وهي إنزال القرآن الذي هدانا الله تعالى به وجعل آياته بينات من الهدى أي من الكتب المنزلة، والفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل، فوصفه بأنه هدى في نفسه لجميع الناس، وأنه من جنس الكتب الإلهية، ولكنه الجنس العالي على جميع الأجناس فإنه آيات بينات من ذلك الهدى السماوي وكتب الله كلها هدى ولكنها ليست في بيانها كالقرآن.
﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه.... ﴾
أي من حضر منكم الشهر غير مسافر. أو من رأى منكم هلال الشهر، والمستيقن من مشاهدة الهلال بأية وسيلة أخرى يجب عليه الصيام كمن شاهده، ثم بين الله الرخصة للمريض والمسافر فقال سبحانه :
ومن كان مريضا أو عل سفر فعدة من أيام أخر :
أي إذا كان الصوم يجهد المريض أو المسافر فله أن يفطر وعليه عدة ما أفطر من أيام أخر يصومها بدلا من الأيام التي أفطرها في رمضان.
وقد اختلف العلماء في المرض المبيح للفطر على ثلاثة أقوال :
الأول : وهو قول أهل الظاهر : أي مرض كان وهو ما يطلق عليه اسم مرض.
الثاني : أن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام لوقع في مشقة عظيمة تنزيلا للفظ المطلق على أكمل أحواله.
الثالث : وهو قول أكثر الفقهاء أن المرض المبيح للفطر هو الذي يؤدي إلى الضرر في النفس أو زيادة علة غير محتملة كالمحموم إذا خاف أنه لو صام اشتدت حماه. فالمراد بالمرض ما يؤثر في تقويته، قال الشافعي : إذا أجهده الصوم أفطر وإلا فهو صحيح.
واختلف العلماء أيضا في مقدار السفر المبيح للفطر في رمضان فقال داود الظاهري : أي سفر ولو كان فرسخا. وقال الأوزاعي : السفر المبيح للفطر مسيرة يوم واحد. وقال الشافعي وأحمد مالك : أقله مسيرة يومين أو ستة عشر فرسخا. وقال أبو حنيفة وأصحابه : أقله مسيرة ثلاثة أيام( ٦٩ ).
﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾.
اليسر في اللغة السهولة، ومنه التيسير، قال صلى الله عليه وسلم بعثت بالحنيفية السهلة السمحة.
ومن كمال رأفته تعالى أنه نفى الحرج أولا ضمنا بقوله :﴿ يريد الله بكم اليسر ﴾. ثم نفاه صريحا بقوله :﴿ ولا يريد بكم العسر ﴾. ويقول سبحانه في آيات أخرى. ﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم*والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما*يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ﴾. ( النساء : ٢٦-٢٨ ).
أي أن الله سبحانه يريد التيسير والرأفة وتسهيل طرق الهداية والعبادة حتى يأخذ بيد الإنسان إلى طريق الفلاح والرشاد.
وفي الحديث الشريف يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا... ".
وهذه قاعدة أساسية في تكاليف الإسلام كلها، فهي يسر لا عسر، وهي توحي للقلب الذي يتذوقها بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها، وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد. سماحة تؤدي معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة، كأنما هي مسيل الماء الجاري، ونمو الشجر الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء. مع الشعور الدائم برحمة الله وفضله وبره، وعظيم نعمائه على عباده.
وقد جعل الله الصوم للمسافر والمريض في أيام أخرى لكي يتمكن اضطر من إكمال عدة أيام الشهر فلا يضيع عليه أجرها.
﴿ ولتكملوا العدة ﴾
أي عدة صوم رمضان فيتدارك المسلم، ما فاته من صيام بالقضاء.
أو المراد يجب إتمام صيام الشهر لمن كان مقيما صحيحا، وإتمام عدة القضاء لمن أفطر.
﴿ ولتكبروا الله على ما هداكم ﴾
أي تذكروه وتكبروه شاكرين له هدايتكم وتوفيقكم لصيام رمضان.
قال الشافعي : سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن : يقول : ولتكملوا العدة. أي عدة صوم رمضان : ولتكبروا الله. عند إكمالها، وإكمالها بغروب شمس آخر يوم رمضان.
وصيغة التكبير هي : الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
قال الشافعي وما زاد من ذكر الله فحسن، خصوصا الذكر المأثور مثل : الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، ولا شيء قبله ولا شيء بعده.
﴿ ولعلكم تشكرون ﴾
أي أن يستشعر الصائم فضل الله عليه ونعمه وتوفيقه فيفئ قلبه إلى الله راغبا حامدا معترفا له بالربوبية شاكرا له نعمة التوفيق والهداية، وبذلك تظهر منة الله في هذا التكليف الذي يبدوا شاقا على الأبدان والنفوس وتتجلى الغاية التربوية منه وهي إعداد المؤمن ليكون عبدا ربانيا مطيعا لله مراقبا له معترفا بفضله وجميل نعائمه.
* * *
الدعاء
﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون( ١٨٦ ) ﴾
تأتي هذه الآية في ثنايا الحديث عن الصيام ليستلهم المؤمن منها قرب الصائم من ربه، واستجابة الله سبحانه لدعائه، فإن الصوم لا يطلع عن حقيقته إلا الله. روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله عز وجل : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزيه ".
التفسير :
﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ﴾.
ما أجمل هذه الآية وما أبدع التعبير فيها عن قرب الإله الكريم من العبد إذا دعاه.
وروى ابن ماجة في سننه بإسناده عن عبد الله بن عمر كذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد " ( ٧١ ).
وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث لا ترد دعوتهم : الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول : بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ".
والدعاء في حقيقته مظهر من مظاهر العبادة الحقة فهو اعتراف لله بالربوبية وإنه على كل شيء قدير، وفي الدعاء عرفان من العبد بالذل والانكسار وإقرار بسمة العجز والافتقار وتصحيح نسبة العبودية، ويسن الدعاء في جوف الليل ودبر الصلوات المكتوبات وبين الأذان والإقامة وعند السجود، وعند السحر في الهزيع الأخير من الليل، وهو الوقت الذي تغار فيه النجوم وتنام العيون ويبقى الله الواحد القيوم.
روى البخاري ومسلم عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول : " من يدعني فاستجب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له " ( ٧٢ ).
* * *
ليلة الصيام
﴿ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تبشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون( ١٨٧ ) ﴾
المفردات :
ليلة الصيام : هي الليلة التي يصبح فيها الفرد صائما.
الرفث إلى النساء : الإفضاء إليهن، قال الأزهري : الرفث، كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة.
اللباس : الملابسة والمخالطة.
تختانون أنفسكم : أي تخونون أنفسكم بعمل شيء تعدونه حراما.
الخيط الأبيض : أول ما يمتد من بياض النهار كالخيط الممدود رقيقا ثم ينتشر.
الخيط الأسود : هو ما يمتد من سواد الليل مع بياض النهار، فالصبح إذا بدا في الأفق بدا كأنه خيط ممدود ويبقى بقية من ظلمة الليل، يكون طرفها الملاصق لما يبدوا من الفجر كأنه خيط أسود في جنب خيط أبيض.
الإتمام : الأداء على وجه التمام.
ولا تباشروهن : حقيقة المباشرة مس كل بشرة الآخر، أي ظاهر جلده والمراد بها ما أريد بالرفث.
الاعتكاف : هو المكث في المسجد طاعة لله وتقربا إليه.
الحدود : واحدهما حد، وهو في اللغة حاجز بين شيئين، ثم سمى بها ما شرعه الله لعباده منة الأحكام لأنها تحدد الأعمال وتبين أطرافها وغاياتها، فإذا تجاوز المرء خرج عن حد النصيحة، وكان عمله باطلا. والمراد من الآيات هنا دلائل الدين ونصوص الأحكام.
التفسير :
في أول فرض الصيام كانت المباشرة والطعام والشراب تمتنع لو نام الصائم بعد إفطاره، فإذا صحا بعد نومه من الليل. ولو كان قبل الفجر لم تحل له المباشرة ولم يحل له الطعام والشراب، وقد وقع أن بعضهم لم يجد طعاما عند أهله وقت الإفطار، فغلبه النوم ثم صحا فلم يحل له الطعام والشراب فواصل ثم جهد في النهار التالي وبلغ أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما وقع أن بعضهم نام بعد الإفطار، أو نامت امرأته ثم وجد في نفسه ما دفعه للمباشرة ففعل وبلغ أمره النبي صلى الله عليه وسلم.
وبدت المشقة في أخذ المسلمين بهذا التكليف فردهم الله إلى اليسر ونزلت هذه الآية تحل لهم المباشرة ما بين المغرب والفجر( ٧٣ ).
قال الإمام الرازي : وجمهور المفسرين على أن هذه الآية من قبيل النسخ لأنها قد نسخت كما كان حاصلا في أول فرضية الصيام من أن الصائم إذا نام بعد فطره لا يحل له الأكل أو الشرب أو الجماع إلى أن يفطر من الغد.
وير بعض العلماء أن الآية ليست من قبيل النسخ، وإنما هي إرشاد ما شرعه الله تعالى لعباده خلال شهر الصوم، من إباحة غشيان أزواجهم ليلا ومن جواز الأكل والشرب. حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود. ( وكأن الصحابة كانوا يتحرجون عن ذلك ظنا منهم أنه تتمة الصوم، ورأوا أن لا صبر لأنفسهم عن الأكل والشرب والجماع ليلا فبين الله لهم أن ذلك حلال لا حرج فيه، وأصحاب هذا الرأي يستشهدون لذلك بما رواه البخاري عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكانوا رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم.
فالمقصود من الآية الكريمة عند هؤلاء رفع ما توهمه بعض الصحابة من أن الأكل أو الشرب أو الجماع لا يجوز ما داموا قد ناموا بعد فطرهم لأن تعالى رءوف رحيم بهم، ولم يشرع لهم ما فيه حرج أو مشقة عليهم( ٧٤ ).
﴿ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم... ﴾
أي أحل الله لكم ليلة الصيام قربان نسائكم وقد علمنا الله النزاهة في التعبير عن هذا الأمر حين الحاجة إلى الكلام فيه بعبارات مبهمة كقوله : أو لامستم النساء، أفضى بعضكم إلى بعض، دخلتم بهن، فلما تغشاها حملت.
والرفث في الأصل الفحش من القول، وكلام النساء حين الجماع كنى به عن المباشرة للزوجة لها غالبا، يقال رفث في كلامه، وأرفث فيه إذا أفحش فيه، والمراد في الآية الجماع والمباشرة.
﴿ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾
أي رخص في مباشرتهن ليلة الصيام، لأن كلا من الزوجين يسكن إلى صاحبه ويكون من شدة القرب منه كالثوب الملابس له، وكانت العرب تسمي المرأة لباسا، وهذه حال تقوى معها الدواعي إلى المباشرة فمن رفقه تعالى بعباده أن أحلها لهم.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما موقع أهله : هن لباس لكم. قلت : هو استئناف كالبيان بسبب الإحلال، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهم مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن فلذلك رخص في مباشرتهن( ٧٥ ). وفي هذا التعبير القرآني ما فيه من اللطافة والأدب وسمو التصوير لما بين الرجل وزوجته من شدة الاتصال والمودة واستئثار كل واحد منهما بصاحبه.
﴿ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ﴾
قال الراغب : الاختيان مراودة الخيانة، ولم يقل تخونون أنفسكم لأنه لم تكن منهم الخيانة بل كان منهم الاختيان، فإن الاختيان تحرك شهوة الإنسان لتحري الخيانة وذلك هو المشار إليه تعالى : إن النفس لأمارة بالسوء( ٧٦ ).
والمعنى : علم الله أنكم كنتم تراودون أنفسكم على مباشرة نسائكم ليلا، وعلى الأكل بعد النوم، قبل أن يظهر الفجر الصادق، بل إن بعضكم قد فعل ذلك، فكان من رحمة الله بكم أن أباح الأكل والشرب والجماع في ليالي الصيام، وأن قبل توبتكم وعفا عنكم، أي محا أثر ما فعلتموه من الأكل والجماع قبل أن يأذن لكم بذاك.
﴿ فتاب عليكم وعفا عنكم... ﴾
أي قبل توبتكم وعفا عن خيانتكم أنفسكم، إذا خالفتم ما كنتم تعتقدون حين فهمتم من قوله كما كتب على الذين من قبلكم. تحريم ملامسة النساء ليلا، أو تحريمها بعد النوم كتحريم الأكل والشرب.
﴿ فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم... ﴾
بهذا أزال الله على المؤمنين الحرج، فأباح لهم أن يباشروا نساءهم ليلة الصيام، مع مراعاة أن الهدف ليس إرضاء الشهوات فحسب، بل إعفاء الزوجين، وحفظ النوع الإنساني والتمتع بالحلال والتأمل في فضائل الله على المؤمنين.
قال تعالى :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ﴾. ( الروم : ٢١ ). ( بهذا ترتبط العلاقة المباشرة بين الزوجين بغاية أكبر منهما، وأفقر أرفع من الأرض ومن لحظة اللذة بينهما، وبهذا تنظف هذه العلاقة وترق وترقى ) ( ٧٧ ).
لقد سما الإسلام بين الزوج والزوجة فجعلها آية من آيات الله وجعل المتع الجنسي حقا مشروعا، وإعطاء النفس حقها طاعة وعبادة إذا قصد بها طاعة الله.
وفي الحديث الشريف الصحيح : " إن لربك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لبدنك عليك حقا، فأعط لكل ذي حق حقه ".
﴿ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر... ﴾
أحلت هذه الآية للصائمين : أن يباشروا زوجاتهم، وأن يأكلوا ويشربوا من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
والخيط الأبيض كناية عن الشعاع الضوئي الممتد بعرض الأفق، فإذا بدأ ظهوره تميز من فوقه الليل أسود اللون.
وهو الذي كنت عنه الآية بالخيط الأسود فإذا اجتمعا على هذا النحو كان الفجر.
فالفجر عبارة عن مجموع الخيطين الأبيض والأسود.
﴿ ثم أتموا الصيام إلى الليل... ﴾
أي ثم استمروا في صيامكم إلى ابتداء الليل بغروب قرص الشمس، وما يلزمه من ذهاب شعاعها من جدران البيوت والمآذن، ويتلو ذلك إقبال الليل قال صلى الله عليه وسلم : " إذا أدبر النهار وأقبل الليل وغابي الشمس فقد أفطر الصائم ".
﴿ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ﴾
الاعتكاف هو الخلوة في المسجد تقريبا إلى الله، ويستحب الاعتكاف في رمضان وخصوصا في العشر الأواخر، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، والاعتكاف لون من السمو النفسي والزهد في حطام الدنيا والتفرع للطاعة والعبادة، ولا يكون الاعتكاف إلا في المسجد، ولذلك نهى المعتكف عن مباشرة الزوجة في فترة اعتكافه مراعاة لحرمة المسجد، وتجردا من شهوات الجسد وسموا بالروح في فترة من الفترات.
﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها ﴾
تلك إشارة إلى ما تقدم من أحكام. وسماها حدودا لأنها حجزت بين الحق والباطل.
والنهي في : فلا تقربوها. آكد من لا تعتدوها لأنه يشير إلى البعد عنها، وعدم الاقتراب منها، لتكون هناك منطقة أمان، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
﴿ كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ﴾
وعلى هذا النحو الدقيق وضح الله الأحكام للناس حتى لا يلتبس عليهم الحق بالباطل، وبهذا تصح عبادتهم وتسمو نفوسهم وتسكن التقوى في قلوبهم ( وكذلك تلوح التقوى غاية يبين الله آياته للناس ليبلغوها، وهي غاية كبيرة يدرك قيمتها الذين آمنوا المخاطبون بهذا القرآن في كل حين )( ٧٨ ).
***
الرشوة
﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون( ١٨٨ ) ﴾
المفردات :
المراد بالأكل : المراد به مطلق الأخذ والاستيلاء، وعبر عنه بالأكل، لأن الأكل أهم وسائل الحياة وفيه تصرف الأموال غالبا.
الباطل : في اللغة الزائل الذاهب، ويقال : بطا الأجير بطالة إذا تعطل واتبع اللهو، والمراد به هنا، كل ما لم يبح الشرع أخذه م المال وإن طابت به النفس كالربا والميسر وثمن الخمر والرشوة وشهادة الزور والسرقة و الغصب ونحو ذلك مما حرمه تعالى.
والإدلاء : إلقاء الدلو لإخراج الماء، ويراد به إلقاء المال إلى الحكام لإخراج الحكم للملقى، وقوله بها أي الأموال.
الفريق : الفريق من الشيء، الجملة والطائفة منه.
الإثم : هو شهادة الزور أو اليمين الفاجرة أو كل فعل يستحق صاحبه الذم والعقاب، وجمعه آثام.
التفسير :
﴿ ولا تأكلون أموالكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ﴾.
لا يأكل بعضكم مال بعض، وسماه ماله إشعارا بوحدة الأمة وتكافلها، وتنبيها إلى أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك أنت.
واستحلال الإنسان لمال غيره يجرئ على استحلال أكل ماله إذا كان في طاقته، وإذا فشا هذا الخلق في أمة من الأمم أدى بها إلى الضعف والتعادي والتباغض.
والباطل كلمة معروفة المعنى عند الناس بوجوهها الكثيرة، ويدخل فيها الربا والرشوة والغضب والاحتيال والغش والتدليس وكل كذب وسوء.
الخلاصة :
والخلاصة : أنه ينبغي للإنسان أن يطلب الكسب من الطرق المشروعة التي لا تضر أحدا.
وتدلوا بها إلى الحكام : أي ولا تلقوا بأموالكم إلى الحكام رشوة لهم.
لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم لا تعلمون :
أي لتأخذوا بعضا من أموال غيركم بواسطة يمين فاجرة أو شهادة زور أو نحو ذلك مما تتبثون به أنكم على حق فيما تدعون، وأنتم تعلمون أنكم على الباطل.
وهذه الآية الكريمة أصل من الأصول التي يقوم عليها إصلاح المعاملات، وقد أخذ العلماء منها حرمة أكل أموال الناس بالباطل وحرمة إنشاء الحكام ليقضوا للراشي بمال غيره.
روى الترمذي عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله الراشي والمرتشي والرائش " ( ٧٩ ) وهو الواسطة الذي يمشي بينهما.
قال القرطبي : " من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي لأنه يقضي بالظاهر " ( ٨٠ ).
وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما قطعة من نار فليحملها أو ليذرها " ( ٨١ ).
" فدلت هذه الآية الكريمة، وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر فلا يحل غي نفس الأمر حراما وهو حرام. ولا يحرم حلالا وهو حلال، وإنما هو ملزم في الظاهر فإن طابق ما في نفس الأمر فذاك، وإلا فللحكام أجره، وعلى المحتال وزره، ولهذا قال تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون. أي تعلمون بطلان ما تدعون وترجون في كلامكم، قال قتادة : اعلم يا ابن آدم، أن قضاء القاضي لا يحل لك حراما، ولا يحق لك باطلا، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى ويشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب، واعلموا أن من قضى له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبطل للمحق بأجود ما قضى به للمبطل على المحق في الدنيا " ( ٨٢ ).
* * *
الأهلة
﴿ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون( ١٨٩ ) ﴾
المفردات :
الأهلة : واحدها هلال وهو القمر في ليلتين أو ثلاث من أول الشهر لأن الناس يرفعون أصواتهم بالذكر حين رؤيته من قولهم، استهل الصبي إذا صرخ حين يولد، وأهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية.
المواقيت : واحدها ميقات وهو ما يعرف به الوقت، وهو الزمن المقدر المعين.
سبب النزول :
هذا مما سأل اليهود واعترضوا به على النبي صلى الله عليه وسلم فقال معاذ : يا رسول الله إن اليهود تغشانا ويكثرون مساءلتنا عن الأهلة، فما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يستوي ويستدير، ثم ينقص حتى يعوج كما كان ؟ فأنزل الله هذه الآية.
وقيل : إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال، وما سبب محاقه( ٨٣ ) وكماله، ومخالفته لحال الشمس، قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم( ٨٤ ).
التفسير :
﴿ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج... ﴾
يسألك بعض الناس عن الحكمة من خلق الأهلة، قل لهم يا محمد : إن الله تعالى قد خلقها لتكون معالم يوقت ويحدد بها صومهم وزكاتهم وحججهم وغير ذلك من أمور دينهم كما يؤقتون بها أمورهم الدنيوية مثل مواعيد الزراعة والتجارة وسداد الدين، والسفر والقدوم ونحو ذلك، ولو كان القمر على حالة واحدة لم يتيسر هذا التوقيت، وسواء أكان السؤال من اليهود، أو من بعض المسلمين عن الهلال فإن إجابة القرآن كانت من قبيل أسلوب الحكم. وهو إجابة السائل بغير ما يتطلبه سؤاله بتنزيل سؤاله منزلة غيره، تنبيها له على أن ذلك المخالف هو الأولى بالسؤال لأنه هو المهم بالنسبة له.
فأنت ترى هنا أن السائلين قد سألوا عن اختلاف الأهلة بالزيادة، والنقصان، فأجيبوا بيان الحكمة من خلقها فكأنه سبحانه يقول لهم : عليكم أن تسألوا عن الحكمة والفائدة من خلق الأهلة لأن هذا هو الأليق بحالكم وهو ما أجبتكم عليه، لا أن تسألوا عن سبب تزايدها في أول الشهر وتناقصها في آخره لأن هذا من اختصاص علماء الهيئة وأنتم لستم في حاجة إلى معرفة ذلك في هذا الوقت.
وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها.
سبب النزول :
روى البخاري وابن جرير عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله الآية( ٨٥ ).
وكأنهم كانوا يتحرجون من الدخول م الأبواب، من أجل سقف الباب أن يحول بينهم وبين السماء.
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : كان في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم بالحج فإن كان من أهل المدر يعني من أهل البيوت نقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج، أو يضع سلما فيصعد منه وينحدر عليه، وإن كان من أهل الوبر يعني أهل الخيام يدخل من خلف الخيمة، إلا من كان من الحمس.
وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل ومن الحديبية بالعمرة فدخل حجرته ودخل خلفه رجل أنصاري من بني سلمة، فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " لم دخلت وأنت قد أحرمت " فقال : " دخلت أنت فدخلت بدخولك ". فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " إني أحمس " أي من قوم لا يدينون بذلك. فقال له الرجل : وأنا ديني دينك، فنزلت الآية. وقيل إن هذا الرجل هو قطبة بن عامر الأنصاري.
" والحمس : قريش وكنانة وخزاعة وجشم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر بن معاوية، وسموا حمسا لتشديدهم في دينهم، والحماسة الشدة " ( ٨٦ ).
ووجه الاتصال بين دخولهم البيوت من ظهورها، وبين سؤالهم عن الأهلة : التعريض بأن السؤال عن الأهلة يعتبر كإتيان البيوت من ظهورها، وأن اللائق بحالهم ألا يسألوا عن هذا الأمر، الذي لم يستعدوا لإدراكه من الناحية العلمية.
والآية تعتبر مثلا فيمن يباشر الأمور بطريقة غير مألوفة.
﴿ واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾
أي راقبوا الله في أفعالكم وألزموا قلوبكم التقوى التي تتضمن القيام بجميع الواجبات واجتناب البدع والمنكرات.
ومن اتقى الله تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، ورزقه الله الهدى والفلاح، وفاز بالحياة المطمئنة في الدنيا، والنعيم الخالد في الآخرة.
* * *
القتال
﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين( ١٩٠ ) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين( ١٩١ ) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم( ١٩٢ ) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين( ١٩٣ ) ﴾
المفردات :
سبيل الله : دينه لأنه طريق إلى مرضاته.
يقاتلونكم : أي يتوقع منهم قتالكم.
إن الله لا يحب المعتدين : إن الله لا يرضى عن الذين جاوزوا ما حده الله لهم من الشرائع والأحكام.
سبب النزول :
أخرج صالح ابن عباس رضي الله عنهما : أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وصالحوه أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء.
" وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين، ورجع إلى المدينة، فلم كان في تجهز لعمرة القضاء، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام فنزلت هذه الآية، أي يحل لكم القتال إن قاتلوكم الكفار " ( ٨٧ ).
التفسير :
﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ﴾.
القتال في الإسلام قتال في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله ونصر دين الله، والعبرة في الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقد نزلت الآية في شأن أهل الحديبية تأمرهم بقتال من قاتلهم وهي مع ذلك خطاب لجميع المسلمين تأمر كل واحد أن يقاتل من قاتله ( ٨٨ ).
والمعنى : وقاتلوا من أجل إعلاء كلمة الله. الذين يبدءونكم بالقتال دفاعا عن أنفسكم وحريتكم في أداء العبادة، ولا تعتدوا بقتل النساء والصبيان والشيوخ والمسنين ولا بغير ذلك من أنواع الاعتداء كالتخريب وقطع الأشجار، فإن الاعتداء من السيئات التي يكرهها الله تعالى ولاسيما حين الإحرام وفي أرض الحرم وفي الأشهر الحرم.
﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم... ﴾
سبب النزول :
أخرج صالح ابن عباس رضي الله عنهما : أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وصالحوه أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء.
" وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين، ورجع إلى المدينة، فلم كان في تجهز لعمرة القضاء، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام فنزلت هذه الآية، أي يحل لكم القتال إن قاتلوكم الكفار " ( ٨٧ ).
المفردات :
و الثقف : الحذق في إدراك الشيء علما كان أو عملا، وقد يستعمل في مطلق الإدراك
من حيث أخرجوكم : من مكة.
الفتنة : الابتلاء، من قولهم فتن الصائغ الذهب إذا أذابه في النار ليستخرج منه الزغل، ثم استعملت في كل اختبار شاق كالإخراج من الوطن المحبب والفتنة في الدين.
التفسير :
المعنى : واقتلوهم حيث وجدتموهم في خل أو حرم، وأخرجوهم من ديارهم كما سبق أن فعلوا ذاك بكم، حيث أخرجوكم من دياركم، ولم يكتفوا بهذا بل تناولوا من بقي منكم من المسلمين في مكة بالتعذيب والتنكيل ليرتدوا عن الإسلام.
﴿ والفتنة أشد من القتل ﴾
أي والمحنة التي يفتن بها الإنسان بالإخراج من الوطن، والحرمان من المال، والتعرض لألوان القسوة والعذاب للتأثير في العقيدة اشد من القتل لاتصال تعذيبها وألم النفس بها، ومن هنا قيل :
القتل بحد السيف أهون موقعا
على النفس من القتل بحد فراق
وقيل لبعض العلماء : ما أشد من الموت ؟ قال : الذي يتمنى فيه الموت.
﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ﴾
أي لا تقاتلوا أيها المؤمنون أعداءكم عند المسجد الحرام احتراما له حتى يبدأ المشركون قتالكم عنده، فإن بدءوكم بالقتال فيه فلا حرج عليكم في قتلهم عنده، لأن المنتهك لحرمة المسجد الحرام إنما هو البادئ بالقتال فيه وهم المشركون، ولستم أنتم أيها المؤمنون لأن موقفكم إنما هو موقف المدافع عن نفسه.
فأنت ترى أن الآية قد حفظت للمسجد الحرام حرمته وهيبته ومكانته السامية لأن حرمته لذاته، وحرمة سائر الحرم من أجله، إلا أنها أذنت للمسلمين أن يدافعوا عن أنفسهم إذا ما هاجمهم المشركون عنده أو فيه. " دفعا للصائل المعتدي، كما بايع صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت شجرة الرضوان على القتال، لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من ثقيف والأحابيش عامئذ ثم كف الله القتال بينهم " ( ٨٩ ). فقال/ وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم.
﴿ فإن قاتلوكم فاقتلوهم ﴾
فإن ابتدأ المشركون بقتال المسلمين فعلى المسلمين أن يقتلوهم، وعبر بقوله : فاقتلوهم. بدل فقاتلوهم، للإيذان بأن المسلمين ألا يمكنوهم من المغالبة وأن يسارعوا بقتلهم.
كذلك جزاء الكافرين :
أي مثل هذا الجزء العادل من القتل والردع يجازي الله الكافرين الذين قاتلوا المؤمنين وأخرجوهم من ديارهم.
سبب النزول :
أخرج صالح ابن عباس رضي الله عنهما : أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وصالحوه أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء.
" وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين، ورجع إلى المدينة، فلم كان في تجهز لعمرة القضاء، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام فنزلت هذه الآية، أي يحل لكم القتال إن قاتلوكم الكفار " ( ٨٧ ).
﴿ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ﴾ " أي فإن تركوا القتال في الحرم وأنابوا إلى الإسلام والتوبة فإن الله يغفر ذنوبهم ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله، فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفر لمن تاب إليه " ( ٩٠ ).
﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله... ﴾
سبب النزول :
أخرج صالح ابن عباس رضي الله عنهما : أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وصالحوه أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء.
" وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين، ورجع إلى المدينة، فلم كان في تجهز لعمرة القضاء، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام فنزلت هذه الآية، أي يحل لكم القتال إن قاتلوكم الكفار " ( ٨٧ ).
المفردات :
يكون الدين لله : أي ويكون دين كل شخص خالصا لله لا أثر لخشية غيره فيه. فلا يفتن بصدره عنه ولا يؤدي فيه، ولا يحتاج إلى مداهنة ومحاباة، أو استخفاء ومداراة.
التفسير :
أي قاتلوا المشركين حتى لا تكون لهم قوة يفتنونكم بها في دينكم، وعليكم أيها المسلمون أن تقاتلوا المشركين وأن تكسروا شوكتهم وأن تقضوا عل جبروتهم حتى تزيلوا هذا الطاغوت من وجه الدعوة الإسلامية، وحتى يصير الناس أحرارا في عقائدهم، ويكون دين كل شخص خاصا لله لا أثر فيه لخشية غيره فلا يفتن بصده عنه ولا يؤذي فيه ولا يحتاج غيه إلى مهادنة ومحاباة أو استخفاء ومداراة.
وقد كان المسلمون في مكة مغلوبين على أمرهم، والمشركون هم أصحاب الحول والقوة، ثم هاجر المسلمون إلى المدينة وبدأ الجهاد في سبيل الله، فحطم المؤمنون طواغيت الكفر والضلال ثم فتحوا مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا.
فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين :
أي فإن انتهوا عما كانوا عليه وأذعنوا لتعاليم الإسلام فكفوا عن قتالهم فلا تعتدوا عليهم، لأن العقوبة والعدوان إنما تكون على الظالمين تأديبا لهم ليرجعوا عن غيهم وظلمهم.
حكمة مشروعية القتال
من هذه الآيات نلمح حكمة مشروعية القتال في الإسلام.
فقد دافع المسلمون دفاعا عن أنفسهم، وحماية لعقيدتهم، ودفعا لعدوا المعتدين، وتمكينا لدين الله في الأرض.
وقد مكث المسلمون في مكة ثلاثة عشر عاما لن يرفعوا سيفا، ولم يقاتلوا معتديا، وكان القرآن في مكة ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فيأمره بالصبر الجميل ويدعوه إلى الهجر الجميل فيقول سبحانه : ولربك فاصبر. ( المدثر : ٧ ). وكقوله تعالى : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل. ( الأحقاف : ٣٥ )
فلكم هاجر المسلمون إلى المدينة آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وربى الصحابة تربية إسلامية، وتقدم المسلمون للدفاع عن أنفسهم فقاتلوا المشركين في غزوات متعددة منها غزوة بدر وأحد والخندق والحديبية ثم فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا، ولم يكن القتال غاية ولكنه كن وسيلة من وسائل الدفاع، وسبيلا إلى نشر الدعوة وضرورة للقضاء على أعداء الإسلام، وإزاحة طواغيت الكفر، وتمكين كل ذي دين من عبادة ربه حرا طليقا.
قال تعالى :﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير*الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز*الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ﴾. ( الحج : ٣٩-٣١ ).
قال القرطبي :
قوله تعالى :﴿ وقاتلوا... ﴾هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله :﴿ ادفع بالتي هي أحسن ﴾. ( المؤمنون : ٩٦ ).
وقوله :﴿ ليست عليهم بمسيطر ﴾. ( الغاشية : ٣٢ ).
وقوله :﴿ فاعف عنهم وأصلح ﴾. ( المائدة : ١٣ ).
وقوله :﴿ واهجرهم هجرا جميلا ﴾. ( المزمل : ١٠ ).
وما كان مثله مما نزل بمكة.
فلما هاجر المسلمون إلى المدينة أمروا بالقتال فنزل : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم. قاله الربيع بن أنس وغيره.
وروى عن أبي بكر الصديق أن أول آية نزلت في القتال : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا. ( الحج : ٣٩ )
والأول أكثر، وإن لآية الإذن إنما نزلت في القتال عامة لمن قاتل ومن لم يقاتل من المشركين " ( ٩١ ).
* * *
الشهر الحرام
﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين( ١٩٤ ) وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين( ١٩٥ ) ﴾
المفردات :
الحرمات : واحدها حرمة وهي ما يجب احترامه والمحافظة عليه.
القصاص : المقاصة والمقاتلة بالمثل.
التفسير :
﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص... ﴾
إذا استباح المشركون الشهر الحرام الذي لا يحل فيه القتال وقاتلوكم فيه فقابلوا عدوانهم بمثله، واستبيحوا الحرب فيه كما استباحوا. فإن الحرمات فيها القصاص.
قال ابن عباس وقتادة وغيرهما : لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا في سنة ست من الهجرة، وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة وهو شهر حرام حتى قاضاهم على الدخول من قابل فدخلها في السنة الآتية هو ومن معه من المسلمين، وأقصه الله منهم فنزلت في ذلك هذه الآية :﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ﴾. وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال : لك يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى أو يغزوا، فإذا حضره حتى ينسلخ( ٩٢ ).
وسمي الشهر الحرام لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره من القتال ونحوه، والتعريف فيه على الراجح للجنس فهو يشمل الأشهر الحرم جميعا وهي أربعة : ذو القعدة وذو الحجة، ورجب.
قال تعالى :﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلمون فيهم أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين ﴾. ( التوبة : ٣٦ ).
﴿ والحرمات قصاص ﴾
والذي ينتهك المحرمات لا تصان حرمته وإذا أقدم المشركون على قتال المسلمين في الحرم أو في الشهر الحرام وجب على المسلمين أن يقاتلوهم على سبيل القصاص والمجازاة بالمثل حتى لا يتخذوا الأشهر الحرم ذريعة للغدر والإضرار بالمسلمين.
﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾
هذه الجملة هي النتيجة المتفرعة على ما سبق. وسمي جزاء الاعتداء اعتداء من باب المشاكلة.
وقد ورد في المعنى في كثير من آيات القرآن حيث أمر سبحانه بالعدل حتى مع المشركين وأمر بالانتصاف من الظالمين.
وقال تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾. ( النحل : ١٢٦ ).
وقال سبحانه :﴿ وجزاء سيئة سيئة بمثلها ﴾. ( الشورى : ٤٠ )
وقال عز شأنه :﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ﴾. ( الشورى : ٤١ ).
قال الألوسي :( واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق حتى لو ألقاه في ماء عذب ولم يلق في ماء ملح، واستدل به أيضا على أن من غصب شيئا أو أتلفه لزمه رد مثله، ثم إن المثل قد يكون عن طريق الصورة كما في ذوات الأمثال وقد يكون عن طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له ) ( ٩٣ ).
قال القرطبي :( واختلف العلماء فيمن استهلك أو أفسد شيئا من الحيوان أو العروض التي لا تكال ولا توزن، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وجماعة من العلماء : عليه في ذلك المثل ولا يعدل إلى القيمة إلا عند عدم المثل، لقوله تعالى :{ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدوا عليكم.
وقوله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به }. قالوا : وهذا عموم في جميع الأشياء كلها، وعضدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حبس القصعة المكسورة في بيت التي كسرتها ودفع الصحيحة وقال : " إنا بإناء وطعام بطعام " ( ٩٤ ).
أخرج أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : " ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية، صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فبعثت به فأخذني أفكل( ٩٥ ) فكسرت الإناء فقلت : يا رسول الله، ما كفارة ما صنعت ؟ قال : " إناء مثل إناء وطعام مثل طعام " ( ٩٦ ). ، وقال مالك وأصحابه : عليه في العروض لا تكال وتوزن القيمة لا المثل( ٩٧ ).
﴿ واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ﴾
أي راقبوا الله في أعمالكم وفي الانتصار لأنفسكم وترك الاعتداء فيما لم يرخص لكم فيه واعلموا أن الله مع الذين يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه بالنصر والرعاية والتأييد.
﴿ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيدكم على التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ﴾
المفردات :
إلقاء الشيء : طرحت حبس تراه، ثم استعمل في كل ما يطرح ويلقى مطلقا.
سبيل الله : هي طريق الخير والبر والمؤدي إلى إعزاز دينه كجهاد الأعداء وصلة الأرحام.
التهلكة : الهلاك، والمراد به هنا الإمساك عن النفقة في الاستعداد للقتال وترك الجهاد.
التفسير :
وابذلوا المال في سبيل عزة الدين وإعلاء كلمة الإسلام وشراء الأسلحة وعدد الحرب المتطورة التي تماثل ما عند أعدائكم إن لم تزد عنها ولا تبخلوا على النفقة والجهاد لأن ذلك يمكن عدوكم منكم فيسيطر على ممتلكاتكم ومقدساتكم وإذا بخلتم للذل والهلاك في الدنيا ولعقاب الله في الآخرة.
وأحسنوا أعمالكم وأتقنوها وأدوها على أحسن وجه إن الله يحب المحسنين، وفي الحديث الشريف :
" إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه، قيل وما إتقانه يا رسول الله ؟ قال : إخلاصه من الرياء والبدعة ".
إن الآيات تحث على الجهاد وتنهى عن العدوان والاعتداء، وتأمر بالإنفاق في سبيل الله. وتعتبر البخل والشح نوعان من الهلاك المعنوي، كما أن ترك الجهاد في سبيل الله إهدار لمنهج الإسلام وخروج عن طريقته الحكيمة.
قال القرطبي : في هذه الآية ثلاث مسائل :
الأولى : روى البخاري عن حذيفة : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. قال نزلت في النفقة.
" قلت : وروى الترمذي عن يزيد بن أبى حبيب عن أسلم بن أبى عمران قال : كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة ابن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا : سبحان الله أيلقي بيده إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز ألإسلام، وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح ؟ وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس : المعنى : لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل : ليس عندي ما أنفقه، وإلى هذا المعنى ذهب البخاري إذ لم يذكر غيره، والله أعلم ". ( ٩٨ )
وقال زيد بن أسلم : المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد وقد كان فعل ذلك قوم فأفادهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس.
وسبيل الله هنا الجهاد، واللفظ يتناول جميع سبله.
والباء بأيديكم زائدة، التقدير تلقوا أيديكم.
ونظيره :﴿ ألم يعلم بأن الله يرى ﴾. ( العلق : ١٤ ).
وقال المبرد : بأيديكم بأنفسكم فعبر بالبعض عن الكل( ٩٩ ) كقوله :﴿ فبما كسبت أيديكم ﴾. ( الشورى : ٣٠ ) بما قدمت يداك( الحج : ١٠ ).
الثانية : اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده.
وخلاصة الرأي : أنه إن علم ورغب على ظنه أن سيقتل من حمل وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكى نكاية أو سيبلى بلاء حسنا أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا( ١٠٠ ).
الثالثة : قوله تعالى :﴿ وأحسنوا ﴾ أي في الإنفاق في الطاعة وأحسنوا الظن بالله في أخلاقه عليكم، وقيل : وأحسنوا في أعمالكم بامتثال الطاعات، روى ذلك عن بعض الصحابة( ١٠١ ).
" ومضمون الآية : الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده، والإحسان أعلى مقامات الطاعة " ( ١٠٢ ).
وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن معنى الإحسان فقال : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ( ١٠٣ ).
أي أن تخلص في عبادتك مراقبا ربك متيقنا أنك تشاهده وتراه، فإن كنت لا تراه فإنه سبحانه مطلع عليك، وهذا الإحساس يعمق في قلبك تقوى الله وطاعته.
* * *
الحج والعمرة
﴿ وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب( ١٩٦ ) ﴾
المفردات :
الحصر والإحصار : الحبس والتضييق، يقال حصره عن السفر وأحصره إذا حبسه ومنعه.
الهدى : يطلق على الواحد والجمع وهو ما يهديه الحاج والمعتمر إلى البيت الحرام من النعم ليذبح ويفرق على الفقراء.
المحل :( بكسر الحاء ) مكان الحلول والنزول.
حاضروا المسجد الحرام : هم أهل مكة وما دونها إلى المواقيت.
المعنى الإجمالي :
أتموا الحج والعمرة خالصين لله بعيدين عن الرياء.
فإن منعتم من إتمامها وأنتم محرمون فعليكم إذا أردتم التحلل أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدى ولا تتحللوا من إحرامكم بالحلق حتى تعلموا أن الهدى المبعوث قد بلغ مكانه الذي يجب أن يراق فيه دمه وهو الحرم.
ومن كان مريضا أو به جروح ولا يستطيع التمسك بالإحرام ومقضياته فإنه يحلق رأسه وعليه فدية هي صيام ثلاثة أيام أو ذبح شاة أو التصديق بفرق على ستة مساكين ( الفرق مكيال بالمدينة يزن ستة عشر رطلا ).
فإذا زال الخوف من العدو فمن أتم العمرة وتحلل وبقي متمتعا إلى زمن الحج ليحج من مكة فعليه دم ( يذبح شاة أو يشترك مع سبعة في ذبح جمل أو بقرة ).
فإذا لم يجد ثمن الهدى فعليه أن يصوم ثلاثة أيام قبل يوم عرفة، وسبعة أيام إذا رجع إلى بلده.
إلا إذا كان من أهل مكة، لأنهم يستطيعون أداء العمرة في جميع أيام السنة، ولذلك يفردون الحج ولا يضمون إليه العمرة.
التفسير :
تعتبر هذه الآية وما بعدها من اجمع الآيات التي وردت في القرآن الكريم مبينة ما يتعلق بأحكام الحج وآدابه، ويفترق الحج عن العمرة في عدة أشياء هي :
١. الحج فريضة مرة في العمر لمن استطاع إليه سبيلا.
أما العمرة فهي سنة مؤكدة عند الحنفية والمالكية وفرض عند الشافعية والحنابلة.
٢. الحج له وقت معين يؤدى فيه من السنة. أما العمرة فتؤدى في أي وقت من أوقات السنة.
٣. ليس في العمرة وقوف بعرفة، ولا نزول بمزدلفة، ولا رمي جمار، ولا جمع بين الصلاتين، ولا طواف قدوم.
٤. ميقات العمرة الحل لجميع الناس، وميقات للمكي الحرم.
٥. أفعال الحج أربعة وهي :
- الإحرام من الميقات.
- الطواف بالبيت.
- السعي بين الصفا والمروة.
- التحلل من الإحرام بالحلق أو التقصير.
وأفعال الحج عشرة وهي :
- الإحرام من الميقات.
- الطواف بالبيت عند القدوم.
- السعي بين الصفا والمروة.
- الوقوف بعرفة.
- المبيت بمزدلفة.
- المبيت في منى الليلة التالية.
- رمي الجمار ٤٩ حصاة أو ٧٠ حصاة.
- ذبح الهدى لمن عليه هدى.
- التحلل من الإحرام.
- طواف الإفاضة.
﴿ وأتموا الحج والعمرة لله... ﴾
أي أتموا هذين النسكين خاصين لوجه الله. وقد كانت العرب تقصد الحج للاجتماع والتظاهر والتفاخر وقضاء الحوائج وحضور الأسواق دون أن يكون الله تعالى فيه حظ يقصد، ولا قرابة تعتقد، فأمر الله المسلمين أن ينزهوا عبادتهم عن الأفعال القبيحة والأقوال السيئة، وأن يخلصوا أداءها لله.
والتجارة لا تنافي الإخلاص إذا لم تقصد لذاتها.
بدليل قوله تعالى :﴿ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ﴾. ( البقرة : ١٩٨ )
وأول حجة حجها المسلمون كانت سنة تسع بإمرة أبى بكر رضي الله عنه وكانت تمهيدا لحجة النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر، وفيها أخبر أبو بكر المشركين الذين حجوا ألا يطوف بعد هذا العام مشرك، ونزلت الآية : إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا. ( التوبة : ٢٨ ).
﴿ فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي... ﴾
أي إن منعتم وأنتم محرمون من إتمام النسك بسبب عدو أو مرض أو نحوهما وأردتم أن تتحللوا فعليكم تقديم ما تيسر لكم من الهدى إبلا أو بقرا أو غنما أو معزا.
يذبحه المحصر عند الأكثرين حيث أحصر لأنه صلى الله عليه وسلم ذبح بالحديبية، لما أحصر فيها وهي من الحل.
وعند أبو حنيفة رحمه الله يبعث به إلى الحرم، ويتفق مع من بعثه على يوم يذبح فيه فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تحلل، لقوله تعالى :﴿ ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ﴾.
وبعض العلماء كالشافعية والمالكية يرون ن المراد بالإحصار في الآية ما كان بسبب عدو، كما حدث للمسلمين في الحديبية، أما إذا كان الإحصار بسبب مرض، فإن الحاج أو المعتمر على إحرامه حتى يبرأ من مرضه ثم يذهب إلى البيت فيطوف به سبعا ويسعى بين الصفا والمروة، وبهذا يتحلل من عمرته أو حجه، ولا يتحلل بالذبح عندهم لا يكون إلا في حالة الإحصار بسبب العدو.
أما الأحناف فيرون أن الإحصار سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو ما يشابههما فإنه يسيغ التحلل بالذبح إذ الآية عندهم تعم كل منع، وعلى من أحصر أن يقضي الحج أو العمرة فيما بعد.
ومن لا هدلا معه وقت الإحصار ولا قدرة له عليه، ثم أهدى عندما يقدر عليه، نقله القرطبي عن الشافعي، ويرى بعض الفقهاء إن المحصر بعدو لا يجب عليه القضاء وله ثواب الفريضة، بأن لم يسبق له حج ولا عمرة، وإلا وجب عليه أداؤها عندما يستطيع.
﴿ ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله... ﴾
أي لا تتحللوا من إحرامكم بالحلق حتى تعلموا أن الهدى المبعوث قد بلغ مكانه الذي يجب أن يراق فيه دمه وهو الحرم.
وهذا رأي الأحناف، فقد قرروا أن المراد بالمحل البيت العتيق فهو اسم مكان لأن الله عو وجل قال في آية أخرى : ثم محلها إلى البيت العتيق. ( الحج : ٣٣ ).
وعليه فلا يجوز للمحصر أن يحلق ويتحلل إلا بعد أن يصل الهدى الذي يرسله إلى البيت الحرام ويذبح.
أما جمهور الفقهاء فيرون أن محل الهدى للمحصر هو المكان الذي فيه الإحصار، دليلهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نحر هو وأصحابه هديهم بالحديبية وهي ليست من الحرم، وذلك عندما منعه المشركون من دخول مكة.
قال الإمام الرازي : ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية، فقد قال الشافعي وغيره : المحل في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل : وقال أبو حنيفة : إنه اسم للمكان( ١٠٤ ).
﴿ فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ﴾.
يجب على المحرم إذا كان صحيحا ألا يخلع ملابس الإحرام ولا يحلق شعره أو يقصه طول مدة الإحرام، فإن كان مريضا بمرض يحوجه إلى الحلق فله أن يلبس ملابسه العادية، ويؤدي الفدية عن ذلك، ومن كان برأسه أذى من حشرات أو جروح يستدعي علاجه أن يحلق، حلق وفدى. والفدية هنا صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين صاع من الطعام أو ذبح شاة وتوزيعها على الفقراء.
وعن ابن عباس في قوله :﴿ من صيام أو صدقة أو نسك ﴾. قال : إذا كان أو فأية أخذت أجزءا عنك، قال ابن أبى حاتم، وروى عن مجاهد وعكرمة وعطاء وغيرهم نحو ذلك، قلت وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام :
إن شاء صام وإن شاء تصدق بفرق( ١٠٥ )، وهو ثلاثة أصع لكل مسكين نصف صاع، وهو مدان وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء أي ذلك فعل أجزأه( ١٠٦ ).
﴿ فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ﴾.
أي فإذا تمكنتم من أداء مناسك الحج ثم تحلل من إحرامه وتمتع بحظ الروح في العمرة وبحظ الجسد في التحلل من الإحرام. ثم أحرم بالحج يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة وأدى مناسك الحج فعليه ما استيسر له الحصول عليه من الأنعام سواء الإبل أو البقر أو الغنم أو المعز يذبحه جبرا للتمتع عند قوم أو شكر لله عليه عند آخرين، حيث تقرب إلى الله بالعمرة، قبل أن يتقرب إليه بالحج.
ويذبح الهدى يوم النحر ويأكل كل منه كالأضحية لأنه دم شكران على نعمة التمتع فأجاز أبو حنيفة الأكل منه.
وذهب الشافعي إلى أن التمتع فيه تقصير والهدى لجبر هذا التقصير، ولهذا لا يأكل منه صاحبه عند الشافعي.
﴿ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ﴾
أي فمن لم يجد الهدى لعدم وجوده، أو عدم المال الذي يشتري به. فعليه صيام ثلاثة أيام في أيام الإحرام بالحج.
وقد جعل سبحانه الصيام بدلا من الهدى زيادة في الرخصة والرحمة وزيادة في الرفق والتيسير، فقد جعله على مرحلتين إحداهما تكون في وقت الحج، ويفضل كثير من الفقهاء أن يصوم سادس ذي الحجة وسابعه وثامنه، وثانيتهما تكون بعد الرجوع إلى أهله حيث يطمئن ويستقر فيصوم سبعة أيام.
﴿ تلك عشرة كاملة... ﴾
أي هذه الأيام الثلاثة، والأيام السبعة عشرة كاملة، ووصفها بالكمال للتأكيد كما تقول العرب رأيت بعيني، وسمعت بأذني وكتبت بيدي( ١٠٧ ).
وقال الحسن، كاملة في الثواب كمن أهدى، وقيل كاملة في البدل عن الهدى يعني العشرة كلها بدل عن الهدى، وقيل لفظها لفظ الإخبار ومعناها الأمر أي أكملوها فذلك فرضها( ١٠٨ ).
﴿ ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ﴾
أي أن أهل الآفاق هم الذين يحتاجون إلى هذا التمتع لما يلحقهم مكن المشقة بالسفر إلى الحج وحده ثم العمرة وحدها، أما أهل الحرام فليسوا في حاجة إلى ذلك، فلا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام، لأن في إمكانهم أداء العمرة طول العام.
﴿ واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾
ختم الآية بعد ذكر أحكامها بطلب التقوى جريا على النسق المطرد في آيات الأحكام السابقة.
أي راقبوا الله وحافظوا على امتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه.
واعلموا أن شديد العقاب : أي لمن خالف أمره وانتهك حرماته وركب معاصيه.
* * *
أشهر الحج
﴿ الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقوني يا أولي الألباب( ١٩٧ ) ﴾
المفردات :
فرض فيهم الحج : أوجبه على نفسه.
الرفث : لغة قول الفحش، وشرعا قربان النساء.
الفسوق : لغة التنابز بالألقاب كما جاء في قوله تعالى :﴿ ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق ﴾. ( الحجرات : ١١ ).
وشرعا : الخروج عما حدده الشارع للمحرم إلى ما كان مباحا في الحل كالصيد والطيب والزينة باللباس المخيط.
الجدال : المراء والخصام، ويكثر عادة بين الرفقة في السفر، لأنه مشقة تضيق بها الصدور.
الزاد : هو الأعمال الصالحة وما يدخر من الخير والبر.
التقوى : هي ما يتقي به سخط الله وغضبه من أعمال الخير والتنزه عن المنكرات والمعاصي.
التفسير :
﴿ الحج أشهر معلومات... ﴾
أي لأداء فريضة الحج أشهر معلومة لدى الناس، وهي شوال وذو القعدة وعشر ذو الحجة، وهذا هو المروى عن ابن عباس.
ولا يصح عند الشافعية الإحرام به قبل أشهره ليتمه في أشهره، ويصح مع الكراهة عند الحنفية.
﴿ فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج... ﴾
فمن ألزم نفسه في تلك الأشهر بالحج فعليه أن يبتعد عن الرفث، وهو جماع النساء أو ذكر لهن أو الكلام الفاحش مطلقا، وعليه أيضا أن يبتعد عن كل إثم يشوب عبادته، وأن يتجنب المجادلة لأنها توغر صدور الرفقاء والخدم وغيرهم، فإن الوقت وقت مودة وصفاء وتسامح، والجميع يشتركون في المناسك ويرغبون في طلب الثواب، ثم حثهم على ضبط أنفسهم والابتعاد عما نهوا عنه فقال سبحانه :﴿ وما تفعلوا من خير يعلمه الله ﴾.
هو تحريض وحث على حسن الكلام مكان الفحش، وعلى البر والتقوى في الأخلاق مكان الفسوق والجدال.
﴿ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقوني يا أولي الألباب ﴾.
روى البخاري عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس( ١٠٩ ) فأنزل الله تعالى :﴿ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ﴾.
وعليه أكثر المفسرين، قال الشعبي : الزاد التمر والسويق، قال ابن العربي : أمر الله تعالى بالتزود لمن كان له مال، ومن لم يكن له مال فإن كان ذا حرفة يحتاج إليها الناس فلا خطاب عليه.
والمعنى تزودوا أيها المفسرون بالطعام واتقوا طلبه من غيركم والإثقال عليهم فإن خير الزاد اتقاء الأثقال على الناس أو تزودوا المعاش بأخذ الزاد وخير الزاد اتقاء المنهيات فأمرهم أن يضموا إلى التزود التقوى، وجاء قوله : فإن خير الزاد التقوى، وجاء قوله : فإن خير الزاد التقوى. محمولا على المعنى لأن معنى وتزودوا : اتقوا الله في إتباع ما أمركم به من الخروج بالزاد، قال أهل الإشارات : ذكرهم الله تعالى سفر الآخرة وحثهم على تزود التقوى فإن التقوى زاد الآخرة.
﴿ واتقوني يا أولي الألباب ﴾ أي خافوا عقابي يا أصحاب العقول والأفهام.
* * *
عرفات
﴿ ليس علبكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم إن كنتم من قبله لمن الضالين( ١٩٨ ) ﴾
المفردات :
الجناح : الحرج والإثم من الجنوح، وهو الميل عن القصد.
أن تبتغوا : أي أن تقصدوا وتطلبوا.
فضلا م ربكم : المراد به الرزق من تجارة أو غيرها في أيام الحج.
أفضتم : اندفعتم، يقال أفاض في الكلام إذا انطلق فيه كما يفيض الماء ويتدفق.
عرفات : موقف الحاج على جبل عرفات في أداء المناسك، وعرفوا اسمه لليوم الذي يقف فيه الحاج، وهو التاسع من ذي القعدة.
الذكر : الدعاء والتلبية والتكبير والتحميد.
المشعر الحرام : هو جبل المزدلفة يقف عليه الإمام، وسمي بهذا الاسم لأنه معلم للعبادة والشعائر، وفي هذا المكان بني مسجد حديث وقد روى الحاكم وصححه عن ابن عمر : " المشعر الحرام المزدلفة كلها ". والمشاعر : هي المعالم الظاهرة، وإنما سميت المزدلفة " المشعر الحرام " لأنها داخل الحرم.
المعنى الإجمالي :
أباح الله للحاج مزاولة التجارة وابتغاء الرزق في موسم الحج على أن يجعل همته الأساسية متوجهة إلى أعمال الحج.
وإذا صدر الحجاج من عرفات بعد الوقوف بها ووصلوا المزدلفة ليلة عيد النحر فليذكروا الله عند المشعر الحرام، وهو جبل المزدلفة بالتهليل والتكبير، وليحمدوه على هدايته إياهم إلى الدين الحق والعبادة القويمة في الحج وغيره، وقد كانوا قبل هداية الإسلام في ضلال عن صراط الهدى والرشاد.
التفسير :
﴿ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم... ﴾
أي لا حرج ولا إثم في الكسب أيام الحج إذا لم يكن الكسب هو المقصود بالذات.
روى البخاري عن ابن عباس قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم فنزلت :﴿ وليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ﴾ أي في مواسم الحج( ١١٠ ).
وهكذا رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور، وروى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال : كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج يقولون : أيام ذكر، فأنزل الله : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم.
وذهب أبو مسلم إلى أن المراد التجارة بعد انقضاء أعمال الحج، والتقدير عنده، فاتقون في أعمال الحج، ثم بعد ذلك لا جناح عليكم، وهو نظير قوله تعالى :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾. ( الجمعة : ١٠ ).
﴿ فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام... ﴾
أي يطلب من الحاج إذا دفع من عرفات إلى المزدلفة أن يذكر الله عند المشعر الحرام بالدعاء والتحميد والثناء والتلبية.
والوقوف بعرفة ركن لا يدرك إلا من أدركه، ولا نعلم خلافا بين العلماء في ذلك، إلا ما روى عن الحسن أنه قال : إنه واجب، من أدركه فقد أداه، ومن لا فيكفيه الوقوف بجمع ( ١١١ ).
وظاهر عموم القرآن والسنة الثابتة يدل أن عرفة كلها موقف، قال صلى الله عليه وسلم : " وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف " رواه مسلم رواه مسلم ( ١١٢ ).
وقد اختلف في الذكر المطلوب عند المشعر الحرام : فقال بعضهم المراد منه الجمع بين صلاة المغرب وصلاة العشاء بمزدلفة.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم لمن وجده يصلي في الطريق " الصلاة أمامك " وقال بعضهم : بل المراد الذكر باللسان من التسبيح والتحميل والتهليل والتلبية، وقد ورد عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس وقال : كان الناس في هذه الليلة لا ينامون.
﴿ واذكروه كما هداكم ﴾
أي اذكروا الله تعالى ذكرا مشابها لهدايته لكم، أو اذكروه كما علمكم كيف تذكرونه، ولا تعدلوا عنه إلى ما كنتم تفعلونه في الجاهلية، أو اذكروه لهدايته إياكم.
﴿ وإن كنتم من قبله لمن الضالين ﴾
وإنكم لولا هذه الهداية لبقيتم على ضلالكم وجهلكم بالدين الحق، ولكن الله من عليكم بهذه الهداية فأكثروا من ذكره وشكره عليها.
وقت الوقوف بعرفة :
وقت الوقوف بعرفة من الزوال يوم عرفة على طلوع الفجر الثاني من يوم النحر لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بعدة أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس، وقال : " لتأخذوا عني مناسككم ".
وقال في هذا الحديث : " فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك ".
وهذا هو مذهب مالك وأبى حنيفة والشافعي رحمهم الله وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة. واحتج بحديث عروة بن مضرس( ١١٢ ) بن حارثة بن لام الطائي قال : " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت : يا رسول الله، إني جئت من جبل طيئ، أكلت راحلتي وأتبعت نفسي، والله ما تركت من جبل ( ١١٤ ) إلا وقفت عليه فهل من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهد صلاتنا فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه، وقضى تفثه " ( ١١٠ ) رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي. ويقال للجبل فيوسط عرفات جبل الرحمة( ١١٦ ).
فضل يوم عرفة :
قال القرطبي : يوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم يكفر الله فيها الذنوب ويضاعف فيه الصالح من الأعمال قال صلى الله عليه وسلم " صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية " ( ١١٧ ). أخرجه الصحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم : " أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ".
وقد استحب أهل العلم صوم عرفة لغير الحج.
أما الحاج فيستحب له الفطر ليتقوى على الدعاء( ١١٨ ).
* * *
الإفاضة
﴿ ثم أفيضوا من حيث أفاض الله الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم( ١٩٩ ) ﴾
جمهور المفسرين على أن المراد من هذه الإفاضة- الإفاضة من عرفات.
روى البخاري ومسلم : أن قريشا ومن دان دينهم من كنانة وجديلة قيس، وهم الحمس
( واحدهم الحمس وهو الشديد الصلب في الدين والقتال ) كانوا يقفون في الجاهلية بمزدلفة ترفعا عن الوقوف مع العرب في عرفات.
فأمر نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها ليبطل ما كانت عليه قريش( ١١٩ ).
﴿ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس... ﴾
فالمعنى : عليكم أن تفيضوا مع لناس من مكان واحد تحقيقا للمساواة وتركا للتفاخر عدم الامتياز لأحد من أحد وذلك من أهم مقاصد الدين.
﴿ واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ﴾.
أي طلبوا منه المغفرة فإن رحمته واسعة وهو ستار على عباده رحيم بهم، وتلمح حكمة القرآن في لمسه للقلوب ودعوته إلى التوبة وتخير المناسبة لتأكيد هذه الدعوة.
قال ابن كثير في تفسيره : " كثيرا ما يأمر الله بكره بعد قضاء العبادات، ولهذا ثبت في صحيح مسلم : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر ثلاثا " وفي الصحيحين : أنه ندب التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين.
روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سيد الاستغفار أن يقول العبد " اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا أعبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعن، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " من قالها في ليلته فمات في ليلته دخل الجنة، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة " ( ١٢٠ ).
وفي الصحيحين أن أبا بكر قال : يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال قل :
( اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) ( ١٢١ ) والأحاديث في الاستغفار كثيرة( ١٢٢ ).
* * *
حسنة الدنيا والآخرة
﴿ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وما له في الآخرة من خلاق( ٢٠٠ ) ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار( ٢٠١ ) أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب( ٢٠٢ ) ﴾
المفردات :
الخلاق : الحظ والنصيب.
تمـــهيد :
قال ابن عباس : كانوا أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم :" كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : واذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا. ( ١٢٣ ).
ويروى أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتناشدون فأمرهم الله أن يذكروه بعد قضاء مناسك الحج. كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية أو أشد من ذكرهم إياهم.
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في اليوم الثاني من أيام التشريق، فأرشدهم إلى تلك المفاخرات فقال " أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
التفسير :
﴿ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ﴾
فإذا فرغتم من عبادتكم، وأديتم أعمال حجكم، فتوفروا على ذكر الله وطاعته كما كنتم تتوفرون على ذكر مفاخر آباءكم بل عليكم أن تجعلوا ذكركم لله تعالى أكثر من ذكركم لمآثر آباءكم، لأن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذبا أدى إلى الخزي في الدنيا والعقوبة في الآخرة، وغن كان صدقا فإنه في الغالب يؤدي إلى العجب وكثرة الغرور، أم إذا ذكر الله بإخلاص وخشوع فثوابه وأجره كبير، وفضلا عن ذلك فإن المرء إذا كان لا ينسى أباه لأنه سبب في وجوده فأولى به ثم أولى ألا ينسى الذي خلق أباه وهو الله رب العالمي.
﴿ فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ﴾
أي من الناس نوع يقول في دعائه يا ربنا آتنا ما نرغبه في الدنيا فنحن لا نطلب غيرها، وهذا النوع ليس له في الآخرة من : خلاق. أي نصيب وحظ كبير من الخير.
قال أبو وائل والسدي وابن زيد : كانت العرب في الجاهلية تدعو في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو، ولا يطلبون الآخرة إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمون بها فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم. ويجوز أن يتناول هذا الوعيد المؤمن أيضا( ١٢٤ ).
إذا كان جل اهتمامه في ذكره ودعائه حظ الدنيا خاصة من الجاه والغنى والنصرة على الأعداء إلى نحو ذلك من الحظوظ العاجلة، والعبرة في الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي تشمل كل من استولى عليه حب الدنيا وشهواتها ومتعها فأصبح لا يفكر إلا فيها، ولا يهتم إلا بها، صارفا نظره عن الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب.
﴿ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ﴾.
تمـــهيد :
قال ابن عباس : كانوا أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم :" كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : واذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا. ( ١٢٣ ).
ويروى أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتناشدون فأمرهم الله أن يذكروه بعد قضاء مناسك الحج. كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية أو أشد من ذكرهم إياهم.
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في اليوم الثاني من أيام التشريق، فأرشدهم إلى تلك المفاخرات فقال " أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
المفردات :
حسنة الدنيا : هي العافية أو المرأة الصالحة أو الأولاد البررة، أو العلم والمعرفة.
حسنة الآخرة : هي الجنة أو رؤية الله تعالى والأولى التعميم في كل هذا.
التفسير :
إنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء ثم يطلبون الحسنة في الدارين ولا يحددون نوع الحسنة، بل يدعون اختيارها لله والله يختار لهم ما يراه حسنة لهم.
حسنة في الدنيا والآخرة :
قال القرطبي : واختلف في تأويل الحسنتين على أقوال عديدة، فروى عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أن الحسنة في الدنيا المرأة الحسناء وفي الآخرة الحور العين.
﴿ وقنا عذاب النار ﴾ : المرأة السوء.
وقلت وهذا فيه بعد ولا يصح عن علي لأن النار حقيقة في النار المحرقة وإطلاق المرأة على النار تجوز.
وقال قتادة : حسنة الدنيا العافية في الصحة وكفاف المال. وقال الحسن : حسنة الدنيا العلم والعبادة وقيل غير هذا.
والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعم الدنيا والآخرة، وهذا هو الصحيح فإن اللفظ يقتضي هذا كله.
فإن حسنة : نكرة في سياق الدعاء، فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل، وحسنة الآخرة الجنة بإجماع.
وقيل : لم يرد حسنة واحدة، بل أراد أعطنا في الدنيا حسنة فحذف الاسم( ١٢٥ ).
فضل الدعاء بهذه الآية :
هذه الآية من جوامع ادعاء لأنها جمعت بين خيرا الدنيا والآخرة.
وفي الصحيحين عن أنس قال : " كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
" اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " قال : فكان أنس إذا أراد أن يدعو دعا بها فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه( ١٢٦ ).
وقد ذكرت الآيتان من يطلب الدنيا وحدها، ومن يطلبها في الآخرة، ولم تذكر من يطلب الآخرة وحدها لأن الدنيا مزرعة الآخرة، وهي نعم المطية في الجنة، والضرب في مناكبها طلبا للرزق عبادة والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
وفي الآية إيماء إلى أن الغلو في الدين والتشدد فيه مذموم خارج سنن الفطرة وقد نهى الله أهل الكتاب عند وذمهم عليه. ونهى الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ وقنا عذاب النار ﴾ أي احفظنا من عذابها بالتوفيق للطاعة، والتنفير من المعصية.
﴿ أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب ﴾
تمـــهيد :
قال ابن عباس : كانوا أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم :" كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : واذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا. ( ١٢٣ ).
ويروى أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتناشدون فأمرهم الله أن يذكروه بعد قضاء مناسك الحج. كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية أو أشد من ذكرهم إياهم.
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في اليوم الثاني من أيام التشريق، فأرشدهم إلى تلك المفاخرات فقال " أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
إن المؤمن خليفة الله في الأرض وقد طلب من الخليفة ألا يحصر نفسه في دائرة الأرض وعليه أن يتطلع إلى ما عند الله وأن يطلب في دعائه حسنة الدنيا و حسنة في الآخرة.
﴿ أولئك لهم نصيب مما كسبوا ﴾
واسم الإشارة يعود إلى الفريق الثاني فريق الإسلام أي لهم ثواب الحج أو ثواب الدعاء فإن دعاء المؤمن عبادة وقيل إن الإشارة تعود إلى الفريقين أي لكل من الفريقين نصيب من عمله على قدر ما نواه.
وهو مثل قوله تعالى :﴿ ولكل درجات مما عملوا ﴾. ( الأنعام : ١٣٢ ).
﴿ والله سريع الحساب ﴾ : فيوفي لكل كاسب أجره عقب ماله، فالله عز وجل عالم بما للعباد وما عليهم فلا يحتاج إلى ذكر و تأمل إذ قد علم ما للمحاسب وما عليه.
وقيل المعنى لا يشغله شأن عم شأن فيحاسبهم في حالة واحدة كما قال سبحانه :﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ﴾. ( لقمان : ٢٨ ).
قال الحسن : حسابه أسرع من لمح البصر.
وقيل لعلي بن أبى طالب رضي الله عنه كيف يحاسب الله العباد في يوم ؟ قال : كما يرزقكم في يوم، ومعنى الحساب : تعريف الله عباده مقادير لجزاء على أعمالهم وتذكيرهم إياهم بما قد نسوه.
قلت والكل محتمل فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف الحساب عنه بالأعمال الصالحة، وإنما يخفف الحساب في الآخرة علة من حاسب نفسه في الدنيا( ١٢٧ ).
وفي هذه الجملة الأخيرة من الآية وعد من الله لعباده أنهم متى تضرعوا إليه بقلب سليم أجاب لهم دعاءهم وأعطاهم سؤالهم.
* * *
ذكر الله
﴿ واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون( ٢٠٣ ) ﴾
المفردات :
أيام معدودات : أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر، والتشريق تقديم اللحم.
تعجل : استعجل.
تحشرون : تجمعون.
المعنى الإجمالي :
واذكروا الله بالتكبير وغيره من أيام معدودات، وهي أيام رمي الجمار بمنى، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وليس بلازم أن يبقى الحاج الأيام الثلاثة بمنى ويرمي فيها، بل أن يقتصر على يومين، لأن قوام الخير تقوى الله، لا مقدار العدد، والتقوا الله دائما واعلموا أنكم إليه تحشرون، وتسألون عن أعمالكم.
التفسير :
﴿ واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه... ﴾
أي كبروا الله في أدبار الصلوات وعند ذبح القرابين ورمي الجمار.
والمراد بالأيام المعدودات أيام التشريق التي بعد يوم النحر، والتشريق تقديم اللحم.
قال القرطبي : ولا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام التشريق، وأن هذه الثلاثة الأسماء واقعة عليها، وهي أيام رمي الجمار( ١٢٨ ).
فالآية الكريمة تأمر الحجاج وغيرهم من المسلمين أن يكثروا من ذكر الله في هذه الأيام المباركة لأن أهل الجاهلية كانوا يشغلونها بالتفاخر ومغازلة النساء، ويزعمون أن الحج قد انتهى بانتهاء يوم النحر وهو اليوم العاشر من ذي الحجة.
ولقد بينا لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأيام ينبغي أن تعمر بذكر الله وبشكره على نعمه.
جاء في تفسير المنار :
" وإنما أمر سبحانه بالذكر في هذه الأيام، ولم يأمر بالرمي لأنه من الأعمال التي كانوا يعرفونها ويعملون بها، وقد أقرهم عليها وذكر المهم الذي هو روح الدين وهو ذكر الله عند كل عمل من تلك الأعمال وتلك سنة القرآن يذكر إقامة الصلاة والخشوع فيها، وذكر الله تعالى ودعاءه وتأثير ذلك في إصلاح النفوس، ولا يذكر كيفية القيام والركوع والسجود ككون الأول يفعل مرة في كل ركعة، والثاني يفعل مرتين، وإنما يترك ذلك لبيان النبي صلى الله عليه وسلم له بالعمل، وبينت السنة أيضا أن ذكر الله تعالى في هذه الأيام هو التلبية والتكبير أدبار الصلوات، وعند ذبح القرابين ورمي الجمار وغير ذلك من الأعمال، فقد روى الجماعة عن الفضل ابن عباس قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع ( مزدلفة ) إلى منى فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة. وروى أحمد البخاري عن ابن عمر : أنه صلى الله عليه وسلم كان يرمي الجمرة يكبر مع كل حصاة( ١٢٩ ).
وورد في التكبير في أيام التشريق أحاديث كثيرة منها حديث ابن عمر في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يكبر بمنى تلك الأيام وعلى فراشه وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلم الأيام جميعا.
وأما الذكر في أيام عرفة ويوم النحر فهو التكبير لغير الحج وله أعم، ففي حديث أحمد والشيخين أم محمد بن أبي بكر بن عوف قال : سألت أنس ونحن غاديان من منى إلى عرفات عن التلبية كيف كنتم تصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : كان يلبي الملبي فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر عليه ( ١٣٠ ).
وفي حديث أسامة أن النسائي أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه يوم عرفة يدعو.
وقد قالوا إن التلبية أفضل الذكر للحجاج، ويليها التكبير في يوم عرفة والأضحى وأيام التشريق، وكيفية التلبية :
" لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " هذا هو المرفوع، وله أن يزيد من الذكر والثناء والدعاء ما شاء، والتكبير المرفوع صحيحا :
" الله أكبر الله أكبر الله أكبر تكبيرا، ويزيدون ". ( ١٣١ )
وذكر الأستاذ سيد قطب أن : " أيام الذكر هي في الأرجح يوم عرفة ويوم النحر والتشريق بعده " ( ١٣٢ ).
وروى الإمام مسلم عن نبيشة الهذلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله " ( ١٣٤ ).
ويرى جمهور الفقهاء أن هذه الأيام يحرم فيها الصيام، لأنها أيام أكل وشرب وذكر الله.
﴿ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه... ﴾
يجب على الحاج المبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من ليالي أيام التشريق ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، يرمي عند كل جمرة سبع حصيات، ثم من رمى في اليوم الثاني وأراد أن ينفر ويترك المبيت بمنى في الليلة الثالثة ورمى يومها بعد الزوال، كما يرى الشافعية وبعده أو قبله كما ترى الحنيفة فلا إثم عليه في عدم مبيته بمنى في الليلة الثالثة.
أي فم تعجل وسافر في اليومين الأولين فلا إثم عليه في التعجيل ومن بقي إلى تمام اليوم الثالث فلا إثم عليه كذلك إذا اتقى كل منهما الله ووقف عند حدوده. فإن التقوى هي الغرض من الحج ومن كل عبادة، والوسيلة الكبرى إليها كثرة ذكر الله تعالى.
﴿ واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون ﴾
اتقوا الله في كل ما تأتون وتدرون، واعلموا أنكم ستجمعون بعد تفرقكم وتساقون إلى خالقكم ليجازيكم على أعمالكم.
" وكل ذلك يدلنا على أن المهم في العبادة ذكر الله تعالى الذي يصلح النفوس وينير الأرواح حتى تتوجه على الخير وتتقى الشرور والمعاصي فيكون صاحبها من المتقين " ( ١٣٠ ).
***
نموذج من الناس
﴿ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام( ٢٠٤ ) وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد( ٢٠٥ ) وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد( ٢٠٦ ) ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد( ٢٠٧ ) ﴾
المفردات :
يعجبك : من الإعجاب بمعنى الاستحسان.
ألد : شديد الخصومة، يقال له لده يلده، شدد خصومته.
الخصام : الجدال.
المعنــى الإجمــالي :
وإذا كانت تقوى الله هي الأساس، فالخسران لفريق من الناس يختلف الذي تضمره قلوبهم عن الذي تنطق به ألسنتهم، وأتوا حلاوة في صوغ الكلام، يعجبك قولهم فيما يحتالون به على جلب المنفعة في الحياة الدنيا، ويؤيدون لك زعمهم بأن الله يعلم صدق قلوبهم فيما تقوله ألسنتهم، وأنهم أشد الناس خصومة وأقساهم عليك.
التفسير :
﴿ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا وبشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ﴾
بينت لنا هذه المجموعة من الآيات الكريمة نوعين من الناس أحدهما خاسر والآخر رابح لكي نتبع طريق الرابحين ونهجر طريق الخاسرين.
تصف الآيات نموذجا من المنافقين يعتمد على ثلاثة أصناف :
١. حسن القول بحيث يعجب السامع.
٢. وإشهاد اله تعالى على صدقه وحسن قصده.
٣. وقلب الحقائق وإيقاع الفتنة والتخريب والفساد.
والمعنى : ومن الناس فريق يورقك منطقهم، ويعجبك بيانهم، ويحسن عندك مقالهم، فأنت معجب بكلامهم الحلو الظاهر، المر الباطن، وأنت في هذه الدنيا لأنك تأخذ الناس بظواهرهم، وأما في الآخرة فلن يعجبك أمرهم لأنهم ستنكشف حقائقهم أمام الله الذي لا تخفى عليه خافية، وسيعاقبهم عقابا أليما لإظهارهم القول الجميل وإخفائهم القول القبيح.
هذا النوع من الناس يثير الإعجاب بحسن بيانه، ويضللهم بحلاوة لسانه، ويحلف بالأيمان المغلظة انه لا يقول إلا الصدق، ويجادل عما يقوله بالباطل بقوة وعنف ومغالبة، فهو بعيد عن طباع المؤمنين الذين إذا قالوا صدقوا وإذا جادلوا اتبعوا أحسن الطرق وأهداها.
﴿ ويشهد الله على ما في قلبه ﴾
أي يحلف بالله على أن ما في قلبه موافق لما يقول ويدعي، وفي معنى الحلف أن يقول الإنسان : الله يعلم أو يشهد بأنني أحب كذا وأريد كذا، أو الله يشهد أني صادق فينا أقول.
" وقال العلماء : إن هذا آكد من اليمين، وعن بعض الفقهاء أم من قاله كاذبا مرتدا لأنه نسب الجهل إلى الله تعالى، وأقول إن أقل ما يدل عليه هو عدم المبالاة بالدين. " ( ١٣٦ )
﴿ وهو ألد الخصام ﴾
قال القرطبي : " الألد : الشديد الخصومة والعداوة ولددته بفتح الدال ألده بضمها إذا جادلته فغلبته، والألد مشتاق من اللديدين وهما صفحتا العنق، أي : في أي جاني أخذ من الخصومة غلب، والخصام في الآية مصدر خاصم، وقيل خصم كصعب وصعاب.
والمعنى أشد المخاصمة خصومة، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " ( ١٣٧ ).
﴿ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ﴾
المفردات :
تولى : صار وليا وقيل هي هنا بمعنى أدبر وانصرف.
سعى : أسرع بالفتنة والتخريب.
الحرث والنسل : الزرع والولد.
المعنى الإجمالي :
وإذا تولى ولاية يكون له فيها سلطان لا يكون سعيه للإصلاح بل للإفساد وإهلاك الزرع والنسل، والله لا يحبه، لأن الله تعالى لا يحب الفساد.
التفسير :
وإذا أعرض عنك هذا النوع من الناس وولاك دبره أسرع في الإفساد بين الناس، وتفريق كلمتهم، وإتلاف مل ما يقع تحت يده من الزروع والثمار والحيوان وما به قوام الحياة، فإهلاك الحرث والنسل كناية عن إتلافه لما به قوام أحوال الناس ومعيشتهم وعن إيذائه الشديد لهم.
وبعض العلماء يرى أن تولى مشتق من الآية، يقال ولى البلد وتولاه، أي صار واليا له أميرا عليه، والمعنى على هذا الرأي.
وإذا صار واليا على قوم سعى بينهم بالفساد وعمل على تقاطعهم وتباغضهم.
قال الإمام الرازي : والقول الأول أقرب إلى نظم الآية.
﴿ والله لا يحب الفساد ﴾ أي لا يرضى عن الذي يقع منه الفساد في الأرض، ويظهر للناس الكلام الحسن وهو يبطن هم الفعل السيئ، لأنه سبحانه أوجد الناس ليصلحوا في الأرض لا يفسدوا، الجملة الكريمة ذم للمفسدين ووعيد لهم على خروجهم عن طاعة الله.
﴿ وإذا قيل له اتق اله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ﴾
المفردات :
أخذته العزة بالإثم : أي حملته الحمية على الإثم. كقولك أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه.
فحسبه جهنم : كفته جزاء.
المعنى الإجمالي :
وإذا نصحت له حينئذ بالخوف من الله ثارت في نفسه الحمية وظن ذلك هدما لعزته، وحمله على ارتكاب الإثم فيما نهيته عنه لحاجة وعنادا. فحسبه على ذلك عذاب جهنم ولبئس المستقر.
التفسير :
رسمت الآية صورة لهذا المنافق فيما يأتي :
١. حلاوة اللسان وفساد الباطن
٢. الحلف بالله كذبا ليروج سلوكه.
٣. الفجور في الخصومة، افتراء التهم بالباطل.
٤. نشر الخراب والدمار والفساد بين الناس.
وفي هذه الآية بيان لصفة خامسة لهذا النوع من الناس، فهو إذا فعل كلما سبق ثم قيل له : " لتق الله " تذكيرا له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه أنكر أن يقال له هذا القول، واستكبر أنه يوجه إلى صواب. وأخذته العزة، لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير ولكن " بالإثم " فالعز بالإجرام والذنب والخطيئة ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به، وأمام الله بلا حياء منه، وهو الذي كان يشهده على ما في قلبه، ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء.
" إنما لمسة تكمل ملامح الصورة، وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها وتدع هذا النموذج حيا يترك. تقول في غير تردد : هذا هو. هذا هو الذي عناه القرآن، وأنت تراه أمامك ماثلا في الأرض الآن وفي كل آن " ( ١٣٨ ).
﴿ فحسبه جهنم ولبئس المهاد ﴾
أي هي مصيره وكفاه عذابها على كبريائه وحميته الجاهلية.
ولبئس المهاد : المهاد فراش يأوي المرء إليه للراحة، واللم واقعة في جواب قسم محذوف، فالله تعالى يقسم تأكيدا للوعيد بأن الذي يرى عزته مانعة له الإذعان للأمر بتقوى الله سيكون مهاده ومأواه النار وهي بئس المهاد وشره، ولا راحة فيها ولا اطمئنان لأهلها.
فقد وصفها القرآن بأنها تكاد تميز من الغيظ.
وهي لا تبقي ولا تذر، لواحة للبشر.
وهي التي يكبكب فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون.
وهي التي وقودها الناس والحجارة.
وهي الحطمة التي تطلع على الأفئدة.
وهي التي تقول : هل من مزيد.
وهي التي يطعم أهلها الزقوم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم.
والتي يتمنا أهلها الموت فيقال لهم : إنكم ماكثون. لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون.
وقال بعض المفسرين : إنه عبر بالمهاد الذي هو مظنة الراحة للتهكم.
وقد اختلفوا في سبب نزول هذه الآيات، فروى ابن أبى حاتم عن ابن عباس أنها نزلت في رجلين من المنافقين قالا : لما هلكت سرية للمسلمين ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في أهليهم، ولا هم أدروا رسالة صاحبهم.
وروى ابن جرير عن السدى أنها نزلت في الأخنس بن شريق أقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأظهر له الإسلام فأعجبه ذلك منه ثم خرج فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع وعقر الحمر، فإن صحتا الروايتان فالظاهر أم من جعلها سببا حمل الآيات عليهما في الجملة، وإلا فأنت ترى أن الآيات ليست مطابقة للحادثتين اللتين كانتا في وقتين مختلفين( ١٣٩ ).
قال الإمام الرازي :
" واختيار أكثر المحققين من المفسرين أن هذه الآيات عامة في حق كل من كان موصوفا بهذه الصفات المذكورة ولا يمتنع أن تنزل الآية في الرجل ثم تكون عامة في كل مكان موصوفا بتلك الصفات، ونزولها على السبب الذي حكيناه لا يمنع العموم والعمل على العموم أكثر فائدة، وذلك لأنه يكون زجرا لكل المكلفين عن تلك الطريقة المذمومة " ( ١٤٠ ).
﴿ ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضات الله ﴾
المفردات :
يشري نفسه : يبيعها.
ابتغاء : أي طلب.
مرضاة : أي رضاء.
المعنى الإجمالي :
فما أبعد الفرق بين هؤلاء المنافقين، وبين المؤمنين الصادقين الذين يبيع أحدهم نفسه في سبيل مرضاة الله وإعلاء كلمة الحق، ويكون هذا القسم مقابلا للقسم الأول، ويكون توليه أمره من أمور الناس من رأفة الله بعباده.
التفسير :
ويشتري هنا معناها يبيع، فهو يبع نفسه كلها لله، ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية، ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله، ليس فيها شيء، وليس له من ورائها شيء، بيعة كاملة لا تردد فيها، ولا تحصيل الثمن، ولا استبقاء بقية لغير الله.
﴿ والله رءوف بالعباد ﴾
أي رفيق ورحيم بهم، ومنه مظاهر ذلك أنه لم يكلفهم بما هو فوق طاقتهم، وإنما كافه بما تطيقه نفوسهم، وأنه أسبغ عليهم نعمة ظاهرة وباطنة في الدنيا مع تقصيرهم فيما أمرهم به أو نهاهم عنه، وأنه كافئهم بالنعيم المقيم على العمل القليل، وأنه جعل العاقبة للمنقين، لا للمفسدين، وأنه فتح بابه للتائبين، وتجاوز عن المخطئين وحثهم على الإنابة والاستقامة فقال سبحانه :
﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم*وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ولا تنصرون ﴾. ( الزمر : ٥٣-٥٤ ).
وقد أورد المفسرون روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية، منها ما رواه ابن كثير أنها نزلت في صهيب الرومي.
وذلك أنه أسلم في بمكة وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل، فتخلص منه وأعطاه ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية.
وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عندما بلغه أن صهيبا دفع ماله للمشركين وهاجر بنفسه ربح صهيب، ربح صهيب.
وهنا ك روايات أنها نزلت فيه، وفي عمار بن ياسر وفي خباب بن الأرت وفي غيرهم من المؤمنين المجاهدين.
والآية وإن كانت نزلت في حادثة معينة، أو انطبقت عليها، فإنها تتناول كل من أطاع الله تعالى وبذل نفسه في سبيل إعلاء كلمة الله، ويدخل ف ذلك دخولا أوليا من نزلت فيهم الآية، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال الأستاذ سيد قطب :
والآية أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد وهي ترسم صورة نفس وتحدد ملامح نموذج من الناس، نرى نظائره في لبشرية هنا وهناك.
والصورة الأولى : تنطبق على كل منافق مراء دلق اللسان. فظ القلب شرير الطبع شديد الخصومة، مفسود الفطرة.
والصورة الثانية : تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان، متجرد لله، مرخص لأعراض الحياة. وهذا وذاك نموذجا معهودان في الناس، ترسمهما الريشة المبدعة بهذا الإعجاز، وتقيمها أمام الأنظار، يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن، ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان، ويتعلم منها الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول، وطلاوة الدهان، وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة، والنبرة المتصنعة، والنفاق والرياء والسواق كما يتعلمون منها كيف تكون القيم فيميزان الإيمان ( ١٤١ ).
* * *
السلام في الإسلام
﴿ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين( ٢٠٨ ) فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم( ٢٠٩ ) ﴾
المفردات :
السلم : بكسر السين وتفتح، الاستسلام للطاعة.
كافة : جميعا.
خطوات : جمع خطوة بفتح الخاء وضمها.
المعنى الإجمالي :
يا أيها الذين آمنوا كونا جميعا مسالمين فيما بينكم ولا تتبعوا العصبيات الجاهلية وغيرها من أسباب النزاع والخلاف، ولا تسيروا في طريق الشيطان الذي يدفعكم إلى الشقاق فإنه لكم عدو مبين.
التفسير :
﴿ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لمن عدو مبين ﴾
ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية موجهة إلى مؤمني أهل الكتاب.
جاء في تفسير مقاتل بن سليمان( ١٤٢ ) : أن عبد الله بن سلام، وسلام بن قيس، وأسيد وأسد بنا كعب، ويامين وهم مؤمنو أهل التوراة استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة التوراة في الصلاة، وفي أمر السبت، وأن يعملوا ببعض ما في التوراة، فقال الله عز وجل خذوا سنة محمد صلى الله عليه وسلم وشرائعه، فإن قرآن محمد نسخ كل كتاب كان منن قبله. فقال :﴿ ادخلوا في السلم كافة ﴾. يعني في شرائع الإسلام كلها.
﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾ يعني تزيين الشيطان فإن السنة الأولى بعدما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ضلالة من خطوات الشيطان.
والوجه الثاني في تفسير السلم هو المسالمة والمصالحة.
والمعنى : يا أيها الذين أمنوا إن إيمانكم يوجب عليكم فيما بينكم أن تكونوا متصالحين غير متعادين، متحابين غير متباغضين، متجمعين غير متفرقين، كما أنه يوجب عليكم بالنسبة لغيركم ممن هو ليس على دينكم أن تسالموه متى سالمكم، وأن تحاربوه متى اعتدى عليكم، فإن دينكم ما جاء للحرب والخصام، وإنما جاء للهداية وللسلام العزيز القوي الذي يرد الاعتداء بمثله.
وقد ذكر السيد رشيد رضا في تفسير المنار، أن الوجه الأول ضعيف وأن الآية لم تنزل في شأن مؤمني أهل الكتاب وإنما نزلت تدعو المسلمين إلى التمسك بأهداب الإسلام وترك الشقاق والتنازع، والاعتصام بحبل الوحدة والأخوة، وهي بمعنى قوله عز وجل :﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ﴾. ( آل عمران : ١٠٣ ).
وقوله تعالى :﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا ﴾. ( الأنفال : ٤٦ ) وقوله عليه الصلاة والسلام : " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض " ( ١٤٣ ).
وبعض المفسرين ذكر أن المراد بالآية لمنافقون، والتقدير يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام ولا تتبعوا خطوات الشيطان. وهو قول ضعيف ولا يؤيده سياق الآية الكريمة.
لأن الآية صريحة في دعوة المؤمنين إلى التمسك بجميع تعاليم الإسلام، وإلى الإخاء الجامع ونبذ التفرق والاختلاف والاعتداء.
وإن صحت الروايات في أنها نزلت في شان مؤمني أهل الكتاب فلا مانع أن تكون الآية موجهة لهم وتشمل المسلمين أيضا، بالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين :
إي ادخلوا في السلم واحذروا أن تتبعوا مدارج الشيطان وطرقه، إنه لكم عدو ظاهر العداوة بحيث لا تخفى عداوته على عاقل.
وفي قوله تعالى :﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾. إشعار بأن الشيطان كثيرا ما يجر الإنسان إلى الشر خطوة فخطوة، ودرجة فدرجة، حتى يجعله يألفه ويقتحمه بدون تردد، وبذلك يكون ممن استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، والعاقل من الناس هو الذي يبتعد عن كل ما هو من نزاعات الشيطان ووساوسه، فإن صغير الذنوب قد يوصل إلى كبيرها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
﴿ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ﴾
المفردات :
فإن زللتم : أي فإن انحرفتم عن الصواب.
البينات : الآيات الواضحة.
المعنى الإجمالي :
فإذا انحرفتم عن هذا الطريق الذي دعيتم إليه جميعا من بعد ظهور الحجج القاطعة على أنه طريق الحق، فاعلموا أنكم مؤاخذون بهذا الانحراف لأن الله عزيز يعاقب من يعرض عن سبيله، حكيم يقدر العقوبة بقدرها.
التفسير :
فإن تنحيتم عن طريق الحق وعدلتم عنه إلى الباطن، من بعد أن ظهرت لكم الأدلة المفرقة بين الصواب والخطأ، والتي تدعوكم إلى إتباع طريق الحق فاعلموا أن الله : عزيز لا يقهره ولا يعجزه الانتقام ممن زل حكيم لا يترك ممن تقتضيه الحكمة وإنما يضع الأمور في مواضعها.
وقال الفخر الرازي، وقوله : فاعلموا أن الله عزيز حكيم نهاية في الوعيد، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمع الوعيد بذكر العقاب وربما قال الولد لولده : إن عصيتني فأنت عارف بي وأنت تعلم قدرتي عليك وسطوتي، فيكون هذا الكلام في الزجر أبلغ من ذكر الضرب وغيره( ١٤٤ ).
* * *
من مشاهد القيامة
﴿ هل ينظرون إلى أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور( ٢١٠ ) ﴾
المفردات :
هل ينظرون : استفهام في معنى النفي.
يأتيهم الله : يأتيهم أمره.
في ظلل من الغمام : الظل جمع ظلة وهي ما أظلك من شعاع الشمس وغيره، والغمام : السحاب الأبيض الرقيق.
التفسير :
﴿ هل ينظرون إلى أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور ﴾
ما ينتظر أولئك الذين أبوا الدخول في الإسلام من بعد ما جاءتهم البينات إلا أن يأتيهم الله يوم القيامة في ظلل كائنة من الغمام الكثيف العظيم ليحاسبهم على أعمالهم وتأتيهم ملائكته الذين لا بعلم كثرتهم إلا الله.
وبتعبير آخر : هل ينتظرون ويتلكئون حتى يأتيهم اليوم الرعيب الموعود الذي قال الله سبحانه إنه سيأتي في ظلل م الغمام، ويأتي الملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ؟.
وفجأة وبينما نحن أمام السؤال الاستنكاري الذي يجمع طابع التهديد الرعيب، نجد أن اليوم قد جاء وان كل شيء قد انتهى وأن القوم أمام المفاجأة التي كان يلوح لهم بها ويخوفهم إياها. ﴿ وقضي الأمر ﴾ : وطوى الزمان وأفلتت الفرصة، وعزت النجاة، ووقفوا وجها أمام الله، الذي ترجه إليه وحده الأمور :﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾.
إنها طريقة القرآن العجيبة، التي تفرده وتميزه من سائر القول. الطريقة التي تحيي المشهد وتستحضره في التو واللحظة، وتقف القلوب إزاء وقفه من يرى ويسمع ويعاني ما فيه.
فإل متى يتخلف المتخلفون عن الدخول في السلم، وهذا الفزع ألكبر ينتظرهم ؟ بل هذا الفزع الأكبر يدهمهم، والسلم منهم قريبة في الدنيا، والسلم في الآخرة، يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا، يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، يوم يقضى الأمر وقد قضي الأمر وإلى ترجع الأمور.
* * *
تبديل النعم
﴿ سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب( ٢١١ ) ﴾
والعودة هنا على بني إسرائيل عودة طبيعية، فيها تحذير من بني إسرائيل في التلكؤ والنشوز، والتعنت وسؤال الخوارق، ثم الاستمرار في العناد والجحود وهذه هي مزالق الطريق التي يحذر الله الجماعة المسلمة منها كي تنجو من عاقبة بني إسرائيل المنكودة.
المعنى الإجمالي :
سل بني إسرائيل كم سقنا إليهم الأدلة القاطعة على صدق الرسول، وفي ذلك نعمة هدايتهم إلى الله فكفروا بهذه الأدلة وعمدوا بتكذيبهم إلى تبديل الغرض منها، فبعد أن وضعت للهداية، أصبحت بالنسبة لكفر هؤلاء بها سببا في زيادة ضلالهم وإثمهم، ومن يبدل نعم الله بهذه الصورة يحق عليه العذاب لأن الله شديد العقاب.
التفسير :
﴿ سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ﴾
سل فعل أمر من سأل وأصله اسأل فنقلت فتحة الهمزة إلى السين قبلها وصارت ساكنة فحذفت، ولما فتحت السين لم يكن هناك حاجة إلى همزة الوصل فحذفت أيضا، والمراد بهذا السؤال تقريعهم على جحودهم الحق بعد وضوح الآيات، إجابتهم كما إذا أراد منا توبيخ أحد، فيقول لمن حضره : سله كم أنعمت عليه ؟.
قال الفخري الرازي :
اعلم أنه ليس المقصود : سل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عالما بتلك الأحوال، بإعلام الله تعالى إياه، بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى.
أي سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها، لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين، على أنهم لو زلوا عن آيات الله، لوقعوا كما وقع أولئك المتقدمون فيه، والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم. ( ١٤٥ ).
ومن الآيات البينات والمعجزات الواضحات التي أظهرها الله لبني إسرائيل : عصا موسى التي ألقاها فإذا هي حية تسعى، والتي ألقاها فإذا هي تلقف ما صنعه السحرة، والتي ضرب بها البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وإرسال الجرد والقمل والضفادع والدم إليهم، وإنقاذهم من فرعون، وفرق البحر بهم، وإرسال المن والسلوى عليهم، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وحدانية الله، وصدق موسى في رسالته ومع ذلك فمنهم من قال :﴿ أرنا الله جهرة ﴾. ( النساء : ١٥٣ )
ومنهم من عبد العجل، قال تعالى :﴿ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خورا ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين ﴾. ( الأعراف : ١٤٨ ).
ثم بين سبحانه سوء عاقبة الجاحدين لآياته فقال :
﴿ ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب ﴾
أي ومن يبدل نعمة الله من بعدما وصلت إليه واتضحت له، بأن كفر بها مع أنها تدعو إلى الإيمان، وجحد فضلها مع أنها تستلزم منه الشكر لمسديها، من يبدل ذلك التبديل، فإن الله سيعاقبه عقابا شديدا.
وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في حياتها في الأرض قبل عقاب الآخرة، وها هي ذي البشرية المنكودة الطالع في أنحاء الأرض كلها تعاني العقاب الشديد، وتجد الشقوة النكدة، وتعاني القلق والحيرة ويأكل بعضها بعضا.
ونظرة إلى التنقل السريع المحمول بيت الأهواء والأزواج والصداقات والأزياء، بين فصل وفصل، لا بين الصباح والمساء، كل هذا يكشف عن الحيرة القاتلة التي لا طمأنينة فيها ولا سلام. وإن هو إلا عقاب الله لمن يحيد عن منهجه، ولا يستمع لدعوته : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة... ون الإيمان الواثق لنعمة الله على عباده، ولا يبدلها مبدل حتى يحيق به ذلك العذاب والعياذ بالله. ( ١٤٦ ).
***
سخرية
﴿ زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب( ٢١٢ ) ﴾
المفردات :
التزيين : جعل الشيء زينا أي شديد الحسن.
المعنى الإجمالي :
وإن السبب في الانحراف والكفر هو طلب الدنيا، فقد زين للذين كفروا شهوات الحياة الدنيا، فمضوا في الآخرة يسخرون من الذين آمنوا، لانشغالهم بالحياة الآخرة، والله جاعل الذين آمنوا أعلى مكانا منهم في الآخرة، فأما زيادة هؤلاء الكفار بالمال والزينة في الدنيا فلا يدل على أفضليتهم، لأن رزق الله لا يقدر على حساب الإيمان والكفر، بل يجري تبعا لمشيئته فمن الناس من يزاد له الرزق استدراجا، ومنهم من يقتر عليه اختيارا.
التفسير :
﴿ زين للذين كفروا الحياة الدنيا... ﴾
إن الحياة الدنيا قد زينت للكافرين فأحبوها، وتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار، وصارت متعها وشهواتها كل تفكيرهم، أما الآخرة فلم يفكروا فيها ولم يهيئوا أنفسهم للقائها.
قال القرطبي :
والمزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، ويزينها أيضا الشيطان بوسوسته وإغوائه، وخص الذين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها، وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا.
فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها( ١٤٧ ).
﴿ ويسخرون من الذين آمنوا ﴾
إن هدف المؤمن أن يرضي ربه وأن يضحي بنفسه وماله من أجا نصرة دين الله، وتحقيق منهجه في الحياة، وهدف الكفار الاستمتاع بالحياة الدنيا كل همهم، وهم لذلك يسخرون من المؤمنين، الذين باعوا الدنيا واشتروا ما عند الله، وصار هم المؤمنين مرضاة ربهم وتحقيق رسالة ربهم.
قال تعالى :﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون*وإذا مروا بهم يتغامزون*وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين*وإذا رأوا قالوا إن هؤلاء لضالون*وما أرسلوا عليهم حافظين، فاليوم الذي آمنوا من الكفار يضحكون ﴾. ( المطففين : ٢٩-٣٤ ).
وقد ذكر بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية روايات منها : أنها نزلت في المنافقين : عبد الله بن أبى وحزبه، كانوا يتنعمون في الدنيا، أو يسخرون من ضعفاء المؤمنين، وفقراء المهاجرين، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم.
ومنها أنها نزلت عن أبى جهل ورؤساء قريش كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعمار بن ياسر، وصهيب ابن سنان الرومي، وبلال بن رباح وخباب بن الأرت، وسالم مولى أبى حذيفة، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر، وعبد الله بن مسعود وأبى هريرة الدوسي( ١٤٨ )، وفي نحوهم من الفقراء يقول الله تعالى :
﴿ والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ﴾
يعني أن هؤلاء النفر من المؤمنين فوق المنافقين والكافرين يوم القيامة، لأن تقواهم قد رفعتهم إلى أعلى عليين، أما الذين كفروا فإن كفرهم قد هبط بهم إلى النار وبئس القرار.
فإذا استعلى بعضهم على بعض المؤمنين طائفة من الزمن في هذه الحياة القصيرة الفانية، بما يكون لهم من الأتباع والأنصار والمال والسلطان، فإن المؤمنين يكونون أعلى منهم مقاما يوم القيامة في تلك الحيات العلية الأبدية( ١٤٩ ).
﴿ والله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾
وهو المانح الوهاب يمنح من يشاء ويفيض على من يشاء لا خازن لعطائه ولا بواب، وهو قد يعطي الكافرين زينة الحياة الدنيا لحكمة منه، وليس لهم فيما أعطوا فضل، وهو قد يعطي الكافرين المختارين من عباده ما يشاء في الدنيا أو في الآخرة، فالعطاء كله عنده، واختياره للأخيار هو الأبقى والأعلى.
قال الأستاذ محمد عبده :
" إن الرزق بغير حساب ولا سعي في الدنيا إنما يصح بالنسبة للأفراد، فإنك ترى كثيرا من الأبرار وكثيرا من الفجار، أغنياء موسرين متمتعين بسعة الرزق، وكثيرا من الفريقين فقراء معسرين، والمتقي يكون دائما أحسن حالا وأكبر احتمالا، ومحلا لعناية الله تعالى به، فلا يؤلمه الفقر كما يؤلم الفاجر، فهو يجد بالتقوى مخرجا من كل ضيق، ويجد من عناية الله رزقا غير محتسب وأما الأمم فأمرها على غير هذا، فإن الله يعطي الأمة بعملها ويسلبها بزللها " ( ١٥٠ ).
***
أمة واحدة
﴿ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم( ٢١٣ ) ﴾
المفرٍدات :
أمة : جماعة منة الناس أمرهم ومقصدهم واحد.
مبشرين ومنذرين : واعدين المتقين بالجنة، ومتوعدين الكفار بالنار.
البينات : الأدلة المقنعة الظاهرة.
بغيا : ظلما وعدوانا.
المعنى الإجمالي :
وإن الناس طبيعة واحدة فيها الاستعداد للضلالة، ومنهم من قد استولى عليه أسباب الهداية، ومنهم من تغلب عليه الضلالة، ولذلك اختلفوا فبعث الله إليهم الأنبياء هداة مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتب مشتملة على الحق، لتكون هي الحكم بين الناس فينقطع التنازع ولكن الذين انتفعوا بهدى النبيين هم الذين آمنوا فقط، الذين هداهم الله في موضع اختلاف إلى الحق، والله هو الذي يوفق أهل الحق إذا خلصوا.
التفسير :
﴿ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ﴾
نقل الإمام محمد عبده عدة أقوال عن المفسرين السابقين في معنى هذه الآية، وناقشها ولم يقبلها.
ومن الآراء التي ناقشها أن الناس كانوا على ملة الهدى والدين القويم.
وقد رفض هذا الرأي لأن هداية الناس واجتماعهم لا تستوجب بعث النبيين مبشرين ومنذرين.
واختار أن يكون معنى هذه الآية :
خلق الله الإنسان أمة واحدة أي مرتبطا بعضه ببعض في المعاش، لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا، إلى الأجل التي قدره الله لهم إلا مجتمعين. يعاون بعضهم بعضا، ولا يمكن أن يستغنى بعضهم عن بعض، فكل واحد منهم يعيش ويحيا بشيء من عمله، لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن توفيته جميع ما يحتاج إليه، فلابد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته، فيستعين بهم في شأنه كما يستعينون به في بعض شأنهم، وهذا الذي يعبرون عنه بقولهم : " الإنسان مدني بالطبع "، يريدون بذلك أنهم لم يوهب من القوى ما يكفي للوصول إلى جميع حاجاته، بل قدر له أن تكون منزلة أفراده من الجماعة، منزلة العضو من البدن، لا يقوم البدن إلا بعمل الأعضاء كما لا تؤدي الأعضاء وظائفها إلا بسلامة البدن...
" إن الله قضى أن يكون الناس أمة واحدة يرتبط بعضها ببعض، ولا سبيل لعقولهم وحدها إلا الوصول إلى ما يلزم لهم في توفير مصالحهم، ودفع المضار عنهم، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأيدهم بالدلائل القاطعة على صدقهم، وعلى ما يأتون به إنما هو من عند الله تعالى القادر على إثابتهم وعقوبتهم، العالم بما يخطر في ضمائرهم، الذي لا تخفى عليه خافية من سرائرهم.
﴿ وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه... ﴾
أي وأنزل معهم الكتب السماوية التي توضح للناس العبادات وشرائع المعاملات، طبقا للحق والعدل، فإذا حادوا عن سواء السبيل، عادوا إلى هذه الكتب السماوية يحتكمون إليها فتردهم إلى الصواب.
﴿ وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم... ﴾
وما اختلف في الحق أو في الكتاب المنزل إلا الذين أوتوه من أرباب العلم والدراسة، بعد ما جاءتهم الحجج الواضحات على وجوب الأخذ به، وعدم الاختلاف.
فالبغي بغي الحسد وبغي الطمع، وبغي الحرص وبغي الهوى، هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج، والمضي في التفرق واللجاج والعناد.
قال الأستاذ محمد عبده :
لكن قد يشوب الحق شيء من الرغبة في عزة الرئاسة أو ميل مع أربابها أو خوف منهم أو شهوة خفية في منفعة أخرى يلج ذلك بصاحب الرأي حتى يكون شقاق، ويحدث افتراق ولا ريب أن هذا الشوب وإن كان قد يكون غير ملحوظ لصاحبه بل دخل على نفسه من حيث لا يشعر فهو من البغي على حق الله في عباده أولا، والبغي على حقوق العباد الذين جاء الكتاب لتعزيز الوفاق بينهم ثانيا، أما العامة من الناس فلا جريمة لهم في هذا ولذلك جاء بالحصر في قوله :﴿ وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم... ﴾ فإذا كان الرؤساء قد جنوا هذه الجناية على أنفسهم وعلى الناس بسبب البغي الخاص بهم، فهل يقدح هذا في هداية الكتاب إلى ما يتفق الناس عليه من الحق ويرتفع به النزاع فيما بينهم ؟ كلا فقد رأينا كل دين في بدء نشأته يقرب البعيد ويجمع المشتت ويلم الشعث ويمحق أسباب الخلاف من النفوس ويقرر بين الآخذين به أخوة لا تدانيها أخوة النسب في شيء. وهل يؤثر الأخ في النسب أخاه بماله على نفسه وهو في أشد الحاجة إليه كما كان يفعل أولئك الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ؟ وهل يبذل الأخ النسبي روحه دون أخيه ويؤثره بالحياة على نفسه كما آثره بالمال، كما كان يقع من أولئك الأبطال ؟ هذا شان الدين وهو باق على أصله، معروف بحقيقته لأهله، تبينه للناس رؤساؤه ويمشي بنوره فيهم علماؤه، لا خلاف ولا اعتساف، ولا طرق ولا مشارب، ولا منازعات في الدين ولا مشاغب( ١٥١ ).
﴿ فهدى الله الذين أمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ﴾
هداهم بما في نفوسهم من صفاء بما في قلوبهم من رغبة في الوصول إلى الحق في أرواحهم من تجرد.
﴿ والذين آمنوا ﴾ هم أهل الإيمان الصادق في كل دين.
وقيل المراد من الدين آمنوا : أمة محمد صلى الله عليه وسلم، هداهم الله لما اختلف فيه أهل الكتاب من الحق بإذنه تعالى وتيسريه، فعرفوه.
ومن ذلك هدايتهم إلى تنزيهه تعالى عن الصاحبة والولد، وأن إبراهيم عليه السلام كان حنيفا مسلما، وما كل يهوديا ولا نصرانيا ولا مشركا، وأن مريم سيدة شريفة، وليست كما وصفها اليهود، وأن عيسى رسول الله، خلافا لما زعم اليهود من نفي رسالته، ولما زعم النصارى من أنه ابن الله، إلى غير ذلك.
وفي هذا يقول تعالى :﴿ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ﴾.
( النمل : ٧٦ ).
﴿ والله يهدي ما يشاء إلى صراط مستقيم ﴾
والله وحده هو الهادي من يشاء من عباده إلى طريق الحق الذي لا يضل سالكه، فليس لأحد سلطان بجوار سلطانه، ولو أن يكون الناس جميعا مهديين لكانوا ولكن حكمته اقتضت أن يختبرهم ليتميز الخبيث من الطيب، فيجازي كل فريق بما يستحقه.
قال ابن كثير : وفي صحيح مسلم والبخاري عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه مسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول : " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " ( ١٥٢ ).
وفي الدعاء المأثور : " اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل واجعلنا للمتقين إماما " ( ١٥٣ ).
* * *
ابتلاء المؤمنين
﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب( ٢١٤ ) ﴾
المفردات :
أم : تأتي بمعنى بل وهمزة الاستفهام، ويرى أبو عبيدة أنها للاستفهام وحده.
حسبتم : ظننتم.
خلوا : مضوا.
البأساء : الفقر أو الحرب أو الشدة.
الضراء : المرض أو الضيق أو الضرر مطلقا.
زلزلوا : الزلزلة : الحركة الشديدة، والمراد هنا : إصابتهم بالاضطراب النفسي الذي يهز النفس هزا عنيفا ويزعجها.
المعنى الإجمالي :
فهل حسبتم أن تدخلوا الجنة بمجرد إقراركم بكلمة الإسلام، بدون أن تصابوا بمثل ما أصاب الذين كم قبلكم، فقد أصابتهم الشدائد والنوازل وزلزلوا حتى بلغ بهم الأمر أن قال رسولهم نفسه، وقالوا معه : متى نصر الله ؟ فيبر ربهم بوعده، فيجابون عندئذ : بأن نصر الله قريب.
التفسير :
﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين من قبلكم... ﴾
سبب النزول : قال قتادة والسدى وأكثر المفسرين : هذه الآية في غزوة الخندق إذا اجتمع المشركون مع أهل الكتاب، وتحالفوا على الإيقاع بالمسلمين وقطع دابرهم، وأصاب المؤمنين يومئذ ما أصابهم من الجهد والشدة والجوع والحاجة وضروب الإيذاء.
وقيل إن الآية نزلت في غزوة أحد، حين غلب المشركون المؤمنين، وشجوا رأس النبي صلى الله عليه وسلم وكسروا رباعيته( ١٥٤ ).
وما ذكره المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة لا يمنع عمومها. وإنها تدعوا المؤمنين في كل وزمان ومكان إلى التذرع بالصبر والثبات تأسيا بمن سبقهم من المتقين، حتى يفوز برضوان الله تعالى ونصره.
الصبر في القرآن :
حث القرآن الكريم على الصبر في أكثر من سبعين موضعا، وبين أن الله خلق الإنسان للاختبار والابتلاء والامتحان، فمن صبر وثبت نجح في الاختبار، ومن هلع وسخط رسب في الاختبار.
ومن الآيات التي تؤيد هذا المعنى في القرآن الكريم قوله سبحانه :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ﴾. ( آل عمران : ١٤٢ )، وهذه نزلت في غزوة أحد لا محالة.
وقال تعالى :﴿ آلم*أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون*ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾. ( العنكبوت : ١-٣ ).
وروى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما يصيب المسلم من هم ولا حزن ولا تعب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه، ولا يزال البلاء يصيب المؤمن حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة( ١٥٥ ).
معنى الجملة :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ﴾
بل أظننتم أنكم بمجرد إيمانكم تدخلون الجنة دون أن تتعرضوا للمشقة والابتلاء، كما تعرض المؤمنون الأتقياء من الأمم السابقة.
﴿ مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر... ﴾
أي أصابتهم الشدائد والأهوال، وتعرضوا لفظائع الحروب الظاهرة والخفية، واهتز كيانهم اهتزازا عنيفا، حتى كاد اليأس يسيطر على نفوسهم، وحتى تطلع الرسول والمؤمنون معه من هول ما قاسوه إلى الله، استعجالا لنصره، فهم لا يشكون في تحقيق وعده، ولكنهم يتعجلون حدوثه.
قال الزمخشري : وقوله ﴿ وزلزلوا ﴾ : أي أزعجوا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة، بما أصابهم من الأهوال والأقراع، حتى يقول الرسول : أي الغاية التي قال الرسول ومن معه فيها متى نصر الله ؟ أي بلغ بهم الضجر، ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك، ومعناه طلب النصر وتمنيه، واستطالة زمان الشدة، وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر في الشدة وتماديه في العظم، لأن الرسل لا يقادر قدر ثباتهم، واصطبارهم وضبطهم لأنفسهم، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمع وراءها( ١٥٦ ).
والرسول هنا : للجنس لأن كل رسول جاهد في سبيل الله هو والمؤمنون به وتعرضوا للشدائد والأهوال، فلجأوا إلى الله تعالى يطلبون نصره.
والرسول هنا : شعياء. وقيل أشعياء وقيل : اليسع وعلى التعيين يكون المراد من الذين خلوا قوما بأعيانهم وهم أتباع هؤلاء الرسل " ( ١٥٧ ).
﴿ ألا إن نصر الله قريب ﴾
إنه مدخر لمن يستحقونه، ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية، الذين يثبتون على البأساء والضراء، الذين يصمدون للزلزلة.
وفي هذه الجملة ألوان من المؤكدات والمبشرات بالنصر القريب، منها إيثار الجملة الاسمية على الجملة الفعلية، فلم يقل مثلا ستنصرون وتصدير الجملة بأداة الاستفتاح، ووقوع إن المؤكدة بعد أداة الاستفتاح وإضافة النصر إلى الله القادر على كل شيء.
وبذلك نرى أن الآيات من قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا... ﴾ إلى هنا، قد بينت لنا أقسام الناس في هذه الحياة ودعت المؤمنين إلى أن يتمسكوا بجميع تعاليم الإسلام، وأن يزهدوا في زينة الحياة التي شغلت المشركين عن كل شيء سواها، وأن يشكروا الله على هدايته لهم إلى الحق الذي اختلف فيه غيرهم، وأن يوطنوا النفس على تحمل الآلام لكي يحقق الله لهم الآمال.
ثم أرشد الله تعالى المؤمنين بعد ذلك إلى أن مما يعنيهم على دفع الأذى وعلى دحر أعدائهم أن يبذلوا أموالهم في طاعة الله، وأن يعدوا أنفسهم للقتال في سبيله.
* * *
تنظيم الصدقات
﴿ يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوه من خير فإن الله به عليم( ٢١٥ ) ﴾
المفردات :
المساكين : هم من لا يجدون كفايتهم ولو مع العمل قال تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين يعلمون في البحر. ( الكهف : ٧٩ ).
ابن السبيل : الغريب المنقطع عن وطنه ولا مال معه، ويمكن إطلاقه على اللاجئ أو المهاجر، ولا مال يكفيه.
المعنى الإجمالي :
يسألك المؤمنون في شأن الإنفاق، إن الإنفاق يكون من المال الطيب، ويعطي للوالدين والأقربين واليتامى والمساكين، ومن انقطع عن ماله وأهله، وما تفعلوه من عمل الخير فإن الله يعلمه وهو يثيبكم عليه.
التفسير :
﴿ يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾
سبب النزول : قال الألوسي : عن ابن جريج قال : سأل المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم ؟ فأنزل الله تعالى : يسألونك ماذا ينفقون. الآية.
وفي تفسير مقاتل : لما أمره الله بالصدقة قال عمرو بن الجموح الأنصاري : يا رسول الله كم ننفق ؟ وعلى من ننفق ؟ فأنزل الله هذه الآية.
المعنى : يسألك أصحابك يا محمد أي شيء ينفقونه من أصناف الأموال ؟ قل لهم : ما أنفقتم من أموالكم فاجعلوه للوالدين قبل غيرهما، ليمون أداء الحق تربيتهما ووفاء لبعض حقوقهما، وللأقربين وفاء لحق القرابة والرحم، ولليتامى لأنهم فقدوا الأب الحاني الذي يسد عوزهم والمساكين لفقرهم واحتياجهم. وابن السبيل لأنه كالفقير لغيبة ماله وانقطاعه عن بلده.
ولقد سارت هذه الآية مع نوازع الفطرة، فالإنسان يحب أول ما يحب أفراد أسرته الأقربين، عياله ووالديه، فحثته على الإنفاق عليهم ليمسح آلامهم وليوثق روابط الأسرة، التي شاء الله أن تكون اللبنة الأولى في بناء الإنسانية.
ثم سار الإسلام بالمنفق خطوة أخرى وراء أهله المقربين، وحثه على الإنفاق على اليتامى الصغار الضعاف، ثم المساكين الذين لا يجدون ما ينفقون، ثم أبناء السبيل الذين قد يكون لهم مل ولكنهم انقطعوا عنه وحالت بينهم وبينه الحوائل.
والإسلام بهذا يقود النفوس إلى الخير والتطهر والزكاة ويهدف إلى إعطاء هؤلاء المحتاجين وكفالتهم ويقود نفوس المجتمع كله إلى التماسك والتعاطف.
والأكثرون على أن الآية في صدقة التطوع، ويل في الزكاة. واستدل بها من أباح صرفها للوالدين.
والأول أرجح لعموم كلمة " خير " وخصوص الزكاة وكونها مقدرة.
﴿ وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ﴾
وهذا تذييل قصد به الحض على فعل الخير في جميع مجالاته ولجميع الأفراد المحتاجين له. لأن المؤمن عندما يشعر بأن الله يرى عمله ويجازيه عليه بما يستحق، يشجعه ذلك على الاستمرار في عمل الخير.
***
القتال
﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون( ٢١٦ ) يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلنكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون( ٢١٧ ) ﴾
المفردات :
كتب عليكم القتال : فرض عليكم قتال الكفار.
كره : بمعنى مكروه كخبز بمعنى مخبوز، أي مكروه طبعا لمشقته.
المعنى الإجمالي :
فإذا كان الإنفاق على اليتامى والمساكين وغيرهم حماية للمجتمع في داخله، فإن القتال حماية له من أعدائه في الخارج، ولذلك فرض عليكم أيها المسلمون القتال لحماية دينكم، والدفاع عن أنفسكم، وإن نفوسكم بحكم جبلتها تكره القتال كرها شديدا، ولكن ربما كرهتم ما فيه خيركم وأحببتم ما فيه شركم، والله يعلم ما غاب من مصالحكم عنكم، وأنتم لا تعلمون، فاستجيبوا لما فرض عليكم.
التفسير :
﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم... ﴾
فرض على المسلمين الجهاد وهو مكروه لهم، وتلك الكراهة أمر جبلي لما فيه من القتل والأسر وإتعاب البدن، وتلف المال ومفارقة الأهل والوطن والحيلولة بين المقاتل وبين طمأنينته ونومه وطعامه، فهو مهما يكن أمره فيه ويلات وشدائد ومشقات تتلوها مشقات.
والإسلام يحسب حساب الفطرة، فلا ينكر مشقة هذه الفريضة ولا يهون من أمرها، ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر بأن يقرر أن من الفرائض ما هو شاق ولكن وراءه حكمة تهون مشقته، وتسهل صعوبته، وتحقق به خيرا مخبوءا قد لا يراه النظر الإنساني القصير.
إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير ؟ وأين يكون الشر ؟ لقد خرج المسلمون يوم بدر يطلبون عير قريش وجارتها، وأراد الله أن تقه معركة حاسمة تدوي في الجزيرة العربية وترفع راية الإسلام.
وكل إنسان في تجاربه الخاصة يستطيع حين يتأمل، أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها الخير العميم، ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم.
﴿ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحب شيئا وهو شر لكم ﴾
وعسى أن تكرهوا ما في الجهاد من مشقة، وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات كمنكم مات شهيدا، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون ويذهب أمركم.
قال الفخر الرازي : " معنى الآية : أنه ربما كان الشيء شاقا عليكم في الحال، وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل، ولأجله حسن شرب الدواء المر في الحال لتوقع حصول الصحة في المستقبل. وترك الجهاد، وإن كان يفيد أي بحسب ظنكم في لحال صون النفس عن خطر القتل، وصون المال عن الإنفاق، ولكن فيه أنواع من المضار منها : أن العدو إذا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصد بلادكم وحاول قتلكم والحاصل أن القتال في سبيل الله سبب لحصول الأمن من الأعداء في الدنيا، وسبب لحصول الثواب العظيم للمجاهد في الآخرة " ( ١٥٨ ).
وأنشد أبو سعيد الضرير :
رب أمر تتقيه *** جر أمرا ترتضيه
خفي الحبوب منه *** وبدا المكروه فيه
﴿ والله يعلم وانتم لا تعلمون ﴾
أي والله يعلم ما هو خير لكم وما هو شر لكم في الواقع وأنتم لا تعلمون ذلك فبادروا إلى ما يأمركم ففيه الخير دائما.
والمقصود من هذه الجملة الحث على الجهاد، وامتثال أوامر الله سواء عرفت حكمتها أم لم تعرف، لأن العليم بالحكم والمصالح هو رب العالمين.
﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ﴾
المفردات :
الشهر الحرام : أحد ألشهر التي حرم فيها القتال وهي : رجب وذو القعدة وذو الحجة و محرم
الفتنة : المراد بها تعذيب المسلمين وإخراجهم من ديارهم وصدهم عن المسجد الحرام، وعن دين الله تعالى.
حبطت أعمالهم : بطلت وفسدت.
المعنى الإجمالي :
وقد كره المسلمون القتال في الشهر الحرام فسألوك عنه، فقل لهم : نعم إن القتال في الشهر الحرام إثم كبير، ولكن أكبر منه ما حدث من أعدائكم من صد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، وإخراج المسلمين من مكة، وقد كان إيذاؤهم للمسلمين لإخراجهم من دينهم أكبر من كل قتل، ولذلك أبيح القتال في الشهر الحرام، فمع هذه الشرور فهو عمل كبير يتقي به ما هو أكبر منه، واعلموا أيها المسلمون أن سبيل هؤلاء معكم سبيل التجني والظلم، وأنهم لا يقبلون منكم العدل والمنطق، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، ومن يضعف أمام هجماتهم، ويرتد عن دينه حتى يموت على الكفر فأولئك بطلت أعمالهم الصالحة في الدنيا والآخرة، وأولئك أهل النار هم فيها خالدون.
سبب النزول :
أخرج الطبراني في الكبير، والبيقهي في سننه وابن جرير وابن أبى حاتم ومقاتل بن سليمان وغيرهم من المفسرين وأصحاب السير في سبب نزول هذه الآية قصة ملخصها ما يأتي :
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش ومعه اثنا عشر رجلا كلهم من المهاجرين وأعطى كتابا مختوما، وأمره أن يتوجه قبل مكة، ولا يقرأ الكتاب حتى يسير ليلتين، ثم ينظر فيه : " إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بنخلة مكان بين مكة والطائف فترصد بها عيرا لقريش وتعلم لنا من أخبارهم ".
فقال عبد الله : سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وأنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فلينهض ومن كره الموت فليرجع، فأما أنا فناهض، فنهضوا جميعا وساروا نحو نخلة فمرت بهم عير لقريش في طريقها نحو مكة فترددوا وهابوا الإقدام عليهم في الشهر الحرام، ثم شجوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم فرمى واقد بن عبد الله، عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، وأسروا اثني من المشركين، وأخذوا عيرهم، وعادوا إلى المدينة، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فأوقف الرسول الأسيرين والعير، فلم يأخذ منها شيئا فلما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال سقط في أيديهم، وظنوا أن قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين.
وقالت قريش حين بلغهم أمر هؤلاء قد سفك محمد الدم الحرام، وأخذ المال وأسر الرجال، واستحل الشهر الحرام. فنزلت هذه الآية.
واختلف في وقت حدوت ذلك، فبعض الروايات تقول : إن ذلك كلن في آخر يوم من جمادى الآخرة، وهو حلال ولم يكن المسلمون قد شاهدوا هلال رجب.
وبعضها تقول : إنه في آخر يوم من رجب. ولعل ذلك أرجح لأن الآية تؤيده، إذ فيها أنهم سألوا عن حكم القتال في الشهر الحرام.
كذلك قرر الجواب ذلك ولكنه عذرهم، إذ تبين أنه وغن كان القتال فيه عظيم الوزر، ولكن وزر المشركين أكبر من المسلمين، لأنهم صدوا المسلمين عن المسجد الحرام وفتنوهم، وأخرجوهم من ديارهم بغير حق.
﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ﴾
يسألونك يا محمد عن حكم القتال في الشهر الحرام قل لهم : القتال فيه أمر كبير مستنكر، وذنب عظيم مستقبح، لأن فيه اعتداء على الشهر الحرام المقدس، وانتهاكا لمحارم الله.
والسائلون قيل هم المؤمنون، وقد سألوا عن حكم ذلك على سبيل التعلم والتماس المخرج لما حصل منهم.
وقيل هم المشركون، وسؤالهم على سبيل التعيير للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فالجواب تشريع إذا كان السؤال من المسلمين، وتبكيت وتوبيخ إن كان من المشركين.
والمراد بالشهر الحرام جميعها وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وسميت بذلك لحرمة القتال فيها، فأل في الشهور للجنس، وقيل للعهد، والمراد بالشهر الحرام شهر رجب الذي حدثت فيه قصة عبد الله بن جحش وأصحابه.
﴿ قل قتال فيه كبير ﴾ : أي القتال فيه عظيم الوزر كبير الإثم.
وقد أثبت هذا الجواب حرمة القتال في الشهر الحرام، وأن ما اعتقده أهل الشرك من استحلال الرسول فيه باطل.
أما ما وقع من عبد الله بن جحش وأصحابه، فقد كان اجتهادا منهم، فقد رأوا أن قتال المشركين فيه حلال، لأنهم أخرجوهم من ديارهم وصدوهم عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام وعذبوهم وهم بمكة. ومن اجتهد وأخطأ فله أجر، فكيف بمن اجتهد وأصاب، حيث أقر الله اجتهاده وعذره ؟.
وإعادة لفظ القتال، للاهتمام بأمر الحكم فيه. وتنكيره للإيذان بأن أي قتال فيه مذموم وإن قل، وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى :﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾. ( البقرة : ١٩١ ) وقوله :﴿ واقتلوهم حيث وجدتموهم ﴾ ( النساء : ٨٩ ) فالقتال في الشهر الحرام نسخت حرمته بما ذكر.
﴿ وصد عن سبيل الله وكفر به في المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله... ﴾
المعنى : وإذا كان القتال في الشهر الحرام إثما كبيرا فإن الصد عن دين الله، والكفر به والصد عن زيارة المسجد الحرام بمكة للعمرة وإخراج أهله المسلمين منه مجردين من أموالهم وكل هذا أكبر جريمة وأبشع إثما عند الله سبحانه من القتال في الشهر الحرام.
وقد فعل المشركون هذا كله.
فقد قاوموا الدعوة الإسلامية وعبدوا الأوثان، ومنعوا المسلمين من أداء شعائر العبادة بالمسجد الحرام، وعذبوهم، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم بمكة.
قال إثم أكبر من هذا ؟
ثم عطف على الحكم الجزئي السابق، حكما كليا : يتناول ما تقدم، كما يتناول ما يماثله مستقبلا فقال تعالى :﴿ والفتنة أكبر من القتل ﴾.
أي ما يفتن به المسلمون ويعذبون به، أكبر إثما عند الله من القتل. وقد بالغ المشركون في إيقاع الأذى بالمسلمين، لصرفهم عن دينهم، فقد عذبوا ياسرا والد عمار كانوا يكوونه بالنار ليرتد عن الإسلام حتى مات في العذاب، وعذب أبو جهل سمية أم عمار زوجة ياسر تعذيبا شديدا، ثم طعنها بين فخديها بحربة طعنة قضت عليها.
وأوذى عمار بن ياسر في الله، حتى حملوه على كلمة الكفر فقالها تقية، وغفر الله له.
وكان أمية بن خلف يعذب بلالا، فيجيعه ويعطشه ويطرحه في الرمضاء ويضع على صدره الصخر، ويكويه بالنار ليرتد عن الإسلام.
وغيرهم كثير، ولم يسلم النبي صلى الله عليه وسلم من إيذاء قومه، وأخيرا تآمروا على قتله للقضاء على رسالته السماوية، فنجاه الله بالهجرة إلى المدينة.
ومن هنا كانت الفتنة أكبر من القتل، لأنها قتل بطئ مصحوب بالتعذيب والتنكيل.
وقيل المراد بالفتنة الشرك والكفر.
﴿ ولا يزالوا يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ﴾
أي هم لم يكتفوا بالصد عن سبيل الله والكفر به ولم يقتنعوا بتعذيبكم وإخراجكم من دياركم بل لا يزالون يفتنونكم، بشن الحروب عليكم لإبادتكم، أو صرفكم عن دينكم القويم إن استطاعوا، وسيظل شأنهم مع المسلمين مستقبلا كذلك.
ولا شك أن مقابلة العدوان بمثله أمر مشروع.
والتعبير بحرف الشرط( إن ) لاستبعاد استطاعتهم صرفهم عن دينهم.
ثم حذرهم وقال :
﴿ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ﴾.
أي من يستجب منكم لأولئك المشركين، عن دينه إلى دينهم فيمت وهو كافر : بطل عمله صالح قدمه وخسر الدنيا والآخرة.
وفي هذا إنذار شديد لمن تحدثه نفسه من ضعفاء الإيمان بالارتداد.
﴿ وأولئك أصحاب النار فيها خالدون ﴾
أي وأولئك المرتدون عن دينهم أهل النار، هم فيها خالدون إذا ماتوا وهم كافرون ولا يغني عنهم إيمانهم السابق على الردة.
أما من ارتد عن دينه، ولم يمت وهو كافر بل تاب عن ردته وكفلاه فالله يقبل توبته بفضله.
واستدل الإمام الشافعي بالآية : على أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت صاحبها عليها.
* * *
ثواب الجهاد
﴿ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم( ٢١٨ ) ﴾
المفردات :
الهجرة : الانتقال من موضع إلى موضع، وقصد ترك الأول للثاني والهجر ضد الوصل، والاسم الهجرة.
جاهدوا : جاهد مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد والاجتهاد والتجاهد : بذل الوسع والمجهود والجهاد بالفتح : الأرض الصلبة.
المعنى الإجمالي :
إن الذين آمنوا إيمانا صادقا دفعهم إلى الهجرة لنصرة الدين والجهاد لإعلان كلمته فأولئك ينتظرون عظيم ثواب الله لهم، وإن قصروا في شيء لأن الله غفور يغفر الذنوب، رحيم يرحم عباده بالهداية والثواب.
التفسير :
﴿ إن الذين آمنوا والذين هاجروا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم ﴾
إن الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، واستقاموا على طريق الحق وأذعنوا لحكمه واستجابوا لأوامر الله ونواهيه.
﴿ والذين هاجروا ﴾ : أي تركوا أموالهم وأوطانهم من أجل نصرة دينهم وجاهدوا في سبيل الله لإعلاء كلمته أولئك الموصوفون بتلك الصفات الثلاث.
﴿ يرجون رحمت الله ﴾ : أي يؤملون تعلق رحمته تعالى بهم أو ثوابه على أعمالهم.
﴿ والله غفور رحيم ﴾ : أي واسع المغفرة للتائبين المستغفرين عظيم الرحمة بالمؤمنين المحسنين.
قال القرطبي :
إنما قال يرجون رحمة الله، وقد مدحهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ طاعة الله كل مبلغ لأمرين :
أحدهما : أنه لا يدري بمن يختم له ؟.
والثاني : لئلا يتكل على عمله.
سبب النزول :
جاء في تفسير مقاتل بن سليمان وغيره من المفسرين أن الآية السابقة لما نزلت اطمأن عبد الله بن جحش ومن معه إلى أنهم لم يرتكبوا إثما في قتال المشركين في الشهر الحرام. ثم قال عبد الله بن جحش ومن معه : يا رسول الله، أنطمع أن يكون لنا غزوة عطي فيها أجر المجاهدين. فأنزل الله هذه الآية : إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله يعني جنة الله.
فكانت هذه أول سرية وأول غنيمة وأول خمس، وأول قتيل وأول أسر كان في الإسلام( ١٥٩ ).
* * *
الخمر والميسر
﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون( ٢١٩ ) في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم( ٢٢٠ ) ﴾
المفردات :
الخمر : ما أسكر من عصير العنب، ثم أصبح اسما لكل ما أسكر، وسميت خمر لأنها تستر العقول ***
وتغطيه، من خمر شيء إذا ستره وغطاه.
الميسر : القمار من اليسر وهو السهولة، لأنه كسب بلا مشقة ولا كد.
الإثم : الذنب أو الشر أو الضرر.
العفو : الفضل والزيادة على الحاجة.
تمهــيد :
جاء الإسلام رحمة مهداة، ورسالة عامة للناس أجمعين.
وحين قرر الإسلام ما يتصل بجانب العقيدة فإنه كان حازما من أول لحظة فأعلن الوحدانية الخالصة لله، وقال سبحانه :﴿ قل هو الله أحد*الله الصمد*لم يلد ولم يولد*ولم يكن له كفوا أحد ﴾. ( سورة الإخلاص ).
وإذا عالج الإسلام أوضاعا اجتماعية تدخل في عادات الناس وما تعودوا عليه فإنه يلجأ على الحكمة، والتدرج في التشريع ومن ذلك تحريم الخمر، فقد جاء الإسلام والخمر منتشرة بيت العرب يشربونها عند الحرب لتمنحهم الشجاعة، ويشربونها في السلم لأنها تولد خيالات سارة، وتوهم الفقير بأنه غنى وتوهم الصعلوك بأنه أحد الملوك، على حد قول القائل :
فإذا سكـرت فإننــي *** رب الخـورنق والسديـر
وإذا صحوت فإننــي *** رب الشويهـة والبعيــر
وللخمر مع ذلك آثار ضارة، منها لآثار صحية وآثار اجتماعية، فهي تضر بالصحة وتذهب بالمال وتغتال العقل، وتجعل المخمور آلة للسخرية بين الناس.
وقد أحس كثير من العقلاء بضررها وامتنعوا عن تناولها زهدا في آثارها السيئة.
ولتمكن الخمر نفوس العرب، لم يحرمها الله مرة واحدة بل حرمها بالتدريج.
فذكر أن لها منافع ومضارا، ولكن ضررها أكثر من نفعها، وكان هذا لتحريكك العقول نحو تركها، فما أكثر ضرره وجب تركه. ثم حرم الله الخمر عند الصلاة وبذلك ضيق أوقات السكر وحددها، ثم حرم الله الخمر تحريما قاطعا، وأمر باجتنابها وأكد النبي صلى الله عليه وسلم تحريمها فأعلن ذلك بين المسلمين فأراقوا الخمر في شوارع المدينة، امتثالا لأمر الله وهذا العمل يعبر عن صدق المؤمنين وامتثالهم لأمر الله وإتباعهم لمرضاته.
روى الإمام أحمد عن عمر، أنه قال :" لما نزل تحريم الخمر قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت هذه الآية التي في البقرة :﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ﴾. فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا الخمر بيانا شافيا( ١٦٠ )، فنزلت الآية التي في النساء :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾. ( النساء : ٤٣ ).
فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى : أن لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه، اللهم بين لنا الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية في المائدة :﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون*إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ﴾. ( المائدة : ٩٠-٩١ ).
فقال عمر : انتهينا انتهينا، إنما تذهب المال وتذهب العقل( ١٦١ ).
التفسير :
﴿ يسألونك عن الخمر والميسر... ﴾
أي يسألونك عن حكم تناول الخمر، أحلال أم حرام، ومثل بيعها وشراؤها ونحو ذلك مما يدخل في التصرفات التي تخالف الشرع وعن حكم استعمال الميسر وفعله.
﴿ قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما... ﴾
أي قل لهم : إن في تعاطي الخمر والميسر إثما لأن فيهما أضرارا كثيرة ومفاسد عظيمة، وفيهما منافع للناس وضررهما أكبر من نفعهما.
أما ضرر الخمر من أي نوع اتخذت فقد أثبته الطب بما لا يدع مجالا للشك فيه، فإن شرب الخمر يؤدي إلى التهاب الكبد وضعف المعدة وضعف مقاومة الجسم للأمراض وقد ثبت من بحوث عديدة بالمستشفيات العامة أن نسبة الوفيات بين المدمنين ترتفع على خمسين في المائة، على حين لا تتجاوز نسبتها في غير المدمنين أربعا وعشرين في المائة( ١٢٦ ).
وتأثيرها في العقول ملموس فقد تمت تجارب عديدة ثبت منها الغول( الكحول ) المتولد في الخمر سبب مباشر لخمس الإصابات في مستشفى الأمراض العقلية( ١٦٣ ).
معاني الخمر :
١. الخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة، وكل شيء غطى شيئا فقد خمره، ومنه :
" خمروا آنيتكم " فالخمر تخمر العقل أي تغطيه وتستره.
٢. سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى لأدركت كما يقال : قد اختمر العجين أيبلغ إدراكه، وخمر الرأي أي ترك حتى يتبين فيه الوجه.
٣. سميت الخمر خمرا لأنها تخالط العقل من المخامرة وهي المخالطة، ومنه قولهم دخلت في خمار الناس أي اختلطت بهم.
والمعاني الثلاثة متقاربة، فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت ثم خالطت العقل والأصل الستر( ١٦٤ ).
الخمر والنبيذ :
أجمع جمهور العلماء على أن كلمة خمر تشمل كل شرب مسكر، سواء كان من عصير العنب أم من الشعير أممن التمر أم من غير ذلك، وكلها سواء في التحريم. قل المشروب منها أم كثر، سكر شاربه أم لم يسكر، ومن أدلتهم ما رواه الإمام مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها، لم يشربها في الآخرة " ( ١٦٥ ).
ومن أدلتهم أيضا أصل الاشتقاق اللغوي لكلمة خمر، فقد عرفنا أنها سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل وستره، فكل ما خامر العقل من الأشربة وجب أن يطلق عليه لفظ خمر سواء أكان من العنب أم من غيره.
وقال أبوا حنيفة والثوري وابن أبى ليلي وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة : " إن كلمة الخمر لا تطلق إلا عللا الشراب المسكر من عصير العنب فقط، أما السكر من غيره كالشراب المتخذ من التمر أو الشعير فلا يسمى خمرا بل يسمى نبيذا، وقد بنوا على هذا أن المحرم قليله وكثيره إنما هو الخمر من العنب.
أما الأنبذة فكثيرها حرام وقليلها حلال، وإذا سكر منها احد دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه.
ورأى الحنيفة ومن وافقهم رأي ضعيف يرده النظر والخبر( ١٦٦ ).
قال ابن العربي : وتعلق أبو حنيفة بأحاديث ليس لهم خطم ولا أزمة فلا يلتفت إليها، والصحيح ما روى الأئمة أن أنسا قال : حمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلا قليل، وعامة خمرها البسر والتمر. أخرجه البخاري واتفق الأئمة عن رواية " أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب، وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ فكسروا دنانهم أي أواني الخمر وبادروا إلى الامتثال لاعتقادهم أن ذلك طله خمر " أي وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك( ١٦٧ ).
وقال الألوسي : " وعندي أن الحق الذي ينبغي العدول عنه أن الشراب المتخذ مما عدا العنب، كيف كان وبأي اسم سمى، متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده حرام، وقليله ككثيره ويحد شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة. وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع وهو نبيذ العسل فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " ( ١٦٨ ). والأحاديث متضافرة على ذلك ولعمر إن اجتماع الفسق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا الخمر ورغبتهم فيها، فوق اجتماعهم على شرب الخمر ورغبتهم فيه بكثير، وقد وضعوا لها أسماء كالعنبرية والإكسير ونحوهما ظنا منهم أن هذه الأسماء تخرجها من الحرمة، وتبيح شربها للأمة وهيهات هيهات فالأمر وراء ما يظنون، وإنا لله وإنا إليه راجعون " ( ١٦٩ ).
دعوى باطلة :
ادعى بعض المعاصرين أن القرآن لم ينص على تحريم الخمر، بل قال " فاجتنبوه " وهو في نظرهم حث على الاجتناب وليس أمرا قاطعا يدل على تحريم الخمر.
ونقول لهؤلاء : إن الله عز وجل حرم الخمر تحريما قاطعا.
فذكر القرآن أنها رجس من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها ونهانا عن الاقتراب منها باستفهام تقريعي يدل على غاية التهديد قال سبحانه :﴿ فهل أنتم منتهون ؟ ﴾
وعندما سمع الصحابي الآيتين٩٠-٩١ من سورة المائدة قالوا : انتهينا، وأريقت الخمر في شوارع المدينة.
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى اتله عليه وسلم بروايات متعددة وأسانيد مختلفة تثبت حرمة الخمر وضررها.
قال صلى الله عليه وسلم : " لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه " ( ١٧٠ ).
" والأحاديث في تحريم الخمر أكثر من أن تحصى حتى قال العلماء : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الخمر بأخبار تبلغ بمجموعها رتبة التواتر، وأجمعت الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على تحريمها وبذلك استقرت الحرمة حكما للخمر في الإسلام وصارت حرمتها من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن لوازم ذلك أم من استحلها وأنكر حرمتها، يكون خارجا عن الإسلام وأم من يتناولها طائعا مختارا يكون فاسقا عن أمر الله خارجا عن حدوده عاصيا لأحكامه( ١٧١ ).
حكم الخمر :
من أحكام الإسلام في الخمر ما يأتي :
حرمة تناولها، حرمة الانتفاع بذاتها، حرمة إهدائها حرمة بيعها والانتقام بمثلها، إهدار قيمتها، وجوب العقوبة عليها إثبات مضارها الصحية والعقلية والمالية والنفسية.
الخمر أم الخبائث :
الخمر مفتاح كل شر، فلإنسان إذا سكر هذى إذا هذى افترى وتجرأ على المنكر القبيح " ثم إن الشارب يصير ضحكة للعقلاء فيلعب ببوله وعذرته، وربما يمسح بهما وجهه، حتى رأى بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول " اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ".
بل إن الخمر دليل على الزنا، ومن القولة المشهورة لأحد الفضلاء أيشرب هذا نساؤكم ؟ قالوا نعم. قال : زنين ورب الكعبة.
" والخمر والميسر يجران إلى الإثم والمخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور وتعطيل الصلوات والتعوق عن ذكر الله ".
" روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه قال : اجتنبوا الخمر فهي أم الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم تعبد فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها، فقالت له : إنا ندعوك للشهادة. فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت : إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي أو تشرب من هذا الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام، قال : فاسقيني من هذه الخمر كأسا فسقته، قال : زيدوني، فلم يبرح حتى وقع عليها، وقتل النفس. فاجتنبوا الخمر فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه( ١٧٣ ).
" وروى أن الأعشى لما توجه إلى المدينة ليسلم لقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له : أين تذهب ؟ فأخبرهم أنه يرد محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا : لا تصل إليه فإنه يأمرك بالصلاة، فقال : إن خدمة الرب واجبة، فقالوا : إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء، فقال : اصطناع المعروف واجب، فقيل له : إنه ينهى عن الزنى، فقال : هو فحش وقبح في العقل، وقد صرت شيخا فلا أحتاج إليه، فقيل له : إنه ينهي عن شرب الخمر، فقال : أما هذا فإني لا أصبر عليه. فرجع، وقال : أشرب الخمر سنة ثم أرجه إليه، فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات( ١٧٤ ).
" وكان قيس بن عاصم المنقري شرابا لها في الجاهلية ثم حرمها على نفسه وكان سبب ذلك أنه غمز عكنة( ١٧٥ ) ابنته وهو سكران، وسب أبويه ورأى القمر فتكلم في شيء، وأعطى الخمار كثيرا من ماله فلما أفاق أخبر بذلك فحرمها على نفسه، وفيها يقول :
رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحا ولا أشفى بها أبدا سقيما
ولا أعطي بها ثمنا حياتي ولا أدعو لها أبدا نديما
فإن الخمر تفضح شاربيها وتجنبهم بها الأمر العضيما
* * *
ويقول أبو الطيب المتنبي :
وغير فؤادي للغواني رمية *** وغير بناني للزجاج ركاب
وللسر منى موضع لا يناله *** صديق ولا يطغى إليه شراب
وللخمود مني ساعة ثم بيننا *** فلاة على غير اللقاء تجاب
وما العشق إلا عزة وطماعة *** يعرض قلب نفسه فيصاب
تركنا لأطراف القنا كل شهوة *** فليس لنا إلا بهن لعاب
الميسر :
الميسر هو القمار بكسر القاف وهو في الأصل مصدر ميمي من يسر كالموعد من عد، وهو مشتق من اليسر بمعنى السهولة، لأن المال يجيء للكاسب من غير جهد، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزأ ثم أصبح علما على ما يتقامر عليه كالجزور ونحوه.
وقال القرطبي : " الميسر قمار العرب بالأزلام، قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه بماله وأهله فنزلت الآية " ( ١٧٦ ).
وصفة الميسر الذي كانت تستعمله العرب، أنهم كانت لهم عشرة أقداح تسمى الأزلام والأقلام أيضا ( واحدها قدح وزلم وقلم وهي قطع من الخشب ) وأسماؤها الفذ والتؤم والرقيب والجلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفح والرغد، لكل واحد من السبعة الأولى نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها إما عشرة أجزاء أو ثمانية وعشرون جزءا ولا شيء للثلاثة الأخيرة.
فكانوا يعطون للفذ سهما، وللتؤم سهمين، وللرقيب ثلاثة، وللجلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة وللمعلى سبعة ومن ثم يضرب به المثل فيقال لذي الحظ الكبير من كل شيء( هو صاحب القدح المعلى ).
ومجموع هذه الأنصباء ٢٨ سهما كالآتي :
١+٢+٣+٤+٥+٦+٧=٢٨.
وكانوا يجعلون هذه الأزلام في الرعاية وهي الخريطة توضع على يد عدل يجلجلها، ويدخل يده فيها ويخرج منها واحدا باسم رجل ثم واحد باسم رجل آخر وهكذا، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، زمن خرج له القدح لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها شيئا، ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم ( الوغد : الل
﴿ في الدنيا والآخرة... ﴾
المفردات :
العنت : المشقة وما يصعب احتماله. يقال عنت العظم عنتا إذا أصابه وهن أو كسر بعد جبر.
تمهــيد :
جاء الإسلام رحمة مهداة، ورسالة عامة للناس أجمعين.
وحين قرر الإسلام ما يتصل بجانب العقيدة فإنه كان حازما من أول لحظة فأعلن الوحدانية الخالصة لله، وقال سبحانه :﴿ قل هو الله أحد*الله الصمد*لم يلد ولم يولد*ولم يكن له كفوا أحد ﴾. ( سورة الإخلاص ).
وإذا عالج الإسلام أوضاعا اجتماعية تدخل في عادات الناس وما تعودوا عليه فإنه يلجأ على الحكمة، والتدرج في التشريع ومن ذلك تحريم الخمر، فقد جاء الإسلام والخمر منتشرة بيت العرب يشربونها عند الحرب لتمنحهم الشجاعة، ويشربونها في السلم لأنها تولد خيالات سارة، وتوهم الفقير بأنه غنى وتوهم الصعلوك بأنه أحد الملوك، على حد قول القائل :
فإذا سكـرت فإننــي *** رب الخـورنق والسديـر
وإذا صحوت فإننــي *** رب الشويهـة والبعيــر
وللخمر مع ذلك آثار ضارة، منها لآثار صحية وآثار اجتماعية، فهي تضر بالصحة وتذهب بالمال وتغتال العقل، وتجعل المخمور آلة للسخرية بين الناس.
وقد أحس كثير من العقلاء بضررها وامتنعوا عن تناولها زهدا في آثارها السيئة.
ولتمكن الخمر نفوس العرب، لم يحرمها الله مرة واحدة بل حرمها بالتدريج.
فذكر أن لها منافع ومضارا، ولكن ضررها أكثر من نفعها، وكان هذا لتحريكك العقول نحو تركها، فما أكثر ضرره وجب تركه. ثم حرم الله الخمر عند الصلاة وبذلك ضيق أوقات السكر وحددها، ثم حرم الله الخمر تحريما قاطعا، وأمر باجتنابها وأكد النبي صلى الله عليه وسلم تحريمها فأعلن ذلك بين المسلمين فأراقوا الخمر في شوارع المدينة، امتثالا لأمر الله وهذا العمل يعبر عن صدق المؤمنين وامتثالهم لأمر الله وإتباعهم لمرضاته.
روى الإمام أحمد عن عمر، أنه قال :" لما نزل تحريم الخمر قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت هذه الآية التي في البقرة :﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ﴾. فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا الخمر بيانا شافيا( ١٦٠ )، فنزلت الآية التي في النساء :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾. ( النساء : ٤٣ ).
فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى : أن لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه، اللهم بين لنا الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية في المائدة :﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون*إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ﴾. ( المائدة : ٩٠-٩١ ).
فقال عمر : انتهينا انتهينا، إنما تذهب المال وتذهب العقل( ١٦١ ).
التفسير :
أي مثل هذا البيان الواضح في الخمر والميسر والإنفاق يبين الله لكم آيات الأحكام وغيرها، لكي تتفكروا وتتدبروا في شئون الدنيا والآخرة، فتأخذوا بما هو أصله لكم من شئونهما وتجتمع لكم مصالح الروح والجسد تكونوا أمة وسطا، لا كمن ظنوا أن الآخرة لا تنال إلا بترك الدنيا وإهمال منافعها فخسروها وخسروا الآخرة، إذ الدنيا مزرعة الآخرة، ولا كالذين انصرفوا في اللذات، ففسدت أخلاقهم، وأظلمت أرواحهم وصاروا كالبهائم وخسروا الدنيا والآخرة.
وهذه الآية وما ماثلها ترشد إلى أن الإسلام هاد إلى سعة دائرة الفكر واستعمال العقل في مصالح الدارين معا.
وقد حفل القرآن الكريم باستثارة العقل واللب، ودعوة الفكر إلى التدبر والتأمل والنظر والاعتبار، لأن الإسلام دين العقل والفطرة، ودين التأمل والنظر.
قال تعالى :﴿ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ﴾( آل عمران : ١٩٠ ).
﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم وخير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح... ﴾
اليتيم اسم يطلق على من فقد والده صغيرا ويظل الاسم يطلق غليه بعد بلوغه، وكان صلى الله عليه سلم يسمى يتيم أبى طالب واليتامى جمع يتيم ذكرا كان أم أنثى أما الأيتام فجمع للذكران فقط.
وقد عني الإسلام بأمر اليتامى وأمر برعايتهم والعطف عليهم ومسح رءوسهم تعطفا وتحننا، وحذر من أكل أموال اليتامى ظلما، وتوعد من يفعل ذلك بالنار والسعير، وقد ادعى بعض الأجانب أن القرآن لم يهتم بالصغير وهي دعوى باطلة. فقد عنى القرآن بالصغير وحسن تربيته وحثه على مكارم الأخلاق، وتعويده على الصلاة وحسن الخلق. وكان صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى والقدوة الحسنة للتربية المثالية.
كما عني القرآن المكي والمدني بأمر اليتيم، فيقول سبحانه :﴿ فأما اليتيم فلا تقهر ﴾. ( الضحى : ٩ ).
وتحدثت الآيات ٢-٩-١٠ من سورة النساء عن اليتامى، وأمرت بالإحسان إليهم والمحافظة على أموالهم، وتدريبهم على بعض الأعمال حتى ينشأ اليتيم عارفا بشؤون الحياة، وعندما توعد القرآن آكل مال اليتيم بالنار والسعير تحرج المسلمون من مخالطتهم، فكان الأوصياء لا يخالطون اليتامى، وعزلوا طعامهم وأموالهم، فأصابهم من ذلك حرج شديد ثم أذن الله للأوصياء بمخالطة اليتامى إذا كان القصد حسنا والرغبة في الإحسان إلى اليتيم متوافرة.
ونقل ابن كثير عند تفسير الآية ما يأتي : " روى ابن جرير عن ابن عباس قال : لما نزلت :﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾( الإسراء : ٣٤ ) و﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ﴾. ( النساء : ١٠ ).
انطلق ما كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه، فيحسب له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله :﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم وإن تخالطوهم فإخوانكم ﴾. فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم وهكذا رواه أبو داود والنسائي وابن أبى حاتم وابن مردويه والحاكم( ١٨١ ). وهكذا ذكر غير واحد في سبب نزول هذه الآية، كمجاهد وعطاء والشعبي وقتادة.
فقوله :﴿ قل إصلاح لهم خير ﴾. أي على حدة :﴿ وإن تخالطوهم فإخوانكم ﴾ أي وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم، لأنهم إخوانكم في الدين، ولهذا قال :﴿ والله يعلم المفسد من المصلح ﴾ : أي يعلم من قصده ونيته الإفساد والإصلاح، وقوله :﴿ ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز ﴾. أي ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم ولكنه وسع عليكم وخفف عنكم وأباح لكم مخالطتهم بالتي أحسن. قال :﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾( النساء : ٣٤ ) بل جوز الأكل منه للفقير بالمعروف إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر أو مجانا( ١٨٢ ).
وقد راعى الإسلام المصلحة العامة، فأباح مخالطة الوصي لليتيم، إذا كان الوصي صادقا النية في مواساته وتعويضه عن أبيه ورعاية ماله وتثميره.
كما أباح سبحانه للوصي أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف، أي بمقدار ما يبذل له من خدمات، أو بمقدار ما يؤجر به نفسه إذا كان محاسبا أو راعيا فيأخذ بمقدار تعبه من مال اليتيم، فإن كان الوصي غنيا أمسك يده وابتعد عن مال اليتيم.
قال تعالى :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليه أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا ﴾. ( النساء : ٦ ).
" ومدلول هذه الآية أنه يجب على وصي اليتيم أن يختبره بالتدريب العملي بعد النظري، فيطلب منه أن يمسك حساب البيت أو يشتري لوازم الأسرة، فإذا بلغ الحلم وآنست فيه الرشد وحسن التصرف سلمت إليه ماله، وقد نهى القرآن عن تبديد مال اليتيم والإنفاق منه بالإسراف والتبذير قبل أن يكبر اليتيم ويسترد ماله ".
والوصي على اليتيم له أن يأخذ من مال اليتيم بمقدار ما يبذل له من رعاية وتثمير فإن كان الوصي غنيا فلا يأخذ شيئا من مال اليتيم، وإن كان فقيرا أخذ ما يكفيه بالمعروف إذا كان الوصي يقوم برعاية المال كأن يكون محاسبا أو وكيلا أو راعيا أو ناظرا للزراعة فبمقدار ما يؤجر به نفسه يأخذ من مال اليتيم( ١٨٣ ).
وفي ختام آية اليتامى يقول سبحانه :
﴿ ولو شاء الله لأعنتكم ﴾
أي لضيق عليكم بأن لم يجوز لكم مخالطتهم لترعوا مصالحهم دون مخالطة.
﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾
إن الله غالب على كل شيء لا يعجزه أمر أراده، حكيم في تشريع ما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة البشرية التي هي أساس التكليف.
قال تعالى :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾. ( البقرة : ٢١٦ ).
* * *
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
* * *
تحريم الزواج من المشركات
﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون( ٢٢١ ) ﴾
المفردات :
تنكحوا المشركات : تتزوجوهن.
تنكحوا المشركين : تزوجوهم.
المشركين : المراد بهم هنا الكافرون مطلقا.
المشركات : المراد بهم الوثنيات ومن لا دين لهم.
ولأمة : الأمة، المرأة المملوكة.
سبب النزول :
ما روى الواحد( ١٨٤ ) والسيوطي، والقرطبي نقلا عن مقاتل بن سليمان أن هذه الآية نزلت في أبى مرثد الغنوي واسمه أيمن وفي عناق القريشية، وذلك أن أبا مرثد كان رجلا صالحا وكان المشركون قد أسروا أناسا بمكة، وكان أبو مرثد ينطلق إلى مكة مستخفيا فإذا كان الليل أخذ الطريق، وإذا كان النهار تعسف الجبال لئلا يراه أحد حتى يقدم مكة فيرصد المسلمين ليلا فإذا أخرجهم المشركون للبراز تركوهم عند البراز والغائط، فينطلق أبو مرثد فيحمل الرجل منهم من عنقه حتى إذا أخرجه من مكة كسر قيده بفهر ويلحقه بالمدينة، كان ذلك دأبه فانطلق يوما حتى انتهى إلى مكة فلقيته عناق، وكان يصيب منها في الجاهلية فقالت : أبا مرثد مالك في حاجة ؟ فقال لها : إن الإسلام قد حرم الزنا، فلما أيست منه ا، ذرت به كفار مكة فضربوه ضربا موجعا ثم خلوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفتأذن في تزوجها فإنها لتعجبني فنزلت الآية.
التفسير :
﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن... ﴾
أي لا تتزوجوا المشركات حتى يؤمن فنكاحهن وهم مشركات حرام لا ينعقد ويعتبر وطؤهن الزنا.
﴿ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ﴾
ولأمة مسلمة يتزوجها المسلم خير من مشركة حرة كانت أم أمة ولو أعجبتكم بجمال أو مال أو حسب أو نسب.
﴿ ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم... ﴾
" أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك، وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام، والقراء على ضم التاء من تنكحوا " ( ١٨٥ ).
" والآية تحرم تزويج المؤمنات سواء كن حرائر أم إماء بكفار، على أي دين كانوا فلا ينعقد زواج المؤمنة من كتابي أو مشرك أو ملحد " ( ١٨٦ ).
قال تعالى :﴿ فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ﴾. ( الممتحنة : ١٠ ).
لأن ولاية الأمر للرجل على المرأة، فيخشى أن يفتنها في دينها أو يزيغها عن عقيدتها أو يفسد منها دون أن تصلح منه. ثم بين علة النهي عن مناكحة المشركين والمشركات فقال :
﴿ أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ﴾
أي أولئك المذكورين من المشركين والمشركات يدعون على الكفر المؤدي إلى النار فلا تصاهروهم حتى لا يفتنوكم ويفتنوا ذريتهم، والله يدعو بواسطة أوليائه من المؤمنين والمؤمنات إلى دواعي الجنة من الإيمان الخالص والعمل المشروع فكيف يلتقيان بالزواج ؟
﴿ ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ﴾
أي ويوضح الأدلة على أحكام شريعته للناس فلا يذكر لهم حكما إلا إذا بين لهم حكمته وأرشدهم إلى فائدته، والسر في تشريعه، لعلهم بهذا يعتبرون فإن الأحكام إذا ذكرت بعللها وأدلتها طبعت في النفوس وتقبلتها على الوجه المرضي، فصارت الأحكام طريقا إلى الهداية والإقبال إلى الله وتهذيب الأرواح وتنقيتها من أدران الذنوب وأكدار المعاصي.
تعقيبات :
١. المشرك في لسان الشرع من يدين بتعدد الآلهة مع الله تعالى وأصله من الشرك بمعنى أن تجعل الشيء بينك وبين غيرك شركة، فمن يعبد مع الله إلها آخر يعد مشركا وهو في الآخرة من الخاسرين.
ويرى كثير من العلماء أن إطلاق كلمة مشرك ومشركين ومشركات في القرآن الكريم تعني عبدة الأوثان، وأنها صارت في استعمال القرآن حقيقة عرفية فيهم، ولو يطلقها القرآن على اليهود والنصارى، وإنما عبر عنهم بهذا الاسم أو بأهل الكتاب، أو بوصف الكفر دون الشرك. وعليه فالمراد بالمشركات والمشركين في الآية عبدة الأوثان. وذهب بعضهم إلى أن لفظ المشركات يشمل بمقتضى عمومه المرأة الوثنية واليهودية والنصرانية.
٢. تفيد الآية أنه لا يحل للمسلم أن يتزوج بمشركة، ويباح له أن يتزوج كتابية، كما يحرم زواج المسلمة من غير مسلم. والحكمة أن الرجل ولي الأمر فجاز أن يتزوج الكتابية لأنها تؤمن بالله واليوم الآخر. أما المرأة فيخشى على إيمانها وإسلامها أن تكون تحت رجل من أهل الكتاب.
٣. ذهب الإمامية، وبعض الزيدية إلى تحريم زواج المسلم من الوثنية واليهودية والنصرانية لأن لفظ المشركات يشملهن جميعا، وأصحاب هذا الرأي يجعلون آية المائدة :﴿ والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب... ﴾( المائدة : ٥ ) منسوخ بالآية التي معنا نسخ الخاص بالعام.
٤. الجمهور على أنه مباح للمسلم أن يتزوج مسيحية أو يهودية بمقتضى قوله تعال :﴿ وطعام الذين أتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم ﴾( المائدة : ٥ ) وتلحظ أن الآية قيدت الإباحة بكون الكتابيات من المحصنات والمراد بهن في أظهر التفاسير العفيفات. فأولئك الذين يعمدون إلى المنحرفات منهن في أخلاقهن وعقولهن ولا يتخيرون، خارجون عن موضع الإباحة فينا أحسب، لأن الله أحل المحصنات وهم استحلوا المنحرفات.
٥. " إذا رأى ولي الأمر أن هناك خطرا على الدولة الإسلامية أو على المجتمع الإسلامي من إباحة الزواج بالأجنبيات، فله أن يمنع الناس من ذلك الزواج بوضع عقوبات لم يقدم عليه سدا للذريعة ومنعا للنشر وذلك من باب السياسة الشرعية لا من باب تحريم ما احل الله لأن الحل قائم على أصله والمنع وأراد على الضرر الذي يلحق بالمسلمين.
" ولذلك سارت بعض الدول العربية على منح بعض من رجالها من الزواج بالأجنبيات " ( ١٨٧ ).
٦. الأصل في زواج الكتابيات أنه مباح، ويرى بعض العلماء أنه مكروه لأن الكتابيات قد دخل على عقيدتهن التحريف والتغيير ولأن الكتابية لا تدين بالولاء للإسلام، ولما يخشى على الذرية منها.
٧. ورد في تفسير الطبري والقرطبي وابن كثير وغيرهم ما يفيد أن بعض الصحابة قد تزوج بكتابيات، فعثمان بن عفان تزوج نصرانية ثم أسلمت وطلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان تزوجا يهوديتين، وقد كره عمر بن الخطاب زواج المسلمين من الأجنبيات، لئلا يزهد الناس في المسلمات ولغير ذلك من المعاني.
" قال شقيق : تزوج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر : خل سبيلها فكتب إليه، أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن " وإسناده صحيح( ١٨٨ ).
" وروى ابن جرير عن عمر بن الخطاب، قال : المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة " ( ١٨٩ ).
" وروى الحسن عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نتزوج نساء أهل الكتاب، ولا يتزوجون نساءنا " ( ١٩٠ ).
٨. كان بن عمر يحرم زواج المسلم من النصرانية أو اليهودية لأنها مشركة تقول إن ربها عيسى. ولكن الجمهور على خلاف ذلك الرأي. قال القرطبي : وكان ابن عمر إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال : حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من تقول المرأة ربها عيسى. قال النحاس : وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة، لأنه قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة جماعة، منهم عثمان وطلحة وابن عباس، ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وفقهاء الأمصار عليه.
وأيضا فيمتنع أن تكون الآية من سورة البقرة ناسخة للآية التي في سورة المائدة لأن البقرة من أول ما نزل بالمدينة والمائدة من آخر ما نزل، وإنما الآخر ينسخ الأول ويخصصه، وأما قول ابن عمر فلا حجة فيه لأن ابن عمر رضي الله عنه كان متوقفا فلما سمع الآيتين في واحدة التحليل، وفي أخرى التحريم، ولم يبلغه النسخ توقف، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تأول عليه وليس يؤخذ الناسخ المنسوخ بالتأويل( ١٩١ ).
٩. تابع القرطبي مسيرته مؤيدا تحليل الزواج بالكتابيات فقال : " وذكر ابن المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر ابن الخطاب ومن ذكر من الصحابة والتابعين في قول النحاس، وقال في آخر كلامه : ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك " ( ١٩٢ ).
١٠. وقال بعض العلماء : أما الآيتان فلا تعارض بينهما، فإن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب لقوله تعالى :﴿ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ﴾. ( البقرة : ١٠٥ ).
وقال :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ﴾( البينة : ١ ) ففرق بينهم في للفظ وظاهر العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، وأيضا اسم الشرك عموم وليس بنص، وقوله تعالى :﴿ والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب... ﴾( المائدة : ٥ ) بعد قوله والمحصنات من المؤمنات نص فلا تعارض بين المحتمل وبين ما لا يحتمل( ١٩٣ ).
١١. قال الأستاذ سيد قطب : " الجمهور على تحليل الزواج من الكتابيات، ولكني أميل إلى اعتبار الرأي القاتل بالتحريم " ( ١٩٤ ).
ونحن لا نمنع التحريم لاعتبارات مختلفة تدخل في نطاق السياسة الشرعية. قال أستاذي المرحوم الدكتور محمد يوسف موسى : عندما كنت في الجزائر أثناء الاحتلال الفرنسي لها سئلت عن حكم الزواج بالأجنبيات فأفتيت بأنه حرام، لأني وجدت أن هناك شرطا غير مكتوب خلاصته أن الترقية إلى أي منصب رفيع قاصرة على من تزوج من فرنسية. فأفتيت بتحريم الزواج من الفرنسيات حفاظا على قوة المسلمين.
والخلاصة أن الزواج بالكتابيات جائز، والجمهور على أنه مباح. وبعض الناس يحرمه والمختار انه مكروه لاعتبارات طارئة فإذا ترتبت عليه المفاسد صار حراما من باب سد الذرائع ومراعاة القواعد الأصولية التي تقول : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
* * *
أحكام الحيض
﴿ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين( ٢٢٢ ) نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملقوه وبشر المؤمنين( ٢٢٣ ) ﴾
المفردات :
الحيض : لغة السيلان يقال حاض السيل وفاض. وشرعا دم ذو أوصاف خاصة يخرج من الرحم في مدة مخصوصة استعدادا للحمل حين المعاشرة الزوجية إبقاء للنوع البشري.
أذى : ضرر.
اعتزلوا النساء في المحيض : اتركوا غشيانهن في هذه المدة.
الطهر : انقطاع دم الحيض.
التطهير : الاغتسال بالماء إن وجد أم التيمم،
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
تمهيــد :
شرع الله الشرائع ونظم حياة الناس، وهو خالقهم وهو أعلم بما يصلحهم وقد حرم سبحانه وتعالى جماع الرجل زوجته أيام الطمث ( الحيض ) وهي فترة من الصيام الجنسي والابتعاد عن غشيان المرأة امتثالا لأمر الله وحفاظا على الصحة الجسدية والنفسية.
التفسير :
﴿ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ﴾.
سبب نزول :
أخرج مسلم وأحمد وأبو داود وغيرهم عن أنس رضي الله عنه " أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيت، أي لم يكونوا معهن في البيوت فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله هذه الآية. فقال صلى الله عليه وسلم : " جامعوهن في البيوت، واصنعوا كل شيء إلا النكاح " ( ١٩٠ ) أي إلا الوطء لا يحل أثنا المحيض.
وكان اليهود يعتقدون أن الحائض نجسة وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء، وكذلك يتنجس كل ما تلمسه أو تلبسه، فمن مس فراشها لا يطهر إلا بغسل ثيابه واستحمامه، ومع هذا يضل نجسا إلى المساء وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام، وكل فراش يضطجع عليه يكون نجسا إلى نحو ذلك من الأحكام، والرجل الذي يسيل منه دم نحو هذه الأحكام.
وكان العرب في الجاهلية لا يساكنون الحيض، ولا يؤاكلونهن كما كانت تفعل اليهود والمجوس.
وكانت النصارى تتهاون في أمور الحيض، وكانوا مخالطين للعرب في كثير من المواطن، فكان هذا الاختلاف مدعاة للسؤال عن حكم المحيض في هذه الشريعة( ١٩٦ ).
والمعنى : يسألك المؤمن عن دم النساء الذي يأتيهن شهريا وعن الأحكام المترتبة على وجوده قال لهم : هو أدى إذ هو ضار بصحة الأجسام، فرائحته يتأذى منها من يشمها، وهو في ذلته شيء متقذر تعافه النفوس فتنفر منه الطباع فعليكم أيها المؤمنون أن تمتنعوا عن مباشرة النساء في زمن حيضهن ولا تجامعوهن حتى يطهرن من ذلك.
﴿ فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله... ﴾
فإذا تطهرن من المحيض فجامعوهن في المكان الذي أمركم الله بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تتعدوه إلى غيره.
" وفيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال، وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة لقوله :﴿ فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ﴾، وليس له في ذلك مستند، لأن هذا أمر بعد الحظر، وفيه أقوال لعلماء الأصول، منهم من يقول : إنه للوجوب كالمطلق، و هؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم. ومنهم من يقول : إنه للإباحة ويجعلون تقدم النهي قرينة صارفة له عن الوجوب، وفيه نظر.
والذي ينهض عليه الدليل أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي، فإن كان واجبا فواجب قوله :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ﴾( التوبة : ٥ )، أو مباحا فمباح كقوله :﴿ وإذا حللتم فاصطادوا ﴾( المائدة : ٢ ) وكقوله :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ﴾( الجمعة : ١٠ ).
وعلى هذا القول تجتمع الأدلة وهو الصحيح( ١٩٧ ).
وقد اتفق العلماء على أم المرأة إذا نقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم إذا تعذر عليها بشرطه.
إلا أن أبا حنيفة يقول فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهو عشرة أيام عنده أنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل( ١٩٨ ).
وإذا انقطع دمها لأقل الحيض لم تحل حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت الصلاة كامل فتصبح الصلاة دينا في ذمتها.
وسبب الخلاف أن الله عز وجل قال :﴿ ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن ﴾. الأولى بالتخفيف والثانية بالتشديد. وطهر يستعمل فيما لا كسب فيه للإنسان وهو انقطاع الدم، وأما تطهر فيستعمل فيما يكتسبه الإنسان وهو الاغتسال بالماء، فحمل أبو حنيفة :﴿ ولا تقربوهن حتى يتطهرن ﴾. على انقطاع دم الحيض وقوله :﴿ فإذا تطهرن ﴾ : على معنى فإذا انقطع دم الحيض، فاستعمل المشدد بمعنى المخفف.
وقال الجمهور بالعكس، إنه استعمل المخفف بمعنى المشدد والمراد ولا تقربوهن حتى يغتسلن بالماء، فإذا اغتسلن فأتوهن، بدليل قراءة بعضهم :﴿ حتى يطهرن ﴾. بالتشديد، وبدليل قوله :﴿ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ﴾.
أو يستعمل كل واحدة في معناها، ويؤخذ من مجموع الكلامين أن الله علق الحل على شيئين : انقطاع الدم والتطهر بالماء، كقوله :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾. ( النساء : ٦ ) فعلق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين : أحدهما بلوغ النكاح وثانيهما إبناس الرشد.
ودافع الحنيفة عن رأيهم بكلام أقرب إلى الفلسفة والتمحل( ١٩٩ ).
والآية في بساطتها وفيما يظهر منها لأول وهلة متفقة مع رأي الجمهور وهو وجوب التطهر من الحيض قبل المخالطة بين الرجل والمرأة وذلك أقرب إلى سنن الفطرة وإلى النظافة العامة، وأدعى إلى وجوب الألفة والمودة بين الرجل والمرأة.
قال ابن عباس :﴿ حتى يطهرن ﴾. أي من الدم ﴿ فإذا تطهرن ﴾ أي بالماء. وكذلك قال مجاهد وعكرمة والحسن وغيرهم( ٢٠٠ ).
﴿ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ﴾
إن الله يحب عبادة الذين يكثرون التوبة والإنابة والرجوع إلى الله والذين يصونون أنفسهم وينزهونها عن المعاصي والآثام، ويرضى عنهم في الدنيا والآخرة.
قال القرطبي : " " التوابون " من الذنوب والشرك. و " المتطهرون " أي بالماء من الجنابة والأحداث.
وقال مجاهد : " التوابون " من إتيان النساء في أدبارهن و " المتطهرون " الذين لم يذنبوا.
فإن قيل كيف قدم بالذكر الذي أذنب على من لم يذنب قيل قدمه لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه.
وقد أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى حائضا فقد كفر بما أنزل عل محمد صلى الله عليه وسلم " ( ٢٠١ ). والحديث للترهيب والمقصود أنه فعل ما يفعله الكافرون.
بدليل ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، أصبت امرأتي وهي حائض، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتنق نسمة( ٢٠٢ ).
قال القرطبي : " واختلفوا في الذي يأتي امرأته وهي حائض ماذا عليه ؟ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة : يستغفر الله ولا شيء عليه. وقيل : يتصدق بدينار إذا كان دم الحيض احمر أي في أول أيام الحيض ويتصدق بنصف دينار إذا كان دم الحيض اصفر أي في آخر أيام الحيض، كما دلت على ذلك الآثار( ٢٠٣ ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعــقيـبـات

١-
سن الحائض : متوسط السن التي تحيض فيها الفتيات ١٤ سنة ونصف، وقد تكون السن التي تبدأ فيها رؤية الحيض عشر سنوات، وقد تكون ١٨سنة. وتتغير السن بتغير الأجناس والبيئات، ففي اليهوديات تكون السن ١٣سنة غالبا، وفي بلادنا الحارة ١٣-١٤سنة، وفي البلاد الباردة ١٦-١٨سنة أحيانا( ٢٠٥ ).

٢-
مدة الحيض : ومدة نزول الحيض من ٣أيام، وأوسطه خمسة، وأكثره عشرة. وقال الحنابلة والشافعية : أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما، وقال المالكية : أكثره خمسة عشر يوما ولا حد لأقله.

٣-
علامات الحيض : في مبدئه يكون الدم والمخاط الكثير، وكرات ليمونية وبعض بقايا أنسجة وبعد ذلك يكون دما خالصا، وعند الانتهاء يبدأ المخاط في الظهور ثانيا ولا حيض أثناء الحمل.
والدم يرى أثناء الثلاثة أشهر من الحمل أحيانا يعتبر نزيفا في الأصح ولا يمكن حدوث حيض بعد الشهر الثالث من الحمل بحال.

٤-
النفاس : هو الدم الخارج عقب الولادة وأكثره أربعون يوما ولا حد لأقله.

٥-
أحكام الحيض والنفاس : يحرم على الحائض والنفساء كل ما يحرم مم الجنب من مس المصحف والمكث في المسجد، ولا يقبل منها الصوم والصلاة أيام الحيض والنفاس. وتقضي الحائض والنفساء الصوم ولا تقضيان الصلاة، ويحرم جماع الحائض والنفساء.

٦-
صفة غسل الحائض : صفو غسلها من الجنابة وليس عليها نقض شعرها ويكفيها أن تحثوا على رأسها ثلاث حثيات تم تفيض الماء على بقية جسمها فتطهر كما ورد في صحيح مسلم.

٧-
يباح للرجل أن يستمتع من زوجته الحائض بما شاء ماعدا الجماع، روى الجماعة إلا البخاري أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" اصنعوا كل شيء إلا الجماع ". وقال قوم : يباح للرجل من زوجته ما فوق السرة والركبة وما تحته( ٢٠٦ ).
" قال العلماء : مباشرة الحائض هي متزرة على الاحتياط والقطع للذريعة ولأنه لو أباح فخديها كان ذلك منه ذريعة إلى موضع الدم المحرم فأمر بذلك احتياطيا، والمحرم نفسه موضع الدم، فتنفق بذلك معاني الآثار، ولا تضاد، وبالله التوفيق " ( ٢٠٧ ).

٨-
الأضرار الناجمة عن الوطء حين الحيض :

*في المرأة :

( أ ) يحدث التهاب في مهبل المرأة
( ب ) يلتهب الجهاز التناسلي.
( ج ) الالتهاب المهبلي يسبب التهاب الغشاء المخاطي وللمثانة وتشعر المريضة بالميل إلى التبول مع قلة ما ينزل منه.

*في الرجل :

التهابات مختلفة في أعضائه التناسلية، وتمتد الجراثيم أيضا داخل القنوات البولية وقد يصيب المثانة والحالبين ويمتد الالتهاب حتى يصيب البروستاتا والخصية( ٢٠٨ ).

٩-
ورد في سبب نزول :﴿ نساؤكم حرث لمن فأتوا حرثكم أنى شئتم... ﴾ أن اليهود كانوا لا يأتون النساء إلا على حالة واحدة وذلك أستر ما تكون المرأة. وكان النصارى قد خلوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا ( ٢٠٩ ). ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل من امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها فأنكرت عليه وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف، فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، حتى شرى( ٢١٠ ) أمرها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عز وجل : فأتوا حرثكم أنة شئتم : أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات يعني بذلك موضع الولد( ٢١١ ).

١٠-
قال القرطبي : قوله تعالى :﴿ أنى شئتم ﴾ : معناه عند الجمهور من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى من أي جهة شئتم مقبلة ومدبرة. وأنى تجئ سؤالا وإخبارا عن أمر له جهات فهو أعم في اللغة من ( كيف ) ومن ( أين ) ومن ( متى ) هذا هو الاستعمال العربي في( أنى ) وقد فسر الناس ( أنى ) في هذه الآية بهذه الألفاظ.
وفسرها سيبويه ( كيف ) ومن ( أين ) باجتماعهما، وذهبت فرقة ممن فسرها بأين إلى الوطء في الدير مباح وممن نسب إليه هذا القول سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك ابن الماجشون. وحكى ذلك عن مالك في كتاب له يسمى كتاب السر، وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ومالك أجل من أن يكون لك كتاب السر.
ثم علق القرطبي بقوله : والصحيح في هذه المسألة ما بيناه، وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرءون من ذلك لأن إباحة الإتيان بموضع الحرث لقوله تعالى :﴿ فأتوا حرثكم أنى شئتم ﴾.
( وبأحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول اله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيا بمتون مختلفة كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم، وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه تحريم العمل المكروه ( ( ٢١٢ ).

١١-
وقد ذهب ابن كثير في تفسيره إلى تحريم إتيان النساء في أدبارهن وساق عددا من الأحاديث الصحيحة. علق عليها الأستاذ المحقق أحمد محمد شاكر بما يفيد صحتها وصحة إسنادها.
قال ابن كثير :" وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه. روى أحمد عن خزيمة بن ثبات الخطمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا يستحيي الله من الحق، لا يستحيي الله من الحق ثلاثا، لا تأتوا النساء في أعجازهن " ( ٢١٣ ).
وروى الإمام أحمد عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه " وفي لفظ له " ملعون من أتى إمرته في دبرها " ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة بنحوه " ( ٢١٤ ).
( وروى معن بن عيسى عن مالك أن ذلك حرام )
" وروى أبو بكر النيسابوري عم مالك بن أنس أنه سئل : ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن ؟ قال ما أنتم عرب هل يكون الحرث إلا موضع الزرع ؟ لا تعد الفرج، قلت : يا أبا عبد الله، إنهم يقولون إنك تقول ذلك ؟ قال : يكذبون علي، يكذبون علي فهذا هو الثابت عنه. وهو قول أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة، وهو قول سعيد بن المسيب وأبى سلمة وعكرمة وطاوس وعطاء، وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير ومجاهد بن جبير والحسن وغيرهم من السلف أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار ومنهم من يطلق على فعله الكفر، وهو مذهب جمهور العلماء " ( ٢١٥ ).

﴿ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ﴾
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
تمهيــد :
شرع الله الشرائع ونظم حياة الناس، وهو خالقهم وهو أعلم بما يصلحهم وقد حرم سبحانه وتعالى جماع الرجل زوجته أيام الطمث ( الحيض ) وهي فترة من الصيام الجنسي والابتعاد عن غشيان المرأة امتثالا لأمر الله وحفاظا على الصحة الجسدية والنفسية.
المفردات :
الحرث : موضع النبت في الأرض التي تستنبت بها النساء لأنها منبت للولد كالأرض للنبات.
أنى شئتم : كيف شئتم من قيام وقعود واضطجاع وإقبال وإدبار متى كان المأتي واحد وهو موضع الحرث.
التفسير :
أي لا حرج عليكم في إتيان نسائكم بأي كيفية شئتم ما دام في موضع الحرث، فالشارع لا يقصد إلى إعناتكم وحظر اللذة عليكم.
سبب النزول :
أخرج البخاري وجماعة عن جابر قال : " كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في فقبلها أي في فرجها ثم حملت جاء الولد أحول... فنزلت " '٢٠٤ ).
وقد أباحت الآية ما حرمه اليهود من إتيان المرأة في موضع الحمل من جهة الخلف، إذ جوزت إتيان المرأة من أية جهة شاءها الأزواج مادام ذلك في موضع الحرث.
والحرث : الزرع أي موضع الزرع لكم، والكلام على التشبيه والتمثيل، والمعنى : نسائكم موضع إنجاب الذرية لكم فأتوهن في مكان الإنجاب كيف شئتم من الأمام أو من الخلف، أو نائمات على جنوبهن. وفسر ابن عباس : أنى شئتم بأي وقت شئتم من الليل والنهار.
﴿ وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه ﴾
ثلاثة أوامر متتالية تدعو إلى العمل الصالح، واجتناب المعاصي أي قدموا لأنفسكم كل عمل صالح يقربكم إلى الله من تخير للزوجة، وعناية بالذرية وحسن تربية الأولاد وعمل على غرس مفاهيم الإسلام.
والأمر بالتقوى يتكرر عقب آيات الأحكام. ومعنى التقوى خشية الله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
والتذكير بلقاء الله واليوم الآخر حتى يلقى كل إنسان جزاء عمله. وتختم الآية بهذه البشرى :
﴿ وبشر المؤمنين ﴾
أي بشر المؤمنين بالفرج الجميل والجزاء الجزيل والثواب العظيم في الدنيا والآخرة، فمن وجد الله وجد كل شيء ومن فقد الله فقد كل شيء ومن أطاع الله أطاع له كل شيء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعــقيـبـات

١-
سن الحائض : متوسط السن التي تحيض فيها الفتيات ١٤ سنة ونصف، وقد تكون السن التي تبدأ فيها رؤية الحيض عشر سنوات، وقد تكون ١٨سنة. وتتغير السن بتغير الأجناس والبيئات، ففي اليهوديات تكون السن ١٣سنة غالبا، وفي بلادنا الحارة ١٣-١٤سنة، وفي البلاد الباردة ١٦-١٨سنة أحيانا( ٢٠٥ ).

٢-
مدة الحيض : ومدة نزول الحيض من ٣أيام، وأوسطه خمسة، وأكثره عشرة. وقال الحنابلة والشافعية : أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما، وقال المالكية : أكثره خمسة عشر يوما ولا حد لأقله.

٣-
علامات الحيض : في مبدئه يكون الدم والمخاط الكثير، وكرات ليمونية وبعض بقايا أنسجة وبعد ذلك يكون دما خالصا، وعند الانتهاء يبدأ المخاط في الظهور ثانيا ولا حيض أثناء الحمل.
والدم يرى أثناء الثلاثة أشهر من الحمل أحيانا يعتبر نزيفا في الأصح ولا يمكن حدوث حيض بعد الشهر الثالث من الحمل بحال.

٤-
النفاس : هو الدم الخارج عقب الولادة وأكثره أربعون يوما ولا حد لأقله.

٥-
أحكام الحيض والنفاس : يحرم على الحائض والنفساء كل ما يحرم مم الجنب من مس المصحف والمكث في المسجد، ولا يقبل منها الصوم والصلاة أيام الحيض والنفاس. وتقضي الحائض والنفساء الصوم ولا تقضيان الصلاة، ويحرم جماع الحائض والنفساء.

٦-
صفة غسل الحائض : صفو غسلها من الجنابة وليس عليها نقض شعرها ويكفيها أن تحثوا على رأسها ثلاث حثيات تم تفيض الماء على بقية جسمها فتطهر كما ورد في صحيح مسلم.

٧-
يباح للرجل أن يستمتع من زوجته الحائض بما شاء ماعدا الجماع، روى الجماعة إلا البخاري أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" اصنعوا كل شيء إلا الجماع ". وقال قوم : يباح للرجل من زوجته ما فوق السرة والركبة وما تحته( ٢٠٦ ).
" قال العلماء : مباشرة الحائض هي متزرة على الاحتياط والقطع للذريعة ولأنه لو أباح فخديها كان ذلك منه ذريعة إلى موضع الدم المحرم فأمر بذلك احتياطيا، والمحرم نفسه موضع الدم، فتنفق بذلك معاني الآثار، ولا تضاد، وبالله التوفيق " ( ٢٠٧ ).

٨-
الأضرار الناجمة عن الوطء حين الحيض :

*في المرأة :

( أ ) يحدث التهاب في مهبل المرأة
( ب ) يلتهب الجهاز التناسلي.
( ج ) الالتهاب المهبلي يسبب التهاب الغشاء المخاطي وللمثانة وتشعر المريضة بالميل إلى التبول مع قلة ما ينزل منه.

*في الرجل :

التهابات مختلفة في أعضائه التناسلية، وتمتد الجراثيم أيضا داخل القنوات البولية وقد يصيب المثانة والحالبين ويمتد الالتهاب حتى يصيب البروستاتا والخصية( ٢٠٨ ).

٩-
ورد في سبب نزول :﴿ نساؤكم حرث لمن فأتوا حرثكم أنى شئتم... ﴾ أن اليهود كانوا لا يأتون النساء إلا على حالة واحدة وذلك أستر ما تكون المرأة. وكان النصارى قد خلوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا ( ٢٠٩ ). ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل من امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها فأنكرت عليه وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف، فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، حتى شرى( ٢١٠ ) أمرها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عز وجل : فأتوا حرثكم أنة شئتم : أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات يعني بذلك موضع الولد( ٢١١ ).

١٠-
قال القرطبي : قوله تعالى :﴿ أنى شئتم ﴾ : معناه عند الجمهور من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى من أي جهة شئتم مقبلة ومدبرة. وأنى تجئ سؤالا وإخبارا عن أمر له جهات فهو أعم في اللغة من ( كيف ) ومن ( أين ) ومن ( متى ) هذا هو الاستعمال العربي في( أنى ) وقد فسر الناس ( أنى ) في هذه الآية بهذه الألفاظ.
وفسرها سيبويه ( كيف ) ومن ( أين ) باجتماعهما، وذهبت فرقة ممن فسرها بأين إلى الوطء في الدير مباح وممن نسب إليه هذا القول سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك ابن الماجشون. وحكى ذلك عن مالك في كتاب له يسمى كتاب السر، وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ومالك أجل من أن يكون لك كتاب السر.
ثم علق القرطبي بقوله : والصحيح في هذه المسألة ما بيناه، وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرءون من ذلك لأن إباحة الإتيان بموضع الحرث لقوله تعالى :﴿ فأتوا حرثكم أنى شئتم ﴾.
( وبأحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول اله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيا بمتون مختلفة كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم، وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه تحريم العمل المكروه ( ( ٢١٢ ).

١١-
وقد ذهب ابن كثير في تفسيره إلى تحريم إتيان النساء في أدبارهن وساق عددا من الأحاديث الصحيحة. علق عليها الأستاذ المحقق أحمد محمد شاكر بما يفيد صحتها وصحة إسنادها.
قال ابن كثير :" وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه. روى أحمد عن خزيمة بن ثبات الخطمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا يستحيي الله من الحق، لا يستحيي الله من الحق ثلاثا، لا تأتوا النساء في أعجازهن " ( ٢١٣ ).
وروى الإمام أحمد عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه " وفي لفظ له " ملعون من أتى إمرته في دبرها " ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة بنحوه " ( ٢١٤ ).
( وروى معن بن عيسى عن مالك أن ذلك حرام )
" وروى أبو بكر النيسابوري عم مالك بن أنس أنه سئل : ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن ؟ قال ما أنتم عرب هل يكون الحرث إلا موضع الزرع ؟ لا تعد الفرج، قلت : يا أبا عبد الله، إنهم يقولون إنك تقول ذلك ؟ قال : يكذبون علي، يكذبون علي فهذا هو الثابت عنه. وهو قول أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة، وهو قول سعيد بن المسيب وأبى سلمة وعكرمة وطاوس وعطاء، وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير ومجاهد بن جبير والحسن وغيرهم من السلف أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار ومنهم من يطلق على فعله الكفر، وهو مذهب جمهور العلماء " ( ٢١٥ ).


***
اليمين والإيلاء
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم( ٢٢٤ ) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم ( ٢٢٥ ) للذين يؤولون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءو فإن الله غفور رحيم( ٢٢٦ ) وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم( ٢٢٧ ) ﴾
المفردات :
عرضة : عرض يتصرف على معان مرجعها إلى المنع لأن كل شيء اعترض فقد منع، ويقال للسحاب : عارض لأنه من رؤية السماء والشمس والقمر والكواكب. والعرضة كالغرفة المانع المعترض دون شيء.
الأيمان : الأمور المحلوف عليها.
الطلاق : هم حل عقد النكاح الذي بين الرجل والمرأة. وأصله من الانطلاق وهو الذهاب يقال طلقت المرأة تطلق ن باب نصر طلاقا، إذا أصبحت مخلاة بدون رجل بعد أن كانت في عصمت رجل معين.
المعنى الإجمالي :
لا تجعلوا الحلف بالله حاجزا بينكم وبين فعل الخير والبر والتقوى والإصلاح بين الناس.
التفسير :
﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ﴾
لا تجعلوا الحلف بالله حاجزا ومانعا عن البر والتقوى والإصلاح بين الناس. والله سميع لما تلفظون به عالم بأيمانكم فلا ينبغي أن يكون الحلف بالله مانعا عن عمل الخير فالله لا يرضى أن يكون اسمه حجاجا دون خير.
فكثيرا ما يسرع الإنسان إلى الحلف بألا يفعل كذا ويكون خيرا، وأن يفعل كذا ويكون شرا فنهانا الله عن ذلك وأمرنا بتحري وجوه الخير.
فإذا حلف الإنسان على ترك الخير، فليفعل الخير وليكفر عن يمينه ولا يجعل اليمين مانعة له من المعروف.
قال ابن عباس : لا تجعل الله عرضة ليمينك ألا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير.
روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير " ( ٢١٦ ).
والآية توحي بالإقلال من الحلف حتى لا يتعود عليه اللسان، وقد ذم الله المكثرين من الحلف فقال : ولا تطع كلل حلاف مهين. ( القلم : ١٠ ).
قال الإمام الرازي : والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان أم من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع. فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة، فيختل ما هو الغرض في اليمين.
وأيضا كلما كان الإنسان أكثر تعظيما لله، كان أكمل في العبودية، ومن كمال العبودية التعظيم، وأن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في كل غرض دنيوي، وأما قوله بعد ذلك " أن تبروا " فهو علة لهذا الشيء أي إرادة أن تبروا، والمعنى إنما نهيتم عن هذا أي عن الإكثار من الحلف لما أن توقى ذلك من البر والتقوى والإصلاح، فتكونوا يا معشر المؤمنين بسبب عدم إكثاركم من الأيمان بررة أتقياء مصلحين. " ٢١٧ )
سبب النزول :
قال القرطبي وابن جرير الطبري وغيرهم :
نزلت في أبى بكر الصديق رضي الله عنه إذا حلف ألا ينفق على مسطح ابن خالته وكان من الفقراء المهاجرين، وكان أبو بكر يعطف عليه ويرعنه ثم شارك مسطح في الحديث الإفك وروج الكلام في اتهام السيدة عائشة رضي الله عنها، فأقسم أبو بكر ألا يبر مسطحا فريبة فأنزل الله هذه الآية. وأنزل أيضا في شأن حديث الإفك ثلاث عشر آية في سورة النور منها قوله تعالى :
﴿ ولا يأتل ألوا الفضل منكم والسعة أن يأتوا أولوا القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ﴾( النور : ٢٢ ).
فقال أبو بكر لما سمع هذه الآية : بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي. ورجع عن يمينه وكفر عنها. وأجرى على مسطح ما كان ينفقه عليه.
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾
المفردات :
اللغو في اليمين : ما يجري على اللسان دون قصد مثل قوي الإنسان أي الله، ولا والله فهذا ونحوه يسبق إلى اللسان عادة ولا يقصد به عقد اليمين فلا يؤاخذ الله به.
المعنى الإجمالي :
سامح الله المؤمن في يمين اللغو وهو سبق اللسان بما لا يقصده، وشدد العقوبة على الأيمان الفاجرة التي يتعمد صاحبها الكذب.
التفسير :
ولا يعاقبكم الله تعالى لا يلزمكم بكفارة ما صدر عنكم من الأيمان اللاغية فضلا منه سبحانه وكرما.
وقد اختلف أهل التأويل في المراد من اليمين اللغو على عدة أقوال هي :
١- اليمين اللغو هي التي لا يقصدها الحالف بل تجري على لسانه عادة من غير قصد الحلف كقول القائل : لا والله وبلى والله، " أي تجري على لسانه ألفاظ اليمين بدون قصد اليمين ".
٢- إن لغو اليمين هو أن يحلف على كل شيء أنه كان فيظهر أنه لم يكن أو شيء يعتقد أنه لم يكن فيظهر أنه كان.
٣- هو يمين الغضبان الذي يخرجه الغضب عن اتزانه.
٤- هو يمين المكره.
٥- هو يمين الناسي الذي يقسم وينسى قسمه فيخالف ما اقسم عليه.
٦- هو دعاء الإنسان على نفسه كقوله : إن لم أفعل كذا فأصاب بكذا، قال زيد بن أسلم : لغو اليمين هو دعاء الرجل على نفسه : أعمى الله بصره، أذهب الله ماله وهو يهودي، وهو مشرك وهذا كله لا كفارة فيه على أرجح الأقوال.
﴿ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ﴾
أي أن الله سبحانه رحيم بعباده لا يعاقبهم على أيمان اللغو غير المقصودة ولكنه يعاقب من أقسم به كذبا متعمدا، لأنه مخادع منافق يقحم اسم الله فيخدع به الناس جلبا لمنفعة أو دفعا لمضرة.
﴿ والله غفور رحيم ﴾
لا يعجل بعقوبة المسيء لعله يتوب وينيب.
تعقيبات
١-الأيمان الثلاثة :
( أ )يمين لغو : وهي التي لا يقصد بها الحلف أو يحلف ناسيا.
( ب )يمين منعقدة : وهو أن يعقد العزم ويحلف على فعل أمر أو تركه.
فإذا رأى أن يخالف ما أقسم عليه فعل الأولى وكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم فمن لم يجد فصيان ثلاثة أيام.
وإذا أقسم الحالف على فعل معصية أو ترك طاعة فواجب عليه أن يخالف ما أقسم عليه ويكفر عن يمينه.
( ج ) يمين غموس أو فاجرة : وهو الحلف بالله متعمدا الكذب، وهي غموس لا كفارة لها إلا الغموس في نار جهنم.
روى مسلم وعيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار " ( ٢١٨ ).
٢- قال مالك في الموطأ : " أحسن ما سمعت في هذا اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه، فلا كفارة فيه، والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه آثم كاذب ليرضي به أحد، أو يعتذر لمخلوق، أو يقتطع به مالا، فهذا أعظم من أن يكون فيه كفارة على من الحلف ألا يفعل الشيء المباح له فعله ثم يفعله، أو أن يفعله ثم لا يفعله، مثل إن حلف من يبيع ثوبه بعشرة دراهم ثم يبيعه بمثل ذلك أو حلف لي ليضربن غلامه ثم لا يضربه " ( ٢١٩ ).
قال ابن كثير في تفسيره : " روى ابن أبو حاتم عن عائشة أنها كانت تتأول هذه الآية وتقول : هو الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه، ثم حكى نحو ذلك عم أبى هريرة وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير والحسن ومكحول وطاوس وقتادة وغيرهم " ( ٢٢٠ ).
روى أبو داود عن سعيد بن المسيب :( أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما القسمة فقال : إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في تاج الكعبة. قال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك، كفر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عز وجل ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك )( ٢٢١ ).
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ للذين يؤولون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ﴾.
المفردات :
الإيلاء : لغة لحلف، وشرعا حلف الرجل ألا يقرب امرأته.
التربص : الانتظار والترقب قال الشاعر :
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
فاءوا : رجعوا من الفئ بمعنى الرجوع من حال إلى حال، ومنه قوله تعالى :﴿ حتى تفيء إلى أمر الله ﴾( الحجرات : ٩ ) وقول الشاعر :
ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا
ويقال لظل بعد الزوال فئ لأنه رجع يعد أن تقلص
المعنــى الإجمــالي :
من آلى من امرأته بقصد تأديبها وتهذيبها وعلاج اعوجاجها، فإن أقصى مدة لهجر الزوجة هي أربعة أشهر يراجع فيها نفسه، فإنما يعود إليها ويكفر عن يمينه وترجع الحياة بينهما كالسابق، وإما أن يعزم على الطلاق فيطلقها.
التفسير :
وردت الآية ٢٢٦ متممة لأحكام القسم، ومكملة لتنظيم الأسرة على أساس من صلات المودة والرحمة والتعاون المثمر، وكذلك الآية٢٢٧ وقد كان الإيلاء في الجاهلية يستمر بدون توقيت.
قال عبد الله بن عباس : كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، يقصدون بذلك إيذاء المرأة عند المساءة، فوقت لهم أربعة أشهر فمن آلى بأقل من ذلك فليس بإيلاء حكمي( ٢٢٢ ).
والحياة بين الزوجين تتعرض لبعض الأعاصير والعواصف، فسمح الإسلام أن يهجر الرجل زوجته بعض الوقت كبحا لجماع الغرور وتهديدا للكبرياء والخيلاء.
وكان الناس في صدر الإسلام يبالغون في هذا الهجر ويزيدون في مدته عن أربعة أشهر، والمرأة مخلوق محتاج للعطف والحنان محتاج لما يملأ عاطفته النفسية ويلبي رغباته البيولوجية فوقت الإسلام مدة الإيلاء بأربعة أشهر، فهي كافية للتهذيب والتأديب، وما زاد عنها يعتبر عدوانا تحكما وتركا للمرأة كالمعلقة لا هي متزوجة فتأوي إلى زوجها ولا هي مطلقة فتلتمس الأزواج.
ومعنى الآيتين : أن الله تعالى جعل للذين يحلفون على ترك مباشرة زوجاتهم مدة يراجعون فيها أنفسهم، وينتظرون ما يستقر عليهم أمرهم، وهذه المدة هي أربعة أشهر، فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك مباشرة الزوجة، ورأوا أن المصلحة في الرجوع فإن الله تعالى يغفر لهم ما فرط منهم.
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ﴾
المفردات :
عزموا الطلاق : صمموا عليه، من العزم وهو عقد القلب على الشيء والتصميم عليه ويقال عزم على الشيء إذا عقد نيته عليه.
المعنــى الإجمــالي :
من آلى من امرأته بقصد تأديبها وتهذيبها وعلاج اعوجاجها، فإن أقصى مدة لهجر الزوجة هي أربعة أشهر يراجع فيها نفسه، فإنما يعود إليها ويكفر عن يمينه وترجع الحياة بينهما كالسابق، وإما أن يعزم على الطلاق فيطلقها.
التفسير :
وإن استمروا على ترك مباشرة نسائهم وأصروا على ذلك بعد انقضائها فإن شرع الله تعالى يحكم بالتفريق بينهما لأن الحياة الزوجية لا تقوم على البغض والكراهية والهجران وإنما تقوم على المحبة والمودة والرحمة.
قال الفخر الرازي : " كان رجل في الجاهلية لا يريد المرأة ولا يحب أ يتزوجها غيره فيحلف ألا يقربها، فكان يتركها بذلك لا أيما ولا ذات بعل، والغرض منه مضارة المرأة، ثم إن أهل الإسلام كانوا يفعلون ذلك أيضا فأنزل الله تعالى، وأمهل الزوج حتى يتروى ويتأمل، فإذا رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها ".
تعقيبات
- الإيلاء شرعا أن يقول الرجل لزوجنه والله لا أقربك أربعة أشهر، أو أربعة أشهر فصاعدا. أو لا أقربك على الإطلاق.
- جمهور العلماء على أن الطلاق لا يقع بانتهاء هذه المدة وإنما بانتهائها يأمره القاضي بالفيئة، فإن تقبل أمر القاضي بالرضا أمهله مدة يمكنه الفيئة فيها وإن لم يتقبله بالرضا أمره بالطلاق فإن طلقها فبها وإلا فإن القاضي يطلقها عليه.
وقال الأحناف إن الطلاق يقع بمجرد انتهاء هذه المدة وهي الأربعة الأشهر، والرجوع إنما يكون خلالها فلا زيادة فوقها ويكفي مراجعته لنفسه في تلم المدة، وما دام لم يرجع إلى معاشرة امرأته خلالها فقد آثر فراقها ولا يصح أن نعطيه من الوقت بعدها.
- ظاهر أقوال الفقهاء أن الإيلاء فيه من اليمين، وقالت المالكية إذا امتنع الرجل من الوطء قصد الإضرار من غير عذر ولم يحلف كان حكمه حكم المولى لأن الإيلاء لم يرد لعينه وإنما أريد لمعنى سوء المعاشرة والضرر وهذا حاصل إذا ضارها بدون يمين( ٢٢٣ ).
- يرى سيدنا عبد الله بن عباس والحسن البصري رضي الله عنهما أن هذا القانون ينطبق على الانفصال الناجم عن توتر العلاقات دون غيره. ولا ينطبق على الانفصال الذي يتم باتفاق الطرفين ورضاهما من أجل خير مشترك مع الاحتفاظ بعلاقات طيبة فيما بينهما.
وهناك فقهاء آخرون يرون أن قانون الإيلاء ينطبق على أية حالة من حالات الانفصال تتم بناء على حلف أو قسم بغض النظر عما إذا كانت العلاقات بين الزوجين تظل حسنة أم سيئة، ومن ثم يجب ألا يزيد الانفصال عن الأربعة أشهر المحددة( ٢٢٤ ).
- حكمة التوقيت بأربعة أشهر أنها أقصى مدة تستطيع أن تحتملها المرأة.
روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد :
تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني لا حبيب ألاعبه
ألاعبه طورا كان جبينه به قمر قد بدد الليل جانبه
فوالله لولا الله تخشى عواقبه لحرك من هذا السرير جوانبه
ولكنني أخشى رقيبا موكلا بأنفاسنا لا ينفع الدهر شاهده
مخافة ربى والحياء يكفني وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
فلما كان من الغد استدعى عمر تلك المرأة قال لها : أين زوجك ؟ قالت : بعثت به إلى العراق، فاستدعى عمر نساء فسألهن عن المرأة كم مقدار تصبر عن زوجها ؟ فقلن : شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر وينفد صبرها في أربعة أشهر، فجعل عمر مدة غزو الرجل أربعة أشهر فإذا مضت أربعة أشهر استرد الغازين ووجه بقوم آخرين، وهذا والله أعلم يقوي اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر( ٢٢٥ ).
قال القرطبي : واختلفوا أن من حلف ألا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر ولم تطالبه امرأته ولا رفعته إلى السلطان ليوقفه( ٢٢٦ )، لم يلزمه شيء عند مالك وأصحابه و أكثر أهل المدينة، ومن علمائنا من يقول : يلزمه بانقضاء الأربعة الأشهر طلقة رجعية، ومنهم ومن غيرهم من يقول : يلزمه طلقة بائنة بانقضاء الأربعة أشهر. والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه، وذلك أن المولى لا يلزمه طلاق حتى يوقفه السلطان بمطالبة زوجته له ليفئ فيراجع امرأته بالوطء ويكفر يمينه أو يطلق، ولا يتركه حتى يفئ أو يطلق، والفئ : الجماع فيمن يمكن مجامعتها.
قال سليمان بن يسار : كان تسعة رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوقفون في الإيلاء، قال مالك : وذلك الأمر عندنا، وبه قال الليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واختاره ابن المنذر( ٢٢٧ ).
* * *
عدة المطلقة
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم( ٢٢٨ ) ﴾
المفردات :
المطلقات : المراد بهن في الآية المدخول بهن من الحرائر ذوات الحيض أما غير المدخول بهن فلا عدة عليهن.
التربص : التأني والتريث والانتظار.
القروء : واحدها قرء( بضم القاف وفتحها ) يطلق تارة على حيض المرأة وأخرى على طهرها، ومن ثم قال الحنيفة والحنابلة المراد به الحيض، وقال المالكية والشافعية المراد به الطهر.
ما خلق الله في أرحامهن : يشمل الحمل والحيض والطهر.
البعولة : جمع البعل وهو الزوج، والبعولة أيضا مصدر البعل والمباعلة والبعال : الجماع.
المعنى العام للآية :
على المطلقات أن تمكث إحداهن بعد الطلاق زوجها ثلاث حيضات بدون نكاح، ثم لها أن تتزوج بعد إن شاءت، ولا يحل للمطلقة أن تكتم ما في رحمها أو دم الحيض، فالإيمان بالله وباليوم الآخر يدفعها إلى قول الصدق.
وأزواجهن لهم الحق في مراجعة الزوجات المطلقات في مدة العدة إذا كان الطلاق رجعيا فلا يصح أن تمتنع الزوجات عن الرجوع إليهم، وعلى الأزواج عند استعمال هذا الحق أن يقصدوا الإصلاح لا المضرة.
وللزوجات من الحقوق مثل ما عليهن من الواجبات بما لا ينكره الشرع الشريف، وللرجال على النساء درجة الرعاية والنفقة والعدالة.
والله سبحانه فوق عباده يشرع لهم ما يتفق مع الحكمة.
التفسير :
﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء... ﴾
وضع الإسلام أسس السعادة الزوجية فأمر بحسن اختيار الزوجة ثم وضع حقوق الرجل والمرأة في نطاق الأشرة فصل نظام الطلاق عند الحاجة إليه، وأبدع في بيان هذا النظم. ومن ذلك بيان نظام العدة والرجعة والنفقة. ومن أروع البيان ما ورد في هذه الآية قوله سبحانه :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾
وذلك لأن المرأة المطلقة كثيرا ما تشعر بعد طلاقها بأنها في حاجة إلى أن تثبت أن إخفاقها في حياتها الزوجية السابقة ليس لنقص فيها أو لعجز عن إنشاء حياة زوجية أخرى، وهذا الشعور قد يدفعها إلى التسرع والاندفاع من أجل إنشاء هذه الحياة، وهنا تبرز طريقة القرآن الحكيمة في معالجة النفوس، إنه يقول للمطلقة : إن التطلع إلى إنشاء حياة زوجية أخرى ليس عيبا، ولكن الكرامة توجب عليها الانتظار والتريث، إذ لا يليق بالمرأة الكريمة أن تنتقل بين الأزواج تنقلا سريعا وأيضا فإن نداء الفطرة وتعاليم الشريعة توجبان عليها الانتظار مدة ثلاثة قروء لكي تستبرئ رحمها حتى إذا كان حمل نسب إلى الأب الشرعي له.
وفي قوله ﴿ يتربصن بأنفسهن ﴾. إشعار بأن هذا التربص يجب أن يكون من ذات أنفسهن وليس من عامل خارجي فشأن الحرة الكريمة المؤمنة أن تحجز نفسها بنفسها عن كل ما يتنافى مع الكرامة والشرف، فقد تجوع الحرة ولكنها لا تأكل بثديها كما يقال في المثل.
وقد أشار الزمخشري إلى هذا المعنى بقوله :
" فإن قلت وما معنى ذكر الأنفس هنا ؟ قلت في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن، وذلك أن أنفس النساء طوامح من الرجال. فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح، ويجبرونها على التربص " ( ٢٢٨ ).
وقد أوجبت الآية أن تنتظر المطلقة مدة ثلاثة قروء قبل الزواج من رجل آخر.
والقروء جمع قرء بضم القاف وفتحها ويطلق على الطهر وعلى الحيض. ولذلك اختلف الفقهاء في المراد من القروء المعتبرة. العدة فالأحناف والحنابلة ومن قبلهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وغيرهم يرون أن المراد بالقروء هنا الحيضات والمعنى عندهم : أن المطلقات عليهن أن يمكثن بعد طلاقهن من أزواجهن مدة ثلاث حيضات بدون زواج ثم بعد ذلك لهن أن يتزوجن إن شئن.
ومن أدلتهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر القرء بمعنى الحيض، فقد جاء الحديث الذي رواه أبو داود عن فاطمة بنت أبي جحش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : " دعي الصلاة أيام أقرئك " ( ٢٢٩ ).
ولا شك أن المراد بالقرء في هذا الحديث الحيض، لأنه هو الذي لا تصح معه الصلاة.
أما المالكية والشافعية ومن قبلهم عائشة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت، والزهري وغيرهم فيرون أن المراد من بالقروء هنا الأطهار أي الأوقات التي تكون بين الحيضتين للنساء.
ومعنى الآية عندهم : أن المطلقات أن يمكثن بعد طلاقهن من أزواجهن ثلاثة أطهار( ٢٣٠ ) بدون زواج ثم بعد ذلك يزوجن إن شئن ومن أدلتهم : أن الله تعالى يقول :﴿ فطلقوهن لعدتهن ﴾( الطلاق : ١ )
وقد بينت السنة النبوية أن الطلاق لا يكون في الحيض. فلا يتصور أن يكون الطلاق في العدة إلا إذا فسرنا القرء بالطهر لا بالحيض. وروى عن عائشة أنها قالت : هل تدرون الأقراء ؟ الأقراء الأطهار( ٢٣١ ).
والمسألة كما ترى محتملة للمعنيين.
قال السيد رشيد رضا في تفسير المنار قال الأستاذ الإمام محمد عبده : " والخطب في الخلاف سهل لأن المقصود من هذا التربص العلم ببراءة الرحم من الزواج السابق، وهو يحصل بثلاث حيض كما يحصل بثلاثة أطهار، ومن النادر أن يستمر الحيض إلى آخر الحمل فكل من القولين موافق لحكمة الشرع في المسألة( ٢٣٢ ).
﴿ ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾
قيل : المراد بما خلق الله في أرحامهن الحيض، وقيل الحمل وقيل هما معا. وهذا دليل على أن المرأة مؤتمنة على ما في رحمها، يقبل قولها فيه لأنه لا يعلم إلا من قبلها وإنما حرم الله أن يكتمن ما في أرحامهن لأنه يتعلق بذلك حق الرجعة للرجل وعدم اختلاط الأنساب. وإذا لم تحافظ المرأة على ذلك فربما حرمت الرجل من حقه في المراجعة إذا ادعت انقضاء العدة.
وربما ادعت انقضاء العدة وهي مشغولة الرحم بالحمل من المطلق ثم تزوجت فأدى ذلك إلى اختلاط الأنساب.
ولذلك لمست الآية قلوب المطلقات بذكر الله الذي يخلق ما في أرحامهن. واستجاشت كذلك شعور الإيمان بالله واليوم الآخر، فشرط هذا الإيمان ألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، وذكر اليوم الآخر بصفة خاصة له وزنة هنا، فهناك الجزاء " هناك العوض عما قد يفوت بالتربص، وهناك العقاب لو كتمن ما خلق الله في أرحامهن، وهو يعلمه لأنه هو الذي خلقه ولا يخفى عليه شيء منه، فلا يجوز كتمانه عليه سبحانه تحت تأثير أي رغبة أو هوى أو غرض من شتى الأغراض التي تعرض لنفوسهن " ( ٢٣٣ ).
" والآية تدل على من ائتمن على شيء فلا يحل له أن يخون وهذا هو مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر " ( ٢٣٤ ).
﴿ وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ﴾
والمعنى : وأزواج المطلقات طلاقا رجعيا أحق بردهن ومراجعتهن " في ذلك " أي في وقت التربص قبل انقضاء العدة : إن أرادوا إصلاحا. أي إن أرادوا بهذه المراجعة الإصلاح لا الإضرار.
قال القرطبي :
" وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة وكانت مدخولا بها تطليقة أو تطليقتين، أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة، فإن لم يراجعها المطلق حتى انقضت عدتها أحق بنفسها وتصير أجنبية منه ولا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد ليس على سنة المراجعة وهذا إجماع من العلماء.
قال المهلب : وكل من راجع في العدة فإنه لا يلومه شيء من أحام النكاح غير الإشهاد على المراجعة فقط وهذا إجماع من العلماء( ٢٣٥ )لقوله تعالى :( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم ).
ومن هذا التسريع الإلهي العدل نتبين حكمة الإسلام من وراء مشروعية العدة فهي فترة معقولة يراجع فيها الزوج نفسه، ويتبين حقيقة عواطفه ولعله خلال هذه الفترة أن في قلبه رمقا من مودة أو بقية من عاطفة، ولعل الحنين أن يعاود الزوجين إلى استئناف الحياة الزوجية فرارا من الطلاق وهو أبغض الحلال عند الله ( ٢٣٦ ).
﴿ ولهن مثل الذين عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ﴾
أي وللنساء من الحقوق مثل الذي عليهن من الواجبات نحو الرجال، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه وذلك بالمعروف.
قال الألوسي :
" والمراد بالماثلة في الوجوب لا في جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال ".
أي أن الحقوق والواجبات بينهما متبادلة، وأنهما متماثلان في أن كل واحد منهما عليه أن يؤدي نحو صاحبه ما يحب عليه بالمعروف أي بما عرفته الطباع السليمة ولا تنكره، ووافق ما أوجبه الله على كل منهما في شريعته. " كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع : فاتقوا الله في نسائكم، فإنكم أخذتموهن بالأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ( ٢٣٧ ).
وفي حديث معاوية بن حيدة القشيري أنه قال : يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا ؟ قال : " تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت " ( ٢٣٨ ).
وعن ابن عباس قال : إني لأحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي المرأة لأن الله يقول :﴿ ولهن مثل الذين عليهن بالمعروف ﴾. رواه ابن جرير والطبري وابن أبى حاتم وإسناده صحيح( ٢٣٩ ).
وعن ابن عباس أيضا : أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن( ٢٤٠ ).
وقال الطبري : لهن على أزواجهن ترك مضارتهن كما كان ذلك عليهن لأزواجهن.
وقال ابن زيد : تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله عز وجل فيكم. والمعنى متقارب والآية تعم جميع ذلك من حقوق الزوجية( ٢٤١ ).
﴿ وللرجال عليهن درجة ﴾ والدرجة في الأصل ما يرتقي عليه من سلم ونحوه، والمراد به هنا المزية والزيادة أي : لهن عليهم مثل الذي لهم عليهن. وللرجال على النساء مزية وزيادة في الحق بسبب حمايتهم لهن، وقيامهم بشئونهن ونفقتهن وغير ذلك من واجبات.
قال الأستاذ محمد أبو زهرة : وإذا كانت الأسرة لا تتكون إلا من ازدواج هذين العنصرين الرجل والمرأة فلا بد أن يشرف على تهذيب الأسرة ويقوم على تربية ناشئها وتوزيع الحقوق والواجبات فيها أحد العنصرين. وقد نظر الإسلام إلى هذا الأمر نظرة عادلة، فوجد أن الرجل أملك لزمام نفسه وأقدر على ضبط حسه، ووجده هو الذي أقام البيت بماله وأن انهياره خراب عليه، فجعل له الرياسة ولذا قال سبحانه :﴿ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ﴾( النساء : ١٣٤ ).
هذه هي الدرجة التي جعلها الإيلام للرجل، وهي درجة تجعل له حقوقا وتجعل عليه واجبات أكثر فهي موائمة كل الموائمة لصدر الآية فإذا كان للرجل فضل درجة، فعليه فضل واجب( ٢٤٢ ).
﴿ والله عزيز ﴾ : أي منيع السلطان لا معترض عليه.
﴿ حكيم ﴾ : في أمره وشرعه وسائر ما يكلف به عباده، فعلى الرجل والمرأة أن يطلبا عزهما فيما شرعه الله فهو الملجأ والمعاد لكل ذي حق مهضوم وعليهما كذلك أن يتمسكا بما كلفهما به لأنه ما كلفهما إلا بما تقتضيه الحكمة ويؤيده العقل ا
الطلاق والخلع
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون( ٢٢٩ ) ﴾
المفردات :
الطلاق : اسم بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم، والمراد به حل العقدة بين الزوجين بألفاظ مخصوصة.
مرتان : أي دفعتان.
فإمساك بمعروف : المراد به رجعة الزوجة بعد طلاقها مع أداء حقوقها وحسن عشرتها.
أو تسريح بإحسان : إخلاء سبيل الزوجة مع أداء حقوقها المالية وحفظ أسرارها وعدم الإساءة إليها.
الجناح : الإثم.
الاعتداء : تجاوز الحد في قول أو فعل.
الظلم : وضع شيء في غير موضعه.
تمهيد في سبب النزول :
" ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة، وكان هذا في أول الإسلام برهة، يطلق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل من طلاقها راجعها ما شاء. فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم : لا آويك ولا أدعك تحلين، قالت وكيف ؟ قال : أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك، فشكت المرأة ذلك إلى عائشة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية بيانا لعدة الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تحديد مهر وولي ونسخ ما كانوا عليه( ٢٤٨ ) ".
المعنى العام للآية :
الطلاق مرتان يكون للزوج بعد كل واحدة منهما الحق في أن يمسك زوجته برجعتها في العدة أو إعادتها إلى عصمته بعقد جديد، وفي هذا الحال يجب أن يكون قصد الإمساك بالعدل والمعاملة الحسنة، أو أن ينهي الحياة الزوجية مع المعاملة الحسنة وإكرامها من غير مفاجأة، ولا يحل لكم أيها الأزواج أن تأخذوا مما أعطيتموهن شيئا إلا عند عدم إقامة حقوق الزوجية التي بينها الله سبحانه وتعالى وألزم بها، فإن خفتم يا معشر المسلمين ألا تؤدي الزوجات حقوق الزوجية سليمة كما بينها الله تعالى فقد شرع الله للزوجة أن تقدم مالا في مقابل افتراقها من زوجها، وهذه هي أحكم الله المقررة فلا تخالفوها.
التفسير :
﴿ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان... ﴾
أي الطلاق المشروع مرتان أي مرة ثم مرة، فللرجل أن يطلق زوجته، ثم يراجعها أثناء العدة إذا شاء دون توقف على رضاها، ثم له أن يطلقها مرة ثانية أثناء العدة إذا شاء دون توقف على رضاها كذلك، وكل طلقة من هاتين الطلقتين تسمى طلقة رجعية.
أما إذا أمضت العدة بعد الطلقة الأولى أو الثانية دون مراجعة لها فإن الطلاق يصبح بائنا، فلا يعود إليه،
أما إذا أمضت العدة بعد الطلقة الأولى أو الثانية دون مراجعة لها فإن الطلاق يصبح بائنا، فلا يعود إليه، إلا بعقد ومهر جديدين، وبرضا الزوجة أو وليها فإذا طلقها الثالثة بعد أن راجعها مرتين فإنها تصبح حراما عليه، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره كما تشير الآية التالية.
ومعنى إمساكها بالمعروف بعد الطلقة الثانية أن يراجعها مع حسن العشرة والمودة والرحمة، فلذلك هو المعروف عند أرباب المروءات وفي لسان الشرع ونظر العقل.
" ومعنى تسريحها بإحسان بعد الطلقة الثانية أن يتركها دون مراجعة أو أن يطلقها الثالثة وأن يؤدي لها حقوقها من نفقة العدة وأجرة الرضا والحضانة لولده وجبر خاطر وحسن المقالة " ( ٢٤٩ ).
الحكمة في جعل الطلاق الرجعي مرتين :
الحياة الزوجية شركة تقوم على التعاون. من الله بها على عباده وحث الإسلام على حسن العشرة والمكارمة بين الزوجين.
وقد تسوء الحياة ولا يتفق الزوجان ولا يتقابلان فأباح الإسلام أن يطلق الرجل زوجته طلقة رجعية. وفي خلال العدة ربما ظهرت محبة الرجل للمرأة بعد فراقها، أو استبانت له الحاجة ربما ظهرت محبة الرجل للمرأة بعد فراقها، أو استبانت له الحاجة إليها وعظمت المشقة عليه في تركها والبعد عنها وقد تكون المرأة سادرة في كبريائها وخيلائها، ولا تؤدي ما ينبغي للرجل من الحقوق والواجبات فإذا هي طلقت تذكرت مضار خطئها وأحسنت بما كان فيه من عيوب في المعاملات الزوجية والشؤون المنزلية وتمنت أن لو كانت لها عودة تمكنها من إصلاح ما سلف منها. فإذا أبيح لها العودة إلى الحياة الزوجية كان في هذا فرصة استدراك ما فات والعمل على الطريق السوي فيما هو آت.
وقد يحدث أن يعود الرجل سيرته الأولى أو يحدث من الزوجة ما يدعو إلى الفراق ثانية فيطلقها حين حدة الغضب مرة أخرى ثم يندم، فأبيح له العودة مرة أخرى.
فإذا عاد إلى الطلاق مرة ثانية استبان أن رباط الزوجية قد وهن، وأن النفور بينهما قد استحكم فيجدر أن يكون الفراق لا رجعة فيه مع أداء الزوج لحقوق الزوجة والإحسان إليها عند الفراق وعدم الإساءة إليها.
وفي هذا التشريع بذلك الترتيب غاية الرأفة والرحمة من الله بعباده حفاظا على رباط الأسرة وسعادة المجتمع.
وقد اختلف الأئمة فيمن يوقع الطلاق ثلاثا مرة واحدة.
فذهب بعضهم إلى أنه يقع طلقة واحدة.
ومذهب الأئمة الأربعة : أنه يقع ثلاث طلقات.
وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية في بعض البلاد العربية بالرأي الأول إتباعا لرأي بعض كبار الصحابة وكبار التابعيين.
وقد ساق القرطبي في تفسيره أدلة الفريقين بإسهاب. ورجح مذهب الأئمة الأربعة.
كما وردت أدلة الفريقين في أحكام القرآن للجصاص، وأعلام الموقعين لابن قيم الجوزية، ونيل الأوطار للشوكاني، وأحكام القرآن لابن عربي وغيرها.
وقد روى الإمام أحمد ومسلم عن ابن عباس قال : كان الطلاق في عهد الرسول صلى الله عيه وسلم وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاثة واحدة فقال عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كان فيه أناة فلو أمضيناه عليهم( ٢٥٠ ).
﴿ ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن خافا ألا يقيما حدود الله ﴾
ولا يحل للزوج أن يأخذ شيئا من صداق الزوجة، الذي أوجبه الله، لكي يبقيها في عصمته، أو لكي يطلقها، لأن ذلك مناف للمعروف والإحسان الذي أمر الله به والذي هو لائق بصلات المؤمنين بعضهم مع بعض فضلا عن الزوجين.
ومثل الصداق في الحكم سائر أموالهن، وتخصيص الصداق بالذكر لرعاية العادة أو للتنبيه على أن تحريم الأخذ من غيره أولى.
قال ابن كثير وقوله :﴿ ولا يحل أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ﴾ أي لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن ليفتدين منكم بما أعطيتموهن إلا من صدقة أو ببعضه.
كما قال تعالى : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. ( النساء : ١٩ ).
فأما إن وهبته المرأة شيئا من طيب نفس منها فقال تعالى :﴿ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ﴾. ( النساء : ٤ ).
وأما إذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ولا حرج عليها في بذلها له، ولا علية في قبولها ذلك منها ولهذا قال تعالى :﴿ ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيم حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به... ﴾ الآية.
وأما إذا لم يكن عذر وسألت الافتداء منه، فقد روى الإمام أحمد عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " وهكذا رواه أبو داود وابن ماجة وابن جرير( ٢٥١ ).
وروى الإمام أحمد عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :' المختلعات والمنتزعات هن المنافقات ". ( ٢٥٢ )
الخلع :
الخلع هو أن تفتدي المرأة نفسها من زوجها بمال.
" وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في أنه : هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاه ؟ فذهب الجمهور إلى جواز ذلك لعموم قوله تعالى :﴿ فلا جناح عليهما فيما افتدت به ﴾. وبه يقول ابن عمر وابن عباس ومجاهد وغيرهم( ٢٥٣ ) وهذا مذهب مالك والليث والشافعي وأبى ثور واختاره ابن جرير.
" وقال أصحاب أبى حنيفة إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها ولا تجوز الزيادة عليه، فإن ازداد جاز في القضاء. وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئا فإن أخذ جاز في القضاء ". ( ٢٥٤ )
وقال الإمام أحمد وأبو عبيد وإسحاق : أن يأخذ أكثر مما أعطاها. وقد قول سعيد بن المسيب وعطاء والزهري وغيرهم( ٢٥٥ ).
حديث البخاري :
روى البخاري من حديث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم قالت : يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن لا أطيقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتريدين عليه حديقته ؟ قالت نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقبل الحديقة وطلقها تطليقا( ٢٥٦ ).
واستدلت طائفة من الفقهاء بحديث امرأة ثابت المذكور على أنه يجوز الخلع من غير اشتكاء ضرر فإنها تقول : إنها لا تعتب عليه في خلق ولا دين ولمنها لا تطيقه. وقالوا إن الآية لم تذكر الخوف من عدم إقامة حدود الله على جهة الشرط، بل لأنه الغالب( ٢٥٧ ).
وذكر ابن جرير أن ابن عباس قال : إن أول خلع كان في الإسلام أخت( ٢٥٨ ) عبد الله بن أبى : أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله، لا يجمع رأسي ورأسه شيئا أبدا، إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها. قال زوجها : يا رسول الله إني أعطيتها أفضل مالي –حديقة-فلترد علي حديقتي، قال صلى الله عليه وسلم :( ما تقولين ) ؟ قالت : نعم وإن شاء الله زدته. قال : ففرق بينهما " ( ٢٥٩ ). وقيل هذه الآية نزلت في شأنهما.
قال القرطبي : " وهذا لحديث أصل في الخلع وعليه جمهور الفقهاء. قال مال : لم أزل أسمع ذلك من أهل العلم وهو الأمر المجتمع عليه عندنا وهو أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة ولم يسئ إليها ولم تؤت من قبله وأحبت فراقه فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في امرأته ثابت ابن قيس، وإن كان النشوز من قبله بأي يضيق عليها ويضرها رد عليها ما أخذ منها( ٢٦٠ ).
﴿ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به... ﴾
لقد طلب الله أن يكون تسريح المرأة بإحسان ونهي أن يأخذوا شيئا مما آتهن من المهر أو غيره ثم بين أنه لا يحل الأخذ إلا في حالة الخوف ألا يقيما حدود الله فإذا حصل الخوف جاز للمرأة أن تفتدي من زوجها بالخلع، وجاز للرجل أ يأخذ هذا الفداء لا إثم على الزوج في أخذه ولا على الزوجة في إعطائه إياه.
" واختلف العلماء في الخلع : هل هو طلاق : فيعد طلقة ؟ أم هو فسخ فلا يعد طلقة.
فقال مالك والشافعي في أحد قوليه، وأبو حنيفة والثوري وغيرهم هو طلاق بائن فيعد طلقة.
وقالت طائفة : هو فسخ لا ينقص عدد الطلاق إلا أن ينويه، وبه قال ابن عباس وأحمد والشافعي في أحد قوليه وإسحاق ولهم في ذلك أدلتهم.
ويترتب على هذا الخلاف : أن من طلق زوجته تطليقتين ثم خالعها ثم أراد أن يتزوجها فله ذلك عند ابن عباس ومن يرى رأيه لأنه لم يقع منه سوى تطليقتين والخلع لغو ومن جعله طلاقا لم يجز له أن يرتجعها حتى تنكح زوجا غيره، على القول بأنه طلقة بائنة، يجوز للزوج أن يعود بعده لزوجته إذا لم ي
من أحكام الطلاق
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إ ظنا أن يقيما حدود الله يبينها لقوم يعلمون( ٢٣٠ ) ﴾
تمهيد :
بين الله سبحانه في الآيات السابقة طريق إيقاع الطلاق وأنه يكون على دفعات لا دفعة واحدة.
ثم اتبع ذلك بيان حكم الفراق إذا كان بافتداء المرأة نفسها من الرجل.
التفسير :
وفي هذه الآية الكريمة يبين الله سبحانه حكم الطلاق المكمل الثلاث فقال تعالى :
﴿ فإن طلقها فلا تحل له من حتى تنكح زوجا غيره... ﴾
أي فإن طلق الرجل زوجته طلقة ثالثة بعد الطلقتين اللتين أباح الله له مراجعتها بعد كل منهما، فإنه في هذه الحالة تكون زوجته محرمة عليه، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره نكاحا شرعيا صحيحا بأن يدخل بها ويباشرها مباشرة شرعية كما يباشر الأزواج زوجاتهم.
﴿ فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله ﴾.
فإن طلقها الزوج الثاني، وانقضت عدتها منه فلا إثم على المرأة وزجها الأول أن يتراجعا بعقد جديد إن ظنا أن يقيما حدود الله ويتعاشرا بالمعروف ويحرص كل منهما على القيام بواجب الزوجية.
قال سعيد ابن المسيب وسعيد بن جبير : النكاح في الآية : العقد الصحيح فهو كاف في التحليل للأول وإن لم يجامعهما، ما لم يرد بالعقد مجرد إحلالها للأول. وإطلاق النكاح على العقد معروف لغة وشرعا. ولكن هذا الرأي ضعيف لمخالفته لما جاءت به السنة الصحيحة، وللحكمة المقصودة من هذا الزواج، وهي تخويف الناس من البت في الطلاق حتى لا تصير نساؤهم إلى هذا المصير، ولتأديب من بت طلاق امرأته.
" روى الإمام أحمد عن عائشة قالت : دخلت امرأة رفاعة القرضي، وأنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن رفاعة طلقني ألبتة، وأن عبد الرحمان بن الزبير تزوجني، وإنما عنده مثل الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له فقال : يا أبا بكر، ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " رواه البخاري، وفي حديث عبد الرزاق عند مسلم : " إن رفاعة طلقها آخر ثلاث طلقات " وقد رواه الجماعة إلا أبا داود( ٢٦٢ ).
وإذا تزوجها الزوج الثاني بقصد إحلالها للزوج لأول فقد قال أبو حنيفة وأصحابه : النكاح جائز للأول إن دخل بها الثاني وطلقها وله أن يمسكها إن شاء.
وفي رواية أخرى عنهم لا تحل للأول إن تزوجها ليحلها له. ولم يختلفوا في أن نكاح الزوج الثاني صحيح.
وحكى الماوردي عن الشافعي : أنه إن شرطا التحليل قبل العقد، صح النكاح وأحلها للأول وإن شرطاه في العقد بطل النكاح ولم يحلها للأول.
وقد جاء في تفسير القرطبي ما يأتي : " قال ابن العربي : ما مرت في الفقه مسألة أعسر منها، وذلك أن من أصول الفقه أن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء أو بأواخرها ؟ فإن قلنا : إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا مذهب سعيد. وإن قلنا الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الإنزال مع مغيب الحشفة في الإحلال لأنه آخر ذوق العسيلة على مقالة الحسن. قال ابن المنذر : ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد ابن المسيب قال : أما الناس فيقولون : لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني، وأنا أقول : إذا تزوجها تزوجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها، فلا بأس أن يتزوجها الأول. وهذا قول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، والستة مستغنى بها عما سواها( ٢٥٣ ).
اللعنة على المحلل :
من الناس من يتخذ آيات الله هزوا فإذا حرمت المرأة على زوجها بعد الطلاق ثلاثا تحايل على إحلالها للزوج الأول بزواج صوري. وقد ورد الأحاديث الصحيحة تنهي على هذا العمل. قال ابن كثير في تفسيره :
( فصل ) والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة قاصدا لدوام عشرتها، كما هو المشروع من التزويج، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطئا مباحا، فلو وطئها وهي محرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائضا أو نفساء، أو والزوج صائم أو محرم أو معتكف لم تحل للأول بهذا الوطء.
واشترط الحسن البصري فيما حكاه عن الشيخ أبو عمر بن عبد البر أن ينزل الزوج الثاني، وكأنه تمسك بما فهمه من قوله عليه الصلاة والسلام " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ".
فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة فروى الإمام أحمد عن عبد الله قال :
" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة، والمحلل والحلل له وآكل الربا وموكله ". رواه الترمذي والنسائي. ( '٢٦٤ ).
ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، قال : والعمل على هذا هند أهل العلم من الصحابة منهم : عمر وعثمان وبن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له " ( ٢٦٥ ).
وروى الإمام أحمد عن أبى هريرة قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له " ( ٢٦٦ ).
وروى الحاكم عن نافع قال : " جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه هل تحل للأول ؟ فقال : لا، إلا نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه( ٢٦٧ ) وهذه الصيغة مشعرة بالرفع.
وروي عن عمر أنه قال : لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما.
وروى البيهقي عن سليمان بن يسار : أن عثمان بن عفاف رفع إليه رجل تزوج امرأته ليحلها لزوجها، ففرق بينهما وكذا روى عن علي وابن عباس وغير واحد من الصحابة " ( ٢٦٨ ).
﴿ تلك حدود الله يبينها لقوم لا يعلمون ﴾
أي وتلك الأحكام المذكورة التي تتصل بالنكاح والطلاق والرجعة والخلع، وغير ذلك هي حدود الله وأحكامه بينها بيانا واضحا مفصلا، لقوم يعلمون حقها وأهميتها، فيحافظون عليها ويتعهدون بتنفيذها، وذلك لا يدركه إلا عالم متدبر أما الجاهل فلا ينظر إلى العواقب ولا يحافظ على حدود الله.
وتكررت جملة :﴿ تلك حدود الله ﴾ في أحكام الطلاق لإبراز أهميتها، وإظهار الذنب الكبير في مخالفتها.
* * *
الإمساك بالمعروف
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم( ٢٣١ ) ﴾
المفردات :
فبلغن أجلهن : أي قاربهن نهاية عدتهن. يقال بلغ البلد إذا وصل إليه، ويقال أيضا بلغه شارفه ودنا منه. يقول الرجل لصاحبه : إذا بلغت مكة فاغتسل بذي طوي، يريد دنوت منها، لأن ذا طوي قلبها. والأجل يطلق على المدة كلها ويطلق على آخر مجازا. " قال الراغب : الأجل : المدة المضروبة للشيء. قال تعالى : ولتبلغوا أجلا مسمى( غافر : ٦٧ ) أي مدة معينة والبلوغ الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى مكانا كان أو زمانا أو أمرا من الأمور المقدرة، وربما يعبر به عن المشارفة عليه وإن لم ينته إليه، فمن الانتهاء قوله تعالى : حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة( الأحقاف : ١٠ ) وأما قوله : فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف( الطلاق : ٢ ) فللمشارفة فإنها إذ انتهت إلى أقصى الأجل لا يصح للزوج مراجعتها وإمساكها( ٢٦٩ ).
الإمساك : المراجعة.
المعروف : ما ألفته العقول واستحسنته النفوس شرعا وعرفا وعادة.
التسريح : ترك المراجعة حتى تنتهي عدتها.
الضرار : الضرر.
الاعتداء : الظلم،
هزوا : أي مستهزءا بها بالإعراض عنها والتهاون في المحافظة عليها. والهزء بضمتين مصدر هزأ به إذا سخر ولعب. وهو هنا مصدر بمعنى اسم مفعول، وموقعه في الإعراب مفعول ثان لتتخذوا.
نعمة الله : هي الرحمة التي جعلها بين الزوجين.
من الكتاب : أي من آيات أحكام الزوجية.
الحكمة : سر تشريع الأحكام وبيان ما فيها من منافع ومصالح.
التفسير :
﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف سرحوهن بمعروف... ﴾
المعنى : وإذا طلقتم أيها لمؤمنون نساءكم طلاقا رجعيا، فبلغن أجلهن، أي فشارفت عدتهن على الانتهاء، وقاربت الانقضاء فعليكم أن تتدبروا مليا في أمركم، فإن رأيتم الأصلح في بقائهن معكم فنفذوا ذلك وأمسكوهن بمعروف، أي بما هو معروف من شرع الله الحكيم، وبما تقره الأخلاق الحسنة والعقول السليمة، وإن رأيتم أنه لا رغبة لكم في البقاء معهن فسرحوهن بمعروف، أي فأمضوا الطلاق، وتفارقوا بالطريق التي يرضاها الحق سبحانه بأن تؤذوا لهن حقوقهن، ولا تذكروهن بسوء بعد انفصالكم عنهن فهذا شأن الأتقياء الصالحين فقد سئل بعضهم : لم طلقت امرأتك ؟ فقال : إن العاقل لا يذكر ما بينه وبين أهله.
﴿ ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ﴾
أي لا تراجعوهن إرادة الإضرار بهن والإيذاء لهن( لتعتدوا ) عليهن، والجملة الكريمة تأكيدا للأمر بالإمساك بمعروف وتوضيح لمعناه، وزجر صحيح عما كان يفعله بعضهم من مراجعته لمر أته قبيل انتهاء عدتها لا لقصد الإبقاء على الزوجية وإنما لقصد إطالة عدة الزوجة، أو لقصد أن تفتدي نفسها منه بالمال.
وضرارا، منصوب على الحال في تمسكوهن أو على أنه مفعول لأجله واللام في لتعتدوا هي لام العاقبة أي لتكون عاقبة أمركم الاعتداء، وحذف مفعول لتعتدوا ليتناول الاعتداء عليهن وعلى أحكام الله تعالى.
" قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد : كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضررا لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلها فتعتد فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول العدة، فنهاهم الله عن ذلك وتوعدهم عليه " ( ٢٧٠ ).
وأخرج ابن جرير وغيره عن السدى : أن رجلا من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق زوجته حتى إذا انقضت عدتها إلى يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها، ففعل ذلك بها حتى مضت تسعة أشهر : يضارها، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
فلا يحل للرجل أن يراجع زوجته إلا إذا كان قد اعتزم العدل وأراده، فإن تعذر قيام الحياة الزوجية فلا يسوغ له أن يستأنفها معاندة للزوجة وعداوة لها فإن ذلك اعتداء وظلم، ولهذا قال سبحانه :
﴿ ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه... ﴾
أي ومن يفعل ذلك الإمساك المؤذي للضرر فقد ظلم نفسه بمخالفته أمر الله وبتعريض نفسه لعذاب الله.
﴿ ولا تتخذوا آيات الله هزوا ﴾
أي ولا تتخذوا أيها الناس آيات الله التي شرعها لكم في شأن الطلاق وغيره مهزوءا بها بأن تعرضوا عنها وتتهاونوا في المحافظة عليها والتمسك بتعاليمها. ومن مظاهر ذلك أن بعض الناس كان يكثر من التلفظ بالطلاق متوهما أن ذلك لا يضر، أو كان يتخذ المراجعة وسيله لإيذاء المرأة.
جاء في تفسير ابن كثير : " روى ابن جرير عن أبى موسى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب على الأشعرين، فأتاه موسى فقال : يا رسول الله أغضبت على الأشعرين ؟ فقال : يقول أحدكم قد طلقت، قد راجعت ليس هذا طلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل عدتها( ٢٧١ ).
وقال مسروق : هو الذي يطلق في غير كهنه، ويضار امرأته بطلاقها وارتجاعها لتطول عليه لعدة.
وقال الحسن وقتادة وغيرهما : هو الرجل يطلق ويقول كنت لاعبا. أو يعتق أو ينكح ويقول منت لاعبا.
فأنزل الله :﴿ ولا تتخذوا آيات الله هزوا ﴾. فألزم الله بذلك.
وروى الحاكم وصححه والبيهقي وأبو داود والترمذي وابن ماجه، عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث جدهن جد وهزلهم جد : النكاح والطلاق والتق " ( ٢٧٢ ).
وعن أبى عمرة وابن مردويه عن أبى الدرداء قال : " كان الرجل يطلق ثم يقول لعبت ويعتق ثم يقول لعبت، فنزلت والآية على هذا عامة في جميع الأحكام.
﴿ واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة... ﴾
أي واذكروا نعمة الله عليكم في إرسال الرسول بالهدى والبينات، أو بالإسلام والتزويج وجميع النعم، واذكروا كذلك ما أنزل عليكم من آيات الكتاب الحكيم، المنزل على رسولكم المبين لما يسعدكم من الشرائع والأحكام واذكروا أيضا ما أنزل عليكم من حكمة الرسول، وسنته التي بين بها آيات الله وتشريعاته.
﴿ يعظكم به ﴾ أي يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم.
﴿ وتقوا الله ﴾ أي فيما تأتون وفيما تنذرون.
﴿ واعلموا أن الله بكل شيء عليم ﴾
فلا يخفى عليه شيء مما تأتون وما تنذرون فيؤاخذكم بما تعلمون من خير وشر، ولا شك أن معرفة المسلم ذلك، توجب عليه الالتزام بأوامر الله، واجتناب ما نهى الله عه، ليكون بذلك في وقاية من عذاب ربه العليم بكل شيء.
* * *
حق اختيار الزوج
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا ترضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كلن منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون( ٢٣٢ ) ﴾
المفردات :
فبلغن أجلهن : أي وصلن إلى نهاية عدتهن، تماما من غير نقصان، ونلاحظ أن الآية السابقة بدأت بقوله تعالى :﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن ﴾. الآية ومعنى فبلغن أجلهن في الآية السابقة أي فقاربهن بلوغ أجلهن ونهاية عدتهن.
ومعنى فبلغن أجلهن في الآية التي معنا : وصلن إلى نهاية عدتهن.
فلا تعضلوهن : فلا تمنعوهن من الزواج، والعضل الحبس والتضييق.
العظة : النصح والتذكير بالخير على وجه يرق له القلب ويبعث على العمل.
الزكاء : النماء والبركة.
المعنى الإجمالي :
وإذا طلقتم النساء وتمت عدتهن وأرادت إحداهن أن تستأنف زواجا جديدا من المطلق أو من آخر غيره فلا يحل للأولياء ولا للزوج أن يمنعوهن من ذلك. وإذا تراضى الطرفان على عقد جديد وإرادة حياة كريمة تؤدي إلى حسن العشرة بينهما. ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله وباليوم الآخر، ذلك أدعى إلى تنمية العلاقات الشريفة في مجتمعكم وأطهر في نفوسكم من الأدناس والعلاقات المربية والله يعلم من مصالح البشر وأسرار نفوسهم ما يجهلون الوصول إليه.
سبب النزول :
روى البخاري والترمذي : وقال حديث حسن صحيح : عن معقل بن يسار قال : " كانت لي أخت : فأتاني ابن عم لها فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت عدتها فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقلت له : يا لكع، أكرمتك بها وزوجتكما ثم طلقتها، ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدا وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه. فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله هذه الآية قال : ففي نزلت هذه الآية، فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه " وفي رواية : " فلما سمعها معقل قال : سمعا لربي وطاعة ثم دعاه فقال : أزوجك، وأكرمك " ( ٢٧٣ ).
التفسير :
﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف... ﴾
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن : أي انقضت عدتهن وخلت الموانع من زواجهن فلا تمنعوهن من الزواج بمن يرن الزواج منه، متى حصل التراضي بين الأزواج والزوجات على ما يحسن في الدين وتقره العقول السليمة ويجري بها العرف الحسن، فإن للزوجة حقا ثابتا في اختيار زوجها لأنها هي التي ستعيش معه.
وكما يحرم العضل بالنسبة إلى زوجها الأول يحرم بالنسبة إلى زوج جديد تم بينهما تراض شرعي.
﴿ ذلك يوعظ به من كلن منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾.
ذلك النهي عن العضل والإضرار وما اتصل به من الأحكام.
يوعظ به أن يذكر به.
﴿ من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾ : يغلب جانب المصلحة على هوى النفس لأن شأنها شأن الإيمان العمل بالأحكام لهذا خصص بالذكر.
﴿ ذلك أزكى لكم وأطهر... ﴾
أي ذلكم النهي عن ترك العضل على الشرط الذي تقدم، فيه بركة وصلاح لحال متبعيه، وفيه طهر لأعراضكم وأنسابهم، وحفظ لشرفهم وأحسابهم، فكم كان عضل النساء مدعاة للفسوق مفسدة للخلق وسببا في اختلال نظام البيوت وشقاء للذرية.
انظر إلى ولي يمنع من له الولاية عليها من الزواج بمن تحب ويزوجه بمن تحب ويزوجها بمن تكره اتباعا لهواه أو لعادات قومه كما كانت تفعل العرب من قبل، أيرجى لمثل هذه صلاح أو أن تقيم حدود الله أم يخشى أن يغويها الشيطان بمن تحب، ويمد لها حبل الغواية حتى لا تقف عند حد ؟.
ولجهل الناس بوجوه المصالح الاجتماعية كانوا لا يرون النساء شأنا في إصلاح حال البيوت ولا فسادها، حتى جاء الإسلام وعلمهم من ذلك ما هم أشد الحاجة إليه من حسن معاملة النساء والرفق بهن ومعاملتهن بالحسنى :﴿ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ﴾( البقرة : ٢٢٨ ).
ثم قال تعالى :﴿ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾
أي والله يعلم ما فيه صلاح أموركم من الأحكام والشرائع، وأنتم لا تعلمون ذلك علما صحيحا خاليا من الأهواء والأوهام.
فالبشر جميعا لم يهتدوا إلى هذه الأحكام مع تجاربهم الطويلة بل عزبت عن نفوس الكثيرين منهم بعد أن أنزل بها الوحي وجاء بها الدين فلم يعملوا بها، وكل يجب عليهم أن يقيموها على وجهها ملاحظين ما لها من فوائد ومنافع أرشد إليها العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
الأحكام التي تؤخذ من الآية :
أورد القرطبي حديث معقب بن يسار الذي منع أخته من العودة إلى زوجها وأنزل الله هذه الآية فانقاد لأمر الله ثم قال القرطبي :
إذا ثبت هذا ففي هذه الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي لأن أخت معقل ثيبا. ولو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها ولم تحتج إلى وليها معقل.
فالخطاب إذا في قوله تعالى :﴿ فلا تعضلوهن ﴾ : للأولياء وإن الأمر إليهم في التزويج مع رضاهن، وقد قيل إن الخطاب في ذلك للأزواج، وذلك بأن يكون الارتجاع عضلا ومنعا من نكاح الغير بتطويل العدة عليها، واحتج بها أصحاب أبى حنيفة على أن تزوج المرأة نفسها قالوا : لأن الله تعالى أضاف ذلك إليها كما قال : فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره. ولم يذكر الولي.
والولي أصح لما ذكرناه من سبب النزول والله أعلم( ٢٧٤ ).
رأى المحقق أحمد شاكر :
الأستاذ المحقق أحمد شاكر م جهابذة العلماء المعاصرين، متضلع في علوم الحديث والتفسير وفروع الشريعة. وقد علق على حديث معقل بن يسار المزني الذي منع أخته من العودة إلى زوجها فنزلت فيه الآية السابقة بما يوجب اشتراط الولي في الزواج منعا للمفسدة وعملا بنصوص الشريعة ودفعا للفتنة عن النساء.
قال الأستاذ أحمد شاكر :
قال الترمذي بعد روايته للحديث : وفي هذا الحديث الدلالة على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي لأن أخت معقل بن يسار كانت ثيبا، فلو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها ولم تحتج إلى وليها معقل بن يسار، وإنما خاطب الله في هذه الآية الأولياء فقال : فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن. ففي هذه الآية دليل على أن الأمر إلى الأولياء في التزويج مع رضاهن.
وقال الطبري ٥/٢٦-٢٧ ( من طبعتنا ) : وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال : لا نكاح إلا بولي من العصبة وذلك أن الله تعالى ذكره منع الولي من عضل المرأة إن أرادت النكاح ونهاه عن ذلك، فلو كان للمرأة إنكاح نفسها بغير نكاح وليها إياها، أو كان لها تولية من أرادت توليته في إنكاحها لم يكن لنهي وليها عن عضلها معنى مفهوم، إذ كان لا سبيل له إلى عضلها، وذلك أنها إن كانت متى أرادت النكاح جاز لها إنكاح نفسها أو إنكاح من توكله بإنكاحها فلا عضل هناك لها من أحد فينهى عاضلها عن عضلها ".
وهذا الذي قاله الترمذي وابن جرير بديهي واضح من معنى الآية وفقهما، لا يخالف في ذلك إلا جاهل، أو ذوي هوى وعصبية جامحة.
ثم الذي لا يشك فيه أحد من أهل العلم بالحديث، أن حديث " لا نكاح إلا بولي " حديث صحيح ثابت بأسانيد تكاد تبلغ التواتر المعنوي الموجب للقطع بمعناه، وهو قول الكافة من أهل العلم، الذي يؤيده الفقه في القرآن ولم يخالف في ذلك فيما نعلم إلا فقهاء الحنيفة ومن تابعهم وقلدهم، وقد كان لمتقدميهم بعض العذر، لعله لم يصل إليهم إذ ذاك بإسناد صحيح. أما متأخروهم فقد ركبوا رءوسهم وجرفتهم العصبية، فراحوا يذهبون كل مذهب في تضعيف الروايات أو تأويلها، دون حجة أو دون إنصاف.
وها نحن أولاء في كثير من بلاد الإسلام التي أخذت بمذهب الحنيفة في هذه المسألة نرى آثار تدمير ما أخذوا به للأخلاق والآداب والإعراض مما جعل أكثر أنكحة النساء اللاتي ينكحن دون أوليائهن، أو على الرغم منهم أنكحة باطلة تضيع معها الأنساب الصحيحة.
وأنا أهيب بعلماء الإسلام وزعمائه، في كل بلد وكل قطر، أن يعيدوا النظر في هذه المسألة الخطيرة، وأن يرجعوا إلى ما أمر الله به ورسوله من شرط الولي المرشد في النكاح حتى نتفادى كثيرا من الأخطار الخلقية والأدبية... " ( ٢٧٥ ).
* * *
الرضاعة
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإذا أراد فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير( ٢٣٣ ) ﴾
المفردات :
المولود له : أبو الولد، فإن الولد يولد له وينسب إليه.
رزقهن : نفقتهن.
وسعها : الوسع، الطاقة والاحتمال.
فصالا : فطاما الولد عن الرضاع.
جناح : الجناح الإثم.
أن تستعرضوا : أن تطلبوا مرضعات لأولادكم غير أمهاتهم.
المعنى الإجمالي :
وعلى الأمهات أن يقمن بإرضاع أولادهن مدة عامين مراعاة لمصلحة الطفل، إذا طلب أحد الوالدين أو كلاهما استيفاء مدة الرضاعة تامة لاحتياج الولد إليها، ويلزم الولد باعتبار الولد منسوبا إليه بالإنفاق على الأمهات حينئذ بإطعامهن وكسوتهن على قدر طاقته بلا إسراف ولا تقتير، فإنه لا يلزم إنسان إلا بما يقدر عليه ويستطيعه، ولا ينبغي أن يكون سببا في إلحاق الضرر بأمه، بأن يهضم حقها في نفقتها أو حضانة ولدها، كما ينبغي أن لا يكون الولد سببا في إلحاق الضرر بأبيه بأن يكلف طاقته أو يحرم حقه في ولده، وإذا مات الأب أو كان فقيرا عاجزا عن الكسب، كانت النفقة على وارث الولد ولو كان له مال فإن رغب الوالدان أو كلاهما في فطام الطفل قبل تمام العامين، وقد تراضيا عن ذلك ونظرا إلى مصلحة الرضيع فلا تبعة عليهما، وإذا شئتم أيها الآباء أن تتخذوا مراضع للأطفال غير أمهاتهم، فلا تبعة عليكم في ذلك ولتدفعوا إليهن النفقة والأجر بالرضا والمحاسنة، وراقبوا الله في أعمالكم، واعلموا أنه مطلع عليها مجازيكم بها.
التفسير :
﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ﴾
المراد بالوالدات الأمهات، سواء في عصمة أزواجهن أم كن مطلقات، لأن اللفظ عام في الكل ولا يوجد ما يقتضي تخصيصه بنوع من الأمهات.
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالوالدات هنا خصوص المطلقات، لأن سياق الآيات قبل ذلك في أحكام الطلاق.
وقد سماهن الله والدات، ولم يقل الأمهات يرضعن أولادهن، للإشارة إلى أنهن اللائي ولدن أولادهن، ومنهن يكو الغذاء الطبيعي المناسب لهذا المولود، الذي جاء عن طريقهن.
قال الجمل : " وهذا الأمر للندب والوجوب، فهو يكون للندب عند استجماع شروط ثلاثة : قدرة الأب على استئجار المرضع، ووجود غير الأم، وقبول الولد للبن الغير، ويكون للوجوب عند فقد أحد هذه الشروط( ٢٧٢ ).
والآية تحث الأم على إرضاع ولدها، لأن الإرضاع هو المطعم الطبيعي للمولود، إذ إن لبن الأم يلائم حياة الطفل كل الملائمة فيزداد حجما بزيادة حجم المولود، وتنوع محتوياته حسب حاجته، والرضاعة تفيد الأم ولا تضرها إلا في أحول شاذة، إذ إن الرضاعة تعمل على تحسين الحالة الصحية العامة للمرضع بتنشيط الجهاز الهضمي وحمله على العمل للحصول على المودة الغذائية اللازمة للمولود، وذلك فوق ما تفيده الرضاعة في الجهاز التناسلي، إذ تعيده إلى أوضاعه الطبيعية بعد عملية الولادة.
﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ﴾ وقد حددت الآية مدة الرضاعة بحولين كاملين لمن أراد إتمام الرضاع.
وحداد الزوجة على زوجها أي ترك الزينة والطيب ونحوه، واجب عليها مدة عدتها التي حددها الله تعالى كما ثبت في الصحيحين أن رسول اله صلى الله عليه وسلم قال :
" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر : أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " ( ٢٨١ ).
وهذا هو رأي جمهور العلماء.
وقال الحسن بن أبى الحسن : ليس الإحداد بشيء، إنما تتربص عن الزوج ولها أن تتزين وتتطيب.
وهذا الرأي ضعيف لمخالفته للسنة.
وفي ختام الآية نجد القرآن يلمس ويحرك دواعي الامتثال لله فيقول :
﴿ والله بما تعلمون خبير ﴾
أي إنه محيط بدقائق أعمالكم لا يخفى عليه شيء، فإذا وقفتم أنتم ونسائكم عند حدوده، أسعدكم في الدنيا وأجزل مثوبتكم في الآخرة، وبذلك حملت الآية الكريمة المسلمين جميعا مسؤولية حماية الآداب العامة حفاظا على المجتمع الإسلامي الفاضل.
* * *
عدة المتوفى عنها زوجها
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير( ٢٣٤ ) ﴾
المفردات :
ويذرون أزواجا : جمع زوج، ويستوي فيه المذكر والمؤنث والمقصود هنا الزوجات أي يتركون زوجات لهم في عصمتهم وقت الوفاة.
يتربصن : ينتظرن في بيت لزوجية.
المعنى الإجمالي :
والذين يتوفون منكم أيها الرجال ويتركون زوجات لهم غير حوامل، فعليهن أن يمكثن بعدهم دون تعرض للزواج، مدة أربعة أشهر هلالية وعشر ليال بأيامها، استبراء للرحم وحدادا على الأزواج، فإذا انتهت هذه المدة فلا تبعة عليكم أيها الأولياء لو تركتموهن يأتين من شريف الأعمال التي يرضاها الشرع ليصلن بها إلى الزواج فلا ينبغي أن تمنعوهن من ذلك ولا يجوز لهن أن يأتين من الأعمال ما ينكره الشرع ويأباه، فإن الله مطلع على سرائركم ويعلم أعمالكم فيحاسبكم على ما تعملون.
التفسير :
﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا... ﴾
والذين يتوفاهم الله تعالى منكم أيها المسلمون ويتركون من خلفهم أزواجا، فعلى هؤلاء الأزواج اللاتي ارتبطن برجالهن ارتباطا قويا متينا، ثم فرق الموت بينهم وبينهن، عليهن أن :﴿ يتربصن بأنفسهم أربعة أشهر وعشرا... ﴾ أي عليهم أن ينتظرن انقضاء عدتهن، فيحسبن أنفسهم عن الزواج وعن التزيين وعن التعرض للخطاب، مدة أربعة أشهر وعشر ليال، وفاء لحق الزوج المتوفي واستبراء للرحم.
قال الأستاذ سيد قطب : " والمتوفي عنها زوجها كانت تلقي الكثير من العنت من الأهل وقرابة الزوج والمجتمع كله.
وعند العرب كانت المرأة إذا مات زوجها دخلت مكانا رديئا، ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا مدة سنة، ثم تخرج فتقوم بعدة شعائر الجاهلية، من أخذ بعرة وقذفها ومن ركوب دابة كالحمار... إلخ. فلما جاء الإسلام خفف عنها هذا النعت بل رفعه كله عن كاهلها، ولم يجمع عليها بين فقدان الزوج واضطهاد الأهل بعده... وإغلاق السبيل في وجهها دون حياة شريفة، وحياة عائلية مطمئنة.. جعل عدتها أربعة أشهر وعشر ليال ما لم تكن حاملا فعدتها عدة الحامل، وهي أطول قليلا من عدة المطلقة. تستبرئ فيها رحمها ولا تجرح أهل الزوج في عواطفهم بخروجها لتوها وفي أثناء هذه العدة تلبس ثيابا محتشمة ولا تتزين للخطاب. فأما بعد هذه العدة فلا سبيل لأحد عليها، سواء من أهلها أو من أهل الزوج، ولها مطلق الحرية فيما تتخذه لنفسها من سلوك شريف في حدود المعروف من سنة الله تعالى وشريعته، فلها أن تأخذ زينتها المباحة للمسلمات ولها أن تتلقى خطبة الخطاب ولها أن تزوج نفسها ممن ترضى لا تقف في سبيلها عادة بالية ولا كبرياء زائفة، وليس عليها من رقيب إلا الله( ٢٧٩ ).
والتعبير بقوله :﴿ يتربصن بأنفسهن ﴾ تعبير دقيق حكيم أي عليهن أن يمنعن أنفسهن عن النكاح وعن التزيين وعن الخروج من منزل الزوجية إلا إذا كانت هناك ضرورة لهذا الخروج مدة أربعة أشهر وعشرة أيام، وذلك لأن المرأة المؤمنة الوفية يأبى عليها دينها ووفاؤها لزوجها المتوفى عنها، أن تعرض نفسها على غيره بعد فترة قصيرة من وفاته، فإن هذا أمر مستهجن في شرع الله، وفي عرف العقلاء من الناس، إذ هذه المدة التي جاءت في الآية التي حددها الله تعالى لمعرفة براءة الرحم من الحمل، وهي التي تخف فيها مرارة الفراق بين زوجين، ربط الله بينهما برابطة المودة والرحمة.
والحكمة من جعل العدة أربعة أشهر وعشرا أمران :
أولهما : أن الأشهر الأربعة هي المدة التي فيها الحمل ويستبين، وقد جعلت العشر بعدها للاحتياط.
ثانيهما : أن مدة أربعة الأشهر هي المدة التي قدرها الشارع أقصى مدة للحرمان من الرجال، ولذلك جعل الإيلاء مدته أربعة أشهر. فكان التنسيق بالأحكام الشرعية أن تجعل مدة الإحداد على الأزواج في حدود هذه المدة ومقاربة لها في الجملة( ٢٨٠ ).
﴿ فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ﴾
أي فإذا بلغن أجلهن واستوفين عدة الوفاة الواجبة عليهن كاملة دون نقص واستبان حال الرحم، فلم يكن فيه حمل، فلا جناح ليكم أيها المسلمون فيما فعلن في أنفسهم من زينة وغيرها مما امتنعن عنه إبان فترة العدة.
وينبغي أن يكون الفطام تدريجيا ويجوز أن يفطم الصغير لأقل من عامين من ولادته، إذا كانت صحته تعاونه على ذلك، أما إذا كانت صحته لا تعاونه، ولا يستسيغ الطعام الخارجي فإنه يستمر حتى يتم حولين كاملين وبعدهما يمكن أن يستغني الطفل استغناءا كاملا عن لبن الأم.
وقد أثبت الأطباء الثقاة أهمية لبن الأم وحنانها ورعايتها، في تحسين أحوال الطفل النفسية والصحية.
﴿ لمن أراد أن يتم الرضاعة ﴾ أي أن هناك الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة ف‘ذا أراد الأبوان أن ينقصا مدة الرضاع عن الحولين كان لهما ذلك.
قال النسفي : والحاصل أن الأب يجب عليه إرضاع ولده دون الأم، وعليه أن يتخذ له ظئرا إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه، ولا يجوز استئجار الأم ما دامت زوجته أو معتدة( ٢٧٧ ).
ونرى أن الأب والأم كلاهما شريك في التبعة وكلاهما مسئول تجاه هذا الصغير الرضيع وهي تمده باللبن والحضانة، وأبوه يمدها بالغذاء والكساء لترعاه، وهناك تكامل وتعاون إنساني وعاطفي في رعاية الصغير، فالفطرة توجب على الأم كفالة الطفل وإرضاعه والعناية به، كما أوجب الله تعالى على الآباء أن يقدموا إلى الوالدات ما يلزمهن من نفقة وكسوة بالمعروف، أي بالطريقة التي تعارف عليها العقلاء دون إسراف أو تقتير.
﴿ وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ﴾ والمراد برزقهن نفقتهن.
وقد أوجبت الآية على الوالد أن ينفق على أم رضيعه يكسوها سواء أكانت زوجة له أو مطلقة منه، وذلك أجرة لها على إرضاع ولدهما، بهذا قال الشافعي.
وعند الأحناف : لا تأخذ الزوجة أجرة على الرضاع ما دامت في عصمة الزوج أو العدة، اكتفاء بنفقتها المشروعة لها وكل من النفقة والكسوة واجبان حسب المعروف بين الناس، بلا إسراف ولا تقتير بحيث تكون في وسع طاقته.
﴿ لا تكلف نفس إلا وسعها... ﴾
فكل منهما يؤدي واجبه في حدود طاقته، فلا يلزم الوالد بما يشق عليه، بل يكون الأجر في حدود طاقته. ولا تلزم الأم بالإرضاع دون نفقة كافية لها وللرضيع، بل ينبغي أن يتعاونا الطرفان وأن يقوم كل طرف بواجبه نحو ولده.
﴿ لا تضار والدة بولدها ولا مولود بولده... ﴾
فلا يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولفتها ليهددها فيه، أو تقبل رضاعه بلا مقابل، ولا ينبغي أن يكلفها بما ليس في مقدورها، أو ما يخالف وظيفتها ولا ينبغي أن يمنعها شيئا من نفقتها.
ولا تضار والدة زوجها بسبب ولدها، بأن تطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول اطلب مرضعا، بعد أن ألفها الرضيع.
وقدمت الأم في الجملة الكريمة لأن الشأن فيها أن يكون حنانها أشد، وعاطفتها أرق، ولأن مظنة إنزال العنف والأذى بها أقرب لضعفها عن الأب.
فالجملة الكريمة توجيه سديد وإرشاد حكيم للآباء والأمهات، إلى أن يقوم كل منهما بواجبه نحو الأولاد الذين هم ثمار لهما.
﴿ وعلى الوارث مثل ذلك ﴾
والوارث هو من يصير إليه مال الميت بعد الموت بحق الإرث والإشارة بقوله : ذلك تعود إلى الحكم المتقدم وهو الرزق والكسوة وترك الأضرار.
أي أن والد الرضيع إذا مات قام وارثه بالرزق والكسوة، بالمعروف لوالدة الطفل التي ترضعه.
وقال الألوسي ما ملخصه : " والمراد بالوارث وارث الود، فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب، من الرزق والكسوة بالمعروف، إن لم يكن للولد مال وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة وخلق كثير. وخص الإمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من الصبي. وقال الشافعي : المراد وارث الأب يجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجبا على الأب.
وقيل : المراد بالوارث الباقي من الأبوين، وجاء الوارث بمعنى الباقي كما في قوله صلى الله عليه وسلم " اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارث مني " ( ٢٧٨ ).
وعلى أية حال فالجملة الكريمة تغرس معاني الإخاء والتراحم والتكافل بين أبناء الأسرة الواحدة فالقادر ينفق على العاجز والغني يمد الفقير بحاجته، وبذلك تسعد الأسرة وتسودها روح المحبة والمودة، وهكذا لا يضيع الطفل إذا مات والده، فحقه مكفول وحق أمه في جميع الحالات.
﴿ فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما... ﴾
قال القرطبي : الفصال والفصل : وأصله التفريق فهو تفريق بين الصبي والثدي ومنه سمي الفصيل.
فإذا شاء الوالد والوالدة فطام الرضيع قبل استيفاء العامين لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام، لسبب صحي أو سواه، فلا جناح عليهما إذ تم هذا بالرضا بينهما، وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكل إليهما رعايته، المفروض عليهما حمايته.
﴿ وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف... ﴾
أي وإن أردتم أيها الآباء أن تسترضعوا مراضع لأولادكم، ورضيت الأمهات بذلك، فلا إثم عليكم فيما تفعلون، ما دمتم تقصدون مصلحة أولادكم، وعليكم أن تسلموا هؤلاء المراضع أجرهن، بالطريقة التي يقرها الشرع وتستحسنها العقول السليمة والأخلاق القويمة.
" عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت على أن الكلام معها بما و رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز، وكذلك ما أشبهه، وجوز ماعدا ذلك ولا يجوز التعريض لخطبة المطلقة رجعيا لأنها كالزوجة، وأما من كانت في عدة البينونة فالصحيح جواز التعريض لخطبتها " ( ٢٨٣ ).
﴿ علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن إلا أن تقولوا قولا معروفا... ﴾
فهذه الجملة كالتعليل لما قبلها، وقد أباح الله للرجال أن يفكر في الزواج من المرأة وأن تهفو نفسه إليها، وأن يذكرها مع نفسه، فذلك يتعلق بأمر فطري، والإسلام يلحظ ألا يحطم الميول الفطرية إنما يهذبها، ولا يكبت النوازع البشرية إنما يضبطها ومن ثم ينهي فقط عما يخالف نظافة الشعور، وطهارة الضمير ولذلك حرم الوعد السري بين الرجل والمرأة المعتدة، وأباح الكلمة الطيبة، والإشارة والتلميح بالمعروف.
﴿ ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله... ﴾
ولا تقصدوا قصد جازما تنفيذ هذا النكاح، حتى ينتهي ما كتب وفرض في العدة، إذ العاقل لا يستعجل أمرا قبل حلول وقته، وإنما الذي يسوغ لكم هو أن تتموا عقد الزواج بعد انتهاء العدة، وبعد أن يكون جو الأحزان قد فتر وخفت حدته.
وإذا كان قد نهى عن العزم على العقل قبل فراغ العدة، عن العقد من باب أولي، ومن المعلوم أن عقد النكاح في زمن العدة باطل، والمباشرة حينئذ زنا، والتفريق بينهما واجب لأن من استحل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه، كالقاتل يعاقب بحرمانه من ميراث المقتول، وهذا رأي جمهور العلماء.
وقيل : يفسخ النكاح بينهما، فإذا انتهت العدة حلت له، ولم يتأبد التحريم، ولكل فريق أدلته في كتب الفقه.
﴿ واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه... ﴾
اعلموا أن الله مطلع عليكم رقيب على ضمائركم، وشهيد عل
التعريض بالخطبة
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو كننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم( ٢٣٥ ) ﴾
المفردات :
عرضتم : التعريض والتلويح : إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة أو مجازا كقولك جئت لأسلم عليك تلويحا بأنك جئت لطلب دين أو عطاء ممن تخاطبه.
خطبة النساء : طلبهن للتزوج بهن.
أكننتم : أخفيتم، يقال كن الشيء في نفسه يكنه، وأكنه يكنه أي أخفاه وغطاه.
لا تواعدوهن سرا : لا تواعدوهن في العدة زواجا.
ولا تعزموا عقد النكاح : ولا تقصدوا قصدا جازما تنفيذ عقده.
حتى يبلغ الكتاب أجله : أي حتى ينال القرآن ما قرره من الوقت لانقضاء العدة.
المعنى الإجمالي :
ولا إثم عليكم أيها الرجال في مدة العدة إذا لمحتم للمعتدة من وفاة بالزوج، أو أضمرتم تلك في قلوبكم، فإن الله يعلم أنكم لا تصبرون عن التحدث في شأنهن لميل الرجال إلى النساء بالفطرة، ولهذا أباح لكم التلويح دون التصريح، فلا تعطوهن وعدا بالزواج إلا أن يكون ذلك إشارة لا نكر فيها ولا فحش، ولا تبرموا عقد الزواج حتى تنقضي العدة، وأيقنوا أن الله مطلع على ما تخفونه في قلوبكم، فخافوا عقابه ولا تقدموا على ما نهاكم عنه ولا تيأسوا من رحمته فإن الله غفور حليم، لا يعجل العقوبة لمن خالف أمره.
التفسير :
﴿ ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو كنتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن... ﴾
تتحدث هذه الآية عن خطبة المرأة في فترة العدة. فأباحت شيئين ونهت عن شيئين :
أباحت التعريض بالخطبة للمرأة أثناء عدتها، كما أباحت إخفاء هذه الرغبة في الأنفس وحديثها بها.
ونهت هذه المواعدة سرا على الزواج، لأن العدة فاصل بين عهدين من الحياة إلا من خلال ملام حسن، أو عدة طيبة لا نكر فيها ولا مخالفة لحدود الله كما نهت عن العزم والتصميم على الزواج وتنفيذه قبل انقضاء العدة.
وهذه الآية أدب إلهي كريم، فالمرأة المعتدة لا تزال معلقة بذكرى لم تمت، وبمشاعر أسرة الميت، وربما كان في رحمها حمل لم يتبين، لذلك نهى الإسلام عن خطبة المعتدة كما نهى عن الزواج بها في فترة العدة.
والإسلام دين الفطرة، يعلم حاجة الرجل إلى المرأة، وعدم صبره عنها، فأباح له التعريض والتلميح بالقول الحسن. كأن يقول لها : " إني أريد الزواج وإني لأحب امرأة من أمرها وأمرها يعرض لها بالقول المعروف وإن النساء لمن حاجتي، ولوددت أن الله كتب لي امرأة صالحة " ( ٢٨٢ ).
﴿ ولا جناح عليكم فيما عرضتم به عن خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم... ﴾
والمعنى : ولا حرج ولا إثم عليكم أيها الرجال المبتغون للزواج، في التعريض بخطبة المرأة أثناء عدتها، للزواج منها بعد انقضاء العدة، كما أنه لا إثم عليكم كذلك في الرغبة في الزواج من المعتدة، مع إخفاء ذلك وستره من غير كشف وإعلان، لأن التصريح بالخطبة أثناء العدة عمل يتنافى مع آداب الإسلام ومع تعاليم شريعته ومع الأخلاق الكريمة والعقول السليمة والنفوس الشريفة.
" وقال القرطبي : قال بن عطية : أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزوجها وتنبيه.
يقول الزمخشري : " أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجر مستبشري الوجوه ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن.
﴿ واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير ﴾
تختم الآية بذلك الرباط الإلهي اللطيف، فقد اشتملت الآية علة مجموعة من الأوامر والتوجيهات بشأن معاملة الرضيع ونفقته، وهي أمور في حاجة إلى المكارم والإخلاص، ومراقبة الله العليم بكل شيء، المطلع على جميع الأمور.
* * *
الطلاق قبل الدخول
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ ولا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متعا بالمعروف حقا على المحسنين( ٢٣٦ ) ﴾
المفردات :
تمسوهن : المس هنا : الجماع،
أو تفرضوا : أو هنا بمعنى الواو.
فريضة : المهر.
ومتعوهن : المتعة مقدار مالي تعطاه المطلقة قبل الدخول، قصد به أن يكون تعويضا لها عما فاتها من زوجها وجبرا لما نالها من انكسار النفس.
الموسع : الغنى.
المقتر : الفقير.
قدره : طاقته.
المعنى الإجمالي :
ولا إثم عليكم أيها الأزواج ولا يحب عليكم المهر إذا طلقتم زوجاتكم قبل الدخول بهن، وقبل أن تقدروا لهن مهرا، ولكن أعطوهن عطية من المال يتمتعن بها لتخفيف آلام نفوسهن، ولتكن عن رضا وطيب خاطر، وليدفعها الغنى بقدر وسعه، والفقير بقدر حاله، وهذه العطية من أعمال البر يلتزمها ذوو المروءات وأهل الخير والإحسان.
التفسير :
﴿ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تلمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة... ﴾
قال القرطبي : " قوله تعالى :﴿ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء... ﴾ هذا أيضا من أحكام المطلقات، وهو ابتداء إخبار، برفع الحرج عن المطلق قبل البناء والجماع، أو لم يفرض، ولما نهي رسول اله صلى الله عليه وسلم عن التزوج لمعنى الذوق، وقضاء الشهوة، وأمر بالتزوج لطلب العصمة والتماس ثواب الله، وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءا من هذا المكروه، فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك، إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن " ( ٢٨٤ ).
لقد أثر القرآن الكريم والهدى النبوي أحسن الأثر في نفوس المسلمين وتحرج بعضهم طلاق المرأة قبل الدخول بها، فنزل هدى السماء يبيح للرجل طلاق المرأة قبل الدخول بها، إذ تبين له ضرورة ذلك فإنها الحياة الزوجية قبل الدخول أخف وأيسر من إنهائها بعد الدخول.
ثم حثت الآية على المكارمة، وأوجبت على الرجل أن يمنع مطلقته عطية حسبما يستطيع، كنوع من أنواع التعويض فقد علقت آمالها عليه، وحبست نفسها عن الزواج من أجله، وفي هذه المتعة لون من ألوان الرد والمعذرة.
﴿ ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره... ﴾
ومتعوا المطلقات عندما يجتمع لهن أمران، عدم الدخول بهن وانتقاء تقدير مهر لهن، على الغنى ما يقدر عليه وعلى الفقير ما يقدر عليه.
وهذه المتعة واجبة عند كثير من فقهاء السلف، ومنهم علي ابن أبي طالب وابن عمر، وسعيد ابن جبير والزهري وغيرهم.
وقال بعض الفقهاء إنها مندوبة.
والآية ظاهرة في الرأي الأول لقوله تعالى :
﴿ متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ﴾.
فقد جعله حقا واجبا على المحسنين، لا ينبغي أن يهملوه.
هذا بالنسبة للمطلقات قبل الدخول بهن، وقبل أن يقدر لهن المهر، أما غيرهم من المطلقات فالمتعة مندوبة في حقهن عند الجمهور وقال مالك وأصحابه : المتعة مندوبة في كل مطلقة وإن دخل بها، إلا في التي لم يدخل بها، وقد فرض لها، فحسبها ما فرض لها، وهو نصف لمهر المسمى ولا متعة لها.
وليس للمتعة حد معروف في الكتاب أو السنة، ولكنها ما قال الله تعالى :﴿ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره... ﴾
وقال ابن عمر أدنى ما يجزى في المتعة ثلاثون درهما.
ولعل الأنسب أن يترك تقدير المتعة إلى حال الشخص، والأمر المتعارف عليه بين الناس، حيث إنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
والمعروف كلمة واسعة، تشمل ما عرف حسنه وما كان مناسبا للشخص، وما يليق بأمثاله، وهو أمر يختلف باختلاف الزمان والمكان.
***
نصف المهر
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير( ٢٣٧ ) ﴾
المفردات :
فرضتم لهن فريضة : عينتم لهن مهرا.
يعفون : يسامحنكم.
أو يعفوا الذي بيده عقد النكاح : الذي بيده عقد النكاح هو الزوج، ومعنى يعفو هو أن يسامح المرأة المطلقة في النصف الذي يستحقه هو من مهر، بأن يعطيها إياه كاملا لأن الأصل أنه لو طلقها قبل الدخول بها، يأخذ نصف المهر ويسترده منها إن كان أعطاها إياه فيكون عفوا منه أن يتجاوز لها من هذا النصف.
المعنى الإجمالي :
وإذا طلقتم النساء قبل الدخول بهن، بعد تقرير مهورهن فقد وجب لهن نصف المهر المقدر، ويدفع إليهن، إلا إذا تنازلت عنه الزوجة، كما أنهن لا يعطين أكثر من النصف إلا إذا سمحت نفس الزوج، فأعطاها المهر كله، وسماحة كل من الزوجين أكرم وأرضى عند الله، وأليق بأهل التقوى فلا يتركوها، واذكروا أن الخير في التفضل وحسن المعاملة، لأن ذلك أجلب للمودة والتحاب بين الناس، والله مطلع على ضمائركم، وسيجازيكم على ما تفعلون.
التفسير :
﴿ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفو الذي بيده عقدة النكاح... ﴾
أي وإن طلقتم يا معشر الرجال النساء من قبل أن تدخلوا بهن وتباشروهن، ومن بعد أن قدرتم لهن صداقا معلوما، فالواجب عليكم في هذه الحالة أن تدفعوا لهن نصف ما قدرتم لهن من صداق، إلا أن تتنازل المرأة عن حقها فتتركه المطلقة بسماحة نفس، بأن تكون هي الراغبة في الطلاق، أو يتنازل الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج، عن حقه بأن يدفع لها المهر كاملا، أو ما هو أكثر من النصف لأنه هو الراغب في الطلاق.
وقيل المراد بمن بيده عقدة النكاح : هو ولي المرأة المطلقة الذي لا تتزوج إلا بإذنه، فإن له العفو عن نصف مهر البكر إذا طلقت، والتفسير الأول هو المأثور، وبه قال جمع من الصحابة.
﴿ وأن تعفو أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم ﴾
الخطاب هنا للرجال والنساء، أي وأن تعفو المطلقات عن حقهن في النصف، لأن الأزواج لم يدخلوا بهن.
وأن يعفو الأزواج بالزيادة على النصف جبرا لخاطر المطلقات قبل الدخول أقرب للتقوى وأدنى إلى تحصيل مرضات الله الذي أمر بالتسامح والعفو واليسر.
﴿ ولا تنسوا الفضل بينكم ﴾
قال مجاهد : إتمام الرجل الصداق كله، أو ترك المرأة النصف الذي لها.
﴿ إن الله بما تعلمون بصير ﴾
إن الله مطلع على أعمالكم. وفيه حث أن يسود شعور السماحة، والتفضل والتجمل بين الناس، عند انفصام عرى الزوجية، لتبقى القلوب نقية خالصة موصولة بالله في كل حال.
روى أن أحد الصحابة تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول بها، فأعطاها الصداق كاملا، فقيل له في ذلك فقال : أنا أحق بالعفو منها( ٢٨٥ ).
وهكذا نرى مبلغ استجابة السلف الصالح لتوجيهات القرآن ووصاياه، فأين المسلمون اليوم من هذه الوصايا والأحكام ؟.
* * *
المحافظة على الصلاة
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين( ٢٣٨ ) فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون( ٢٣٩ ) ﴾
المفردات :
الوسطى : تأنيت الأوسط، وهي الفضلى ووسط الشيء خيره وأعدله.
قانتين : القنوت : الطاعة والعبادة وأصله الدوام على الشيء ومن هنا سمى المداوم على الطاعة قانتا.
المعنى الإجمالي :
احرصوا على إقامة الصلوات كلها، وداوموا عليها واحرصوا على أن تكون صلاتكم هي الصلاة الفضلى بإقامة أركانها، والإخلاص الكامل لله فيها، وأتموا طاعة الله تعالى وذكره مخلصين له خاشعين لجلاله.
التفسير :
﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ﴾
من شأن القرآن الكريم أن يحث على التقوى وطاعة الله بين آيات الأحكام، حملا للنفوس على امتثال أمر الله وتنفيذ أحكامه بروح طيبة وقلب سليم.
وقد تكررت الدعوة إلى المحافظة على الصلاة في القرآن الكريم، فهو أول الأركان وهي الصلة بين المخلوق والخالق، وهي الدواء العلمي والعلاج الروحي لمشاغل الدنيا، وأمرها المتعددة وفتنتها وملاهيها، في وسط زحام هذه الحياة يجد المؤمن أن الصلاة واحة وارفة الظلال يتطهر لها بالماء الطهور، ويقف بين يدي ربه خاشعا خاضعا، مكبرا لله راكعا ساجدا، مرتلا لآيات الله القرآن الكريم، فيخرج من الصلاة وقد تطهرت نفسه وغسلت ذنوبه فيزيده ذلك إيمانا وتصميما على طاعة الله ومرضاته، قال تعالى :﴿ اتل ما أوحي إليك من أهل الكتاب إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ﴾ ( العنكبوت : ٤٥ ).
﴿ حافظوا على الصلوات ﴾
والمحافظة على الصلاة تقتضي أداءها في أوقاتها وإتمام ركوعها وسجودها، وحضور القلب والخشوع والتدبر والتأمل، في معنى ما يقول القرآن، ومن التسبيح والتكبير وبذلك يكون الصلاة وسيلة إلى مرضاة الله ورعايته وعنايته، كما ورد في الحديث الشريف : " احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده اتجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء كتبه الله لك واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء ما ضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام وطويت الصحف "
قال الإمام الرازي : " وقوله تعالى " حافظوا " بصيغة المفاعلة التي تكون بين اثنين، للدلالة على أن هذه المحافظة تكون بين العبد والرب، فكأنه قيل : احفظ الصلاة ليحفظك الإله الذي أمرك بها، وهذا كقوله :﴿ فاذكروني أذكركم ﴾( البقرة : ١٥٢ ) وفي الحديث : " احفظ الله يحفظك " أو أن تكون المحافظة بين المصلي والصلاة، فكأنه قيل : احفظ الصلاة حتى تحفظك الصلاة، بمعنى أنها تحفظك من ارتكاب المعاصي، وتشفع لمصليها يوم القيامة( ٢٨٦ ).
والصلاة الوسطى : والصلاة الوسطى هي إحدى الخمس، وقد اختلفوا في تحديدها. وللعلماء في ذلك ثمانية عشر قولا، أوردها الشوكاني في " نيل الأوطار " أصحها رواية ما ذهب إليه الجمهور من كونها صلاة العصر، لحديث عن أحمد ومسلم وأبى داود مرفوعا " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ". ( ٢٨٧ ).
وقال بعضهم المراد بالصلاة الوسطى الصبح، ويل صلاة الظهر وقيل صلاة المغرب، وقيل العشاء وقيل الجمعة، وقال بعضهم إنها غير معروفة، وأن الله تعالى أبهم الصلاة الفضلى التي ثوابها أكثر ليحافظ المؤمن على كل صلاة( ٢٨٨ ).
قال ابن كثير : وكل هذه الأقوال فيها ضعف، بالنسبة إلى التي قبلها ومعترك النزاع في الصبح والعصر، وقد أثبتت السنة أنها العصر فتعين المصير إليها أي إلى أن المراد بالصلاة الوسطى صلاة العصر.
وخصت صلاة العصر بالذكر، لأنها تقع وقت اشتغال بعض الناس بالعمل، أو لأنها وقت الراحة والكسل، بالنسبة إلى طائفة أخرى من الناس، أو لأنها في ختام صلاة النهار، وزحمة أعمال اليوم، فهي فرصة أخيرة في النهار يناجي فيها المؤمن ربه، ويذكره بلسانه وقلبه ويتفرغ لمناداته ومناجاته عبادته.
﴿ وقوموا لله قاتمين ﴾ اتجهوا إلى الله عابدين خاشعين متبتلين، ففي هذا القنوت سعادة الأرواح وشفاء النفوس وسلامة الظاهر والباطن، فمن وجد الله وجد كل شيء ومن فقد الله فقد كل شيء.
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ﴾
المفردات :
فإن خفتم : الخوف، الفزع من أي مصدر يبعث عليه.
فرجالا : جمع راجل، أي فصلوا راجلين.
أو ركبانا : جمع راكب، أي راكبين على الإبل وغيرها مما يركب كالمصفحات والدبابات وغيرها.
المعنى الإجمالي :
فإذا أدركتم الصلاة وأنتم خائفون فلا تتركوها بل صلوا كما استطعتم مشاة أو راكبين، فإذا زال الخوف عنكم فصلوا الصلاة مستوفية الأركان كما علمتموها، ذاكرين الله فيها، شاكرين له ما علمكم إياه وما من به عليكم من نعمة الأمن.
التفسير :
أمر بالله بالصلاة وأوجب أداءها في قنوت وخشوع، في حالة الصحة والأمن.
والصلات فرض أساسي وركن رئيسي من أركان الإسلام لا يسقط عن الإنسان بالخوف أو المرض أو العجز فلابد من أدائها على أي صورة تيسر للإنسان أداؤها.
فالمريض أحوج إلى دعاء الله والخائف أحوج إلى ذكر الله، واستمداد الأمن والطمأنينة منه. ومن ثم تجب الصلاة في ميدان القتال والمعركة، كما ذكر القرآن ذلك في سورة النساء( ٢٨٩ ).
أما إذ زاد الخوف وحدث لقتال بالفعل، فإن المحارب يؤدي الصلاة على أية حالة تيسر له أداؤها.
﴿ فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ﴾
أي إذا اشتد الخوف من عدو أو سبع أو سيل جارف ففي مثل هذه الأحوال يصلي الخائف فردا بلا جماعة، سواء أكان راجلا أي ماشيا على قدميه، أم راكبا أي وسيلة من وسائل الركوب، كالدواب والسيارة والطيارة، وتكون قبلتها حيثما توجهت دابته أو عربته أو طائرته ولا يلزمه ركوع ولا سجود، إذا كان هذا يضره ويكفيه عن الإيماء بالرأس بطريقة لا تعرض للتهلكة ولا ينقص عدد ركع صلاة الخوف عن صلاة المسافر، وهي ركعتان في الرباعية واثنتان في الصبح وثلاث في المغرب.
هكذا قال مالك والشافعي وجماعة من العلماء.
وقال الحسن ابن أبى الخسن وقتادة وغيرهما يصلي ركعة إيماء.
روى مسلم عن بكير ابن الأخنس عن مجاهد، عن ابن عباس قال : " فرض الله الصلاة على لسان رسوله صلى الله عليه ومسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة " ( ٢٩٠ ).
وضعف هذا الرأي بأن الأخنس انفرد بهذا الحديث، وليس بحجة عند الانفراد، والصلات أولى ما يحتاط فيه.
﴿ فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ﴾
فإذا زال خوفكم، فصلوا لله صلاة الأمن، كما علمكم من شأنها ما لم تكونوا تعلمون على لسان نبيه، حيث عرفتم كيفيتها منه، ولم يكن لكم علم من قبل.
والكلام جاري مجرى الامتنان من الله عليهم بذلك، فقد كانوا من قبل يعبدون الأوثان ولا يعرفون عبادة الله.
***
المتعة والنفقة
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزوجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم( ٢٤٠ ) وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين( ٢٤١ ) كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون( ٢٤٢ ) ﴾
المفردات :
ويذرون : ويتركون وراءهم.
وصية : فليوصوا وصية.
متاعا إلى الحول غير إخراج : أي أن المتوفى يوصي قبل موته أن تتمتع امرأته حولا كاملا بالسكنى والنفقة غير مخرجة من بيت زوجها مدة حول.
فلا جناح : فلا إثم.
المعــنى الإجمــالي :
والذين يتوفون منكم ويتركون زوجات لهم، فقد أوصى الله بهن أن يقمن في بيت الزوجية عالما كاملا مواساة لهن وإزالة لوحشتهن، ولا يحق لأحد أن يخرجهن فإن خرجت بأنفسهن في أثناء العام فلا إثم عليكم أيها الأولياء أن تتركوهن يتصرفن في أنفسهم بما لا يكره الشرع الشريف عليهن، وأطيعوا الله في أحكامه واعملوا بما شرع فإنه قادر على أن ينتقم ممن يخالف أمره، وهو ذو حكمة بالغة لا يشرع لكم إلا ما فيه المصلحة وإن غابت حكمتها عن علمكم.
وللنساء اللاتي يطلقن بعد الدخول حق في أن يعطين ما يتمتهن به من مال جبرا لخاطرهن، يدفع إليهن بالحسنى على قدر غنى الزوج وفقره، لأن ذلك مم توجبه تقوى الله ويلزم به أهل الإيمان.
بمثل هذه البيانات والتشريعات الواضحة المحققة للمصلحة، يبين الله لكم أحكامه ونعمه وآياته لتتدبروها بما فيها من خير.
التفسير :
﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ﴾
هذه الأحكام تتمة ما في السورة من أحكام الأزواج، وقد جاء ذكر الصلاة أثناء الحديث عن أحكام المطلقات، حقا للمؤمنين على مراقبة الله تعالى وطاعته عند انفصام الحياة الزوجية وانتهائها.
ومعنى الآية : والذين يتوقعون قرب الوفاة منكم أيها المسلمون ويتركون بعدهم زوجات كتب الله عليكم أيها الأزواج قبل الاحتضار، وصية لهن بأن يمتعن بعدكم بالنفقة والسكنى إلى نهاية عام كامل بعد الوفاة، غير مخرجات من مساكنهم طيلة الحول أي لا يخرجن منه أولياء الميت.
وجمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة، فقد راعى القرآن التدرج في التشريع فشرع عدة المتوفى عنها زوجها سنة كاملة، ولم يكن لها حق في الميراث وإنما لها الحق في السكنى والنفقة في منزل الزوج.
وقد علم أنه كان من عادة العرب إلزام المرأة زوجها المتوفى سنة كاملة.
فبينت هذه الآية أن عدة المرأة المتوفى عنها زوجها سنة، ثم نسخت هذه الآية بقوله تعالى :
﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ﴾( البقرة : ٢٣٤ ).
والآية التي معنا وإن تأخرت تلاوة، إلا أنها متقدمة في النزول.
قال المفسرون : إن المتوفى عنها زوجها كانت تجلس في بيته حولا وينفق عليها من ماله ما لم تخرج المنزل، فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها، ثم نسخ الحول بالأربعة أشهر والعشر، ونسخت النفقة بالربع والثمن في سورة النساء( ٢٩١ ).
قال ذلك ابن عباس وقتادة وغيرهما.
قالوا : " ومما يشهد لذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : " نسخت بآية الميراث بما فرض الله لهن من الربع والثمن، نسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا " ( ٢٩٢ ).
وبعض المفسرين الآخرين ذهب إلى أن هذه الحكمة وليست منسوخة، وممن ذهب إلى هذا الرأي مجاهد، فقد قال ما ملخصه دلت الآية الأولى وهي :﴿ يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ﴾. على أن عدتها المفروضة تعتدها عند أهل زوجها، ودلت هذه الآية بزيادة سبعة أشهر وعشرين ليلة على العدة السابقة تمام الحول، وان ذلك من باب الوصية بالزوجات، أن يمكن بالسكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا، ولا يمنعن من ذلك لقوله " غير إخراج " فإذا انقضت عدتهم بالأربعة أشهر والعشر أو بوضع الحمل واخترن لخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله تعالى :﴿ فإن خرجن... ﴾الآية.
ومن المفسرين الذين أيدوا هذا الرأي الإمام ابن كثير في تفسيره فقال : ورأى مجاهد له اتجاه وفي اللفظ مساعدة له، وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس ابن تيمية( ٢٩٣ ).
كما روى هذا الرأي الطبري عن مجاهد. وقال القرطبي : ما ذكره الطبري عن مجاهد صحيح ثابت.
كما أيد أيضا الإمام فخر الرازي في تفسيره، فقد قال بعد أن ساق بعض الأدلة التي تثبت ضعف قول من قال بالنسخ : " فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزم النسخ من غير دليل " ( ٢٩٤ ).
ويتضح لك أن أصحاب الرأي الثاني لا يرون معارضة بين هذه الآية، وبين آية :﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ﴾، لأن الآية التي معنا لا تتحدث عن عدة المتوفى عنها زوجها، وإنما تتحدث عن حقها في البقاء في منزل الزوجية بعد وفاة زوجها، وأن هذا الحق ثابت لها فإن شاءت بقيت فيه، وإن شاءت خرجت منه على حسب ما تراه مصلحة لها، ولأنها لا يوجد في ألفاظها أو معانيها ما يلزم المرأة بالتربص والامتناع عن الأزواج مدة معينة.
أم الآية الثانية فتراها واضحة في الأمر بالتربص أربعة أشهر وعشرا وهي العدة التي يجب أن تمتنع فيها المرأة التي مات عنها زوجها عن التزين والتعرض للزواج، إذن فلا تعارض بيت الآيتين، ومتى انتفى التعارض انتفى النسخ.
ثم ختم الآية بقوله :
﴿ والله عزيز حكيم ﴾.
فهو سبحانه قوي قادر على أمره، حكيم فيما شرع لعباده من آداب وأحكام.
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ﴾
المفردات :
وللمطلقات متاع : أي يمتنعن بالنفقة العدة، والمتاع ما يمنحه الأزواج للمطلقات تطييبا لنفوسهن.
المعــنى الإجمــالي :
والذين يتوفون منكم ويتركون زوجات لهم، فقد أوصى الله بهن أن يقمن في بيت الزوجية عالما كاملا مواساة لهن وإزالة لوحشتهن، ولا يحق لأحد أن يخرجهن فإن خرجت بأنفسهن في أثناء العام فلا إثم عليكم أيها الأولياء أن تتركوهن يتصرفن في أنفسهم بما لا يكره الشرع الشريف عليهن، وأطيعوا الله في أحكامه واعملوا بما شرع فإنه قادر على أن ينتقم ممن يخالف أمره، وهو ذو حكمة بالغة لا يشرع لكم إلا ما فيه المصلحة وإن غابت حكمتها عن علمكم.
وللنساء اللاتي يطلقن بعد الدخول حق في أن يعطين ما يتمتهن به من مال جبرا لخاطرهن، يدفع إليهن بالحسنى على قدر غنى الزوج وفقره، لأن ذلك مم توجبه تقوى الله ويلزم به أهل الإيمان.
بمثل هذه البيانات والتشريعات الواضحة المحققة للمصلحة، يبين الله لكم أحكامه ونعمه وآياته لتتدبروها بما فيها من خير.
التفسير :
تستجيش هذه الآية شعور التقوى في نفس المؤمن، وتحثه على تقديم المتعة إلى المطلقة.
وللعلماء رأيان في هذه المتعة :
الرأي الأول : أنها أمر زائد على النفقة، أوجبه الله للمرأة على مطلقها جبرا لوحشة الفراق، وإزالة لما قد يكون بين الزوجين من شقاق، وتخفيفا لما قد يحيط بجو الطلاق من تنافر وتخاصم وعدم وفاق. قال ابن كثير : وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة، سواء كانت مفوضة، أو مفروضا لها أو مطلقة قبل المسيس، أو مدخولا بها، وإليه ذهب سعيد بن جبير وغيره من السلف، واختاره ابن جرير، وهو قول عن الشافعي( ٢٩٥ ).
وعلى التفسير يكون المراد بالمتاع ما يعطيه الرجل لامرأته التي طلقها، زيادة على الحقوق المقررة لها شرعا، ليكون التسريح بإحسان.
الرأي الثاني : أن المراد بالمتاع نفقة المعتدات.
ومعنى كون هذا المتاع :﴿ بالمعروف ﴾. أن يكون حسب العرف بين الناس، وبحيث يكون على نحو ما قال الله :﴿ ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ﴾( البقرة : ٢٣٦ ).
ثم ختم سبحانه هذه الآيات المتعلقة بأحكام الأسرة بقوله :
تمهـــيد :
نظـــام الأســرة
تتحدث الآيات : ٢٢١-٢٤٢ من سورة البقرة عن بعض أحكام آداب الزواج، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والرضاعة والخطبة والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها وبنائها على أفضل الدعائم وأحكم الروابط.
لقد حث الإسلام على الزواج باعتباره الوسيلة السليمة لإشباع الحاجة البيولوجية والرغبة الإنسانية في الاجتماع والتكامل.
واعتبر الزواج آية من آيات الله، وفيه المودة والرحمة والسكن والألفة، وأمر الرجل بحسن اختيار الزوجة، وبأن يكون الدين أساس هذا الاختيار، كما أمر ولي أمر الزوجة أن يختار لها التقي صاحب الخلق والأمانة.
وحث الزوجين على حسن المعاشرة والوفاء والاحتمال والصبر، وعدم التسرع في الطلاق فلعل البغيض يصير حبيبا.
قال تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وحذر الإسلام من الطلاق واعتبره أبغض الحلال، لما يترتب عنه من تصدع الأسرة وضياع النشء، ورغم ذلك لم يوصد باب الطلاق تماما، بل فتحه للحالات العسيرة التي لا أمل في استمرار الزواج بينها، فالضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها.
وعند طلاق المرأة وجب لها المتعة والنفقة والمكارمة والعفو والصفح استدامة للمودة بين الناس، وإبقاء على آصرة الخير والمعروف في حالتي الزواج والطلاق. وذلك أسمى ما يهتدي إليه الشعور الإنساني، يهدينا إليه السميع البصير، فإنه عليم بخلقه حكيم في كل ما يصدر عنه من أوامر وأحكام.
﴿ كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ﴾
المعــنى الإجمــالي :
والذين يتوفون منكم ويتركون زوجات لهم، فقد أوصى الله بهن أن يقمن في بيت الزوجية عالما كاملا مواساة لهن وإزالة لوحشتهن، ولا يحق لأحد أن يخرجهن فإن خرجت بأنفسهن في أثناء العام فلا إثم عليكم أيها الأولياء أن تتركوهن يتصرفن في أنفسهم بما لا يكره الشرع الشريف عليهن، وأطيعوا الله في أحكامه واعملوا بما شرع فإنه قادر على أن ينتقم ممن يخالف أمره، وهو ذو حكمة بالغة لا يشرع لكم إلا ما فيه المصلحة وإن غابت حكمتها عن علمكم.
وللنساء اللاتي يطلقن بعد الدخول حق في أن يعطين ما يتمتهن به من مال جبرا لخاطرهن، يدفع إليهن بالحسنى على قدر غنى الزوج وفقره، لأن ذلك مم توجبه تقوى الله ويلزم به أهل الإيمان.
بمثل هذه البيانات والتشريعات الواضحة المحققة للمصلحة، يبين الله لكم أحكامه ونعمه وآياته لتتدبروها بما فيها من خير.
التفسير :
أي بمثل هذا البيان الحكيم الواضح، لأحكام النكاح والطلاق والعدة بأنواعها والمتعة وغير ذلك يبين الله لكم آياته كلها في شريعته، لكي تدركوا أسرارها وتعقلوا أغراضها فتنفذوها عن يقين واقتناع.
وإلى هنا تكون سورة البقرة قد بينت لنا في أكتر من عشرين آية، بعض الأحكام التي تتعلق بالأسرة وصيانتها وسعادتها، بأسلوب مؤثر وحكيم، وبطريقة تهدي إلى أفضل الأخلاق وأقوم العلاقات بين الأفراد والجماعات، وإن المتأمل في هذه الآيات وما اشتملت عليه من توجيهات سامية، ليوقن بأن هذا القرآن غنما هو من عند الله، الذي شرع لعباده ما فيه صلاحهم وسعادتهم.
* * *
الموت والحياة بيد الله
﴿ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون( ٢٤٣ ) ﴾
المفردات :
ألم تر : تعجب وتقرير لمن سمع بقصتهم، وقد يخاطب به من لم ير ولم يسمع فإنه صار مثلا في التعجب.
حذر الموت : أي من حذر الموت.
المعنى الإجمالي :
تنبه أيها النبي إلى القصة العجيبة واعلمها، وهي حالة القوم الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الجهاد، خشية الموت فيه، وهو ألوف كثيرة فقضى الله عليهم بالموت والهون من أعدائهم، حتى إذا استبسلت بقيتهم، وقامت بالجهاد أحيا الله جماعتهم به، وإن هذه الحياة العزيزة بعد الذلة المميتة من فضل الله، الذي يستوجب الشكران، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
التفسير :
﴿ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهو ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم... ﴾
المعنى : ألم ينته علمك إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف وكانوا فوق عشرة لآلاف لأن العشرة فما دونها جمع قلة، فيقال فيها : آلاف، ولا يقال ألوف إلا لجمع الكثرة الذي يزيد عن العشرة.
ولذا روى عن ابن عباس : أنهم كانوا أربعين ألفا، كما في بعض الروايات عنه، وكان خروجهم بهذه الكثرة، خوفا من الموت وحذرا منه، مع أن الحذر لا يمنع من القدر، فإذا جاء أجلهم معا أو متفرقين لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.
ويرى بعض المفسرون : أن هذه الآية الكريمة تنبئنا عن قوم من بني إسرائيل دعا إلى الجهاد في سبيل الله، فخرجوا من ديارهم فرارا منه، حتى لا يموتوا مع أنهم كانوا ألوفا، فلا ينبغي لهم أن يفروا لأن من عاداتهم أن يجبنوا عن القتال، كما حدث عندما أمرهم موسى عليه السلام بقتال الجبارين، فقالوا له :﴿ فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ﴾( المائدة : ٢٤ ). فأماتهم الله جميعا عقابا لهم على فرارهم، ثم أحياهم ليبين لهم قدرة الله عليهم، وأنه لا ينفعهم الفرار من القتال، إن كان الموت فيه مكتوبا عليهم، فقد يموت المرء بدون قتال، كما حدث لهم.
ويقول صاحب هذا الرأي : إنه تعالى بعد أن أحياهم أمرهم بالقتال فقال لهم :﴿ وقاتلوا في سبيل الله ﴾ ( البقرة : ٢٤٤ ) لعلهم يعتبرون بذلك فيخلصون في الجهاد.
وقال ابن عطية منكرا لهذا وأمثاله من القصص : وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف، عن قوم من البشر، خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم ليروا هم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر. وقد جعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمره للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد. هذا قول الطبري. وهو ظاهر معنى الآية.
ويرى الشيخ محمد عبده : أن هذا مثل لا قصة واقعية، وأن الموت هنا مجازي.
وخلاصة رأيه : أن هؤلاء القوم فروا أمام أعدائهم دون قتال، وتركوا أوطانهم غنيمة للأعداء، فعاشوا أذلاء مشردين، في حياة أشبه بالموت، فلما عرفوا جنايتهم على أنفسهم عادوا إلى جهاد أعدائهم وتحرير أوطانهم، فاستردوا كرامتهم وعاشوا حياة كريمة جديرة بالمجاهدين الأبطال.
ويرى آخرون : أنها تتحدث عن قوم نزل ببلادهم وباء الطاعون، فعمها بأسباب الموت فظنوا أن فرارهم من هذا الوباء سيكفل لهم النجاة من الموت، فأماتهم الله عقابا لهم، فلكل أجل عند الله كتاب وقدر، وقد فاتهم أنهم سينقلون معهم وباء الطاعون، إلى بلاد خالية منه وتلك جريمة أخرى. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن هذا السقم، عذب به الأمم قبلكم، فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه، أخرجه الإمام عن عمر. وللشيوخ نحوه.
وهذا الإرشاد منه صلى الله عليه وسلم مطابق لأحدث النظم الصحية وهو ما يعرف اليوم بالحجر الصحي.
والتعبير بقوله تعالى :﴿ فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ﴾. إما على ظاهره، وإما مجاز عن تعلق إرادة الله تعالى بموتهم دفعة واحدة.
وقيل : هو تمثيل لإماتتهم ميتة نفس واحدة، في أسرع زمان، بأمر مطاع لمأمور مطيع.
والله يعلم مقدار المدة التي ظلوا فيها أمواتا. ولكنها لابد متراخية فترة عن إماتتهم، كما يوحي به العطف ب ثم في قوله تعالى :﴿ ثم أحياهم ﴾ : أي ثم أعادهم الله إلى الحياة مرة أخرى. بعد فترة موت ليستوفوا آجالهم، وليؤمنوا بقضاء الله وقدره، وليكووا عبرة يعتبرون بها هم وغيرهم، وليظل فضل الله الذي عبر عنه قوله تعالى :﴿ إن الله لذو فضل على الناس ﴾. بما أنعم عليهم من نعمة الخلق ونعمة البقاء والرزق، وبما يريهم من الآيات الباهرة، والحجج القاطعة التي تنفعهم في دينهم.
وبين الأستاذ سيد قطب الحكمة المقصودة بقوله : " إن الحذر من الموت لا يجدي، وإن الفزع والهلع لا يزيدان الحياة ولا يمدان أجلا ولا يردان قضاء، وإن الله هو واهب لحياة وهو آخذ الحياة وأنه متفضل في الحالتين حين يهب، وحين يسترد، والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد، وأن مصلحة الناس متحققة في هذا وذك، وأن فضل الله متحقق في الأخذ والمنح سواء " ( ٢٩٦ ).
﴿ إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ﴾
أي أن الله تعالى لصاحب تفضل دائم على الناس حيث أوجدهم بهذه الصورة الحسنة، وخلق لهم عقولا ليهتدوا به إلى طريق الخير، وسخر لهم الكثير مما في هذا الكون، فمن الواجب عليهم أن يشكروه وأن يطيعوه، ولكن الذي حدث منهم أن أكثرهم لا يشكرون اله تعالى على ما منحهم من نعم.
وفي قوله :﴿ ولكن أكثر الناس لا يشكرون ﴾. إنصاف للقلة الشاكرة منهم ومديح لهم على استقامتهم وقوة إيمانهم.
* * *
فضل القتال والصدقة
﴿ وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع بصير( ٢٤٤ ) من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون( ٢٤٥ ) ﴾
المفردات :
سبيل الله : السبيل : الطريق، يذكر ويؤنث. وإذا أطلق انصرف إلى الجهاد.
المعنى الإجمالي :
وإذا علمتم أن الفرار من الموت لا ينجى منه فجاهدوا وابذلوا أنفسكم لإعلاء كلمة الله وأيقنوا أن الله يسمع ما يقول المتخلفون وما يقول المجاهدون، ويعلم ما يضمر كل في نفسه فيجازى بالخير خيرا وبالشر شرا.
التفسير :
﴿ وقاتلوا في سبيل اله واعلموا أن الله سميع عليم ﴾
هذه الجملة معطوفة على جملة " ألم تر " من جهة المعنى فإن " لم تر " بمعنى انظروا وتفكروا.
وإنك لترى الأمر بالجهاد منثورا في هذه السورة ضمن آيات الأحكام مذكورا به من آن لآخر، لأنه من أشق التكاليف، وعليه يدور بقاء هذا الدين، الذي يتربص به أعداءه فلو لم يجاهدوا لهلكوا، وضاع دينهم.
وقد بدأ الحديث عن الجهاد في هذه السورة بقوله تعالى :﴿ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتا بل أحياء ﴾. ( البقرة : ١٥٤ ) حتى وصل إلى هذا التكليف الكريم، ثم ينتهي في آخر السورة بالحث على الإنفاق في سبيله.
والخطاب هنا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
والجهاد في سبيل الله : هو ما كان لإعلاء كلمة الله فلا يكون الجهاد في سبيل الله إلا إذا كان هم المقاتل ومقصده، إحياء دينه ونشره والدفاع عنه. فإن لم تكن تلك نيته فإنما يقاتل لأمر دنيوي. ومن كان ذلك لا يحصل على الثواب، الذي أعده الله لمن يجاهدون في سبيله.
وفي مضمون الآية الكريمة : تحذير لكل مسلم من أن يجبن عن القتال حذر الموت بقوله :﴿ واعلموا أن الله سميع عليم ﴾. فإن الموت قدر لا بد منه. قال تعالى :﴿ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ﴾. ( الجمعة : ٨ ) إذ الموت أجل يبلغه المرء فيموت، سواء أكان على فراشه أم كان في حرب ضروس.
كما أن فيها رمزا إلى وعدهم بحسن الجزاء، وكأنه يقول : واعلموا أنهم سميع عليم فلا يخفى عليه مجاهد أو قاعد. فمن قعد عنه عوقب أشد العقاب. ومن جاهد جوزي أعظم الجزاء.
المفردات :
يقرض : الإقراض : إعطاء شخص مالا لغيره ليرده إليه بعد حين.
ويبسط : يوسع من يشاء.
المعنى الإجمالي :
والجهاد في سبيل الله يحتاج إلى المال فقدموا أموالكم، فأي امرئ لا يبذل أمواله لله طيبة بها نفسه، وقد وعد الله أن يردها عليه مضاعفة أضعافا كثيرة، والرزق بيد الله فيضيق على من يشاء ويوسع لمن يشاء لما في مصلحتكم، وإليه مصيركم فيجازيكم على ما بذلتم، ومع أن الرزق من فضل الله وعنايته وأنه هو الذي يعطي ويمنع، سمي المنفي مقرضا للحث على الإنفاق والتحبيب فيه، وتأكيد الجزاء المضاعف في الدنيا والآخرة.
ثم حرضهم على الإنفاق في سبيل الله بأموالهم، بعد أن أمرهم ببذل أنفسهم فقال :
﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ﴾
بهذا الأسلوب الاستفهامي البليغ يدفعنا الله تعالى دفعا إلى المشاركة بالمال، في الإعداد للقتال إعدادا نرهب به عدو الله وعدو دينه لتكون كلمة الله هي العليا.
وقد صورت الآية إعطاء الباذلة ماله في سبيل الله يبتغي ثوابه بصورة تقديم قرض إلى مقترض، للإيذان بأن ثوابه محقق، ولازم لزوم أداء الدين.
وفي الآية لطف من الله إلى عباده، وتوثيق لثوابه وأنه لزم الأداء تفضلا منه وتحقيقا لوعده الذي لا يختلف، حيث جعل نعمته التي أنعم بها على عباده إذا أنفقوها في سبيل اله كأنها قرض يقدمونه له سبحانه مباشرة، مع أنه غني عن عباده، فهو الذي يقول :﴿ والله الغني وأنتم الفقراء ﴾( محمد : ٣٨ ).
والمراد بكون القرض حسنا أن يكون حلالا طيبا ومع أن القرض مع الناس يؤدي بمثله فإنه تعالى بين لعباده أن القرض معه يؤد مضاعفا، إذ قال :﴿ فيضاعفه له أضعافا كثيرة ﴾. عوضا عن هذا القرض الذي قدموه خالصا لله، وتلك المضاعفة تكون في وقت تشتد فيه حاجتهم إلى هذا الربح الوفير وهو يوم القيامة.
وقد بين الله هذه المضاعفة في أواخر السورة إذ يقول :﴿ مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله سميع عليم ﴾( البقرة : ٢٦١ ).
﴿ والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون ﴾
أي يضيق الرزق على بعض ويوسعه على بعض أو يضيقه تارة ويوسعه أخرى، حسبما تقتضيه الحكمة.
وعلمتم أنه تعالى واهب الأرزاق، يوسعها ويضيقها كما يشاء وأن ما عندكم هو من بسطه وعطائه، فأنفقوا مما وسع عليكم، ولا تبخلوا بما هو من فضله، فإنه مجازيكم عل إنفاقكم جزءا مضاعفا، حسبما وعدكم.
* * *
رغبة في القتال
﴿ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين( ٢٤٦ ) ﴾
المفردات :
ألم تر الملأ : الملأ من القوم وجوههم وأشرافهم، وهو اسم للجماعة لا واحد له من لفضه، سموا بذلك لأنهم يملئون القلوب مهابة، والعيون حسنا وبهاء، والمقصود به هنا وفي كل القرآن الرجال : كالقوم والرهط والنفر والرؤية هن علمية : ضمنت معنى الانتهاء فعديت بحرف الجر( إلى ) والاستفهام للتعجب والتشويق لهذه القصة.
هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا : فقد قاربتم عدم القتال إن كنب عليكم كما يتوقع منكم كائن، ولابد من وقوعه.
المعنى الإجمالي :
تنبه الآية إلى النبأ عن جماعة من بني إسرائيل بعد عهد موسى طلبوا من نبيهم في ذلك الوقت أن يجعل عليكم حاكما يجمع شملهم بعد تفرق، ويقودهم تحت لوائه إعلاء لكلمة الله واستردادا لعزتهم سألهم ليستوثق من جدهم في الأمر ألا ينتظر منكم أن تجيبوا عن القتال إذا فرض عليكم ؟ فأنكروا أن يقع ذلك منهم قائلين وكيف لا نقاتل لاسترداد حقوقنا وقد طردنا العدو من أوطاننا، فلما أجاب الله رغبتهم وفرض عليهم القتال. أحجموا إلا جماعة فليلة منهم وكان إحجامهم ظلما لأنفسهم ونبيهم ودينهم، والله عليم بالظالمين.
التفسير :
﴿ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ﴾
كان العبرانيون جيرانا لبني إسرائيل وكان يحكمهم ملك يقال له جالوت ولما فسق بنو إسرائيل وقتلوا أنبياءهم سلطهم الله عليهم فهزموهم وظهروا عليهم وأخذوا كثيرا من بلادهم، وأسروا من أشرافهم عددا كبيرا وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم واستباحوا نساءهم فلما رأوا ما حل بهم عادوا إلى رشدهم وقالوا لنبيهم يوشع عليه السلام : أقم علينا ملكا يضم شتاتا، وتنصاع لهذا الملك جماعتنا، ونقاتل تحت لوائه في سبيل الله وشريعته وقد كفانا ما لقيناه من ذل الهزيمة والاستبعاد.
وكان الملك فيهم هو الذي يسير بالجموع أما النبي فهو الذي يقيم أمره ويرشده عليه فيطيع الملك أمره كسائر بني إسرائيل.
والخطاب في قوله :﴿ ألم تر ﴾. لكل من تتأتى منه الرؤية والعلم.
﴿ قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ﴾
هل : هناك للتحقيق فهي بمعنى " قد " و " عسى " تفيد التوقع : وأدخلت " هل " عليها لتحقيق ما يتوقعه النبي " ألا تقاتلوا " خبر " عسى ".
والمعنى : قال لهم نبيهم مجيبا لهم : أتوقع عدم قتالكم، وإن كتب عليكم القتال، وذلك محقق عندي وثابت وقد بنى توقعه هذا على تاريخهم في الجهاد وجبنهم طول حياتهم أمام عدوهم وقولهم لموسى عليه السلام حينما دعاهم للجهاد :﴿ فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ﴾( المائدة : ٢٤ ) فأجابوا نبيهم :﴿ قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ﴾
والمعنى : وأي شيء يمنعنا من أن نقاتل في سبيل الله ويصرفنا عنه مع وجود مقتضيه فقد أخرجنا الأعداء من ديارنا وطغى علينا قوم جالوت فاستباحوا أبناءنا ونساءنا وهذه حال تقتضي الجهاد الذي تركناه طالبا السلامة والعافية ففقدناهما فاسأل ربك ما طلبناه منك من تنصيب ملك علينا نقتل معه لنسترد أرضنا وكرامتنا ومقدساتنا.
﴿ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا ﴾
أي فلما فرض عليهم قتال أعدائهم بعد ما اختار لهم نبيهم ملكا كطلبهم وبرزوا لقتاله، وشاهدوا جده في قتالهم ولوا فرارا وجبنا، إلا نفرا قليلا منهم آثروا أخراهم على دنياهم، طمعا فيما عند الله وإيمانا بأنه قد قدرت عليهم آجالهم، فلا ينجيهم من الموت فرار، إن كان مكتوبا عليهم فصبروا مع ملكهم طالوت على قتال عدوهم جالوت.
﴿ والله عليم بالظالمين ﴾
أي جميعا، ومنهم الذين تركوا القتال من بني إسرائيل وناقضت أعمالهم أقوالهم فهو مجازيهم على ظلمهم، بتوليتهم وسائر معاصيهم.
* * *
مؤهلات الملك
﴿ وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم( ٢٤٧ ) وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لأية لكم إن كنتم مؤمنين( ١٤٨ ) ﴾
المفردات :
طالوت : اسم أعجمي قيل هو المسمى في التوراة باسم شاول وقيل إن هذا الإسم لقب له من الطول كملكوت من الملك لأن طالوت كان طويلا جسيما.
أنى يكون : كيف يكون أو من أين يكون.
سعة من المال : كثرة وفيرة من المال.
المعنى لإجمالي :
وقال لهم نبيهم إن الله استجاب لكم، فاختار طالوت حاكما عليكم، فاعترض كبراؤهم على اختيار الله قائلين : يكون ملكا علينا ونحن أولى منه، لأنه ليس بذي نسب ولا مال، قائلا : إن الله اختاره حاكما عليكم لتوافر صفات القيادة فيه، وهي سعة الخبرة بشؤون الحرب وسياسة الحكم مع قوة الجسم، والسلطان بيد الله يعطيه من يشاء من عباده، ولا يعتمد على وراثة أو مال وفضل الله وعلمه شامل، يختار ما فيه مصالحكم.
التفسير :
﴿ وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا... ﴾
أي قال لهم نبيهم بعد أن أوحي الله إليه بما أوحى، إن الله تعالى وهو العليم الخبير بأحوال عباده قد اختار لكم، ومن أجل مصلحتكم طالوت ليكون ملكا عليكم، وقائدا لكم في قتالكم لأعدائكم فأطيعوه واتبعوا ما يأمركم به.
﴿ قالوا أنى يكون له ملكا علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤتمن المال... ﴾
تشير هذه الجملة إلى طبيعة بني إسرائيل من اللجاجة والعناد لقد كانوا يطلبون ملكا يقاتلون تحت لوائه، فلما اختار الله طالوت أنكره اختياره وتعجبوا منه، وقالوا : كيف يكون له الملك علينا، والحال أننا أحق بالملك منه، لأننا أشرف منه نسبا، إذ منا من هو نسل الملوك، أما طالوت فليس من نسلهم وفضلا عن ذلك فهو لا يملك م المال ما يملكه بعضنا، فكيف يكون هذا الشخص ملكا علينا ؟.
فأنت تراهم لانعدام المقاييس الصحيحة عندهم، ظنوا أن المؤهلات الحقيقة لاستحقاق الملك والقيادة، إنما تكون بالنسب وكثرة المال أما الكفاءة العقلية والقوة البدنية والقدرة الشخصية فلا تؤهل للملك في نظرهم، وكل هذا غش في التصور، كما أنه من سمات بني إسرائيل المعروفة.
قال بعض الكم فسرين : " وسبب هذا الاستبعاد أن النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من أسباط بني إسرائيل، وهو سبط لاوي بن يعقوب، وسبط المملكة بسبط يهوذا، ولم يكن طالوت من أحد هذين السبطين بل من ولد بنيامين " ( ٢٩٧ ).
واستبعد الأستاذ محمد عبده هذا القول من المفسرين وقال : " ولا يصح كلامهم في بيت الملك لأنه لم يكن فيه ملوك قبله، ونفيهم سعة المال التي تؤهله للملك في رأي القائلين لا تدل على أنه كان فقيرا وإنما العبرة في العبارة هي ما دلت عليه من طباع الناس، وهي أنهم يرون أن الملك لابد أن يكون وارثا للملك، أو ذا نسب عظيم يدبر به الملك، والسبب في هذا أنهم قد اعتادوا الخضوع للشرفاء والأغنياء وإن لم يمتازوا عليهم بمعارفهم وصفاتهم الذاتية، فبين الله أنهم مخطئون في زعمهم أن استحقاق الملك يكون بالنسب وسعة المال. ( ٢٩٨ ).
﴿ قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ﴾
إن الله فضله واختاره للملك ومنحه عدة مؤهلات :
١- الاستعداد الفطري للملك.
٢- السعة في العلم الذي يكون فيه التدبير ويشمل ذلك معرفته بأحوال أمته واستثمار قوى الخير فيها.
٣- بسطة الجسم الملتزم لصحة الفكر على قاعدة " العقل السليم في الجسم السليم " والشجاعة والقدرة على المدافعة والهيبة والوقار.
٤- توفيق الله وتسخيره لأسباب الملك.
قال الأستاذ محمد عبده :
والاستعداد هو الركن الأول في المرتبة فلذلك قد همه، والعلم بحال الأمة ومواضع قوتها وضعفها وجودة الفكر في تدبير شئونها هو الركن الثاني في المرتبة، فكم من عالم بحال زمانه غير مستعد للسلطة. اتخذه من هو مستعد لها سراجا يستضيء برأيه في تأسيس مملكته أو سياستها، ولم ينهض به رأيه إلى أن يكون هو السيد الزعيم فيها.
" وكمال الجسم في قواه هو الركن الثالث في المرتبة، وهو في الناس أكثر من سابقيه، وأما المال فليس بركن من أركان تأسيس الملك لأن المزايا الثلاث إذا وجدت سهل على صاحبها الإتيان بالمال، وإنا لنعرف في الناس من أسس دولة وهو فقير أمي ولمن استعداده ومعرفته بحال الأمة التي سادها وشجاعته كانت كافية للاستيلاء عليها والاستعانة بأهل العلم والإرادة، والشجعان على تمكن سلطته فيها " ( ٢٩٩ ).
﴿ والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ﴾ : فالله سبحانه إذا أراد أمرا هيأ له الأسباب ثم قال له : كن فيكون.
( فإيتاؤه الملك لمن يشاء بمقتضى سنته، إما يكون بجعله مستعدا للملك في نفسه وبتوفيق الأسباب لسعيه في ذلك " ( ٣٠٠ ).
﴿ والله واسع ﴾ : الفضل والعطاء عليم بشؤون عباده خبير بأحوالهم وأعمالهم.
قال تعالى :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ﴾( آل عمران : ٢٦ ).
﴿ وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة... ﴾
المفردات :
التابوت : صندوق التوراة وبعض المقدسات.
فيه سكينة من ربكم : في التابوت طمأنينة لقلوبكم لما فيه من علوم وشرائع وبركة وهداية.
وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون : تلك البقية هي قطع الألواح، وعصا موسى وثيابه وعمامة هارون إلى غير ذلك.
تحمله الملائكة : نزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه حتى وضعته بين يدي طالوت.
المعنى لإجمالي :
﴿ وقال لهم نبيهم ﴾ إن دليل صدقي على أن الله اختار طالوت حاكما، هو أن يعود إليكم صندوق التوراة الذي سلب منكم تحمله الملائكة، وفيه بعض آثار موسى وآل هارون الذين جاءوا من بعدهما وعند إحضاره تطمئن قلوبكم، وإن في ذلك لدليلا يدفعكم إلى اتباعه والرضا به عن كنتم تذعنون للحق وتؤمنون به.
وقال لهم نبيهم بأن طالوت جدير بالملك.
﴿ إن آية ملكه ﴾ أي علامة ملكه أن يأتيكم صندوق فيه ألواح التوراة وبعض المقدسات على يدي طالوت.
وكان أعداؤهم الذين شردوهم من الأرض المقدسة التي غلبوا عليها على يد نبيهم يوشع بن نون، بعد فترة التيه ووفاة موسى عليه السلام قد سلبوا منهم مقدساتهم ممثلة في التابوت الذي يحفظون فيه مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون وقيل : كانت فيه نسخة من الألواح التي أعطاها الله لموسى على الطور فجعل لهم نبيهم علامة من الله أن تقع خارقة يشهدونها فيأتيهم التابوت بما فيه : تحمله الملائكة فتفيض على قلوبهم السكينة قال لهم : إن هذه الآية تكفي دلالة على صدق اختيار الله طالوت إن كنتم مؤمنين حقا ويبدو من السياق أن هذه الخارقة قد وقعت فانتهى القوم منها إلى اليقين.
قال الزمخشري : قوله :﴿ وبقية مما ترك موسى وآل هارون ﴾ : هي رضراض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وكان الله قد رفعه بعد موسى عليه السلام فنزلت به الملائكة تحمله وهو ينظرون إليه فكان ذلك آية لاصطفاء الله لطالوت، فإن قلت : من هم " آل موسى وآل هارون " ؟ قلت : الأنبياء من بني يعقوب بعدهما ويجوز أن يراد مما ترك موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما " ( ٣٠١ ).
وقال ابن كثير : " قال ابن عباس : جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون " ( ٣٠٢ ).
وقيل : إن حمل الملائكة للتابوت مجاز عن الإبصار له، كما تقول : حمل فلان متاعه إلى مكة، أبي أوصله إليها.
﴿ إن في ذلكم لآية لكم إن كنتم مؤمنين ﴾
أي أن في ذلك الذي أتاكم به طالوت لآية عظيمة وعلامة ظاهرة لكم تدل على أحقية طالوت بالملك والقيادة إن كتم مؤمنين بآيات الله وبالحق الذي جاء به أنبياؤه.
* * *
اختباره الجنود
﴿ فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين( ٢٤٩ ) ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين( ٢٥٠ ) فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين( ٢٥١ ) ﴾
المفردات :

فصل : خرج.


مبتليكم بنهر : أي مختبركم به ليظهر الصادق منكم والكاذب في طاعة الملك والجهاد في سبيل الله لإخراج العدو من البلاد التي أخذها منكم.
يطعمه : يذق طعمه.
اغترف غرفة : الغرفة : ما يغرف.
لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده : لا قوة لنا على حربه فضلا عن الانتصار عليه،
يظنون : هي هنا بمعنى يوقنون بالبعث، على حد قوله تعالى :﴿ إني ظننت أني ملاق حسابيه ﴾. ( الحافة : ٢٠ ).
ملاقو الله : أي مبعوثون إليه.
المعنى الإجمالي :
فلما خرج بهم طالوت قال لهم الله مختبركم بنهر تمرون عليه في طريقكم فلا تشربوا منه إلا غرفة، فمن شرب منه أكثر من ذلك فليس من جيشنا ولا من جمعنا لخروجه على طاعة الله، ولن يصحبني إلا من لم يشرب منه أكثر من غرفة، فلم يصبروا على هذا الاختيار وشربوا منه كثيرا إلا جماعة قلية فاصطحب هذه القلة الصابرة واجتاز بها النهر فلما ظهرت لهم كثرة عدد عدوهم قالوا : لن نستطيع اليوم قتال جالوت وجنوده لكثرتهم وقلتنا، فقال نفر منهم ثبت الله قلوبهم لرجائهم في ثواب الله عند لقائه لا تخافوا فكثيرا ما انتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة، فاصبروا فإن الله مع الصابرين.
التفسير :
﴿ فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة واحدة... ﴾
فلما خرج طالوت بالجنود من بيت المقدس لقتال أعدائهم ساروا في أرض قفرة أصابهم عطش شديد ثم مروا بنهر في الطريق فطلب منهم القائد ألا يشربوا منه ورخص لهم في غرفة واحدة باليد.
فانقسم أتباع طالوت إلى أقسام :
- قسم شرب كثيرا مخالفا أمر طالوت.
- قسم شرب غرفة واحدة بيده كما رخص له القائد.
- قسم لم يشرب أصلا لا قليلا ولا كثيرا مؤثرا العزيمة على الرخصة وهذا القسم هو الذي اعتمد عليه طالوت اعتمادا كبيرا في قتاله لأعدائه.
نقل القرطبي عن ابن عباس أنه قال : " شربوا على قدر يقينهم فشرب الكفار شرب الهيم، ( ٣٠٣ ) وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا، وأخذ بعضهم الغرفة فأما من شرب فلم يرو بل برح به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة( ٣٠٤ ).
قال الأستاذ سيد قطب : " هنا يتجلى مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل إنه مقدم على معركة، ومعه جيش من أمة مغلوبة عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة، وه يواجه جيش أمة غالبة فلابد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام التوراة الظاهرة الغالبة هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة والإرادة لا تضبط الشهوات والنزوات تصمد للحرمان والمشاق وتستعلي على الضرورات والحاجات وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء فلابد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه وصموده وصبره أولا للرغبة والشهوة وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش، ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه ويؤثر العافية.
﴿ فشربوا منه إلا قليلا منهم ﴾
شربوا وارتووا، فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده تبل الظمأ لا تشي بالرغبة في التخلف وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة، والجيوش ليست بالعدد الضخم ولكن بالقلب الصامد، والإرادة الحازمة والإيمان الثابت المستقيم على الطريق ( ٢٠٥ ).
﴿ فلما جاوزه وهو الذي آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ﴾
المعنى : فلما جاوزت طالوت النهر وتركه هو والذين آمنوا معه، وهم القليل الذي نفذ أمره وصدق إيمانه بربه، ونظروا إلى كثرة عدوهم وهم قليل، فأوجس بعضهم خفية وقالوا :﴿ لا طاقة لنا اليوم ﴾. بقتال " جالوت وجنوده " أي لا قدر لنا على محاربتهم فضلا عن غلبتهم وهؤلاء وإن كانوا من المؤمنين معه، المنفذين لأمره في اغتراف الغرفة، إلا أنهم قالوا إظهارا لواقع الحال، ورجاء المعونة من الله وليس نكوصا وامتناعا عن القتال.
﴿ قال الذين أنهم ملاقوا الله ﴾
أي قال أفضلهم وخلصاؤهم الذين يتيقنون أنهم ملاقو جزاء الله يوم القيامة.
﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾
أي كم من جماعة قليلة العدة والعدة استعصمت بإيمانها بالله وتوكلت عليه غلبت فئة كثيرة العدد والعدة، بإرادة الله ونصره ؟ فإن النصر من عند الله لا بكثرة الجنود. فلا ينبغي لنا أن نستقل أنفسنا فنجبن عن لقاء عدونا.
ثم ختمت الآية بهذه البشرى :
﴿ والله مع الصابرين ﴾ : أي معهم بالنصر والتأييد.
وهذه الجملة إما : من جهته تعالى تقريرا لكلامهم، ودعاء للسامعين إلى مثل حالهم وإما : من كلام هؤلاء الذين يظنون أنهم ملاقو الله، قالوا ذلك تشجيعا وترغيبا في الصبر.
﴿ ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ﴾
المفردات :
برزوا : ظهروا واصطفوا للقنال على بارز من الأرض.
المعنى الإجمالي :
ولما تقدم المؤمنون لقتال جالوت وجيشه اتجهوا إلى الله راضعين داعين أن يملأهم بالصبر، ويقوي عزائمهم ويثبتهم في ميدان القتال، وأن ينصرهم على أعدائهم الكافرين.
التفسير :
ولما واجه حزب الإيمان أعداء الله وصاروا إلى براز الأرض المتكشف منها متأهبين لحرب جلوت وجنوده، قالوا ذاكرين عبوديتهم :﴿ ربنا أفرغ علينا صبرا ﴾ عظيما غامرا من عندك يشملنا ويعمنا ويقوي نفوسنا.
﴿ وثبت أقدامنا ﴾ بطمأنينة نفوسنا عند اللقاء، فإن طمأنينة النفس تهب القوة وتبث الأقدام، ﴿ وانصرنا ﴾بفضلك وأعنا بقوتك :﴿ على القوم الكافرين ﴾. الجاحدين لألوهيتك ونعمك المتوالية عليهم.
﴿ فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء... ﴾
المعنى الإجمالي :
فهزموا عدوهم بإذن الله تعالى وقتل داود وهو أحد جنود طالوت، جالوت قائد الكفار، وأعطاه الله الحكم بعد طالوت والنبوة والعلم النافع وعلمه مما يشاء، وسنة الله أن ينصر الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون ولولا أن الله يسلط جنوده على المفسدين لمحو فسادهم ويسلط الأشرار بعضهم على بعض لما عمرت الأرض ولكن الله دائم الإحسان والفضل على عباده.
التفسير :
أي فاستجاب الله دعائهم فهزموهم بإرادة الله تعالى ونصره لهم، بسبب إيمانهم واعتمادهم عليه، وصبهم في ملاقات العدو واستمساكهم بأسباب النصر وعدة الحرب، وقتل داود أحد جنود طالوت : جالوت زعيم العبرانيين وانتصرت القلوب المؤمنة على الكثرة الكافرة.
وفي ذلك ترغيب للمؤمنين في الجهاد وتحذير من الضعف والفرار حذر الموت، ثم مات طالوت ملك بني إسرائيل فتولى الملك داود، وآتاه الله بسبب شجاعته وعقله ودينه الملك، ووهبه الحكمة وعلمه مما يشاء الله تعليمه إياه من العلم الذي اختصه به عليه السلام.
وبذلك دفع الله بداود عن بني إسرائيل معرة الجبن والهزيمة.
﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾
وهكذا يدفع الله بالصالحين من الناس المفسدين في الأرض المعطلين مصالح العباد، ولولا ذلك لفسدت الأرض ووقع الناس في فوضى.
﴿ ولكن الله ذو فضل على العالمين ﴾. فيدفع الله بقوت بعض رحمة بهم.
***
آيات الله
﴿ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين( ٢٥٢ ) ﴾
المعنى الإجمالي :
تلك القصة من العبر التي نقصها عليك بالصدق لتكون أسوة لك ودليلا على صدق رسالتك، ولتعلم أننا سننصرك كما نصرنا من قبلك من الرسل.
التفسير :
﴿ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين ﴾
أي تلك الآيات التي حدثناك فيها عن قصة أولئك القوم وما جرى لهم من آيات الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، نتلوها عليك يا محمد عن طريق جبريل تلاوة ملتبسة بالحق الثابت الذي لا يحوم حوله الباطل. وإنك يا محمد لمن المرسلين أرسلك الله كما أرسلهم ومن ثم نتلو عليك هذه الآيات ونزودك بتجارب البشرية كلها في جميع عصورها، وتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله ونورثك ميراث المرسلين.
وبعد، فهذه القصة الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى وأن فيها لعبرا متعددة، وعظات متنوعة ليقوم يعقلون. ومن العبر التي تؤخذ منها :
١- أن الشعور بالظلم والهوان وللابتلاء بالمحن والهزائم والوقوع تحت أيدي المعتدين كل ذلك من شأنه أن يصهر النفوس الحرة الكريمة وأن يدفعها بقوة إلى الذود عهن كرامتها المسلوبة، وعزتها المغصوبة حتى تنال حقها ممن سلبه منها أو تموت دونه، لأن النفوس الأبية تشعر دائما بأن الموت مع العزة خير من الحياة مع الذلة، يدل على ذلك قوله تعالى :﴿ ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ﴾( البقرة : ٢٤٦ ).
٢- أن الناس في كل زمان ومكان يلجئون خصوصا عندما تنزل بهم الشدائد إلى من يتوسمون فيهم الخير والصلاح، لكي يرشدوهم إلى ما يأخذ بيدهم إلى طريق السعادة، ولكي يهدوهم إلى أفضل السبل التي تنقذهم مما هم فيه من بلاء، ولكي يختاروا لهم من يقودهم إلى النصر والفلاح، ألا ترى إلى الملأ من بني إسرائيل كيف لجئوا إلى نبي لهم ليقولوا له بعد أن أصابهم من الذل ما أصابهم :﴿ ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ﴾. إنهم لم يلجئوا إلى نبيهم يبثون إليه شكواهم ويطلبون منه أن يختار لهم من يقودهم للقتال في سبيل الله إلا لأنهم يرون فيه الأمل المرتجي والعقل السليم والخلق القويم والأسوة الحسنة.
٣- أن القائد يجب أن تتوفر فيه صفتان : قوة العقل وقوة الجسم، لأنه متى توافرت فيه هاتان الصفتان استطاع أن يقوم بقيادة أتباعه بنجاح، وأنه قبل أن يلتقي بأعدائه يجب عليه أن يختبر جنده ليعرف مبلغ إيمانهم وقوتهم وطاعتهم وثباتهم، وألا يكلفهم ما لا يستطيعونه حتى يحارب أعداء وهو على بينة من أمره. أنظر إلى طالوت كيف اختبر جنده قبل أن يخوض المعركة بأن قال لهم :﴿ إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة واحدة بيده.. ﴾ وهكذا القواد العقلاء يقدمون على حرب عدائهم وهم على بصيرة من أمرهم.
٤- أن الفئة القليلة المؤمنة كثيرا ما تنصر على الفئة الكبيرة الكافرة، لأنة المؤمنين الصادقين يحملهم إيمانهم على اليقين بلقاء الله وعلى التضحية من أجل إعلاء كلمته، وعلى الإقدام الذي يرعب الكافرين ويخيف الفاسقين وصدق الله إذ يقول :﴿ كم ممن فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾.
٥- أن هزائم الأمم يمكن إزالتها متى توافر لتلك الأمم القادة العقلاء الأقوياء، والجند الأشداء على أعدائهم الرحماء فيما بينهم، وأن من شأن المؤمنين حقا أنهم مباشرتهم للأسباب وإحكامهم لكل ما يحتاج إليه القتال، وإحسانكم لكل وسيلة تعينهم على النصر مع كل ذلك لا يغترون ولا يتطاولون بل يعتمدون على الله تعالى اعتمادا تاما، ويتجهون إليه بالضراعة والدعاء ويلتمسون منه النصر على أعدائه وأعدائهم انظر إلى الصفوة المؤمنة من جند طالوت ماذا قالت عندما برزت لجالوت وجنوده لقد قالت كما حكى القرآن عنها :﴿ ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا على القوم الكافرين*فهزموهم بإذن الله... ﴾
٦- أن من سنن الله في خلقه أنه سبحانه جعل الحياة صراعا دائما بين الحق والباطل، ونزاعا موصولا بين الأخيار والأشرار ولولا أن الله يدفع بعض الناس الفاسقين ببعض الناس الصالحين لفسدت الأرض، لأن الفاسقين لو تركوا من غير أن يدافعوا ويقاوموا لنشروا فسوقهم وفجورهم وطغيانهم في الأرض ولكنه سبحانه أعطى لعباده الصالحين من القوة والثبات ما جعلهم يقاومون الظالمين ويعملون على نشر الخير والصلاح بين الناس.
٧- أن القصة الكريمة تصور لنا ما جبل عليه بنو إسرائيل من نقض العهد وكذب في القول : فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم. ومن تطاول على أنبيائهم وعصيان لأوامرهم واعتراض على توجيهاتهم وتفضيل للجاه والمال على العقل والعلم :﴿ قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ﴾. ومن خور الابتلاء والاختبار، وحماس في ساعة السلم ونكوص في ساعة الجد، تأمل قوله تعالى :
﴿ فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ﴾.
﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ﴾
المفردات :
تلك : يشار بها إلى المؤنث ويعامل جمع الذكور معاملة المؤنث بتأويله بالجماعة لهذا أنّت اسم الإشارة هنا أي تلك جماعة الرسل.
من كلم الله : أن كلمه بلا واسطة ومن غير سفير وهو موسى عليه السلام.
البينات : الحجج والأدلة.
بروح القدس : أي بالروح القدس أي المطهر، وهو جبريل عليه السلام.
الانبياء والرسل
النبوة من النبإ بمعنى الخبر ومعناه وصول خبر من الله بطريق الوحي إلى من اختاره من عباده لتلقى ذلك فالكلمة إذا تفسير للعلاقة التي بين النبي والخالق جل جلاله وهي علاقة الوحي والأنباء.
و الرسالة تعني تكليف الله أحد عباده بإبلاغ الآخرين بشرع أو حكم معين فالكلمة إذا تفسير للعلاقة التي بين النبي وسائر الناس وهي علاقة البعث والإرسال.
فإذا لاحظت في النبي الحالة التي بينه وبين الله عز جل فهي النبوة وإذا لاحظت حالته التي بينه وبين الناس فهي الرسالة.
والنبي من أوحي الله إليه بأمر ولم يكلفه بالتبليغ. والرسول من أوحى الله إليه بشرع وكلفه بالتبليغ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول.
الوحي :
الوحي لغة هو الإعلام في خفاء.
و شرعا إعلام الله تعالى من اصطفاه من عباده كل ما أراد اطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم ولكن بطريقة خفية غير معتادة للبشر.
صور الوحي :
أشار القرآن في آية واحدة إلى صور ثلاث من صور الوحي حيث قال تعالى ﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ﴾ ( الشورى ٥١ ).
وقد ورد في صحيح البخاري وصف الوحي، وبدء الوحي وكيفية الوحي.
روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل ر سول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد علي فيفصم عني وقد وعيت منه ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ".
قالت عائشة لقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ( ١ )
الأنبياء الذين بعثهم الله عز وجل :
أول نبي أرسله تعالى مؤيدا بالوحي والأحكام هو آدم ابو البشر وآخر الانبياء هو محمد صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الله تعالى في كتابه أسماء خمسة وعشرين نبيا مرسلا وهم آدم إدريس نوح هود صالح إبراهيم لوط إسماعيل إسحق يعقوب يوسف شعيب أيوب ذو الكفل موسى هارون سليمان داود إلياس اليسع يونس زكريا يحيى عيسى محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام.
و هناك أنبياء آخرون لم يتعرض القرآن لذكرهم ولكن اخبرنا عنهم في الجملة قال تعالى ﴿ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم تقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ﴾ ( النساء ١٦٤. ).
فيجب الإيمان ان الله أرسل رسلا وأنبياء كثيرين إلى كل امة وجماعة وفي مختلف الأمكنة والعصور
قال تعالى ﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ﴾ ( فاطر ٦٤. ).
و على هذا فلابد ان يكون عدد الانبياء على مر العصور قد تجاوز الآلاف وقد حدد بعض العلماء عددهم ب ١٢٤ ألفا ولكنا لا نرى دليلا يحملنا على التزام تحديدهم بهذا العدد.
قال النسفي : " و تحديد عددهم لا يؤمن معه أن يدخل فيهم من ليس منهم او يخرج منهم من هو فيهم( ٢ ).
( وأفضل الانبياء هو محمد صلى الله عليه وسلم وقد فضل الله تعالى أولى العزم من الرسل وهم خمسة إبراهيم ونوح وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وينبغي أن نعلم أن النبوة التي أكرم الله بها الانبياء حقيقة واحدة لا تتفاوت ولا تختلف ما بين نبي وآخر قال تعالى :﴿ لا نفرق بين أحد من رسله ﴾ ( البقرة ٢٨٥ ).
و قال صلى الله عليه وسلم " لا تخيروني على موسى ولا تفضلوني على الانبياء " ( ٣ ).
قال ابن كثير في التفسير :
ورد في حديث الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الانبياء في السموات بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل وقد قال تعالى :﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ﴾.
( فإن قيل ) فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين :
" لا تفضلوني على الانبياء ".
فالجواب من وجوه :
( أحدهما ) أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر.
( الثاني ) أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع.
( الثالث ) أن هذا نهي عن التفضيل عند التخاصم والتشاجر( ٤ ).
( الرابع ) لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية.
( الخامس ) ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به.
صفات الانبياء :
جملة ما يجب للأنبياء أربع صفات :
١- الذكورة، فلا تكون النبوة والرسالة لأثنى والوحي إلى أم موسى معناه الإلهام والامر المتجه إلى مريم قد يكون نداء من ملك مثل جبريل حين قال :
﴿ فناداها من تحتها ألا تحزني.. ﴾ ( مريم ٢٤. ) وهذا بمجرده لا يعني النبوة ولا يستلزمها.
٢- الأمانة ونعني بها الصدق وعصمتهم من الكذب وحفظ الله ظواهرهم وبواطنهم عن التلبس بأمر منهي عنه.
٣- العصمة عن الوقوع في الذنوب :
فالأنبياء معصومون عن الكفر والكبائر قبل البعثة وبعدها ومعصومون عن الصغائر فيما ذهب إليه الجمهور.
٤- كمال العقل والضبط والعدالة.
إذ هي من مستلزمات أداء الرسالة.
و الرسل بعد توافر هذه الشروط فيهم ليسوا من وراء ذلك إلا بشرا كسائر الناس يأكلون ويشربون وينكحون ويمشون في الأسواق وتتعرض قلوبهم لكل ما يتعرض له قلب الإنسان من مشاعر الحب والكراهية والبغض والرحمة ما دام أن شيئا من ذلك لا يستوجب إثما أو يستلزم شيئا من خلاف الصفات الأربع التي ذكرناها وتتعرض أجسامهم للأسقام والأوجاع ثم تنتهي إلى الموت شأن البشر جميعا قال تعالى :
﴿ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ﴾ ( الفرقان٢٠. ).
عود إلى تفسير الآية :
٢٥٣- ﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض... ﴾.
هؤلاء الرسل الكرام الذين بعثهم الله تعالى إلى الناس برسالاته وهداه في مختلف البقاع والأزمان.
فضل الله تعالى بعضهم على بعض في المكانة والمعجزات وإن كانوا جميعا قد تآخوا في شرف النبوة والرسالة.
منهم من كلم الله، بيّن الله بعض مظاهر التفضيل.
فمن الأنبياء من فضله الله بتكليمه مباشرة ودون وسيط مثل موسى عليه السلام قال تعالى :﴿ قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ﴾ ( الأعراف ١٤٤ )
و تشير كتب السنة إلى أن الله كلم محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ﴿ و رفع بعضهم درجات ﴾ فمنهم أولوا العزم ومنهم خليل الله ومنهم كليمه إلى غير ذلك مما يمتاز به بعض الرسل على بعض.
و علينا ان نكف عن الموازنة بينهم تكريما لهم أن يكونوا مجالا للمناقشة والجدال والتعصب الجنسي أو الديني وان نؤمن بجميع أنبياء الله ورسله وكتبه قال تعالى :
﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ﴾ ( البقرة ٢٨٥. ).
والإجماع منعقد على أن أفضل الرسل جميعا محمد صلى الله عليه وسلم وان رسالته عامة للبشرية جميعا ممتدة من عصره إلى آخر الزمان.
اما كل منهم فرسالته محصورة في قوم وتنتهي رسالته ببعثة خلفه جاء في تفسير الكشاف للزمخشري :
و قوله :﴿ ورفع بعضهم درجات ﴾ أي ومنهم من رفعه الله على سائر الأنبياء فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم درجات كثيرة.
و الظاهر أنه أراد محمدا صلى الله عليه سلم لأنه هو المفضل عليهم حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما أوتي الأنبياء لانه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه والمتميز الذي لا يلتبس( ٥ ).
وروى وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع " ( ٦ ).
﴿ و آتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ﴾ أعطينا عيسى ابن مريم الآيات الباهرات والمعجزات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وإخبار قومه بما يأكلونه ويدخرونه في بيوتهم وفضلا عن هذا فقد قويناه بجبريل عليه السلام.
- وجاء في ضلال القرآن :
" والحكمة في ذكر عيسى ابن مريم واضحة فقد نزل القرآن وهناك حشد من الأساطير الشائعة حول عيسى عليه السلام -وبنوته لله- سبحانه وتعالى- أو عن ازدواج طبيعته من اللاهوت والناسوت او عن تفرده بطبيعة إلهية ذابت فيها الطبيعة الناسوتية كالقطرة في الكأس إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي غرقت الكنائس والمجامع في الجدل حولها وجرت الدماء أنهارا في الدول الرومانية ومن ثم كان هذا التوكيد الدائم على بشرية عيسى -عليه السلام- وذكره في معظم المواضع منسوبا إلى أمه مريم أما روح القدس فالقرآن يعني به جبريل عليه السلام فهو حامل الوحي من الرسل وهذا أعظم تأييد وأكبره وهو الذي ينقل الإشارة الإلهية إلى الرسل بالسكينة والتثبيت والنصر في مواقع الهول والشدة في ثنايا الطريق.. وهذا كله التأييد " ( ٧ ).
﴿ ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا ﴾.
- يقول الشيخ محمد عبده :
لو شاء الله تعالى أن تكون سنته في الإنسان أن يعذر المختلفون من أفراده بعضهم بعضا ويوطن كل فريق نفسه على أن ينتصر لرأيه بالحجة ويسعى إلى مصلحته بالفطنة لما اقتتلوا على ما يختلفون فيه ولكنه جعلهم درجات في الفهم والحزم وأودع في غرائزهم المدافعة عن حقيقتهم والنضال دون مصلحتهم بكل ما قدروا عليه من قول وعمل فالقوي بالرأي يحارب بالرأي والقوي بالسيف يحارب بالسيف فكان الاختلاف في الرأي والمصالح معا مع عدم العذر مؤديا إلى الاقتتال لا محالة.
هكذا خلق الإنسان، فلا يقال لم خلقه هكذا ؟ لأن هذا بحث عن أسرار الخلقة ككبر أذني الحصان وصغر أذنى الجمل ولذلك قال :﴿ و لكن الله يفعل ما يريد ﴾ أي أن اختصاص الناس بهذه المزايا هو أثر إرادته وتخصيصها فلا مرد له( ٨ ).
- اقتتال المسلمين :
قدم تفسير المنار بحثا مستفيضا عن اقتتال المسلمين وآثاره المدمرة نختصره فيما يأتي :
نهى القرآن عن الاختلاف والتفرق في الدين قال تعالى :
﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا لا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ﴾ ( آل عمران ٣-٥. ).
وقال تعالى :﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾ ( الأنعام ١٥٩ ).
و إذا وقع التنازع في اختلاف وجب رده على الله ورسوله وتحكيم الكتاب والسنة فيه ولا يجوز أن يتمادى المسلمون على التفرق والاختلاف بحال قال تعالى :
{ يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله ال
﴿ يا أيها الذين آمنوا انفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا يبيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون ﴾
المفردات :
الخلة : الصداقة والمودة مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين وسميت بذلك لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها أي لشدة الحاجة إليها ومنه سمي الخليل لاحتياج الإنسان إليه.
و الشفاعة : مأخوذة من الشفع بمعنى الضم وتطلق على انضمام شخص إلى آخر لنفعه او نصرته وأكثر ما تستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى ما هو دونه.
و المعنى :
عليكم -أيها المؤمنون- أن تنفقوا في وجوه الخير كإعانة المجاهدين ومساعدة الفقراء والبائسين من أموالكم التي رزقكم الله إياها بفضله وكرمه من قبل أن يأتي يوم القيامة الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة حتى تقدموا عن طريقها ما تفتدون به أنفسكم ولا يكون فيه صديق يدفع عنكم ولا شفيع يشفع لكم من سيئاتكم إلا أن يأذن رب العالمين بالشفاعة تفضلا منه وكرما.
فالآية الكريمة تحض المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله لأنه أهم عناصر القوة في الأمة، وأفضل وسيلة لإقامة المجتمع الصالح المتكامل.
والمراد بالإنفاق هنا ما يشمل الفرض والنفل والأمر به لمطلق الطلب إلا أن هذا الطلب قد يصل إلى درجة الوجوب إذا نزلت بالأمة شدة لم تكف الزكاة عن دفعها.
و قوله :﴿ مما رزقناكم ﴾ إشعار بأن هذا المال الذي بين أيدي الأغنياء ما هو إلا رزق رزقهم الله إياه ونعمة انعم بها عليهم فمن الواجب شكرها بألا يبخلوا بجزء منه على الإنفاق في وجوه الخير لأن هذا البخل سيعود عليهم بما يضرهم.
و في قوله :﴿ من قبل أن يأتي يوم.. ﴾ إلخ حث آخر على التعجيل بالإنفاق لأنه تذكير للناس بهذا الوقت الذي تنتهي فيه الأعمال ولا يمكن فيه استدراك ما فاتهم ولا تعويض ما فقدوه من طاعات فكأنه سبحانه يقول لهم نجوا أنفسكم بالمسارعة إلى الإنفاق من قبل أن يأتي يوم لا مناجاة فيه إلا بالعمل الصالح الذي قدمتموه.
و " من " في قوله ﴿ مما رزقناكم ﴾ للتبعيض وفي قوله ﴿ من قبل ﴾ لابتداء الغاية ومفعول أنفقوا محذوف والتقدير أنفقوا شيئا مما رزقناكم.
و الشفاعة المنفية هنا هي التي لا يقبلها الله تعالى وهي التي لا يأذن بها أما شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فقد أذن الله له بها وقبلها منه وقد وردت أحاديث صحيحة بلغت مبلغ التواتر المعنوي في ان النبي صلى الله عليه وسلم ستكون له شفاعة في دفع العذاب عن الأقوام من المؤمنين وتخفيفه عن اهل الكبائر من المسلمين ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله قال :( أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة )( ١١ ).
ثم ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله :﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ أي الكافرون الجاحدون لنعمه هم الظالمون لأنفسهم لأنهم حالوا بينها وبين الهداية بإيثارهم العاجلة على الآجلة، الغي على الرشد، والشر على الخير والبخل على السخاء.
أما المؤمنون فليسوا كذلك لأنهم سلكوا الطريق المستقيم وبذلوا كثيرا من الأموال في سبيل إعلاء كلمة الله وفي إعانة المحتاجين.
و بذلك نرى ان الآية الكريمة قد حضت المؤمنين على المسارعة في إنفاق أموالهم في وجوه الخير من قبل ان يأتي يوم لا ينفع فيه ما كان نافعا في الدنيا من أقوال وأعمال وأنها قد توعدت من يبخل عن الإنفاق في سبيل الله بسوء العاقبة لأنه تشبه بالكافرين في بخلهم وإمساكهم عن بذل أموالهم في وجوه الخير.
وبعد ان أمر الله المؤمنين بالإنفاق في وجوه الخير وذكرهم بأهوال يوم القيامة أتبع ذلك بآية كريمة اشتملت على تمجيده سبحانه وتعالى فبينت كمال سلطانه وشمول علمه وسابغ نعمه على خلقه استمع إلى القرآن الكريم وهو يصف لك الخالق عز وجل بأكمل الصفات وأعظمها فيقول :
﴿ الله لا إله إلا الله هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظها وهو العلي العظيم ﴾
قال بعضهم هذه آية الكرسي أفضل آية ومعنى الفضل أن الثواب على قراءتاها أكثر منه على غيرها من الآيات هذا هو التحقيق في فضل بعض الآيات القرآنية على بعض وإنما كانت أفضل أنها جمعت من أحكام الألوهية وصفات الإله الثبوتية والسلبية ما لم تجمعه آية أخرى، جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة وفيها آية هي سيدة القرآن -أي أفضله- وهي آية الكرسي " ( ١٢ ).
و قد اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر جمل فيها ما فيها من صفات الله الجليلة أما الجملة الأولى والثانية فتتمثل في قوله تعالى :
٢٥٥- الله لا إله إلا هو الحي القيوم.
و لفظ الجلالة الله يقول العلماء إن أصله إله دخلت عليه أداة التعريف " أل " وحذفت الهمزة فصارت الكلمة الله.
قال القرطبي : قوله تعالى هذا الاسم أكبر أسمائه تعالى وأجمعها حتى قال بعضهم إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره ولذلك لم يثن ولم يجمع فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الألوهية المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقي لا إله إلا هو- سبحانه- ( ١٣ ).
و لفظ إِلَه قالوا إنه من أله نفسه يأله أي عبد فالإله على هذا المعنى هو المعبود وقيل هو من أله أي تحير.. وذلك أن العبد إذا تفكر في صفاته سبحانه تحير فيها ولذا قيل : تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله ( ١٤ ).
و الحي أي الباقي الذي له الحياة الدائمة التي لا فناء لها لم تحدث له الحياة بعد موت ولا يعتريه الموت بعد الحياة وسائر الأحياء سواء يعتريهم الموت والفناء.
و القيوم أي الدائم القيام بتدبير أمر الخلق وحفظهم والمعطي لهم ما به قوامهم وهو مبالغة في القيام " وأصله قيوم بوزن فيعول من قام بالأمر إذا حفظه ودبره ".
و المعنى : الله عز وجل هو الإله الحق المنفرد بالألوهية الذي لا يشاركه فيها سواه وهو المعبود بحق وكل معبود سواه باطل وهو ذو الحياة الكاملة وهو الدائم القيام بتدبير شؤون الخلق وحياطتهم ورعايتهم وإحيائهم وإماتتهم.
و الجملة الثالثة قوله تعالى :﴿ لا تأخذه سنة ولا نوم ﴾ وهي جملة سلبية مؤكدة للوصف الإيجابي السابق فإن قيامه على كل نفس بما كسبت وعلى تدبير شؤون خلقه يقضي ألا تتعرض له غفلة ولأن السنة والنوم من صفات الحوادث وهو سبحانه مخالف لها.
و السنة : الفتور الذي يكون في أول النوم مع بقاء الشعور والإدراك ويقال له غفوة يقال وسن الرجل يوسن وسنا وسنة فهو وسن ووسنان إذا نعس والمراد أنه سبحانه لا يغفل عن تدبير أمر خلقه أبدا ولا يحجب عمله شيء حجبا قصيرا أو طويلا ولا يدركه ما يدر ك الأجسام من الفتور أو النعاس أو النوم.
و تقديم السنة على النوم يفيد المبالغة من حيث نفي السنة يدل على نفي النوم بالأولى فنفيه ثانيا صريحا يفيد المبالغة لأن عطف الخاص على العام يفيد التوكيد أي لا تأخذه سنة فضلا عن ان يأخذه نوم.
و في قوله :﴿ لا تأخذه ﴾ دلالة على أن للنوم قوة قاهرة تأخذ الحيوان أخذا وتقهر الكثير من أجناس المخلوقات قهرا ولكنه سبحانه وهو القاهر فوق عباده منزه عن ذلك ومبرأ من ان يعتريه ما يعتري الحوادث.
و قوله سبحانه في الجملة الرابعة :﴿ له ما في السموات وما في الأرض ﴾ تقرير لانفراده بالالوهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته وتعليل لاتصافه بالقيومية لأن من كانت جميع الموجودات ملكا له فهو حقيق بأن يكون قائما بتدبير أمرها.
والمراد بها فيهما ما هو اعم من جزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم فالجملة الكريمة تفيد الملكية المطلقة لرب العالمين لكل ما في الوجود من شمس وقمر وحيوان وجماد وغير ذلك من المخلوقات وصدرت الجملة بالجار والمجرور " له " لإفادة القصر أي ملك السموات والأرض له وحده وليس لأحد سواه شيء معه.
و الاستفهام في قوله في الجملة الخامسة :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ للنفي والإنكار أي لا أحد يستطيع أن يشفع عنده سبحانه إلا بإذنه ورضاه قال تعالى :﴿ و كم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ﴾ ( النجم ٢٦ ).
و المقصود من هذه الجملة كما يقول الألوسي - بيان كبرياء شأنه- تعالى - وانه لا احد يساويه أو يدانيه بحيث يستقل أن يدفع ما يريده دفعا على وجه الشفاعة والاستكانة والخضوع فضلا عن أن يستقل بدفعه عنادا أو مناصبة وعداوة وفي ذلك تيئيس للكفار حيث زعموا أن آلهتهم شفعاء لهم عند الله " ( ١٥ ).
و قوله سبحانه في الجملة السادسة ﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ﴾ تأكيد لكمال سلطانه في هذا الوجود وبيان لشمول عمله على كل شيء.
و الضمير في أيديهم، خلفهم يعود إلى ما في قوله قبل ذلك :﴿ له ما في السموات وما في الأرض ﴾ وعبر بضمير الذكور العقلاء تغليبا جانبهم على جانب غير العقلاء.
والعلم بما بين أيديهم وما خلفهم كناية عن إحاطة علمه سبحانه بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم وما يعرفونه من شؤونهم الدنيوية وما لا يعرفونه.
و قوله تعالى في الجملة السابعة :﴿ و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ﴾ معطوف على قوله :﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ﴾ لأنه مكمل لمعناه، والمراد بالعلم المعلوم والإحاطة بالشيء معناها العلم الكامل به.
أي : لا يعلمون شيئا من معلوماته سبحانه إلا بالقدر الذي أراد أن يعلمهم إياه على ألسنة رسله فهو كقوله تعالى :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول.. ﴾ ( الجن ٢٦-٢٧ ).
فالجملة الكريمة بيان لكمال علم الله تعالى ولنقصان علم سواه إذ إن البشر لم يعطوا من العلم إلا القليل وهذا القليل ناقص لأنه ليس على إحاطة واستغراق لكل ما تشتمل عليه جزئيات الشيء ووجوده وجنسه وكيفيته وغرضه المقصود به وبإيجاده، إذ العلم الكامل بالشيء لا يكون إلا لله رب العالمين.
ثم قال تعالى في الجملة الثامنة :﴿ وسع كرسيه السموات والأرض ﴾.
قال الراغب : الكرسي في تعارف العامة اسم للشيء الذي يقعد عليه وهو في الأصل منسوب إلى الكرس أي الشيء المجتمع ومنه الكراسة لأنها تجمع العلم.. وكل مجتمع من الشيء كرس.. " ( ١٦ ).
و للعلماء اتجاهان مشهوران في تفسير معنى الكرسي في الجملة الكريمة.
فالسلف يقولون : إن الله تعالى كرسيا، علينا أن نؤمن بوجوده وإن كنا لا نعرف حقيقته لأن ذلك ليس في مقدور البشر.
و الخلف يقولون الكرسي في الآية كناية عن عظم السلطان ونفوذ القدرة وسعة العلم وكمال الإحاطة.
ولصاحب الكشاف تلخيص حسن لأقوال العلماء في ذلك فقد قال رحمه الله وفي قوله :﴿ وسع كرسيه ﴾ أربعة أوجه : أحدهما ان كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته وما هو إلا تصوير لعظمته ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد...
و الثاني وسع علمه وسمي العلم كرسيا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم.
و الثالث : وسع ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك.
و الرابع : ما روى أنه خلق كرسيا هو بين يدي العرش دونه السماوات والأرض وهو إلى العرش كأصغر شيء وعن الحسن الكرسي هو العرش ( ١٧ ).
هذا وقد ورى المفسرون عن ابن عباس أنه قال " كرسيه علمه " ( ١٨ ) ولعل تفسير الكرسي بالعلم كما قال حبر الامة هو أقرب الأقوال إلى الصواب لأنه هو المناسب لسياق الآية الكريمة.
ثم ختم سبحانه الآية الكريمة بالصفتين التاسعة والعاشرة فقال تعالى :﴿ و لا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ﴾ يئوده معناه يثقله ويشق عليه يقال أدنى الأمر بمعنى أثقلني وتحملت منه المشقة.
العلي : هو المتعالي عن الأشباه والأنداد والأمثال والأضداد وعن إمارات النقص ودلالات الحدوث. وقيل هو من العلو الذي هو بمعنى القدرة وعلو الشأن...
و المعنى ولا يثقله ولا يتبعه حفظ السموات والأرض ورعايتها وهو المتعالي عن الأشباه والنظائر المسيطر على خلقه العظيم في ذاته وصفاته ففي هاتين الجملتين بيان لعظيم قدرته وعظيم رعايته لخلقه وتنزيهه سبحانه عن مشابه الحوادث.
و بعد فهذه آية الكرسي التي اشتملت على عشر جمل كل جملة منها تشتمل على وصف أو أثر من صفات الله الجليلة ونعوته المجيدة وألوهيته الحقة وقدرته النافذة وعمله المحيط بكل شيء قد أقامت الأدلة الساطعة على وحدانية الله تعالى ووجوب إفراده بالعبادة.
و قد تكلم العلماء طويلا عن تناسق جملها وبلاغة تركيبها ووجوه فضلها ومن ذلك قول صاحب الكشاف : " فإن قلت : لم فضلت هذه الآية على غيرها حتى ورد في فضلها ما ورد ؟ قلت : لما فضلت له سورة الإخلاص من اشتمالهما على توحيد الله وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ولا مذكور أعظم من رب العالمين فما كان ذكرا له كان أفضل من سائر الأذكار ".
و من الأحاديث التي ساقها الإمام ابن كثير في فضلها ما جاء عن أبي بن كعب ان النبي صلى الله عليه وسلم سأله أي أية في كتاب الله أعظم ؟ قال الله ورسوله أعلم فرددها مرارا ثم قال آية الكرسي فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم – " ليهنك العلم أبا المنذر " ( ١٩ ).
و أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن أعظم آية في القرآن هي آية الكرسي " ( ٢٠ ).
و روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج ذات يوم على الناس فقال أيكم يخبرني بأعظم آية ؟ فقال ابن مسعود على الخبير سقطت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : " أعظم آية في القرآن : الله لا إله إلا هو الحي القيوم.. الآية " ( ٢١ ).
و بعد أن ساق سبحانه في آية الكرسي الأدلة الواضحة على وحدانيته وعظمته وتنزيهه عن صفات الحوادث عقب ذلك ببيان أن الدين الحق قد ظهر وتجلى لكل ذي عقل سليم وأنه لا يقسر أحد على الدخول فيه فقال تعالى :
﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ﴾
المفردات :
الإكراه : حمل الغير على قول أو فعل لا يريده عن طريق التخويف أو التعذيب أو ما يشبه ذلك والمراد بالدين دين الإسلام والألف واللام فيه للعهد.
و الرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه، مصدر رشد ويرشد أي اهتدى والمراد هنا الحق والهدى.
و الغي : ضد الرشد والمراد به مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأى.
و يرى بعض العلماء أن نفي الإكراه هنا في معنى النهي أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح في دلائله وبراهينه فمن هداه الله له ونور بصيرته دخل فيه على بصيرة ومن أضله وأعمى قلبه لا يفيده الإكراه على الدخول فيه.
و قال بعض العلماء إن الجملة هنا على حالها من الخبرية والمعنى ليس في الدين الذي هو تصديق بالقلب وإذعان في النفس إكراه وإجبار من الله تعالى لأحد لأن مبني هذا الدين على التمكين والاختيار وهو مناط الثواب والعقاب ولولا ذلك لما حصل الابتلاء والاختبار ولبطل الامتحان.
أو المعنى كما يرى بعضهم أن من الواجب على العاقل بعد ظهور الآيات البينات على أن الإيمان بدين الإسلام حق ورشد وعلى أن الكفر به غي وضلال أن يدخل عن طواعية واختيار في دين الإسلام الذي ارتضاه الله وألا يكره على ذلك بل يختاره بدون قسر أو تردد.
فالجملة الأولى وهي قوله تعالى :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ تنفي الإجبار على الدخول في الدين لان هذا الإجبار لا فائدة من ورائه إذ التدين إذعان قلبي واتجاه بالنفس والجوارح إلى الله رب العالمين بإرادة حرة مختارة فإذا أكره عليه الإنسان ازداد كرها له ونفورا منه فالإكراه والتدين نقيضان لا يجتمعان ولا يمكن أن يكون أحدهما ثمرة للآخر.
و الجملة الثانية وهي قوله تعالى :﴿ قد تبين الرشد من الغي ﴾ بمثابة العلة لنفي هذا الإكراه على الدخول في الدين أي قد ظهر الصبح لدى عينين وانكشف الحق من الباطل والهدى من الضلال وقامت الأدلة الساطعة على دين الإسلام هو الدين الحق وغيره من الأديان ضلال وكفران وما دام الامر كذلك فقد توافرت الأسباب التي تدعو إلى الدخول في دين الإسلام ومن كفر بعد ذلك فليحتمل نتيجة كفره وسوء عاقبة أمره.
ثم قال تعالى :﴿ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعورة الوثقى لا انفصام لها ﴾ الطاغوت : اسم لكل ما يطغى الإنسان كالأصنام والأوثان والشيطان وكل رأس في الضلال وكل ما عبد من دون الله.. وهو مأخوذ من طغى يطغي.. كسعي طغيا وطغيانا أو من يطغو طغوا وطغيانا إذا تجاوز الحد وغلا في الكفر وأسرف في المعاصي والفجور.
و العروة : في أصل معناها تطلق على ما يتعلق بالشيء من عراه أي من الجهة التي يجب تعليقه منها وتجمع على عرا والعروة من الدلو والكوز مقبضة ومن الثوب مدخل زره.
و الوثقى : مؤنث الأوثق وهو الشيء المحكم الموثق يقال وثق بالضم وثاقة أي قوى وثبت فهو وثيق أي ثابت محكم.
و الانفصام : الانكسار والفصم كسر الشيء وقطعه.
و المعنى : فمن خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة غير الله وآمن بالله- إيمانا خالصا صادقا فقد ثبت أمره واستقام على الطريقة المثلى التي لا انقطاع لها وأمسك من الدين بأقوى سبب واحكم رباط.
و الفاء في قوله :﴿ فمن يكفر... ﴾ للتفريع والسين والتاء في استمسك للتأكيد والطلب و قوله : فقد استمسك بالعورة الوثقى فيه.. كما يقول الزمخشري تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصور السامع كأنما ينظر إليه بعينيه فيحكم اعتقاده والتيقن به وجملة :﴿ لا انفصام لها ﴾ استئناف مقرر لما قبله أو حال من " العروة " والعامل " استمسك ".
ثم ختم سبحانه الآية بقوله :﴿ و الله سميع عليم ﴾. أي سميع الأقوال وهمسات القلوب وخلجات النفوس عليم بما يسره الناس وما يعلنونه وسيجازيهم بما يستحقون من ثواب أو عقاب.
قال القرطبي ما ملخصه : قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين.. ﴾ لان النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض إلا الإسلام، وقيل إنها ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية...
و الحجة لهذا القول ما رواه زيد بن اسلم عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية أسلمي أيتها العجوز تسلمي إن الله بعث محمدا بالحق، قالت : أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب. فقال عمر : اللهم اشهد وتلا ﴿ لا إكراه في الدين ﴾( ٢٢ ).
و الذي تسكن إليه النفس أن هذا الآية محكمة غير منسوخة لأن التدين لا يكون مع الإكراه كما أشرنا من قبل.. ولأن الجهاد ما شرع في الإسلام لإجبار الناس على الدخول في الإسلام إذ لا إسلام مع إجبار وإنما شرع الجهاد لدفع الظلم ورد العدوان وإعلاء كلمة الله والرسول صلى الله عليه وسلم ما قاتل العرب ليكرههم على الدخول في الإسلام وإنما قاتلهم لأنهم بدأوا بالعداوة.
و لان الروايات في سبب نزول هذه الآية تؤيد أنه لا إكراه في الدين ومن هذه الروايات ما جاء عن أبي عباس انه قال نزلت في رجل الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلما فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله هذه الآية ( ٢٣ ).
و في رواية أخرى انه حاول إكراههما على الدخول في الإسلام فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا انظر إليه فنزلت الآية. ولأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن التوفيق بين الآيتين وهنا يمكن القول بأن الآية التي معنا تنفي إكراه الناس على اعتقاد ما لا يريدون وآية :﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين.. ﴾ ( التحريم ٩ ). جاءت لحض النبي صلى الله عليه وسلم وحض أصحابه على قتال الكفار الذين وقفوا في طريق دعوته حتى يكفوا عن عدوانهم وتكون كلمة الله هي العليا.
ثم بين سبحانه حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة الكافرين فقال تعالى :
﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك اصحاب النار هم فيها خالدون ﴾
التفسير :
المولى : الناصر والمعين والحليف مأخوذ من الولاية بمعنى النصرة.
و المعنى الله الذي بيده ملكوت كل شيء الله ولي الذين آمنوا أي معينهم وناصرهم ومتولي أمورهم فهو سبحانه الذي يخرجهم من ظلمات الكفر ومن ضلالات الشرك والفسوق والعصيان إلى نور الحق والهداية والتحرر من الأوهام أما الذين كفروا فأوليائهم ونصراؤهم الطاغوت وهؤلاء يخرجهم بسبب انطماس بصيرتهم وانتكاسهم في المعاصي من نور الإيمان والهداية إلى ظلمات الكفر والضلالة أولئك الموصوفون بتلك الصفات القبيحة أصحاب النار هم فيها خالدون خلودا مؤبدا.
و أفرد سبحانه النور وجمع الظلمات لان الحق واحد أما الظلمات فقد تعددت فنونها وألوانها وأسبابها وفي تقديم الذين كفروا في قوله :
﴿ و الذين كفروا أوليائهم الطاغوت ﴾ إشارة إلى انهم هم الذين ارتضوا أن يكون الطغيان مسيطرا على قلوبهم لأن كفرهم بالله تعالى هو الذي جعل الشيطان ينفذ إلى أقطار نفوسهم بسهولة ويسر.
و قوله :﴿ الذين كفروا ﴾ مبتدأ و﴿ أوليائهم ﴾ مبتدأ ثان و﴿ الطاغوت ﴾ خبره والجملة خبر المبتدأ الأول.
و لم يقل سبحانه والطاغوت ولي الذين كفروا للاحتراز عن وضع اسم الطاغوت في مقابل لفظ الجلالة.
فإن قيل وهل كان الكافرون في نور ثم أخرجوا منه ؟ فالجواب ان المراد بخروجهم خروجهم من النور الفطري الذي جبل عليه الناس كافة أو من نور الحجج الواضحات التي من شأنها أن تحمل كل عاقل على الدخول في الإسلام وقيل المراد بهؤلاء المخرجين من النور إلى الظلمات أولئك تعود الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته ثم كفروا به بعدها والإشارة في قوله أولئك إلى الذين كفروا وفي التعبير " أصحاب النار " إشعار بأنهم ملازمون لها كما يلازم المالك ما يملكه والرفيق رفيقه وقوله :
﴿ هم فيها خالون ﴾ تأكيد لبقائهم فيها واختصاصهم بها.
و بذلك تكون الآية الكريمة قد ساقت أحسن البشارات للمؤمنين وأشد العقوبات للكافرين الذين استحبوا العمي على الهدى.
ثم ساق القرآن بعد ذلك الأمثلة للمؤمنين المهتدين وللضالين والمغرورين فقال تعالى :
﴿ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آته الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾
" حاج " أي جادل وخاصم والمجادلة المخاصمة والمغالبة بالقول حاججته فحججته أي خاصمته بالقول عليه وتستعمل المحاجة كثيرا في المخاصمة بالباطل ومن ذلك قال تعالى :﴿ فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ﴾ وقوله تعالى :﴿ و حاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان.. ﴾ ( الأنعام : ٨٠ ).
و المعنى لقد علمت أيها العاقل قصة ذلك الكافر المغرور الذي جادل إبراهيم عليه السلام في شان خالقه عز وجل ومن لم يعلم قصته فما نحن أولاء نخبره بها عن طريق هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
و الاستفهام للتعجيب من شأن هذا الكافر وما صار إليه أمر غروره وبطره.
و المراد به كما قال ابن كثير نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ملك بابل وكان معاصرا لسيدنا إبراهيم عليه السلام.
و أطلق القرآن على ما دار بين هذا المغرور وبين سيدنا إبراهيم أنها محاجة مع أنها مجادلة بالباطل مع هذا الملك أطلق ذلك من باب المماثلة اللفظية أو هي محاجة في نظره السقيم ورأيه الباطل.
والضمير في قوله :﴿ في ربه ﴾ يعود إلى إبراهيم عليه السلام وقيل يعود إلى نمروذ لأنه هو المتحدث عنه فالضمير يعود إليه والإضافة - على الرأي الأول - للتشريف وللإيذان من أول الأمر بان الله تعالى مؤيد وناصر لعبده إبراهيم وقوله أن آتاه الله الملك بيان لإقدام هذا الملك على ما أقدم عليه من ضلال وطغيان أي سبب هذه المحاجة لأن أعطاه الله تعالى الملك فبطر وتكبر ولم يشكره – سبحانه- على هذه النعمة بل استعملها في غير ما خلقت له فقوله :﴿ أن آتاه ﴾ مفعول لأجله والكلام على تقدير حذف الجر وهو مطرد الحذف مع أن وأنّ.
و قوله :﴿ إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت ﴾ حكاية لما قاله إبراهيم عليه السلام لذلك الملك في مقام التدليل على وحدانية الله وأنه سبحانه هو المستحق للعبادة أي قال له ربي وحده هو الذي ينشئ الحياة ويوجدها ويميت الأرواح ويفقدها حياتها ولا يوجد أحد سواه يستطيع أن يفعل ذلك.
و قول إبراهيم - كما حكاه القرآن – ﴿ ربي الذي يحيي ويميت ﴾ مفيد للقصر عن طريق تعريف المبتدأ وهو " ربي " والخبر هو الموصل وصلته.
و عبر بالمضارع في قوله :﴿ يحي ويميت ﴾ لإفادة معنى التجدد والحدوث الذي يرى ويحس بين وقت وآخر. أي ربي هو الذي يحيي الناس ويميتهم كما ترى ذلك مشاهدا في كثير من الأوقات فمن واجب عليك تخصه بالعبادة والخضوع وأن تقلع عما أنت فيه من كفر وطغيان وضلال.
و قوله :﴿ إذ قال إبراهيم.. ﴾ ظرف لقوله ﴿ حاج ﴾ او بدل اشتمال منه وفي هذا القول الذي حكاه القرآن عن إبراهيم عليه السلام أوضح حجة وأقواها على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة لأن كل عاقل يدرك أن الحق هو الذي يملك الإحياء والإماتة ويملك بعث الناس يوم القيامة ليحاسبهم على أعمالهم وهو أمر ينكره ذلك الملك الكافر.
قال الإمام الرازي ما مخلصه : والظاهر أن قول إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت جواب لسؤال سابق غير مذكور وذلك لأنه من المعلوم ان الأنبياء بعثوا للدعوة إلى الله ومتى ادعى الرسول الرسالة فإن المنكر يطالبه بإثبات أن للعالم إلها فالظاهر هنا أن إبراهيم ادعى الرسالة فقال له نمروذ من ربك ؟ فقال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت إلا ان تلك المقدمة حذفت لأن الواقعة تدل عليها، ودليل إبراهيم في غاية الصحة لان الخلق عاجزون عن الإحياء والإماتة وقدم ذكر الحياة على الموت هنا لأن من شأن الدليل أن يكون غاية في الوضوح والقوة ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر واطلاع الإنسان عليها أتم فلا جرم وجب تقديم الحياة هاهنا في الذكر " ( ٢٤ ).
ثم حكى القرآن جواب نمروذ على إبراهيم فقال :﴿ قال أنا أحيي وأميت ﴾ أي قال ذلك الطاغية إذا كنت يا إبراهيم تدعي ان ربك وحده الذي يحيي فأنا أعارضك في ذلك لأني أنا أيضا أحيي وأميت وما دام الأمر كذلك فانا مستحق للربوبية قالوا ويقصد بقوله هذا أنه يستطيع أن يعفو عمن يحكم بقتله ويقتل من شاء أن يقتله.
و لقد كان في استطاعة إبراهيم عليه السلام أن يبطل قوله بأن يبين له بأن ما يدعيه ليس من الإحياء والإماتة المقصودين بالاحتياج لأن ما قصده إبراهيم هو إنشاء الحياة وإنشاء الموت كان في استطاعة الخليل عليه السلام أن يفعل ذلك ولكنه آثر ترك فتح باب الجدال والمحاورة وأتاه بحجة في الإفحام فقال له - كما حكى القرآن – ﴿ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب ﴾.
أي قال إبراهيم لخصمه المغرور لقد زعمت أنك تملك الإحياء والإماتة كما يملك الله تعالى ذلك ومن شأن هذا الزعم أن يجعلك مشاركا لله تعالى في قدرته فإن كان زعمك صحيحا فأنت ترى وغيرك يرى أن الله تعالى يأتي بالشمس من جهة المشرق عند شروقها فأت بها أنت من جهة المغرب في هذا الوقت فماذا كانت نتيجة هذه الحجة الدامغة التي قذف إبراهيم عليه السلام بها في وجه خصمه ؟ كانت نتيجتاه كما حكى القرآن :﴿ فبهت الذي كفر ﴾ أي غلب وقهر وتحير وانقطع عن حجامه واضطرب ولم يستطع أن يتكلم لانه فوجئ بما لا يملك دفعه و " بهت " فعل ماض جاء في صورة الفعل المبني للمجهول - كزهي وزكم - والمعنى فيه على البناء للفاعل وقوله :﴿ الذي كفر ﴾ هو فاعله والبهت الانقطاع والحيرة وقرئ بوزن علم ونصر وكرم.
و الفاء في قوله :﴿ فإن الله يأتي بالشمس.. ﴾إلخ فصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر أي إن كنت كما تزعم أنك تحيي وتميت وأن قدرتك كقدرة الله فإن الله تعالى يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب.
و عبر عن هذا المبهوت بقوله : الذي كفر للإشعار بأن سبب حيرته واضطرابه هو كفره وعناده.
ثم ختم سبحانه الآية بقوله :﴿ و الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ أي لا يهديهم إلى طريق الحق ولا يلهمهم حجة ولا برهانا بسبب ظلمهم وطغيانهم وإيثارهم طريق الشيطان على طريق الرحمن.
و بذلك نرى أن الآية الكريمة قد حكت للناس لونا من ألوان رعاية الله لأوليائه وخذلانه لأعدائه لكي يكون في ذلك عبرة وعظة لقوم يعقلون.
ثم ساقت السورة الكريمة قصتان تدلان أبلغ الدلالة على قدرة الله تعالى وعلى صحة البعث والنشور استمع إلى القرآن وهو يحكي هاتين القصتين بأسلوبه البليغ فيقول :
﴿ أو كالذي مر على القرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية لناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموت قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ ربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتيك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم ﴾
قال الألوسي ما مخلصه قوله :﴿ او كالذي مر على قرية ﴾. معطوف على ما سبقه وهو قوله :﴿ ألم تر إلى الذي حاج ﴾ والكاف اسمية بمعنى بمثل معمولة لأريت محذوفا أي أو أرأيت الذي حاج إبراهيم أو الذي مر على قرية.. وقيل إن العطف هنا محمول على المعنى كأنه قيل أرأيت شيئا عجيبا كالذي حاج إبراهيم في ربه أو كالذي مر على قرية.. ".
و الذي مر على قرية هو عزيز بن شريحا وقيل حزقيال بن بوزى وقيل غير ذلك والقرية قيل المراد بها بيت المقدس وكان خربها " بختنصر " البابلي.. والقرآن الكريم لم يهتم بتحديد الأشخاص والأماكن لانه يقصد العبرة وبيان الحال والشأن وجملة ﴿ وهي خاوية على عروشها ﴾ في موضع الحال من الضمير المستتر في " مر " الواو رابطة بين الجملة الحالية وبين صاحبها والإتيان بها واجب لخلو الجملة من ضمير يعود على صاحبها وقيل هي حال من القرية وسوغ إتيان الحال منها مع كونها نكرة وقوعها بعد الاستفهام المقدر وهو أرأيت.. ومعنى وهي خاوية على عروشها أن جدرانها ساقطة أي أن الخراب قد عمها والدمار قد نزل بها أصبحت خاوية من أهلها وفارغة ممن كان يعمرها وأصل الخواء الخلو فيقال خوت الدار وخويت تخوي خلاء إذا سقطت وخلت العروش جمع عرش وهو سقف البيت ويسمى العريش وكل شيء يهيأ ليظل أو يكن فهو عريش وعرش.
و قوله تعالى :﴿ قال أني يحيي هذه الله بعد موتها ﴾ حكاية لما قاله ذلك الذي مر على تلك القرية ورأى فيما رأى من مظاهر الخراب والدمار.
و المعنى أو أرأيت مثل الذي مر على قرية وهي ساقطة حيطانها على سقوفها وفارغة ممن كان يسكنها فهاله أمرها وراعه شأنها وقال على سبيل التعجب كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها ؟ بأن يعيد إليها العمران بعد الخراب ويجعلها عامرة بسكانها الذين خلت منهم ؟ فقوله :﴿ أني يحيي هذه القرية بعد موتها ﴾بمعنى كيف فتكون منصوبة على الحالية من اسم الإشارة ويجوز أن تكون أني هنا بمعنى متى يحيي الله هذه القرية بعد موتها فتكون منصوبة على الظرفية.
و قال القرطبي : قوله :﴿ قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها ﴾ معناه من أي طريق وبأي سبب متى يحيي الله هذه القرية بعد موتها فتكون منصوبة على الظرفية.
و قال القرطبي قوله :﴿ قال أني يحيي هذه الله بعد موتها ﴾ معناه من أي طريق وبأي سبب وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان كما يقال الآن في المدن الخربة التي تبعد أن تعمر هذه بعد خرابها فكان هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته.. " ( ٢٥ ).
و قوله هذا إنما هو تساؤل عن كيفية الإعادة لا أصل الإعادة لأنه كان مؤمنا بالبعث والنشور إلا أنه لما رأى حال القرية على تلك الصورة من الخراب تعجب من قدرة الله على إحيائها وتشوق إلى عمارتها واعتراف العجز عن طريق الإحياء فماذا كانت نتيجة هذا التساؤل كانت كما حكاها القرآن :﴿ فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم ﴾.
أي بعد ان قال هذا الذي مر على تلك القرية الخاوية على عروشها ما قال ألبثه الله تعالى في الموت مائة عام " ثم بعثه " أي أحياه ببعث روحه إلى بدنه قال كم لبثت أي كم مدة من الزمان لبثها على هذه الحال " قال لبثت يوما أو بعض يوم ".
و قال سبحانه :﴿ فأماته الله مائة عام ثم بعثه ﴾ ولم يقل ثم أحياه للدلالة على أنه عاد كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية وللإشعار بسرعته وسهولة تأتيه على الباري سبحانه.
قال ابن الكثير كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه فلما استقل سويا قال الله له بواسطة الملك كم لبثت ؟ قال لبثت يوما أو بعض يوم وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر النهار فلما رأى الشمس باقية ظن انها شمس ذلك اليوم فقال أو بعض يوم( ٢٦ ).
و قوله تعالى :﴿ كم لبثت ﴾ استئناف مبني على سؤال كأنه قيل : فماذا قال له بعد بعثته ؟ فقيل قال كم لبثت وليظهر له العجز عن الإحاطة بشؤون الله تعالى على أتم وجه وتنحسم مادة استعباده بالمرة.
و كم منصوبة على الظرفية ومميزها محذوف والتقدير كم يوما أو وقتا والناصب لها قوله : لبثت.
و في هذه الجملة الكريمة بيان للناس بأن الموت يشبه النوم وأن البعث يشبه اليقظة بعده وأنه لا شيء محال على الله تعالى فهو القائل :﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ﴾ ( لقمان : ٢٨ ).
و في الحديث الشريف : " والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعلمون ولتجوزن بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا ".
و قوله تعالى :﴿ قال بل لبثت مائة عام ﴾ معطوف على مقدر أي ليس الأمر كما قلت أنك لبثت يوما أو بعض يوم إنك لبثت مائة عام ثم أرشده سبحانه إلى التأمل في أمور فيها أبلغ دلالة على قدرة الله تعالى وعلى صحة البعث فقال سبحانه :﴿ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ﴾.
قوله : لم يتسنه } أي لم يتغير بمرور السنين الطويلة ولم تذهب طراوته فكأنه لم تمر عليه السنون ولفظ يتسنه مشتق من السنة والهاء فيه أصيلة إذا قدر لام سنة هاء وأصلها سنهة لتصغيرها على سنيهة وجمعها على سنهات كسجدة وسجدات ولقومه سانهته إذا عاملته سنة فسنة وتسنه عند القوم إذا قام فيهم سنة أو الهاء فيه للوقف نحو كتابيه وجزمه بحذف حرف العلة إذا قدر لام سنة واوا وأصلها سنوة لتصغيرها على سنية وجمعها على سنوات.
و قوله :﴿ ننشزها ﴾ أي نرفعها يقال أنشز الشيء إذا رفعه من مكانه واصله من النشز بفتحتين وبالسكون وهو المكان المرتفع وقرئ ننشزها بضم النون أي نحييها من أنشز الله الموتى أي أحياهم.
و المعنى قال الله تعالى لهذا الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها إنك لم تلبث يوما أو بعض يوم في الموت كما تظن بل لبثت مائة عام فإن كنت في شك من ذلك فانظر إلى طعامك وشرابك لتشاهد أمرا آخر من دلائل قدرتنا فإن هذا الطعام والشراب كما ترى لم يتغير بمرور السنين وكر الأعوام بل بقي على حالته وانظر إلى حمارك كيف نخرت عظامه وتفرقت أوصله مما يشهد بأنه مرت عليه السنوات الطويلة.
و قوله :﴿ و لنعجعلك آية للناس ﴾ معطوف على محذوف متعلق بفعل مقدر قبله بطريق الاستئناف مقرر لمضمون ما سبق والتقدير فعلنا ما فعلنا لترى وتشاهد بنفسك مظاهر قدرة الله ولنجعلك آية معجزة ودليلا على صحة البعث.
و قوله :﴿ انظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ﴾ أي انظر وتأمل في العظام كيف نركب بعضها في بعض بعد أن نوجدها.
و قيل المعنى وانظر إلى العظام أي عظام حمارك التي تفرقت وتناثرت لتشاهد كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها في جسده.
قال ابن كثير قال السدى وغيره تفرقت عظام حماره يمينا وشمالا حوله فنظر إليها وهي تلوح في بياضها فبعث الله ريحا فجمعها من كل موضع ثم ركب كل عظم في موضعه ذلك كله بمرأى من العزير.
و جاء الضمير في قوله :﴿ لم يتسنه ﴾ بالإفراد مع أن المتقدم طعام وشراب لأنهما متلازمان بمعنى أن أحدهما لا يكتفي به عن الآخر فصار بمنزلة شيء واحد فكأنه قال انظر إلى غذائك.
ثم ختم سبحانه الآية بقوله :﴿ فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ﴾ أي فلما تبين له بالأدلة الناصعة وبالمشاهدة الحسية قدرة الله تعالى على الإحياء والإماتة وعلى البعث والنشور قال أعلم أي أستيقن وأومن واعتقد أن الله تعالى على كل شيء قدير وأنه سبحانه لا يعجزه شيء والفاء في قوله فلما تبين له ذلك وتيقنه قال أعلم أن الله على كل شيء قدير وفاعل " تبين " مضمر يفسره سياق الكلام والتقدير فلما تبين له كيفية الإحياء أو فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر إحياء الموتى قال أعلم ان الله على كل شيء قدير.
تلك هي القصة الأولى التي ساقها الله تعالى كدليل على قدرته وعلى صحة البعث والنشور أما القصة الثانية التي تؤكد هذا المعنى فقد حكاها القرآن في قوله :﴿ و إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ﴾ أي واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن قام إبراهيم عليه السلام مخاطبا خالقه سبحانه : رب أرني بعيني كيف تعيد الحياة إلى الموتى.
و في قوله رب تصريح بكمال أدبه مع خالقه عز وجل فهو قبل أن يدعوه يستعطفه ويعترف له بالربوبية الحقة والألوهية التامة ويلتمس منه معرفة كيفية إحياء الموتى فهو لا يشك في قدرة الله ولا في صحة البعث وحاشاه أن يفعل ذلك فهو رسول من أولي العزم من الرسل وإنما هو يريد أن ينتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين ومن مرتبة البرهان إلى مرتبة العيان فإن العيان يغرس في القلب أسمى وأقوى ألوان المعرفة والاطمئنان.
و قد ذكر المفسرون لسؤال إبراهيم عليه السلام أسباب منها أنه لما قال للنمروذ :﴿ ربي الذي يحيي ويميت ﴾ أحب أن يترقى بأن يرى ذلك مشاهدة وقد أجاب الخالق عز وجل على طلب إبراهيم عليه السلام بقوله :﴿ أو لم تؤمن ﴾ أي أتقول ذلك وتطلبه ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء وعلى كل شي ؟
فالجملة الكريمة استئناف مبني على السؤال وهي معطوفة على مقدر والاستفهام
للتقرير وهنا يحكي القرآن الكريم جواب إبراهيم على خالقه عز وجل فيقول :﴿ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ﴾ أي قال إبراهيم في الرد على السؤال ليزداد قلبي سكونا واطمئنانا وإيمانا لأن من شأن المشاهدة أن تغرس في القلب سكونا أعمق واطمئنانا أشد وإيمانا أقوى وأنا في جميع أحوالي مؤمن كل الإيمان بقدرك و وحدانيتك يا رب العالمين.
قال القرطبي ما مخلصه لم يكن إبراهيم شاكا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة وذلك ان النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به ولهذا جاء في الحديث :" ليس الخبر كالمعاينة ". قال الأخفش : لم يرد إبراهيم رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين، وقال الحسين : سأل ليزداد يقينا إلى يقينه.
و أما قول الرسول صلى اله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم، فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق بالشك منه، ونحن لا نشك فإبراهيم عليه السلام أحرى ألا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظه الآتية لم تعط شكا وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول وكيف هنا إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء متقرر - فسؤال إبراهيم إنما هو عن الكيفية لا عن أصل القضية -.. " ( ٢٧ ).
و قال صاحب الكشاف : فإن قلت كيف قال له :﴿ أو لم تؤمن ﴾و قد علم أنه أثبت الناس إيمانا ؟ قلت ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين و﴿ بلى ﴾ إيجابا لما بعد النفي معناه : بلى آمنت وقوله :﴿ و لكن ليطمئن قلبي ﴾ أي ليزداد سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة أي علم المشاهدة إلى علم الاستدلال وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين ولان علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك فإن قلت بم تعلقت اللام في قوله : ليطمئن قلت : بمحذوف تقديره ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب " ( ٢٨ ).
ثم حكى القرآن بعد ذلك ما كان من جواب الخالق عز وجل على نبيه إبراهيم فقال :﴿ قال فخذ أربعة من الطير فصهرن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتيك سعيا ﴾.
قوله :﴿ فصهرن إليك ﴾ أي فاضممهن إليك قرئ بضم الصاد وكسرها وتخفيف الراء يقال صاره يصوره ويصيره أي أماله وضمه إليه ويقال أيضا صار الشيء بمعنى قطعه وفصله والمعنى قال الله تعالى لإبراهيم إذا أردت معرفة ما سالت عنه فخذ أربعة من الطير فاضممهن إليك لتتأملهن وتعرف أشكالهن وهيئاتهن كيلا تلتبس عليك بعد الإحياء ثم اذبحهن وجزئهن أجزاء ثم اجعل على كل جبل منهن جزء. أي ثم اجعل على كل مكان مرتفع من الأرض جزء من كل طائر من تلك الطيور ثم نادهن يأتيك مسرعات إليك والفاء في قوله : فخذ هي التي تسمى بالفاء الفصيحة لأنها تفصح عن شرط مقدر أي إذا أردت ذلك فخذ.
و قوله :﴿ من الطير ﴾ متعلق بمحذوف صفة لأربعة أي فخذ أربعة كائنات من الطير أو متعلق بقوله خذ أي خذ من الطير اسم جمع كركب وسفر وقيل هو جمع طائر مثل تاجر وتجر. قالوا : وهذه الطيور الأربعة هي الطاووس والنسر والغراب والديك.
و مما قالوا في اختيار الطير لهذه الحالة : إن الطير من صفاته الطيران وإنه لا يستأنس بالإنسان بل يطير بمجرد رؤيته لسهولة تأتي ما يفعل به من التجزئة والتفرقة.
و قوله :﴿ ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ﴾ معطوف على محذوف دل عليه قوله جزءا لأن تجزئتهن إنما تقع بعد الذبح والتقدير فاذبحهن ثم اجعل.. إلخ وقوله :﴿ ثم ادعهن ﴾ أي قل لهن تعالين بإذن الله.
و قوله :﴿ يأتينك ﴾ جواب الأمر فهو في محل جزم : سعيا. منصوب على المصدر النوعي لأن السعي نوع الإتيان فكأنه قيل يأتينك إتيانا سريعا.
قال الفخر الرازي : " أجمع أهل التفسير على ان المراد بالآية قطعهن وأن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها وخلط بعضها ببعض وفعل كما أمره الله ثم قال لهن : تعالين بإذن الله فأقبلن مسرعات إليه بعد ان انضم كل جزء في أصله ثم قال : ولكن أبا مسلم أنكر ذلك، وقال : إن إبراهيم لما طلب إحياء الميت من الله تعالى أراه مثالا قرب مثالا قرب الأمر عليه به والمراد بصرهن إليك الإمالة والتمرين على الإجابة أي : فعود الطيور الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك فإذا صارت كذلك فاجعل على كل جبل واحد حال حياته :﴿ ثم ادعهن يأتيك سعيا ﴾ والغرض منه مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة.. " ( ٢٩ ).
و الذي يطمئن إليه القلب هو رأي الجمهور لأن الآية مسوقة لتحقيق معجزة تجري على يد إبراهيم وهي إحياء الموتى بالمشاهدة كما جرى إحياء الرجل الذي أماته الله مائة عام والذي جاء ذكره في الآية السابقة ولأن ظاهر الآية صريح في أنه حصل تقطيع لأجزاء الطير ثم وضع كل جزء منها على مرتفع من الأرض لا يجوز تحميل الألفاظ ما لا تحتمله وما ذهب إليه أبو مسلم هو قول بلا دليل فضلا على مخالفته لما عليه إجماع المفسرين.
ثم ختم سبحانه الآية بقوله واعلم أن الله عزيز حكيم أي واعلم ان الله تعالى غالب على أمره قاهر فوق عباده حكيم في كل شؤونه وأفعاله وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد ساقتا أبلغ الأدلة والشواهد على قدرة الله تعالى وعلى أنه المستحق للعبادة والخضوع وعلى ان ما خبر به من صحة البعث والنشور حق لا ريب فيه.
ثم حض الله تعالى عباده على الإنفاق في سبيله ووعدهم على ذلك الثواب فقال تعالى :
﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾
ذكر بعض المفسرين أن هاتين الآيتين نزلتا في صدقة عبد الرحمان بن عوف وعثمان بن عفان وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حث الناس حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم فقال يا رسول الله كانت ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة ألاف وأربعة ألاف أقرضتها لربي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " ( ٣٠ ). وجاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو سعيد الخدري : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول :" يا رب عثمان إني رضيت عن عثمان فارض عنه " ( ٣١ ).
و نزول هاتين الآيتين في شأن صدقة هذين الصحابيين الجليلين لا يمنع من شمولها لكل من نهج نهجهما وبذل ماله في سبيل الله.
و " المثل " الشبه والنظير ثم أطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه لمورده الذي ورد فيه أولا ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة وعلى المعنى يحمل المثل في هذه الآية.
و " الحبة " كما يقول القرطبي- اسم جنس لكل ما يزرعه ابن آدم ويقتاته وأشهر ذلك البر فكثيرا ما يراد بالحب.
و " سنبلة " بوزن فنعلة- من أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل أي استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر بالإسبال وقيل معناه صار فيه حب مستور كما يستر الشيء بإسبال الستر عليه والجمع سنابل.
و المعنى مثل صدقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله أي في طاعته كمثل حبة ألقيت في أرض طيبة أصابها الغيث فخرجت الحبة على هيئة زرع قوي جميل فأنبتت في الوقت المناسب لإنباتها سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.
فأنت ترى أن الخالق عز وجل قد شبه حال الصدقة التي يبذلها المؤمن في سبيل الله فيكافئه الله تعالى عليها بالثواب العظيم بحال الحبة التي تلقى في الأرض النقية فتخرج عودا مستويا قائما قد تشعب إلى سبع الشعب في كل شعبة سنبلة وفي كل سنبلة مائة حبة وفي هذا التشبيه ما فيه من الحض على الإنفاق في وجوه الخير ومن الترغيب في فعل البر ولا سيما النفقة في الجهاد في سبيل الله.
قال ابن كثير : وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله تعالى لأصحابها كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة " ( ٢٢ ).
و قال سبحانه :﴿ كمثل حبة انبتت ﴾ فأسند الإنبات إلى الحبة مع ان المنبت في الحقيقة هو الله وذلك لأنها سبب لوجود تلك السنابل الميتة بالحبات ولأنها هي الأصل لما تولد عنها.
ثم قال تعالى : والله يضاعف لمن يشاء أي والله تعالى يضاعف الثواب والجزاء أضعافا كثيرة لمن يشاء من عباده فيعطي بعضهم سبعمائة ضعف ويعطي بعضهم اكثر من ذلك لان الصدقة يختلف ثوابها باختلاف حال المتصدق فمتى خرجت منه بنية خالصة وقلب سليم ونفس صافية ومن مال حلال ووضعت في موضعها المناسب متى كانت كذلك كان الجزاء عليها أوفر والمضاعفة تزيد على سبعمائة ضعف إذ عطاء الله لمن يشاء من عباده ليس له حدود، وثوابه ليس له حساب محدود.
و لذا ختم سبحانه الآية بقوله :﴿ و الله واسع عليم ﴾ أي والله تعالى عطاؤه واسع وجوده عميم وفضله كبير وهو تعالى عليم بنيات عباده وبأقوالهم وبسائر شؤونهم فيجازي كل إنسان على حسب نيته وعمله.
ذكر بعض المفسرين أن هاتين الآيتين نزلتا في صدقة عبد الرحمان بن عوف وعثمان بن عفان وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حث الناس حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم فقال يا رسول الله كانت ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة ألاف وأربعة ألاف أقرضتها لربي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " ( ٣٠ ). وجاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو سعيد الخدري : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول :" يا رب عثمان إني رضيت عن عثمان فارض عنه " ( ٣١ ).
و نزول هاتين الآيتين في شأن صدقة هذين الصحابيين الجليلين لا يمنع من شمولها لكل من نهج نهجهما وبذل ماله في سبيل الله.
٢٦٢- ﴿ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ﴾ استئناف جيء به لبيان كيفية الإنفاق الذي يحبه الله. ويجازي عليه المنفقين بالجزاء العظيم وقوله :﴿ ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ﴾ تحذير للمتصدق من هاتين الصفتين الذميمتين لأنهما مبطلتان لثواب الصدقة.
و المن معناه : أن يتطاول المحسن بإحسانه على من أحسن إليه ويتفاخر عليه بسبب ما أعطاه من عطايا. كأن يقول على سبيل التفاخر والتعيير لقد أحسنت إليك وأنقذتك من الفقر وما يشبه ذلك.
قال الإمام الرازي ما مخلصه : والمن في اللغة على وجوه فقد يأتي بمعنى الإنعام يقال قد من الله على فلان إذا انعم عليه بنعمة وقد يأتي بمعنى النقص من الحق والبخس له قال تعالى- وإن لك لأجرا غير ممنون ( القلم ٣ ). أي غير مقطوع وغير ممنوع ومنه سمي الموت منونا لأنه يقطع الأعمار ومن هذا الباب المنة المذمومة لأنها تنقص النعمة وتكدرها والعرب يمتدحون بترك المن بالنعمة والمراد بالمن في الآية المن المذموم هو بمعنى إظهار الاصطناع إليهم ( ٣٣ ).
و قال صاحب الكشاف : المن : أن يعتد على من أحسن بإحسانه ويريد أنه اصطنعه وأوجب عليه حقا وكانوا يقولون إذ صنعتم صنيعة فانسوها ولبعضهم.
و ان امرؤ أسدى إلى صنيعة وذكرنيها إنه للئيم
و في نوابغ الكلم : " صنوان من منح سائله ومنّ ومن منع نائله وضن والمراد بالأذى في الآية أن يقول المعطى لمن أعطاه قولا يؤذيه او يفعل معه فعلا يسئ به إليه وهو أعم من المن إذ المن نوع من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه ( ٣٤ ).
و جاء العطف بثم في الجملة الكريمة لإظهار التفاوت الشديد في الرتبة بين الإنفاق الذي يحبه الله وبين الإنفاق الذي يصاحبه المن والأذى والإشعار بان المن والأذى بغيضان عند الإنفاق وبعده فعلى المنفق أن يستمر في أدبه وإخلاصه وقت الإنفاق وبعده حتى لا يذهب ثوابه إذ المن والاذى مبطلان للثواب في أي وقت يحصلان فيه.
قال الشيخ ابن المنير مبينا أن " ثم " هنا تفيد استمرار الفعل بجانب إفادتها للتفاوت في الرتبة : وعندي فيها - أي في ثم - وجه آخر محتمل في هذه الآية ونحوها وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه فهي على هذا لم تخرج على الإشعار ببعد الزمن ولكن معناها الأصلي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه ومعناه المستعار إليه دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه وعليه حمل قوله :﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ﴾ أي وداوموا على هذه الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد.. و كذلك قوله تعالى هنا :﴿ ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ﴾ أي يدومون على تناسي الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان والأذى.. ( ٣٥ ).
و كرر- سبحانه النفي في قوله :﴿ ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ﴾ لتأكيده وشموله لأفراد كل واحد منهما أي يجب ألا يقع منهم أي نوع من أنواع المن ولا أي نوع من أنواع الأذى حتى لقد قال بعض الصالحين : " لئن ظننت أن سلامك يثقل على ما أنفقت عليه بنفقة تبتغي بها وجه الله فلا تسلم عليه ".
ثم ختم سبحانه الآية ببيان عاقبة المنفقين بلا من ولا أذى فقال :﴿ لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾. أي لهم جزاؤهم العظيم مكافأة لهم على أدبهم وإخلاصهم عند مربيهم مالك أمرهم ولا خوف عليهم مما سيجدونه في مستقبلهم ولا هم يحزنون على ماضيهم وذلك لأن الله تعالى قد أحاطهم برعايته في دنياهم وأخراهم وعوضهم عما فارقوه خير عوض وأكرمه.
ثم كرر سبحانه التحذير من المن والأذى مناديا المؤمنين بأن يجتنبوا في صدقاتهم هاتين الرذيلتين مبينا أن الكلمة الطيبة للفقير خير من إعطائه مع إيذائه استمع إلى القرآن الكريم وهو يسوق هذه المعاني وغيرها بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول :
﴿ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رياء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تواب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾
٢٦٣- ﴿ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها من وأذى والله غني حليم ﴾ والمعنى :﴿ قول معروف ﴾ بان تقول المسائل كلاما جميلا طيبا تجبر به خاطره ويحفظ له كرامته ومغفرة لما وقع منه من إلحاف في السؤال. وستر لحاله وصفح عنه ﴿ خير من صدقة يتبعها أذى ﴾ أي خير من صدقة يتبعها المتصدق أذى للمتصدق عليه.
لأن الكلمة الطيبة للسائل والستر عليه والعفو عنه فيما صدر منه كل ذلك يؤدي إلى رفع الدرجات عند الله وإلى تهذيب النفوس وتأليف القلوب وحفظ كرامة الذين مدوا أيديهم بالسؤال أما الصدقة التي يتبعها الأذى فإن إيتاءها بتلك الطريقة يؤدي إلى ذهاب ثوابها وإلى زيادة الآلام عند السائلين ولاسيما الذين يحرصون على حفظ كرامتهم وعلى صيانة ماء وجوههم لأن ألم الحرمان عند بعض الناس أقل أثرا في نفوسهم من آلام الصدقة المصحوبة بالأذى لهم فإنها تصيب النفوس الكريمة بالجراح التي يعسر الشفاء منها.
قال القرطبي : روى مسلم في صحيحه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكلمة الطيبة صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق " ( ٣٦ ). فعلى المسؤول أن يتلقى السائل بالبشر والترحيب ويقابله بالطلاقة والتقريب ليكون مشكورا إن أعطى معذورا إن منع. وقد قال بعض الحكماء : " ألق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره " ( ٣٧ ).
و قوله :﴿ قول معروف ﴾ مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لوصفها وللعطف عليها وقوله :﴿ و مغفرة ﴾ عطف عليه وسوغ الابتداء بها العطف أو الصفة المقدرة إذ التقدير ومغفرة للسائل أو من الله. وقوله :﴿ خير ﴾ خبر عنهما وقوله :﴿ يتبعها أذى ﴾ في محل جر صفة لصدقة.
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله :﴿ و الله غني حليم ﴾ أي والله تعالى في غنى عن إنفاق المنفقين وصدقات المتصدقين وإنما أمرهم بهما لمصلحة تعود عليهم أو غنى عن الصدقة المصحوبة بالأذى فلا يقبلها. حليم فلا يعجل بالعقوبة على مستحقيها فهو سبحانه يمهل ولا يهمل والجملة الكريمة تذييل لما قبله مشتملة على الوعد والوعيد والترغيب والترهيب.
٢٦٤- ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ﴾ نداء منه للمؤمنين يكرر فيه نهيهم عن المن والأذى لأنهما يؤديان إلى ذهاب الأجر من الله تعالى وإلى عدم الشكر من الناس ولذا جاء في الحديث الشريف : " إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر ".
ثم أكد سبحانه هذا النهي عن المن والأذى بذكر مثلين قال في أولهما : كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر.
و المعنى يا من آمنتم بالله تعالى لا تبطلوا أجرها وتمحقوا ثمارها بسبب المن والأذى فيكون مثلكم في هذا الإبطال لصدقاتكم بسبب ما ارتكبتم من آثام كمثل المنافق الذي ينفق ماله من أجل ان يرى الناس منه ذلك ولا يبغي به رضاء الله ولا ثواب الآخرة لأنه كفر بالله وكفر بحساب الآخرة.
و في هذا تنفير شديد من المن والأذى لأنه سبحانه شبه حال المتصدق المتصف بهما في إبطال عمله بسببهما بحال هذا المنافق المرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر و قوله : كالذي الكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف أ ي لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذي ينفق ماله رئاء الناس.. أوفي محل نصب على الحال من فاعل تبطلوا أي لا تبطلوا مشابهين الذي ينفق ماله رئاء الناس.
و قوله رئاء الناس منصوب على أنه مفعول لأجله أي كالذي ينفق ماله من أجل رئاء الناس. واما المثال الثاني فقال سبحانه فيه :﴿ فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا ﴾.
" الصفوان " اسم جنس جمعى واحده صفوانة كشجر وشجرة وهو الحجر الكبير الأملس مأخوذ من الصفاء وهو خلوص الشيء مما يشوبه يقال : يوم صفوان أي صافي الشمس وقيل هو منفرد كحجر و " الوابل " المطر الشديد يقال وبلت السماء تبل وبالا وبولا اشتد مطرها و " الصلد " هو الشيء الأجرد النقي من التراب الذي كان عليه ومنه رأس أصلد إذا كان لا ينبت شعرا والأصلد الأجرد الذي ينبت شيئا مأخوذ من صلد يصلد فهو صلد. والمعنى : يا أيها المؤمنون لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فيكون مثلكم كمثل المنافق الذي ينفق ماله من أجل الرياء لا من أجل رضا الله وإن مثل هذا المنافق في انكشاف أمره وعدم انتفاعه لما ينفقه رياء وحبا للظهور كمثل حجر أملس لا ينبت شيئا ولكن عليه قليل من التراب الموهم للناظر أنه منتج فنزل المطر الشديد فأزال ما عليه من تراب فانكشفت حقيقته وتبين للناظر إليه أنه حجر أملس لا يصلح لإنبات أي شيء عليه.
فالتشبيه في الجملة الكريمة بين الذي ينفق ماله رياء وبين الحجر الكبير الأملس الذي عليه قدر رقيق من التراب ستر حاله ثم ينزل المطر فيزيل التراب وتنكشف حقيقته ويراه الرائي عاريا من أي شيء يستره. وكذلك المنافق المرائي في إنفاقه يتظاهر بمظهر السخاء أمام الناس ثم لا يلبث لأن ينكشف أمره لأن ثوب الرياء يشف دائما عما تحته وإن لم يكشفه فإن الله كاشفه.
ومن المفسرين من يرى أن التشبيه في الجملة الكريمة بين المنفق الذي يبطل صدقته بالمن والأذى وبين الحجر الأملس وان الضمير في قوله :﴿ فمثله كمثل صفوان ﴾يعود على هذا المبطل لصدقته بالمن والأذى. فيكون المعنى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فيكون مثلكم كمثل الحجر الأملس الذي عليه تراب كان يرجى أن يكون منبتا للزرع فنزل المطر فأزال التراب فيبطل إنتاجه فالمن والأذى يبطلان الصدقات ويزيلان أثرهما النافع. كما يزيل المطر التراب الذي يؤمل منه الإنبات من فوق الحجر الأملس.
و الذي نراه أن عودة الضمير في قوله : فمثله على الذي ينفق ماله رئاء الناس أظهر لانه أقرب مذكور ولان التشبيه في قوله :﴿ فمثله كمثل صفوان ﴾ قد جاء بلفظ المفرد وهو المناسب للذي ينفق ماله رئاء الناس لانه مفرد مثله خلاف قوله :﴿ لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ﴾ فإن الضمير فيه بلفظ الجمع. فمن الأولى أن يعود الضمير في قوله : فمثله إلى المرائي لتوافقهما في الإفراد.
ثم قال تعالى :﴿ لا يقدرون على شيء مما كسبوا ﴾ أي الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى والذين يتصدقون رئاء ومفاخرة لا يقدرون على تحصيل شيء من ثواب ما عملوا لأن ما صاحب أعمالهم من رئاء ومن أذى محق بركتها واذهب ثمرتها وأزال ثوابها.
أو المعنى : إن أولئك المنانين ليس عندهم قدرة على شيء من المال الذي بين أيديهم وإنما هذا المال ملك لله وهو سبحانه الذي أنعم به عليهم، فعليهم أن يشكروه على هذه النعمة، وأن ينفقوه بدون من أو أذى أو مراءاة، حتى يظفروا بحسن المثوبة منه- سبحانه-.
ثم ختم – سبحانه- الآية الكريمة بقوله :﴿ و الله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ أي لا يهديهم إلى ما ينفعهم لأنهم آثروا الكفر على الإيمان.
و الجملة الكريمة تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيها إشارة إلى أن الإنفاق المصحوب بالمن والأذى والرياء ليس من صفات المؤمنين وإنما هو من صفات الكافرين فعلى المؤمنين إن يجتنبوا هذه الصفات التي لا تليق بهم.
و الذي ينظر في هذه الآية الكريمة يرى أن الله تعالى قد حذر المنفقين من المن والأذى في ثلاث آيات متواليات كما حذرهم من الرياء. وساق أكثر من تشبيه لتقبيح الصدقات التي لا تكون خالصة لوجه الله فلماذا كل هذا التشديد في النهي ؟ والجواب عن ذلك أن المن والأذى في الإنفاق كثيرا ما يحصلان بسبب استعلاء كاذب أو رغبة في إذلال المحتاج وإظهاره بمظهر الضعيف وكلا الأمرين لا يليق بالنفس المؤمنة المخلصة ولا يتلاقى مطلقا مع الحكم التي من اجلها شرعت الصدقات بل إنه ليتنافر معها تنافرا تاما لأن الصدقات شرعها الله لتهذب النفوس وتطهر القلوب وتربط بين الأغنياء والفقراء برباط المحبة والمودة والإخاء فإذا ما صاحبها المن والأذى أثمرت نقيض ما شرعت له لأنها تثير في نفس المعطي بسبب ذلك الكبر والخيلاء وغير ذلك من الصفات وتثير في نفس الآخذ شعورا بالحقد والانتقام ممن أعطاه ثم آذاه وبذلك تنقطع الروابط ويتمزق المجتمع وتتحول المحبة إلى عداوة. و لقد تحدث الإمام الرازي عن الآثار السيئة للمن والأذى فقال ما ملخصه : " و إنما كان المن مذموما لوجوه : الأول أن الفقير الآخذ الصدقة منكسر القلب لأجل حاجته إلى صدقة فإذا أضاف المعطي إلى ذلك إظهار الإنعام زاد ذلك في انكسار قلبه فيكون في حكم المضرة بعد المنفعة وفي حكم المسئ إليه بعد أن أحسن إليه والثاني أن إظهار المن يبعد أهل الحاجة عن الرغبة عن صدقته إذا اشتهر عن طريقه ذلك الثالث : أن المعطي يجب أن يعتقد أن هذه النعمة من الله تعالى عليه وأن يعتقد أن لله عليه نعما عظيمة حيث وفقه لهذا العمل ومتى كان الامر كذلك امتنع عن ان يجعل ما ينفقه منة على الغير الرابع : أن المعطي في الحقيقة هو الله ومتى اعتقد العبد ذلك استنار قبله أما إذا اعتقد غير ذلك فإنه يكون في درجة البهائم الذين لا يرتقي نظرهم عن المحسوس إلى المعقول. وعن الآثار إلى المؤثر، وأما الأذى فيتناول كل ذلك وغيره مما يسئ إلى الفقير بأن يقول له : فرج الله عني منك وأنت أبدا تأتي إلى بما يؤلم.. إلخ " ( ٣٨ ).
هذا وقد ساق الإمام ابن كثير عددا من الأحاديث الشريفة التي نهت عن المن والأذى ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المنان بما أعطى والمسبل إزاره والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ( ٣٩ ). " وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق لوالديه ولا منان " ( ٤٠ ).
﴿ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله و تثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير أيود أحدكم ان تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ﴾
تمهيد :
بعد ان ذكر سبحانه مثل الذين ينفقون أموالهم ثم يتبعون ذلك بالمن والاذى ومثل الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس قفّي على ذلك بذكر مثل الذين ينفقون أموالهم طلبا لرضا ربهم وتزكية لأنفسهم.
المفردات :
ابتغاء مرضاة الله : طلبا لرضوانه.
و تثبيتا من أنفسهم : أي لتمكين أنفسهم في مراتب الإحسان باطمئنانها عند بذلها بحيث لا ينازعها فيه زلزال البخل ولا اضطراب الحرص.
الجنة : البستان وأصل الجن ستر الشيء عن الحاسة يقال جنة الليل وأجنه أي ستره وسميت الجنة بذلك لأنها تظل ما تحتها وتستره.
الربوة : المكان المرتفع من الأرض وأشجار الربي أحسن منظرا وازكى ثمرا للطافة الهواء وفعل الشمس فيها.
آتت أكلها ضعفين : أخرجت ثمرها ضعفا فتكون التثنية للتكثير أو فآتت ثمرها ضعفين بالنسبة إلى غيرها من الجنان.
الطل : المطر الخفيف وجمعه طلال وهو مبتدأ محذوف الخبر أي فطل قليل يصيبها فيكفيها.
٢٦٥- ﴿ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل... ﴾
أي مثل المنفقين أموالهم ابتغاء رضوان الله وتمكينا لأنفسهم في مراتب الإيمان والإحسان باطمئنان حين البذل حتى يكون ذلك سجية لها كمثل جنة جيدة التربة ملتفتة الشجر عظيمة الخصب تنبت كثيرا من الغلات نزل عليها مطر كثير فكان ثمرها مثلي ما كانت تغل، وإن لم يصبها الوابل فطل ومطر خفيف يكفيها لجودة تربتها وكرم منبتها وحسن موقعها وهكذا كثير البر كثير الجود إن أصابه خير كثير أغدق ووسع في الإنفاق وإن أصابه خير قليل بقدره فخير دائم وبره لا ينقطع.
و إنما قال من أنفسهم أي بعض أنفسهم، جاء في تفسير الكشاف ( فإن قلت فما معنى التبعيض ؟ قلت معناه ان من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها كما في قوله تعالى :﴿ وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ﴾ ( ٤١ ). ( الصف : ١١ ).
فينبغي ان نقصد بأعمالنا رضا الله وتزكية نفوسنا وتطهيرها من الشوائب التي تعوقها عن الكمال كالبخل والمبالغة في حب المال.
﴿ و الله بما تعملون بصير ﴾ أي أنه عليم بأحوال عباده فهو يجازي المخلصين بما يرضيهم كما سيجازي المنافقين والمرائين يستحقون.
المعــنى الإجمـــالي :
ومع هذه الدلائل الواضحة اتخذ بعض الناس ممن ضلت عقولهم أربابا غير الله يطيعونهم ويعبدونهم كعبادة الله ويجعلونهم مثل الله، والمؤمن يسلم القيادة لله وحده، وطاعته له لا تنقطع، أما هم فإن ولاءهم لآلهتهم يتزلزل عند النوائب فيلجئون إلى الله ـ سبحانه ـ وهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم لو عاينوا ما سينالهم من عذاب يوم الجزاء، حين ينكشف ملك الله يوم القيامة، وتكون الطاعة له وحده، لانتهوا عن جرمهم وأقلعوا عن إثمهم.
المفردات :
إعصار : الإعصار الريح التي تهب بشدة فتجتاح ما أمامها.
٢٦٦- ﴿ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت... ﴾
الاستفهام في الآية للنفي والمعنى لا يحب أحد أن يحدث له ما أوردته الآية الكريمة وهو أن يكون له بستان فيه نخيل وأعناب وهما من أنفس أشجار الفواكه وأكثرها نفعا والأنهار تتخلل هذه الأشجار ويملك في هذا البستان إلى جانب النوعين السابقين جميع أنواع الأشجار المثمرة.
و الحال أنه قد أصابه الكبر الذي أقعده عن الكسب من غير تلك الحديقة اليانعة وله فضلا عن شيخوخته وعجزه ذرية ضعفاء لا يقدرون على العمل وبينما هو على هذه الحالة إذا بالجنة ينزل عليها إعصار فيه نار فيحرقها ويدمرها فيفقدها صاحبها وهو أحوج ما يكون إليها ويبقى هو وأولاده في حالة شديدة من البؤس والحيرة والغم والحسرة لحرمانه من تلك الحديقة التي كانت محط آماله.
و قد وصف الله الجنة هنا بثلاث صفات :
١- ففيها نخل وأعناب.
٢- وتجري من تحتها الأنهار.
٣- وهي زاخرة بأنواع الثمار.
اما صاحبها فقد أصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء ثم هو يرى جنته ومحل آماله قد احترقت وهو في اشد الحاجة على ظلها وثمارها ومنافعها.
و لكأن الله يقول للناس بعد هذا التصوير البديع المؤثر احذروا أن تبطلوا أعمالكم الصالحة بارتكابهم لما نهى الله عنه فلا تجدون لها نفعا يوم القيامة وأنتم في أشد الحاجة إليها في هذا اليوم العصيب فيكون مثلكم في الحزن والحسرة كمثل هذا الشيخ الكبير الذي احترقت جنته وهو في أشد الحاجة إليها.
و روى ابن أبي مليكة ان عمر تلا هذه الآية وقال : هذا مثل ضربه الله للإنسان يعمل صالحا حتى إذا كان عنده آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل العمل بالسئ. ( ٤٢ ).
﴿ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا ان الله غني حميد ﴾
المفردات :
من طيبات ما كسبتم : من حلال ما كسبتم والطيب الجيد المستطاب
و مما أخرجنا لكم من الأرض : أي طيبات ما أخرجنا لكم من باطن الأرض من النباتات والحبوب والثمار والمعادن وغيرها.
و لا تيمموا الخبيث : ولا تقصدوا بما تنفقون الردئ والحرام والتيمم في اللغة القصد.
أن تغمضوا فيه : الإغماض في اللغة غض البصر مأخوذ من الغموض وهو الخفاء والمراد هنا أن تتسامحوا في أخذه وتتساهلوا من قولهم أغمض فلان عن بعض حقه إذا غض بصره ويقال للبائع أغمض أي لا تستقص كأنك لا تبصر.
حميد : أي مستحق للحمد على نعمه العظام.
المعنى :
أنفقوا أيها المؤمنون من أطيب أموالكم وأنفسها وأجودها ولا تتحروا وتقصدوا أن يكون إنفاقكم من الخبيث الردئ، والحال إنكم لا تأخذونه أن أعطى هبة أو شراء أو غير ذلك إلا أن تتساهلوا في قبوله وتغضوا الطرف عن رداءته وإذا كان هذا شانكم في قبول ما هو رديء فكيف تقدمونه لغيركم ؟ إن الله تعالى ينهاكم عن ذلك لأنه من شأن المؤمن الصادق في إيمانه ألا يفعل لغيره إلا ما يحب أن يفعله لنفسه ولا يعطي من شيء إلا ما يجب أن يعطي إليه ففي الحديث الشريف :" عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به ".
سبب النزول :
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود مرفوعا قال نزلت هذه الآية في الأنصار كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل من حيطانها البسر فتعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل فقراء المهاجرين منه فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله في أفناء البسر يظن أن ذلك جائز فأنزل الله فيمن فعل ذلك ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ( ٤٣ ).
﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ﴾
المفردات :
الشيطان يعدكم الفقر : يخوفكم من الفقر إذا أنفقتم شيئا من الأموال او الثمرات.
و يأمركم بالفحشاء : يغريكم ويحضكم على البخل بالصدقات وقيل المراد بالفحشاء جميع المعاصي.
المغفرة : الصفح عن الذنب.
وفضلا : أي زيادة في الرزق أو ثوابا في الآخرة أو الأمرين معا.
واسع : أي صاحب سعة والمراد بها هنا سعة النعمة والمغفرة.
التفسير :
٢٦٨- ﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء.. ﴾ أي أن الشيطان يخوف المتصدقين الفقر ويغريهم بالبخل ويخيل إليهم أن الإنفاق يذهب المال ولابد من إمساكه والحرص عليه استعدادا لحاجات الزمان.
و الفقر هو ما يصيب الإنسان من سوء في الحال ومن ضعف بسبب قلة المال وأصل الفقر في اللغة كسر فقار الظهر ثم وصف الإنسان المحتاج الضعيف بأنه فقير تشبيها له بمن كسر فقار ظهره فأصبح عاجزا عن الحركة لأن الظهر هو مجمع الحركات ومنه تسميتهم المصيبة فاقرة وقاصمة الظهر.
﴿ و الله يعدكم مغفرة منه وفضلا ﴾. أي أن الله على لسان نبيكم وبما أودعه في الفطرة السليمة من حب الرغبة في البر مغفرة لكثير من خطاياهم و " فضلا " أي زيادة في الخير والبركة في المال والسعة في الرزق والثواب في الآخرة قال تعالى :﴿ و ما أنفقتم من شيء فهو يخلقه وهو خير الرازقين ﴾ ( سبأ : ٣٩ ).
و روى البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا " ( ٤٤ ). ومعنى الدعاء للمنفق بالخلف ان يسهل له أسباب الرزق ويرفع شأنه عند الناس والبخيل المحروم من مثل هذا، ومعنى الدعاء على الممسك بالتلف إن يذهب ماله حيث لا يفيده.
﴿ و الله واسع عليم ﴾ : أي والله تعالى واسع الجود والعطاء والرحمة وهو مع ذلك عليم بأحوال عباده صغيرها وكبيرها فلا يخفى عليه من أطاع شيطانه وهواه ومن امتثل أوامر مولاه.
﴿ يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب ﴾
المفردات : الحكمة هي إصابة الحق في قول أو فعل أو رأي وهي من الملكات النفسية العليا التي يمنحها الله وهو أهل لها.
التفسير : للعلماء في المراد بالحكمة في الآية الكريمة أقوال كثيرة :
قال زيد بن اسلم : الحكمة العقل.
قال مالك : و إنه يقع في قلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله وأمر يدخله في القلوب من رحمته وفضله وما يبين ذلك انك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا إذا نظر فيها وتجد آخر ضعيفا في أمر دنياه عالما بأمر دينه بصيرا به يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا فالحكمة الفقه في دين الله.
و قال ابن عباس : يؤتي الحكمة من يشاء يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله.
وروى البخاري ومسلم والنسائي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " ( ٤٥ ).
٢٦٩- ﴿ يؤتي الحكمة من يشاء.. ﴾أي يعطي الله فضل الحق في القول والفعل أو يعطي العلم النافع الذي يكون معه العمل من يشاء من عباده الأخيار.
﴿ ... و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ﴾ : ومن يعطه الله نعمة التمييز بين الحق والباطل وييسر له الاهتداء إلى العلم النافع والاستجابة لكل خير والابتعاد عن كل شر فإنه يكون سعيدا في دنياه وأخراه.
﴿ و ما يذكر إلى أولوا الألباب ﴾ والألباب جمع لب وهو الأصل خلاصة الشيء وقلبه وأطلق هنا على عقل الإنسان لأنه أنفع شيء فيه المراد بأولي الألباب هنا أصحاب العقول السليمة التي تخلصت من شوائب الهوى ودوافع الشر فقد جرت عادة القرآن ألا يستعمل هذا التعبير إلا مع أصحاب العقول المستقيمة أي وما يتعظ بهذه التوجيهات القرآنية وينتفع بثمارها إلا أصحاب العقول الراجحة والنفوس الصافية التي اهتدت إلى الحق وعملت به.
﴿ وما أنفقتم من نفقة أو نذرتهم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار ﴾
المفردات :
من نفقة : النفقة ما ينفقه الإنسان من المال في خير أو شر.
أو نذرتم من نذر : هو ما يتوجبه الإنسان على نفسه من غير أن يلزمه الله به قبل نذره ثم يصير بالنذر واجب الأداء شرعا
التفسير :
هذه الآية مسوقة للحث على تنقية النفقات والنذور وتخليهما من شوائب الشر.. ومعناها وما انفقتم أيها المكلفون من نفقة قليلة أو كثيرة أو نذرتم من نذر هان أو عظم فإن الله يعلمه بجميع أحواله وأوصافه من طيب أو خبيث ابتغاء وجه الله به أو ابتغاء وجه سواه. ( و هذه الجملة الكريمة مع إيجازها قد أفادت الوعد العظيم للمطيعين والوعيد الشديد للمتمردين لان الإنسان إذا أيقن أن الله تعالى لا تخفي عليه خافية من شؤون خلقه هذا اليقين سيحمله على الطاعة والإخلاص وسيحضه على المسارعة في الخيرات ) ( ٤٦ ).
قال تعالى :﴿ و ما للظالمين من أنصار ﴾ وما للظالمين الذين يضعون الأمور في غير مواضعها ويبذلون المال في غير وجوهه المشروعة ويضنون على مستحقيه ﴿ من أنصار ﴾ ينصرونهم يوم الجزاء.
قال تعالى :﴿ ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ﴾ ( غافر : ١٨ ).
إن العالم الإسلامي غني بثرواته وكنوزه وإن الله مطلع وشاهد أين تنفق هذه الكنوز والثورات ولو أنفق من هذه الكنوز في مصارف الزكاة والصدقات المطلوبة لارتفع شأن هذه الأمة واستردت مكانتها وعادت خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله..
﴿ إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعلمون خبير ﴾
المفردات :
إن تبدو الصدقات : إن تظهروها بحيث يراها الناس ليقتدوا بكم.
فنعما هي : فنعم شيئا هذه الصدقات التي أبديتموها وفي الكلام مضاف مقدر أي فنعما إظهارها.
التفسير :
٢٧١- ﴿ إن تبدو الصدقات فنعما هي.. ﴾ إي إن أظهرتم الصدقات فنعم شيء إظهارها لحمل الغير على الاقتداء بكم.
﴿ و إن تخفوها ﴾ : أي إن تستروها عن أعين الناس.
﴿ و تؤتوها الفقراء ﴾ : أي وتعطوها من يستحقها من الفقراء فالإخفاء خير لكم وأفضل لكم وأفضل عند الله من الإظهار.
قال ابن كثير : والأصل أن الإسرار أفضل لهذه الآية ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبعة يظلمهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجلان تحابا في الله تعالى اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل قبله معلق بالمساجد ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال :﴿ إني أخاف الله رب العالمين ﴾ ( الحشر١٧ ). ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " ( ٤٧ ).
و اخرج الطبراني مرفوعا : " إن صدقة السر تطفئ غضب الرب " ( ٤٨ ).
و قال الألوسي والأكثرون على الصدقة سرا أفضل من الصدقة علنا وعلى هذه الأفضلية فيما إذا كان كل من صدقتي السر والعلانية تطوعا ممن لم يعرف بمال " أي لم يعرف بغنى " وإلا فإبداء الفرض لغيره ( أي لغير المتطوع المذكور ) أفضل لنفي التهمة وكذا الإظهار أفضل لمن يقتدي به وأمن نفسه انتهى. وعن ابن عباس رضي الله عنه : " صدقة السر في التطوع تفضل على علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها " ( ٤٩ ).
﴿ و يكفر عنكم سيئاتكم ﴾ أي ويمحو عنكم بعض ذنوبكم بسبب الصدقات لأن فعل الحسنات يمسح السيئات.
قال تعالى :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ﴾. ( هود ١١٤ ).
﴿ و الله بما تعملون خبير ﴾ : أي يعلم علما دقيقا بكل ما تعملونه وسيجزيكم عليه.
﴿ ليس عليكم هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون للفقراء الذين أحرصوا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحاقا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾
قال القرطبي ما ملخصه : " قوله تعالى :﴿ ليس عليك هداهم ﴾ هذا الكلام متصل بذكر الصدقات فكأنه بين فيه جواز الصدقة على المشركين.
روى سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلى الله علي وسلم في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر الفقراء من المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا إلا على أهل دينكم " ( ٥٠ ).
فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام وروى عن ابن عباس أنه قال كان ناس من الأنصار لهم قرابات من ببي قريظة والنضير كانوا يتصدقون عليهم رغبة في أن يسلموا إذا احتاجوا فنزلت الآية بسبب أولئك ثم قال : قال علماؤنا هذه الصدقة التي أبيحت لهم حسب ما تضمنته هذه الآثار هي صدقة التطوع وأما المفروضة فلا يجزي دفعها لكافر لقوله عليه الصلاة والسلام : " أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها إلى فقرائكم "
و المعنى : ليس عليك يا محمد هداية من خالفك في دينك ولكن الله تعالى يهدي من يشاء هدايته إلى نور الإيمان وطريق الحق وما دام الأمر كذلك فعليك وعلى أتباعك أن تعاملوا غيركم بما يوجبه عليكم إيمانكم من سماحة في الخلق وعطف على المحتاجين ولو كانوا المخالفين لكم في الدين.
و على هذا المعنى الذي يؤديه سبب النزول يكون الضمير في قوله : " هداهم " يعود على غير المسلمين.
ومن المفسرين من يرى أن الضمير في قوله :" هداهم " يعود على المسلمين المخاطبين في الآيات السابقة فيكون المعنى لا يجب عليك أيها الرسول الكريم أن تجعل المسلمين جميعا مهددين إلى الإتيان بما أمروا به ومنتهين عما نهوا عنه من ترك المن والأذى والرياء في صدقتهم ولكن الله وحده الذي يهدي من يشاء هدايته إلى الاستجابة لتوجيهات هذا الدين الحنيف.
قال الألوسي : وعلى هذا الجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بأولئك المكلفين مبالغة في حملهم على الامتثال.. ثم قال : والذي يستدعيه سبب النزول رجوع ضمير " هداهم " إلى الكفار وحينئذ لا التفات وإنما هناك تلوين الخطاب فقط ( ٥٢ ).
ثم حض سبحانه المؤمنين على الإنفاق في وجوه الخير ﴿ و ما تنفقوا من خير فلأنفسكم ﴾ أي ما تقدمونه من مال في وجوه البر أيها المؤمنون فأن نفعه سيعود بالسعادة في الدنيا وبالثواب الجزيل في الآخرة فكونوا أسخياء في الإحسان إلى الفقراء وابتعدوا عن وسوسة الشيطان الذي يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ( البقرة ٢٦٨ ).
و " ما " شرطية جازمة لتنفقوا وهي منتصبة به على المفعولية و " من " للتبعيض وهي مع مجرورها متعلقة بمحذوف وقع صفة لفعل اسم الشرط والتقدير : أي الشيء تنفقوا كائنا من المال فهو لأنفسكم لا ينتفع به في الآخرة غيركم.
قال الفخر الرازي ما مخلصه : " و قوله تعالى :﴿ و ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ﴾ يحتمل وجوها الأول : أن يكون المعنى : ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله في صلة الرحم وسد خلة مضطر وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم الثاني أن هذا وإن كان ظاهره خبرا إلا ان معناه نهي أي : ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله. الثالث أن قوله : " و ما تنفقون " أي ولا تكونوا منفقين مستحقين الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله وفي ذكر الوجه تشريف عظيم لأنك إذا قلت فعلت هذا الشيء لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من قولك فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ثم كثر حتى صار يعبر عن الشرف بهذا اللفظ وأيضا فأن قولك : فعلت هذا الفعل لوجهه يدل على أنك فعلت له فقط وليس لغيره فيه شركة " ( ٥٣ ).
ثم ختم سبحانه الآية بقوله " ﴿ و ما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ﴾ أي أن ما تنفقوا من خير أيها المؤمنون ستعود عليكم ثماره ومنافعه في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فإنكم بسبب هذا الإنفاق تزكوا أموالكم وتحسن سيرتكم بين الناس وأما في الآخرة فإنكم تنالون من خالقكم ورازقكم أجزل الثواب وأفضل الدرجات.
و قوله :﴿ و أنتم لا تظلمون ﴾ أي لا تنقصون شيء مما وعدكم الله به على نفقتكم في سبيله.
قال الجمل : وهاتان الجملتان أي قوله تعالى :﴿ و ما تنفقوا من خير يوف إليكم ﴾ و قوله :﴿ و انتم لا تظلمون ﴾ تأكيد للجملة الشرطية الأولى وهي قوله :﴿ و ما تنفقوا من خير فلأنفسكم ﴾ وقوله :﴿ و أنتم لا تظلمون ﴾ جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من الضمير في :﴿ إليكم ﴾ فالعامل فيها : يوف وهي تشبه الحال المؤكدة لأن معناها مفهوم من قوله :﴿ يوف إليكم ﴾ لأنهم إذا وفوا حقوقهم لا يظلمون ويجوز أن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب أخبرهم فيها أنه لا يقع لهم ظلم فيندرج فيه توفية أجورهم بسبب إنفاقهم في طاعة الله تعالى اندراجا أوليا " ( ٥٤ ).
هذا والذي يتدبر هذه الآية الكريمة يراها من أجمل الآيات التي وردت في الحض على بذل المال في وجوه الخير فقد كرر فيها فعل تنفقوا ثلاث مرات لمزيد الاهتمام مستقلة ببعض الأحكام لكي يسهل حفظها وتأملها فتجري على الألسنة مجرى الأمثال وتتناقلها الأمم والأجيال.
ثم بعد هذا التحريض الحكيم على بذل الأموال في وجوه الخير خص سبحانه بالذكر طائفة من المؤمنين هي أولي الناس بالعون والمساعدة ووصف هذه الطائفة بست صفات من شأنها أن تحمل العقلاء على المسارعة في إكرام أفرادها وسد حاجاتهم.
استمع على القرآن الكريم وهو يصور حالة هذه الطائفة من المؤمنين تصويرا كريما نبيلا تستجيش به المشاعر وتحرك القلوب لمساعدة هذه الطائفة المتعففة فيقول :
٢٧٣- ﴿ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا... ﴾
لقد وصفهم الله تعالى أولا بالفقراء أي الذين هم في حاجة إلى العون والمساعدة لفقرهم واحتياجهم إلى ضروريات الحياة.
و قوله للفقراء متعلق بمحذوف يفهم من الكلام السابق والتقدير اجعلوا نفقتكم وصدقتكم للفقراء لأن الكلام السابق موضوعه الإنفاق في سبيل الله وما يتعلق في ذلك من آداب وفوائد.
و الجملة استئناف بياني فكأنهم لما أمروا بالصدقات سألوا لمن هي ؟ فأجيبوا انها لهؤلاء الذين ذكرت الآية صفاتهم.
و من فوائد الحذف هنا للمتعلق : تعليم المؤمنين الأدب في إعطائهم للفقراء بألا يصرحوا لهم بأن ما يعطونه إياهم هو صدقة حتى لا يشعرهم بالمذلة والضعف وأيضا ففي هذا الحذف لون من الإيجار البليغ الذي قل فيه اللفظ مع الوفاء بحق المعنى.
قال القرطبي :" والمراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين وغيرهم ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفتهم غابر الدهر وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم وهم أهل الصفة ( ٥٥ ) وكانوا نحو أربعمائة رجل وذلك أنهم كانوا يأتون فقراء وما لهم أهل ولا مال فبنيت لهم صفة في المسجد النبوي بالمدينة فقيل لهم " أهل الصفة " ( ٥٦ ).
أما الصفة الثانية من صفات هؤلاء الذين هم أولي الناس بالعون والمساعدة فهي قوله :﴿ الذين أحصروا في سبيل الله ﴾. والإحصار في اللغة أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين ما يريده بسبب مرض أو شيخوخة أو عدم أو ذهاب نفقة أو ما جرى مجرى هذه الأشياء.
و المعنى : اجعلوا الكثير مما تنفقونه أيها المؤمنون لهؤلاء الفقراء الذين حصروا أنفسهم ووقفوها على الطاعات المتنوعة التي من أعظمها الجهاد في سبيل الله أو الذين منعوا من الكسب بسب مرضهم أو شيخوختهم أو غير ذلك من الأسباب التي جعلتهم في حالة شديدة من الفاقة والاحتياج.
و عبر في الجملة الكريمة بالفعل أحصروا بالبناء للمجهول للإشعار بأن فقرهم لم يكن بسبب تكاسلهم وإهمالهم في مباشرة الأسباب خارجة عن إرادتهم.
و قوله :﴿ في سبيل الله ﴾ تكريم وتشريف لهم أي أن ما نزل بهم من فقر واحتياج كان بسبب إيثارهم إعلاء كلمة الله على كل شيء آخر ففي سبيل الله هاجروا وفي سبيل الله وقفوا أنفسهم على الجهاد وفي سبيل الله أصابهم ما أصابهم وهم يطلبون أداء ما كلفهم سبحانه بأدائه.
أما الصفة الثالثة من صفاتهم فقال فيها :﴿ لا يستطيعون ضربا في الأرض ﴾ والضرب هو السير فيها للتكسب والتجارة وغيرها.
أي أنهم عاجزون عن السير في الأرض لتحصيل رزقهم بسبب انشغالهم بالجهاد أو بسبب ضعفهم وقلة ذات يديهم.
و الصفة الرابعة من صفاتهم في قوله تعالى :﴿ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ﴾.
و " التعفف " ترك الشيء والتنزه عن طلبه بقهر النفس والتغلب عليها يقال عف عن الشيء إذا كف عنه والحسبان بمعنى الظن.
أي يظنهم الجاهل بحالهم أو الذي لا فراسة عنده يظنهم أغنياء من اجل تجملهم وتعففهم عن السؤال أما صاحب الفراسة الصادقة والبصيرة النافذة فإنه يرحمهم ويعطف عليهم لأنه يعرف ما لا يعرفه غيره.
و " من " في قوله :﴿ من التعفف ﴾ للتعليل ولابتداء الغاية لأن التعفف مبدأ هذا الحسبان.
أما الصفة الخامسة من صفاتهم فهي قوله تعالى :﴿ تعرفهم بسيماهم ﴾ والسيما والسيماء : العلامة التي يعرف بها الشيء وأصلها من الوسم بمعنى العلامة.
و المعنى : تعرف فقرهم وحاجتهم أيها الرسول الكريم أو أيها المؤمن العاقل بما ترى في هيئتهم من آثار بقلة ذات يدهم.
قال الإمام الرازي ما مخلصه : " قال مجاهد " سيماهم " التخشع والتواضع أي تعرفهم بتخشعهم وتواضعهم وقال السدى : تعرفهم بسيماهم أي بأثر الجهد من الفقر والحاجة وقال الضحاك : أي بصفرة ألوانهم ورثاثة ثيابهم... ثم قال- رحمه الله. وعندي أن كل ذلك فيه نظر والمراد شيء آخر هو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعا في قلوب الخلق وكل من رآهم تأثر منهم وتواضع لهم، وذلك له إدراكات روحية لا علامات جسمانية، ألا ترى أن الأسد إذا مر هابته سائر السباع بطباعها لا بالتجربة لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت والبازي إذا طار تهرب منه الطيور الضعيفة وكل ذلك إدراكات روحانية لا جسمانية فكذا هنا.. " ( ٥٧ ).
و قد ذكر سبحانه في الجملة السابقة إن الجاهل بحالهم يظنهم أغنياء من اجل تعففهم عن السؤال وذكر هنا أنهم يعرفون بسيماهم وذلك للإشعار بأن أنظار الناس تختلف باختلاف فراستهم ونفاذ بصيرتهم فأصحاب الأنظار التي تأخذ الأمور بمظاهرها يظنونهم أغنياء أما أصحاب البصيرة المستنيرة والحس المرهف والفراسة الصائبة فإنهم يدركون ما عليه أولئك القوم من احتياج بسبب ما منحهم الله من فكر صائب ونظر نافذ في الحديث الشريف : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ( ٥٨ ).
أما الصفة السادسة من صفاتهم فهي قوله تعالى :﴿ لا يسألون الناس إلحافا ﴾ والإلحاف كما يقول صاحب الكشاف هو الإلحاح بألا يفارق السائل المسئول إلا بشيء يعطاه من قولهم : لحفني من فضل لحافه أي أعطاه من فضل ما عنده ومعناه أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحفوا وقيل هو نفي للسؤال والإلحاف " ( ٥٩ ).
و الذي عليه المحققون من العلماء أن النفي منصب على السؤال وعلى الإلحاف أي أنهم لا يسألون أصلا تعففا منهم لأنهم لو كانوا يسألون ما ظنهم الجاهل أغنياء من التعفف، ولو كانوا يسألون ما احتاج صاحب البصيرة النافذة إلى معرفة حالهم عن طريق التفرس في سماتهم لأن سؤالهم كان يغنيه عن ذلك.
و إنما جاء النفي بهذه الطريقة التي يوهم ظاهرها أن النفي متجه إلى الإلحاف وحده للموازنة بينهم وبين غيرهم إذا كان يسأل الناس إلحافا فهم لا يسألون مطلقا لا بإلحاف ولا بدونه والنفي بهذه الطريقة فيه تعريض للملحفين وثناء على المتعففين ولذا قال بعضهم : وإذا علم أنهم لا يسألون البتة فقد علم أنهم لا يسألون الناس إلحافا والمراد التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا ومثاله إذا حضر عندك رجلان أحداهما عاقل وقور قليل الكلام والآخر طياش مهذار سفيه فإذا أردت أن تمدح أحدهما وتعرض بذم الآخر قلت : فلان رجل عاقل وقور لا يخوض في الترهات ولا يشرع في السفاهات ولم يكن غرضك من قولك لا يخوض في التهرات وصفه بذلك لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يعني عن ذلك، بل غرضك التنبيه على مذمة الثاني. فالأمر هنا كذلك لأن قوله :﴿ لا يسألون الناس إلحافا ﴾ بعد قوله :﴿ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ﴾ والغرض منه بيان أحد الجنسين عن الآخر في استيجاب المدح والتعظيم " ( ٦٠ ).
هذا وقد وردت أحاديث متعددة تمدح المتعففين عن السؤال وتذم الملحفين فيه ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان ولا التمرة والتمرتان إنما المسكين الذي يتعفف اقرؤوا إن شئتم :﴿ لا يسألون الناس إلحافا ﴾ ". ( ٦١ ).
و روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم " ( ٦٢ ).
روى مسلم أيضا في صححه عن عوف بن مالك قال كنا تسعة أو ثمانية أو سبعة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألا تبايعون رسول الله ؟ فقلنا علام نبايعك قال ان تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس.. وتطيعوا ولا تسالوا الناس فقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط احدهم فلا يسأل أحدا يناوله إياه " ( ٦٣ ).
و الخلاصة ان السؤال إنما يجوز عند الضرورة وأنه لا يصح لمؤمن أن يسأل الناس وعنده ما يكفيه لأن السؤال ذل يرأب بنفسه عنه كل من يحافظ على مروءته وكرامته وشرفه.
و قوله :﴿ و ما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ﴾ تحريض للمؤمنين على البذل والسخاء وتربية لنفوسهم على الشعور بمراقبة الله تعالى وعلى محبة الناس وفعل الخير أي وما تنفقوا من خير سواء أكان المنفق قليلا أم كثيرا سرا أم علنا فإن الله يعلمه وسيجازيكم عليه بأجزل الثواب وأعظم العطاء.
ثم ختم سبحانه الحديث عن النفقة والمنفقين بقوله :
٢٧٤- ﴿ الذين ينفقون أموالهم في الليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ وقوله :﴿ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ﴾ استئناف المقصود منه مدح أولئك الذين يعممون صدقتهم في كل الأزمان وفي كل الأحوال فهم يتصدقون على المحتاجين في الليل وفي النهار وفي الغدو وفي الآصال وفي السر وفي العلن وفي كل وقت وفي كل وقت وفي كل حال لأنهم لقوة إيمانهم وصفاء نفوسهم يحرصون كل الحرص على كل ما يرضي الله تعالى.
و قد بين الله تعالى في ثلاث جمل حسن عاقبتهم فقال في الجملة الأولى :﴿ فلهم أجرهم عند ربهم ﴾ فلهم أجرهم الجزيل عند خالقهم ومربيهم ورازقهم.
و الجملة الكريمة خبر لقوله :﴿ الذين ينفقون... ﴾ ودخلت الفاء في الخبر لان الموصول في معنى الشرط فتدخل الفاء في خبره جوازا والدلالة على سبيله ما قبلها لما بعدها أي أن استحقاق الأجر متسبب عن الإنفاق في سبيل الله.
و قال في الجملة الثانية :﴿ و لا خوف عليهم ﴾ أي لا خوف عليهم من أي عذاب لأنهم في مأمن من عذاب الله بسبب ما قدموا من عمل صالح.
و قال في الجملة الثالثة :﴿ و لا هم يحزنون ﴾ أي لا يصيبهم ما يؤدي به إلى الحزن والهم والغم لأنهم دائما في اطمئنان يدفع عنه الهموم والأحزان وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها أن علي بن أبي طالب كان يملك اربعة دراهم فتصدق بدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية فقال له النبي صلى اله عليه وسلم ما حملك على ذلك : فقال أريد أن أكون أهلا لما وعدني ربي فقال : صلى الله عليه وسلم لك ذلك فأنزل الله هذه الآية " ( ٦٤ ).
و الحق أن هذه الرواية وغيرها لا تمنع عمومها فهي تنطبق على كل من بذل ماله في سبيل الله في عموم الأوقات والأحوال.
أما بعد : فهذه أربع عشرة آية بدأت من قوله تعالى :
﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سنابل... ﴾و انتهت بقوله تعالى :﴿ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾.
والذي يقرأ هذه الآيات الكريمة بتدبر وتعقل يراها قد حضت الناس على الإنفاق في سبيل الله بأبلغ الأساليب وأحكم التوجيهات وأفضل الوسائل كما يراها قد بينت أحكام الصدقة وآدابها والآفات التي تذهب بخيرها وضربت الأمثال لذلك كما يراها قد بينت أنواعها وطريقة أدائها وأولى الناس بها ورسمت صورة كريمة للفقراء المتعففين وكما بدأت الآيات حديثها بالثناء الجميل على المنفقين فقد ختمته أيضا بالثناء عليهم وبالعاقبة الحسنى التي أعدها الله لهم.
و لو أن المسلمون أخذوا بتوجيهات هذه الآيات لعمتهم السعادة في دنياهم ولنالوا رضا الله ومثوبته في أخراهم.
و بعد هذه الصورة المشرقة التي ساقها القرآن عن النفقة والمنفقين أتبعها بصورة مضاده لها وهي صورة الربا والمرابين ومن مظاهر التضاد والتباين بين الصورتين أن الصدقة بذل المال في وجوه الاستغلال لحاجة المحتاج مع ضمان استرداده ومعه زيادة محرمة وان الصدقة نتيجتها الرخاء والطهارة للمال وشيوع روح المحبة والتعاون والتكافل والاطمئنان بين أفراد المجتمع أما الربا فنتيجة محق البركة من المال وشيوع روح التقاطع والتحاسد والتباغض والخوف بين الناس.
و لقد نفر القرآن الناس من تعاطي الربا تنفيرا شديدا وحذرهم من سوء عاقبته تحذيرا مؤكدا فقال تعالى :
{ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأوليك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
٢٧٥- ﴿ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.. ﴾ استئناف قصد به الترهيب من تعاطي الربا بعد الترغيب في بذل الصدقة لمستحقيها.
و لم يعطف على ما قبله لما بينهما من تضاد، لأن الصدقة كما يقول الفخر الرازي عبارة عن تنقيص المال في الظاهر بسبب أمر الله في ذلك والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله عنه فكانا متضادين.
و الأكل في الحقيقة ابتلاع الطعام ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص وهو المراد هنا وعبر عن التعامل بالربا بالأكل لأن معظم مكاسب الناس تنفق في الأكل.
و الربا في اللغة الزيادة المطلقة يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد ونما ومنه قوله تعالى :﴿ و ترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ﴾ ( الحج ٥ ).
أي : زادت.
و هو في الشرع كما قال الألوسي عبارة عن فضل ما لا يقابله عوض في معارضة مال بمال.
و قوله :﴿ يتخبطه ﴾ من التخبط بمعنى الخبط الضرب على غير استواء واتساق يقال خبطته أخبطه خبطا أي ضربته ضربا متواليا على أنحاء مختلفة ويقال : تخبط البعير الأرض إذا ضربها بقوائمه ويقال للذي يتصرف في أمر لا يهتدي فيه يخبط خبط عشواء قال زهير بن أبي سلمى في معلقته :
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
و المس : الخبل والجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا أصابه الجنون.
و أصل المس اللمس باليد ثم استعير للجنون لأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه.
و المعنى :﴿ الذين يأكلون الربا ﴾ أي يتعاملون به أخذا وإعطاء ﴿ لا يقومون ﴾ يوم القيامة للقاء الله إلا كقيام المتخبط المصروع المجنون حال صرعه وجنونه وتخبط الشيطان له وذلك لأنه يقوم قياما منكرا مفزوعا بسبب أخذه الربا حرم الله أخذه.
فالآية الكريمة تصور المرابي بتلك الصورة المرعبة المفزعة التي تحمل كل عاقل على الابتعاد عن كل معاملة يشم منها رائحة الربا.
و هنا يحب أن نوضح أمرين : أما الأمر الأول فهو أن جمهور المفسرين يرون أن هذا القيام المفزع للمرابين يكون يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم كما أشرنا إلى ذلك..
قال الألوسي : " وقيام المرابي يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار، فقد اخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم : " إياك والذنوب التي لا تغفر. الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة. وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط " ( ٦٥ ). ثم قرأ الآية وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه ولعل الله تعالى جعل علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له... ثم قال : وقال ابن عطية : المراد تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقول لمن يسرع بحركات مختلفة قد جن ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة ولما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير داع سوى الابتعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات " ( ٦٦ ).
و الذي نراه أنه لا مانع من أن تكون الآية تصور حال المرابين في الدنيا والآخرة فهم في الدنيا في قلق مستمر وانزعاج دائم واضطراب ظاهر بسبب جشعهم وشرهم في جمع المال ووساوسهم التي لا تكاد تفارقهم وهم يفكرون في مصير أموالهم... ومن يتتبع أحوال بعض المتعاملين بالربا يراهم أشبه بالمجانين في أقوالهم وحركاتهم أما في الآخرة فقد توعدتهم الله تعالى بالعقاب الشديد والعذاب الأليم.
و قد رجح الإمام الرازي أن الآية الكريمة تصور حال المرابي في الدنيا والآخرة فقال ما ملخصه : " إن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله ومن كان كذلك من أمر الدنيا متخبطا.. وآكل الربا بلا شك أنه يكون مفرطا في حب الدنيا متهالكا فيها فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك حجابا بينه وبين الله تعالى فالخبط الذي كان حاصلا له في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذلك الحجاب وهذا التأويل أقرب عندي من غيره( ٢٧ ).
و أما الأمر الثاني فهو أن جمهور المفسرين يرون أيضا أن التشبيه في الآية الكريمة على الحقيقة بمعنى أن الآية تشبه حال المرابين بحال المجنون الذي مسه الشيطان لأن الشيطان قد يمس الإنسان فيصيبه بالصرع والجنون.
و لكن الزمخرشي ومن تابعه ينكرون ذلك ويرون ان كون الصرع أو الجنون من الشيطان باطل لأنه يقدر على ذلك فقد قال الزمخشري في تفسيره : وتخبط الشيطان من زعمات العرب يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع والمس الجنون ورجل ممسوس أي مجنون وهذا أيضا من زعماتهم وان الجني يمسه فيختلط عليه وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات " ( ٦٨ ).
و من العلماء الذين تصدوا للرد على الزمخشري ومن تابعه الإمام القرطبي فقد قال :" وفي هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع وان الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس وقد روى النسائي عن أبي اليسر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول : " اللهم إني أعوذ بك من التردي والغرق والهدم والحريق وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا " ( ٦٩ ).
و قال الشيخ أحمد ابن المنير : " و معنى قول الزمخشري ان تخبط الشيطان من زعمات العرب أي من كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها كما يقال في الغول والعنقاء ونحو ذلك وهذا القول من تخبط الشيطان بالقدرية أي المعتزلة في زعاتهم المردودة بقواطع الشرع ثم قال واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه الأمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشرع عنها والقدرية ينكرون كثيرا مما يزعمونه مخالفا لقواعدهم من ذلك السحر وخبطة الشيطان ومعظم أحوال الجن وإن اعترفوا بشيء من ذلك فعلى غير الوجه الذي يعترف به أهل السنة وينبئ عنه ظاهر الشرع في خبط طويل لهم " ( ٧٠ ).
و الذي نراه أن ما عليه جمهور العلماء من التشبيه على الحقيقة هو الحق لأن الشيطان قد يمس الإنسان فيصيبه بالجنون ولأنه لا يسوغ لنا أن نؤول بغير ظاهره بسبب اتجاه لا دليل عليه.
وقوله من المس متعلق بيقومون أي لا يقومون من المس الذي حل بهم بسبب أكلهم الربا إلا كما يقوم المصروع من جنونه.
و قوله تعالى :﴿ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا واحل الله البيع وحرم الربا ﴾ بيان لزعمهم الباطل الذي سوغ لهم التعامل بالربا، ورد عليه بما يهدمه.
واسم الإشارة ذلك يعود إلى الأكل وإلى العقاب الذي نزل بهم والمعنى : ذلك الأكل استحلوه عن طريق الربا او ذلك العذاب الذي حل بهم والذي من مظاهره قيامهم قيام المتخبط سببه قولهم إن البيع الذي أحله يشابه الربا الذي نتعامل به في ان كلا منهما معاوضة.
قال صاحب الكشاف فإن قلت هلا قيل إنما الربا مثل البيع لان الكلام في الربا لا في البيع فوجب أن يقال أنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه وكانت شبهتهم انهم قالوا لو اشترى الرجل الشيء الذي لا يساوي إلا درهما بدرهمين جاز فكذلك إذ باع درهما بدرهمين ؟ قلت جيء به على طريق المبالغة وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانونا في الحل حتى شبهوا به البيع " ( ٧١ ).
و قوله :﴿ وأحل الله البيع وحرم الربا ﴾ جملة مستأنفة وهي رد من الله تعالى عليهم وإنكار لتسويتهم الربا بالبيع.
قال الألوسي : وحاصل هذا الرد من الله تعالى عليهم أن ما ذكرتم من أن الربا مثل البيع قياس فاسد الوضع لأنه معارضة للنص فهو من عمل الشيطان على ان يبين البابين فرقا وهو ان من باع ثوبا يساوي درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو مقابله شيء من الثوب وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بدون عوض ولا يمكن جعل الإهمال عوضا إذ الإمهال ليس بمال في مقابلة المال " ( ٧٢ ).
و قوله :﴿ فمن جاءته موعظة من ربه فانتهى له ما سلف وأمره إلى الله ﴾.
تفريغ على الوعيد السابق في قوله :﴿ الذين يأكلون الربا... ﴾إلخ.
و المجيء بمعنى العلم والبلاغ والموعظة ما يعظ الله تعالى به عباده عن طريق زجرهم وتخويفهم وتذكيرهم بسوء عاقبة المخالفين لأوامره.
أي : فمن بلغه نهي الله تعالى عن الربا فامتثل وأطاع وابتعد عما نهاه الله عنه فله ما سلف أي فله ما تقدم قبضه من مال الربا قبل التحريم وليس له ما تقدم الاتفاق عليه ولم يقبضه لأن الله تعالى يقول بعد ذلك :﴿ و إن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ﴾.
و قوله :{ و أمره إلى الله ؛ أي أمر هذا المرابي الذي تعامل بالربا قبل التحريم واجتنبه بعده أمر مفوض إلى الله تعالى فهو الذي يعامله بما يقتضيه فضله وعفوه وكرمه.
قال ابن الكثير : وقوله :﴿ فمن جاءه موعظة من ربه... ﴾ إلخ من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة لقوله تعالى :﴿ عفا الله عما سلف ﴾ ( المائدة : ٩٥ ). وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " و كل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاته وأول ربا أضع ربا عمي العباس " ( ٧٤ ).
و لم يأمر برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف كما قال تعالى :﴿ فله ما سلف وأمره إلى الله ﴾ أي فله ما كان قد أكل من الربا قبل التحريم ( ٤٧ ).
و " من " في قوله :﴿ من جاءه موعظة ﴾ شرطية وهو الظاهر ويحتمل أن تكون موصلة وعلى التقديرين فهي في محل رفع بالابتداء وقوله فله ما سلف هو الجزاء او الخبر و " موعظة " فاعل جاء وسقطت التاء من الفعل للفصل بينه وبين الفاعل ولكون الموعظة هنا بمعنى الوعظ فهي في معنى المذكر.
و في قوله : " من ربه " تضخيم لشأن الموعظة والطاعة لأنها صادرة من الله تعالى المربي لعباده.
و في هذه الجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر السماحة فيم
ثم بين سبحانه سوء عاقبة المرابين وحسن عاقبة المتصدقين فقال :
٢٧٦- يمحق الله الربا ويربي الصدقات...
و المحق : النقصان والإزالة للشيء حالا بعد حال ومنه محاق القمر أي انتقاصه في الرؤية شيئا فشيئا حتى لا يرى فكأنه زال ذهب ولم يبق منه شيء.
أي : أن المال الذي يدخله الربا يمحقه الله ويذهب بركته وأما المال الذي يبذل منه صاحبه في سبيل الله فإنه سبحانه يباركه وينميه ويزيده لصاحبه.
قال الإمام الرازي عند تفسيره لهذه الآية ما مخلصه : " اعلم انه لما كان الداعي إلى التعامل بالربا تحصيل المزيد من الخيرات والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان المال لما كان كذلك بين- سبحانه- أن الربا وإن كان زيادة في المال إلا انه نقصان في الحقيقة وأن الصدقة وإن كانت نقصانا في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى واللائق بالعاقل ألا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس والدواعي والصوارف بل يعول على ما أمره به الشرع.
ثم قال واعلم أن محق الربا وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة أما محق الربا في الدنيا فمن وجوه إحداهما أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تئول عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عنه ففي الحديث " الربا وإن كثر فإلى قل ". وثانيهما : إن لم ينقص مال فإن عاقبته الذم والنقص سقوط العدالة وزوال الأمانة وثالثها : أن الفقراء يلعنونه ويبغضونه بسبب أخذه لأموالهم. ورابعها أن الأطماع تتوجه إليه من كل ظالم وطماع بسبب اشتهاره أنه قد جمع ماله من الربا ويقولون إن ذلك المال ليس له في الحقيقة فلا يترك في يده.
و أما أن الربا مسبب للمحق في الآخرة فلوجوه منها ان الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهاد ولا صلة رحم كما قال ابن عباس ومنها أن مال الدنيا لا يبقى عند الموت بل الباقي هو العقاب وذلك هو الخسار الأكبر.
و أما إرباء الصدقات في الدنيا فمن وجوه منها : أن من كان لله كان الله له ومن أحسن إلى عباد الله أحسن الله إليه وزاده من فضله ومنها أن يزداد كل يوم في ذكره الجميل وميل القلوب إليه ومنها الفقراء يدعون له بالدعوات الصالحة وتنقطع عنه الأطماع.
و أما إرباؤها في الآخرة فقد روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى يقبل الصدقات ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد " ( ٧٥ ).
ففي هذه الجملة الكريمة بشارة عظيمة للمتصدقين وتهديد شديد للمرابين ثم ختم سبحانه الآية بقوله :
﴿ و الله لا يحب كل كفار أثيم ﴾ و " كفار " من كفر بمعنى ستر وأخفى وجحد فهي صيغة مبالغة لكافر.
و أثيم فعيل بمعنى فاعل فهي صيغة مبالغة من آثم والأثيم هو المكثر من ارتكاب الآثام المبطئ عن فعل الخيرات.
أي أن الله تعالى لا يرضى عن كل من كان شأنه الستر لنعمه والجحود بها والتمادي في ارتكاب المنكرات والابتعاد عن فعل الخيرات.
و قد جمع سبحانه بين الوصفين للإشارة إلى أن إيمان المرابين ناقص إن لم يستحلوه وهم كفار إن استحلوه وهم الحالتين آثمون معاقبون بعيدون عن محبة الله ورضاه وسيعاقب سبحانه الناقصين في إيمانهم والكافرين به بما يستحقون من عقوبات.
فالجملة الكريمة تهديد شديد لمن استحلوا الربا أو فعلوه مع عدم استحلالهم له.
و بعد هذا التهديد الشديد للمتعاملين بالربا ساق سبحانه آية فيها أحسن البشارات للمؤمنين الصادقين فقال تعالى :
٢٧٧- ﴿ إن الذين آمنوا ﴾ أي إيمانا كاملا بكل ما أمر الله به وعملوا الصالحات أي الأعمال الصالحة التي تصلح بها نفوسهم والتي من جملتها الإحسان إلى المحتاجين والابتعاد عن الربا والمرابين وأقاموا الصلاة بالطريقة التي أمر الله بها بأن يؤدوها في أوقات وخشوع واطمئنان وآتوا الزكاة آي أعطوها لمستحقيها بإخلاص وطيب نفس.
هؤلاء الذين اتصفوا بكل هذه الصفات الفاضلة لهم أجرهم عند ربهم أي لهم ثوابهم الكامل عند خالقهم ورازقهم ومربيهم.
﴿ و لا خوف عليهم ﴾ يوم الفزع الأكبر ﴿ و لا هم يحزنون ﴾ لأي سبب من الأسباب لأن ما هم فيه من آمان واطمئنان ورضوان من الله تعالى يجعلهم في فرح دائم وفي سرور مقيم.
ثم ينتقل القرآن الكريم إلى أسلوب الخطاب المباشر للمؤمنين فيأمرهم بتقوى الله وينهاهم عن التعامل بالربا فيقول :
٢٧٨- ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله... ﴾ أي اخشوه وصونوا أنفسكم عن الأعمال والأقوال التي تفضي بكم إلى عقابه.
و قوله :﴿ و ذروا ما بقي من الربا ﴾ أي : اتركوا ما بقي في ذم الذين عاملتموهم بالربا ولا تأخذوا منهم إلا رؤوس أموالكم فحسب هذا مقابل لقوله تعالى قبل ذلك فله ما سلف أي ما سلف قبضه من الربا قبل نزول الآية فهو لكم وما لم تقبضوه فأنتم مأمورون بتركه.
و قوله من الربا متعلق بمحذوف على انه حال من فاعل بقي أي اتركوا الذي بقي حال كونه بعض الربا ومن التبعيض أو متعلق ببقي.
و ذروا فعل أمر بوزن علوا مبني على حذف النون والواو فاعل وأصله وذروا فحذفت فاؤه والماضي منه " وذر ".
و قوله :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ حض لهم على ترك الربا أي إن كنتم مؤمنين حق الإيمان فامتثلوا أمر الله وذروا ما بقي من الربا مما زاد على رؤوس أموالكم.
قال ابن الكثير : نزل هذا السياق في بني عمرو بن عمير بن ثقيف وبني المغيرة من بني مخزوم كان بينهم ربا في الجاهلية فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم فتشاوروا وقالت بنو المغيرة : لا نؤدى في الإسلام فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقالوا : نتوب على الله ونذر ما بقي من الربا فتركوه كلهم وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لكل من استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار " ( ٧٢ ).
هذا والمتدبر في هذه الآيات التي وردت في موضوع الربا يراها قد نفرت منه تنفيرا شديدا وتوعدت متعاطيه بأشد العقوبات وشبهت الذين يأكلونه بتشبيهات تفزع منها النفوس وتشمئز منها القلوب وحضت المؤمنين على أن يلتزموا في معاملاتهم ما شرعه الله لهم وأن يتسامحوا مع المعسرين ويتصدقوا عليهم بما يستطيعون التصدق به.
و قد تكلم الفقهاء ( ٨٢ ) وبعض المفسرين عن الربا وأقسامه وحكمة تحريمه كلاما مستفيضا قال بعضهم : الربا قسمان : ربا النسيئة وربا الفضل.
فربا النسيئة : هو الذي كان معروفا بين العرب في الجاهلية وهو أنهم كانوا يدفعون المال على ان يأخذوه في موعد معين فإذا حل الأجل طولب المدين برأس المال كاملا فإذا تعذر الأداء زادوا في الحق وفي الأجل.
و ربا الفضل : ان يباع درهم بدرهمين أو دينار بدينارين أو رطل برطلين أو شعير كيلة بكيلتين.
و كان ابن عباس في أول الأمر لا يحرم إلا ربا النسيئة وكان يجيز ربا الفضل اعتمادا على ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما الربا في النسيئة " ( ٧٣ ) ولكن لما تواتر عنده الخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد " ( ٧٤ ) رجع عن قوله لأن قوله صلى الله عليه وسلم " إنما الربا في النسيئة " محمول على اختلاف الجنس فإن النسيئة تحريم ويباح التفاضل كبيع الحنطة بالشعير. تحرم فيه النسيئة ويباح فيه التفاضل.
و لذلك وقع الاتفاق على تحريم الربا في القسمين أما ربا النسيئة فقد ثبت تحريمه بالقرآن كما في قوله تعالى :﴿ و أحل الله البيع وحرم الربا ﴾.
و أما ربا الفضل فقد ثبت تحريمه بالحديث الصحيح الذي رواه عبادة الصامت ان النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كانت يدا بيد " ( ٧٥ ).
و قد اشتهرت رواية هذا الحديث حتى صارت مسلمة عند الجميع وجمهور العلماء على ان الحرمة ليست مقصورة على هذه الأشياء الستة بل تتعداها إلى غيرها مما يتحد معها في العلة وقد فسر بعضهم هذه العلة باتحاد الجنس والقدر... " ( ٧٦ ).
و من الحكم التي ذكرت في أسباب تحريم الربا أنه يقتضي أخذ المال من الغير بدون عوض ويؤدي إلى امتناع أصحاب الأموال عن تحمل المشاق في الكسب والتجارة والصناعة واستغلال حاجة المحتاج أسوأ استغلال وكل ذلك يقضي إلى إشاعة روح التباغض والتخاصم والتحاسد بين أفراد المجتمع كما سبق أن أشرنا.
و من الأحاديث الشريفة التي وردت في التحذير من تعاطي الربا ما رواه الشيخان عن أبي هريرة ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات أي الهلكات قالوا يا رسول الله وما هن ؟ قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " ( ٨٧ ).
واخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه " ( ٨٨ ).
ثم هدد الله تعالى كل من يتعامل بالربا تهديدا عنيفا فقال :
٢٧٩- ﴿ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ﴾
أي : فإن لم تتركوا الربا وأخذتم منه شيئا بعد نهيكم عن ذلك فكونوا على علم ويقين بحرب كائنة من الله تعالى ورسوله ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبدا.
و قوله : " فأذنوا " من أذن بالشيء يأذن إذا علمه وقرئ فأذنوا من آذنه الأمر وآذنه به وأعلمه إياه : أي أعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ورسوله.
و تنكير " حرب " للتهويل والتعظيم أي فكونوا على علم ويقين من أن حربا عظيمة ستنزل عليكم من الله ورسوله.
قال بعضهم والمراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب وقال آخرون المراد نفس الحرب بمعنى إصرار على عمل الربا إن كان من شخص وقدر عليه الإمام قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من الحبس والتعزير إلى أن تظهر منه التوبة وإن وقع ممن يكون له عسكر وشوكة، حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية وكما حارب أبو بكر الصديق مانعي الزكاة.
وقال ابن عباس : " من تعامل بالربا يستتاب فإن تاب فبها وإلا ضرب عنقه " ( ٧٧ ).
ثم بين سبحانه ما يجب عليهم عند توبتهم عن التعامل بالربا فقال :
﴿ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ﴾.
أي وإن تبتم عن التعامل بالربا الذي يوجب الحرب عليكم من الله ورسوله فلكم رؤوس أموالكم أي أصولها بان تأخذوها ولا تأخذوا سواها وبذلك لا تكونون ظالمين لغرمائكم ولا يكونون هم ظالمين لكم لأن من أخذ رأس ماله بدون زيادة كان مسقطا ومتفضلا ومن دفع بدون إنقاص منه كان صادقا في معاملته.
ثم أمر الله تعالى الدائنين أن يصبروا على المدنيين الذين لا يجدون ما يؤدونه من ديونهم فقال تعالى :
٢٨٠- ﴿ و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى مسيرة ﴾.
و العسرة : اسم الإعسار وهو تعذر الموجود من المال يقال أعسر الرجل إذا صار إلى حالة العسرة وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال.
و النظرة : اسم من الإنظار بمعنى الإهمال يقال نظره وانتظره وتنظره تأنى عليه وأهمله في الطلب.
و الميسرة مفعلة من اليسر الذي هو ضد الإعسار يقال أيسر الرجل فهو موسر إذا اغتنى وكثر ماله وحسنت حاله.
و المعنى : وإن وجد مدين معسر فأمهلوه في أداء دينه إلى الوقت الذي يتمكن فيه من سداد ما عليه من ديونه ولا تكونوا كأهل الجاهلية الذين كان الواحد منهم إذا كان له دين على شخص وحل موعد الدين طالبه بشدة وقال له إما أن تقضي وإما أن تربي أي أن تدفع زيادة على أصل الدين.
و " كان " هنا الظاهر أنها تامة بمعنى وجد أو حدث فتكفي بفاعلها كسائر الأفعال وقيل يجوز أن تكون ناقصة واسمها ضمير مستكن فيها يعود إلى المدين إن لم يذكر وقوله : " فنظرة " الفاء جواب الشرط ونظرة خبر لمبتدأ محذوف أي فالأمر او فالواجب أو مبتدأ محذوف الخبر أي فعليكم نظرة.
ثم حبب سبحانه إلى عباده التصديق بكل أو ببعض ما لهم من ديون على المدينين المعسرين فقال تعالى :{ و ان تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون.
أي فإن فعلتم هذا يكون أكثر ثوابا لكم من الإنظار.
و جواب الشرط في قوله :﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ محذوف أي إن كنتم تعلمون ان هذا التصدق خير لكم فلا تتباطؤوا في فعله بل سارعوا إلى تنفيذه فإن التصدق بالدين على المعسر ثوابه جزيل عند الله تعالى
و قد أورد بعض المفسرين جملة من الأحاديث النبوية التي تحض على إهمال المعسر والتجاوز عما عليه من ديون.
و من ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة " ( ٧٨ ).
وروى الطبراني عن أسعد بن زرارة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يظله الله يوم لا يظل إلا ظله فلييسر على معسر أو ليضع عنه " ( ٧٩ ).
و روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر " ( ٨٠ ).
ثم ساق سبحانه في ختام حديثه عن الربا آية كريمة ذكر الناس فيها بزوال الدنيا وفناء ما فيها من أموال وبالاستعداد للآخرة وما فيها من حساب فقال.. تعالى :﴿ و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾.
أي : واحذروا أيها المؤمنون يوما عظيما في أهواله وشدائده وهو يوم القيامة الذي تعودوا فيه إلى خالقكم فيحاسبكم على أعمالكم ثم يجازي سبحانه كل نفس بما كسيت من خير أو شر بمقتضى عدله وفضله ولا يظلم ربك أحدا.
فالآية الكريمة تعقيب حكيم يتناسب كل التناسب مع جو المعاملات والأخذ والعطاء حتى يبتعد الناس عن كل معاملة لم يأذن بها الله تعالى.
قال الألوسي : أخرج غير واحد عن ابن عباس أن هذه الآية هي آخر ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن واختلف من مدة بقائه بعدها فقيل تسع ليال وقيل سبعة أيام وقيل واحد وعشرين يوما وروى أنه قال اجعلوها بين آيات الربا وآية الدين.. " ( ٨١ ).
و بعد أن أمر سبحانه المؤمنين أن يسارعوا في التصدق على المحتاجين وأن يجتنبوا الربا والمرابين وبين لهم ان أموالهم تزكو وتنمو بالإنفاق في وجوه الخير وتمحق وتذهب بتعاطي الربا بعد ان وضح كل ذلك ساق لهم آية جامعة متى اتبعوا توجيهاتها واستطاعوا أن يحفظوا أموالهم بأفضل طريق وأشرف وسيلة وأن يصونوها عن الهلاك والضياع عندما يعطي أحدهم أخاه شيئا من المال على سبيل الدين او القرض الحسن المنزه عن الربا استمع إلى القرآن وهو يتكلم عن أحكام الدين وعن أحكام بعض المعاملات التجارية الحاضرة فيقول :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو وضيعا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونوا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ﴾
قال ابن كثير : قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ﴾ هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها وقد نبه على ذلك في آخر الآية حيث قال :﴿ ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ﴾.
و روى البخاري عن ابن عباس أنه قال : أشهد ان السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله وأذن فيه ثم قرأ :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم.. ﴾ الآية.
و ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلقون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " ( ٨٩ ).
و معنى ﴿ تداينتم ﴾ تعاملتم بالدين وداين بعضكم بعضا، وحقيقة الدين كما يقول القرطبي : " عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة فإن العين عند العرب ما كان حاضرا والدين ما كان غائبا " ( ٩٠ ).
و الأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد واجل الإنسان الوقت المحدد لانقضاء عمره وأجل الدين هو الوقت المعين لأدائه في المستقبل وأصله من التأخير يقال أجل الشيء يأجل أي تأخر والآجل نقيض العاجل.
و المعنى : أيها الذين آمنوا إذا عامل بعضكم بعضا بالدين إلى وقت معين فاكتبوا هذا الدين لأن في هذه الكتابة حفظا له وضبطا لمقداره ومنعا للتنازع من ان يقع بينكم.
قال صاحب الكشاف فإن قلت هلا قيل إذا تداينتم إلى أجل مسمى وأي حاجة إلى ذكر الدين ؟ قلت : ذكر لفظ الدين ليرجع الضمير إليه في قوله : فاكتبوه إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال.
فإن قلت : ما فائدة قوله : مسمى. قلت : ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام ولو قال إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج لم يجز لعدم التسمية " ( ٩١ ).
و جمهور العلماء على ان الأمر في قوله : " فاكتبوه " للندب ولأن الله تعالى قد قال بعد ذلك :﴿ فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته ﴾ ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم الدائنين بكتابة ديونهم ولا المدينين بأن يكتبوها.
و قال الظاهرية إن الأمر هنا للوجوب ومن لم يفعل ذلك كان آثما لأن الأصل في الأمر للوجوب...
وقوله :﴿ وليكتب بينكم كاتبا بالعدل ﴾ بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها عقب الأمر بها على سبيل الإجمال.
أي : عليكم أيها المؤمنون إذا تعاملتم بالدين إلى أجل معين أن تكتبوا هذا الدين وليتول الكتابة بينكم شخص يجيدها وعنده فقهها وعلمها بأن يكون على معرفة بشروط العقود وتوثيقها وما يكون من الشروط موافقا لشريعة الإسلام وما يكون منها غير موافق.
و على هذا الكتاب أن يلتزم الحق مع الدائن والمدين في كتابته لأن الله تعالى يقول :﴿ و لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ﴾ ( المائدة : ٨ ). فالجملة الكريمة تحض المتعاملين بالدين ان يختاروا لكتابته شخصا تتوافر فيه إجادة الكتابة والخبرة بشروط العقود وتوثيقها كما تتوافر فيه الاستقامة وتحري الحق. ومفعول " يكتب " محذوف ثقة بالفهامة أي وليكتب بينكم الكتابة كاتب بالعدل والتقييد والظرف بينكم للإيذان بأنه ينبغي للكتاب ألا يسمح لنفسه بأن ينفرد به أحد المتعاقدين لأن في هذا الانفراد تهمة يجب ان يربأ بنفسه عنها.
و الجار والمجرور وهو : " بالعدل " متعلق بمحذوف صفة لكاتب المتصدى للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين أو متعلق بالفعل يكتب أي وليكتب بالحق.
ثم نهى الله تعالى من كان قادرا على الكتابة عن الامتناع عنها متى دعى إليها فقال ولا يأب كاتب أن يكتب عما علمه الله فليكتب.
أي : ولا يمتنع كاتب من ان يكتب للمتداينين ديونهما بالطريقة التي علمه الله بأن يتحرى العدل والحق في كتابته وان يلتزم فيها ما تقتضيه أحكام الشريعة الإسلامية.
فالكاف ومجرورها في قوله تعالى :﴿ كما علمه الله ﴾ نعت لمصدر محذوف والتقدير : فليكتب كتابه مثل ما علمه الله تعالى بمعنى أن يلتزم الحق والعدل فيها.
و يجوز ان تكون الكاف للتعليل فيكون المعنى لا يمتنع عن الكتابة لأنه كما علمه الله إياها ويسرها له ونفعه بها فعليه ان ينفع غيره بها فهو كقوله تعالى :﴿ و أحسن كما أحسن الله إليك ﴾ ( القصص ٧٧ ). وفي الحديث الشريف :" إن من الصدقة أن تعين صانعا أو تصنع لأخرق " ( ٩٢ ). وفي حديث " من كتم علما يعلمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " ( ٩٣ ).
و قوله :﴿ فليكتب ﴾ تفريع على قوله :﴿ و لا يأب كاتب ﴾ أي فليكتب الكتابة التي علمه الله إياها فهو توكيد للأمر المستفاد من قوله ولا يأب كاتب أي فليكتب الكتابة التي علمه الله إياها فهو توكيد للأمر المستفاد من قوله ولا يأب كاتب ويجوز أن يكون توكيدا للأمر الصريح في قوله وليكتب بينكم كاتب بالعدل.
قال القرطبي : واختلف الناس في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد فقال الطبري : واجب الكاتب إذا أمر أن يكتب وقال الحسن : ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يقدر على كاتب غيره فيضر صاحب الدين إن امتنع فإن كان كذلك فهو فريضة وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام بها غيره " ( ٩٤ ).
و إلى هنا تكون الآية الكريمة قد قررت مبدأ الكتابة في الدين وبينت كيفية الكتابة وأشارت إلى إجادة الكاتب لها ونهته عن الامتناع عنها إذا دعى لها.
ثم انتقلت الآية بعد ذلك إلى بيان من يتولى الإملاء فقال تعالى :﴿ و لملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا ﴾.
و الإملال معناه الإملاء فهما لغتان معناهما واحد وقد جاء القرآن باللغتين فقال تعالى :﴿ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ﴾. ( الفرقان : ٥ ).
أي وعلى المدين الذي عليه الدين وقد التزم بأدائه أن يمل على الكاتب هذا الدين وذلك ليكون إملاؤه إقرارا به وبالحقوق التي يجب عليه الوفاء بها. وعليه كذلك أن يراقب الله تعالى في إملائه فلا ينقص من الدين الذي عليه شيئا لأن هذا الإنقاص ظلم حرمه الله تعالى وقد أمر الله تعالى بأن يكون الذي يملي على الكاتب هو المدين لانه هو المكلف بأداء مضمون الكتابة ولأنه بإملائه يكون قد أقر على نفسه بما عليه ولأنه لو أملى الدائن فربما يزيد في الدين أو يملي شيئا ليس محل اتفاق بينه وبين المدين في الغالب في موقف ضعيف فأعطاه الله تعالى حق الإملاء على الكاتب حتى لا يغبن من الدائن.
فأنت ترى أن الله تعالى قد مكن المدين من الإملاء على الكاتب حتى تكون الكتابة تحت سمعه وبصره وباختياره و لكنه في الوقت نفسه أوجب عليه أمرين تقوى الله وعدم الإنقاص من الدين الذي عليه وان ذلك لتشريع حكيم عادل لا ظلم فيه للدائن ولا للمدين.
ثم بين سبحانه الحكم فيما إذا كان الذي عليه الدين لا يحسن الإملاء فقال تعالى :﴿ فإن كان الذي عليه الحق ﴾ وهو المدين ﴿ سفيها ﴾ أي جاهلا بالإملاء أو ناقص العقل أو متلافا مبذرا لا يحسن تدبير أمره.
أو ضعيفا بان يكون صبيا أو شيخا تقدمت به الشيخوخة.
﴿ أو لا يستطيع ان يمل هو ﴾ بان يكون عييا أو أخرسا أو لا خبرة له بإملاء أمثال هذه المكاتبات.
﴿ فليملل وليه بالعدل ﴾ أي فعلى ولي أمره أو من يهمه شأنه ولا يرضى له أن يضيع حقه أن يتولى الإملاء متحريا الحق والعدل فيما يكلف به.
و بعد هذا البيان الحكيم عن الكتابة وأحكامها في شأن الديون انتقل القرآن إلى الحديث عن الإشهاد فيه قال تعالى :{ واستشهدوا شهيدين من رجالكم أي اطلبوا شاهدين عدليين من الرجال ليشهدوا على ما يجري بينكم من معاملات مؤجلة لأن هذا الإشهاد يعطي الديون والكتابة وتثبيتا والسين والتاء في قوله :
" واستشهدوا " للطلب.
قال الألوسي : " و في اختيار صيغة المبالغة في شهيدين للإيماء إلى من تكررت منه الشهادة فهو عالم بها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزا إلى العدالة لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك والامر وللندب أو للوجوب على الخلاف في ذلك " ( ٩٥ ).
و قوله :﴿ من رجالكم ﴾ متعلق بقوله :﴿ و استشهدوا ﴾ ومن لابتداء الغاية ويجوز ان يكون متعلقا بمحذوف صفة لشهيدين ومن للتبعيض أي من رجالكم المسلمين الأحرار فإن الكلام في معاملاتهم.
ثم بين سبحانه الحكم إذا لم يتيسر شاهدان من الرجال فقال :﴿ فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ﴾.
و قوله :﴿ ممن ترضون ﴾
متعلق بمحذوف على انه صفة لرجل وامرأتان أي فإن لم يتيسر رجلان للشهادة فليشهد رجل وامرأتان كائنون مرضيين عندكم بعدالتهم.
وهذا الوصف وإن كان في جميع الشهود إلا انه ذكر هنا للتشدد في اعتباره لأن اتصاف النساء به قد لا يتوافر كثيرا.
وقوله :﴿ من الشهداء ﴾ متعلق بمحذوف حال من ضمير المفعول المقدر في " ترضون " العائد إلى الموصول : أي فليشهد رجل وامرأتان ممن ترضونهم حال كونهم من بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وثقتكم بهم.
و قوله تعالى :﴿ ممن ترضون من الشهداء ﴾ أدق في الدلالة على صدق الشهادة من العدالة لأن الإنسان العدل قد يكون مرضيا في دينه وخلقه و لكنه يتأثر بالمشاهد المؤثرة فتخونه ذاكرته في وقت الحاجة إليها وقد يكون ممن يمنعه منصبه وجاهه ومقامه في الناس من الكذب إلا أنه قد يرتكب بعض المعاصي فجاء سبحانه بهذه الجملة الحكيمة لكي يقول للناس : اختاروا الشهداء من الذين يرتضى قولهم ويقيمون الشهادة على وجهها بدون التأثر بأي نوع من أنواع المأثرات.
هذا وشهادة النساء مع الرجال عند الحنفية في الأموال والطلاق والنكاح والرجعة وكل شيء إلا الحدود والقصاص
﴿ و إن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن آمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعلمون عليم ﴾
المفردات :
و إن كنتم على سفر : أي مسافرين فعلا ولذا عبر بقوله : على سفر إشعارا بمباشرتهم له وتمكنهم منه تمكن الراكب مما يركبه.
فرهان مقبوضة : الرهان جمع رهن وهو ما يأخذه الدائن من الأعيان ذات القيمة ضمانا لدينه وهو في الأصل مصدر وشاع استعماله في العين المرهونة حتى أصبح حقيقة عرفية فيها.
التفسير :
٢٨٣- ﴿ و إن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة... ﴾ لحظ في الآيات لونا من ألوان التدرج في التسريع فقد بين الله الكتابة في الديون والإشهاد عليها مطلوبان فإن تعذرت الكتابة والشهادة لسبب من الأسباب فإنه يترخص حينئذ بالرهن المقبوض.
و قد يتعمد الدائن على أمانة المدين وسلامة ذمته فيجب على المدين أن يقدر هذه الأمانة قال تعالى :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ ( النساء : ٥٨ ).
معنى الآية : وإذا كنتم أيها المتداينون مسافرين ولم تجدوا كاتبا يكتب بينكم الدين فالذي يستوثق به حينئذ رهان يقبضها الدائنون وتبقى عندهم حتى أداء الدين فترد إلى المدين.
و إذا أودع أحدكم آخر وديعة تكون أمانة عنده وقد اعتمد على أمانته فليؤد الوديع المؤتمن الأمانة عند طلبها وليخش الله الذي رباه وتولاه بالعناية حتى لا يقطع عنه نعمته في الدنيا والآخرة.
و لا تخفوا الشهادة بما علمتم إذا دعيتم لأدائها ومن يكتم الشهادة بالحق فهو آثم خبيث القلب والله مطلع على أعمالكم عليم بما تعملون من خير وشر وسيجازيكم عليها حسب ما تستحقون.
في أعقاب الآية :
١- أخذ مجاهد بظاهر الآية فلم يجز الرهن إلا في السفر وقيده الضحاك في السفر بفقدان الكاتب ولكن الراجح جواز الرهن سفرا وحضرا.
قال القرطبي : ولم يرو عن أحد منع الرهن في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود متمسكين بالآية ولا حجة فيها لهم، هذا الكلام وإن خرج مخرج الشرط فالمراد به غالب الأحوال وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر في غيره ( ٩٨ ).
٢- روى البخاري ان النبي صلى الله عليه وسلم " رهن درعه في المدينة عند يهودي على ثلاثين صاعا من شعير ( ٩٩ ). ومن الواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رهن درعه كان قيما ولم يكن مسافرا.
٣- أخذ بعض الفقهاء من قوله تعالى :﴿ فرهان مقبوضة ﴾ أن الرهن لا يتم إلا بالقبض فإذا افترق المتقاعدان من غير قبض كان الرهن غير صحيح بنص الآية وهذا مذهب الأحناف والشافعية ويرى المالكية والحنابلة أن الرهن يتم من غير القبض لأن القبض حكم من أحكامه فمن حق الدائن بعد تمام عقد الرهن أن يطالب بقبض العين المرهونة فالقبض حكم من أحكام العقد وليس ركنا من أركانه ولا شرطا لتمامه.
٤- حث القرآن على أداء الشهادة بالحق قال تعالى :
﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ﴾. ( النساء : ١٣٥ ).
و هذه درة في جبين التربية الإسلامية وذليل على عناية القرآن بتكوين شخصية المسلم وتثبيت معالم الحق والفضيلة ومحاربة الجبن والرذيلة وقد نهى القرآن عن كتمان الشهادة.
و في هذه الآية :
﴿ ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قبله ﴾. وقد نسب الإثم إلى القلب لأن كتمان الشهادة من أعمال القلب وإذا أثم القلب أثم صاحبه لأن العبرة بأفعال القلوب ولذا رفعت المؤاخذة عمن يفعل المعصية ناسيا لأنه لا قصد له فيها.
" ولأن القلب رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله فكأنه قيل فقد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان منه( ١٠٠ ).
روى الشيخان ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " ( ١٠١ ).
﴿ لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ﴾
المفردات :
تبدوا ما في أنفسكم : تظهروه
يحاسبكم به : أي يبينه لكم ويجازيكم عليه
التفسير :
٢٨٤- ﴿ لله ما في السموات وما في الأرض.. ﴾الآية. لله ما في السموات وما في الأرض من أجزائها وما استقر فيهما لا يشاركه في خلقها او في ملكها أو التصرف فيها شريك فله أن يلزمكم أيها العباد بما يشاء من التكاليف وعليكم أيها العباد أن تطيعوه ولا تعصوه.
و الله سبحانه وتعالى يحاسبكم أيها العباد على نياتكم وما تكسبه قلوبكم سواء أأخفيتموه أم أظهرتموه.
و قد بين المحققون من العلماء أن هذه المحاسبة إنما تكون على ما يغزم عليه الإنسان وينويه ويصر على فعله سواء أنفذ ما اعتزم عليه أم حالت دونه حوائل خارجة عن إرادته كمن عزم على السرقة وأصر عليها ثم وجد الشرطي فتركها.
و في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تكلم " ( ١٠٢ ).
و اخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال : " إن الله كتم الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده سيئة واحدة " ١٠٣ ).
و روى عن أبي هريرة قال : " جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه فقالوا إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال وجدتموه ؟ قالوا : نعم قال : ذلك صريح الإيمان، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال : تلك صريح الإيمان( ١٠٤ ).
و في كتب التفسير أن الصحابة لما سمعوا هذه الآية رقت قلوبهم ودمعت عيونهم وخافوا أن يحاسبهم الله على خطرات أنفسهم وهم لا يملكونها ولا يستطيعون التحكم فيها حيث قال سبحانه :﴿ و إن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ﴾ ( البقرة ٢٨٤ ).
فلما فعلوا نسخها الله فأنزل :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ ( البقرة ٢٨٦ ).
و روى ابن جرير الطبري عن مجاهد والضحاك أنه قال : هي محكمة لم تنسخ واختار ابن جرير ذلك واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة وأنه تعالى قد يحاسب ويغفر وقد يحاسب ويعاقب.
و قد ورد في الصحيحين من طرق متعددة وعن قتادة عن صفوان بن محرز قال بينا نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمرو وهو يطوف إذ عرض له رجل فقال يا بن عمر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم يقول في النجوى ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول له : هل تعرف كذا ؟ فيقول رب اغفر اعرف مرتين حتى إذا بلغ ما شاء الله به ان يبلغ قال : إني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته او كتابه بيمينه وأما الكفار المنافقين فينادي بهم رءوس الأشهاد :﴿ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ﴾ ( هود ١٨ ). ( ١٠٥ ).
و جاء في تفسير الألوسي : المؤاخذة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات وليس كذلك سائر ما يحدث في النفس أي من خواطر لا تصميم ولا عزم معها قال بعضهم :
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا
فخاطر حديث النفس فاستمعا
يليه هم فعزم كلها رفعت
سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا ( ١٠٦ ).
و جاء في ظلال القرآن : " وهكذا يعقب على التشريع المدني البحث بهذا التوجيه الوجداني البحث ويربط بين التشريعات للحياة وخالق الحياة بذلك الرباط الوثيق المؤلف من الخوف والرجاء في مالك الأرض والسماء فيضيف إلى ضمانات التشريع القانونية ضمانات القلب الوجدانية وهي الضمان الوثيق المميز لشرائع الإسلام في قلوب المسلمين في المجتمع المسلم. وهي التشريع في الإسلام متكاملان فالإسلام يصنع القلوب التي يشرع لها ويصنع المجتمع الذي يقنن له صنعة إلهية متكاملة متناسقة تربية وتشريعا وتقوى وسلطانا و منهجا للإنسان من صنع الخالق الإنسان فأنى تذهب شرائع الأرض وقوانين الأرض ومناهج الأرض ؟ أني تذهب نظرة إنسان قاصر محدود العمر محدود المعرفة محدود الرؤية يتقلب هواه وهناك فلا يستقر على حال ولا يكاد يجتمع اثنان على رأي ولا رؤية ولا على إدراك ؟..
ألا إنها الشقوة البشرية في هذا الشرود عن منهج الله وشرعه.
الشقوة التي بدأت في الغرب هربا من الكنيسة الطاغية الباغية هناك... ومن إلهها الذي كانت تزعم أنها تنطق باسمه وتحرم على الناس أن يتفكروا أو يتدبروا وتفرض عليهم باسمه الإتاوات الباهضة والاستبداد المنفر فلما هم الناس أن يتخلصوا من هذا الكابوس تخلصوا من الكنيسة وسلطانها ولكنهم لم يقفوا عند حد الاعتدال فتخلصوا كذلك من إله الكنيسة وسلطانه ثم تخلصوا من كل دين يقودهم في حياتهم الأرضية بمنهج الله... وكانت الشقوة وكان البلاء ( ١٠٧ ).
فأما نحن - نحن الذين نزعم الإسلام فما بالنا ؟ ما بالنا نشرد عن الله ومنهجه وشريعته وقانونه ؟ ما بالنا وديننا السمح القويم لم يفرض علينا إلا كل ما يرفع الأغلال ويحط عنا الأثقال ويؤدي إلى الرقي والفلاح ؟ ( ١٠٨ ).
﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمومنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ﴾
المفردات :
و ملائكته : الملائكة أجسام نورانية قادرة على التشكل خلقوا للطاعة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
التفسير :
٢٨٥- ﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون... ﴾
هذا ختام سورة البقرة أطول سورة في القرآن السورة التي اشتملت على التشريع وساهمت في بناء الفرد وتكوين المجتمع.
قال الزجاج رحمه الله لما ذكر الله عز وجل في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصيام والحج والطلاق والحيض والإيلاء والجهاد وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين لجميع ذلك المذكور قبله وغيره ليكون تأكيدا له ( ١٠٩ ).
معنى الآية :
آمن الرسول بما أزل إليه من ربه في هذه السورة وغيرها إجمالا وتفصيلا وآمن المؤمنون به كذلك :﴿ كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ﴾. كل من النبي وأفراد المؤمنين صدق الله وما يتصف به من كل كمال وما يتنزه به عن كل نقص وصدق بملائكته وطهارتهم من المعاصي أنهم منفذون لأوامر الله تعالى وأن بعضهم سفراء بينه تعالى وبين رسله الأكرمين وآمن بكتبه التي أنزلها على رسله متعبدا بها عباده وآمن برسله من حيث إنهم مبلغون لكتبه وشرائعه إلى خلقه.
﴿ لا نفرق بين احد من رسله ﴾ بل نؤمن بهم جميعا فهم رسل الله إلى خلقه فمن كفر بأحدهم فهو كافر بهم جميعا ولا نقول كما قال الضالون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ( النساء : ١٥٠ ).
﴿ و قالوا سمعنا واطعنا ﴾ أي : قالوا بلغنا الرسول فسمعنا القول سماع تدبر وفهم وأطعنا ما فيه من الأوامر والنواهي طاعة إذعان وانقياد.
﴿ غفرانك ربنا ﴾ : أي اغفر لنا غفرانك أو نسألك غفرانك ذنوبنا.
﴿ و إليك المصير ﴾ : أي الرجوع بالموت والبعث إليك وحدك لا إلى غيرك ومنك وحدك يكون الحساب والثواب والعقاب :{ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم " ( الشعراء ٨٨-٨٩ ).
﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ﴾
تختم هذه سورة بالآية الكريمة وفيها يسر التشريع وسماحة الإسلام فتكاليفه في متناول البشر. الصلوات الخمس والصوم شهر في السنة والزكاة نسبة قليلة من المال والحج فريضة لمن استطاع إليه سبيلا وعند المرض والسفر يباح للإنسان قصر الصلاة وجمعها ويباح للصائم في رمضان الفطر والقضاء وفي كثير من تشريعات الإسلام تتجلى سماحة هذا الدين ومراعاته لطبيعة الإنسان.
فالشريعة يسر كلها ورحمة كلها وعدل كلها قال تعالى :﴿ يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾ ( البقرة ١٨٥ ).
و قال سبحانه :﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ﴾ ( المائدة٦ ).
و يقول النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا.. ﴾ ( ١١٠ ).
و مجمل معنى الفقرة الأولى : إن الله لا يكلف عباده إلا ما يستطيعون تأديتة والقيام به ولذلك كان كل مكلف مجزيا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ومن الفقرة تتضح المسؤولية الفردية وتحمل الإنسان لتبعات عمله فهو أهل الجزاء الحسن إذا أحسن وهو يستحق للمؤاخذة إذا أساء قال تعالى :
﴿ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ ( الجاثية ٢١ ).
و تسترسل الآية في دعاء رخي ندي يملأ القلب نورا والنفس خيرا وبركة.
﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ﴾ ربنا لا تعاقبنا إن وقعنا في النسيان لما كلفتنا إياه، او أهملنا أسباب السلامة فوقعنا في الخطأ بسبب ضعف أو قصور.
فقد فتحت باب التوبة للتائبين وقبلت رجوع المذنبين إليك ولم تغلق في وجهم باب رحمتك.
قال تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ﴾. ( الزمر ٥٣ ).
﴿ ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ﴾ الإصر معناه العبء الثقيل مأخوذ من أصره يأصره أي حبسه والمراد التكاليف الشاقة أي ربنا ولا تحمل علينا عبئا ثقيلا كما حملته على الذين من قبلنا ولا تشدد علينا في التشريع كما شددت على اليهود بسبب تعنتهم وظلمهم.
فمن شرائعهم قتل النفس في التوبة او في القصاص لأنه لا يجوز غيره في شريعتهم وقطع موضع النجاسة من الثوب ونحوه وصرف ربع المال في الزكاة.
قال تعالى :﴿ و على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو اختلط بعظم ﴾ ( الأنعام ١٤٦ ).
على أن الإصر الأكبر الذي رفعه لله عن هذه الأمة هو إصر العبودية للبشر عبودية العبد للعبد فالله ينادينا في القرآن بأنه قريب لا يحتاج إلى واسطة :﴿ وإذا سالك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ﴾ ( البقرة ١٨٦ ).
ولا بأس أن ننقل هنا طائفة مما حمله بنو إسرائيل من الآصار و العناء ننقله عن أسفارهم في سفر الخروج في الإصحاح الحادي والعشرين :
( ١٥ ) ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلا.
( ١٦ ) ومن سرق إنسانا وباعه أو وجد في يده يقتل قتلا.
( ١٧ ) ومن شتم أباه أو أمه يقتل قتلا.
و في سفر اللاويين في الإصحاح الحادي عشر تحريم بعض الطيور وفيه آصار كثيرة منها :
( ٣٣ ) وكل متاع خزف وقع فيه منها فكل ما فيه يتنجس وأما هو فتكسرونه.
و في الإصحاح الثاني عشر أحكام النفساء عندهم والفرق بين ولادتها ذكرا وأنثى وأنها في الأول تكون نجسة أسبوعا ثم ثلاثا وثلاثين يوما وفي الثاني أسبوعين ثم ستة وستين يوما.
و في الإصحاح الخامس عشر أحكام الحائض ومنها :
( ١٩ ) وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء، ( ٢٠ ) وكل ما تضطجع في طمثها يكون نجسا وكل ما تجلس عليه يكون نجسا. ( ٢١ ) وكل من مس ثيابها يغسل ثيابه.
و من دعاء المؤمنين :
{ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به أي لا تكلفنا ما لا طاقة لنا به من التكاليف.
و الطاقة : اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة وذلك تشبيه بالطوق المحيط بقوله تعالى : لا تحملنا ما لا طاقة لنا به أي ما يصعب علينا مزاولته وليس معناه لا تحملنا ما لا قدرة لنا به ( ١١١ ).
إنهم يتوجهون إلى الله راجين أن يرحم ضعفهم فلا يكلفهم ما لا يطيقون كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه وإلا فهي الطاعة والتسليم إنه طمع الصغير في كرم الكبير وبره وتيسره.
و من دعاء المؤمنين :
﴿ و اعف عنا واغفر لنا وارحمنا ﴾ إنه تبتل المؤمن وإخلاصه في طلب العون من الله.
اعف عنا : بكرمك إنك تمحو عنا ما ألمنا به من الذنوب وتتجاوز عنها.
و اغفر لنا : سامحنا واشملنا برحمتك وغفرانك وسترك.
و ارحمنا : برحمتك الواسعة فهم طلبوا من الله أن يعفوا عنهم بأن يسقط عنهم العقاب وان يغفر لهم بأن يستر عليهم ذنوبهم فلا يفضحهم وأن يشملهم بعطفه ورحمته ثم ختموا دعاءهم بقوله :
﴿ أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.. ﴾ أنت ولي المؤمنين وناصر المتقين فاجعلنا أهلا لعونك وتوفيقك وانصرنا على الكافرين الجاحدين فضلك ونعمتك وهو ختام يدل على كمال الإيمان ونهاية الخضوع والطاعة للرحمة والرغبة في إحقاق الحق ونصرة الدين وهزيمة الكافرين.
و في تفسير ابن الكثير عنوان عن :
( ذكر الأحاديث الواردة في فضل هاتين الآيتين الكريمتين نفعنا الله بهما ).
( الحديث الاول ) قال البخاري عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ بالآيتين - من آخر سورة البقرة كفتاه ( ١١٢ ) ثم نقل عشرة أحاديث نبوية من فضل الآيتين الآخرتين من سورة البقرة.
و قد ورد في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هده الدعوات : قد فعلت.
أي لما قال المؤمنون : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ( قال الله عز وجل : قد فعلت ) ﴿ ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين ممن قبلنا ﴾ ( قال : وقد فعلت ) ﴿ واغفر لنا وارحمنا انت مولانا ﴾ ( قال : فعلت ) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان.
و أخرج أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة " ولفظ الترمذي " وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشياطين " ( ١١٣ ).
و أخرج سعيد بن منصور والترمذي والحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي " ( ١١٤ ).
Icon