ﰡ
فإن قيل :﴿ الم ﴾ اسم من أسماء الله تعالى كان قوله :﴿ اللهَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ نعتاً للمسمى به، وتفسيره أن ﴿ الم ﴾ هو الله لا إله إلا هو.
وإن قيل : إنه قسم كان واقعاً على أنه سبحانه لا إله إلا هو الحي القيوم، إثباتاً لكونه إلهاً ونفياً أن يكون غيره إلهاً.
وإن قيل بما سواهما من التأويلات كان ما بعده مبتدأ موصوفاً، وأن الله هو الذي لا إله إلا هو الحي القيوم.
ونزلت هذه الآية إلى نيف وثمانين آية من السورة في وفد نجران من النصارى لما جاؤوا يحاجّون النبي ﷺ وكانوا أربعة عشر رجلاً من أشرافهم.
﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بالعدل مما استحقه عليك من أثقال النبوة.
والثاني : بالعدل فيما اختصك به من شرف الرسالة.
وإن قيل بأنه الصدق ففيه وجهان :
أحدهما : بالصدق فيما تضمنه من أخبار القرون الخالية والأمم السالفة.
والثاني : بالصدق فيما تضمنه من الوعد بالثواب على طاعته، والوعيد بالعقاب على معصيته.
﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي لما قبله من كتاب ورسول، وإنما قيل لما قبله ﴿ بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ لأنه ظاهر له كظهور ما بين يديه.
وفي قوله :﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ قولان :
أحدهما : معناه مخبراً بما بين يديه إخبار صدق دل على إعجازه.
والثاني : معناه أنه يخبر بصدق الأنبياء فيما أتوا به على خلاف من يؤمن ببعض ويكفر ببعض.
قوله تعالى :﴿... إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بدلائله وحججه.
والثاني : بآيات القرآن، قال ابن عباس يريد وفد نجران حين قَدِموا على رسول الله ﷺ لمحاجّته.
﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ يعني عذاب جهنم.
﴿ وَاللهُ عَزِيزٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : في امتناعه.
الثاني : في قدرته.
﴿ ذُو انتِقَامٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ذو سطوة.
والثاني : ذو اقتضاء.
﴿ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ اختلف المفسرون في تأويله على سبعة أقاويل :
أحدها : أن المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ، قاله ابن عباس، وابن مسعود.
والثاني : أن المحكم ما أحكم الله بيان حلاله وحرامه فلم تشتبه معانيه، قاله مجاهد.
والثالث : أن المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه ما احتمل أوجهاً، قاله الشافعي ومحمد بن جعفر بن الزبير.
والرابع : أن المحكم الذي لم تتكرر ألفاظه، والمتشابه الذي تكررت ألفاظه، قاله ابن زيد.
والخامس : أن المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال.
والسادس : أن المحكم ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج عيسى ونحوه، وهذا قول جابر بن عبد الله.
والسابع : أن المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال.
ويحتمل ثامناً : أن المحكم ما كانت معاني أحكامه معقولة، والمتشابه ما كانت معاني أحكامه غير معقولة، كأعداد الصلوات، واختصاص الصيام بشهر رمضان دون شعبان.
وإنما جعله محكماً ومتشابهاً استدعاء للنظر من غير اتكال على الخبر، وقد روى معاذ بن جبل عن النبي ﷺ أنه قال :« القرآن على ثلاثة أجزاء : حلال فاتبعه، وحرام فاجتنبه، ومتشابه يشكل عليك فَكِلْه إلى عالمه
». وأما قوله تعالى :﴿ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاِب ﴾. ففيه وجهان :
أحدهما : أصل الكتاب.
والثاني : معلوم الكتاب.
وفيه تأويلان :
أحدهما : أنه أراد الآي التي فيها الفرائض والحدود، قاله يحيى بن يعمر.
والثاني : أنه أراد فواتح السُّوَر التي يستخرج منها القرآن، وهو قول أبي فاختة.
ويحتمل ثالثاً : أن يريد به أنه معقول المعاني لأنه يتفرع عنه ما شاركه في معناه، فيصير الأصل لفروعه كالأم لحدوثها عنه، فلذلك سماه أم الكتاب.
﴿ فَأََمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : ميل عن الحق.
والثاني : شك، قاله مجاهد.
﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من الحروف المقطعة من حساب الجُمّل في انقضاء مدة النبي ﷺ.
والثاني : أنه معرفة عواقب القرآن في العلم بورود النسخ قبل وقته.
والثالث : أن ذلك نزل في وفد نجران لمَّا حاجّوا النبي ﷺ في المسيح، فقالوا : أليس كلمة الله وروحه؟ قال :
وفي قوله تعالى :﴿ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ﴾ أربعة تأويلات :
أحدها : الشرك، قاله السدي.
والثاني : اللّبْس، قاله مجاهد.
الثالث : الشبهات التي حاجّ بها وفد نجران.
والرابع : إفساد ذات البَيْن.
﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ في التأويل وجهان :
أحدهما : أنه التفسير.
والثاني : أنه العاقبة المنتظرة.
﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : تأويل جميع المتشابه، لأن فيه ما يعلمه الناس، وفيه ما لا يعلمه إلا الله، قاله الحسن.
والثاني : أن تأويله يوم القيامة لما فيه من الوعد والوعيد، كما قال الله تعالى :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَومَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ] يعني يوم القيامة، قاله ابن عباس.
والثالث : تأويله وقت حلوله، قاله بعض المتأخرين.
﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني الثابتين فيه، العاملين به.
والثاني : يعني المستنبطين للعلم والعاملين، وفيهم وجهان :
أحدهما : أنهم داخلون في الاستثناء، وتقديره : أن الذي يعلم تأويله الله والراسخون في العلم جميعاً.
روى ابن أبي نجيح عن ابن عباس أنه قال : أنا ممن يعلم تأويله.
الثاني : أنهم خارجون من الاستثناء، ويكون معنى الكلام : ما يعلم تأويله إلا الله وحده، ثم استأنف فقال :﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾.
﴿ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : علم ذلك عند ربنا.
والثاني : ما فصله من المحكم والمتشابه، فنزل من عند ربنا.
أحدهما : أن الدأب : العادة، ( أي ) كعادة آل فرعون والذين من قبلهم.
والثاني : أن الدأب هنا الاجتهاد، مأخوذ من قولهم : دأبت في الأمر، إذا اجتهدت فيه.
فإذا قيل إنه العادة ففيما أشار إليه من عادتهم وجهان :
أحدهما : كعادتهم في التكذيب بالحق.
والثاني : كعادتهم من عقابهم على ذنوبهم.
وإذا قيل إنه الاجتهاد، احتمل ما أشار إليه من اجتهادهم وجهين :
أحدهما : كاجتهادهم في نصرة الكفر على الإِيمان.
والثاني : كاجتهادهم في الجحود والبهتان.
وفيمن أشار إليهم أنهم كدأب آل فرعون قولان :
أحدهما : أنهم مشركو قريش يوم بدر، كانوا في انتقام الله منهم لرسله والمؤمنين، كآل فرعون في انتقامه منهم لموسى وبني إسرائيل، فيكون هذا على القول الأول تذكيراً للرسول والمؤمنين بنعمة سبقت، لأن هذه الآية نزلت بعد بدر استدعاء لشكرهم عليها، وعلى القول الثاني وعداً بنعمة مستقبلة لأنها نزلت قبل قتل يهود بني قينقاع، فحقق وعده وجعله معجزاً لرسوله.
أحدها : أنها نزلت في قريش قبل بدر بسنة، فحقق الله قوله، وصدق رسوله، وأنجز وعده بمن قتل منهم يوم بدر، قاله ابن عباس، والضحاك.
والثاني : أنها نزلت في بني قينقاع لمَّا هلكت قريش يوم بدر، فدعاهم النبي ﷺ إلى الإسلام، وحذرهم مثل ما نزل بقريش، فأبوا وقالوا : لسنا كقريش الأغمار الذين لا يعرفون الناس، فأنزل الله فيهم هذه الآية، قاله قتادة، وابن إسحاق.
والثالث : أنها نزلت في عامة الكفار.
وفي الغلبة هنا قولان :
أحدهما : بالقهر والاستيلاء، إن قيل إنها خاصة.
والثاني : بظهور الحجة، إن قيل إنها عامة.
وفي ﴿ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ قولان :
أحدهما : بئس ما مهدوا لأنفسهم، قاله مجاهد.
والثاني : معناه بئس القرار، قاله الحسن.
وفي بئس وجهان : أحدهما : أنه مأخوذ من البأس، وهو الشدة.
والثاني : أنه مأخوذ من البأساء وهو الشر.
قوله تعالى :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾ يعني المؤمنين من أهل بدر.
﴿ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾ يعني مشركي قريش.
﴿ يَرَونَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾ وفي مثليهم قولان :
أحدهما : أنهم مثلان زائدان على العدد المُتَحَقِّق، فيصير العدد ثلاثة أمثال، قاله الفراء.
والثاني : هو المزيد في الرؤية، قاله الزجاج.
اختلفوا في المخاطب بهذه الرؤية على قولين :
أحدهما : أنها الفئة المؤمنة التي تقاتل في سبيل الله، بأن أراهم الله مشركي قريش يوم بدر مثلي عدد أنفسهم، لأن عدة المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وعدة المشركين في رواية عليٍّ وابن مسعود ألف، وفي رواية عروة، وقتادة، والربيع ما بين تسعمائة إلى ألف، فقلَّلهم الله في أعينهم تقوية لنفوسهم، قاله ابن مسعود، والحسن.
والثاني : أن الفئة التي أراها الله ذلك هي الفئة الكافرة، أراهم الله المسلمين مثلي عددهم مكثراً لهم، لتضعف به قلوبهم. والآية في الفئتين هي تقليل الكثير في أعين المسلمين، وتكثير القليل في أعين المشركين، وما تقدم من الوعد بالغلبة، فتحقق، قتلاً، وأسراً، وسبياً.
﴿ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ﴾ يعني من أهل طاعته. وفي التأييد وجهان :
أحدهما : أنه المعونة.
والثاني : القوة.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن في نصرة الله لرسوله يوم بدر مع قلة أصحابه عبرة لذوي البصائر والعقول.
والثاني : أن فيما أبصره المشركون من كثرة المسلمين مع قلتهم عبرة لذوي الأعين والبصائر.
وفي المُزّيِّن لحب الشهوات ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الشيطان، لأنه لا أحد أشد ذَمًّا لها من الله تعالى الذي خَلَقَها، قاله الحسن.
الثاني : تأويل أن الله زين حب الشهوات لِمَا جعله في الطبائع من المنازعة كما قال تعالى :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَّهَا ﴾ [ الكهف : ٧ ]، قاله الزجاج.
والثالث : أن الله زين من حبها ما حَسُن، وزين الشيطان من حبها ما قَبُح. ﴿ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ ﴾ اختلفوا في مقدار القنطار على سبعة أقاويل :
أحدها : أنه ألف ومائتا أوقية، وهو قول معاذ بن جبل، وأبي هريرة ورواه زر بن حبيش عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ﷺ :« القِنْطَارُ أَلفٌ وَمِائَتا أُوقِيَّةٍ
». والثاني : أنه ألف ومائتا دينار، وهو قول الضحاك، والحسن، وقد رواه الحسن عن النبي ﷺ.
والثالث : أنه اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار، وهو قول ابن عباس.
والرابع : أنه ثمانون ألفاً من الدراهم، أو مائة رطل من الذهب، وهو قول سعيد بن المسيب، وقتادة.
والخامس : أنه سبعون ألفاً، قاله ابن عمر، ومجاهد.
والسادس : أنه ملء مسك ثور ذهباً، قاله أبو نضرة.
والسابع : أنه المال الكثير، وهو قول الربيع.
وفي ﴿ المُقَنْطَرَةِ ﴾ خمسة أقاويل :
أحدها : أنها المضاعفة، وهو قول قتادة.
والثاني : أنها الكاملة المجتمعة.
والثالث : هي تسعة قناطير، قاله الفراء.
والرابع : هي المضروبة دراهم أو دنانير، وهو قول السدي.
والخامس : أنها المجعولة كذلك، كقولهم دراهم مدرهمة.
ويحتمل وجهاً سادساً : أن القناطير المذكورة مأخوذة من قنطرة الوادي، إما لأنها بتركها مُعَدَّة كالقناطر المعبورة، وإما لأنها معدة لوقت الحاجة، والقناطير مأخوذة من عقد الشيء وإحكامه كالقنطرة.
﴿ وَالْخَيلِ الْمُسَوَّمَةِ ﴾ فيها خمسة تأويلات :
أحدها : أنها الراعية، قاله سعيد بن جبير، والربيع، ومنه قوله تعالى :﴿ وفيه تسيمون ﴾ أي ترعون.
والثاني : أن المسومة الحسنة، قاله مجاهد، وعكرمة، والسدي.
والثالث : أنها المعلَّمة، قاله ابن عباس، وقتادة.
والرابع : أنها المعدة للجهاد، قاله ابن زيد.
والخامس : أنها من السيما مقصورة وممدود، قاله الحسن، قال الشاعر :
غلامٌ رماه اللهُ بالحُسْن يافعاً | له سيمياء لا تَشُقُّ على البصر |
﴿ والْحَرْثِ ﴾ هو الزرع.
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن يريد أرض الحرث لأنها أصل، ويكون الحرث بمعنى المحروث.
أحدها : الصابرين عما نهوا عنه من المعاصي.
والثاني : يعني في المصائب.
والثالث : الصائمين.
ويحتمل رابعاً : الصابرين عما زُيِّن للناس من حب الشهوات.
﴿ وَالصَّادِقِينَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : في قولهم.
والثاني في القول والفعل والنيَّة، والصدق في القول : الإخبار بالحق، والصدق في الفعل : إتمام العمل، والصدق في النية : إمضاء العزم.
﴿ وَالْقَانِتِينَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني المطيعين، قاله قتادة.
والثاني : معناه القائمون على العبادة، قاله الزجاج.
﴿ والْمُنفِقِينَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : في الجهاد.
والثاني : في جميع البِرِّ.
﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بالأْسْحَارِ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها يعني المصلين بالأسحار، قاله قتادة.
والثاني : أنهم المستغفرون قولاً بالأسحار يسألون الله تعالى المغفرة، قاله ابن عمر، وابن مسعود وأنس بن مالك.
والثالث : أنهم يشهدون الصبح في جماعة، قاله زيد بن أسلم. والسحر من الليل هو قبيل الفجر.
أحدها : بمعنى قضى الله أنه لا إله إلا هو.
والثاني : يعني بَيَّنَ الله أنه لا إله إلا هو.
والثالث : أنها الشهادة من الله بأنه لا إله إلا هو.
ويحتمل أمرين :
أحدهما : أن يكون معناها الإِخبار بذلك، تأكيداً للخبر بالمشاهدة، كإخبار الشاهد بما شاهد، لأنه أوكد للخبر.
والثاني : أنه أحدث من أفعاله المشاهدة ما قامت مقام الشهادة بأن لا إله إلا هو، فأما شهادة الملائكة وأولي العلم، فهي اعترافهم بما شاهدوه من دلائل وحدانيته.
﴿ قَآئِماً بِالْقِسْطِ ﴾ أي بالعدل.
ويحتمل قيامه بالعدل وجهين :
أحدهما : أن يتكفل لهم بالعدل فيهم، من قولهم قد قام فلان بهذا الأمر إذا تكفل به، فيكون القيام بمعنى الكفالة.
والثاني : معناه أن قيام ما خلق وقضى بالعدل أي ثباته، فيكون قيامه بمعنى الثبات.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن المتدين عند الله بالإِسلام من سلم من النواهي.
والثاني : أن الدين هنا الطاعة، فصار كأنه قال : إن الطاعة لله هي الإِسلام.
وفي أصل الإسلام قولان :
أحدهما : أن أصله مأخوذ من السلام وهو السلامة، لأنه يعود إلى السلامة.
والثاني : أن أصله التسليم لأمر الله في العمل بطاعته.
﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ في أهل الكتاب الذين اختلفوا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم أهل التوراة من اليهود، قاله الربيع.
والثاني : أنهم أهل الإِنجيل من النصارى، قاله محمد بن جعفر بن الزبير.
والثالث : أنهم أهل الكتب كلها، والمراد بالكتاب الجنس من غير تخصيص، وهو قول بعض المتأخرين.
وفيما اختلفوا فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : في أديانهم بعد العلم بصحتها.
والثاني : في عيسى وما قالوه فيه من غلو وإسراف.
والثالث : في دين الإِسلام.
وفي قوله تعالى :﴿ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾ وجهان :
أحدهما : طلبهم الرياسة.
والثاني : عدولهم عن طريق الحق.
قوله تعالى :﴿ فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ : أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ﴾ الآية. فيه وجهان :
أحدهما : أي أسلمت نفسي، ومعنى أسلمت : انقدت لأمره في إخلاص التوحيد له.
والثاني : أن معنى أسلمت وجهي : أخلصت قصدي إلى الله في العبادة، مأخوذ من قول الرجل إذا قصد رجلاً فرآه في الطريق هذا وجهي إليك، أي قصدي.
﴿ وَالأُمِّيِّينَ ﴾ هم الذين لا كتاب لهم، مأخوذ من الأمي الذي لا يكتب، قال ابن عباس : هم مشركو العرب.
﴿ ءَأَسْلَمْتُمْ ﴾ هو أمر بالإِسلام على صورة الاستفهام.
فإن قيل : في أمره تعالى عند حِجَاجِهمْ بأن يقول :﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ﴾ عدول عن جوابهم وتسليم لحِجَاجِهم، فعنه جوابان :
أحدهما : ليس يقتضي أمره بهذا القول النهي عن جوابهم والتسليم بحِجَاجِهم، وإنما أمره أن يخبرهم بما يقتضيه معتقده، ثم هو في الجواب لهم والاحْتِجَاج على ما يقتضيه السؤال.
والثاني : أنهم ما حاجُّوه طلباً للحق فيلزمه جوابهم، وإنما حاجُّوه إظهاراً للعناد، فجاز له الإِعراض عنهم بما أمره أن يقول لهم.
وفي ﴿ الْقِسْطِ ﴾ هنا وجهان :
أحدهما : العدل.
والثاني : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذابٍ أَلِيمٍ ﴾ رُوِيَ عن أبي عبيدة بن الجراح قال : قلت : يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال : رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ثم قرأ هذه الآية، ثم قال :« يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعاً في آخر النهار من ذلك اليوم
». ﴿ فَبَشِّرْهُم ﴾ أي فأخبرهم، والأغلب في البشارة إطلاقها على الإِخبار بالخير، وقد تستعمل في الإِخبار بالشّر كما استعملت في هذا الموضع وفي تسميتها بذلك وجهان :
أحدهما : لأنها تغير بَشْرَةَ الوجه بالسرور في الخير، وبالغم في الشر.
والثاني : لأنها خبر يستقبل به البشرة.
أحدهما : أنه التوراة، دعي إليها اليهود فأبوا، قاله ابن عباس.
والثاني : القرآن، لأن ما فيه موافق لما في التوراة من أصول الدين، قاله الحسن وقتادة.
وفي قوله تعالى :﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : نبوة النبي ﷺ.
والثاني : أمر إبراهيم وأن دينه الإِسلام.
والثالث : أنه حد من الحدود.
﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ قال ابن عباس :
هذا الفريق المتولي هم زعماء يهود بني قينقاع : النعمان بن أوفى، وبحري بن عمرو بن صوريا تولوا عنه في حد الزنى لما أخبرهم أنه الرجم، ورجم اليهوديين الزانيين.
فإن قيل : التولِّي عن الشيء هو الإعراض عنه، قيل : معناه يتولَّى عن الداعي ويعرض عما دُعِيَ إليه.
قوله تعالى :﴿... قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ هذا من قول اليهود، واختلفوا فيها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الأيام التي عبدوا فيها العجل وهي أربعون يوماً، قاله قتادة، والربيع.
والثاني : أنها سبعة أيام، وهذا قول الحسن.
والثالث : أنها متقطعة لانقضاء العذاب فيها، وهذا قول بعض المتأخرين.
﴿ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : هو قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، قاله قتادة.
والثاني : هو قولهم لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، قاله مجاهد.
أحدها : يريد به ملك أمر الدنيا والآخرة.
والثاني : مالك العباد وما ملكوه، قاله الزجاج.
والثالث : مالك النبوة، قاله مجاهد.
﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن المُلك هنا النبوة، قاله مجاهد.
والثاني : أنه الإيمان.
والثالث : أنه السلطان.
روى قتادة أن النبي ﷺ سأل ربه أن يجعل مُلْك فارس والروم في أمته، فأنزل الله هذه الآية.
﴿ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : تعز من تشاء بالطاعة، وتذل من تشاء بالمعصية.
والثاني : تعز من تشاء بالنصر، وتذل من تشاء بالقهر.
والثالث : تعز من تشاء بالغنى، وتذل من تشاء بالفقر.
﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾ أي أنت قادر عليه، وإنما خَصَّ الخير بالذكر وإن كان قادراً على الخير والشر، لأنه المرغوب في فعله.
قوله تعالى :﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : معناه تدخل نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل، وهو قول جمهور المفسرين.
والثاني : أن معناه تجعل الليل بدلاً من النهار، وتجعل النهار بدلاً من الليل، وهو قول بعض المتأخرين.
﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ قرأ نافع وحمزة والكسائي : الميّت بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف.
واختلفوا في معناه بالتخفيف والتشديد، فذهب الكوفيون إلى أن الميْت بالتخفيف الذي قد مات، وبالتشديد الذي لم يمت بعد.
وحكى أبو العباس عن علماء البصريين بأسرهم أنهما سواء، وأنشد لابن الرعلاء القلابي :
ليس من مات فاستراح بميت | إنما المْيتُ ميّت الأحياء |
إنما الميْتُ من يعيش كئيباً | كاسفاً بالُه قليل الرجاء |
أحدهما : أنه يخرج الحيوان الحي في النطفة الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الحيوان الحي، وهذا قول ابن مسعود، ومجاهد، وقتادة، والسدي.
والثاني : أنه يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن، وهذا قول الحسن.
وقال قتادة : وإنما سَمَّى الله يحيى بن زكريا بيحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان.
﴿ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل مضت.
أحدهما : أنه موسى وهارون ابنا عمران.
والثاني : أنه المسيح، لأن مريم بنت عمران، وهذا قول الحسن.
وفيما اصطفاهم به ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه اصطفاهم باختيار دينهم لهم، وهذا قول الفراء.
والثاني : أنه اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميزهم بها على أهل زمانهم.
والثالث : أنه اصطفاهم باختيارهم للنبوة، وهذا قول الزجاج.
قوله تعالى :﴿ ذُرِّيَّةَ بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم صاروا ذرية بالتناصر لا بالنسب، كما قال تعالى :﴿ المُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ ﴾ [ التوبة : ٦٧ ] يعني في الاجتماع على الضلال، وهذا قول الحسن، وقتادة.
والثاني : أنهم في التناسل والنسب، إذ جميعهم من ذرية آدم، ثم من ذرية نوح، ثم من ذريةإبراهيم، وهذا قول بعض المتأخرين.
أحدها : محرراً أي مُخْلَصاً للعبادة، وهذا قول الشعبي.
والثاني : يعني خادماً للبيعة، وهذا قول مجاهد.
والثالث : يعني عتيقاً من الدنيا لطاعة الله، وهذا قول محمد بن جعفر بن الزبير.
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ : ربِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى ﴾ إنما قالت ذلك اعتذاراً من العدول عن نذرها لأنها أنثى.
ثم قال تعالى :﴿ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾ قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم التاء، فيكون ذلك راجعاً إلى اعتذارها بأن الله أعلم بما وضعت، وقرأ الباقون بجزم التاء، فيكون ذلك جواباً من الله تعالى لها بأنه أعلم بما وضعت منها.
ثم قال تعالى :﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى ﴾ لأن الأُنثى لا تصلح لما يصلح له الذكر من خدمة المسجد المقدس، لما يلحقها من الحيض، ولصيانة النساء عن التبرج، وإنما يختص الغلمان بذلك.
﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه : من طعن الشيطان الذي يستهل به المولود صارخاً، وقد روى ذلك أبو هريرة مرفوعاً.
والثاني : معناه من إغوائه لها، وهذا قول الحسن، ومعنى الرجيم المرجوم بالشهب.
﴿ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ﴾ يعني أنشأها إنشاءً حسناً في غذائها وحسن تربيتها.
﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ قرأ أهل الكوفة ﴿ وَكَفَّلَهَا ﴾ بالتشديد، ومعنى ذلك أنه دفع كفالتها إلى غيره. وقرأ الباقون :﴿ كفَلَهَا ﴾ بالتخفيف، ومعنى ذلك أنه أخذ كفالتها إليه.
﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ ﴾ وهو معروف، وأصله أنه أكرم موضع في المجلس.
﴿ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الرزق الذي أتاها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي.
والثاني : أنها لم تطعم ثدياً قط حتى تكلمت في المهد، وإنما كان يأتيها رزقها من الجنة، وهذا قول الحسن.
واختلف في السبب الذي يأتيها هذا الرزق لأجله على قولين :
أحدهما : أنه كان يأتيها بدعوة زكريا لها.
والثاني : أنه كان ذلك يأتيها لنبوة المسيح عليه السلام.
﴿ قَالَ : يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الله تعالى كان يأتيها بالرزق.
والثاني : أن بعض الصالحين من عباده سخره الله تعالى لها لطفاً منه بها حتى يأتيها رزقها. والأول أشبه.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه حكاية عن قول مريم بعد أن قالت هو من عند الله.
والقول الثاني : أنه قول الله تعالى بعد أن قطع كلام مريم.
أحدهما : أن الله تعالى أذن له في المسألة لأن سؤال ما خالف العادة يُمْنَع منه إلا عن إذن لتكون الإجابة إعجازاً.
والثاني : أنه لما رآى فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف طمع في رزق الولد من عاقر.
﴿ قَالَ : رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ يعني هب لي من عندك ولداً مباركاً، وقصد بالذرية الواحد.
﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ ﴾ أي تجيب الدعاء، لأن إجابة الدعاء بعد سماعه.
قوله تعالى :﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ ﴾ قرأ حمزة، والكسائي :﴿ فَنَادَاه الْمَلآئِكَةُ ﴾، وفي مناداته قولان :
أحدهما : أنه جبريل وحده، وهو قول السدي.
والثاني : جماعة من الملائكة.
﴿ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ﴾ قيل إنما سمّاه يحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان، وسماه بهذا اسم قبل مولده.
﴿ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : بكتاب من الله، وهذا قول أبي عبيدة وأهل البصرة.
والثاني : يعني المسيح، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والربيع، والضحاك، والسدي.
واختلفوا في تسميته كلمة من الله على قولين :
أحدهما : أنه خلقه بكلمته من غير أب.
والثاني : أنه سُمِيَ بذلك لأن الناس يهتدون به في دينهم كما يهتدون بكلام الله تعالى.
﴿ وَسَيِّداً ﴾ فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنه الخليفة، وهو قول قتادة.
والثاني : أنه التقي، وهو قول سالم.
والثالث : أنه الشريف، وهو قول ابن زيد.
والرابع : أنه الفقيه العالم، وهو قول سعيد بن المسيب.
والخامس : سيد المؤمنين، يعني بالرياسة عليهم، وهذا قول بعض المتكلمين.
﴿ وَحَصُوراً ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه كان عِنَّيناً لا ماء له، وهذا قول ابن مسعود، وابن عباس، والضحاك.
والثاني : أنه كان لا يأتي النساء، وهو قول قتادة، والحسن.
والثالث : أنه لم يكن له ما يأتي به النساء، لأنه كان معه مثل الهْدبة، وهو قول سعيد بن المسيب.
قوله تعالى :﴿ قَالَ : رَبِّ أَنَّى يِكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ﴾ وإنما جاز له أن يقول : وقد بلغني الكبر لأنه بمنزلة الطالب له.
﴿ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾ أي لا تلد.
فإن قيل : فَلِمَ راجع بهذا القول بعد أن بُشَّرَ بالولد، ففيه جوابان :
أحدهما : أنه راجع ليعلم على أي حال يكون منه الولد، بأن يُرّدّ هو وامرأته إلى حال الشباب، أم على حال الكبر، فقيل له : كذلك الله يفعل ما يشاء، أي على هذه الحال، وهذا قول الحسن.
قوله تعالى :﴿ قَالَ : رَبِّ اجْعَل لِّي ءَايَةً ﴾ أي علامة لوقت الحمل ليتعجل السرور به.
﴿ قَالَ : ءَايَتُكَ ألاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : تحريك الشفتين وهو قول مجاهد.
والثاني : الإشارة، وهو قول قتادة.
والثالث : الإيماء، وهو قول الحسن.
﴿ وَاذْكُرْ رَّبَّكَ كَثِيراً ﴾ لم يمنع من ذكر الله تعالى، وذلك هي الآية.
﴿ وَسَبِّحْ بِالْعَشِّيِ وَالإِبْكَارِ ﴾ والعشي : من حين زوال الشمس إلى أن تغيب، وأصل العشي الظلمة، ولذلك كان العشى ضعف البصر، فَسُمَّي ما بعد الزوال عِشاءً لا تصاله بالظلمة. وأما الإبكار فمن حين طلوع الفجر إلى وقت الضحى، وأصله التعجيل، لأنه تعجيل الضياء.
أحدهما : اصطفاها على عالمي زمانها، وهذا قول الحسن.
والثاني : أنه اصطفاها لولادة المسيح، وهو قول الزجاج.
﴿ وَطَهَّرَكِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : طهرك من الكفر، وهو قول الحسن ومجاهد.
والثاني : طهرك من أدناس الحيض والنفاس، وهو قول الزجاج.
﴿ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : انه تأكيد للاصطفاء الأول بالتكرار. والثاني : أن الاصطفاء الأول للعبادة، والاصطفاء الثاني لولادة المسيح. قوله تعالى :﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني أخلصي لربك، وهو قول سعيد.
والثاني : معناه أديمي الطاعة لربك، وهو قول قتادة.
والثالث : أطيلي القيام في الصلاة، وهو قول مجاهد.
﴿ وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ وفي تقديم السجود على الركوع قولان :
أحدهما : أنه كان مقدماً في شريعتهم وإن كان مؤخراً عندنا.
والثاني : أن الواو لا توجب الترتيب، فاستوى حكم التقديم في اللفظ وتأخيره، وأصل السجود والانخفاض الشديد والخضوع، كما قال الشاعر :
فكلتاهما خَرّت وأسجّدّ رأسُها | كما سَجَدتْ نصرانةٌ لم تحنف |
وفي قوله تعالى :﴿ وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ قولان :
أحدهما : معناه وافعلي كفعلهم.
والثاني : يعني مع الراكعين في صلاة الجماعة.
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ ﴾ يعني ما كان من البشرى بالمسيح.
﴿ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ وأصل الوحي إلقاء المعنى إلى صاحبه، والوحي إلى الرسل الإلقاء بالإنزال، وإلى النحل بالإلهام، ومن بعض إلى بعض بالإشارة، كما قال تعالى :﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيٍّا ﴾. قال العجاج :
.................................. أوحى لها القرار فاستقرّت
﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم تشاجروا عليها وتنازعوا فيها طلباً لكفالتها، فقال زكريا : أنا أحق بها لأن خالتها عندي، وقال القوم : نحن أحق بها لأنها بنت إمامنا وعالمنا، فاقترعوا عليها بإلقاء أقلامهم وهي القداح مستقبلة لجرية الماء، فاستقبلت عصا زكريا لجرية الماء مصعدة، وانحدرت أقلامهم فقرعهم زكريا، وهو معنى قوله تعالى :﴿ وَكَفَّلَهَا ﴾ وهذا قول ابن عباس، وعكرمة، والحسن، والربيع.
والقول الثاني : أنهم تدافعوا كفالتها لأن زكريا قد كان كفل بها من غير اقتراع، ثم لحقهم أزمة ضعف بها عن حمل مؤونتها، فقال للقوم : ليأخذها أحدكم فتدافعوا كفالتها وتمانعوا منها، فأقرع بينهم وبين نفسه فخرجت القرعة له، وهذا قول سعيد.
أحدهما : لأنه مُسِحَ بالبركة، وهذا قول الحسن وسعيد.
والثاني : أنه مُسِحَ بالتطهر من الذنوب.
قوله تعالى :﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ﴾ وفي سبب كلامه في المهد قولان :
أحدهما : لتنزيه أمه مما قُذِفَتْ به.
والثاني : لظهور معجزته.
واختلفوا هل كان في وقت كلامه في المهد نبياً على قولين :
أحدهما : كان في ذلك الوقت نبياً لظهور المعجزة منه.
والثاني : أنه لم يكن في ذلك الوقت نبياً وإنما جعل الله ذلك تأسيساً لنبوتّه.
والمهد : مضجع الصبي، مأخوذ من التمهيد.
ثم قال تعالى :﴿ وَكَهْلاً ﴾ وفيه قولان :
أحدهما : أن المراد بالكهل الحليم، وهذا قول مجاهد.
والثاني : أنه أراد الكهل في السنّ.
واختلفوا : بلوغ أربع وثلاثين سنة.
والثاني : أنه فوق حال الغلام ودون حال الشيخ، مأخوذ من القوة من قولهم اكتهل البيت إذ طال وقوي.
فإن قيل فما المعنى في الإخبار بكلامه كهلاً وذلك لا يستنكر ؟ ففيه قولان :
أحدها : أنه يكلمهم كهلاً بالوحي الذي يأتيه من الله تعالى.
والثاني : انه يتكلم صغيراً في المهد كلام الكهل في السنّ.
أحدها : يعني من أنصاري مع الله.
والثاني : معناه من أنصاري في السبيل إلى الله، وهذا قول الحسن.
والثالث : معناه من ينصرني إلى نصر الله.
وواحد الأنصار نصير.
﴿ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ : نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ﴾ اخْتُلِف في تسميتهم بالحواريين على ثلاثة أقاويل :
أحدها : انهم سُمُّوا بذلك لبياض ثيابهم، وهذا قول سعيد بن جبير.
والثاني : أنهم كانوا قَصَّارين يبيضون الثياب، وهذا قول ابن أبي نجيح.
والثالث : أنهم خاصة الأنبياء، سموا بذلك لنقاء قلوبهم، وهذا قول قتادة، والضحاك. وأصل الحواري : الحَوَر وهو شدة البياض، ومنه الحواري من الطعام لشدة بياضه، والحَوَر نقاء بياض العين.
واختلفوا في سبب استنصار المسيح بالحواريين على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه استنصر بهم طلباً للحماية من الكفار الذين أرادوا قتله حين أظهر دعوته، وهذا قول الحسن، ومجاهد.
والثاني : أنه استنصر بهم ليتمكن من إقامة الحجة وإظهار الحق.
والثالث : لتمييز المؤمن الموافق من الكافر المخالف.
قوله تعالى :﴿... فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني صِلْ ما بيننا وبينهم بالإخلاص على التقوى.
والثاني : أثْبِتْ أسماءنا مع أسمائهم لننال ما نالوا من الكرامة.
قوله تعالى :﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم مكروا بالمسيح عليه السلام بالحيلة عليه في قتله، ومكر الله في ردهم بالخيبة لإلقاء شبه المسيح على غيره، وهو قول السدي.
والثاني : مكروا بإضمار الكفر، ومكر الله بمجازاتهم بالعقوبة، وإنما جاز قوله :﴿ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾ على مزواجة الكلام وإن خرج عن حكمه، نحو قوله :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] وليس الثاني اعتداءً، وأصل المكر : الالتفاف، ولذلك سمي الشجر الملتف مكراً، والمكر هو الاحتيال على الإنسان لالتفاف المكروه به.
والفرق بين المكر والحيلة أن الحيلة قد تكون لإظهار ما يعسر من غير قصد إلى الإضرار، والمكر : التوصل إلى إيقاع المكروه به.
أحدها : معناه إني قابضك برفعك إلى السماء من غير وفاة بموت، وهذا قول الحسن، وابن جريج، وابن زيد.
والثاني : متوفيك وفاة نوم للرفع إلى السماء، وهذا قول الربيع.
والثالث : متوفيك وفاة بموت، وهذا قول ابن عباس.
والرابع : أنه من المقدم والمؤخر بمعنى رافعك ومتوفيك بعده، وهذا قول الفراء.
وفي قوله تعالى :﴿ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ قولان :
أحدهما : رافعك إلى السماء.
والثاني : معناه رافعك إلى كرامتي.
﴿ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن تطهيره منهم هو منعهم من قتله.
الثاني : أنه إخراجه من بينهم.
﴿ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : فوقهم بالبرهان والحجة.
والثاني : بالعز والغلبة.
وفي المعنيّ بذلك قولان :
أحدهما : أن الذين آمنوا به فوق الذين كذّبوه وكذَبوا عليه، وهذا قول الحسن، وقتادة، والربيع، وابن جريج.
والثاني : أن النصارى فوق اليهود، لأن النصارى أعز واليهود أذل، وفي هذا دليل على أنه لا يكون مملكة إلى يوم القيامة بخلاف الروم.
والثاني : في الحق.
﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ : تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ والذين دعاهم النبي ﷺ إلى المباهلة هم نصارى نجران. وفي قوله :﴿ نَبْتَهِلْ ﴾ تأويلان :
أحدهما : معناه نلتعن.
والثاني : ندعو بهلاك الكاذب، ومنه قول لبيد :
........................ نظر الدهر إليهم فابتهل
أي دعا عليهم بالهلاك.
فلما نزلت هذه الآية أخذ النبي ﷺ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ثم دعا النصارى إلى المباهلة، فأحجموا عنها، وقال بعضهم لبعض : إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم ناراً.
أحدهما : أنهم نصارى نجران، وهذا قول الحسن والسدي وابن زيد.
والثاني : انهم يهود المدينة، وهذا قول قتادة، والربيع، وابن جريح.
﴿ وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : هو طاعة الاتباع لرؤسائهم في أوامرهم بمعاصي الله، وهذا قول ابن جريح.
والثاني : سجود بعضهم لبعض، هذا قول عكرمة.
قوله تعالى :﴿ هَأَنتُمْ هَؤُلآءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ ﴾ يعني ما وجدوه في كتبهم.
﴿ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ﴾ يعني من شأن إبراهيم.
﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ يعني شأن إبراهيم.
﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ فالتمسوه من عِلَلِه.
أحدها : وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة بها، وهذا قول قتادة، والربيع، والسدي.
والثاني : وأنتم تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها.
والثالث : وأنتم تشهدون بما عليكم فيه الحجة.
قوله تعالى :﴿ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : تحريف التوارة والإنجيل، وهذا قول الحسن، وابن زيد.
والثاني : الدعاء إلى إظهار الإسلام في أول النهار والرجوع عنه في آخره قصداً لتشكيك الناس فيه، وهذا قول ابن عباس، وقتادة.
والثالث : الإيمان بموسى وعيسى والكفر بمحمد ﷺ.
﴿ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ ﴾ يعني ما وجدوه عندهم من صفة محمد ﷺ، والبشارة به في كتبهم عناداً من علمائهم.
﴿ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ يعني الحق بما عرفتموه من كتبكم.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَن تَبعَ دِينَكُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : معناه لا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم.
والثاني : لا تعترفوا بالحق إلا لمن تبع دينكم.
واخْتُلِفَ في تأويل ذلك على قولين :
أحدهما : أنهم كافة اليهود، قال ذلك بعضهم لبعض، وهذا قول السدي، وابن زيد.
والثاني : أنهم يهود خبير قالوا ذلك ليهود المدينة، وهذا قول الحسن.
واختلف في سبب نهيهم أن يؤمنوا إلا لِمَنْ تَبعَ دينهم على قولين :
أحدهما : أنهم نُهُوا عن ذلك لِئَلاً يكون طريقاً لعبدة الأوثان إلى تصديقه، وهذا قول الزجاج.
والثاني : أنهم نُهُوا عن ذلك لِئَلاَّ يعترفوا به فيلزمهم العمل بدينه لإقرارهم بصحته.
﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن في الكلام حذفاً، وتقديره : قل إن الهدى هدى الله ألاَّ يُؤْتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم أُّيها المسلمون، ثم حذف « لا » من الكلام لدليل الخطاب عليها مثل قوله تعالى :﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ﴾ [ النساء : ١٧٦ ] أي لا تضلوا، وهذا معنى قول السدى، وابن جريج. والثاني : أن معنى الكلام : قل إن الهدى هدى الله فلا تجحدوا أن يُؤْتى أحد مثل ما أوتيتم.
﴿ أَوْ يُحَآجُّوكُم عِندَ رَبِّكُم ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني ولا تؤمنوا أن يُحَاجّوكم عند ربكم لأنه لا حجة لهم، وهذا قول الحسن، وقتادة.
والثاني : إن معناه حتى يُحَاجُّوكم عند ربكم، على طريق التبعيد، كما يقال : لا تلقاه أو تقوم الساعة، وهذا قول الكسائي، والفراء.
قوله تعالى :﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنها النبوة، وهو قول الحسن، ومجاهد، والربيع.
والثاني : القرآن والإسلام، وهذا قول ابن جريج.
واختلفوا في النبوة هل تكون جزاءً على عمل ؟ على قولين :
أحدهما : أنها جزاء عن استحقاق.
والثاني : أنها تفضل لأنه قال :﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ﴾.
أحدهما : أنها دخلت لإلصاق الأمانة كما دخلت في قوله تعالى :﴿ وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبَيتِ الْعَتِيقِ ﴾ [ الحج : ٢٩ ].
والثاني : أنها بمعنى ( على ) وتقديره : ومن أهل الكتاب من إن تأمنه على قنطار.
﴿ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيهِ قَائِماً ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : إلا ما دمت عليه قائماً بالمطالبة والإقتضاء، وهذا قول قتادة، ومجاهد.
والثاني. بالملازمة.
والثالث : قائماً على رأسه، وهو قول السدي.
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا : لَيسَ عَلَينَا فِي الأُمِّيِينَ سَبِيلٌ ﴾ يعني في أموال العرب، وفي سبب استباحتهم له قولان :
أحدهما : لأنهم مشركون من غير أهل الكتاب، وهو قول قتادة، والسدي.
والثاني : لأنهم تحولوا عن دينهم الذي عاملناهم عليه، وهذا قول الحسن وابن جريج، وقد روى سعيد بن جبير قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله ﷺ :« كَذَّبَ اللهُ أَعْدَاءَ اللهِ، مَا مِن شَيءٍ كَانَ في الجَاهِليَّةِ إلاَّ وَهُوَ تَحتَ قَدَميَّ إلاَّ الأمَانَةَ فَإنَّها مُؤَدَّاةٌ إِلَى الَبرِّ وَالفَاجِرِ
».
أحدهما : ما أوجب الله تعالى على الإنسان من طاعته وكَفَّه عن معصيته.
والثاني : ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق.
﴿ أَولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُم فِي الآخِرةِ ﴾. وفي أصل الخلاق قولان :
أحدهما : أن أصله من الخّلق بفتح الخاء وهو النفس، وتقدير الكلام لا نصيب لهم.
والثاني : أن أصله الخُلق بضم الخاء لأنه نصيب مما يوجبه الخُلُق الكريم.
﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : لا يكلمهم الله بما يسرهم، لكن يكلمهم بما يسوءهم وقت الحساب لأنه قال :﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا حِسَابَهُم ﴾.
والثاني : لا يكلمهم أصلاً ولكن يرد حسابهم إلى الملائكة.
﴿ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيهِم يَومَ الْقِيَامَةِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : لا يراهم.
والثاني : لا يَمِنُ عليهم.
﴿ وَلاَ يُزَكِّيهِم ﴾ أي لا يقضي بزكاتهم.
واختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في قوم من أحبار اليهود : أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب كتبوا كتاباً بأيديهم، ثم حلفوا أنه من عند الله فيما ادعوا به ليس عليهم في الأميين سبيل، وهو قول الحسن، وعكرمة.
والثاني : أنها نزلت في الأشعث وخصيم له تنازعاً في أرض، فقام ليحلف، فنزلت هذه الآية، فنكل الأشعث واعترف بالحق.
والثالث : أنها نزلت في رجل حلف يميناً فاجرة في تنفيق سلعته في البيع، وهذا قول عامر، ومجاهد.
﴿ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فقهاء علماء، وهو قول مجاهد.
والثاني : حكماء أتقياء، وهو قول سعيد بن جبير.
والثالث : أنهم الولاة الذين يربّون أمور الناس، وهذا قول ابن زيد.
وفي أصل الرباني قولان :
أحدها : أنه الذي يربُّ أمور الناس بتدبيره، وهو قول الشاعر :
وكنت امرءَاً أفضت إليك ربابتي | وقبلك ربتني - فضعت - ربوبُ |
والثاني : أنه مضاف إلى عالم الرب، وهو علم الدين، فقيل لصاحب العلم الذي أمر به الرب ربّاني.
أحدهما : أنه أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا على قومهم بتصديق محمد ﷺ، وهذا قول علي، وابن عباس، وقتادة، والسدي.
والثاني : أنه أخذ ميثاقهم ليؤمنن بالآخرة، وهذا قول طاووس.
﴿ ثُمَّ جَآءَكُم رَسُولٌ ﴾ يعني محمداً ﷺ.
﴿ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ﴾ يعني من التوارة، والإنجيل.
﴿ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُم وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ﴾ والإصر : العهد، وفيه تأويلان :
أحدهما : معناه : قبلتم على ذلك عهدي.
والثاني : أخذتم على المُتَّبِعِين لكم عهدي.
﴿ قَالُوا : أَقْرَرْنَا. قَالَ : فَاشْهَدُواْ ﴾ يعني على أممكم بذلك.
﴿ وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ عليكم، وعليهم.
أحدها : أن المؤمن أسلم طوعاً والكافر أسلم عند الموت كَرْهاً، وهذا قول قتادة.
والثاني : أنه الإقرار بالعبودية وإن كان فيه من أشرك في العبادة، وهذا قول مجاهد.
والثالث : أنه سجود المؤمن طائعاً وسجود ظل الكافر كرهاً، وهو مروي عن مجاهد أيضاً.
والرابع : طوعاً بالرغبة والثواب. وكرهاً بالخوف من السيف، وهو قول مطر.
والخامس : أن إسلام الكاره حين أخذ منه الميثاق فأقر به، وهذا قول ابن عباس.
والسادس : معناه أنه أسلم بالانقياد والذلة، وهو قول عامر الشعبي، والزجاج.
أحدها : أنهم اليهود كفروا بالمسيح ثم ازدادوا كفراً بمحمد لن تقبل توبتهم عند موتهم، وهذا قول قتادة.
والثاني : أنهم أهل الكتاب لن تقبل توبتهم من ذنوب ارتكبوها مع الإقامة على كفرهم، وهذا أبي العالية.
والثالث : أنهم قوم ارتدوا ثم عزموا على إظهار التوبة على طريق التورية، فأطلع الله نبيهَّ وعلى سريرتهم، وهذا قول ابن عباس.
والرابع : أنهم اليهود والنصارى كفروا بالنبي ﷺ بعد إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفراً إلى حضور آجالهم، وهذا قول الحسن.
أحدهما : أن البر ثواب الله تعالى.
والثاني : أنه فعل الخير الذي يستحق به الثواب.
والثالث : أن البر الجنة، وهو قول السدي.
وفي قوله تعالى :﴿ حَتَّى تُنفِقُواْ ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : في الصدقات المفروضات، وهو قول الحسن.
والثاني : في جميع الصدقات فرضاً وتطوعاً، وهو قول ابن عمر.
والثالث : في سبيل الخير كلها من صدقة وغيرها.
وروى عمرو بن دينار قال : لما نزلت هذه الآية ﴿ لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ جاء زيد بن حارثة بفرس له يقال لها ( سَبَل ) إلى رسول الله ﷺ فقال : تَصَدَّقْ بهذه يا رسول الله، فأعطاها ابنه أسامة، فقال : يا رسول الله إنما أردت أن أتصدق بها، فقال رسول الله ﷺ :« قَدْ قُبِلَتْ صَدَقَتُك
».
واختلفوا في تحريم إسرائيل على نفسه هل كان بإذن الله تعالى أم لا _ على اختلافهم في اجتهاد الأنبياء... على قولين :
أحدهما : لم يكن إلا بإذنه وهو قول من زعم أن ليس لنبي أن يجتهد.
والثاني : باجتهاده من غير إذن، وهو قول من زعم أن للنبي أن يجتهد.
واختلفوا في تحريم اليهود ذلك على أنفسهم على قولين :
أحدهما : أنهم حرموه على أنفسهم اتباعاً لإسرائيل.
والثاني : أن التوراة نزلت بتحريمها فحرموها بعد نزولها، والأول أصح.
أحدهما : أنه قد كانت قْبْله بيوت كثيرة، وهو قول الحسن.
والثاني : أنه لم يوضع قبله بيت، وهذا قول مجاهد، وقتادة.
وفي ﴿ بَكَّة ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن بكة المسجد، ومكة : الحرم كله، وهذا قول ابن شهاب، وضمرة بن ربيعة.
والثاني : أن بكة هي مكة، وهو قول أبي عبيدة.
والثالث : أن بكة موضع البيت، ومكة غيره في الموضع يريد القرية، وروي ذلك عن مالك.
وفي المأخوذ منه بكة قولان :
أحدهما : أنه مأخوذ من الزحمة، يقال تَبَاّك القوم بعضهم بعضاً إذا ازدحموا، فبكة مُزْدَحَمُ الناس للطواف.
والقول الثاني : أنها سميت بكة، لأنها تَبُكُّ أعناق الجبابرة، إذ ألحدواْ فيها بظلم لم يهملواْ.
وفي قوله :﴿ مُبَارَكاً ﴾ تأويلان :
أحدهما : أن بركته ما يستحق من ثواب القصد إليه.
والثاني : أنه آمن لمن دخله حتى الوحش، فيجتمع فيه الصيد والكلب. ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ الآية في مقام إبراهيم أثر قدميه وهو حجر صلد؟ والآية في غير المقام : أمن الخائف، وهيبة البيت وامتناعه من العلو عليه، وتعجيل العقوبة لمن عتا فيه، وما كان في الجاهلية من أصحاب الفيل.
﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ معناه أنه عطَّف عليه قلوب العرب في الجاهلية فكان الجاني إذا دخله أمِنَ.
وأما في الإسلام ففيه قولان :
أحدهما : أنه من النار، وهذا قول يحيى بن جعدة.
والثاني : من القتال بحظر الإيجال على داخليه، وأما الحدود فتقام على من جنى فيه.
واختلفواْ في الجاني إذ دخله في إقامة الحد عليه فيه قولان :
أحدهما : تقام عليه، وهو مذهب الشافعي.
والثاني : لا تقاوم حتى يُلجأ إلى الخروج منه، وهو مذهب أبي حنيفة.
﴿ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً ﴾ وفي الاستطاعة ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها بالمال، وهي الزاد والراحلة، وهو قول الشافعي.
والثاني : أنها بالبدن، وهو قول مالك.
والثالث : أنها بالمال والبدن، وهو قول أبي حنيفة.
﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ وفيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني [ من كفر ] بفرض الحج فلم يره واجباً، وهو قول ابن عباس.
والثاني : هو لا يرى حَجَّهُ براً ولا تركه مأثماً، وهو قول زيد بن أسلم. والثالث : اليهود، لأنه لما نزل قوله تعالى :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنهُ ﴾ فقالواْ نحن مسلمون فأُمِرُوا بالحج فلم يحجوا، فأنزل الله هذه الآية.
أحدهما : أن صدهم عن سبيل ما كانوا عليه من الإغراء بين الأوس والخزرج حتى يتذكروا حروب الجاهلية فيتفرقوا، وذلك من فعل اليهود خاصة، وهو قول ابن زيد.
والثاني : أنه تكذيبهم بالنبي ﷺ وإنكارهم ثبوت صفته في كتبهم، وذلك من فعل اليهود والنصارى، وهذا قول الحسن.
﴿ تَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ أي تطلبون العِوَجَ وهو بكسر العين العدول عن طرائق الحق، والعَوَج بالفتح ميلُ منتصب من حائط أو قناة.
﴿ وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني عقلاء، مثل قوله تعالى :﴿ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ ق : ٣٧ ]. والثاني : يعني شهوداً على ما كان من صَدّهم عن سبيل الله، وقيل من عنادهم وكذبهم.
﴿ إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ يعني اليهود في إغرائهم بينكم.
﴿ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾.
أحدها : هو أن يُطَاع فلا يُعْصى، ويُشْكَر فلا يكفر ويُذْكَر فلا يُنْسى، وهو قول ابن مسعود، والحسن، وقتادة.
والثاني : هو اتقاء جميع المعاصي، وهو قول بعض المتصوفين.
والثالث : هو أن يعترفواْ بالحق في الأمن والخوف.
والرابع : هو أن يُطَاع، ولا يُتَّقى في ترك طاعته أحدٌ سواه.
واختلفواْ في نسخها على قولين :
أحدهما : هي محكمة، وهو قول ابن عباس، وطاووس.
والثاني : هي منسوخة بقوله تعالى :﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم ﴾ [ التغابن : ١٦ ] وهو قول قتادة، والربيع، والسدي، وابن زيد.
﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللَّهِ جَمِيعاً ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : الحبل : كتاب الله تعالى، وهو قول ابن مسعود، وقتادة، والسدي، روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ قال :« كِتَابُ اللهِ هُوَ حَبْلُ اللهِ المَمْدُودُ مِنَ السَّماءِ إَلى الأرْضِ
». والثاني : أنه دين الله وهو الإسلام، وهذا قول ابن زيد.
والثالث : أنه عهد الله، وهو قول عطاء.
والرابع : هو الإخلاص لله والتوحيد، وهو قول أبي العالية.
والخامس : هو الجماعة، وهو مروي عن ابن مسعود.
وسُمَّي ذلك حبلاً لأن المُمْسِكَ به ينجو مثل المتمسك بالحبل ينجو من بئر أو غيرها.
﴿ وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : عن دين الله الذي أمر فيه بلزوم الجماعة، وهذا قول ابن مسعود، وقتادة.
والثاني : عن رسول الله ﷺ.
﴿ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُمْ ﴾ وفيمن أريد بهذه الآية قولان :
أحدهما : أنهم مشركو العرب لِمَا كان بينهم من الصوائل، وهذا قول الحسن.
والثاني : أنهم الأوس والخزرج لِمَا كان بينهم من الحروب في الجاهلية حتى تطاولت مائة وعشرين سنة إلى أن ألَّفَ الله بين قلوبهم بالإسلام فتركت تلك الأحقاد، وهذا قول ابن إسحاق.
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُم تَكْفُرُونَ ﴾ وفي هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم أربعة أقاويل :
الأول : أنهم الذين كفرواْ بعد إظهار الإيمان بالنفاق، وهو قول الحسن.
والثاني : أنهم الذين كفروا بالارتداد بعد إسلامهم، وهو قول مجاهد.
والثالث : هم الذين كفروا من أهل الكتاب بالنبي ﷺ بعد إيمانهم بِنَعْتِهِ ووصفه، وهو قول الزجاج.
والرابع : هم جميع الكفار لإعراضهم عما يوجبه الإقرار بالتوحيد حين أَشْهَدَهُم الله تعالى على أنفسهم ﴿ أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] وهو قول أبي بن كعب.
أحدها : أن الله تعالى قد كان قدم البشارة لهم بأنهم خير أمة، فقال :﴿ كُنْتُمْ ﴾ يعني إلى ما تقدم في البشارة، وهذا قول الحسن البصري.
وقد روي عن النبي ﷺ قال :« أَنتُم تُتِمَّونَ سَبْعِن أُمةً أَنْتُم خَيرُها وأَكْرمُها عَلَى اللهِ
». والثاني : أن ذلك لتأكيد الأمر لأن المتقدم مستصحب وليس الآنف متقدماً، وذلك مثل قوله تعالى :﴿ وكان الله غفوراً رحيماً ﴾.
والثالث : معناه خلقهم خير أمّة.
والرابع : كنتم خير أمّة في اللوح المحفوظ.
﴿ أمةٌ قَائِمَةٌ ﴾ فيه ثلاث تأويلات :
أحدها : عادلة، وهو قول الحسن، وابن جريج.
والثاني : قائمة بطاعة الله، وهو قول السدي.
والثالث : يعني ثابتة على أمر الله تعالى، وهو قول ابن عباس، وقتادة، والربيع.
﴿ يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللهِ ءَانآءَ اللَّيْلِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : ساعات الليل، وهو قول الحسن، والربيع.
والثاني : جوف الليل، وهو قول السدي.
واختلف في المراد بالتلاوة في هذا الوقت على قولين :
أحدهما : صلاة العَتْمَة، وهو قول عبد الله بن مسعود.
والثاني : صلاة المغرب والعشاء، وهو قول الثوري.
﴿ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني سجود الصلاة.
والثاني : يريد الصلاة لأن القراءة لا تكون في السجود ولا في الركوع، وهذا قول الزجاج، والفراء.
والثالث : معناه يتلون آيات الله أناء الليل وهم مع ذلك يسجدون.
﴿ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ﴾ اختلفواْ في سبب نزولها على قولين :
أحدهما : أنها نزلت في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر عند تظاهرهم على رسول الله ﷺ.
والثاني : أنه نزلت في نفقة المنافقين مع المؤمنين في حرب المشركين على جهة النفاق.
وفي الصّرِّ تأويلان :
أحدهما : هو البرد الشديد، وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي.
والثاني : أنه صوت لهب النار التي تكون في الريح، وهو قول الزجاج، وأصل الصّر صوت من الصرير.
﴿ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه أن ظلمهم اقتضى هلاك زرعهم.
والثاني : يعني أنهم ظلموا أنفسهم بأن زرعواْ في غير موضع الزرع وفي غير وقته فجاءت ريح فأهلكته فضرب الله تعالى هذا مثلاً لهلاك نفقتهم.
والبطانة هم خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره، والأصل البطن، ومنه بطانة الثوب لأنها تلي البطن.
﴿ لاَ يِأْلُونَكُمْ خَبَالاً ﴾ أي لا يقصرون في أمركم. والخبال : النَّكال، وأصله الفساد ومنه الخبل الجنون.
﴿ وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : ودوا إضلالكم عن دينكم، وهو قول السدي.
والثاني : ودوا أن تعنتوا في دينكم أي تحملون على المشقة فيه، وهو قول ابن جريج، وأصل العنت المشقة.
﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ أي بدا منها ما يدل عليها.
﴿ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُم أَكْبَرُ ﴾ مما بدا.
أحدهما : أنه كان يوم أُحد، وهو قول ابن عباس، والربيع، وقتادة، والسدي، وابن اسحاق.
والثاني : أنه كان يوم الأحزاب، وهو قول الحسن، ومجاهد.
﴿ تُبَوِّىءُ ﴾ أي تتخد منزلاً تبوىء فيه المؤمنين. ومعنى الآية : أنك ترتب المؤمنين في مواضعهم.
﴿ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : سميع بما يقوله المنافقون، عليم بما يضمرونه من التهديد.
والثاني : سميع لما يقوله المشيرون عليك، عليم بما يضمرون من نصيح الرأي وغش القلوب.
والثالث : سميع لما يقوله المؤمنون عليم بما يضمرون من خلوص النية.
﴿ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنْكُمْ أَن تَفْشَلاَ ﴾ اختلف فيها على قولين :
أحدهما : أنهم بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار، وهو قول ابن عباس، وجابر بن عبد الله، الحسن، وقتادة.
والثاني : أنهم قوم من المهاجرين والأنصار.
وفي سبب همّهم بالفشل قولان :
أحدهما : أن عبد الله بن أبي سلول دعاهما إلى الرجوع عن لقاء المشركين يوم أحد، فهمّا به ولم يفعلا، وهذا قول السدي وابن جريج.
والثاني : أنهم اختلفوا في الخروج في الغدو والمقام حتى همّا بالفشل، والفشل الجبن.
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلّةٌ ﴾ وبدر ماءٌ نزلوا عليه كان لرجل يسمى بدر، قال الزبير بن بكار هو بدر بن النضر بن كنانة فسمي باسم صاحبه، وهذا قول الشعبي، وقال غيره بل هو اسم له من غير إضافة إلى اسم صاحب.
﴿ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾ قولان :
أحدهما : الضعف عن مقاومة العدو.
والثاني : قلة العدد وضعف الحال.
قال ابن عباس : كان المهاجرين يوم بدر سبعة وسبعين رجلاً، والأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلاً، وكان المشركون ما بين تسعمائة وألف.
﴿ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ ءَالآفٍ مِنَ الْمَلآَئِكَةِ مُنزَلِينَ ﴾ والكفاية مقدار سد الخلة، والاكتفاء الاقتصار عليه، والإمداد إعطاء الشيء حالاً بعد حال، والأصل في الإمداد هو الزيادة ومنه مد الماء وهو زيادته.
﴿ بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيِأْتُوكُم مِّن فَورِهِم هَذَا ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني من وجههم هذا، وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة.
والثاني : من غضبهم هذا، وهو قول مجاهد والضحاك وأبي صالح، وأصل الفور فور القِدْر، وهو غليانها عند شدة الحمى، ومنه فَوْرُ الغضب لأنه كَفَوْرِ القِدْر.
﴿ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسِةِ ءالآفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ قرأ بكسر الواو ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، ومعناها : أنهم سوّموا خليهم بعلامة، وقرأ الباقون بفتح الواو، ومعناها : أنها سائمة وهي المرسلة في المرعى.
واختلفوا في التسويم على قولين :
أحدهما : أنه كان بالصوف في نواصي الخيل وآذانها، وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، والضحاك.
الثاني : أن الملائكة نزلت يوم بدر على خيل بلق وعليهم عمائم صفر، وهو قول هشام بن عروة.
واختلفواْ في عددهم فقال الحسن : كانواْ خمسة آلاف، وقال غيره كانواْ ثمانية آلاف.
قال ابن عباس لم يقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
﴿ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَروا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه كان يوم بدر بقتل صناديدهم وقادتهم إلى الكفر، وهذا قول الحسن وقتادة.
والثاني : أنه كان يوم أحد، كان الذي قتل منهم ثمانية عشر رجلاً، وهذا قول السدي.
﴿ لِيَقْطَعَ طَرَفاً ﴾ ولم يقل وسطاً لأن الطرف أقرب للمؤمنين من الوسط، فاختص القطع بما هو إليهم أقرب كما قال تعالى :﴿ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ ﴾ [ التوبة : ١٢٣ ] ﴿ أَوْ يَكْبِتَهُم فَيَنقَلِبُوا خَآئِبِينَ ﴾، وفي ﴿ يَكْبِتَهُم ﴾ قولان :
أحدهما : يحزنهم، وهو قول قتادة، والربيع.
والثاني : الكبت : الصرع على الوجه، وهو قول الخليل.
والفرق بين الخائب والآيس أن الخيبة لا تكون إلا بعد أمل، واليأس قد يكون قبل أمل.
﴿ لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ليس لك من الأمر شيء في عقابهم واستصلاحهم، وإنما ذلك إلى الله تعالى في أن يتوب عليهم أو يعذبهم.
والثاني : ليس لك من الأمر شيء فيما تريده وتفعله في أصحابك وفيهم، وإنما ذلك إلى الله تعالى فيما يفعله من اللطف بهم في التوبة والاستصلاح أو في العذاب والانتقام.
والثالث : أنزلت على سبب لما كسرت رباعيته ﷺ.
واختلفوا في السبب فيه على قولين :
أحدهما : أن قوماً قالوا بعد كسر رباعيته : كيف يفلح قوم نالوا هذا من نبيهم، وهو حريص على هدايتهم فنزلت هذه الآية، وهذا قول ابن عباس، وأنس بن مالك، والحسن وقتادة، والربيع.
والثاني : أن النبي ﷺ هَمَّ بعد ذلك بالدعاء فأستأذن فيه، فنزلت هذه الآية فكف وإنما لم يؤذن فيه لما في المعلوم من توبة بعضهم.
﴿ أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً ﴾ وهو أن يقول له بعد حلول الأجل : إما أن تَقْضِيَ وإمَّا أَنْ تُرْبِيَ، فإن لم يفعله ضاعف ذلك عليه ثم يفعل كذلك عند حلوله من بعد حتى تصير أضعافاً مضاعفة.
﴿ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ ﴾ فدل أن الربا من الكبائر التي يستحق عليها الوعيد بالنار.
واختلفوا في نار آكل الربا على قولين :
أحدهما : أنها كنار الكافرين من غير فرق تمسكاً بالظاهر.
والثاني : أنها ونار الفجار أخف من نار الكفار، لما بينهما من تفاوت المعاصي.
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُم ﴾ أما الفاحشة ها هنا ففيها قولان :
أحدهما : الكبائر من المعاصي.
والثاني : الربا وهو قول جابر والسدي.
﴿ أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُم ﴾ قيل المراد به الصغائر من المعاصي.
﴿ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِم ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم ذكروه بقلوبهم فلم ينسوه، ليعينهم ذكره على التوبة والاستغفار.
والثاني : ذكروا الله قولاً بأن قالوا : اللهم اغفر لنا ذنوبنا، فإن الله قد سهل على هذه الأمة ما شدد على بني إسرائيل، إذ كانوا إذا أذنب الواحد منهم أصبح مكتوباً على بابه من كفارة ذنبه : إجدع أنفك، إجدع أذنك ونحو ذلك، فجعل الاستغفار، وهذا قول ابن مسعود وعطاء بن أبي رباح.
﴿ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُواْ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنه الإصرار على المعاصي، وهو قول قتادة.
والثاني : أنه مواقعة المعصية إذا هم بها، وهو قول الحسن.
والثالث : السكوت على المعصية وترك الاستغفار منها، وهو قول السدي.
والرابع : أنه الذنب من غير توبة.
﴿ وَهُم يَعْلَمُونَ ﴾ أنهم قد أتوا معصية ولا ينسونها، وقيل : معناه وهم يعلمون الجهة في أنها معصية.
أحدهما : أنه سنن من الله في الأمم السالفة أهلكهم بها.
والثاني : يعني أنهم أهل سنن كانوا عليها في الخير والشر، وهو قول الزجاج، وأصل السنة الطريقة المتبعة في الخير والشر، ومنه سنة النبي ﷺ، قال لبيد بن ربيعة :
من معشر سنت لهم آباؤهم | ولكل قوم سُنَّةٌ وإمامها |
فإن الألى بالطف من آل هاشمٍ | تآسَواْ فسنوا للكرام التآسيا |
أحدهما : أنه القرآن، وهذا قول الحسن، وقتادة.
والثاني : أنه ما تقدم ذكره في قوله تعالى :﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ﴾ الآية، وهذا قول ابن إسحاق.
﴿ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ نور وأدب.
﴿ إِن يَمْسَسْكُم قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ﴾ يعني أن يصيبكم قرح، قرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزة، والكسائي بضم القاف، وقرأ الباقون بفتحها، وفيها قولان :
أحدهما : أنها لغتان ومعناهما واحد.
والثاني : أن القرح بالفتح : الجراح، وبالضم ألم الجراح، وهو قول الأكثرين.
وأما الفرق بيت المس واللمس فهو أن اللمس مباشرة بإحساس، والمس مباشرة بغير إحساس، وهذا ما ذكره الله تعالى للمؤمنين تسلية لهم فإن أصابهم يوم أحد قرح فقد أصاب المشركين يوم بدر مثله.
﴿ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُها بَينَ النَّاسِ ﴾ قال الحسن، وقتادة : أي تكون مرة لفرقة، ومرة عليها والدولة : الكرة، يقال أدال الله فلاناً من فلان بأن جعل الكرة له عليه.
﴿ وَليُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ ءَآمَنُوا ﴾ فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : معناه ليبتلي، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : يعني بالتمحيص تخليصه من الذنوب، وهو قول أبي العباس والزجاج، أصل التمحيص عندهما التخليص.
والثالث : معناه وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا، وهو قول الفراء ﴿ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ قال ابن عباس : ينقصهم.
﴿ وَلَقَدْ كُنتُم تَمنَّونَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ ﴾ قيل تمنى الموت بالجهاد من لم يحضر بدراً، فلما كان أحد أعراض كثير منهم فعاتبهم الله تعالى على ذلك، هكذا قال الحسن وقتادة ومجاهد.
﴿ فَقَدْ رَأَيتُمُوهُ وَأَنتُم تَنظُرُونَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني فقد علمتموه.
والثاني : فقد رأيتم أسبابه.
سبب نزولها أنه لما أشيع يوم أحد أن النبي ﷺ قد قتل، قال أناس : لو كان نبياً ما قتل، وقال آخرون : نقاتل على ما قاتل عليه حتى نلحق به.
﴿ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ يعني رجعتم كفاراً بعد إيمانكم.
﴿ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْدُّنيا نُؤْتِهِ مِنهَا ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : من أراد بجهاده ثواب الدنيا أي ما يصيبه من الغنيمة، وهذا قول بعض البصريين.
والثاني : من عمل للدنيا لم نحرمه ما قسمنا له فيها من غير حظ في الآخرة، وهذا قول ابن إسحاق.
والثالث : من أراد ثواب الدنيا بالنهوض لها بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي عليها في الدنيا دون الآخرة.
﴿ وَكَأّيِّن مِن نَّبِيٍ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ﴾ قرأ بذلك ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وقرأ الباقون ﴿ قَاتَلَ ﴾، وفي ﴿ رِبِّيُّونَ ﴾ أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم الذين يعبدون الرب وأحدهم رِبّيُّ، وهو قول بعض نحْويي البصرة.
الثاني : انهم الجماعات الكثيرة، وهو قول ابن مسعود وعكرمة ومجاهد.
والثالث : انهم العلماء الكثيرون، وهو قول ابن عباس، والحسن.
والرابع : أن ( الربيون ) الأتباع. والربانيون : الولاة، والربيون الرعية، وهو قول أبي زيد، قال الحسن : ما قُتِلَ نبي قط إِلاَّ في معركة.
﴿ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُواْ ﴾ الوهن : الانكسار بالخوف. الضعف نقصان القوة، الاستكانة الخضوع، ومعناه فلم يهنوا بالخوف، ولا ضعفوا بنقصان القوة ولا استكانوا بالخضوع.
وقال ابن إسحاق : فما وهنوا بقتل نبيهم ولا ضعفوا عن عدوهم ولا استكانواْ لما أصابهم.
﴿ فَآتَاهُم اللهُ ثَوَابَ الدُّنيَا وَحُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ ﴾ في ثواب الدنيا قولان :
أحدهما : النصر على عدوهم، وهو قول قتادة، والربيع.
والثاني : الغنيمة، وهو قول ابن جريج ﴿ وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ ﴾ الجنة، في قول الجميع.
﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ ﴾ والفرق بين الإِصعاد والصعود أن الإِصعاد في مستوى الأرض، والصعود في ارتفاع، وهذا قول الفراء، وأبي العباس، والزجاج، وروي عن ابن عباس أنهم صعدوا في جبل أُحُد فراراً.
﴿ وَالرَّسُوْلُ يَدْعُوكُم فِي أُخْرَاكُم ﴾ قيل إنه كان يقول :« يَا عِبَادَ اللهِ ارْجِعُواْ » ذكر ذلك عن ابن عباس، والسدي، والربيع.
﴿ فَأَثَابَكُم غَماً بِغَمٍّ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : غماً على غم.
والثاني : غمّاً مع غم.
وفي الغم الأول والثاني تأويلان :
أحدهما : أن الغم الأول القتل والجراح، والغم الثاني الإرجاف بقتل النبي ﷺ، وهذا قول قتادة، والربيع.
والثاني : غماً يوم أحد بغم يوم بدر، وهو قول الحسن.
﴿ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ يعني في التكذيب بوعده.
﴿ يَقُولُونَ لَو كَانَ لَنَا مِنَ الأَمرِ شَيءٌ ما قُتِلْنَا هَا هُنَا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أناّ أخرجنا كرهاً ولو كان الأمر إلينا ما خرجنا، وهذا قول الحسن.
والثاني : أي ليس لنا من الظفر شيء، كما وعدنا، على جهة التكذيب لذلك.
﴿ قُلْ لَّو كُنتُم فِي بُيُوتِكُم لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِم ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني لو تخلفتم لخرج منكم المؤمنون ولم يتخلفوا بتخلفكم.
والثاني : لو تخلفتم لخرج منكم الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، ولم ينجهم قعودهم.
﴿ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُم ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر.
والثاني : معناه ليبتلي أولياء الله ما في صدوركم فأضاف الابتلاء إليه تفخيماً لشأنه.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّواْ مِنكُم يَومَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾ فيهم تأويلان :
أحدهما : هم كل من ولّى الدبر من المشركين بأحد وهذا قول عمر، وقتادة، والربيع.
والثاني : أنهم من هرب إلى المدينة وقت الهزيمة، وهذا قول السدي.
﴿ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه محبتهم للغنيمة وحرصهم على الحياة.
والثاني : استذلَّهم بذكر خطايا سلفت لهم، وكرهوا القتل قبل إخلاص التوبة منها والخروج من المظلمة فيها، وهذا قول الزجاج.
﴿ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنهُم ﴾ فيه قولان :
أحدهما : حلم عنهم إذ لم يعاجلهم بالعقوبة، وهذا قول ابن جريح وابن زيد.
والثاني : غفر لهم الخطيئة ليدل على أنهم قد أخلصواْ التوبة.
وقيل : إن الذين بقوا مع النبي ﷺ لم ينهزموا ثلاثة عشر رجلاً، منهم خمسة من المهاجرين : أبو بكر، وعلي، وطلحة، وعبد الرحمن، وعبد الرحمن، وسعد بن أبي وقاص، والباقون من الأنصار.
﴿ وَلَو كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ الفظ : الجافي، والغليظ القلب : القاسي، وجمع بين الصفتين، وإن كان معناهما واحداً للتأكيد.
﴿ فَاعْفُ عَنهُم وَاسْتَغْفِرْ لَهُم وَشَاوِرْهُم فِي الأمْرِ ﴾ وفي أمره بالمشاورة أربعة أقاويل :
أحدها : أنه أمره بمشاورتهم في الحرب ليستقر له الرأي الصحيح فيه، قال الحسن : ما شاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمورهم.
والثاني : أنه أمره بِمشاورتهم تأليفاً لهم وتطيباً لأنفسهم، وهذا قول قتادة، والربيع.
والثالث : أنه أمره بمشاورتهم لِمَا علم فيها من الفضل، ولتتأسى أمته بذلك بعده ﷺ، وهذا قول الضحاك.
والرابع : أنه أمره بمشاورتهم ليستن به المسلمون ويتبعه فيها المؤمنون وإن كان عن مشورتهم غنياً، وهذا قول سفيان.
﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ﴾ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو بفتح الياء وضم العين، وقرأ الباقون يغل بضم الياء وفتح الغين.
ففي تأويل من قرأ بفتح الياء وضم الغين ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس أخذها رسول الله ﷺ، فانزل الله تعالى هذه الآية، وهذا قول عكرمة، وسعيد بن جبير.
والثاني : أنها نزلت في طلائع كان رسول الله ﷺ وجههم في وجه، ثم غنم الرسول فلم يقسم للطلائع فأنزل الله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ﴾ أي يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القسم، وهذا قول ابن عباس، والضحاك.
والثالث : أن معناه وما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله إليهم لرهبة منه ولا رغبة فيهم، وهذا قول ابن إسحاق.
وأما قراءة من قرأ يُغّل بضم الياء وفتح الغين ففيها قولان :
أحدهما : يعني وما كان لنبي أن يتهمه أصحابه ويخوَّنوه.
والثاني : معناه وما كان لنبي أن يغل أصحابه ويخونهم، وهذا قول الحسن، وقتادة. وأصل الغلول الغلل وهو دخول الماء في خلال الشجر، فسميت الخيانة غلولاً لأنها تجري في المال على خفاء كجري الماء، ومنه الغل الحقد لأنه العداوة تجري في النفس مجرى الغلل.
﴿ لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِن أَنُفُسِهِمْ ﴾ وفي وجه المنة بذلك ثلاثة أقاويل :
أحدها : ليكون ذلك شرفاً لهم.
والثاني : ليسهل عليهم تعلم الحكمة منه لأنه بلسانهم.
والثالث : ليظهر لهم علم أحواله من الصدق والأمانة والعفة والطهارة.
﴿ يَتْلُو عَلَيهِمْ ءَآيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ فيه ثلاث تأويلات :
أحدها : أنه يشهد لهم بأنهم أزكياء في الدين.
والثاني : أن يدعوهم إلى ما يكونون به أزكياء.
والثالث : أنه يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها، وهو قول الفراء.
﴿ قُلْتُمْ : أَنَّى هَذَا، قُلْ : هُوَ مِن عِنْدِ أَنفُسِكُمْ ﴾ في الذي هو من عند أنفسهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : خلافهم في الخروج من المدينة للقتال يوم أحد، وقد كان النبي ﷺ أمرهم أن يتحصنواْ بها، وهذا قول قتادة، والربيع.
والثاني : اختيارهم الفداء من السبعين يوم بدر على القتل، وقد قيل لهم إن فعلتم ذلك قُتِلَ منكم مثلُهم، وهذا قول علي، وعبيدة السلماني.
والثالث : خلاف الرماة يوم أحد لأمر النبي ﷺ في ملازمة موضعهم.
﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ يَومَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبإِذْنِ اللهِ ولِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : ليرى المؤمنين.
والثاني : ليُمَيَّزُوا من المنافقين.
﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ ﴾ يعني عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه.
﴿ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوا قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾ يعني جاهدواْ.
﴿ أَوِ ادْفَعُوا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني تكثير السواد وإن لم يقاتلواْ وهو قول السدي وابن جريج.
والثاني : معناه رابطواْ على الخيل إن لم تقاتلواْ، وهو قول ابن عوف الأنصاري.
﴿ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لآَّتَّبَعْنَاكُمْ ﴾ قيل إن عبد الله بن عمرو ابن حزام قال لهم :[ اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم فقال له ابن أبي ] : عَلاَمَ نقتل أنفسنا؟ ارجعواْ بنا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم.
﴿ هُمْ لِلْكُفْرِ يَؤمَئِذٍ أَقْربُ مِنهُم لِلإِيمَانِ ﴾ لأنهم بإظهار الإيمان لا يحكم عليهم بحكم الكفار، وقد كانوا قبل ذلك بإظهار الإيمان أقرب إلى الإيمان، ثم صارواْ بما فعلوه أقرب إلى الكفر من الإيمان.
﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ يعني ما يظهرونه من الإسلام وليس في قلوبهم منه شيء.
وإنما قال :﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم ﴾ وإن كان القول لا يكون إلا به لأمرين :
أحدهما : التأكيد.
والثاني : أنه ربما نسب القول إلى الساكت مجازاً إذ كان به راضياً.
﴿ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِم وَقَعَدُواْ : لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ ﴾ يعني عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه حين انخذلوا وقعدوا، وكانوا نحو ثلثمائة وتخلف عنهم من قُتل منهم ( فقالواْ ) لو أطاعونا وقعدواْ معنا ما قُتِلواْ.
﴿ قُلْ فَادْرَؤُواْ عَن أَنفُسِكُم الْمَوتَ ﴾ أي ادفعواْ عن أنفسكم الموت، ومنه قول الشاعر :
تقول وقد درأتُ لها وضيني | أهذا دينه أبداً وديني |
أحدهما : يعني في خبركم أنهم لو أطاعواْ ما قُتِلواْ.
والثاني : معناه إن كنتم محقين في تثبيطكم عن الجهاد فراراً من القتل.
». وفي ﴿ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ تأويلان :
أحدهما : أنهم بحيث لا يملك لهم أحد نفعاً ولا ضراً إلا ربُّهُم.
والثاني : انهم أحياء عند ربهم من حيث يعلم أنهم أحياء دون الناس.
﴿ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يقولون : إخواننا يقتلون كما قتلنا فيصيبون من كرامة الله ما أصبنا، وهو قول قتادة، وابن جريج.
والثاني : أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه فيبشر بذلك فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب في الدنيا بقدومه، وهذا قول السدي.
﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ : إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوهُم ﴾ أما الناس في الموضعين وإن كان بلفظ الجمع فهو واحد لأنه تقدير الكلام جاء القول من قِبَل الناس، والذين قال لهم الناس هم المسلمون وفي الناس القائل قولان :
أحدهما : هو أعرابي جُعِل له على ذلك جُعْل، وهذا قول السدي.
والثاني : هو نعيم بن مسعود الأشجعي، وهذا قول الواقدي.
والناس الثاني أبو سفيان وأصحابه. واختلفوا في الوقت الذي أراد أبو سفيان أن يجمع لهم هذا الجمع على قولين :
أحدهما : بعد رجوعه على أُحُد سنة ثلاث حتى أوقع الله في قلوب المشركين الرعب كفّوا، وهذا قول ابن عباس، وابن إسحاق، وقتادة.
والثاني : أن ذلك في بدر الصغرى سنة أربع بعد أحد بسنه، وهذا قول مجاهد.
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾ التخويف من الشيطان والقول من الناس، وفي تخويف أولياءئه قولان :
أحدهما : أنه يخوف المؤمنين من أوليائه المشركين، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني : أنه يخوف أولياءَه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين، وهذا قول الحسن، والسدي.
أحدهما : هم المنافقون وهو قول مجاهد وابن إسحاق.
والثاني : قوم من العرب ارتدوا عن الإسلام.
﴿ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيئاً، يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرةِ ﴾ في إرادته لذلك ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن يحكم بذلك.
والثاني : معناه أنه سيريد في الآخرة أن يحرمهم ثوابهم لإحباط إيمانهم بكفرهم.
والثالث : يريد أن يحبط أعمالهم بما استحقوه من ذنوبهم، وهذا قول ابن إسحاق.
﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ الطيب المؤمنون، والخبيث فيه ها هنا قولان :
أحدهما المنافق، وهو قول مجاهد.
والثاني : الكافر، وهو قول قتادة، والسدي.
واختلفوا في الذي وقع به التمييز على قولين :
أحدهما : بتكليف الجهاد، وهذا قول من تأوّل الخبيث بالمنافق.
والثاني : بالدلائل التي يستدل بها عليهم وهذا قول من تأوله للكافر.
﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيبِ ﴾ قيل إن سبب نزول هذا أن قوماً من المشركين قالواْ : إن كان محمد صادقاً فليخبرنا من يؤمن ومن لا يؤمن، فنزلت هذه الآية.
قال السدي : ما أطلع الله نبيه على الغيب، ولكنه اجتباه فجعله رسولاً.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَآتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيرُ لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُم ﴾ فيه قولان.
أحدهما : أنهم مانعو الزكاة، وهو قول السدي.
والثاني : أنهم أهل الكتاب وبخلواْ أن يُبيِّنوا للناس ما في كتبهم من نبوة محمد ﷺ، وهو قول ابن عباس، قال ألم تسمع أنه قال :﴿ يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ﴾، أي يكتمون ويأمرون الناس بالكتمان.
﴿ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَومَ الْقِيَامَةِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الذي يطوَّقونه شجاع أقرع، وهذا قول ابن مسعود.
والثاني : أنه طوق من النار، وهذا قول إبراهيم.
أحدها : ما روي أن كعب بن الأشرف كان يهجو النبي ﷺ والمؤمنين ويحرض عليهم المشركين حتى قتله محمد بن مسلمة، وهذا قول الزهري.
والثاني : أن فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع لما سئل الإمداد قال : احتاج ربكم إلى أن نمده، وهذا قول عكرمة.
والثالث : أن الأذى ما كانوا يسمعونه من الشرك كقول اليهود : عزيز ابن الله، وكقول النصارى : المسيح ابن الله وهذا قول ابن جريج.
أحدها : أنهم اليهود خاصة، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي.
والثاني : أنهم اليهود والنصارى.
والثالث : انهم كل من أوتى علم شيءٍ من كتاب فقد أخذ أنبياؤهم ميثاقهم. ﴿ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : ليبين نبوة محمد ﷺ، وهذا قول سعيد بن جبير، والسدي.
والثاني : ليبين الكتاب الذي فيه ذكره، وهذا قول الحسن، وقتادة.
قوله تعالى :﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ﴾ فيهم قولان :
أحدهما : أنهم أهل الكتاب فرحوا بالاجتماع على تكذيب النبي ﷺ وإخفاء أمره، وأحبواْ أن يحمدواْ بما ليس فيهم من أنهم أهل نسك وعلم، وهذا قول ابن عباس، والضحاك.
والثاني : أنهم أهل النفاق فرحوا بقعودهم عن القتال وأحبواْ أن يحمدوا بما ليس فيهم من الإيمان بمحمد ﷺ، وهذا قول أبي سعيد الخدري، وابن زيد.
أحدهما : أنه القرآن وهو قول محمد بن كعب القرظي قال : ليس كل الناس سمع رسول الله ﷺ.
والثاني : انه النبي ﷺ، وهو قول ابن جريج وابن زيد.
﴿ يُنَادِي لِلإِيمَانِ ﴾ أي إلى الإيمان، كقوله تعالى :﴿ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذا ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ] بمعنى إلى هذا. ومنه قول الراجز :
أوحى لها القرار فاستقرت | وشدها بالراسيات الثُّبّتِ |
قوله تعالى :﴿ رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ ﴾ فإن قيل فقد علمواْ أن الله تعالى منجز وعده فما معنى هذا الدعاء والطلب، ففي ذلك أربعة أجوبة :
أحدها : أن المقصود به، مع العلم بإنجاز وعده، الخضوع له بالدعاء والطلب.
والثاني : أن ذلك يدعو إلى التمسك بالعمل الصالح.
والثالث : معناه أجعلنا ممن وعدته ثوابك.
والرابع : يعني عّجل إلينا إنجاز وعدك وتقديم نصرك.
﴿ بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ ﴾ أي الإناث من الذكور، والذكور من الإناث.
أحدهما : أن الله تعالى إنما قال له ذلك تأديباً وتحذيراً.
والثاني : أنه خطاب لكل من سمعه، فكأنه قال : لا يغرنك أيها السامع تقلب الذين كفروا في البلاد.
وفي تقلبهم قولان :
أحدهما : يعني تقلبهم في نعيم البلاد.
والثاني : تقلبهم غير مأخوذين بذنوبهم.
أحدهما : أنها نزلت في النجاشي، روى سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ قال :« أُخْرُجُوا فَصَلُّواْ عَلَى أخٍ لَكُم فَصَلَّى بِنَا أَرْبَعَ تَكْبِيراتٍ، فَقَالَ هَذَا النَجَّاشِيُّ أصحمة » فَقَالَ المْنَافِقُونَ : انظرواْ إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهو قول قتادة.
والثاني : أنها نزلت في عبد الله بن سلام وغيره من مُسلمة أهل الكتاب، وهذا قول مجاهد، وابن جريج.
قوله تعالى :﴿ يَاَ أيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُوا ﴾ فيه أربعة تأويلات :-
أحدها : اصبرواْ على طاعة الله، وصابرواْ أعداء الله، ورابطواْ في سبيل الله، وهو قول الحسن، وقتادة، وابن جريج، والضحاك.
والثاني : اصبرواْ على دينكم، وصابرواْ الوعد الذي وعدكم، ورابطواْ عدوي وعدوكم، وهو قول محمد بن كعب.
والثالث : اصبرواْ على الجهاد، وصابرواْ العدو، ورابطواْ بملازمة الثغر، وهو مأخوذ من ربط النفس، ومنه قولهم ربط الله على قلبه بالصبر، وهو معنى قول زيد بن أسلم.
والرابع : رابطوا على الصلوات بانتظارها واحدة بعد واحدة : روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« أَلاَ أَدُلَّكُم عَلَى مَا يَحِطُّ بِه اللهُ الخَطَايَا ويَرْفُعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُواْ بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ : إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ عَلَى المَكَارِهِ، وَكَثْرةُ الخُطَا إلىَ المَسَاجِدِ وَانتِظار الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذّلِكُمُ الرَّباط
».